الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 37- 39 و الأخيرة



الطريق السوي

قلنا إن النهضة هي الرقي الفكري ، والفكر الراقي هو الفكر المتصف بالشمول والعمق بحيث يشمل الوجود بكامله – الكون والحياة والإنسان- هذا من حيث الشمول . أما من حيث العمق فلتقرير حقيقة هذا الوجود – أهو أزلي أم مخلوق لخالق – وبناء على ذلك فإن النهضة لا يمكن أن تتحقق إلا بمبدأ يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها مبيناً الأساس الفكري في حياة الناس ، والذي يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة .

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً }الأنعام(79) مسلماً وما أنا من المشركين،{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}البقرة(156).
هذه هي الإجابة عن معنى وجودنا في الحياة { إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}الأنعام(162) . أي إن العقيدة التي هي أساس المبدأ ، هي أساس حياة الفرد وأساس حياة المجتمع وأساس حياة الدولة . هذه العقيدة هي ((الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر )).

من هذه العقيدة تنبثق كافة المعالجات لمشاكل الإنسان ، وتبين له علاقاته الثلاث ، علاقته مع خالقه بالعبادات وعلاقته مع نفسه بالعبادات وعلاقته مع غيره في المعاملات . فلم تترك شريعتنا أمراً إلا بينته ، ولا عملاً إلا بينت حكمه فهي منهج حياة كامل ، يحاسب الإنسان على ما كسب أو اكتسب في هذه الحياة بموجب هذا المنهج { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}الزلزلة(8)، { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}البقرة(284).

كما إنها بينت أن عمل الإنسان الأساسي هو حمل هذه الرسالة ، وتأدية هذه الأمانة ونشر هذا الدين . { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }فصلت(33)، وقال تعالى :{ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }النحل(125). وقال :{ قل إن كان أبناؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }التوبة(24)، ويقول :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}المجادلة(22)، الآية .

ولم تقتصر عقيدة المبدأ على المعالجات وحمل الدعوة بل بينت ما يلي :-
كيفية إيصال هذا المبدأ لواقع الحياة ، وإنهاض الأمة على أساسه ، وبناء الدولة التي توجده في معترك الحياة وتحمله للعالم وذلك بالأمر باقتفاء طريق الرسول ، وسيرته والمراحل التي مر بها. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }الأحزاب(21).
بينت كذلك طريقة تنفيذ المحافظة على المبدأ والمحافظة على العقيدة والمحافظة على المجتمع والمحافظة على الدولة بأحكام بلغت حد القتل على من يحاول هدم هذه العقيدة أو المجتمع أو الدولة . وأوكلت لمن أنابه المسلمون عنهم . تولي تنفيذ هذه الأحكام .
بينت تنفيذ المعالجات فلم تتركها وصايا وإرشادات ومواعظ بل أمرت رئيس الدولة أن ينفذ هذه الأحكام سواء أكانت من العبادات أو الأخلاق أو المعاملات . فأمرت بتنفيذ العقوبة بكل من يقصر في العبادات في الصلاة أو الصوم أو الزكاة . كما أمرت بإيقاع العقوبة على من يقوم بأي عمل مناف لصفات المسلمين وأخلاقهم . أو من أكل طعاماً حراماً أو شرب شراباً حراماً فلم تترك له حرية الأكل أو الشرب .

كما إنها أوقعت العقوبات الرادعة لأية مخالفة شرعية في الحفاظ على أرواح الناس وكرامتهم وأنسابهم وأموالهم مثل قتل القاتل وجلد القاذف وقتل الزاني المحصن وقطع يد السارق . كما إنها حافظت على أمن الجماعة وطمأنينتهم في حياتهم بإيقاع العقوبات الزاجرة على المفسدين في الأرض . كالقتل والتصليب وقطع الأطراف والنفي من الأرض .
أما بالسبة لحمل الدعوة فقد أوجبت ذلك على المسلمين جميعاً وأوجبت على من أنابوه عنهم الإعداد لتجهيز الجيوش ، وقتال الكفار لتطبيق حكم الإسلام عليهم أو حفظ علاقات المسلمين معهم كالمعاهدات وأخذ الجزية وغير ذلك . وقد بينت ذلك في عشرات الآيات من القرآن الكريم وعشرات الأحاديث الشريفة .

وللوصول إلى الرقي الفكري –أي النهضة – فقد حدد الإسلام الثقافة التي على المسلم أن يتثقف بها . والكيفية التي تؤخذ بها هذه الثقافة . أما الثقافة الإسلامية فهي :

أولاً : ما جاءت به العقيدة الإسلامية . كالكتاب والسنة .

ثانياً : ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه . كعلوم اللغة العربية .
أما ما جاءت به العقيدة الإسلامية فهو مجموعة النصوص التي تضمنها كتاب الله وشرحها وتفسيرها ، وتبيان أفكارها وأحكامها . وتوضيح الحجج والبراهين التي لا تدع مجالاً للشك بأن الكتاب والسنة وحي من الله وأن ما جاء به محمد رسول الله لم يكن إلا وحياً من عند الله ، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات والأحاديث .

وأما ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه – فالمعروف أن الكتاب نزل باللغة العربية ، وأحاديث محمد هي باللغة العربية ، ولا يمكن فهمها إلا باللغة العربية ولهذا كانت دراسة اللغة العربية بكافة فروعها مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .
كذلك فإن تتبع الأحداث ومعرفة الواقع وفهم ما يستجد لإنزال الأحكام الشرعية عليها أو لبيان حكم الله فيها أو إظهار مخالفتها لأفكار الإسلام وأحكامه ، فإن هذا مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

كذلك فإن المعارف التاريخية بحقائقها وأحداثها لمعرفة واقع الأمة الإسلامية عبر العصور وكيفية تطبيق الخلفاء للإسلام ، ومعرفة البلاد التي ارتفعت عليها راية الإسلام وما يترتب على ذلك من أحكام، فإن ذلك مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

وأخيراً فإن معرفة الواقع الدولي والعلاقات الدولية وما يحيط ببلاد المسلمين من أحداث كذلك مما تقتضيه العقيدة الإسلامية ، حتى يتمكن المسلمون من أداء دورهم في الحياة وتقديم الشهادة على الناس .
أما طريقة أخذ هذه المعارف جميعها فلابد من أن تؤخذ أخذاً فكرياً بحيث تتبلور إلى مفاهيم تؤثر بسلوك الناس وتسيرهم في الطريق السوي وذلك بـ :

أولاً : أن يدرك الواقع الذي يراد معالجته إدراكاً ينفي عنه كل غموض ويزيل عنه كل التباس ويبعد عنه العموم أو الاشتباه .

ثانياً : أن يدرك واقع النصوص أو الأفكار وما تحويه من معان بحسب معانيها اللغوية أو الاصطلاحية أو الشرعية ،والموضوع الذي جاءت به إدراكاً يبين ما حوت من علل أو شروط أو موانع أو أسباب.

ثالثاً : أن يجري التصديق بها وذلك بقياسها إلى القاعدة الفكرية أي العقيدة الإسلامية وما جاءت به من أدلة ومقاييس تصديقاً يحولها في نفس الإنسان من أفكار لها واقع إلى مفاهيم . أي إلى أفكار أُدرِك واقعها وجرى التصديق به ، حتى تؤثر في سلوك الفرد .

رابعاً : أن تؤخذ هذه المعارف للعمل بها ، وحملها إلى العالم أجمع .

خامساً: وأن يكون ذلك كله بطريقة مثيرة مؤثرة ، أما كونها مثيرة فإن تجسيد الواقع بحيث يصبح ملموساً لدى الشخص يثير نحوه المشاعر والأحاسيس ، ويشد الانتباه له وأما كونها مؤثرة فإنزالها على هذا الواقع بشكل دقيق ويربطها بالدليل الذي استنبطت منه ، أي ربطها بالعقيدة أي القاعدة الفكرية التي آمن بها يجعلها مؤثرة فيه دافعة له للعمل .

ونتيجة طبيعية لسلوك هذا الطريق ، أن توجد في الأمة طريقة للتفكير منتجة مبنية على قاعدة فكرية صحيحة ، تؤدي إلى النهضة والارتقاء الفكري وبما أن الفكر لا يطيق أن يبقى حبيساً في النفس إذ لابد أن يظهر أثره في الحياة لأنه أخذ بطريقة سليمة أي أخذ عن إدراك واقعه ، وإدراك الواقع الذي ينطبق عليه . وجرى التصديق به بالإضافة إلى كونه أخذ للعمل به . لا للترف الفكري أو المباهاة ، ولذلك فإنه يصبح طبيعياً قائداً لمن آمن به مسيراً لسلوكه ، أي أصبح قيادة فكرية ، ينقاد بها الناس ويقودون بها غيرهم .

وبذلك تكون عقيدتهم قاعدة فكرية لهم يبنون عليها أفكارهم عن الوجود والحياة وتكون كذلك قيادة فكرية تنبثق منها نظمهم وأحكامهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . وساروا في طريق الكمال أي في طريق الرقي والنهضة ، وعرف الناس معنى وجودهم في الحياة .

هذه هي النهضة ، وهذه هي الكيفية التي توصل لها والحمد لله رب العالمين . اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .


ليست هناك تعليقات: