الاثنين، 17 نوفمبر 2008

أزمة غلاء الأسعار وطريقة علاجها



بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الحق تعالى في كتابه العزيز: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه 123-124].
موضوع غلاء الأسعار وطريقة علاجها سنتناوله من ثلاثة زوايا، الأولى: تعريف الأسعار وواقعها، الثانية: أسباب الغلاء التي تحدث في العالم اليوم، الثالثة: طريقة علاج هذا المرض وحاجة البشرية اليوم إلى مثل هذا العلاج.

قبل البداية في عرض هذا الموضوع نذّكر بأصواتٍ قد تعالت في الفترة الأخيرة على مستوى مسؤولين عالميين، ورؤساء هيئات دولية، ومختصّين في الجامعات تحذّر من عواقب هذه الأزمة العالمية؛ فقد صرّحت رئيسة برنامج الغذاء العالمي "جوزيث شيران " حيث قالت في 22/4/2008م: «إنه من الضروري إيجاد إجراءات لإنعاش الإنتاج العالمي الغذائي ومساعدة الفقراء»، وقالت: «إن حوالى مئة مليون شخص في العالم غير قادرين على توفير الغذاء لعائلاتهم»، وقال مبعوث الأمم المتحدة المكلف بشؤون الفقراء "خان زجلر" الأستاذ في علم الاجتماع السويسري في 20/4/2008م: «إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم سيؤدّي إلى مذبحة جماعية صامتة».
وقد انعقدت في 16/5/2008م قمة ضمت خمسين دولة من أوروبا وأميركا اللاتينية، وحوض الكاريبي في البيرو لبحث مشكلة الفقر وارتفاع الأسعار، وقد حذر المجتمعون من كوارث عالمية جماعية ستترتب على مشكلة ارتفاع الأسعار وأوصوا بضرورة إيجاد الحلول السريعة.
فما هي أسباب هذه الأزمة الحقيقية، وما هي طريقة علاجها الناجعة؟
قبل البداية في عرض الأسباب نريد أن نقف على حقيقة الأسعار من حيث معناها وواقعها.
- ما هو المقصود أولاً بالأسعار وما هو واقعها؟
جاء في لسان العرب: السعر: الذي يقوم عليه الثمن وجمعه أسعار، وقد أسْعروا وسعّروا بمعنىً واحد، أي اتفقوا على سعر، وفي الحديث أنه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : سعِّر لنا، فقال: «إن الله هو المسعّر..» أخرجه أبو داود، أي إنه هو الذي يُرخِصُ الأشياء ويغليها، فلا اعتراض لأحد عليه، والتسعير تقدير السعر.
والمعنى الشرعي هو قريب من هذا المعنى، فما ورد في الحديث من طلب الصحابة لوضع سعر للسلع، هو وضع مقادير من الذهب والفضة -حيث كانت هي أداة التبادل- مقابل السلع والخدمات.
فنقول: السعر: هو ما يعرضه الناس في معاملاتهم للسلع والخدمات، مقابل الأثمان من الذهب والفضة وغيرها، فمثلاً نقول: سعر السلعة الفلانية هو دينار، أي أن مقدار المبادلة بالثمن لهذه السلعة هو دينار فأصبح الدينار هو سعراً لهذا السلعة، والدينار الذي يبذله المشتري هو الثمن لهذا السعر. ونقول: سعر صرف الدولار بالدينار هو سبعون قرشاً فأصبح سعر الصرف للدولار الواحد هو سبعون قرشاً.
وقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية، «الثمن ما يكون بدلاً للمبيع ويتعين في الذمة... والسعر ما يعرضه صاحب السلعة كثمن مقابل سلعته..».
من هنا نستطيع أن نقول بأن الأسعار للسلع والخدمات هو «ما يحدده السوق كمقادير من النقد أو غيره من أدوات تبادل، لحيازة هذه السلع، والانتفاع بالخدمات سواء أكانت أثماناً مقرونة بالذهب والفضة أم مبادلات مع سلع أخرى». هذا ما يتعلق بتعريف الأسعار وواقعها.
- أما أسباب الغلاء غير الطبيعي الذي يحدث في العالم بشكل عام وفي بلاد المسلمين بشكل خاص، ويطال حاجات الناس الأساسية في المأكل والملبس والمسكن والخدمات الضرورية، فإن ذلك عائد لفساد النظام المطبّق على البشرية هذه الأيام وهو النظام الرأسمالي الغربي، ومنه النظام الاقتصادي. ويمكن إجمال الأسباب في هذا النظام الاقتصادي السقيم ضمن النقاط الآتية:
1- الأزمات الاقتصادية المصطنعة الناتجة عن سياسات الدول الرأسمالية الجشعة:
فالدول الرأسمالية الكبرى وخاصة الدول الصناعية الثماني الكبرى وعلى رأسها أميركا وأوروبا الغربيّة هي دول تنطلق في سياساتها الاقتصادية داخل حدودها وخارجها من المبدأ الرأسمالي، الذي يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح والثروات والأموال، حتى وإن كان ذلك على حساب الشعوب الفقيرة.
لذلك تلجأ الدول إلى افتعال الأزمات ورعايتها من أجل تحقيق أكبر قدر من الأرباح، مثل هزّات الأسواق المالية التي كانت تفتعلها بعض الشركات الكبرى في آسيا، وتحقق من وراء ذلك أرباحاً طائلة، وتترك خلفها بلاداً مدمرة اقتصادياً كما حدث في جنوب شرق آسيا في تشرين أول سنة 1997م.
وهذه الأزمات والسياسات الإجرامية لم تتوقف على موضوع هزّات الأسواق المالية، بل تتجاوز ذلك إلى أسعار البترول، وإلى أسعار العملات النقدية مثل الدولار.
فهذه الأمور تؤثر في ارتفاع الأسعار، لأن هزات الأسواق تتسبب في أزمات مالية داخل الدولة مما يدفع الدولة لتعويض النقص الناتج عن طريق الضرائب ورفع الأسعار، وكذلك انخفاض قيمة الغطاء المالي العالمي مثل الدولار يؤدي إلى رفع قيمة السلع والخدمات لتفادي الخلل الناتج، وكل هذا يكون من عرق الناس وتعبهم وعلى حساب أجورهم اليومية، وعلى حساب مدخراتهم.
2- النظام النقدي السقيم، المستند إلى النظام الرأسمالي عند الغرب:
فهذا النظام يتصف بعدم الاستقرار؛ لأنه لا يستند إلى غطاء ثابت يحمل قيمته في نفسه مثل الذهب والفضة، بل إنه في بعض الدول لا يحمل أي غطاء، أو يحمل غطاءً جزئياً. وهذا بالتالي يؤدي إلى التذبذب المستمر ارتفاعاً وانخفاضاً ما يؤثر على أسعار السلع والخدمات، فترتفع ارتفاعاً غير طبيعي، أو يحدث العكس من ذلك.
3- النظام الربوي الناتج من صميم المبدأ الرأسمالي، حيث إنه أباح للفرد أن ينمي ماله بأي طريقة وبحرية كاملة تحت شعار حرية الملكية.
أما كيف يؤثر هذا النظام في الأسعار، فإن الربا المترتب على الأموال المستغلة في المشاريع الاقتصادية، يرجع في نهاية المطاف على كاهل المستهلك، فصاحب المصنع الذي اقترض من البنك يريد أن يسدد القرض، وربا القرض الذي يزداد في كل شهر يتأخر فيه عن السداد!!
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الأموال التي يجمعها البنك أو المؤسسات الربوية الأخرى تسهل عملية الاحتكار للمشاريع الكبيرة بسبب الربا. لأنه لا يستطيع أن يقوم على الاقتراض لمبالغ كبيرة إلا الرأسماليون الكبار، وبالتالي لا يستطيع أن يقوم بالمشاريع الكبيرة إلاّ هؤلاء، وهذا يؤدي إلى سياسة التحكم في سعر السلع المنتجة.
4- التحكمات الاقتصادية والمضاربات والاحتكارات:
وهذه الأمور نابعة من مبدأ الحرية في التملك وتنمية الملك، الذي يبيح لأصحاب الشركات الكسب بأي طريق، ومن طبيعة النظام المنبثق عن المبدأ الرأسمالي في الدول.
فالدول التي تستند إلى المبدأ الرأسمالي، ترعى وتساند مجموعة من الرأسماليين المساندين لهذا النظام مقابل مساندتهم للنظام القائم أو الحاكم، ويقوم الحاكم بتقديم خدمات لهذه الشركات الكبرى مثل إعطائهم امتيازات أو أسواق أو غير ذلك.
وكل ذلك يصب في نهاية المطاف في زيادة الأسعار على كاهل المواطن نتيجة عدم وجود منافسة حقيقية في الأسواق ونتيجة الاحتكارات والتحكمات.
فلو نظرنا على سبيل المثال إلى بعض الشركات المتحكمة ببعض السلع والخدمات في مجتمعنا؛ لرأينا انعكاس ذلك على التحكم في سعر السلع والخدمات؛ مثل شركة الاتصالات، وشركة توريد وبيع المحروقات؛ فمثل هذه الشركات تتحكم في الأسعار، وتضع على كاهل المواطن أعباء الضريبة التي تدفعها مقابل هذه التحكمات للدولة.
5- القروض الطائلة التي تأخذها الأنظمة العميلة في دول العالم الإسلامي وما يترتب عليها:
فسياسات الدولة العميلة في الاقتراض من الدول الكافرة، يتحمل أعباءها في نهاية المطاف أفراد الشعب البائس الفقير.
ومن نتائج سياسات الاقتراض، فتح أسواق تلك الدول للدول المقرضة وبالتالي ضرب الصناعات المحلية، والتسبب في كساد اقتصادي، ورفع أسعار السلع والخدمات، لجمع ما يلزم لسداد ربا الديون المستحقة في كل عام، ورفع الضرائب على كاهل المواطن. وقد تلجأ بعض الدول إلى خفض قيمة عملتها نتيجة ضغوطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهذا يتسبب في زيادة سعر السلع والخدمات وبقاء الأجور على ما هي عليه؛ وكل ذلك يتحمل نتيجته المواطن البائس الفقير، فيزداد فقراً على فقره!!
6- اعتماد الدول الفقيرة على صناعات الدول الكبرى وخاصة في بلاد المسلمين، إذ تعتمد على صناعات الدول الكافرة اعتماداً يكاد يكون كلياً، وعدم وجود سياسة للتصنيع وهذا بالتالي يؤدي إلى فرض أسعار باهظة للسلع الغربية مثل السيارات والأدوات الكهربائية وغيرها.
ويزيد الطين بلة النظام الضرائبي الكبير المفروض على هذه السلع، في نفس الوقت فإن المواد الخام الأولية تخرج من بلاد المسلمين بأبخس الأسعار!
7- تقييد أيدي الناس في عملية استغلال الثروة الطبيعية، أو التجارية، وفي نفس الوقت فرض نظام ضرائبي وربوي كبير على من يقوم بالمشاريع بدل مساعدتهم وتشجيعهم في هذا المجال.
فالثروات الطبيعية تضع الدولة يدها عليها، ولا تترك للناس مجالاً للانتفاع، وتعطي امتيازات لشركات معينة مقابل مصدر ضرائبي يرجع في نهاية المطاف على كاهل المواطنين.
8- عدم وجود نظام رعوي عادل يحقق مسألة توازن الأسعار، إذا حدث خلل غير طبيعي في المجتمع نتيجة لانقطاع سلعة معينة من السوق، ولا تتدخل الدول الحالية في النظم الرأسمالية لإنقاذ المواطن من الأزمات. فالثمن هو المنظم للتوزيع الحافر على الإنتاج في هذه النظم السقيمة، ولا يوجد سياسة تدخّل من قبل هذه النظم لمعالجة الأزمات.
هذه هي أبرز الأمور التي تؤدي إلى وجود الغلاء بشكل غير طبيعي في الأسواق -في بلاد المسلمين وغيرها من بلاد تطبق النظام الرأسمالي الفاسد-، وتؤدي إلى مفاسد أخرى كثيرة؛ مثل زيادة نسبة الفقراء في كل يوم لصالح الرأسماليين الكبار، ونهب الأجور باستمرار، والكوارث الاقتصادية المدمرة التي تجتاح الشعوب الضعيفة.
وهناك أسباب أخرى مستجدة أدّت إلى ارتفاع الأسعار وزيادتها بشكل غير طبيعي -زيادة على ما ذكرنا من أسباب تتعلق بالنظام الرأسمالي بشكل عام- من هذه الأسباب:
1- ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير حوالي 300% نتيجة زيادة الطلب عليه ، ونتيجة سوق المضاربات على هذه السلعة الحيوية وذلك من قبل المضاربين في الأسواق المالية، وتحول قسم كبير منهم للمضاربة في أسواق البترول، فقد أثر ارتفاع أسعار البترول في ارتفاع جميع السلع تقريباً نتيجة ارتباط الصناعات والزراعة بهذه السلعة الحيوية.
2- ازدياد إنتاج الطاقة الحيوية -أو الطاقة البديلة- وهذا الأمر أثر بشكل كبير على ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية، وخاصة الزراعية منها مثل الحبوب.
3- المضاربات من قبل المضاربين على السلع الغذائية؛ حيث فقد هؤلاء الناس الثقة بالأسواق المالية فتحولوا إلى الأسواق الأخرى؛ ومنها سوق الذهب، وسوق العقارات، وأسواق المعادن، وأسواق المواد الغذائية، ونتيجة هذه المضاربات الجنونية ارتفعت الأسعار بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، حيث ارتفعت أسعار بعض السلع مثل الحبوب إلى ما يقارب 200%.
4- انخفاض سعر الدولار بشكل عالمي إلى ما يقارب الربع، وهذا الأمر أدّى إلى ارتفاع أسعار السلع وخاصّة في الدول التي تعتمد الدولار غطاءً مالياً، أو تلك التي تعتبره نقداً رئيسياً مثل الولايات المتحدة وغيرها من دول مرتبطة بها؛ فانخفاض سعر الدولار أدى بشكل طبيعي إلى انخفاض أسعار السلع المنتجة في الدول التي تتخذه أداة تبادل، وأدى كذلك إلى انخفاض أسعار العملات المرتبطة بالدولار وبالتالي إلى رفع الأسعار من قبل المنتجين في كلا النظامين هنا وهناك.
هذه بعض الأمور التي زادت الطين بلة، فأدت إلى ارتفاع جديد في الأسعار، بشكل غير طبيعي، وخارج حتى عن المعدلات الطبيعية في النظام الرأسمالي.
- فما هو طريق الخلاص من هذا الوحش المفترس (النظام الاقتصادي الرأسمالي)، ما هو السبيل كي تعيش الشعوب في بلاد المسلمين وفي غيرها من بلاد في ظل عدل اقتصادي، ومحافظة على الثروات والمدخرات، وفي تقدم اقتصادي وبحبوحة من العيش تطال جميع فئات المجتمع ولا تقتصر على الرأسماليين الكبار، ما هو الحل لمثل هذه المشاكل والأزمات التي تسبب القلق والإزعاج والحِرْمان لكثير من أبناء المسلمين؟!
وقبل أن نذكر طريق الخلاص، لا بد أن نذكّر بحقيقتين ذكرها رب السماوات والأرض في كتابه العزيز وهي أن ألوان الفساد والضنك، وقسوة العيش، والبلايا العظام التي تجتاح بني الإنسان مرتبطة أولاً: بالبعد عن طريق الاستقامة والرشاد والهدى، وإنه على العكس من ذلك فإن بحبوحة العيش، واستقامة الحياة، والأمن والأمان وطمأنينة الحياة والسعادة الحقيقية، إنما هي مرتبطة باتباع نظام الهدى والاستقامة. وثانياً: إن الحق تبارك وتعالى يسلط على الناس الضنك وسوء الأحوال والغلاء والقحط ونقص الأموال والبأساء والضراء وذلك عقوبة منه سبحانه وتعالى كي يتذكّر الناس ما هم عليه من عدم استقامة، وحاجتهم للاستقامة والهدى.
قال تعالى في ذكر الحقيقة الأولى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41]، وقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) [نوح 10ـ12]، وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة 66].
وقال في ذكر الحقيقة الثانية: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام 42]، وقال: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف].
فيجب على المسلمين بشكل خاص وعلى البشرية بشكل عام أن تدرك هاتين الحقيقتين وأن تدرك طريق النجاة منهما.
إن طريق الخلاص هو تطبيق نظام عادل مستقيم يخلّص الناس من كل هذه الآفات الاقتصادية؛ نظام يحرم الربا تحريماً قاطعاً، ويحرّم جميع مظاهره في المؤسسات العامة والخاصة، وبالتالي يقضي على مسألة تكدّسِ الأموال بأيدي فئة من الناس، وانحصار المشاريع الكبيرة بأيديهم، وكذلك يخلص الناس من مآسي النظام الربوي في كافة المجالات الاقتصادية.
نظام يحافظ على ثروات الأمة من الضياع والسرقات المنظمة فيحافظ على المال العام وعلى المال الخاص من أي عبث؛ نظام يقوم على مساعدة الناس اقتصادياً ورعاية حاجاتهم، بدل الاقتراض من الدول الكبرى على أكتافهم، ثم تحميلهم أعباء الربا المترتب على هذه الديون، ويجعل من بلادهم مسرحاً مستباحاً لاقتصاد الدول الكبرى؛ في فتح الأسواق، وفي خصخصة الشركات، وفي تخفيض قيمة النقد وغير ذلك من مآثمٍ ومآسٍ اقتصادية تجرّ على البلد الويلات والدمار!
نظام يمنع الأذى عن الناس في لقمة عيشهم، وحاجاتهم الأساسية، فيمنع الاحتكار للسلع والخدمات بكافة صوره وأشكاله.
... نظام يرعى شؤون الناس في أمور الاقتصاد، فلا يدع مجالاً للاستفراد في الأسواق، وإذا ما غابت سلعة من السوق لأي سبب حرص على جلبها من الأسواق الأخرى، سواء أكان ذلك من الداخل أم الخارج، فيمنع بذلك الغلاء الفاحش الخارج عن مسألة العرض والطلب والمنافسة الصحيحة.
... نظام يسعى باستمرار لرفع مستوى الناس الاقتصادي فيؤمّن الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية؛ فرداً فرداً دون استثناء، ويسعى لرفع مستوى الناس في الحاجات الكمالية كذلك بأقصى قدرٍ مستطاع، ويعمل على إيجاد سياسة من التوازن الاقتصادي بين أفراد الرعية، بحيث لا يشعر البعض بالحرمان من الحاجات الكمالية وبحبوحة العيش؛ فيعيش أناسٌ في القصور الفارهة، وأناس عند حد الحاجات الأساسية فقط، أو لا يحصّلونها!!
إن هذه المعالجات ليست خيالاً وإنما هي فكر يعالج واقعاً، وقد طبقت بالفعل في التاريخ الإسلامي في عهد الخلافة الإسلامية.
ففي عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، عمّ العدل الاقتصادي جميع أفراد المجتمع، ونَعِم الناس بتوفر السلع والخدمات للجميع، لدرجة أن الأموال من الزكاة لم تجد من يأخذها، حيث قُضِيَ على الفقر نهائياً.
وسيعود هذا الأمر مرة أخرى كما ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الصحيح: «سيكون في آخر الزمان خليفةٌ يحثو المال حثواً ولا يعده عداً» كنـز العمال.
إن هذا النظام بهذه المواصفات السامية يكون فقط عندما يُحكّمُ الناسُ شريعةَ ربهم عزّ وجل في ظلّ سلطان الإسلام؛ عندما تصبح جميع بلاد المسلمين بلداً واحداً، ويُقضى على هذه الأنظمة العميلة للكفار، وتعود الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فتكون كما وصفها ربها جل جلاله بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
نسأله تعالى أن يمنّ على المسلمين بنظامٍ عادلٍ مستقيمٍ عمّا قريب، آمين يا رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أبو المعتصم- بيت المقدس

المصدر : مجلة االوعي

الجمعة، 14 نوفمبر 2008

الطب في النظام الرأسمالي (3)



بسم الله الرحمن الرحيم



الأبحاث العلمية:


يظن بعض الناس أن الثورة العلمية والتقدم المدني المتسارع في العالم الغربي سببه حضارة الغرب الرأسمالية وقيمها الديموقراطية، ويغفل هؤلاء أن المعارف والعلوم تتراكم مع الزمن، فالإنسان يتعلم ما توصل إليه سلفه من العلوم، ويعتمد عليه ليبحث ويتوصل إلى معلومات جديدة. فلا يستطيع عالم البيولوجيا بحث الجرثومة قبل اختراع الميكروسكوب، ولاختراع الميكروسكوب لا بد من اكتشاف قوانين الضوء.
ومع أن النهضة بالفكر الأساسي الشامل تؤدي إلى التقدم العلمي، فإن هذا الأمر لا يقتصر على مبدإٍ دون آخر؛ لأن الحضارة والمفاهيم عن الحياة تكون خاصة بكل أمة من الأمم ذات المبادئ المختلفة، أما العلوم التجريبية والصناعة فهي عامة، ولا تختص بأمة ولا بشعب معيّن.



إن المدقق في الحضارة الرأسمالية وأثرها على البحث العلمي، يلاحظ أنها تؤخر وتيرة تطوّر العلوم –ومنها الطب- وتحد من تقدم المدنية. وذلك لأن الغش والتزوير وسيلتان مشروعتان في النظام الرأسمالي إذا حققا الربح والمنفعة، وقد ترك هذا أثرًا جليًّا على الأبحاث الطبية، فبعض نتائج وتوجيهات الأبحاث الطبية هدفها: 1) زيادة عدد المُلائمين للعلاج (كما ذكرنا سابقا بالنسبة للعقاقير المخفضة للكوليسترول). 2) زيادة عدد ونوع الخيارات والتوصيات العلاجية الدوائية، بما في ذلك الانتقال من العلاج بدواء واحد إلى العلاج بعدة أدوية، واستخدام أحدث أنواع الأدوية مع أن الأدوية القديمة (التي انتهت مدة براءة الاختراع عليها) قد تكون بنفس المفعول. 3) التحول من التركيز على الوقاية والعلاج مرة واحدة إلى الرعاية والعلاج المُزمن حيث يُحافظ هذا على مبيعات الشركة.
وفي هذا السياق تعزف العديد من الشركات الدوائية عن إنتاج مضادات حيوية جديدة؛ لأن هذه الأدوية عادة تُعطى لمدة محدودة يتحقق بعدها الشفاء؛ لذلك فالأرباح من هذه الأدوية متواضعة مقارنة بالأدوية التي تؤخذ بشكل دائم (كالأدوية لعلاج المشاكل الجنسية، أو أدوية الكولسترول والسكري)، ونتيجة لهذا العزوف عن البحث والتجديد في مجال المضادات الحيوية بات العالم مهدداً بظهور جراثيم لا علاج لها؛ لأن الجراثيم تكتسب المناعة ضد الأدوية الموجودة.


ونلاحظ أن عدد المضادات الحيوية الجديدة التي أقرتها الـ(إف دي إي) (FDA) -الهيئة الأميركية المسؤولة عن الإذن بتسويق الأدوية- قد انخفض بشكل ملحوظ: فقد تمت الموافقة على 16 مضاداً حيوياً بين عامي 1983 و1987؛ و14 بين عامي 1988 و1992. ثم انخفض العدد إلى 10 بين عامي 1993 و1997. و10 أخرى في فترة السنوات الخمس الأخيرة، 1998-2003. وفي عام 2003، انخفض عدد المضادات الحيوية المقدمة للـ(إف دي إي) للمصادقة عليها بنسبة 10٪ عن العام السابق، مما يدل على أنه من المرجح ان تستمر وتيرة العزوف عن البحث والتطوير العلمي في هذا المجال المهم.
وكمثال على الجشع الرأسمالي واقتصاره على القيمة المادية، نرى أن مرضًا مثل الليشمانيا بنوعيها، الجلدي والحشوي، تصنفه منظمة الصحة العالمية بين أهم ست مشاكل صحية يعاني منها العالم، حيث يبلغ عدد الناس المعرضين للإصابة به ثلاثمائة وخمسون مليوناً من البشر. وكل عام هناك مليون ونصف إصابة جلدية، ونصف مليون إصابة حشوية. والنوع الحشوي يعتبر مميتاً إن لم يعالج، أما النوع الجلدي فمُشوِّه، ورغم حجم الانتشار الكبير لهذا المرض فما زال يعالج بأدوية اكتشفت منذ الحرب العالمية الثانية، وقد ظهرت مقاومة للطفيل لهذه الأدوية، ومع ذلك لا يوجد بحوث جدية على أدوية جديدة؛ لأن الفقراء هم المصابون بهذا المرض، وبالتالي لا يوجد مصلحة تجارية لشركات الأدوية لتقوم بتطوير أدوية جديدة، وبالمقارنة: نرى من خافضات الكولسترول عشرات الأنواع، ولا تزال الأبحاث تجري على قدم وساق لتطوير أدوية جديدة منها لأنها تعالج أمراض الأغنياء القادرين على الدفع.
وقد انتقدت كلير شورت -وزيرة التنمية الدولية البريطانية- شركات الأدوية لأنها فشلت في الاستثمار في الأدوية التي تعالج أمراض الفقراء، وقالت الوزيرة البريطانية: "المزيد من الأدوية واللقاحات مطلوبة بشكل عاجل لمعالجة أمراض الملاريا والتدرن (السل) والإيدز التي تقتل الملايين في دول العالم النامي، إننا نعيش في عالم يتميز بالاكتشافات التقنية التي يمكن أن تجلب المنافع الهائلة للبشرية، لكن الحقيقة مختلفة تماماً، إذ أن معظم الجهود تستهدف الأمراض التي يعاني منها العالم الصناعي.

إن الحاجة لتحقيق الأرباح من الاستثمارات وبناء أسواق كبيرة للمنتجات قد جعلت شركات الأدوية الرئيسية تميل إلى تجاهل الأمراض التي تنتشر في الدول الفقيرة".
وأضافت الوزيرة أن عشرة في المئة فقط من الأموال المخصصة للأبحاث تنفق على الأبحاث المتعلقة بالأمراض التي تؤثر على تسعين في المئة من الفقراء في العالم.
ويذكر أن الملاريا تقتل مليون شخص في العام، وكلهم تقريباً في أفريقيا، وتؤثر على خمسمئة مليون شخص في العام، بينما يقتل التدرن (السل) مليوني شخص في العام، بينما قتل الإيدز مليونين ونصف في عام 1998 وحده. ومع ذلك نجد أن نسبة 1% فقط من بين 1400 دواء جديد ظهر خلال الربع الأخير من القرن العشرين، خصصت لأمراض العالم الثالث.


أما قوانين براءة الاختراع فقد أخرت الانتفاع بكثير من المكتشفات المهمة؛ لأن الشركات تؤخر استعمالها لعدم قدرتها على حماية الاكتشاف. وخاصة في مجال الطب وصناعة الأدوية، فإنها الأكثر صعوبة من الناحية العملية وليس من الناحية القانونية. وهنالك أمثلة كثيرة تبين أن تصنيعاً لأدوية قد تأخر سنوات كثيرة مع أن الناس في أمس الحاجة إليها؛ وذلك لعدم التمكن من حمايتها بسبب بساطة الاختراع ـ لأنه إذا عُرف تمكنت الشركات الأخرى من إعادة الاختراع بطرق أخرى غير محمية ـ أو لأسباب عملية غير ذلك. وكم من دواء مفيد لم يتم إنتاجه لعدم توفر الجدوى الاقتصادية مع أهميته لحياة الآلاف من الناس.


أما بالنسبة لتزوير نتائج الأبحاث العلمية أو إخفائها خشية انخفاض الأرباح أو تقليص جمهور المستهلكين، فقد ذكرنا سابقًا ما قامت به شركة فيزر Pfizer من إخفاء نتائج دراسة أجرتها على دواء التهاب المفاصل "سيليبريكس" celebrex، وتبيّن فيها أن عدداً غير قليل من مستخدمي الدواء عانوا من سكتات قلبية وجلطات.
وأذكر هنا أن دراسة عن مخفضات الكولسترول كانت تجري في إحدى المستشفيات التي درست فيها، وكانت شركة الدواء ترعى البحث، الذي أُجري في نفس الوقت في عدة مستشفيات في أرجاء العالم، بحيث تجمع كل النتائج من كل المستشفيات لاستخلاص النتائج. وجاءت النتائج في المستشفى الذي درست فيه على غير ما تشتهي شركة الدواء، ومع أننا أرسلنا النتائج كما هي للشركة، فوجئنا بعد نشر البحث الكلي أن النتائج التي أرسلناها لم تنشر ولم يُذكر اسم المستشفى في الدراسة النهائية!! طبعًا لا حاجة لأن نذكر أن الدراسة النهائية صيغت بصورة تزيد من مبيعات الدواء محل البحث، وبالتالي ترفع أرباح الشركة.
وهكذا لم تسلم الأبحاث الطبية من فكرة النفعية في الغرب، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى إقامة التجارب الوحشية على الإنسان، واستغلال الفئات الضعيفة من المجتمعات لمثل هذه الأبحاث المؤذية، ونضرب المثال التالي من تاريخ الطب في المجتمع الغربي دليلاً على ذلك:
على مدى أربعين سنة بين 1932 و1972، أجرت خدمة الصحة العامّة في الولايات المتحدة (PHS) تجربة على 399 رجل أسود في المراحل المتأخّرة لمرض الزهري (السفلس). هؤلاء الرجال، غالبيتهم أجراء أمّيون من أحدى أفقر مقاطعات ألاباما، لم يُعلمهم أحدٌ أبدًا من أي مرض كانوا يعانون أو جدية هذا المرض. بإخبارهم أنهم يُعالجون لـ"الدم الفاسد"، لم يكن لدى أطبائهم نية بمعالجتهم من مرض الزهري على الإطلاق.
البيانات للتجربة كانت ستجمّع من تشريح جثث الرجال، ولهذا تُركوا عمدًا حتى يموتوا تحت وطأة المرحلة الثالثة من الزهري- الذي يمكن أن يتضمن الأورام السرطانية، أمراض القلب، الشلل، العمى، الجنون، والموت. "كما أرى الأمور" وضّح أحد الأطباء المتورطين "ليس لدينا أي اهتمام إضافي بهؤلاء المرضى إلى أن يموتوا".


كان يلزم أن تبقى طبيعة التجربة الحقيقية مخفية عن المشاركين لضمان تعاونهم. حياة هؤلاء الأجراء المُعدمة سهلّت خداعهم. عن طريق إغرائهم بفرصة العناية الطبية المجّانية -لم يرَ أحدٌ منهم تقريباً طبيباً في حياته- أصبح هؤلاء الرجال البسطاء بيادق في ما وصفه جيمس جونز، مؤلف كتاب " الدم الفاسد"، بـ "أطول تجربة غير علاجّية على البشر في تاريخ الطب".
كان الهدف من وراء الدراسة اكتشاف كيف أثّر مرض الزهري على السود مقارنة بالبيض -كانت النظرية أن البيض كانوا أكثر عُرضة للمضاعفات العصبية نتيجة للزهري، بينما كان السود أكثر عُرضة للضرر المتعلق بالقلب والأوعية الدموية. ليس من الواضح كيف كانت الإجابة لتغيّر من علاج مرض الزهري.
بالرغم من أنّ PHS وصفت الدراسة كذات أهمية علمية عظيمة، فإن منافعها الفعلية منذ البداية كانت ضبابية. مضت أربعون سنة تقريباً قبل أن يُلقي أحد المتورطين في الدراسة نظرة صعبة وصادقة في النتائج النهائية، ويُقرّر بأنّ "لا شيء من المُتعلّم سيمنع، يَجِد، أو يعالج حالة واحدة من مرض الزهري المعدي، أو يدفعنا للاقتراب من مهمّتنا الأساسية للسيطرة على المرض التناسلي في الولايات المتحدة".


عندما أُثير انتباه أجهزة الإعلام في 1972 للتجربة، وصف مذيع الأخبار هاري ريسونير التجربة كتجربة "استخدم فيها البشر كحيوانات مختبر في دراسة طويلة وغير مفيدة عن كم يحتاج مرض الزهري لقتل شخص ما".
حتى نهاية التجربة، مات 28 من الرجال مباشرة من مرض الزهري، ومات 100 من العوارض ذات الصلة، 40 من زوجاتهم كانت قد أُعْدِيَت، و19 من أطفالهم وُلدوا مصابين بمرض الزهري الخَلْقي.
ولكن كيف اقتنع هؤلاء الرجال بتحمّل مرض قاتل باسم العلم؟
لإقناع الجالية بدعم التجربة، أحد الأطباء الأصليين اعترف بأنه "كان من الضروري مواصلة هذه الدراسة تحت غطاء إثبات الدواء وتزويد العلاج." في بادئ الأمر، وُصف للرجال دواء مرض الزهري الذي كان معروفًا -bismuth، neoarsphenamine، وزئبق- لكن بكمّيات صغيرة بحيث شوهد تحسُّن في 3 بالمائة من الرجال فقط.
هذه الجرع الدوائية الرمزية وفرت علاقات عامة حسنة ولم تُخِل بالأهداف الحقيقية للدراسة. في النهاية، استبدل كل علاج السفلس بعلاج مفبرك- أسبيرين.
لضمان مجيء الرجال لفحص السائل الشوكي -فحص مؤلم وممكن أن يكون خطرًا-، ضلّلهم أطباء PHS برسالة مليئة بالدعاية الترويجية: "فرصة أخيرة للمعالجة المجّانية الخاصّة". الحقيقة بأنّه في النهاية يتطلّب الأمر تشريح الجثث التي أخفيت أيضاً.
كما وضّح أحد الأطباء، "لو أدرك السكان الملوّنون بأنّ قبول العلاج المجاني يعني تشريح الجثة بعد الموت، سيترك كل أسود مقاطعة ماكون..." حتى وزير الصحة في الولايات المتحدة شارك في إغراء الرجال للبقاء في التجربة، بإرساله شهادات التقدير لهم بعد 25 سنة على انطلاق الدراسة.


وَعْدُ الاعتراف من قبل جهاز حكومي رفيع المستوى حجب سمات الدراسة المثيرة للقلق بالنسبة للبعض. على سبيل المثال، مَدَحَ طبيب من توسكيجي قائلاً "عُرضت الفوائد التعليمية لأطبائنا وممرضاتنا بالإضافة إلى المكانة الإضافية التي ستُعطى للمستشفى." وهنا تبرز آفة تصوير الحياة على أنها منفعة في الحضارة الغربية، فقد أجريت هذه التجربة الوحشية وعُذّب المشاركون من أجل منفعة معهد توسكيجي وحفنة من الأطباء "المتحضرين" بالحضارة الغربية.
إحدى السمات المُرعبة جدًّا في التجربة كانت كيف منع PHS بحماسة هؤلاء الرجال من تلقي العلاج. عندما وصلت العديد من الحملات الوطنية لاستئصال المرض التناسلي إلى مقاطعة ماكون، مُنع الرجال من المشاركة. حتّى عندما اكتشف البنسلين -العلاج الحقيقي الأول لمرض الزهري- في الأربعينات، أنكر رجال توسكيجي الدواء عمدًا.
أثناء الحرب العالمية الثانية، سجّل 250 من الرجال للتجنيد واستُدعوا بالتّالي للحصول على علاج لمرض الزهري، لكن PHS أعفتهم من ذلك. تعبيرًا عن سروره بنجاحهم، أعلن ممثل PHS: "حتى الآن، نحن نُبعد المرضى الإيجابيين المعروفين عن الحصول على العلاج". استمرّت التجربة على الرغم من قانون هيندرسن (1943)، قانون صحة عامّة يتطلّب فحص وعلاج المرض التناسلي، وعلى الرغم من تصريح هلسنكي (1964) التابع لمنظمة الصحة العالمية، الذي حدّد بأنّ التجارب التي تستخدم بشرًا تتطلّب "موافقة مطلّعة".
أخيرًا، افتضحت القصّة في الواشنطن ستار في 25 يوليو/تموز 1972، في مقال كتبته جين هيلير للأسوشيتد بريس. مصدرها كان بيتر بوكستان، مختص سابق في PHS للمرض التناسلي وأحد القلّة الذين نفخوا في الصافرة على مرّ السنين. الـPHS، على أية حال، بقى غير تائب، مدّعيًا أن الرجال كانوا "متطوعين" و" كانوا دائمًا سعداء برؤية الأطباء"، وأدعى ضابط صحة في ولاية ألاباما والذي كان متورطًا أيضًا "شخص ما يحاول عمل جبل من كومة ترابية صغيرة".
تحت وطأة الدعاية والإعلان، أنهت الحكومة التجربة، وللمرة الأولى زوّدت الرجال بالعلاج الطبي الفعّال لمرض الزهري. فريد جراي، المحامي الذي دافع عن روزا باركس ومارتن لوثر كنج سابقًا، رفع دعوى جماعية أدت إلى تسوية خارج المحكمة بتعويض 10 مليون دولار للرجال وعوائلهم. جراي، على أية حال، سمّى البيض فقط والمنظمات البيضاء كمتّهمين في القضية، مُصوِّّرًا توسكيجي كقضية سود وبيض، بينما هي في الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك- أطباء ومؤسسات سود كانوا متورطين من البداية حتّى النّهاية.
PHS لم يقبل مقارنة أجهزة الإعلام لتجربة توسكيجي بالتجارب المروّعة التي قام بها الأطباء النازيون على ضحاياهم اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك، بالأضافة إلى المطابقات الطبية والعنصرية، عرض PHS نفس الدفاع المفلس أخلاقياً الذي عُرض في محاكمات نوريمبيرج: ادعوا بأنّهم كانوا ينفّذون الطلبات فقط، مجرّد أسنان في عجلة PHS البيروقراطية، فهم معفيون من المسؤولية الشخصية.


إنّ التبرير الآخر للدراسة -لمصلحة العلم- زائف على حدّ سواء. البروتوكول العلمي كان رديئًا منذ البداية. بما أن الرجال في الحقيقة تلقوا بعض العلاج لمرض الزهري في بداية الدراسة، مهما كان ناقصًا، فقد فسدت نتيجة الدراسة عن "مرض الزهري غير المعالج".
وحديثًا، طفت إلى السطح سنة 1999م قضية حقن مئات الأطفال الليبيين بفيروس الإيدز على يد خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني، وقد توفي حتى الآن خمسون طفلاً ويعيش الباقون في مستشفى في منطقة معزولة تدعى الرحبة غرب مدينة بنغازي. وبعيدًا عن الأبعاد السياسية للقضية، فإن الفيروس الذي حُقن به الأطفال هو من سلالة مُعاد تركيب مكوناتها، أو معدلة وراثياً من النوع (GRfo2-AG)، حسب تقرير كومانديني. وهذه السلالة لايوجد تطابق لها مع أي نوع من أنواع السلالات المسجلة في مصرف الجينات، أي أنها حالة خاصة لم تسجل قبل إطلاقاً. وهذايؤكد أن الفيروس الذي كان مخبأ في الزجاجات التي وُجد بعضها في منـزل إحدى الممرضات اللواتي كن أداة تنفيذ لهذه المؤامرة. إن هذا الفيروس تم تصنيعه في معامل، وهذا لايمكن أن يتأتى لممرضة.
وقد اعترفت إحدى الممرضات وتُدعى كرسيتينا بأنها تلقت الفيروس من شخص يدعى جون لحقنه للأطفال مقابل مبلغ من المال، وأنه قال إن ذلك لغرض الأبحاث الطبية.


ولا نستبعد من هذه المعطيات أن تكون إحدى شركات الدواء وراء هذا العمل لإيجاد علاج أو تطعيم للإيدز أو التقدم في هذا الاتجاه، لأن مثل هذه التجارب يُمنع تطبيقها على البشر بموجب بيان هلسنكي.
الخلاصة:
وهكذا نرى أن النظام الرأسمالي (على عكس ما يظن المضبوعون بحضارة الغرب) أضر بالتقدم العلمي ونزاهة الأبحاث. وفي الحقيقة ليس الأمر كما يدعي الرأسماليون، من أن فكرة الربح والمنفعة المادية تشجع البحث العلمي والاكتشاف، فإن طبيعة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها هي التي تدفعه إلى الابتكار والاكتشاف والاختراع، علاوة على القيم المعنوية التي تحققها هذه الأعمال.

والأدلة في التاريخ والحاضر كثيرة، فما الذي دفع العلماء المسلمين إلى الاختراع والاكتشاف؟ وما الذي دفع السوفييت والصينيين أيام المعسكر الشرقي إلى الاختراع بدون مقابل مادي، حتى إن كثيراً من هؤلاء العلماء فقراء معدمون!
ولقد لاحظ أحد الأطباء الأميركان الباحثين أن المكافأة المادية لها مفعول عكسي، وأنها لا تشجع على الابتكار بل على العكس تقلله، وأنها تجذب إلى الميدان أصحاب الميول المادية وليس أصحاب العقول الصافية المتخصصة. وقد نشر ذلك البحث في مجلة علمية مرموقة (‏Boston Medical Journal‏) ما أثار حفيظة دعاة الملكية الفكرية. وقد أشار أبو الطيب القنوجي في كتابه "أبجد العلوم" إلى خطر طلب العلم لأجل القيمة المادية فقط لا غير فقال: "على أنه من تعلم علمًا للاحتراف لم يأت عالمًا، إنما جاء شبيهًا بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد (أي لما صار للمُدرسين رواتب معلومة)، أقاموا مأتم العلم، وقالوا‏:‏ "‏كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل، فيكون سبباً لارتفاعه، ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها"‏.


والدولة الإسلامية لن تكون بحاجة لمثل هذه القوانين لتشجيع الابتكار والاختراع؛ وذلك لأنها تتبنى عقيدة الإسلام ووجهة نظره في الحياة، فلا تقيس الحياة بالمادة، ولا يقيس رعاياها أعمالهم بالنفعية، وإنما توازن بين تحقيق القيم فتحدث التوازن في المجتمع وتحقق السعادة والرخاء لرعاياها كلهم، قويهم وضعيفهم، كما وأنها لا تقيس اقتصادها بالإنتاج أو معدلات النمو، بل بتحقيق جميع الحاجات الأساسية لكل فرد بعينه وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية.
وقد حثّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوي، والبحث عن الدواء، فقال عليه أفضل الصلاة والتسليم: «عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء» (رواه الترمذي)، وقال أيضاً: «‏ما أنزل الله داءً إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله» (رواه أحمد).


وبالرغم أن لجميع أفراد الرعية الحق في إنشاء المختبرات العلمية المتعلقة بكافة شؤون الحياة ومنها الطب، فإن على الدولة الإسلامية أن تقوم هي بإنشاء هذه المختبرات. وتهيئ الدولة المكتبات والمختبرات وسائر وسائل المعرفة في غير المدارس والجامعات لتمكين الذين يرغبون من مواصلة الأبحاث في الطب وسائر العلوم والمعارف، ومن مواصلة الاختراع والاكتشاف وغير ذلك، حتى يوجد في الأمة حشد من المجتهدين والمبدعين والمخترعين.
وقد حرّم الإسلام الغش، ومنه تزوير الأبحاث العلمية، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «‏من غشّ فليس منا» (رواه الترمذي)، وفي رواية: «من غش فليس مني» (رواه مسلم).


هذه بعض الجوانب التي تلقي بعض الضوء على ظلام الرأسمالية وما سببته من عناء للبشر في مجال الطب والعلاج، ولم نذكر في هذا البحث ما أنتجته الحضارة الرأسمالية من أمراض جديدة نتيجة الحرية الشخصية والانحلال الخلقي، كمرض الإيدز، وما تسببت به مفاهيمها العفنة من أمراض نفسية عند من حملوها وعاشوا تحت ظلها، فحسب منظمة الصحة العالمية: 25% من سكان العالم اليوم يُعانون من مرض نفسي (وحسب إحصائيات أخرى، النسبة تصل إلى 50%). وما بين 10% إلى 15% من سكان العالم يُعانون من مرض الاكتئاب، ونسبة مُشابهة منهم يُعانون من مرض القلق.
إن الحديث عما انبثق عن هذا الأساس المهترئ والجذر المتعفّن من فروع متآكلة وثمار فاسدة يطول ولا ينتهي، ولا يكون العلاج إلا بقلع هذا الجذر من أصوله، واستبداله بشجرة الإسلام الطيبة، مستأنفين حياة إسلامية على نهج الحبيب المصطفى، تحت راية دولة الإسلام الثانية بإذن الله.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا) [الإسراء 51]. [انتهى]



أبو الغيث - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

الطب في النظام الرأسمالي (2)



بسم الله الرحمن الرحيم

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أخبره أنه طبيب: «الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق» (أبو داود)، أي: أنت ترفق بالمريض وتتلطفه، والله يبرئه ويعافيه.
لطالما كان الطب علماً إنسانياً هدفه تخفيف آلام ومعاناة البشر الجسدية والنفسية أولاً وقبل كل شيء. وعلى مدار التاريخ، كان الطبيب شخصاً نال الاحترام والثقة، باعتباره رفيق المريض، تعالى على مصالحه وشهواته الذاتية في سبيل مساعدة الضعفاء، وأقسم أن لا يضر محتاجًا أو يخون أمانة.
جاء في قَسَمِ أبيقراط في القرن الرابع قيل الميلاد: «أقسم أن أحمي المرضى من الأذى والظلم... وأن لا أصف لمريض دواءً قاتلاً ولا أعطيه نصيحةً تؤدي لموته.. أقسم أن أحيط حياتي وعلمي بالطهارة والقداسة، وبغض النظر عن أي بيتٍ أزور، سأسعى إلى فائدة المريض متعالياً عن قصد الظلم أو الإساءة».
وعلى اختلاف الشعوب والحضارات التي شغلت من التاريخ حيزًا، واختلافها في النظرة إلى الحياة، بقيت للطب مكانته الإنسانية، وبقي قَسَمُ أبيقراط (بصيغِهِ المختلفة) منهجًا لا حياد عنه، حتى في أشد عصور الظلمات، إلا ما شذّ وندر من حالات فردية لا ترقى لأن تكون ظاهرة.



وأما قوانين حماية الملكية الفكرية، فهي أداة لكبار الرأسماليين للاحتكار والسيطرة على الأسواق، وهي أسلوب من أساليب الاستعمار الاقتصادي والثقافي، فرضتها الدول الكبرى الرأسمالية على دول العالم وشعوبه عن طريق المنظمة العالمية للتجارة، ليمنعوا الأمم الأخرى من الاستفادة الحقيقية من الاختراعات والأدوية الجديدة، لتظلّ بلادها أسواقاً استهلاكية لمنتجاتهم، ولتظلّ الأمم خاضعة لنفوذهم، يسرقون ثرواتها وخيراتها باسم الاستثمار والعولمة.


أما الإسلام، فقد نظّم الملكية الفردية باعتبارها مظهراً من مظاهر غريزة البقاء، فشرع للمسلم التملك لإشباع هذه الغريزة بما يضمن له البقاء والحياة الكريمة، فأباح له ملكية أكثر الأعيان كالأنعام والمساكن ومحاصيل الأرض، وحرم عليه بعض الأعيان كالخمر والخنـزير والمخدرات، كما حثه على التفكير وطلب العلم، وأباح له أخذ الأجرة على تعليم الآخرين. وشرع له أسباباً مبيحة للتملك كالبيع والإجارة والإرث، وحرم عليه أسباباً أخرى كالربا والقمار أو الغش.
والملكية في الإسلام بشكل عام هي إذن الشارع بالانتفاع بالعين، أما الملكية الفردية فهي: حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة يضاف إلى الفرد ، فيمكّنه من الانتفاع بالعين وبأخذ العوض عنها. والملكية الفردية في الإسلام لا تثبت إلا بإثبات الحكم الشرعي لها، وتقريره لأسباب ملكيتها، فالحق في ملكية الشيء ليس ناشئاً عن الشيء نفسه أو كونه نافعاً، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع بملكيته بسببٍ من أسباب التملك الشرعية كالبيع أو الهبة.


وقد جعل الإسلام للفرد سلطاناً على ما يملك، يمكّنه من التصرف والانتفاع بما يملك وفق الأحكام الشرعية، وأوجب على الفرد صيانة الملكية الفردية، ووضع عقوباتٍ زاجرةً لكل من يعتدي على ملكية الآخرين.
وأحكام الملكية الفردية تشمل ملكية الأفكار والابتكارات. فصاحب الفكرة أو الابتكار هو مالكها، وله حق الانتفاع بها، وله أن يبيعها وأن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر، كما أن له أن يدوّنها في كتاب أو على شريط أو غير ذلك ويبيعها أو يوزعها أو أن يحتفظ بها لنفسه وينتفع بها وحده. فهذا كله جائز وجاء به الإسلام. إلا أن للملكية الفردية وللبيع شروطاً جاء بها الإسلام أيضاً. ومن شروط الملكية أن يكون للمالك سلطان على ما يملك أعطاه الشرع إياه. ومن أركان البيع أن ينتقل السلطان من البائع إلى المشتري. ولا سلطان للبائع على ما باع بعد البيع أي بعد إعطاء السلطان.

وهذا ينطبق على الدواء، فبعد أن يبيعه المخترع أو المكتشف يُصبح الدواء ملك من اشتراه، وله أن يُحلِّله ويدرس تركيبته ثم يصنعه بنفسه ويبيعه. وإذا علّم مخترع الدواء غيره كيفية صنعه وتركيبته تصبح كيفية صنعه ملك من تعلمها، وله أن ينتفع بها أو أن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر. وصاحب السلطان يحق له أن يفعل بملكه ما شاء مما أقره الشرع (ولا عبرة في بقاء سلطان للبائع في حالة بيع الدواء أو كيفية تركيبه، لأن العبرة في أن يحصل المشتري على السلطان على ما اشترى لا أن ينـزع السلطان من البائع). والبائع لا يحق له أن يشترط شيئاً يخالف هذا لأن هذا من أركان البيع، فإن خالفه أو اشترط شرطاً ينقص منه فإن ذلك مخالف للشرع ويكون الشرط باطلاً.


أمّا الشروط، التي نصّت عليها القوانين الوضعية، وسمحت بها لمؤلفي الكتب والبرامج والمخترعين أن يشترطوها باسم الحماية الفكرية، كحقوق الطبع وبراءة الاختراع، فهي شروط غير شرعية، لا يجب الالتزام بها، لأنّ مقتضى عقد البيع في الإسلام، كما يعطي للمشتري حقّ الملكية، يعطيه حقّ التصرف بما يملك، وكلّ شرط مخالف لمقتضى عقد البيع فالمشتري في حِلّ منه، ولو كان مئة شرط، فعن عائشة (رضي الله عنها): «أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أُوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُم،ْوَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال:َ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» (رواه أحمد)، فالحديث يدلّ بمنطوقه على أنّ الشرط المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله لا يجوز الالتزام به، وما دامت شروط حماية الملكية الفكرية تجعل الانتفاع بالعين المباعة مقصورًا على انتفاع دون انتفاع آخر، فهي شروط باطلة، مخالفة لما في كتاب الله وسنة رسوله؛ لكونها مخالفة لمقتضى عقد البيع الشرعي، الذي يُمكّن المشتري من التصرف والانتفاع بالعين بأيّ وجه من الوجوه الشرعية كالبيع والتجارة والتصنيع والهبة. وإنّ الشروط التي تُحرم الحلال شروط باطلة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» (رواه الترمذي).

وعليه فإنّه لا يجوز شرعاً أن تكون حقوق الطبع أو النسخ أو براءة الاختراع محفوظة، بل هي حقوق مباحة.
وهذا الحكم الشرعي كفيل بفتح السوق أمام منتجي الأدوية لإنتاج كل أنواع الدواء، فينخفض سعر الدواء بصورة كبيرة، ويصبح في متناول الجميع، بل ويُحفَّزُ البحث العلمي الذي لا يبقى متحجراً بسبب حيازة الأفكار ومنع تداولها، أو بسبب تركيزه على مجالات الربح وإهمال أمراض الفقراء.
وثمة وسيلة بديلة لتمويل وتحفيز الأبحاث، وهي وسيلة أفضل كثيراً من نظام البراءات، سواء من حيث توجيه العملية الإبداعية أو ضمان انتشار الاستفادة من المعرفة على أوسع نطاق ممكن. وتتلخص هذه الوسيلة في إنشاء صندوق جوائز طبية من بيت المال يكافئ هؤلاء الذين يكتشفون العلاجات واللقاحات. ويمكن أن يقدم هذا الصندوق أكبر الجوائز لمنتجي العلاجات أو سبل الوقاية من الأمراض الأخطر والأكثر انتشارًا التي يبتلى بها مئات الملايين من البشر.


وطبعًا بما أن الحضارة الإسلامية تصوّر الحياة على أنها مزيج من المادة والروح، وتسيِّر أعمال الإنسان بأوامر الله ونواهيه، وغاية الغايات فيها إنما هو نوال رضوان الله تعالى، فإن العلماء والباحثين لا يقتصرون على القيمة المادية، ولا يبغون الربح فقط من تصنيع الدواء، بل يضعون نُصب أعينهم إعانة الضعيف وعلاج المريض حتى ولو لم يجنوا الأرباح الطائلة. قال رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم): «‏الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (رواه الترمذي).
ومن اتقى الله سبحانه، لم يستغل ضعف الناس، ولم يرضَ أن يشق عليهم، أو يمنع عنهم العلاج والدواء. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ضار أضرَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه» (رواه أبو داود).



أبو الغيث - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

الطب في ظل النظام الرأسمالي (1)



بسم الله الرحمن الرحيم

قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن أخبره أنه طبيب: «الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق» (أبو داود)، أي: أنت ترفق بالمريض وتتلطفه، والله يبرئه ويعافيه.
لطالما كان الطب علماً إنسانياً هدفه تخفيف آلام ومعاناة البشر الجسدية والنفسية أولاً وقبل كل شيء. وعلى مدار التاريخ، كان الطبيب شخصاً نال الاحترام والثقة، باعتباره رفيق المريض، تعالى على مصالحه وشهواته الذاتية في سبيل مساعدة الضعفاء، وأقسم أن لا يضر محتاجًا أو يخون أمانة.
جاء في قَسَمِ أبيقراط في القرن الرابع قيل الميلاد: «أقسم أن أحمي المرضى من الأذى والظلم... وأن لا أصف لمريض دواءً قاتلاً ولا أعطيه نصيحةً تؤدي لموته.. أقسم أن أحيط حياتي وعلمي بالطهارة والقداسة، وبغض النظر عن أي بيتٍ أزور، سأسعى إلى فائدة المريض متعالياً عن قصد الظلم أو الإساءة».
وعلى اختلاف الشعوب والحضارات التي شغلت من التاريخ حيزًا، واختلافها في النظرة إلى الحياة، بقيت للطب مكانته الإنسانية، وبقي قَسَمُ أبيقراط (بصيغِهِ المختلفة) منهجًا لا حياد عنه، حتى في أشد عصور الظلمات، إلا ما شذّ وندر من حالات فردية لا ترقى لأن تكون ظاهرة.



لقد ابتلينا في هذا الزمن بحضارة من أسوأ ما تفتقت عنه عقول البشر القاصرة، حضارة فصلت الدين عن الحياة، وتغاضت عن قيم الأخلاق والإنسانية فضلاً عن القيمة الروحية، ولهثت وراء المادة، ورفعت راية الرأسمالية فوق رقاب الضعفاء، فاستعبدت الناس.
ولم يسلم الطب من وحل الرأسمالية، ولم ينجُ من أنظمتها وطريقة عيشها، فأضحى أداةً لأصحاب رؤوسِ المال، يستغلونه -كما استغلوا كل شيء- لمص دماء المرضى الضعفاء وأموالهم، ولإشباع جشعهم ونزواتهم التي لا تشبع.
ومن فُحش الرأسمالية، أن ظهر الفساد في كل نواحي الطب تقريباً، في نظام التأمين الصحي وشركاته، في شركات الأدوية وأبحاثها، في الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، وفي استغلال الشركات للأطباء واستغلال الأطباء للمرضى. وكما في كل مكان دخلته الرأسمالية، لا بقاء ولا حياة للضعيف، ولا قيمة إلا للمال.
ولم تكن المشكلة هذه المرة في حالات فردية حصلت هنا وهناك، ولكن كانت المشكلة في أساس النظام حيث تفشت لتصيب كل فروعه.
ومن منطلق إظهار الحق، ولتستبين سبيل المجرمين، نتطرق في هذا البحث لبعض ما نال جانب الطب في ظل الرأسمالية، مستعرضين بعض المجالات والنواحي التي نخرها سوس النفعية وأبلاها ظلم الأنظمة الوضعية، آملين من الله أن ينجلي ظلام هذا المبدأ العفن قريباً، ببزوغ شمس الخلافة الموعودة القريبة بإذن الله، وأن تعود للإسلام مكانته ونظامه، ليحفظ لكل ذي حق حقه.


1- التأمين الصحي:
الرأسمالية في أساسها مبدأ ظالم لا مكان فيه للضعفاء، ولا راحة فيه للأقوياء، ولو طُبِّق النظام الرأسمالي كما هو، لثار الناس لشدة ما سيقع بهم من حيف وجور واستغلال. والعقلية النفعية التي لا تقيم وزنًا إلا للمادة، تحمل صاحبها على فعل أي شيء يحقق الربح، ولو كان فيه هلاك الناس، ودمار المجتمع، بل حتى لو كان فيه هدمٌ للنظام الرأسمالي نفسه. ولذلك، وحفظًا للنظام الرأسمالي من حنق الناس وثورتهم ضده إذا طُبق عليهم كما هو، اضطر الرأسماليون إلى إصدار بعض القوانين المخالفة في أصلها للمبدأ الرأسمالي، والتي تهدف إلى ترقيع هذه الثغور المُهلكة في نظامه.
فمثلاً: لو طُبق النظام الرأسمالي كما هو، لكان لصاحب العمل أن يُشغّل من يشاء بأي أجر يشاء، لكون الرأسمالية لا تقيم وزنًا إلا للربح والمنفعة، وحينها سيثور الناس ضد الرأسماليين والدولة، وقد يُغيِّرون النظام. وهنا أدت العقلية النفعية ذاتها في الغرب إلى ابتكار فكرة ترقيع النظام الرأسمالي لإطالة عمره، بأحكام مثل: الحد الأدنى للأجر، وأجر التقاعد للموظفين والإكراميات للعمال، وتعليم أبناء الفقراء مجاناً، وغيرها مما يختلف مقداره وشكله بين دول الرأسمالية المختلفة.
والتأمين الصحي ليس إلاّ واحدًا من هذه الأحكام الترقيعية، وقد تطوّر إلى الشكل الذي نعرفه اليوم من أواسط القرن العشرين إلى أواخره، أي في فترة وجود الشيوعية وخوف العالم الغربي من نشر أفكارها بإثارة العمال في الغرب ضد الرأسماليين.
والتأمين الصحي وسيلة لتغطية تكاليف الرعاية الصحية. وتقوم الحكومات بتوفيره لسكانها لضمان استفادتهم من الخدمات الصحية- عن طريق نظام تأمين بتكلفة معينة يستطيع المواطن دفعها، أو برنامج تموّله الحكومة ويمكّن أولئك السكان من الحصول على الخدمات الصحية الأساسية دون التعرّض لمخاطر الإملاق أو ضائقة مالية حادة.
وتختلف الطرق المتّبعة إزاء الحماية الصحية الاجتماعية باختلاف البلدان، غير أنّ القاسم المشترك بين جميع البلدان في هذا المجال هو نظام يُدعى نظام تجميع المخاطر. ويمكّن ذلك النظام مجموعة واسعة من الأشخاص من تقاسم مخاطر الإصابة بالمرض واللجوء إلى رعاية مكلّفة. ويعني ذلك أنّه يتم جمع الأموال المخصّصة للرعاية الصحية عن طريق الدفع المسبق، وإدارتها بطريقة تضمن تحمّل جميع أفراد تلك الجماعة -وليس الدولة- تكاليف الرعاية الصحية في حال الإصابة بالمرض، بدلاً من أن يتحمّل كل فرد تلك التكاليف على حدة، وبدلاً من أن تتحملها الدولة.
وفي ذلك النظام يواصل الأشخاص الأصحاء، الذين لا يحتاجون إلاّ إلى رعاية صحية محدودة، تمويل الأشخاص المرضى الذين يعتمدون بشكل أكبر على الموارد الصحية المتاحة.
ويمكن إدارة نظام تجميع المخاطر بطريقتين اثنتين هما:


1- التمويل الصحي القائم على الضرائب: تستخدم الحكومة الدخل المتأتي من الضرائب العامة لتمويل خدمات الرعاية الصحية. ويحقّ لجميع الناس الاستفادة من تلك الخدمات؛ وبالتالي تكون التغطية شاملة.


2- التأمين الصحي الاجتماعي: تُجمع مساهمات الرعاية الصحية من العمال والأشخاص الذين يعملون لحسابهم والمؤسسات والحكومة. ويتم تجميع تلك الأموال في صندوق أو صناديق للتأمين الصحي الاجتماعي. ولا يمكن تحقيق التغطية الشاملة عن طريق هذا النظام التمويلي إلاّ إذا قام كل من السكان بدفع ما عليه، وإذا تم تحديد مساهمة كل فرد وفق قدرته على الدفع. وعليه تلجأ معظم نُظم التأمين الصحي الاجتماعي إلى مصادر تمويلية مختلفة، وتقوم الحكومة بدفع مساهمات الأشخاص غير القادرين على سدادها.
وهناك فئة من السكان في بعض البلدان تستفيد من تغطية مباشرة من خلال الضرائب العامة، بينما على الفئة الثانية دفع مساهمات إلى أحد صناديق التأمين الصحي الاجتماعي أو غير ذلك من أشكال التأمين الصحي، التي قد تكون مؤسسات خاصة.


هذا هو التأمين الصحي باختصار، ورغم أن هذا الحكم جاء لترقيع النظام الرأسمالي، إلا أنه في حقيقته ظلم فضلاً عن أنه يطيل عمر الرأسمالية ويُثبّت جورها. فلماذا يُعالج الفقراء مجانًا مثلاً ولا يعالج باقي الناس مجانًا؟ علمًا أن الدولة مسؤولة عن كفاية الأمة كلها فرداً فرداً فيما لا بد منه كالتطبيب والتعليم والدفاع وحفظ الأمن، وذلك للفقير والغني وللضعيف والقوي سواء بسواء. ولكن بما أن الدولة في النظام الرأسمالي غير ملزمة برعاية شؤون الناس، ابتدعت هذا النظام لكي تمتص به غضب السكان من عدم الاهتمام بشؤونهم الصحية وخصوصًا من لا يستطيع منهم الحصول عليها بنفسه.
كما أن المُؤَمَّن قد لا يتعالج بمقدار ما اقتطع من أجره أو ما دفعه، وطبعاً هو لا يُعاد إليه. وهذا الجزء من أُجْرة المُقتطَعِ منه الذي لا يعاد إليه يكون مظلمة!
وقد يُصاب المُؤَمَّن بمرض نادر أو يحتاج إلى علاج خاص، ولا يوفره له برنامج التأمين بحجة أن الاتفاق الموقع لا يشمل هذه الخدمات، وكأن على الإنسان أن يطلع على الغيب ليعرف أي خدمة سيحتاج وأيها لن يحتاج مع مرّ الزمن!!

وبذلك يكون قد دفع التأمين طوال حياته، حتى إذا مرض واحتاجه لم يجده. فهدف شركات التأمين ليس رعاية شؤون الناس وعلاجهم، بل هو الربح وتحقيق المنفعة المادية فقط.
وتكتب شركات التأمين عقودها بصورة مُعقدة وغير مفهومة لكثير من الناس، حتى تتهرب قدر الإمكان من دفع التأمين إذا احتاج إليه المُتعاقد. وما من شيء أيسر على شركات التأمين من إيجاد السبب لإبطال عقد من العقود، والتحلل من التزاماته؛ فالظروف غير العادية -حسب نظامها- تجعلها في حل من جميع التزاماتها، وزيادة الخطر من مبطلات الالتزام ما لم يزد المُؤمَّن في قيمة القسط. والإخلال بشرط من شروطها مهما خفي أمره يعتبر لديها من أهم المحللات. وقد وضعت شروطها وأحْكَمَتْها بحيث لا يأتي بها كاملة إلا قلة من الناس، فيندر أن يَسْلَمَ أحدٌ من المؤمَّنِ لهم من شر هذه الشروط التي تجد شركات التأمين فيها أعظم مجال لتصيُّد الثغرات والتحلل من الالتزامات.


فعلى سبيل المثال، في عقد شركة تأمين معينة، كان على الشركة تمويل علاج كيماوي مُعيّن لسرطان الأمعاء الغليظة فقط إذا كان الورم في المستقيم، والمستقيم طوله حسب كتب التشريح 10-15 سم، فما كان من شركة التأمين إلا أن كتبت في العقد أن طول المستقيم المعتبر في العقد هو 10 سم. وبما أن 99% من المُؤمّنين لا يعرفون شيئًا عن طول المستقيم، فقد يجد بعضهم نفسه مع ورم في أعلى المستقيم بعد أن دفع لسنوات ثمن التأمين الباهظ، ولا يستطيع الحصول على العلاج بسبب فرق 1 أو 2 سم في مكان الورم!!
هذا كله فضلاً عن البيروقراطية المقيتة التي تنتهجها شركات التأمين، فلا يكاد يُحصّل المُؤمَّنُ ما تعاقد عليه مع الشركة إلا بشق الأنفس، هذا إن لم يستسلم خلال غوصه في كوم الأوراق.
وكما استغلت الرأسمالية كل شيء وبحثت عن المنفعة في كل جُحر، استغل الرأسماليون نظام التأمين، فشركات التأمين تجبي من المُؤَمَّنين أضعاف أضعاف ما تنفقه على علاجهم.
وكما قُلنا فإن الخطر الأساسي من التأمين الصحي آت من جهة أنه وسيلة لإطالة عُمر الرأسمالية وتسلطها على رقاب الناس، وهذا أخطر الجوانب في هذا النظام.


لقد أوجب الإسلام على الدولة تحقيق إشباع الحاجات الأساسية للرعية، ومن ضمنها التطبيب، فتؤمن الدولة التطبيب للجميع لا فرق بين غني وفقير ولا بين موظف وغير موظف، وتدفع جميع النفقات المترتبة على ذلك من بيت المال أي من خزينتها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» (أخرجه أحمد). والطب من المصالح والمرافق التي لا يستغني عنها الناس، فهو من الضروريات، قال عليه الصلاة والسلام: «من أصبح منكم معافى في جسده آمنًا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا» (ابن ماجه)، فقد جعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحة حاجة، على أن عدم توفير الطب لمجموعة الناس يؤدي إلى الضرر، وإزالة الضرر واجبة على الدولة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر وضرار» (الإمام مالك). فمن هذه الناحية أيضاً كان التطبيب واجباً على الدولة. وفوق هذا فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدي إليه طبيب فجعله للمسلمين، فكون الرسول جاءت الهدية له ولم يتصرف بها ولم يأخذها بل جعلها للمسلمين، دليل على أن هذه الهدية مما هو لعامة المسلمين وليست له.


2- شركات الأدوية:
تقتضي حرية التملك في النظام الرأسمالي أن يُتاح للفرد أو للشركات أن يسعوا للحصول على الربح والمنفعة بأي طريقة كانت، بشرط عدم التعدي على حريات الآخرين، ولو استغلوا الناس وغشّوهم، طالما أنه برضاهم. وقد أدى هذا المبدأ بالفعل إلى ظُلم الفقراء والضعفاء واستغلالهم بصورة بشعة، بل وحرمانهم من حقهم الأساسي بالتطبيب والعلاج.
وللدواء -كسلعة- ثلاث خصوصياتٍ رئيسة، تجعل منه السلعة الأكثر حرجاً إجتماعيّاً واقتصادياً:


الأولى تتمثل في أن الدواء سلعة لا يمكن لمن يحتاجها أن يستغني عنها.


الثانية هي أن الحاجة للدواء موجودة على الدوام منذ عرف الإنسان الدواء، ولم تتوقف الحاجة إليه قط، وهذه الحاجة تتطور باستمرار للزوم الحصول على علاج أنجع، وكذلك للزوم المجابهة العلاجية لمستجدات مرضية جديدة.


الثالثة تختص باعتماد براءة الاختراع على الدواء بعد البحث العلمي العميق والمتواصل.


إن هذه الخصوصيات الثلاث تفسر -إلى حد كبير- سر تمتع الدواء بقيمة مضافة عالية تجعل منه السلعة الأكثر ربحية على الإطلاق بين جميع السلع المشروعة. وكذلك السلعة الأهم عند التعامل مع اتفاقية حقوق الملكية الفكرية (TRIPS).
ولا تنفك شركات الأدوية الكبرى ومافيات سوق الأدوية الدولية تحتكر تصنيع الأدوية وبراءات اختراعها، مستغلة في ذلك الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتجارة الدولية وحماية الملكية الفكرية وغيرها من الوسائل (GATT،TRIPS). وبما أن هذه الشركات الرأسمالية لا تُقيم وزنًا لغير الربح، فهي ترفع سعر الدواء بصورة فاحشة، وتمنع الآخرين من تصنيعه ومنافستها في السعر تحت حجة "براءة الاختراع". والمتضررون بطبيعة الحال من هذا الاحتكار الفاحش هم الأفراد الفقراء، أو دول العالم الثالث التي لا تستطيع تأمين الأدوية باهظة الثمن لسكانها.

وقد ذهبت شركات الأدوية أبعد من ذلك، حيث أنفقت على جماعات الضغط لتعمل على التأثير على الحكومات من أجل عدم التدخل في أسعار الأدوية، فحسب تقرير لمنظمة بابليك سيتيزن الأميركية لحماية المستهلكين والذي صدر في يونيو 2003، بلغ إجمالي إنفاق شركات الأدوية الأميركية على جماعات الضغط بين سنة 1997 وسنة 2002 - 477.6 مليون دولار. وأكدت منظمة بابليك سيتيزن أن حجم إنفاق هذه الشركات على جماعات الضغط بقي ضئيلاً بالمقارنة مع الأرباح التي حققتها. فقد سجلت أهم عشر شركات للأدوية سنة 2002 وحدها ما يقارب 36 مليار دولار أرباحًا.
وهناك العديد من الأدوية المعروفة جيداً في السوق والتي تُستَخدَم منذ عقود طويلة ولا تخضع بالتالي لقوانين الاحتكار التجاري، ما يجعلها رخيصة الثمن وفي متناول أيدي الجميع، ولقد وُجِدَ مؤخراً أن للعديد من هذه الأدوية استخدامات جديدة في معالجة العديد من الأمراض المستعصية.

ولكن شركات الأدوية تفضل إنفاق المليارات على بحوث لتطوير وترويج مستحضرات دوائية جديدة باهظة الثمن قليلة الفائدة تقوم باحتكار تصنيعها وبراءات اختراعها حيث تحقق لها ربحاً أكبر.
وباعتبار أن هذه الاحتكارات الدولية في سوق الدواء هي القوة الاقتصادية المحرّكة لتطوير البحوث الصيدلانية، فإنها لا تهتم بتبني الأبحاث العلمية التي تقود إلى إيجاد استخدامات جديدة للأدوية القديمة المعروفة والتي لا يعتبر تصنيعها حكراً على أحد، مما سيؤدي إلى توفير أدوية لا تقل في جودتها وفعاليتها عن تلك الأدوية الباهظة الثمن وبأسعار تجعلها في متناول الجميع، وبالتالي يتم توفير خدمات علاجية للجميع. ويكون المستفيد الرئيسي هنا هم المرضى وخاصة في الدول ذات الاقتصاديات الأقل نموًا والأكثر فقرًا في العالم.
وحسب مجلة دي لانسيت الطبية الأميركية (عدد 2 نوفمبر 2002) فإن شركات الأدوية هذه أصبحت الممول الرئيسي للبحث الطبي مما أسفر عن تضارب في المصالح. فرغم أن البحث الطبي يفضي إلى نتائج قيمة إلا أن الممولين قد يؤثرون في مسار الأبحاث ليضمنوا عدم تهديد أرباحهم.


وتستغل شركات الأدوية القانون الدولي الظالم لتبرير حرمان الدول الفقيرة والنامية من الدواء، وقصة مرض الإيدز هي قصة نموذجية لما تفعله حقوق الملكية الفكرية بالناس، فنسبة مرض الإيدز في جنوب أفريقيا تصل إلى حوالي 10% من السكان. وخلال السنوات الماضية تم تطوير مجموعة من الأدوية التي تُبقي المريض على قيد الحياة، حيث تمنع تكاثر الفيروس وتقلل كميته في الدم، لكن تبقى المشكلة في غلاء ثمن هذه الأدوية. فالشركات المنتجة للأدوية، بموجب نظام براءات الاختراع، تستطيع تحديد السعر الذي تريده.
وتقدر التكلفة الإجمالية لعلاج مريض الإيدز بألف دولار شهرياً، وهو رقم تعجز جنوب أفريقيا ومعها كل الدول الفقيرة عن توفيره لمرضاها، فجاء الحل عن طريق شركة هندية للدواء، حيث عرض المُصنِّع الهندي بيع كمية نوعية من الدواء بسعر أدنى من سعر الشركة المحتكرة بخمس وثلاثين مرة. وعندما منحته جنوب أفريقيا ترخيصاً لإنتاج الدواء اعتبرت شركات الدواء المتحالفة ذلك انتهاكاً لاتفاقية التجارة الحرة التي تفرض حقوقاً للملكية الفكرية!! وأقامت شركات الدواء المتضامنة دعوى على جنوب أفريقيا لانتهاكها تلك الحقوق.


وتشهد بعض دول العالم الثالث اليوم موقفًا مشابهًا لما حصل مع جنوب أفريقيا، كالبرازيل والهند وغيرهما من الدول المنكوبة بالمرض وتعذُّر شراء العلاج المُحتكر.
ومن الجهة المقابلة نجد أن الولايات المتحدة -الدولة الرأسمالية الأولى- وبعد أحداث 11/9 وما تلاها من تهديد بهجمات الجمرة الخبيثة، احتاجت إلى تخزين كميات كبيرة من دواء (السيبرو) المضاد الحيوي النوعي للجمرة الخبيثة، فهددت أميركا شركة (باير) الألمانية مالكة حقوق هذا العقار، إما بإعطائها الدواء بسعر خاص أو باللجوء إلى إنتاجه دون ترخيص، فرضخت الشركة.
وتتذرع شركات الأدوية بأنها تدفع الكثير من النفقات لتطوير الأدوية وإجراء الأبحاث، وبالتالي لا بد لها من الحماية الفكرية لكي تسترد التكلفة التي دفعتها من أجل إدامة البحث وتطوير أدوية جديدة. وتدعي أنها بعد أن تتحمل هذه النفقات لا يتبقى لها سوى نسبة متواضعة من الأرباح.


لكن المدقق يجد أن لا صحة البتة لما تدعيه شركات الأدوية: ففي عام 2002م على سبيل المثال، حققت أكبر عشر شركات أميركية في مجال صناعة الدواء مبيعات بلغت 217 ملياراً من الدولارات، وطبقاً للأرقام التي أعلنت عنها هذه الشركات فقد أنفقت 14% فقط من عائدات المبيعات على البحوث والتنمية.
كما أن أغلب الأدوية في أميركا مثلاً، اكتشفت في المخابر الحكومية، وفي العام 1995م إكتشفت مؤسسة ماساتشوستس للتكنولوجيا أنه من بين 14 دواء من الأدوية الواعدة في نظر مصانع الأدوية في الربع الأخير من القرن،هناك 11 دواء تم اكتشافه عبر أعمال موّلتها الحكومات، أي أن شركات الأدوية لم تنفق شيئاً على اكتشافها وتطويرها.
وظلت شركات الأدوية في الولايات المتحدة تحقق النسبة الأعلى من الأرباح بين كافة الصناعات الأخرى. ولنقارن هامش الـ17% من الأرباح الذي حققته أكبر عشر شركات أميركية لصناعة الدواء في عام 2002، بمتوسط الـ3.1% الذي حققته أكبر خمسمائة صناعة في ذلك العام طبقاً لمجلة "فورشن".

وفي عام 2003 هبطت صناعة الدواء للمرة الأولى هبوطاً طفيفاً من المركز الأول إلى المركز الثالث فيما يتصل بالأرباح، لكن أرباحها ظلت أعلى كثيراً من المتوسط.
ورغم كل تلك الأرباح والأسعار الاحتكارية المرتفعة فإن البحوث الطبية في تراجع، ويدل على ذلك تراجع عدد الأدوية المسجلة سنوياً. ففي عام 1996م أقرت إدارة الأغذية والدواء الأميركية (FDA) 53 دواءً جديدًا في الولايات المتحدة، بينما أقرت 17 دواءً جديداً فقط عام 2003م.
ولا تقف الأمور عند حد الاحتكار في بيع الأدوية ومنع الفقراء من شرائها، بل تتعدى ذلك إلى إخفاء الحقائق المتعلقة بمخاطر الأدوية وعوارضها الجانبية. فمثلا قامت شركة فيزر Pfizer بطرح دواء التهاب المفاصل "سيليبريكس" celebrex، بالرغم من اكتشاف الشركة بعد دراسة أجرتها منذ 4 سنوات أن عدداً غير قليل من مستخدمي الدواء عانوا من سكتات قلبية وجلطات.
وأوضحت هذه الدراسة أن نسبة من عانوا من مشاكل قلبية في الفريق الذي كان يأخذ الدواء كانت أكثر 3.6 مرات عمن عانوا من نفس المشاكل في الفريق الذي كان يأخذ الأقراص الوهمية. هذا وكانت شركة ميرك Merck Co. قد سحبت دواءها المُشابه لعلاج التهاب المفاصل vioxx "فيوكس" من السوق بعد أن وجدت أن هناك احتمالاً كبيراً لإصابة من يأخذه لأكثر من 18 شهراً بمشاكل في القلب وحدوث جلطات.
ولكن بعد سحب "فيوكس" من السوق استمرت شركة "فيزر" في الإعلان والترويج لسيلبريكس بقوة حتى أجبرتها هيئة الرقابة على الدواء والأغذية الأميركية على التوقف.
ويعلق "بروس باستي" مساعد مدير مركز الدراسات القلبية بجامعة واشنطن وهو خبير بالسلامة القلبية، وأحد من تابع تحليل الدراسة في حوار أجراه مع جريدة واشنطن بوست "يبدو أن فيزر قدمت لنا نتائج الدراسة بشكل يجعل خطورة الدواء تبدو أقل مما هي عليه"، وأضاف: "كان على الشركة أن تنشر نتائج هذه الدراسة منذ زمن طويل؛ فالدراسة اكتملت عام 2000م، ولكننا علمنا عنها في 2005م وهذا شيء غير مقبول؛ إذ كيف ننتظر من الأطباء أن يصفوا للمرضى علاجاً لا يعلمون المخاطر والفوائد الحقيقية له؟!".
وتتعاون بعض المؤسسات الحكومية مع شركات الأدوية لإخفاء الحقائق المتعلقة بمخاطر الأدوية، ولا يُستغرب مثل هذا في حضارة الرأسمالية التي احترفت الرشوة والغش وسيلة للتكسّب، وقد ذكرت مجلة "نيوإنجلند جورنال أوف ميديسن" الطبية سنة 2007م أن إدارة الأغذية والدواء الأميركية (FDA) التابعة لوزارة الصحة الأميركية، صادقت على مضاد حيوي جديد يُدعى "كيتيك"، وهو من تصنيع شركة أدوية تُدعى "سانوفي أفينتيس". وكانت إدارة الأغذية والدواء الأميركية قد فحصت وراجعت هذا الدواء ثلاث مرات، واعتمدت في مصادقتها له على دراسة أعدتها شركة "سانوفي أفينتيس" نفسها ودفعت فيها للأطباء 400 دولارًا لكل مريض يدخل الدراسة تحت مُسمى نفقات متعلقة بجمع المعلومات. ورغم أن متابعة إعتيادية لإدارة الأغذية والدواء الأميركية على الدراسة كشفت تزويرًا واضحًا في 4 من 10 من الأماكن التي فُحصت، ورغم أن التزوير في بعض الأحيان شمل نتائج كاملة مفبركة ومرضى غير موجودين على الإطلاق، صادق مراقبو إدارة الأغذية والدواء الأميركية على الدواء ثلاث مرات دون ذكر نتائج المتابعة، هذا فضلاً عن أن الدراسة لم تُثبت بشكل قاطع فائدة الدواء.
وفي حملاتها الإعلامية صرّحت شركة "سانوفي أفينتيس" أن تسويق دواء "كيتيك" كان الأكثر نجاحًا من بين كل المضادات الحيوية في التاريخ!
وبعد أن اكتشفت 53 حالة من تسمم الكبد خلال ثلاث سنوات من استعمال الدواء، بعضها كان مميتاً، وبعد رفض إدارة الأغذية والدواء الأميركية المتكرر لمراجعة الدواء ومخاطره، نزعت الإدارة المصادقة عن الدواء بعد تدخل الكونغرس الأميركي.
وهكذا فقد شاركت الحكومة الشركة غش الناس، وبيعهم دواءً لم تثبت نجاعته، وثبتت مخاطره مُسبقًا، وصدق من قال إن آثار الحضارة الرأسمالية خطرة على البشرية.


ولا تتورع شركات الأدوية عن اختلاق الكثير من الأمراض أو تضخيم مشكلات صحية بسيطة لبيع المزيد من الأدوية وتعزيز أرباحهم.
وهذا ما صرحت به المكتبة البريطانية للمعارف الطبية وكذلك باحثون في جامعة نيوكاسل في أستراليا، حيث قالوا في تقرير لهم إن "ترويج الأمراض هو توسيع حدود المرض وبالتالي زيادة نمو الأسواق بالنسبة لهؤلاء الذين يبيعون ويقدمون العلاجات". وأضاف الباحثون أن محاولات هذه الشركات تتجلى "بوضوح كبير في حملات التوعية بالأمراض التي تمولها العديد من شركات الأدوية. وهي تهدف في كثير من الأحيان إلى بيع الادوية أكثر منها إلى التوعية أو التعريف أو التثقيف بشأن أمراض أو الوقاية الصحية".


ومن الأمثلة الجديرة بالذكر هنا، الحالة المعروفة بآلام ما قبل الحيض، أو عسر الطمث، فعلى الرغم من أن جميع النساء، منذ حواء وعبر ملايين السنين، يتعرضن لتغيرات فسيولوجية طبيعية في الأيام السابقة مباشرة للدورة الشهرية، فإن شركات الأدوية اكتشفت خلال الآونة الأخيرة أنها حالة مرَضية، تتطلب التدخل من خلال قائمة طويلة من العقاقير والأدوية. وتتراوح أعراض هذه الحالة المرَضية -حسب رأي شركات الأدوية- ما بين التقلب المزاجي، والاكتئاب، والتوتر، والتهيُّج العصبي، والانتفاخ، والتقلصات، وهي الأعراض التي تصيب 75% من النساء، حسب رأي الشركات أيضاً.
وغني عن الذكر طبعاً، وبخلاف بعض النصائح العامة والبسيطة للتخلص من هذه الأعراض، إن شركات الأدوية تقوم حالياً بتسويق قائمة أدوية شديدة التأثير على الجهاز العصبي المركزي. وبما أن ثلاثاً من كل أربع نساء هن (مصابات) بهذه الحالة، نجد أن مبيعات هذه العقاقير تبلغ عشرات بل مئات الملايين من الدولارات سنوياً. هذا على الرغم من أن الدراسات منذ أكثر من سبعة عشر عاماً، وبالتحديد منذ عام 1989، قد أظهرت أن التغيرات الحادثة في مزاج النساء وحالتهن الصحية قبل الدورة الشهرية، لا تختلف كثيراً عن بقية أيام الشهر. والأدهى والأكثر وقعاً، أن العديد من الدراسات أظهرت أن النساء اللواتي تلقين أدوية وهمية، أو "بلاسيبو"، تحسنت لديهن الأعراض بنفس القدر لدى النساء اللواتي كن يتلقين عقاقير شديدة المفعول وكثيرة المخاطر والأعراض الجانبية أيضاً. ورغم كل هذه الدراسات، وما تظهره من وهمية هذه الحالة، نجد أن ماكينة التسويق لدى شركات الأدوية، قد نجحت في أن تجعل منظومة توتر ما قبل الحيض واقعاً طبياً واجتماعياً، ليس لدى العامة فقط، بل بين أفراد المجتمع الطبي أيضاً.


وهذا ما قامت به شركة "ميرك" أيضًا عندما أنتجت دواء الصلع "propcia"، فقد لوحظت حملة من قبل الصحف الرائدة تحدث الناس عن المشاكل النفسية الوخيمة التي تنتج عن سقوط الشعر!!! وكانت هذه الحملة من تنظيم شركة العلاقات العامة العالمية "إدلمان".
وضمن هذه الحملة كان هنالك دراسة جديدة وجدت أن ثلثي الرجال يعانون من إحدى درجات سقوط الشعر، ودعمت هذه الدراسة بتعليقات من بعض المتخصصين بهذا المجال، وخبر عن إنشاء معهد عالمي لدراسة الشعر، وأضافت الدراسة أن فقدان الشعر يؤدي إلى الاضطراب والهلع بجانب بعض المشاكل النفسية الأخرى؛ بل ويؤثر على السلامة العقلية والكفاءة في العمل!!!
ولكن لم يصرح المقال أن شركة "ميرك" هي التي قامت بعمل الدراسة وإنشاء المعهد، وأن الخبراء الذين علقوا على الدراسة في المقال جاءوا عن طريق شركة "إدلمان"، حتى لا تعلن شركة "ميرك" عن دوائها بشكل مباشر.
ولا تقتصر ظاهرة التوسيع على اختراع أمراض جديدة، بل تظهر أيضاً من خلال تضخيم أمراض بسيطة ومعروفة أو تهويل تأثير عوامل الخطر. فعلى سبيل المثال، عوامل الخطر، مثل هشاشة العظام وارتفاع الكوليسترول، تحولت هي الأخرى من مجرد عوامل خطر إلى أمراض، تعالج بعقاقير تباع بثمن يبلغ أحياناً مئة ضعف تكلفة إنتاجها. وأحيانا أخرى تلجأ شركات الأدوية إلى تكتيك آخر، من خلال دعمها مادياً لأبحاث مشبوهة، توسع من نطاق المرض وتزيد من عدد المرضى. فعلى سبيل المثال تم قبل فترة تخفيض الحد الذي يفترض أنه طبيعي لمستوى الكوليسترول في الدم، وهو معدل يستخدم في تحديد ما إذا كان الشخص مصاباً بارتفاع في الكوليسترول أم لا وهو ما يعني أن الأشخاص الذين يجب خضوعهم للعلاج بالعقاقير المخفضة للكوليسترول، قد تضاعف عددهم في طرفة عين ترافقاً مع هذا التخفيض، وتضاعف معهم أيضاً حجم مبيعات الشركات المصنعة لمثل تلك العقاقير. وهو ما يعني أن هذه التكتيكات والاستراتيجيات، لا تزيد فقط من عدد الأمراض، بل تزيد من عدد من يتم توصيفهم كمرضى، وهو بالتالي ما يزيد من مبيعات شركات الأدوية. وتجدر الإشارة هنا أن ستة من تسعة أعضاء اللجنة التي أصدرت القرار الجديد حول مستويات الكولسترول حصلوا على منح او استشارات مدفوعة من شركات الأدوية المخفضة للكولسترول. وقد خفضت اللجنة مستويات الكولسترول التي يجب الوصول إليها في الدم بواسطة الأدوية وبذلك ضخمت عدد "المرضى" الذين يجب على الطبيب "قانونياً" أن يصف لهم دواء الكولسترول. ولا حاجة للإشارة إلى أن أرباح شركات أدوية الكولسترول بلغت مستويات قياسية. ولن أبسط البحث أكثر لأبين أن لأدوية تخفيض الكولسترول أعراضًا جانبية غير بسيطة يمكن أن تؤذي من يتناولها لغير حاجة.
وفي النهاية، وبما أن العالم الثالث والفقراء لا يشكلون عند العالم الرأسمالي أكثر من سوق استهلاكية يرمون فيها بضاعتهم الفائضة، تُصدّر شركات الأدوية أحياناً شحنات من الدواء الفاسد لهؤلاء الناس، ولا تزال قضية الدم الملوث بالإيدز الذي أرسلته شركات الأدوية الفرنسية لمعالجة أطفال عراقيين مصابين بالهيموفيليا تراوح مكانها لحد الآن رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على هذه الجريمة. ولقي ما لا يقل عن 199 عراقياً حتفهم من أصل 238 أصيبوا بمرض الإيدز بعد حقنهم بدم ملوث اشترته حكومة النظام السابق من شركة فرنسية مطلع ثمانينات القرن الماضي، في حين ينتظر الباقون مصيرهم في ظل افتقاد العلاج اللازم وفقاً لتقارير هيئة الهلال الأحمر العراقي.


وقال رئيس الهيئة سعيد إسماعيل حقي لوكالة فرانس برس في بغداد: «أجرينا مفاوضات مع فرنسا للتوصل إلى تسوية أوضاع 238 شخصاً أصيبوا بالإيدز قضى منهم 199 حتى الآن بسبب الدم الملوث لكنها توقفت عام 2004 فالتعويض المعروض من قبل الفرنسيين كان مهيناً للضحايا لأنه لا يغطي حتى تكاليف العلاجات فضلاً عن الجانب الإنساني في القضية». وأضاف: «عرضت الشركات مبالغ تراوحت بين خمسة آلاف و25 ألف دولار، فهذا المبلغ لا يفي بتكاليف العلاج (...) خمسة آلاف دولار فقط فهل لأنه عراقي؟ هل هذا ما يساويه الإنسان؟ نحن الآن نطالب بـ238 مليون دولار أي مليون دولار لكل ضحية». وقال أيضًا: «ما فعلته الشركات لا يمكن السكوت عنه أو التساهل حياله. وجهنا نداءات إلى شركات الأدوية بواسطة الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر لنحصل على الدواء الثلاثي لمعالجة المصابين لكننا لم نتلقَ شيئاً». «على العالم المتحضر أن يطلع على معاناة المصابين وعائلاتهم وخصوصاً فرنسا. فهل هذه هي الحضارة الغربية؟».
وقد رُفعت دعوى قضائية ضد شركات أفنتيس وسانوفي وباكستر عبر سفارات العراق في باريس وواشنطن، لكن دون جدوى.


وكانت وكالة الأدوية الأميركية قد حذرت في حينه من أن الدم ملوث ورغم ذلك سلمته شركة ماريو الفرنسية إلى العراق وليبيا وتونس والجزائر.
إن هذا كله ما هو إلا ناتج طبيعي لوجهة النظر الرأسمالية عن الحياة. فالمادية والنفعية مقياسها، ومعالجات وتشريعات الملكية الفكرية نتاجها. ووجهة النظر هذه لا تُغَلِّب القيم المادية فحسب بل تُسَخِّر القيم الأخرى لتحقيق القيم المادية. كل ذلك بسبب الأساس الفاسد الذي انبثقت عنه هذه المعالجات الفاسدة التي أغرقت أصحابها والعالم أجمع بالشر والظلم باسم حماية الحقوق والمبتكرات.

[يتبع]



أبو الغيث - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

القدس بين تاريخين



بسم الله الرحمن الرحيم

إن الكثير من الكتاب والمؤلفين والمحاضرين والمفكرين المعاصرين ، يتناولون القدس من جانبها المادي والواقعي ، دون أن يربطوها بجانبها الروحي الذي قرر لها مكانتها وقدسيتها . وهم بذلك إنما ينهجون نهج المفكرين الغربيين ، وينطلقون من وجهة نظرهم عن الحياة ، وهي عقيدة فصل الدين عن الحياة .

يتناولون القدس تاريخيا من البدايات الأولى عبر حقب متناهية في القدم ، مرورا بمسيرة الأقوام والشعوب والدول التي تعاقبت على تواجدها في القدس ، ابتداء باليبوسيين حيث كانوا هم البناة الأول لهذه المدينة ، وكانت تسمى (يبوس) نسبة لهم ، وذلك قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد .

ويقتضينا البحث أن نأتي إلى نبذة تسلسل تاريخية مختصرة توضيحا لتبيين الحقائق ، وتثبيت الثوابت ، وإزالة الغموض .

لقد استنجد أحد رجال السلطة اليبوسيين بالفرعوني تحتمس الأول سنة 1550 قبل الميلاد ، فدخلها الفراعنة آنذاك .

وفي زمن رعمسيس الثاني وابنه مرن بتاح سنة 1350 قبل الميلاد ، دخل اليهود فلسطين من جانبها الجنوبي ، حيث انفلق أمامهم البحر بقيادة سيدنا موسى عليه السلام ، ولكنهم تاهوا في الصحراء حيث إنهم رفضوا الدخول كما أمرهم ، وتذرعوا بأن فيها قوما جبارين . فتاهوا في صحراء سينا مدة أربعين سنة . وبعد انقضاء مدة التيه هذه ذهبوا إلى جبال آدوم ومؤاب في شرقي الأردن ، ثم دخلوا أريحا وأحرقوها ، ثم احتلوا الجلجال وشيلوه وشكيم ، وكلها جعلوها طعمة للنيران . كل ذلك من هذه الأقوال يعتمد المؤرخون في توثيقه على أسفار التوراة وبعض النقوش والكتابات الحجرية .

ثم بعد ذلك جاء الأشوريون على ما كان يسمى مملكة إسرائيل وتغلبوا عليهم زمن سخاريب الأشوري .

وبعد مضي فترة من الزمن دب الضعف في صفوف الأشوريين فجاء البابليون واحتلوا فلسطين ، وأخذوا القدس ، ثم نفاهم نبوخذ نصر إلى بابل واستعبدهم هناك وانقرضت مملكة يهوذا سنة 586 قبل الميلاد .

وأما الحقبة التي تلي ذلك فهي مجيء الفرس ، وتغلب كورش الكبير الفارسي على البابليين سنة 538 قبل الميلاد ، وظلت تدفع الضرائب إلى الفرس ؛ بعدها جاء الإسكندر المقدوني اليوناني سنة 332 قبل الميلاد ، أخذها من الفرس ، وكان ملك الفرس يومئذ (دارا) .

أما في عهد الرومان : فقد هاجمها القائد الروماني (بومبي) سنة 603 قبل الميلاد واحتلها . وفي زمن خليفته هيرودس وُلد السيد المسيح عليه السلام . ثم جاء بيلاطس (يوينتوس) وكان واليا على إدارة القدس على عهد الرومان ، وفي زمنه قام بمطاردة السيد المسيح وادعوا صلبه . وكذبهم القرآن الكريم في دعواهم هذه ، حيث رفعه الله إليه ، ونجاه من كيدهم .

أما في العهد البيزنطي : فعندما تبوأ العرش الإمبراطور هرقل سنة 610 – 640م زحفت جيوش كسرى ملك الفرس غربا وبعد استيلائها على سوريا ، زحفت إلى فلسطين ، وفي سنة 614م احتلت القدس ، وذبحت (90) ألفا من المسيحيين . ولكن هرقل عاد واستجمع قواه وانتصر على الفرس سنة 627 للميلاد ، ودخل هرقل مدينة القدس سنة 629م .

وفي هذه الفترة ظهر الإسلام . ووصل كتاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان في مدينة حمص آنذاك .

وإلى هنا انقضى تاريخ وجاء تاريخ :
أما التاريخ في حقبه الأولى ، وحتى مجيء الإسلام ، فإنه يعتمد على مصادر غير موثقة ، واستنتاجات عن أساطير كما يعتمد المؤرخون في توثيق الكثير من هذه الحقب على أسفار التوراة . ولكن لا ننسى أن أسفار التوراة ذاتها تحتاج إلى توثيق . لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنهم حرفوها وزادوا عليها وحذفوا منها ، ما يجعل منها مصدرا غير موثق .

يأتي المؤرخون على سرد هذه المسيرة التاريخية ليثبتوا أن العرب كانوا سابقين إلى تواجدهم في القدس وفي فلسطين بفترة طويلة . حيث إن اليبوسيين هم كنعانيون ، وهم من أصل سامي أي ساميون .

والعرب هم شعب من الشعوب المتعددة التي اعتنقت الإسلام ، وانصهروا في بوتقة العقيدة الإسلامية ، لتتكون منهم ومن غيرهم الأمة الإسلامية . وتعريف الأمة : هي مجموعة من الناس تعتنق عقيدة واحدة ينبثق عنها نظام يعالج شؤون الحياة . وهذا التعريف لا ينطبق على الشعب العربي ، لأنهم لا يملكون عقيدة خاصة بهم . فالعرب قوم ، والقومية ليست بعقيدة ، وإنما هي أحاسيس وعواطف تتحرك فطريا ، فلا تعطي فكرا ولا ينبثق عنها نظام .

أما توثيق التاريخ ، وما هو التاريخ الذي يعتد به ، وما هو التاريخ الذي يرد ولا يعتمد ، أي لا يكون محل ثقة فإن هذا يعتمد على المصادر التاريخية التي يمكن أن تتخذ مصدرا للتاريخ .

للتاريخ ثلاثة مصادر هي : الآثار ، والكتابات الشخصية أو ما يسمى المذكرات الشخصية ، والرواية .

أما المصدر الأول وهو الآثار – وهذا هو المرجع اليوم لكل الكتابات التي كتبت عن العصور السالفة أي ما قبل الإسلام – فإن الآثار في حد ذاتها إنما تعطي فكرة مجزوءة عن حقبة محددة ، وأكثر ما يظهر فيها هو إبراز الناحية الوثنية ، أو ملامح عن بعض المعتقدات المحرفة . فهذا المصدر التاريخي لا يكون موثقا في دلالته ، ودلالته تكون استنتاجية وحسب ميل المؤرخ الذي اعتمد عليها .

وما نراه اليوم من هجمة فيها المغالاة إلى حد بعيد على التنقيب عن الآثار وإبرازها ، ووضع التفسيرات التي يريدونها لها سواء في الأردن أو سوريا أو العراق أو مصر أو اليمن ، أي في بلاد المسلمين بالذات . فهنا تكتشف آثار كنيسة أو دير ، وهناك تكتشف بعض الرسوم أو الكتابات على أوراق البرديّ أو النقوشات التي لها علاقة بمعتقد من المعتقدات المحرفة أو المعتقدات البائدة التي لم يبق لها وجود إلا في الآثار فقط كالفرعونية . فإنها وإن كان يظهر أن المراد من إبرازها هو من أجل السياحة أو بعض الدراسات العلمية ؛ ولكن الحقيقة التي لا بد من تأكيدها أن المراد من ذلك كله هو إبراز الناحية الوثنية ، وبالأخص ما له علاقة بالعقيدتين اليهودية والنصرانية . وهذا كله يشير إلى أن هناك خلفيات سياسية مقصودة ، لا محل لذكرها الآن .

أما المصدر الثاني للتاريخ وهو الكتابات الشخصية والمذكرات الشخصية ؛ فإنها في غالب الأمر تكون خاضعة لسنة المدح أو القدح . فلا يخلو الكاتب من أن يكون إما مادحا وإما قادحا . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : فإن الكاتب ينتابه الغلو في تفسيره لبعض الأحداث السياسية ، والمعارك القتالية ، فيفرغ ما وسعه من جهد لتزيين الأمر أو تقبيحه ، ومن رفع مقام الأشخاص الذين يكتب عنهم ، أو يحط من شأنهم . وقد تجلى هذا عند الكتابة عن الدولة العثمانية ، وحكم الأتراك (أي دولة الخلافة) فإنهم يبرزونها في أبشع صورها من الظلم والفساد والتأخر . كما ظهر تزويرهم للتاريخ في كتابتهم عن جمال باشا ووصفه بالسفاح ، لماذا ؟ لأنه أعدم من أسموهم بالأحرار العرب . وذلك لأنهم أغمضوا بصائرهم عن السبب الذي دعا جمال باشا لإعدامهم . وقد سموهم أحرارا لأنهم ناهضوا دولة الخلافة ، ودعوا إلى اللامركزية وإلى الاستقلال أي الانفصال عن جسم الدولة ، لأنها تركية وهم عرب . أي كانت هذه النظرة من زاوية قومية والدعوة إلى القومية محرمة في الإسلام . فهم بذلك خالفوا أحكاما شرعية كثيرة . كما تغاضى المؤرخون عن السبب المباشر الذي حمل جمال باشا على إعدامهم وهو اتصالهم بالدولتين البريطانية والفرنسية للمجيء لإنقاذ العرب من ظلم الأتراك (كما يقولون) أي كانوا يدعون إلى مجيء حملات صليبية جديدة . وقد اكتشفت أسماؤهم في القنصلية الفرنسية في بيروت ، وتواقيعهم على العرائض التي يطلبون فيها المجيء من بريطانيا وفرنسا . وهذا أمر موثق لا مرية فيه .

ويظهر ذلك واضحا أيضا عند كتاب القصة ، حيث يطلقون لمخيلاتهم العنان في الوصف والربط والبناء والصياغة والسبك .

وبهذا الصدد فإنني أتوجه بكلمة فيها لفتة إلى كتاب القصة والرواية أنهم وإن كانوا يبدعون في ذلك : فإن الأمة الآن في حاجة ماسة إلى العمل للنهضة والتغيير ، ولا يكون هذا إلا بالعمل الفكري الجاد الذي يتناول واقع الأمة الإسلامية ، وطراز العيش الذي تعيشه اليوم والتبعية المطلقة التي تقوم عليها اليوم من حيث هي جماعات أو أنظمة وحتى الأفراد . تبعية تظهر في كل أمورها وشؤونها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وأنظمة الحكم القائمة فيها على صعيد أكثر من خمسين كيانا .

فالأمة الإسلامية اليوم ، لم تتسلم من الجيل السابق أفكارا تتعلق بالنهضة لتقيلها من كبوتها ، وتعيدها إلى مصاف الدول التي تمتلك الإرادة في إصدار القرارات الذاتية . ولا تتمتع بالسيادة التي تخولها تنفيذ القرارات السياسية . كما أنها لم تنتج هي الآن أفكارا من ذلك النوع الذي يتعلق بنهضتها وسيادتها ؛ وإنما هي تعيش عالة وتندفع تقليدا للغرب سواء في ثقافته عامة أو في معالجته لشؤون حياته أفرادا وجماعات . والمحصلة النهائية أنها لا تمتلك طريقة تفكير منتجة يشع تأثيرها ، ويتسع مداها حتى تدخل كل بيت ، وتطال كل شرائح المجتمع ، ويتركز وجودها في الأجهزة التنفيذية ..

فصحة الفكر من صحة مصدره ، وصدق التشريع من صدق مشرعه . لا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر عنه التشريع ، ولا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر له التشريع ، حتى يتم التساوق بين حكمة المشرع وفطرة المشرع له .

ووجهة النظر في الحياة وما ينبثق عنها من تشريعات ومفاهيم وما ينبني عليها من أفكار هي التي تشكل لون المجتمع ، وطراز العيش ، ونوعية النظام ، ووجهة النظر في الحياة هي التي تفسر معنى السعادة ، وتصور الحياة الدنيا على حقيقتها وهذه كلها في مجموعها هي الحضارة .

فلا بد أن ننفض عنا غبار التقليد للغرب ، ونريح عن كواهلنا نير التبعية التي نتلذذ بها . وأن ننبذ كل ما له علاقة بوجهة النظر الغربية ، وهي فصل الدين عن الحياة ، ونعود إلى النبع الصافي الذي ينبثق عنه وجهة النظر الصحيحة عن الحياة وهي العقيدة الإسلامية .

هذا ما أردت أن ألفت نظر الكتاب والمفكرين اليوم إليه .
هذه الناحية جديرة بالاهتمام والاهتمام بها والعمل لها فرض على كل مسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) .

وأما المصدر الثالث للتاريخ فهو : الرواية . وعلى هذا قام تاريخ الأمة الإسلامية … ابتداء بنقل اللغة العربية وتدوينها رواية يتحرى فيها الدقة في صياغة النص المروي وهو ما يسمى المتن ، كما يتحرى فيها أمور الرواة وحياتهم وصدقهم كما هو معروف في علم الجرح والتعديل . وكان هذا واضحا تمام الوضوح في رواية السنة المشرفة وتدوينها . وسار على هذا النهج كثير من المؤرخين الكبار مثل : الطبري وابن كثير وابن الأثير والذهبي والبغدادي وابن عساكر .

جاء الإسلام رسالة من عند الله لينسخ ما سبقه من عقائد وأفكار وتشريعات
1- يبدأ تاريخ القدس أولا من حيث قدسيتها ، فقد أثبت القرآن قدسية القدس أي ربطها بالعقيدة من حين نزول قوله تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" هذا قبل أن يظهر أن هناك مسجدا ثالثا وهو مسجد المدينة المنورة ، مسجد هجرته صلى الله عليه وسلم . وزاده الله قدسية أن بارك حوله ، فكان موضع الإسراء المذكور في الآية الكريمة ، وكان هو منطلق العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء .

وجرت الأمور على طبيعتها ، واستقر الأمر لرسول الله في الجزيرة بأسرها ، وسارت الفتوحات سيرها الطبيعي ، وتسلم عمر بن الخطاب رضي الله مفاتيح القدس من البطريرك صفرونيوس في حين كانت محاصرة بالجيوش بقيادة أبي عبيدة رضي الله عنه سنة 15 للهجرة سنة 636 للميلاد . ومن قدسية القدس أنها ظلت ستة عشر شهرا قبلة للمسلمين في صلاتهم حتى تحولت القبلة إلى الكعبة .

رب سائل أو معترض يقول : إن قدسية القدس قديمة قبل مجيء الإسلام بقرون … ودليل ذلك قول الله تعالى : "وإذ قال موسى لقومه … يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين"

نقول : إن الله أثبت هذا ثم نسخه ، ينسخه لجميع الشرائع السابقة ، فاليهود والنصارى مأمورون ومخاطبون باعتناق الإسلام .

2- الأمر الثاني من تاريخ القدس :
طبيعة الأمر الذي استقر عليه وضع القدس عندما تسلم مفاتيحها عمر رضي الله عنه ، أن أعطاهم وثيقة استقر عليها وضع القدس من حيث الأمان ، وصيانة معابدهم وأن أخذ عليهم عهدا أن لا يساكنهم فيها أحد من يهود ، على أن يدفعوا الجزية ومارس النصارى فيها حياتهم اليومية على هذا الوضع المنصوص عليه في العهد العمرية ، بهدوء وأمان واطمئنان ، وهذه العهدة موجودة حتى الآن يحتفظ بها البطاركة عندهم إلى يومنا هذا .

ومنذ تلك الساعات أصبحت القدس أرضا إسلامية جرت عليها أحكام الإسلام وخضعت لسلطان الإسلام ، وأمانها بأمان المسلمين ، وسكانها يحملون التابعية الإسلامية وغدت دار إسلام ، ينافح دونها . وحمايتها والدفاع عنها واسترجاعها فيما لو طرأ عيها عارض أو تغلب عليها مغتصب إنما يكون فرضا على جميع المسلمين ، وإلى يوم الدين .

3- قلنا إن ما قبل نزول آية : "سبحان الذي أسرى بعبده …" ومن قبل تسلم عمر مفاتيحها ، ما قبل هذا التاريخ لا يؤبه له ، ولا قيمة له عمليا ، سواء كانت مكانا للهيكل الذي يزعم اليهود ، أو مكانا للنصارى بوجود كنيسة القيامة ، أو ما أسموه القبر المقدس كنيسة نصف الدنيا . كل هذا أصبح الآن منسوخا لا اعتبار له ، ولا قيمة له ، وليس لهم إلا ما أعطاهم الإسلام من ممارسة عباداتهم وطقوسهم الدينية ، ولهم الأمان ما حافظوا على العهود والمواثيق ، لأن صاحب الحق في الإثبات والنسخ وهو الله تعالى قد نسخ كل ما مضى من تاريخ وما تعلق به من حقوق قد نسخها كلها وأثبت الحقائق التي ابتدأت من حين نزول الآية المذكورة زمنا وعملا . فأحكام أهل الذمة ، وأحكام الجزية ، وأحكام حقوق المعاهدين والمستأمنين ، كلها منصوص عليها بنصوص قطعية ، وطبقت عمليا من قبل الخلفاء والولاة والعمال والقضاة . مع التمكين التام للنصارى من مزاولة شعائرهم الدينية واحترام حقوقهم ، ورعاية شؤونهم ، والنظر في مظالمهم كالمسلمين سواء بسواء مع المحافظة وعدم العبث أو التعدي على أماكنهم الدينية .


4- فترة ما قبل الحروب الصليبية :
من طبيعة الأنظمة والقوانين التي تطبق وتنفذ على بني البشر ، يكون التطبيق لها وتنفيذها من قبل بشر أيضا ، فيخطئون ويصيبون ، وتمر فترات فيها إساءة في التطبيق ، وهذا تابع لاستقرار الفكر ونموه وازدهاره ، فإن كان القائمون على أمر الرعاية والتنفيذ لديهم الوعي والتقوى والإخلاص ، ووضوح الرؤية والرقي الفكري ، مع وجود الفكرة وطريقتها واضحة ومستقرة في المجتمع ، يكون هناك إحسان في التطبيق . والعكس بالعكس .

لقد مرت فترات كان الصراع الداخلي فيها محتدما بين كثير من الفئات والجماعات المتعددة هنا وهناك مما أوجد التفسخ والاضطراب في المجتمع الإسلامي ، أي كان وقتئذ إساءة في التطبيق ورعاية الشؤون .

5- فترة الحروب الصليبية ومجيء صلاح الدين :
تلك فترة عصيبة ، وأحداثها دامية ، لأنها خرجت في مجرياتها عن طور الإنسانية ، سواء من حيث دوافعها أو الحيز الذي أشغلته تاريخيا ، أو الظاهرة الوحشية والإجرامية التي جرت ممارستها من قبل الغزاة الغاشمين الحاقدين .

بعد مقاومة عنيفة استمرت أشهر من قبل حامية القدس دخلها الإفرنج ، وأفرغوا سموم حقدهم وغيظهم ، فأبادوا كل من كان فيها من المسلمين قتلا وذبحا وتقطيعا وحرقا بالنيران ، وقد جمعوا من كان فيها من اليهود ووضعوهم في كنيس وأضرموا فيهم النيران .

وجاء صلاح الدين ، ودخل القدس من الثغرة التي دخل منها غودفري . ولكنه لم يعمل السيف فيهم ، وإنما أخرجهم منها عن بكرة أبيهم ، دون أن تمس امرأة أو طفل أو شيخ بأذى . وساعد على الخروج من لم تمكنه أحواله .

والمؤرخون النصارى والمسلمون جميعا ينددون بالغزو الصليبي ويصفونه بأنه نشاز في تاريخ الإنسانية ، كما يثنون على صلاح الدين وإنسانيته ، ورعايته للمغلوبين .

6- أما فترة الحكم العثماني أو ما يسمونه الحكم التركي ، فإن سليم الأول دخل هذه البلاد سنة 1517 ، ودخل مصر وبويع بالخلافة كما دخل المدينة المقدسة .

إن المنشآت المقامة والماثلة الآن ، والأسوار والعمارات معظمها من فعل العثمانيين ، فكان اهتمامهم زائدا بها وفي هذا رد على من يتهمون العثمانيين الأتراك بأنهم غزاة محتلون . والحقيقة أن الخلافة العثمانية حمت بيضة الإسلام مدة أربعة قرون كاملة من سنة 1517 – سنة 1917 كما لا ننسى الفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوربا لنشر الإسلام ، حتى طرقوا أبواب فينا ، واقتربوا من روما . وهذه منطقة البلقان تعج بالمسلمين الذين يضطهدهم الآن نصارى أوربا ، وأحداث البوسنة والهرسك وكوسوفا شاهدة على ذلك .

في سنة 1882 أصدرت الحكومة التركية قانونا حرمت فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وشراء الأراضي . إلا أنها عادت فعدلته لتدخل ستراوس الوزير الأمريكي المفوض في استامبول ، ومنحت اليهود حق الدخول إلى فلسطين والبقاء فيها ثلاثة أشهر بقصد العبادة ، ثم بعد ذلك عدلت هذا القانون وحددت الإقامة بشهر واحد ، ومن تأخر يلاحق ويبحث عنه حتى يخرج .

ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 راح الأتراك يطاردون الصهيونيين . وأصدر جمال باشا بوصفه القائد للجيش الرابع المرابط في فلسطين أمرا منع فيه رفع العلم الصهيوني في أي أرض تقع تحت حكمه ، كما منع أي لافتة تكتب باللغة العبرية ، وصادر جميع الطوابع والأوراق المالية التي تخص الحركة الصهيونية ، وألغى جميع المؤسسات اليهودية التي تكونت في فلسطين ، بعد أن دخلتها خفية . وجاء في البيان الذي صدر يومئذ 25 كانون الثاني سنة 1915 أن الحكومة فعلت ذلك بناء على ما لديها من معلومات تثبت أن بعض العناصر تتآمر باسم الصهيونية لإقامة مملكة يهودية في فلسطين .

ومن مواقف السلطان عبد الحميد :
يقول : إن الصهيونية لا تريد أراض زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب . ولكنها تريد أن تقيم حكومة ، ويصبح لها ممثلون في الخارج . إنني أعلم أطماعهم جيدا ، وإنني أعارض هذه السفالة ، لأنهم يظنونني أنني لا أعرف نواياهم أو سأقبل بمحاولاتهم . وليعلموا أن كل فرد في إمبراطوريتنا كم يكن لليهود من الكراهية طالما هذه نواياهم . وإن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة . وإنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين ، لأنني لا زلت أكبر أعدائهم .

ويقول الخليفة عبد الحميد رحمه الله في كتابه للشيخ أبي الشامات يبين له فيه سبب خلعه فيقول :
… بعد هذه المقدمة .. أعرض هذه المسألة المهمة كأمانة في ذمة التاريخ : إنني لم أتخلّ عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى إنني – بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديداتهم ، اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة ، الإسلامية ؛ إن هؤلاء الاتحاديين أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين . ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف …

ويقول هرتسل : بعث إلي السلطان وساما عالي الدرجة ، ومع الوسام جواب مفرغ في هذه العبارات :
(بلغوا الدكتور هرتسل ألاّ يبذل بعد اليوم شيئا من المحاولة في هذا الأمر ، فإني لست مستعدا أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير . فالبلاد ليست ملكي ، بل هي ملك شعبي ، وشعبي روّى تربتها بدمائه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب) .

7- القدس والاحتلال البريطاني :
وجاء اليوم الذي عمل له من كانوا يسمون أحرار العرب بمناشدتهم لبريطانيا ، والتعاون معها للحضور سريعا لنجدتهم وتخليصهم مما يسمى ظلم الأتراك .

وبدون متابعة ولا مقدمة أن تمهيد ، دخل اللورد اللبني القدس في 11/12/1917 ؛ دخلها ماشيا من باب الخليل ، وأعلن الأحكام العرفية ؛ وكان رئيس بلدية القدس هو موسى كاظم باشا الحسيني ، دخل اللبني الحرم ومعه كامل أفندي الحسيني مفتي فلسطين أخو الحاج أمين الحسيني . وعند دخول اللبني القدس ، أقيمت له منصة ووقف خطيبا وقال قولته المشهورة … (الآن فقط انتهت حلقة الحروب الصليبية) .

وكانت بريطانيا قبل هذا التاريخ قد أعطت اليهود وعدا بإعطائهم فلسطين وطنا قوميا لهم ، وهو وعد بلفور .

لقد أعلن الحسين بن علي ثورته على الأتراك بتاريخ 10/حزيران سنة 1916م هذه الثورة التي قال عنها اللبني في تقريره الذي رفعه إلى وزارة الحرب فور انتهاء القتال : (إن ثورة العرب ضد الترك قد ساعدت الحلفاء مساعدة كبيرة في الحصول على نتائج فاصلة في الحرب) .

عندما وقعت اتفاقية (سايكس – بيكو) بين فرنسا وبريطانيا وتم تنفيذها ، واقتسام منطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام بينهما ، كانت فلسطين مستثناة ، إذ جعل لها وضع خاص لتكون فيما بعد وطنا لليهود ، وجعلت بريطانيا من نفسها منتدبة على فلسطين لمدة خمسة وعشرين عاما من قبل عصبة الأمم ، من أجل تهيئتها وطنا لليهود ، أي لتنفيذ وعد بلفور ، فعينت عليها أول مندوب سام ، وهو هربرت صمويل يهودي صهيوني متعصب من سنة 1920 – سنة 1925 .

بريطانيا هي رأس الأفعى ، وهي أم الخبائث ، وهي جالبة المصائب والكوارث للمسلمين جميعا ، وهي التي مزقت الأمة الإسلامية إلى أكثر من خمسين مزقة . بريطانيا هي التي تضع العراقيل للحيلولة دون عودة الخلافة . بريطانيا هي التي دفعت الدول الموقعة على اتفاقية الهدنة في رودس لتوقيعها . بريطانيا هي التي حاكت مؤامرة حرب حزيران سنة 1967 وتسليم الضفة الغربية لإسرائيل .

بريطانيا هي التي وضعت قانونا يسمى (قانون الحكر) سمحت بموجبه باستئجار أراضي الوقف الإسلامي لمدة (99) سنة ، والمباني التي يمتلكها الكثير من اليهود والنصارى أخذت أراضيها وأقيمت بموجب هذا القانون .

بريطانيا هي التي سهلت هجرة اليهود إلى فلسطين ، وهي التي سمحت وساعدت وعملت على بيع الأراضي لليهود .

بريطانيا هي التي طرحت بالقضية الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة ، وتولتها معها أمريكا ليصدر قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 ثم يعلن قيام دولة لليهود سنة 1948 . وعندئذ غدت القضية تبحث دوليا .

بريطانيا هي التي أبقت ما لديها من دبابات وسلاح لليهود عندما أنهت انتدابها وخرجت من فلسطين .

بريطانيا (الصديقة) هي التي أسلمت الأمور لصنائعها وعملائها مطمئنة ليكملوا المسيرة التي يسمونها مسيرة السلام .

ولكن لما كانت أمريكا تريد أن تخرج بريطانيا من مستعمراتها لتحل محلها ، أصبحت الآن تعمل جاهدة لتكون منطقة العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) منطقة نفوذ خالصة لها ، وأدخلت قضية فلسطين داخل هذه الدائرة ، فهي تتطلع إلى الاستئثار بمنابع البترول ، كما تريد أن تستأثر بالمكاسب التي تنتج عن حل قضية فلسطين بإقامة قاعدة عسكرية لها في الجولان وغير ذلك .

وهذه الأحداث الدامية تتتابع متسارعة لنكون نحن المسلمين وقودا لها .

قضية فلسطين الآن قضية سياسية ، وهي بين طرفين :
- الطرف الأول : هم المسلمون جميعا .
- الطرف الثاني : النصارى ومعهم اليهود أو اليهود ومعهم النصارى

فهي إذا قضية المسلمين ؛ والمسلمون اليوم لا دولة لهم تمثلهم واليهود جراء المؤامرات الخيانية أصبحوا لهم دولة قوية .

فعلى المسلمين وجوبا أن يعملوا على إقامة دولة لهم لتطبيق شرع الله ، ورفع راية الجهاد ، واسترجاع فلسطين ، ولن تكون هذه إلا دولة الخلافة الراشدة ، ولتكون عاصمتها القدس كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( … ثم تأوي الخلافة إلى القدس ، ويكون ثم عقر دارها ، ولن يخرجها منها أحد بعد ذلك أبدا .

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .

فتحي محمد سليم



الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

المــــــــــــوت

يُذكّرُني طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْراً


وَأَذْكُرُهُ لِكُلِّ غُروبِ شَمْسِ
فَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلي


عَلَىَ إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكِينَ مِثْلَ أخِي وَلَكِنْ


أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسّي
فَقَدْ وَدَّعْتُ يَوْمَ فَرَاقِ صَخْرٍ


َبِي حَسَّانَ لَذَّاتِي وَأُنْسِي
فَيَا لَهْفِي عَلَيْهِ وَلَهْفِ أُمِّي


أيُصْبِحُ فِي الضَّرِيحِ وَفِيهِ يُمْسِي

بهذهِ الأبياتِ وَبأمثالِها رَثتِ الخَنْساءُ أخَاها صَخْراً، وَبكتْه حَتَّى فقدَتْ عَينَيْها مِن شِدّةِ البُكاءِ، جزِعَتْ، وَيئِستْ، وَتمنّت الْمَوْتَ، هَكَذَا رأت الخنساءُ الْمَوْتَ وَهَكَذَا تعامَلَتْ مَعَهُ.
وفي معركةِ القادسيةِ، وَفي مَوْقِفٍ مَهيبٍ، موقفُ القِتالِ وَالْمَوْتِ، وَقفتِ الخنساءُ وَقفةً عظيمةً مَعَ أبنائِها الأربعةِ وَقَالَتْ لَهُم: (إنَّكُم أسْلَمتم فلم تُبَدِّلوُاْ وَهاجرتم فلم تَثوُبوُاْ، ثمّ جئتُم بأمِّكم عجوزاً كبيرةً فوضعتموها بيَن يَديْ أهلِ فارسَ، إنكم لَبَنُو رجلٍ وَاحدٍ، كما أنكم بَنو امرأةٍ وَاحدَةٍ، مَا خنتُ أباكم، وَلا فَضَحْتُ خَالَكم، انطَلِقوُاْ فاشْهَدوُاْ أوّلَ القِتالِ وَآخرَهُ) وَاستشهدَ أبناؤهَا الأرْبعةُ فلمَّا بَلغَها ذَلِكَ قَالَت قولتها المشهورة: (الحمْدُ للـه الَّذِي شرَّفَنِي بقتلِهم، وَإنِّي أسألُه تعالى أن يجمعَني بهم فِي مُستقرِّ رحمتِهِ).

ما الَّذِي غَيَّرَ نظرةَ الخنساءِِ إِلَى الْمَوْتِ مِن الجاهليةِ إِلَى الإسلامِ؟ أفبعدَ فَقْدِ العينيِن لبُكاءِ الأخِ كانَ الفخرُ بموتِ الأبناءِ، وَبعدَ الجزعِ مِن الْمَوْتِ، كانَ التمَنِّي بِلِقائِهِمْ فِي الجنَّةِ، أيُّ انقلابٍ هذَا فِي الفكْرِ وَالنفسِ، وَأيُّ تغيرٍ هذَا الَّذِي يحوّلُ الإنسانَ مِن حياةٍ إِلَى حياةٍ، وَمِن تَصَوُّرٍ إِلَى تَصَوُّرٍ.

إنّه الإسلامُ بعقيدتِهِ التي جعلتْ الْمَوْتَ عندَ المسلمِ هوَ لقاءُ اللـه المنتظرُ ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللـه عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً)) وَمِنهم مَن يَنتظرُ، وَمِنهم مَن صدقَ مَا عَاهدَ اللـه عَلَيْهِ أيضاً، وَلكنَّه لَمْ يقضِ نحبَهُ بعدُ، فهُوَ يَنتظِرُ.
ومِنهم مَن يَنتظِرُ، نعم! يَنتظِرُ وَكأنّه يعيشُ فِي هذِهِِ الدُّنْيَا وَيُصَبِّرُ نفسَهُ عليهَا مُنتظراً أَجَلَه، لِيلحقَ بصحبِه ويلقى وجْهَ ربّه، وَلِم لا يَنتظِرُ وَهوَ الَّذِي صدَقَ معَ اللـه فِي عهْدِهِ، وَأقرّ اللـه لَهُ ولأمثالِهِ أنَّهم لَم يُبدِّلوُاْ تبديلاً، فهمُ الذينَ ظلُّوُاْ على العهدِ معَ اللـه لَم يُبدِّلوُاْ ولَم يُغيِّروُاْ، فمِنهم مَن رَحلَ قاضِياً أجلَهُ فِي الدُّنْيَا، ومِنهم مَن يَنتظرُ دُنوَّ الأجَلِ وقَد استعدَّ لهُ وتهيَّأَ.

ولا ينتظرُ لقاءَ اللـه مَن لَمْ يستعدّ لِهَذَا اللقاءِ ويتجهزْ لَهُ ((قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الّذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمّ تُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) فالذِي يفرُّ مِن الْمَوْتِ إمَّا أنّه لا يؤمنُ بلقاءِ اللـه، ويريدُ أنْ يتمتعَ فِي الدُّنْيَا بأكبرِ قسطٍ ممكنٍ وبأطولِ زمنٍ يقدرُ عليهِ، قَالَ تعالى: ((حتّى إِذَا جَاءَ أحَدَهُم الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ، كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلى يِوْمِ يُبْعَثُونَ. فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيِنُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِيِنُهُ فَأُوْلَئِكَ الذينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)).

وإمَّا أنّهُ مؤمنٌ ضَعُفَ تذكُّرُ اللـه واليومِ الآخرِ عِندَهُ، فهُوَ غافلٌ عَنْ آخرتِهِ، مُنْشَغِلٌ بِدُنْياهُ، فَإِذا جَاءَهُ الْمَوْتُ نَدِمَ وتَحَسَّرَ ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِيِنَ يَعْمَلُونَ السَيَئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنَي تُبْتُ الآنَ، وَلاَ الذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيمَاً)). يُروَى أنّهُ لمّا حَضَرَتْ عَبْدَ المَلِكِ بنَ مَرْوَانَ الوفاةُ نظرَ إِلَى غسَّالٍ بجانبِ دمشقَ يلْوي ثوباً بيدِه ثمّ يَضربُ بهِ المغسَلَةَ، فقَالَ عبدُ الملكِ: لَيتَنِي كنتُ غسَّالاً آكلُ مِن كَسبِ يدِي يوماً بيَومٍ، ولَمْ آلِ مِن أمرِ الدُّنْيَا شيئاً، فبلغ ذَلِكَ أبَا حازم فقَالَ: الحمدُ للـه الَّذِي جعلَهُم إذَا حَضَرَهُمُ الْمَوْتُ يتمَنَّوْنَ مَا نحنُ فيهِ، وإِذَا حَضَرَنَا الْمَوْتُ لَمْ نتمنّ مَا همْ فيهِ.

أيَّهَا الأُخْوَةُ الكِرَامُ:
إنَّ الإيمانَ بأنَّ سببَ الْمَوْتِ هُوَ انتهاءُ الأجلِ لَهُ لازِمَةٌ يجبُ ألاّ تنفصِلَ عنهُ، وهيَ ترقّبُ الْمَوْتِ فِي كلِّ لحظةٍ وفي كلِّ حينٍٍ، وما يَتبعُ هذَا الترقبَ مِن استعدادٍ وتهيُّؤٍ، يتناسقُ مَعَ الإيمانِ بالآخرةِ التي يُفتحُ البابُ لها بالْمَوْتِ، حيثُ لا عملَ ولا جهادَ ولا حملَ دعوةٍ، قَالَ رَسولُ اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم لعبد اللـه بن عمر: «إِذَا أصبحتَ فَلا تُحَدِّثْ نْفَسَك بِالمساءِ وإِذَا أمسيتَ فلا تُحَدِّثْ نْفَسَك بالصباحِ وَخُذْ مِن حَياتِكَ لِمَوْتِكَ ومِن صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ فَإِنَّكَ يَا عَبْدَ اللـه لاَ تَدْرِي مَا إِسْمُكَ غَدَاً»(1).

وقَالَ رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: «الكيّسُ مَن دانَ نفسَه وعَمِلَ لِما بعدَ الْمَوْتِ، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسَه هواهَا ثمّ تمنّى على اللـه الأمانيَ» وفي الحديثِ الصّحيحِ لَمّا سألَ جِبريلُ عليهِ السلامُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَن الإحْسانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أن تَعْبُدَ اللـه كأنّك تراهُ، فإن لمَ تكنْ تَراهُ فإنّه يَراكَ».

ولا قيمةَ للإيمانَ بالْمَوْتِ مَا لَمْ يُؤمنْ بالآخرةِ، فالْمَوْتُ هُوَ بدايةُ الطريقِ للحياةِ الآخِرَةِ، الحياةِ الأبديّةِ، الحياةِ التي يتقررُ فيها المصيرُ، فَإِمَّا نعيمٌ وإمّا جحيمٌ، فَمَن خافَ الْمَوْتَ وآمَنَ بأنَّ سببَهُ انتهاءُ الأجلِ، وَلَمْ يُراقبْ نفسَهُ وَلَمْ يحاسِبْها، وَلَمْ يتصوّرْ الآخِرَةَ تصوراً يَجعلُهُ مُستعداً للرّحيلِ إليْهَا فِي أيّةِ لحظةٍ، فَإنَّهُ لا تأثيرَ لإيمانِهِ هذَا عَلَيْهِ فِي دُنْيَاهُ، وهو وإن تأثرَ فإنّ ذلكَ لاَ يَعْدُو أنْ يَكونَ مُجَرّدَ لَحَظَاتِ ندمٍ خاطفةً، لا تتبعُها محاسبةٌ ومراقبةٌ، ولِذا فإنّهُ سُرعانَ ما يَعودُ إلى سابقِ عهدِهِ، لِيَعْصيَ اللـه بعدَ زَوالِ أثرِ مَا ذُكّرَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ أَوْ شَاهَدَهُ.

قَالَ عثمانُ بنُ عفانَ رضي الله عنه فِي آخرِ خطبةٍ خطبَها فِي حياتِه: (إنَّ اللـه عزَّ وجلَّ إنمّا أعطاكُمُ الدُّنْيَا لِتطلُبوُاْ بِها الآخِرَةَ، ولم يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوُاْ إليْهَا، إنَّ الدُّنْيَا تَفْنَى والآخرةُ تَبقى، فَلا تبْطِرَنّكُم الفانِيةُ ولا تشْغِلَنّكم عنِ الباقِيةِ، فآثروُاْ مَا يَبقَى عَلى مَا يَفْنىَ فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ وَإنَّ المَصيرَ إِلَى اللـه).

فالْمَوْتُ يُذَكِّرُنَا بِالآخِرَةِ، أَنْعِمْ بِهِ مِن مُذَكّرٍ، قَالَ رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: «أكثروُاْ مِن ذِكْرِ هَادِمِ اللذّاتِ»(2) وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُ الْبَهَائِمُ مِنَ الْمَوْتِ مَا يَعْلَمُ ابْنُ آدَمَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْهَا سَمِينِاً»(3) وقَالَ ابنُ عمرَ رضِيَ اللـه عنهُما: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عاشرَ عشرةٍ فقَالَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ: مَن أكْيَسُ النّاسِ وأَكْرَمُ النّاسِ يا رَسولَ اللـه؟ فقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْراً لِلْمَوْتِ وَأَشَدُّهُمْ اسْتِعْدَاداً لَهُ، أوْلَئِكَ هُمُ الأَكْيَاسُ، ذَهَبُوُاْ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَكَرَامَةِ الآخِرَةِ»(4).

وقَالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ رضي الله عنه فِي إِحْدَى خُطَبِهِ: (إنَّ لِكُلِّ سَفَرٍ زَاداً لا مَحَالَةَ، فَتَزَوّدُواْ لِسَفَرِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَىَ الآخِرَةِ بِالتّقْوَى، وَكُونوُاْ كمَنْ عَاين مَا أعَدَّ اللـه مِن ثوابِه وَعقابِهِ تَرْغَبواْ وَتَرْهَبواْ، وَلاَ يَطُولنَّ علَيْكُمُ الأمَدُ فتَقْسُو قُلُوبُكُمْ، وتَنْقَادوُاْ لِعَدُوِّكُمْ، فإنّه واللـه مَا بَسط أملُ مَن لا يدري لعلّه لا يصبحُ بعدَ مسائِه ولا يُمسي بعدَ صباحِه، وربما كانتْ بينَ ذَلِكَ خَطَفَاتُ المَنايا، وكمْ رأيتُ ورأيتُم مَن كانَ بالدُّنْيَا مغتراً، وإنّما تقرّ عين مَن وثِقَ بالنّجاةِ مِن عذابِ اللـه تعالى، وإنّما يفرحُ مَن أمِنَ أهوالَ القيامةِ، فأمّا مَن لا يُداوي كلْماً إلاّ أصابَه جرحٌ مِن ناحيةٍ أخْرى فكيفَ يفرحُ؟ أعوذُ باللـه مِن أن آمرُكم بما لا أنْهى عَنهُ نفْسي فتخسرُ صفقَتي وتظهرُ عَيْبَتِي وتبدو مسكَنتي فِي يومٍ يبدو فيِه الغِنى والفقْرُ، والموازينُ فيه مَنصوبةٌ، لقدْ عُنيتم بأمرٍ لَو عُنيَت بهِ النّجومُ لانكدرتْ، ولو عُنيت بهِ الجبالُ لذابتْ، ولو عُنيت بهِ الأرضُ لتشققتْ).

وكانَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ يجمعُ كلَّ ليلةٍ الفقهاءَ، فيتذاكرونَ الْمَوْتَ والقيامةَ والآخرةَ، ثمّ يبكونَ كأنّ بيَن أيديِهم جنازةٌ، ورُوِيَ أنّه إِذَا ذُكِرَ الْمَوْتُ عندهُ انتفضَ انتفاضَ الطّيْرِ، فيبكي حَتَّى تجري دموعُه على لحيتِه، وبكىَ ليلةً فبكىَ أهلُ الدارِ جَميعُهُمْ، فلمَّا تجلّت عنهُم العَبْرةُ، قَالَتْ لَهُ زَوْجُهُ فَاطِمَةُ: بِأبي أنتَ يا أميَر الْمُؤْمِنِينَ مِمَّ بكيتَ؟ قَالَ: ذكرتُ مُنصَرَفَ القومِ مِنْ بين يديِ اللـه تعالـى، فريقٌ فِي الـجـنَّـةِ وفريقٌ فِي السّعيرِ، ثمّ صَرَخَ وغُشِيَ عَلَيْهِ.

فذِكرُ الْمَوْتِ يُذَكِّرُ بالآخرة، وفيه مِن الموعـظـةِ والتدبُّرِ الشيءُ الكثيرُ، دخلَ الحسنُ رضي الله عنه على رجلٍ يجودُ بنفسِه فقَالَ: (إنّ أمراً هذَا أولُّه لجديرٌ أن يُتقى آخِرُه، وإنّ أمراً هذَا آخرُه لجديرٌ أن يُزهدَ فِي أوّلِه).
ومَن تَصَور أن آخِرَتَه قَد تحين فِي أيةِ لحظةٍ، فإنَّه لا بدّ أن يستعدَّ لها أَيَّمَا استعدادٍ. لما حضرتْ أحمدَ بن خَضْرويّة الوفاةُ قَالَ لابنِه: (يا بُنيَّ، بابٌ كنتُ أدقُّه خمساً وتسعينَ سنةً هوَ ذا يُفتحُ الساعةَ لي، لا أدري أيُفتحُ بالسعادةِ أَوْ الشقاوةِ). ويُروى أنَّ أحدَ الصالحينَ احتُضِر، فبكت امرأته فقَالَ لها: مَا يُبكيك؟ فقَالَت: عليك أبكي، فقَالَ: إن كنت باكية فابكي على نفسِك، فلقد بكيتُ لِهَذَا اليومِ أربعينَ سنةً.

أرأيتَ يا أخي لو أنّ وراءَك سفراً بعيداً! أكنتَ تُهْمِلُ الاستعدادَ والتهيُّؤَ لهُ؟، فإنّكَ إنْ فعلتَ ذلكَ فأنتَ بين أحدِ أمرينِ: إمّا أنَّ السفرَ لا يَهُمُّكَ، ولا تَعْبَأُ بهِ، ولا تحسبُ لَهُ حساباً، وإما أنّك مهملٌ لا قيمةَ للزمنِ عِندَكَ. ومَا الْمَوْتُ إلاّ سَفرٌ كلّنا نؤمنُ بقُدومِه إيماناً لا يتطرقُ إليهِ ارتيابٌ. وكلُّ يومٍ يمضي علينا، نقتربُ فيهِ مِنَ الْمَوْتِ يوماً، فمَن بلغَ الثلاثينَ مِن عُمُرِه فقد اقتربَ مِنَ الْمَوْتِ ثلاثينَ سنةً، ومَنْ بلغَ الستينَ فقد اقتربَ مِنَ الْمَوْتِ ستين سنة، وهَكَذَا، فأيُّنا استعدَّ لِهَذَا السفرِ الَّذِي لا نعلم متى هو، وإلى أين سيكون فيه مصيرنا؟ وأيّنا تهيّأ للرحيلِ فِي أية لحظة... الآن.. أَوْ بعد قليل.. أَوْ فِي الغد.. أَوْ بعدِه.. إن هما إلاّ نَفَسَـيْـنِ نَفَسٌ تَأخـذُه ونفسٌ تخرجُه وأنتَ لا تعلمُ مَعَ أيّ النَفَسَيْنِ ستَخْرُجُ الرّوحُ. اللهم السلامةَ السلامةَ يوم لقاكَ.

إن الموت تذكرة تتبعها محاسبة ومراقبة، كانَ الربيع بن خيثم قد حفر فِي داره قبراً، فكان إِذَا وجد فِي قلبه قساوةً دخل فيه فاضطجع ومكث مَا شاء اللـه ثمّ يقول: ((ربِّ ارْجِعونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) يرددها، ثمّ يردُّ على نفسِه قائلا: يا ربيع ها قد رجعت فاعمل.
وليست التذكرةُ هيَ البكاءُ والنَّحيبُ ولَوْمُ النَّفسِ ساعةَ رؤيةِ المُحتَضَرِ، أَوْ الوقوفُ على الميتِ أَوْ زيارةُ المقابرِ فحسب، بلِ التذكرةُ فِي الْمَوْتِ أن يتصوّرَ المؤمنُ فِي أيةِ لحظةٍ أنَّهُ سيقابلُ ربَّه، وأنّه سينقطع عمله وسيُعدمُ التوبةَ، فيكون متيقظاً لنفسه حريصاً على طاعةِ اللـه مراقباً ربَّه فِي كلِّ لحظةٍ مِن لحظاتِ حياته، قَالَ أنس رضي الله عنه: سمعتُ عمر بن الخطابِ رضي الله عنه وقد دخل حائطاً، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: (عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ أميرَ الْمُؤْمِنِينَ، بخٍ بخٍ، واللـه لتتقينَّ اللـه يا ابن الخطاب أَوْ ليعذبنَّك)، وقَالَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (مَن مقت نفسه فِي ذات اللـه آمَنَهُ اللـه مِن مقته).

فمحاسبة النفسِ ومراقبتها عَن الزلل، نجاة للمؤمِن مِن عذاب اللـه، وقد شدّ العزم على أن يلقى اللـه طائعاً ملبياً، ملتزما بما أمره اللـه به، لَمْ يَمَلَّ ولم يكِلَّ ولم ييأس بل سار على صراط اللـه متحملا مفاتن الدُّنْيَا ومصائبها، زاهداً بما عند الخلق راغباً بما عند الخالق.
تلا رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (فمَن يرد اللـه أن يهديه يشرح صدره للإسلام (فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن النور إِذَا دخل الصدر انفسحَ» فقيل: يا رَسولَ اللـه هل لذلك مِن علامة تُعرف؟ قَالَ: «نعم، التّجافِي عَن دار الغرور والإنابة إِلَى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله»(5) وقَالَ السدّي رحمه اللـه: ((الّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيكم أحْسَنُ عَمَلاً)) أي أيّكُم أكثر للموت ذِكراً وأحسنُ لَهُ استعداداً وأشدُّ مِنه خوفاً وحذَراً).

فهلاّ عرضتَ نفسَك يا أخي على مَا كلّفك اللـه به بصفتك مسلماً أولاً، وحاملَ دعوة ثانياً، هلاّ سألت نفسك إن كنت قد أدّيت الحقّ أَوْ قصّرتَ فِي أدائِه؟ وهل أدركت أنّك أكثرُ النّاس هماً وأكثرهم تبعة، وانك أحوج النّاس فِي هذَا الزمن إِلَى محاسبة النفس وقهرها للقيام بما كلفك اللـه به مِن أعمال، وما أُلقي على كاهلك مِن مسئوليات؟

وهل أدركت يا أخي وأنت تحسب للموت حسابه، وتتذكر الآخِرَةَ، فتبكي خوفاً مِن عذاب النَّار، وتعمل رغبة فِي نعيم الجنَّة، هل أدركت يا أخي بأن مَا لديك مِن الفكر المستنير، والفهم الدقيق، والإخلاص الواعي لن يجعل مِنك صوفياً غافلا، أَوْ درويشا أحمقَ، أَوْ مُنزويا فِي الأركان والزوايا يبكي ويولول؟ ولا ينبغي لك ذَلِكَ، ولكن كُنْ حامل الدعوة الَّذِي باع نفسه للـه، القائد السياسي الَّذِي تُبكيه آيةٌ، ويهُزُّ مشاعرَه موقف.
أمَا علمت أن رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم كان أشد النّاس خوفا وأكثرهم بكاء، قال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوما: يا رسول اللـه شِبْتَ، فقال صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وروى ابن النجار عن ابن عمر أن رسول اللـه صلى الله عليه وسلم سمع قارئا يقرأ ((إنّ لدينا أنكالا وجحيما)) فصعق صلى الله عليه وسلم أي أغمي عليه. وروي عنه أنه عندما كان صلى الله عليه وسلم يسير إِلَى مكة لفتحها وقد تدجج المسلمون بالسلاح، رأى قُبّرةً تطير فوق رأسِهِ وتصيح فبكى صلى الله عليه وسلم وقَالَ: «مَن فجع هذِهِ بولدها، ردوُاْ عليها وليدها».

ولما نزل قوله تعالى: ((أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون)) بكى أهل الصُّفَّةِ حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول اللـه صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم فبكى الصحابة كلهم ببكائه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يلجُ النَّار من بكى من خشية اللـه، ولا يدخل الجنَّة مُصِرٌّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء اللـه بقوم يذنبون فيغفر لهم»(6).

أمَا علمت أن عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَعَ شدته فِي الحق وصلابته، وقوة بأسه، كانَ يخرُّ لسماع آية ويذرف الدموع عندما يُذَكَّرُ بالآخرة، وكان خاتمه قد كتب عليه (كفى بالْمَوْتِ واعظا يا عمر).
أمَا علمت أن أحد الصحابة قَالَ فِي أبي بكر الصديق: كنت إِذَا رأيته وهُوَ يعد الجيوش تظن أنّه لَمْ يتكل على اللـه أبداً، وكنت إِذَا رأيته وهُوَ يكثر مِن دعاء اللـه بالنصر وهُوَ يبتهل ويبكي، تقول: مَا أعدّ هذَا مِن عدة قط.
ألم تسمع قوله تعالى واصفا خير خلقه: ((محمد رَسولُ اللـه والذين مَعَهُ أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكَّعا سُجَّدا يبتغون فضلا مِنَ اللـه ورضوانا سِيمَاهُمْ فِي وجوههم مِن أثر السجود ذَلِكَ مثلهم فِي التوراة ومثلهم فِي الإنجيل كزرع أخرج شَطْأَهُ فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُرَّاعَ ليغيظ بهم الكفار وعد اللـه الذين آمنوُاْ وعملوُاْ الصالحات مِنهم مغفرة وأجرا عظيما)).

أولئك هم القادة الذين أقاموُاْ الإسلام وجاهدوُاْ فِي سبيل اللـه حَتَّى لَقُوا ربهم، رهبان الليل فرسان النهار، قَالَ فيهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه واصفا: (واللـه لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانُوا يصبحون شُعْثاً غُبْراً، بينَ أعينهِم أمثالُ رُكَبِ المِعْزَى، قدْ باتوُاْ للـه سُجَّداً وقِياماً، يَتلونَ كِتابَ اللـه تعالى، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإِذَا أصبحوُا فذكروُا اللـه عز وجل، مادوُا كما يميد الشجر فِي يوم الريح، وهَمَلَتْ أعينهم حَتَّى تبل ثيابهم، واللـه لكأنّ القوم باتُوا غافلين).

قَالَ أبو عُبيدةَ الباجيّ: (دخلنا على الحسن فِي مرضه الَّذِي مات فيه فقَالَ: مرحباً بكم وأهلا، حياكم اللـه بالسلام وأحلّنا وإياكم دار المقام، إن صبرتم وصدقتم واتقيتم فلا يكن حظكم مِن هذَا الخبر رحمكم اللـه أن تسمعوه بهذِهِ الأذن وتخرجوه مِن هذِهِ الأذن، فإنّ مَن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً ورائحاً لَمْ يضع لَبِنَةً على لَبِنَةٍ ولا قصبة على قصبة ولكن رفع لَهُ علم فشمر إليه، الوَحى الوَحى، النَّجَا النَّجَا، رحم اللـه عبداً جعل العيش عيشاً واحداً فأكل كِسرةً ولبس خِلقةً ولزِق بالأرضِ واجتهدَ فِي العبادة وبكى على الخطيئة وهربَ مِن العقوبة وابتغـى الرحـمـةَ حَتَّى يأتيهِ أجلُهُ وهُوَ على ذلكَ)(7).

إن الدُّنْيَا أيها الاخوة بمتاعها وفتنها تلهي المؤمِن مهما كانَ متاعها قليلا وفتنتها تافهة، وتشغله عَن آخِرتِه إن قبل هُوَ أن يلهى بها وينشغل بها عَن آخِرَتِه، قَالَ تعالى: ((اعلموُاْ أنّما الحياة الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فِي الأموال والأولاد كمَثَلِ غيثٍ أعجب الكفارَ نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حُطاما وفي الآخِرَةِ عذاب شديد ومغفرة مِن اللـه ورضوان وما الحياة الدُّنْيَا إلا متاع الغرور. سابقوُاْ إِلَى مغفرة مِن ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمَنوُاْ باللـه ورسله ذَلِكَ فضل اللـه يؤتيه مَن يشاء واللـه ذو الفضل العظيم)).

وما الْمَوْتُ إلاّ الصاحب الصدوق الَّذِي يظل يذكّر المؤمِن بآخرتِهِ، وما دام المؤمِن يتذكر آخرتَهُ ويحسب حسابها فإنه إِلَى خير، وسيعيش حياته فِي رحاب تذكّر الآخِرَةِ والاستعداد لها، لذلك حثنا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم على تذكر الْمَوْتِ، والاستعداد لَهُ كما حثنا على زيارة القبور والسلام على أهلها فهي خير واعظ وخير مذكِّر.

عن أبي ذر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: «زر القبور تذكر بها الآخِرَةَ، واغسل الْمَوْتَى فإنّ معالجة جسد خاو موعظة بليغة، وصلِّ على الجنائز لعل ذَلِكَ أن يحزنك فإنّ الحزين فِي ظل اللـه»(8).
وقَالَ ابن أبي مُلَيْكَةَ: قَالَ رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: «زوروُاْ موتاكم وسلموُاْ عليهم فإنّ لكم فيهم عبرة»(9).
ويروى عَن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كانَ إِذَا رأى جنازة قَالَ: امضوُاْ فإنّا على الأثر. وعن الضحاك قَالَ: قَالَ رجل: يا رَسولَ اللـه مَن أزهدُ النّاس؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَن لَمْ ينسَ القبرَ، وترك فضل زينة الدُّنْيَا، وآثر مَا يبقى على مَا يفنى، ولم يعدّ غداً مِن أيامه، وعدّ نفسه مِن أهل القبور».

ولنا فِي رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولنا فِي صحبه الكرام اهتداء ورشد، ولنا فيمَن سبقنا مِن الأخيار عبرة وعظة، فقد كانُوا يحرصون على تذكر الْمَوْتِ ليعينهم تذكره على الاستعداد للآخرة، وإِذَا جاءهم الْمَوْتُ وجدتهم بين باك على نفسه خوفاً ورهبة مِن عذاب اللـه، وبين محسن فِي اللـه أحسن الظن وراج مغفرته، وبين متهيئ كل التهيؤ ومستعد كل الاستعداد.

أما الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فقد ابتدأ استقباله للموت بالاستغفار لأهل القبور، وذلك فِي مرضه الَّذِي مات فيه، فعن أبي مُوَيْهِبَةَ مولى رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بعثنِي رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم مِن جوف الليل، فقَالَ لي: «يا أبا مُوَيْهِبَةَ إني قد أُمِرتُ أن استغفر لأهل البقيع، فانطلقْ معي» فانطلقتُ مَعَهُ، فلما وقف بين أظهرهم، قَالَ: «السلام عليكم أهل المقابر، لِيَهُنْ لكم مَا أصبحتم فيه مما أصبح النّاس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرُها أولَها والآخرة شر مِن الأولى» ثمّ أقبل عليّ فقَالَ: «يا أبا مُوَيْهِبَةَ، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدُّنْيَا والخلد فيها، ثمّ الْجَنَّةَ، خيرت بين ذَلِكَ وبين لقاء ربي والْجَنَّةِ، فاخترت لقاء ربي والْجَنَّةَ» فقلت: بابي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدُّنْيَا والخلد فيها ثمّ الْجَنَّةَ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا واللـه يا أبا مُوَيْهِبَةَ، لقد اخترت لقاء اللـه والْجَنَّةَ» ثمّ استغفر لأهل البقيع ثمّ انصرف فبُدِئَ رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم بوجعه الَّذِي قُبِضَ فيه).

ولما اشتد به الوجع صلى الله عليه وسلم قَالَ للفضل وهُوَ معصوب الرأس مِن شدة الألم: «خذ بيدي يا فضل» فاخذ الفضل بيده حَتَّى جلس على المِنبر ثمّ قَالَ للفضل: «ناد فِي النّاس» فاجتمعوُاْ إليه، فحمد اللـه وصلى على أصحاب أحد، واستغفر لَهُم، واكثر الصلاة عليهم، ثمّ قَالَ: «أما بعد أيها النّاس، فإني احمد إليكم اللـه الَّذِي لا إله إلاّ هُوَ، وإنه قد دنا مِني حقوق بين أظهركم، فمَن كنتُ جلدت لَهُ ظهرا فهذا ظهري فَلْيَسْتَقِدْ مِنه، ومَن كنت شتمتُ لَهُ عرضا فهذا عرضي فَلْيَسْتَقِدْ مِنه، ألا وإنّ الشَّحْنَاءَ ليست مِن طبعي ولا مِن شأني، ألا وإنّ احبكم إليّ مَن اخذ مِني حقا إن كانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فلقيت اللـه وأنا أطيب النفس، وقد أرى أن هذَا غير مغن عني حَتَّى أقوم مرارا» ثمّ نزل صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، ثمّ رجع فجلس على المِنبر، فعاد لمقَالَته الأولى فِي الشَّحْنَاءِ وغيرها، فقام رجل فقَالَ: يا رَسولَ اللـه، إنّ لي عندك ثلاثة دراهم، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أعطه يا فضل»، ثمّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أيها النّاس، مَن كانَ عنده شيء فليؤده، ولا يقل فَضُوحُ الدُّنْيَا، ألا وإنّ فَضُوحَ الدُّنْيَا ايسر مِن فَضُوحِ الآخِرَةِ»، فقام رجل فقَالَ: يا رَسولَ اللـه عندي ثلاثة دراهم غللتها فِي سبيل اللـه، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ولِمَ غللتَها»، قَالَ الرجل: كنت إليها محتاجا، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «خذها مِنه يا فضل»، ثمّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يا أيها النّاس، مَن خشي مِن نفسه شيئاً فليقم أَدْعُ لَهُ»، فقام رجل فقَالَ: يا رَسولَ اللـه، إني لكذاب، إني لفاحش، وإني لنؤوم، فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقه صدقا وايمانا، وأذْهِبَ عنه النوم إِذَا اراد»، ثمّ قام رجل فقَالَ: واللـه يا رَسولَ اللـه إني لكذاب وإني لمنافق وما مِن شيء إلا جنيته، فقام عُمَرُ بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فقَالَ: فضحت نفسك أيها الرجل، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بن الخطاب فضوح الدُّنْيَا اهون مِن فضوح الآخِرَةِ، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير امره إِلَى خير» .
وأوصى صلى الله عليه وسلم بالانصار خيرا فقَالَ: «اما بعد يا معشر المهاجرين، إنكم قد اصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد، على هيئتها التي هي عليها اليوم، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموُاْ كريمهم، وتجاوزوُاْ عَن مسيئهم».
ثمّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن عبدا مِن عباد اللـه خيره اللـه بين أن يؤتيه مِن زهرة الدُّنْيَا مَا شاء، وبين مَا عند اللـه، فاختار مَا عند اللـه»، فبكى أبو بكر ثمّ قَالَ: فديناك بأنفسنا وبآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا يا رَسولَ اللـه.

فتعجب النّاس من فعل أبي بكر وقوله، وقَالَ بعضهم: انظروُاْ إِلَى هذَا الشيخ، يخبر رَسولُ اللـه عَن عبد يُخَيَّر، ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم رادّا على أبي بكر: «على رسلك يا أبا بكر، انظروُا هذِهِ الابواب اللافظة فِي المسجد فسدوها، إلاّ مَا كانَ مِن بيت أبي بكر فإن أمنّ النّاس عليّ فِي صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلاً مِن العباد لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة وإخاء ايمان حَتَّى يجمع اللـه بيننا عنده».

وقالت أم المؤمنين عائشة رضي اللـه عنها: (رأيت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قَدَحٌ فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثمّ يمسح وجهه بالماء ثمّ يقول: «لا إله إلا اللـه، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت»، ثمّ نصب إصبعه وجعل يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثمّ أشخص بصره بسقف البيت وقال، اللهم الرفيق الأعلى فقبض ومالت يده في الماء).
ولما احتُضِر أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاءت عائشة فتمثلت بهذا البيت:
لَعَـمْـرُكَ مَا يُـغْـني الثَراءُ عَن الفتى
إِذَا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
فكشف أبو بكر عَن وجهه وقَالَ: (ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي ((وجاءت سكرة الْمَوْتِ بالحق ذَلِكَ مَا كنت مِنه تحيد)) انظروا ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي احوج إِلَى الجديد مِن الميت).
ولـمـا قَـالَـت عـائـشـة رضي اللـه عنها عند موته تمدحه:
وأبيض يَستسقى الغَمامُ بوجهِه
ربيعُ اليتامى عصـمـةٌ للأرامـلِ
قَالَ أبو بكر: ذاك رَسـولُ اللـه صلى الله عليه وسلم، ثمّ دخل عَلَيْهِ الصحابة وقد رقّوُا لما يجده مِن أثر السـم فقَالَوُا لَهُ: ألا ندعـو لك طبيبنا ينظر إليك؟ فقَالَ أبو بكر: قد نظر الي طبيبي وقَالَ: إني فعال لما أريد، ودخل عَلَيْهِ سلمان الفارسي رضي الله عنه يعوده فقَالَ: يا أبا بكر أَوْصِنا، فقَالَ الصديق: إنّ اللـه فاتح عليكم الدُّنْيَا فلا تأخذنّ مِنها إلاّ بلاغك، واعلم أن مَن صـلى الصبح فهُوَ فِي ذمة اللـه فلا تخفرن اللـه فِي ذمته فيكبك فِي النار على وجهك.
ولما ثقل أبو بكر رضي الله عنه أرسل إِلَى عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فأوصاه بوصية عظيمة قَالَ فيها: (إنّي اوصيك بوصية، إن أنت قبلت عني: إنّ للـه عز وجل حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإنّ للـه حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنّه لا يقبل النافلة حَتَّى تؤدى الفريضـة، وإنّما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه فِي الآخِرَةِ باتباعهم الحق فِي الدُّنْيَا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنّما خَفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينه فِي الآخِرَةِ باتباعهم الباطل، وخفته عليهم فِي الدُّنْيَا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
ألـم تـر أنّ اللـه أنـزل آيـة الـرجـاء عند آية الشـدة، وآية الشـدة عنـد آية الرجاء، وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون العبد راغباً راهباً لا يلقي بيديه إِلَى التهلكة، ولا يتمَنى على اللـه غير الحق.
فإن أنت حفظت وصيتي هذِهِ، فلا يكونن غائب أحب إليك مِن الْمَوْتِ، ولا بدّ لك مِنه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذِهِ فلا يكونَنَّ غائب ابغض إليك مِن الْمَوْتِ، ولا بدّ لك مِنه ولست تعجزه) وكان آخر مَا قَالَه قبل خروج روحه رضي الله عنه: ربّ ((توفني مسلما وألحقني بالصالحين)).

أما عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه فقد خرج قبل موته بأربعة أيام يطوف فِي السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا، فقَالَ عمر: وكم خراجك؟ قَالَ: درهمان فِي كل يوم، فقَالَ عمر: وأَيْشٍ صِنَاعَتُكَ؟ فقَالَ أبو لؤلؤة: نجار، نقاش، حداد، فقَالَ عمر: فما أرى خَراجَك بكثيرٍ علىَ مَا تصنعُ مِن الأعمال، قد بلغني انك تقول لو أردت أن اعمل رحا تطحن بالريح فعلت، قَالَ: نعم، فقَالَ عمر: فاعمل لي رحا، فقَالَ الكافر: لئن سلمت لأعملنَّ لك رحاً يتحدثُ بها مَن بالمشرق والمغربِ، ثمّ انصرفَ عنه فقَالَ عمر: لقد توعدني العبد آنفا.
ثمّ انصرف عمر إِلَى مَنزله، فلما كانَ مِن الغد جاءه كعب الاحبار فقَالَ لَهُ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ: اعهد، فإنك ميت فِي ثلاثة أيام، فقَالَ عمر: وما يدريك؟ فقَالَ كعب: أجده فِي التوراة، فقَالَ عمر: ءآللـه إنك لتجد عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ فِي التوراة؟ فقَالَ كعب: اللهم لا، ولكني اجد صفتك وحليتك، وأنه قد فنى اجلك، فلما كانَ مِن الغد جاءه كعب فقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ ذَهَبَ يوم وبقي يومان، ثمّ جاءه مِن غد الغد فقَالَ: ذَهَبَ يومان وبقي يوم وليلة، وهي تلك الليلة إِلَى صبحتها، فلما كانَ الصبح خرج عمر إِلَى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا فإِذَا استوت جاء هُوَ فكبر، ودخل أبو لؤلؤة عَلَيْهِ لعنة اللـه فِي النّاس، وفي يده خنجر لَهُ رأسان نصابه فِي وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهيَ التي قتلتهُ، وطار العلج لا يمر على أحد يمينا أَوْ شمالا إلاّ طعنه حَتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنهم تسعة، فلما رأى ذَلِكَ رجل مِن المسلمين طرح عَلَيْهِ برنسا فلما ظن العلج أنّه مأخوذ نحر نفسه.
أما عمر رضي الله عنه فإنه لما وجد حرّ السلاح سقط وقَالَ: أفي النّاس عبد الرحمن بن عوف؟ قَالَوُاْ نعم يا أمير الْمُؤْمِنِينَ هُوَ ذا، فقَالَ لَهُ عمر: تقدم فصل بالناس، فصلى عبد الرحمن بالناس وعمر طريح بجانبه، وكان الذي يلي عمر قد رأى مَا حصل، أما الذين في نواحي المسجد فلا يدرون مَا الأمر، غير أنَّهم فقدوُاْ صوت عمر فظلوُاْ يقولون: سبحان اللـه سبحان اللـه، فصلى عبد الرحمن بن عوف فيهم صلاة خفيفة، ثمّ احتُمِل أمير الْمُؤْمِنِينَ فأدخِل داره وقَالَ: يا ابن العباس انظرْ مَن قَتَلَني، فَغابَ عبدُ اللـه ساعةً ثمّ رجع فقَالَ: غلام المغيرة بن شعبة، فقَالَ عمر: قاتله اللـه، لقد كنت امرت به معروفا، ثمّ قَالَ: الحمد للـه الَّذِي لَمْ يجعل منيتي بيد رجل مسلم سجد للـه سجدة واحدة. وكان النّاس يومئذ كأن لَمْ تصيبهم مصيبة مِن قبل، فقائل يقول لا بأس عَلَيْهِ وقائل يقول أخاف عَلَيْهِ، وجاؤوه بنبيذ فشرب مِنه فخرج مِن جوفه مشكلا، ثمّ أتي بلبن فشرب مِنه فخرج مِن جوفه فعرفوُاْ أنّه ميت.
وبدأ الـمـهـاجـرون والأنصـار يدخلون عَلَيْهِ ليسلموُاْ ويودعوُاْ فدخل عَلَيْهِ مِن بينهم كعب الاحبار فلما رآه عمـر تذكر مقولته الآنفة فأنشد عمر قائلا:
فأوعـدني كـعـبٌ ثلاثـاً أعـدها
ولا شك أن القول مَا قَالَ لي كعبُ
وما بي حذار الْمَوْتِ إني لميت
ولكـن حـذار الذنب يـتـبـعـه الذنبُ
وكان ممَّن دخل عَلَيْهِ شاب من المسلمين فقَالَ لَهُ: أبشر يا أمير الْمُؤْمِنِينَ ببشرى مِن اللـه عز وجل، قد كانَ لك صحبة مِن رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم وقدم فِي الإسلام مَا قد علمت، ثمّ وليت فعدلت ثمّ شهادة، فقَالَ: أمير الْمُؤْمِنِينَ: وددت أنّ ذَلِكَ كان كفافاً لا لي ولا عليّ، فلما أدبر الرجل إِذَا إزاره يمس الأرض فقَالَ عمر: ردوُاْ علي الغلام، فقَالَ لَهُ: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
ولما دخل عَلَيْهِ عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه رآه يبكي فقَالَ: مَا يبكيك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، فقَالَ عمر: ابكاني خبر السماء، أيُذْهَبُ بي إِلَى الجنَّة أم الي النَّار، فقَالَ علي: أبشر بالْجَنَّةِ، فإني سمعت رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: «سيدا كهول أهل الجنَّة أبو بكر وعمر وأنعما» فقَالَ عمر: أشاهد أنت لـي يا عليّ بالجنّة؟ فقَالَ عليّ نعم، وأنت يا حسن فاشهد على أبيك أن رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم قَالَ: إن عمر مِن أهل الجنَّة.
ولما دخل عَلَيْهِ عبد اللـه بن عباس قَالَ لَهُ: أبشر يا أمير الْمُؤْمِنِينَ بالْجَنَّةِ، صاحبت رَسولَ اللـه، فأطلت صحبته، ووليت أمر الْمُؤْمِنِينَ فقويت وأديت الامانة، ومَصَّرَ اللـه بك الامصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزق، فقَالَ عمر: أما تبشيرك لي بالْجَنَّةِ فواللـه الَّذِي لا إله إلاّ هُوَ، لو أنّ لي الدُّنْيَا وما فيها لافتديت به مِن هول مَا أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأما قولك فِي إمرة الْمُؤْمِنِينَ، فواللـه لوددت أني خرجت مِنها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر، وأما مَا ذكرت مِن صحبة رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم فذاك - أيّ فـذاكَ مَا أرجـوهُ. ثـمّ قَـالَ رضي الله عنه: أجلسوني، فلما جلس قَالَ لابن عباس رضي اللـه عنهما: أعد عليّ كلامك، فلما أعاده عَلَيْهِ قَالَ عمر: أتشهد بذلك عند اللـه يوم تلقاه، فقَالَ ابن عباس: نعم ففرح عمر بذلك.وهُوَ القائل رضي الله عنه: (لو نادى مناد فِي السماء: يا أيها النّاس إنكم داخلون الجنَّة كلكم إلاّ رجـلاً واحداً لخفت أن أكون أنا هُوَ، ولو نادى مناد: أيها النّاس، إنكم داخلون النَّار إلاّ رجلا واحدا لرجوت
أن أكون أنا هُوَ).
ولما حانت وفاته رضي الله عنه قال لابنه: يا بني إذا حضرتني الوفاة فاحرفني واجعل يدك اليمنى على جبيني ويدك اليسرى على ذَقَني، فإذا قبضت فأغمضني، واقصدوا في كفني فإنه إن يكن لي عند اللـه خيرا أبدلني خيرا منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فاسرع سلبي، ولا تخرجن معي امرأة ولا تزكوني بما ليس في، فإن اللـه هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فأسرعوا في المشي، فإنه إن يكن عند اللـه خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد القيتم عن رقابكم شرا تحملونه، ثمّ قال رضي الله عنه: ألصق خدي بالأرض، وكان رأسه في حجر عبد اللـه بن عمر، فوضع عبد اللـه رأس عمر على ساقه وقال: وما عليك إن كانَ فِي حجري أم على الأرض؟ فقَالَ عمر: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ففعل عبد اللـه، فلما التصق خد عمر ولحيته بالارض قال رضي الله عنه: ويلك وويل أمك يا عمر إن لم يغفر اللـه لك يا عمر، ثمّ قبض رضي الله عنه.

أما ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنه لما حصر في بيته، وكان صائما، أراد الإفطار فسأل محاصريه الماء العذب ليفطر فأبوا عليه وقالوا له: دونك ذلك الركي فافطر منه والركي ما تجمع فيه القمامة، فلم يفطر عثمان فذهبت امرأته نائلة بنت القرافصة لتبحث عن الماء، فوجدت أناسا سألتهم عن الماء العذب فأعطوها كوزا من ماء فجاءت عثمان وقد أذن الفجر بالطلوع فقالت له: هذا ماء عذب أتيتك به، فنظر رضي الله عنه فإذا الفجر قد طلع، فقال: إني أصبحت صائما، فقالت: ومن أين أكلت، ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب؟ فقال: إني رأيت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم اطلع عَلَيّ من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال ياعثمان حصروك فقلت: نعم، قال: عطشوك؟ فقلت: نعم، فأدلى بالدلو وقال: اشرب يا عثمان فشربت حتى رويت، حتى إني لأجد برده بين ثديي وكتفي، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: ازدد، فشربت حتى نهلت، ثمّ قال: أما إن القوم سينكرون عليك، فإن شئت قاتلتهم فظفرت ونصرت عليهم، وإن شئت تركتهم فأفطرت عندنا، فاخترت أن أفطر عنده.
ودخل عليه كثير بن الصلت فقال له: ما أراني يا كثير إلا مقتولا يومي هذا، فقال كثير: ينصرك اللـه على عدوك يا أمير المؤمنين، أوقت لك في هذا اليوم شيء أو قيل لك شيء؟ فقال عثمان: لا، ولكني سهرت في ليلتي هذه الماضية، فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، ورسول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول لي: يا عثمان لا تحبسنا، فإنا ننتظرك، فقتل في يومه ذاك.
ولما قُتِلَ رضي الله عنه عنه فتشوا في خزانته فوجدوا حقة فيها ورقة مكتوب فيها: (هذه وصية عثمان، بسم اللـه الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنَّة حق، وأن النَّار حق، وأن اللـه يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن اللـه لا يخلف الميعاد، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء اللـه).

وروي أنه لما كانت الليلة التي أصيب فيها عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه أتاه ابن السياج حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهُوَ مضطجع متثاقل، فعاد إليه الثانية وهُوَ كذلك، ثمّ عاد الثالثة فقام علي يمشي وهُوَ يقول:
شدّ حيازيمك للموتِ فإن الْمَوْتَ لاقيك
ولا تجزع مِن الْمَوْتِ وإن حــلّ بـنـاديــك
فلما بلغ الباب الصغير شد عَلَيْهِ عبد الرحمن بن ملجم فضربه فقَالَ علي: فزت ورب الكعبة، ولما حملوه قَالَ: مَا فُعل بضاربي؟ قَالَوُاْ: أخذناه، قَالَ: (أطعموه مِن طعامي، واسقوه مِن شرابي فإن انا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها.
ثمّ أوصـى الحسـن أن يغسله وقَالَ: لا تُغالِ فِي الكفن، فإني سمعت رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغالوُا فِي الكفن فإنّه يسلب سلباً سريعاً، امشوُا بي المشيتين لا تسرعوُا بي، ولا تبطئوُا فإن كانَ خيرا عجلتموني إليه، وإن كانَ شرا ألقيتموني عَن أكتافكم).

ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ: (انظروُاْ هل أصبحنا؟ فقيل: لَمْ نصبح، فظل يسألهم حَتَّى أتى الصبح فقيل لَهُ: قد أصبحنا، فقَالَ: أعوذ باللـه مِن ليلة صباحها إِلَى النار، ثمّ قَالَ: مرحبا بالْمَوْتِ زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنّى لَمْ اكن احب الدُّنْيَا وطول البقاء فيها لكريِ(10) الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر).

ولما حـضـرت بلالاً رضي الله عنه الوفـاة قَالَت امرأته: واحزناه فقَالَ: (بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه).

أما أم المؤمنين عائشة رضي اللـه عنها فقد دخل عليها عبد اللـه بن عباس رضي الله عنه قبل موتها فأثنى عليها وقال: أبشري زوجة رسول اللـه، ولم ينكح بكرا غيرك، ونزل عذرك من السماء، فدخل عليها ابن الزبير رضي اللـه عنهما خلافه فقالت: أثنى علي عبد اللـه بن عباس ولم اكن احب أن اسمع احدا اليـوم يثني علي، لوددت اني كنت نسيا منسيا.

وقَالَ أبو مسـلم: جـئت أبا الدرداء رضي الله عنه وهُوَ يـجـود بنـفسه ويقول: (ألا رجل يعمل لـمـثـل مصـرعـي هذَا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذَا؟ ألا رجـل يعـمل لمثل ساعتي هذِهِ؟) ثمّ قُبض رحمه اللـه.

وبكى سلمان الفارسي عند موته، فقيل لَهُ مَا يبكيك؟ فقَالَ: (عهد إلينا رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذِهِ الأزواد) وقيل: إنّما كانَ حوله إجانة وجفنة ومطهرة مَا قيمته بضعة عشر درهما.

وبكى أبو هـريـرة رضي الله عنه قـبـل وفـاتـه فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد سفري وقلة زادي، أصبحت في صعود مهبطة على جنة ونار فلا أدري إلى أيهما يسلك بي(11).

وروى المزني قَالَ: دخلت على الشافعي فِي مرضه الَّذِي مات فيه فقلت لَهُ: كيف أصبحت؟ قَالَ: (أصبحت مِن الدُّنْيَا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى اللـه وارداً، ولا أدري أروحي تصير إِلَى الْجَنَّةِ فأهنئها، أم إِلَى النار فأعزيها) ثمّ أنشأ يقول:
ولمّا قسـا قلـبـِي وضـاقـتْ مذاهـبي جعلتُ الرجا مِنِّي بعفوِكَ سُلَّما
تعـا ظــمـنـي ذنْـبِـي فلـمّـا قَــرَنْــتُـه بعفوك ربِّي كانَ عفوُكَ أَعْـظَما
وما زلتَ ذا عفوٍ عَن الذنب لَمْ تزل تـجــودُ وتـعـفـو مِــنـَّــةً وتَـكَــرُّما

ولما ثقل الحسن بن علي رضي الله عنه دخل عَلَيْهِ الحسين رضي الله عنه فقَالَ: يا أخي لأي شيء تجزع؟ تُقدم على رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم وعلى عليّ بن أبي طالب وهما أبواك وعلى خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد وهما أماك وعلى حمزة وجعفر وهما عمّاك! فقَالَ الحسن: أقدم يا أخي على أمر لَمْ أقدم على مثله.

وروي أنه لما ثقل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه دعي لَهُ بطبيب فلما نظر إليه قَالَ: أرى أن الرجل قد سُقي السم ولا آمن عَلَيْهِ الْمَوْتَ، فرفع عمر بصره وقَالَ للطبيب: ولا تأمَن الْمَوْتَ أيضاً على مَن لَمْ يُسقَ السُّم! فقَالَ الطبيب: هل أحسست بذلك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ؟ فقَالَ عمر: نعم قد عرفت ذَلِكَ حين وقع فِي بطني، فقَالَ الطبيب: فتعالج
يا أمير الْمُؤْمِنِينَ فإني أخاف أن تذْهَبَ نفسك، فقَالَ عمر: ربي خير مذهوب إليه، واللـه لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني مَا رفعت يدي إِلَى أذني فتناولته، ولما حضرته الوفاة بكى فقيل لَهُ: مَا يبكيك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ؟ أبشر فقد أحيا اللـه بك سننا وأظهر بك عدلا! فبكى ثمّ قَالَ: أليس أوقف فأُسْأَلُ عَن أمر هذَا الخلق، فواللـه لو عدلت فيهم لخفت على نفسي أن لا تقوم بحجتها بين يدي اللـه إلاّ أن يلقنها حجتها، فكيف بكثير مما ضيّعنا؟ وفاضت عيناه ثمّ قَالَ: أجلسوني! فأجلسوه فقَالَ: أنا الَّذِي أمرتَني فقصرتُ ونهيتَني فعصيتُ - قَالَها ثلاث مرات - ثمّ قَالَ: ولكن لا اله إلاّ اللـه ثمّ رفع رأسه فأحدَّ النظر فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فقَالَ: إني لأرى خضرة، مَا هم بإنس ولا جنّ ثمّ قبض رحمه اللـه.

وحُكيَ عَن هارونَ الرشيدِ أنَّه انتقى أكفانَه بيدِه عندَ الْمَوْتِ، وكانَ ينظرُ إليها ويقولُ: ((مَا أغْنَى عني مالِيَه . هلك عني سلطانيه)).
وقيل فتح عبد اللـه بن المبارك عينيه عند الوفاة وضحك وقَالَ ]لمثل هذَا فليعمل العاملون[ ثمّ قبضت روحه.

كما رُوِيَ عَن حذيفة أنّه لما حضرته الوفاة قَالَ: (حبيب جاء على فاقة، لا افلح مَن ندم، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر احب إليّ مِن الغنى، والسقم احب إِلَى مِن الصحة، والْمَوْتَ احب إِلَى مِن العيش، فسهل علي الْمَوْتَ حَتَّى ألقاك).

هذِهِ مواقفهم، وهذِهِ محاسبتهم لانفسهم، عاشوا في رحاب اللـه تعالى، ساروا على منهجه، واتبعوا رسوله، وظلوا يحاسبون أنفسهم ويراقبونها على كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا جاء الموت احدهم تخاله عاصيا لم يطع اللـه في حياته، وذلك من شدة خوفهم من اللـه تعالى وشدة رجائهم بمغفرته، هَكَذَا يجب أن يكون المؤمِن الحق، رقيبا حسيبا على نفسه، فيلحقها قبل أن يفوت العمر، فلا فائدة للندم، ولا قيمة للحسرة.

إنكم يا حملة الدعوة، فِي شغل عظيم، ففي الوقت الَّذِي انصرف فيه النّاس إِلَى دنياهم انشغلتم أنتم بأخـراكم، وفي الوقت الَّذِي قل فيه العاملون، أخذتم أنتم على عاتقكم عبء النبوة، فسرتم لتحقيق مَا لَمْ يحققه مِن البشر غيركم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وأحـباؤه وإن كانَ صحابته قد فضلوُاْ بالصحبة عليكم، فإنكم قد فضلتم على غيركم بالعمل لاعادة الإسلام دين اللـه وخاتم الرسالات إِلَى الأرض، لترضوُا بذلك ربكم، وتتبعوُاْ فيه نبيكم.

فاهنأوا إخوة الإسلام والدعوة بما أنتم فيه، وكونوُا حقا قوامين على أنفسكم وعلى بعضكم بما تحملون بين جنباتكم مِن مَنهج عظيم، وإرادة جبارة، وصبر وتحمل ينوء بالجبال الراسيات.

لعمري إنها أمانة، فإن تعاهدناها وقمنا بها خير قيام، فعسى ان نكون مِن إخوان الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الذين قَـالَ فيـهـم: «ليتني أرى إخواني وردوُا عليّ الحوض فأستقبلهم بالآنية فيها الشراب فأسقيهم مِن حوضي قبل أن يدخلوُا الجنَّة قَالَوُا»: أوَلسنا إخوانك؟ قَالَ:«لا، بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوُاْ بي ولم يروني، أنا لَهُم بالاشواق».

وعسى أن تكون كتلتكم من الذين قَالَ فيهم رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، إن فِي كل طائفة مِن أمتي قوما شُعْثاً غُبْراً إياي يريدون وإياي يتبعون، ويقيمون كتاب اللـه، أولئك مِني وأنا مِنهم وإن لَمْ يروني». وقوله صلى الله عليه وسلم: «أوحى اللـه إِلَى موسى بن عمران أنّ فِي أمّة محمد لرجالا يقومون على كل شرف وواد ينادون بشهادة أن لا إله إلاّ اللـه، جزاؤهم عَلَىَّ جزاء الأنبياء».

اللهم أنت تعلم اننا مَا قلنا هذا إلاّ تلبية لامرك وما تذاكرنا لقاك إلا خوفا مِنك وما دعوناك إلا رغبة برضاك، فاجعل ذَلِكَ فِي ميزاننا يوم توزن الأعمال، وثبتنا على دينك والعمل برسالة نبيك وحبيبك حَتَّى نلقاك، وأعنا على فتن الدُّنْيَا، ولا تبتلينا فتفضحنا وإن ابتليتنا فثبتنا. والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

الهـوامـش:
(1) رواه البخاري.
(2) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.
(3) أخرجه البيهقي في الشعب.
(4) أخرجه ابن ماجه مـخـتصـراً وابن أبي الدنيا بكماله بإسناد جيد.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك.
(6) أخرجه البيهقي.
(7) أخرجه ابن حبان في الثقات وأبو نعيم في الحلية.
(8) أخرجه ابن أبي الدنيا والحاكم بإسناد جيد.
(9) أخرجه ابن أبي الدنيا مرسلاً وإسناده جيد.
(10) أي لحفر الأنهار.
(11) أخـرجـه ابـن سـعـد عـن مـسـلـم بـن بـشـر وأبو نعيم في الحلية.