الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

الأزمات الاقتصادية ومعالجتها من وجهة نظر الإسلام



أضحت الأزمات الاقتصادية التي تهز العالم من حين لآخر مرضا مزمنا وبالكاد تنتهي أزمة حتى تولد أخرى، و يمكن إرجاع الأزمات الاقتصادية إلى ثلاثة أسباب أساسية تتفرع عنها أزمات أخرى لا تقل عنها خطرا، و هذه الأسباب هي: النقد واختلال الميزان التجاري وسوء توزيع الثروة.

1. النقد

ظهر في القرن الماضي نظام ورقي نقدي إلزامي غير مغطى بالذهب والفضة، تقدر قيمته بالغطاء الاقتصادي المتمثل في السلع و الخدمات واحتياط الذهب و المواد الخام الإستراتيجية وغيرها مما توفره الدولة التي أصدرت تلك العملة. فالدولار الأمريكي على سبيل المثال، له غطاء اقتصادي عن طريق دعمه عالميا من عدة دول اقتصادية عظمى، وهذا بالتالي يعطيه قوة اقتصادية وثقة. وقد تشكل هذا النظام عندما قامت أمريكا بإقصاء الذهب كغطاء نقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية "بروتن وودز" مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم بديلا عنه في بداية السبعينات. في ظل هذا النظام تصبح الدول مهتمة بالتركيز في احتياطاتها على نقد الدول المؤثرة اقتصادياً وسياسياً لحاجتها إليه، ليتأتى لها إيجاد علاقة تجارية، أو علاقة اقتصادية مع الدول، وأي تغير سياسي أو اقتصادي في تلك الدول ينعكس على شكل أزمة في نقد الدول الأخرى وبالتالي اقتصادها. فالدول التي تربط نقدها بالأورو مثلاً تصبح مهتمة بالمحافظة على استقرار الأورو للمحافظة على احتياطاتها، فإذا اشتد طلب الناس على العملة المحلية أدى هذا إلى ارتفاع سعر عملتها بالنسبة للأورو فتقوم هذه الدولة بإنزال كميات من عملتها إلى السوق وتسحب بدلاً منها كميات من الأورو أي تبيع عملتها بالأورو، وإذا حصل العكس وتخلى الناس عن عملتها كما يحصل في المضاربات أي زاد العرض تقوم بسحب هذه الزيادة فتشتري عملتها من السوق بالأورو، أي تنـزل للسوق كمية من الأورو من خزينتها وتعيد لخزينتها عوضاً عنها عملتها. و كمثال على ذلك ما أحدثته الديون اليونانية من اضطراب في أسعار الصرف، حيث فقدت الثقة بالأورو وأصبح الفرنك السويسري ملاذا آمنا لرؤوس الأموال قصيرة الأجل، التي يمكن أن تنتقل من بلد لآخر بحثا عن الربح، وكما هو الحال بالنسبة للنفط والذهب، فان زيادة الطلب على الفرنك السويسري رفع سعر صرفه، مما دفع البنك المركزي السويسري للتدخل عدة مرات خلال الفترة ما بين يناير ويونيو2010 وعلى الأخص خلال الثلاثة أشهر من الربيع الماضي من أجل الحد من ارتفاع سعر صرف الفرنك أمام الأورو، ولقد كلفت هذه الإستراتيجية البنك الوطني السويسري ما يقارب 150 مليار فرنك تم استثمارها بشكل خاص في شراء كميات كبيرة من الأورو. ولذلك فكل دولة تربط نقدها بالأورو أو بالدولار تكون مكلفة بالدفاع عن عملتها هي وكذلك عن الأرورو أو الدولار، وتتحمل الدولة هذا العبء وحدها بدرجة أكبر وأشد من الدولة صاحبة النقد الأجنبي المعتمد.

و بما أن معظم دول العالم تعتمد في مخزونها النقدي من العملة الصعبة على الدولار الورقي، فإن أمريكا تستطيع أن تحدث اضطراباً في اقتصاد العالم بطباعة دولارات زائدة لتغطية مصالحها الخاصة على حساب الدول الأخرى فتجر عليهم أعباء من خزينتهم لإعادة التوازن، أي أن الدول الأخرى تكون ملزمة في تحمل أي عجز في ميزان المدفوعات للولايات المتحدة الأمريكية.

و بالإضافة لتأثير النقد الأجنبي مباشرة على نقد الدولة التي تحتفظ بذاك النقد في مخزونها الاحتياطي فإن نظام الورق الإلزامي معرض للتضخم بين الحين والآخر لأن سياسة الدولة الاقتصادية محلياً وخارجياً هي التي تعطيه القيمة، ولهذا فانخفاض قيمة النقد أي ضعف قوته الشرائية محتمل الحدوث بدرجة كبيرة ولعدة عوامل سياسية واقتصادية: كالديون الأجنبية والعجز في الميزان التجاري الذي يؤدي إلى التضخم، حيث تنهب الدولة موجودات الناس وجهودهم بطبع أوراق نقدية وضخها في السوق. ومعلوم أن التضخم يؤدي إلى غلاء الأسعار وضعف القوة الشرائية وتأثير ذلك على الحياة الاقتصادية شديد الخطورة خاصة إذا استمر على فترات متقاربة.

ولأن النقد لا ينسب إلى وحدة ثابتة متعارف عليها، فيصبح نظام النقد الإلزامي طريقاً إلى المؤامرات والمضاربات بين الدول فهذه تخفض عملتها لزيادة صادراتها فتقوم تلك برفع الفائدة على نقدها بالنسبة لودائع الناس بهذا النقد، لاكتناز الادخار من المواطنين وجذب رؤوس الأموال من الخارج، و هو ما حصل و يحصل الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث قامت هذه الأخيرة بتقويم عملتها مرتين أضعف من سعرها الحقيقي أمام الدولار فيما لو ترك الأمر للعرض والطلب دون تدخل من طرف الدولة، ما دفع أمريكا وأوروبا بالضغط على الصين أثناء لقاء الثماني في الصيف الماضي للحد من تدخلها (أي الصين) في سعر الصرف.

وقد تداخلت تقلبات النقد مع الأعمال التجارية، فإذا رفعت نسبة الفائدة على نقد معين أو تحسن الوضع الاقتصادي لدولة ما انصرف الناس عن الاستثمار التجاري إلى الاستثمار الادخاري للنقد صاحب الفائدة القوية في البنوك. وهذا من أسوأ ما أنتجت النقود الورقية الإلزامية، حيث تركز استثمار الأموال في أسواق وهمية، يتحكم فيها قراصنة المال، وكبار المضاربين، فتنعقد الأسواق على سلع أو خدمات وهمية تمثل أكثر من 90 % من الاقتصاد العالمي، وتجري المضاربات والمزايدات فيها إما بإشارة باليد أو بمكالمة هاتفية، أو عبر فضائيات الإنترنت، وعلى مبالغ ضخمة تقدر بالمليارات. إن الأداة الأساسية التي يعتمد عليها السوق المالي، والتي يتحرك السوق بتحركها ارتفاعا وانخفاضا إنما هو الربا أي الفائدة ويرتبط بها سعر الصرف بين العملات النقدية، كما ترتكز عليها أسعار الأسهم والسندات وباقي المعاملات المالية في سوق البورصات التجارية. وحيث أن هذه الرساميل المستثمرة تشكل مبالغ ضخمة، تقدر بالمليارات، فإن أي تغيير في نسبة الفوائد وبالتالي في سعر الصرف يؤثر تأثيرا كبيرا على المستثمرين ربحا أو خسارة. ولو كان النظام النقدي في العالم مبنيا على قاعدة نظام الذهب، لما تجرّأ أحد على القيام بهذه المضاربات، ولما عقدت هذه الأسواق ابتداء.

وحركة الأسواق هذه تقوم على تشابك بين عدة مؤسسات وتجمعات، تبتدئ بصندوق النقد الدولي، ثم تأتي شركات المصارف الضخمة، والنوادي المالية، هذه المؤسسات يقوم عليها أشخاص ذوو موهبة فذة في التخطيط لنصب الفخاخ، فيكون أحدهم يملك مؤسسة مضاربة كبيرة، وفي نفس الوقت عضوا في نادي مالي، كما يكون مستشارا لأحد المصارف، ويكون له ثقل في المؤتمرات الاقتصادية الدائمة، مثل مؤتمر (دافوس)، كما يكون مستشارا في بعض جوانب صندوق النقد الدولي، مثل هؤلاء يكونون ملمين بأطراف القضايا الاقتصادية، فيعرف أحدهم كيف يدخل الأسواق، وكيف يحركها، وكيف ينهب الأسواق ويخربها. فيفتح هؤلاء النصابون أسواق المال (بورصات) ويقومون بمضاربات أي مزايدات تبتدئ من خط معين (مؤشر) فيرتفع الخط إذا شاءوا رفعه، فتزدهر قطاعات الإنتاج، وتستعر حمى المضاربات، وترتفع مؤشرات البورصات، عندها يضرب هؤلاء النصابون ضربتهم، بعد أن كانت قد تحولت عشرات المليارات من الدولارات إلى حساباتهم، فيعمدون إلى لعبة مشروعة عندهم يفترضون عندها أمراً مباشراً أو غير مباشر، فينخفض سعر الفائدة عند أحد البنوك المعتبرة، أو يجري التخفيض في سعر عملة ما من عملات دول المجال، وفي الغالب يكون ذلك إما بإيعاز من صندوق النقد الدولي وجهازه المتآمر أو بتأثير منه، أو بإيعاز من البنك الفيدرالي الأمريكي، وبالتعاون مع وول ستريت، أي بالتنسيق بين هذه المؤسسات والنوادي المالية، وصناديق الاستثمار. فتهرب المليارات بسرعة ويخلى السوق منها، وتفتح لها أبواب الهرب إلى الخارج، فتنكشف السوق وتقع الكارثة وينتشر صداها حتى يطال كافة القطاعات المالية والإنتاجية، وتتفاقم الأزمة، فتعلن الكثير من الشركات إفلاسها، وتفرغ خزائن ميزانيات الدولة.

2. الأزمات الاقتصادية نتيجة ميزان المدفوعات

يتكون ميزان المدفوعات من جانبين (دائن ومدين) والوضع المستقر أن يتساوى جانبا الميزان، ويبدأ العجز في الميزان عندما لا تكفي الإيرادات لسد قيمة المدفوعات، ويحصل هذا العجز لأسباب كثيرة من اهمها التوسع في الواردات الإنشائية و الترفيهية دون الإنتاجية والفساد الإداري و هروب رؤوس الأموال لعدم الاستقرار السياسي. والعجز يصبح أزمة إذا لم تكف السيولة النقدية للدولة للمعالجة المؤقتة له حتى تستعيد الدولة تنشيط صادراتها وتقليل وارداتها ورسم سياسات وإجراءات لتحسين ميزان المدفوعات. والمقصود بالسيولة النقدية موجودات الدولة الجاهزة لسد العجز منها، وهي احتياطي الدولة من الذهب والقطع الأجنبي وكذلك حصتها المدفوعة ذهباً (الشريحة الذهبية) في صندوق النقد الدولي، حيث يتوجب على كل دولة عضو في الصندوق أن تدفع ربع حصتها ذهباً أو 10٪ مما تمتلك رسمياً من ذهب ودولارات، وهذه التي تسمى بالشريحة الذهبية.

فإذا لم توجد السيولة اللازمة لسد قيمة المدفوعات تسقط الدولة في براثن المؤسسات المالية المقرضة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، الذي يهرع مندوبوه لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي في البلد، ويحضرون معهم قوائم الشروط العلاجية، ليتم على ضوء تنفيذها إسداء القروض، كما يكون هناك العديد من الشركات الضخمة المتعددة الجنسية الرابضة على جوانب الساحة لتلتهم القطاعات العامة، والتي ستتحول إلى قطاعات خاصة، بفعل قوانين الخصخصة، وبموجب اتفاقيات منظمة التجارة الدولية ؛ وتقع الفريسة في مخالب وحوش المال، ويصبح البلد بكل مقدراته نهبا لهؤلاء الناهبين، كما تصبح الدولة مشلولة الحركة، مكبلة الأيدي، كما حصل لليونان مؤخرا، حيث أصبحت مقدرات الدولة اليونانية مطمعا للطامعين ولن ينسى الشعب اليوناني المسكين والمغلوب على أمره الاستغلال الأوروبي الفاحش الذي التهم مقدراتهم وجهود أجيالهم خاصة الشركات الألمانية منهم.

3. سوء توزيع الثروة بين الناس

أما الأزمة الثالثة التي تضرب اقتصاد الدول فهي ناتجة عن سوء توزيع الثروة بين الناس، فقد لا تكون هناك أزمة نقدية ولا حتى أزمة نتيجة ميزان المدفوعات، بمعنى أن الإيرادات تغطي المدفوعات ولكن الإيرادات تذهب لتغطية واردات ونفقات لسد حاجة فئة من الناس دون الآخرين، فمثلاً لو قلنا أن بلداً ما يصدر بترولاً بمبلغ مليون دينار ثم يستورد به قمحاً يكفي حاجة السكان فيكون الميزان التجاري سليماً، وبالتالي ميزان المدفوعات. ولكن لو ذهب هذا القمح فاشتراه عدد من الناس بقدرتهم المالية ولم يقدر على شرائه آخرون فإن أزمة جديدة تنشأ وتكون ناتجة عن عدم توزيع الثروة على الناس أجمعين لتمكينهم من سد حاجاتهم الأساسية فتتسبب في حدوث فقر في الأمة.

وبذلك تكون الأزمات الاقتصادية المتوقع حدوثها والتي تتطلب علاجاً محصورة في ثلاث أزمات مهمة: أزمة ناتجة عن النظام النقدي وأزمة ناتجة عن ميزان المدفوعات وأزمة ثالثة ناتجة عن عدم توزيع الثروة بشكل سليم على الناس، أي ناتجة عن سوء توزيع الثروة.


ومعالجة هذه الأزمات من وجهة نظر الإسلام يكون كالتالي:

1. النظام النقدي الحالي

فللقضاء على الأزمة الناتجة عن النظام النقدي الحالي، لا بد من الرجوع إلى نظام القاعدة الذهبية سواء بالتعامل المباشر بالذهب أو بأوراق نائبة عن الذهب قابلة للتحويل بدون قيد ولا شرط، لأن هذا النظام هو الذي يحفظ الاستقرار ويؤدي إلى الازدهار في النشاط الاقتصادي دون هيمنة لدولة على أخرى، وفيه ينسب النقد لوحدة متعارف على احترامها وتقييمها، وفيه كذلك لا تستطيع الدول زيادة حجم الكتلة النقدية لأن الدول لا تستطيع إصدار أية كمية تشاء من النقد لأنها ملزمة بالرصيد الذهبي وهذا نقيض الأوراق الإلزامية، إذ إن الدول تستطيع وقت الحاجة إصدار الكمية التي تريد من أجل خدمة مصالحها الخاصة، الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى إحداث التضخم النقدي وإضعاف الثقة بالوحدة النقدية.

ولذلك فإنه لمعالجة الأزمات النقدية لا بد من الرجوع إلى القاعدة الذهبية سواء الذهب وحده أو الذهب والفضة. غير أن هذا الرجوع لا يخلو من مشاكل نتيجة للاحتكارات العالمية ولوجود الحواجز الجمركية ولتركز الكمية العظمى من الذهب والفضة في خزائن الدول الكبيرة وخزائن الدول التي زادت طاقتها على الإنتاج وقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها بالعلماء والفنيين والمهندسين، ولاتخاذ نظام النقد الورق الإلزامي بدلاً من نظام الذهب والفضة.

ولتخطي ذلك لا بد للدولة التي تريد العودة للقاعدة الذهبية أن تسير على سياسة الاكتفاء الذاتي فتقلل من استيرادها وتعمل على أن تبادل السلع التي تستوردها بسلع موجودة عندها، كما عليها أن تعمل على بيع السلع الموجودة عندها بسلع تحتاج إليها أو بالذهب والفضة أو بالعملة التي هي في حاجة إليها لاستيراد ما تحتاج إليه من سلع وخدمات.

و دولة الخـلافة القادمة بإذن الله سيكون نقدها ذهبا وفضة لأن الإسلام قد نص على أن يكون الذهب والفضة هما نقدا الدولة لا غير حيث ربط أحكاماً شرعية بالذهب والفضة باعتبارهما نقدين وأثماناً للمبيعات وأجرة للجهود وحدد بهما نصاب الزكاة وأحكام الحدود والديات وبين أحكام الصرف بينهما في المعاملات. لكل هذا فإن نقد الدولة الإسلامية هو الذهب والفضة. و يكون دينار دولة الخلافة من الذهب يساوي 4.25 غرام و أما الدرهم من الفضة فيساوي 2.975 غرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة."

و سوف يكون الانتقال من النقود الإلزامية إلى القاعدة الذهبية أسهل وأيسر عند دولة الخلافة من غيرها، لأن الذهب الموجود في البلدان الإسلامية والمكدس في البنوك والخزائن فيها، فيه كفاية تامة لتمكين دولة الخـلافة من العودة إلى قاعدة الذهب، هذا فضلاً عن أن كميات الفضة الموجودة في البلاد الإسلامية موجودة بكميات كبيرة مما يسهل على دولة الخـلافة العودة إلى قاعدة الذهب والفضة.

وزيادة على ذلك فإن البلاد الإسلامية متوفر لديها جميع المواد الخام التي تلزم الأمة مما يجعلها في غير حاجة إلى سلع غيرها احتياجاً (أساسياً) أو احتياج ضرورة، وبذلك تستغني دولة الخـلافة بسلعها المحلية عن استيراد السلع الخارجية مما سيوفر خروج الذهب إلى الخارج وبقاؤه داخل البلاد.

كما أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً مهمة كالنفط تحتاجها جميع دول العالم وتستطيع دولة الخـلافة أن تبيعها بالذهب أو بسلع هي في حاجة إليها أو بنقود تحتاجها لاستيراد ما يلزمها من سلع وخدمات كما تستطيع أن تمنع بيعها لأية دولة إلا إذا دفعت ثمنها ذهباً مما يجعل احتياطي الدولة من الذهب في ازدياد. وبالرجوع إلى نظام الذهب يعود الاستقرار وتزول الأزمات والهيمنة النقدية لدولة على أخرى.

2. ميزان المدفوعات

أما معالجة الأزمة الناتجة عن ميزان المدفوعات من طرف الدول القائمة حاليا فانه يكون كالآتي: إذا حدث عجز في ميزان المدفوعات، أي عندما تكون الإيرادات لا تكفي لسد المدفوعات، تتخذ الدول الحالية علاجاً مؤقتاً لسد العجز من السيولة النقدية لديها، وتبدأ بسياسات وإجراءات لتنشيط أوضاعها الاقتصادية وتحسين ميزان المدفوعات وذلك برفع سعر الفائدة السوقية كوسيلة لجذب رؤوس الأموال من الخارج، و فرض ضرائب على الواردات لتخفيضها، وتخفيض قيمة العملة لتشجع الصادرات، واستغلال الثروات الطبيعية لتصديرها، و في نقس الوقت تهتم الدولة بإنتاج السلع الأساسية داخل البلاد حتى لا تضطر لاستيرادها من الخارج، وبذلك تكون قد قللت الواردات، وقد تلجأ لطبع أوراق نقدية إضافية كما فعلت أمريكا في أزمة الرهن العقاري، مما بوجد تضخماً أي ارتفاعاً في الأسعار نتيجة لخلل التوازن بين النقد والسلع، وقد تلجأ إلى الاقتراض من الخارج لإعادة التوازن لميزان المدفوعات وهذا هو السم القاتل، حيث تبدأ مرحلة جديدة من الأزمة وهي دخول مصيدة المديونية خاصة بالنسبة للدول التي لا تحسن التصرف في القروض لتشغيلها في مشروعات إنتاجية تدر دخلاً على البلاد، وهذا ما حدث لمعظم الدول النامية أو دول العالم الثالث، فإن هذه الدول قد وجدت أن الاقتراض هو أيسر السبل لمعالجة ميزان المدفوعات لأن الكثير منها لا ينتج ما يسد حاجته الأساسية، وسلعه القابلة للتصدير قليلة جداً إن لم تكن معدومة، وبذلك يجدون أن سد العجز بالقروض هو الممكن بالنسبة لهم، حيث أن الضغط على الواردات لتقليلها سيؤدي إلى ندرة السلع وبالتالي ارتفاع الأسعار وهذا بدوره يؤدي إلى تعطيل الطاقة الإنتاجية فتزيد البطالة وتقف عجلة النمو، وكذلك فإن سد العجز من احتياطياتها النقدية غير ممكن لضآلة حجم احتياطات هذه الدول من الذهب والعملات الأجنبية كما أن استنـزاف الاحتياطات واستخدامها في سد العجز يعرض مستوى هذه الاحتياطات للخطر ويدفع سعر العملة المحلية إلى التردي، فإذا ما أضيف إلى ذلك عدم اهتمام كثير من هذه الدول إلى استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل جدي تكون النتيجة التوجه إلى الاقتراض ومما يضاعف الأزمة أن يصاحب الاقتراض ثلاثة عوامل خطيرة و هي أولا توجيه هذه القروض إلى مشاريع غير إنتاجية بل إنشائية أو تَرفيَّه، وبذلك تكون هذه المشاريع عبئاً جديداً يضيف عجزاً إلى العجز السابق، ثم ثانيا الفساد الإداري من قبل المسئولين الذين ينهبون نسبة كبيرة من القروض والمساعدات الأجنبية فتجد هذه الأموال مرة أخرى طريقها إلى الخارج حيث تعود من حيث أتت و لكن تحت أسماء اللصوص من مسئولي الدولة، و أما ثالثا وهو الأخطر على الإطلاق هو استعمال الدول الكبرى أو صاحبة النفوذ هذه القروض طريقاً لبسط الهيمنة على الدول المدينة فهي ترسم سياسات تشجع هذه الدول على الاقتراض لغايات تخدم مصالحها و تمكنها من بسط نفوذها والإمساك بها وإلى الأبد. فقد ارتفعت ديون البلاد العربية من 13 بليون دولار سنة 1972 إلى أكثر من 200 بليون دولار في نهاية 1986، و ارتفعت نسبة ديون الأردن مقارنة بناتجها المحلي إلى 300٪ في 1988. ولم تنقذ القروض اليونان في بداية هذا القرن بل زادته ثقلا وصل إلى أكثر من 400 مليار أورو.

أما المعالجة الصحيحة لأزمة المديونية في الدول القائمة في بلاد المسلمين اليوم فهي كما يلي: تسديد المديونية دون الفوائد الربوية لأنها حرام: ]وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[. و يكون تسديدها من فائض أموال كل من شارك في الحكم طوال فترة المديونية لأن أخذهم للقروض وإغراق الناس في المديونية يلحق ضرراً بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» والضرر يزال ويتحمل مسؤولية إزالته من تسبب فيه. كما أن مسؤولية الحاكم في الإسلام هي رعاية شؤون الرعية في جميع نواحي الحياة ومنها الاقتصادية «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته»، فلا يجوز لمن يتولى الحكم أن يمارس أي عمل مالي تجاري وليس له سوى تعويضه أي مخصصاته الشهرية، فإذا أثرى خلال ولايته يحاسب على ذلك، والإثراء هو واقع جميع الحكام خلال فترة المديونية. وقد كان عمر رضي الله عنه إذا اشتبه في والٍ أو عامل صادر منه أمواله التي تزيد عن رزقه المقدر له أو قاسمه عليها، وقد كان يحصي أموال الولاة والعمال قبل أن يوليهم وبعد توليتهم فإن وجد عندهم مالاً زائداً أو حصلت عنده شبهة في ذلك صادر أموالهم أو قاسمهم ويضع ما يأخذه منهم في بيت المال. ولا يعتبر هذا تعدياً على ملكيتهم الخاصة لأنهم لم يكسبوها بطريق مشروع، فإن الرجل إذا كان حاكماً وأثرى خلال ولايته ثراءً لافتاً للنظر فإن هذا بينة كافية لمصادرة بعض ماله لأنه يكون قد اكتسبه بطريق غير مشروع أي من غير راتبه، أما غير الحكام من الموظفين فلا يصادر شيء من مالهم إلا إذا ثبت ببينة قضائية أنهم قاموا بالاختلاس أو ما هو في حكمه. ويكون ما يؤخذ من الحكام والموظفين على النحو المبين أعلاه ملكاً لبيت المال تسدد المديونية منه.

كما تحجم الدولة عن أخذ أية قروض جديدة لأن طريق القروض الخارجية للتمويل أخطر طريق على البلاد وكانت في السابق طريقاً للاستعمار المباشر على البلاد وهي اليوم طريق أساسي لبسط النفوذ والتآمر على البلاد. ولذلك فإن الأخطار المترتبة على القروض متحققة فعلاً يضاف إلى ذلك أنها بالربا ولذلك فهي لا تصح شرعاً بحال من الأحوال.

وإلى جانب العمل للتخلص من المديونية تقوم الدولة بتنشيط الاقتصاد، حيث عالج الإسلام هذه المشكلة، وذلك برسم سياسات اقتصادية سليمة في الزراعة والتجارة والصناعة وملحقاتها، وكذلك بفرضه إيجاد المشاريع الضرورية على بيت المال حال الوجود والعدم. أما بالنسبة للزراعة فإن السياسة الزراعية في الإسلام هي أن الأرض وجدت لتنتج، وبأعلى نسبة لإنتاج المواد الغذائية، والمواد اللازمة للكساء كالقطن والصوف والحرير، و يكون ذلك بالقدر الذي يمكن من الاكتفاء الذاتي و يمكن الدولة من التصدير. ولأجل ذلك توزع الأراضي على جيوش العاطلين عن العمل وتساعدهم الدولة على حسن استغلالها. وأما بالنسبة للتجارة فقد حرم الإسلام أخذ ضريبة جمارك من المسلمين والذميين وأباح لهم الاستيراد والتصدير إلا في حالتين: تمنع التجارة مع الدول المحاربة فعلاً وتمنع استيراد أو تصدير أية سلعة فيها ضرر على الأمة. وأما الدول التي بيننا وبينها معاهدات فحسب شروط المعاهدة، وأما الدول المحاربة حكماً كالسويد مثلاً فهؤلاء يحتاجون إلى رخصة استيراد لدخول مالهم. وأما الصناعة فتعمل الدولة على استغلال الثروات الطبيعية في البلاد وتصنيعها والانتفاع بها داخلياً والتصدير خارجياً. كما تركز وبشكل جاد على إيجاد صناعة الآلات حتى يمكننا بواسطة الآلات المصنعة عندنا أن نبني مصانعنا الفرعية لأن عدم إيجاد هذه الصناعة يجعل مصانعنا تحت رحمة الدول الصناعية، فإذا تعطلت آلة أو قطعة غيار يتوقف المصنع حتى نستوردها وفي ذلك ما فيه من إهدار للجهد والوقت والسلعة.

وأما الثاني وهو إيجاد المشاريع الضرورية، فإن الإسلام قد أوجد الحل على النحو التالي:

أن كل ما كان واجباً على بيت المال من رعاية شؤون للناس وفيه مصلحة لهم فهذا مرهون تنفيذه على الموجود في بيت المال، فإن وجد أنفق وإن لم يوجد لا ينفق مثل فتح طريق يوجد غيرها أو بناء مدرسة أو مستشفى يوجد غيرها يفي بالحاجة.

ـ وما كان واجباً على المسلمين مثل فتح طريق لا يوجد غيرها يغني عنها أو بناء مستشفى أو وحدة صحية لا يوجد غيرها أو مدرسة ضرورية وما شاكلها، فإن هذه المشاريع وأمثالها التي يصيب الأمة ضرر من عدم وجودها، تكون واجبة على بيت المال وعلى المسلمين، فإن وجد في بيت المال مال أنفق عليها وإن لم يوجد تفرض بقدرها ضرائب على أغنياء المسلمين وتؤخذ من فضل أموالهم عن حاجاتهم الأساسية والكمالية، أي ما زاد عن عيشهم المعتاد تؤخذ منه وبنسبته بالقدر اللازم للمشروع الواجب، وتكون هذه الأموال قد حصلت بموجب نصوص الكتاب والسنة لأن الإسلام لا يجيز للدولة جباية الضرائب كيف تشاء فإن أخذ أموال الناس بلا دليل حرام وإثمه كبير مثل ضريبة الجمارك على التجار المسلمين وأهل الذمة «لا يدخل الجنة صاحب مكس» أي الذي يجبي ضريبة الجمارك، «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبالكيفية المذكورة سابقاً تكون المديونية قد وجدت حلاً شافياً لها وكذلك تنشيط الاقتصاد وتنفيذ المشاريع العمرانية والإنتاجية الواجبة على الأمة بدون قروض أو مديونية.

3. سوء توزيع الثروة

أما سوء توزيع الثروة فقد أوجد الإسلام له حلاً شافياً بإيجاد فرص عمل نتيجة السياسة الاقتصادية التي ذكرناها في الزراعة والتجارة والصناعة، وكذلك نتيجة إنشاء المشاريع الواجبة على الأمة بالإنفاق عليها من بيت المال وإن لم يكف فمن الضرائب على أغنياء المسلمين وهذا يحتم وجود المشاريع في جميع الحالات، كما ضمن الإسلام إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد في الدولة، وهذه الحاجات هي المأكل والملبس والمسكن المعروف لمثله في مثل بلده طبقاً للنصوص الشرعية الواردة. وقد ضمن الإسلام هذه الحاجات بالكيفية التالية: أولا جعل العمل فرضاً على القادرين من الذكور إذا كان ينقصه شيء من الحاجات الأساسية. كما فرض النفقة للأنثى، وللعاجز من الرجال إذا كان فقيراً سواء كان عاجزاً عن الكسب فعلاً كأن كان غير قادر على العمل أم كان عاجزاً حكماً كأن كان قادراً على العمل ولكن لا يجده. والنفقة المذكورة تحصلها الدولة جبراً ممن فرضت عليه وتعتبر مقدمة على سائر الديون، فحكم النفقة أولاً يحصل ولا تقبل فيه دعوى الإعسار وحكم الدين تقبل فيه دعوى الإعسار. وبذلك يكون جميع رعايا الدولة في الإسلام قد ضمنت حاجاتهم الأساسية المذكورة عن طريق النفقة إلا في حالتين: إن كان ليس له قريب وارث، أو إذا عجز من تجب عليهم النفقة عن النفقة. وفي هذه الحالة تكون النفقة على بيت المال أي على الدولة (من ترك كلاً فإلينا ومن ترك مالاً فلورثته) والكَل الضعيف الذي لا ولد له ولا والد.

وهذه النفقة مستحقة على بيت المال في حال الوجود والعدم لأنها واجبة على بيت المال والمسلمين، أما بيت المال فظاهر، وأما المسلمون (أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى). فتفرض ضرائب إن لم يوجد في بيت المال وإذا خيف يقترض ثم يسدد، ولذلك تسدد حاجة الفقراء في جميع الحالات من النفقة ثم الزكاة ثم بيت المال من الواردات الأخرى ثم من الضرائب على أغنياء المسلمين. والنفقة أو الضرائب تؤخذ عن ظهر غنى أي مما يفضل من الحاجات الأساسية للمكلف وكذلك عن حاجاته الكمالية أي عيشه المعتاد، ثم يؤخذ مما زاد عن ذلك. وبهذه الكيفية تضمن الحاجات الأساسية للرعايا وبالتالي تعالج مشكلة البطالة والفقر.

كذلك فإن الدولة في الإسلام تضمن الحاجات الأساسية للرعية كلها وهي: الأمن، والتطبيب، والتعليم، حسب النصوص الشرعية الواردة في ذلك وبالكيفية السابقة.

ومن الجدير ذكره أن واردات بيت المال في الإسلام هي الفيء كله، والجزية، والخراج، وخمس الركاز، والزكاة، والأموال الخاصة بالدولة، وكذلك ما يأخذه العاشر من المعاهدين والحربيين، والأموال الناتجة عن الملكية العامة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له، ومال الغلول من الحكام وموظفي الدولة ومال الكسب غير المشروع ومال الغرامات ومال المرتدين والضرائب، و غالباً ما تكفي لسد الحاجات المذكورة بدون فرض ضرائب على أغنياء المسلمين لأجلها، إنما وضع الشرع هذه الأحكام معالجة لكل مشكلة تحدث في أي مكان وأي زمان، فإذا حدث ولم تكف واردات بيت المال الدائمية فرضت ضرائب على الأغنياء بقدرها.

مما سبق يتبين كيف عالج الإسلام الأزمات الاقتصادية معالجة تضمن السعادة للناس في حياتهم الدنيا فضلاً عن حياتهم الأخرى، والحمد لله على فضله وإنعامه.

الكاتب: شاكر حليم

القضية المعاصرة


الرأسمالية على طريق الانهدام...!!!




لقد تناقلت وسائل الإعلام بشتى أصنافها ما جرى يوم 15/10/2011 من مظاهرات واحتجاجات شديدة ضد أصحاب رؤوس الأموال والمؤسسات المالية والبورصات، وضد النظام الرأسمالي بمجمله الذي جلب عليهم الفقر والبطالة والهزّات المالية والتفاوت الطبقي الكبير .. والحقيقة أن هذا الحدث الكبير يستحق الوقوف والنظر ووضع الأمور في نصابها الصحيح من حيث دوافع هذه الاحتجاجات وأسبابها ونتائجها المستقبلية ..

إن الناظر في كيفية نشوء النظام الرأسمالي وتشكله يرى انه كان سقيماً في أساسه وفي طريقة معالجاته من أول يوم؛ حيث كان أساسه ردّة فعل غرائزية على الظلم، ثم كان حلاً غير مبنيٍّ على العقل عندما توصل المفكرون ورجال الدين إلى الحلّ الوسط في بناء النظام الجديد، (فالحلّ الوسط) ليس حلاً مبنياً على عقل سليم، لأنه توسط بين أمرين متناقضين متنافرين متباعدين!!..


لقد كان من أبرز هذه النظم النظام الاقتصادي الذي يهدف إلى تكثير رأس المال في المجتمع بأية وسيلة دون انضباطٍ بأخلاق ولا قيم، وفي نفس الوقت ينظر إلى توزيع الثروة في المجتمع عن طريق أداةٍ وحيدة هي (جهاز الثمن) .. وهذا الأمر ولّد أموراً كثيرة في المجتمع جلبت الدمار والخراب في داخل المجتمعات الرأسمالية وخارجها. حيث كانت الشركات العملاقة والبنوك التي تنهب ثروات الناس تحت عنوان حرية التملك وتنميه والانتفاع بالملك، وكان التفاوت الطبقي الكبير نتيجة سيطرة الأغنياء على الثروات فأصبح نسبة 1-2% في المجتمعات الرأسمالية يسيطرون على أكثر من 98 % من ثروة المجتمع، و 2% من الطبقة الباقية من الثروات توزّع على 98% من باقي الشعب، أما في سياسة الدول الخارجية فكان الاستعمار وكانت الحروب، وكان مص دماء الشعوب الضعيفة، وانتشرت فوق ذلك الجرائم والأمراض الفتاكة كالإيدز نتيجة ارتباط عقول الناس بالمنافع والأموال وعدم ارتباطهم بالقيم والأخلاق، فأصبح مرض الإيدز ينتشر بالملايين في مجتمعات الغرب، وأصبحت الجريمة تقاس بالثانية الواحدة في أرقى عواصم الغرب في نيويورك وغيرها ..

لذلك نشأت المشاكل والأزمات في النظام الرأسمالي منذ نشأته وتكوّنه، وصارت تكبر وتزداد مع امتداد هذا النظام وتوسّعه، فكان من مظاهر هذه الأزمات -في أوائل النشوء في القرن التاسع عشر- أزمة الأجور وساعات العمل في أمريكا حيث استمرت إضرابات العمال فترةً طويلة حتى توصّلوا بعدها إلى حلّ وسط في تحديد الأجور وساعات العمل .. وكان بعد ذلك أزمة الكساد العظيم في بدايات القرن العشرين سنة 29، وكانت أزمة الحروب الطاحنة للسيطرة على الأسواق ورؤوس الأموال فكانت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي حصدت أكثر من 20 مليون إنسان، ثم كانت أزمات الصراع الدولي الساخن والبارد بين الدول العظمى، وتسابق التسلح من أجل الردع وإنفاق المليارات على ذلك، وتخلّل هذه المرحلة الاستعمارُ العسكريّ لكثير من بلاد العالم من أجل رؤوس الأموال، ثم حصلت الأزمة الحالية في بدايات القرن الواحد والعشرين حيث بدأت بأزمة الرهن العقاري، وامتدت كالنار في الهشيم حيث جلبت على العالم الدمار الاقتصادي وخسارات تقدر بأكثر من 60 تريليون دولار حتى سنة 2011 ، عدا عن انهيارات في مؤسسات مالية كبيرة، وازدياد عدد الفقراء وازدياد عدد المهددين بالموت جوعاً، وما زالت الأزمة تضرب هنا وهناك وتنفلت نارها هنا وهناك، ويحاول قادة الغرب إطفاءها والسيطرة عليها لكن دون جدوى!! ..

إن امتداد هذه الأحداث -الحاصلة اليوم على شكل مظاهرات واحتجاجات- تعود جذوره إلى بداية نشوء الرأسمالية، وإلى طبيعة نظامها السقيم، وليست مجرّد احتجاج على ناحية واحدة فقط، وقد ظهر هذا الأمر في كثير من كلام المحتجّين، والحقيقة أن الاحتجاجات ليست الأولى ضد النظام الرأسمالي ومظاهره في الحياة العملية، ولكنها الأولى بهذا الزخم وبهذه الطريقة في الاحتجاج في رفض النظام الرأسمالي من أساسه؛ فقد كانت تجري احتجاجات سابقاً في مناسبات عديدة وخاصة عندما تنعقد القمم للدول العشرين أو الدول الثماني أو قمة دافوس، فكانت تقوم على المناداة لمحاربة البطالة وتحسين الأوضاع والعمل على علاج مسألة النقد العالمي، والمناداة لمحاربة المجاعات والفقر، أما هذه المرة فكانت مميزة في أنها ضد النظام الرأسمالي ابتداءً!!.

فهذه الأحداث في أوروبا وأمريكا لم تأت من ردة فعل أيام أو أشهر إنما هي امتدادٌ لسنوات طويلة من رؤية الفساد ومعايشته، وامتدادٌ للمعاناة الطويلة والفساد، وهي تنظر إلى الخلاص؛ لذلك كان التعبير صريحاً بالانعتاق من الرأسمالية، والأمر ربما لا يبعد كثيراً عمّا جرى في الاتحاد السوفيتي السابق وانحلال منظومته، وانحلال حلف وارسو ولكن بطريقة مختلفة قليلاً من حيث أن الثورة قد ظهرت مرةً واحدة في روسيا بعد أن وصل الأمر إلى حدّ الانفجار .. فكانت النتيجة أن انهار النظام الاشتراكي نهائياً، وذهب إلى غير رجعة، وتحول كثيرٌ من دوله إلى النظام الرأسمالي، وانضموا إلى منظوماته السياسية كما جرى في دول البلطيق عندما انضمت إلى الاتحاد الأوروبي .. فهل تملك الدول الرأسمالية حلولاً شافية لهذه المشاكل، فتخمدَ هذه النيران المشتعلة؟؟، والحقيقة أن المبدأ الرأسمالي لا يملك أي حلٍّ لمثل هذه الأمور، وليس عنده أيُّ أحكامٍ تتعلق بمعالجة الأزمات الاقتصادية سوى التخلي عن مزيد من مبادئه وأفكاره، وبعبارة مختصرة ( المبدأ الرأسمالي مبدأ عقيم ) لا يستطيع معالجة الأزمات .



فعندما اشتعلت أزمة الكساد الكبير سنة 1929 كان الحلّ الأمريكي لهذه الأزمة هو تصديرها إلى الخارج عن طريق إيجاد المبرّرات للاشتراك ودخول العالمية الثانية، وتحاول أمريكا عن طريق سياسة التحكّم النقدي وهيمنة الدولار تحميل العالم أعباء الأزمة الأخيرة وتصديرها لإخماد نارها ولكن دون جدوى لأن حجم الأزمة كبير، والعالم كله يعاني من تبعاتها وآثارها المدمرة، ..

ومحصلة الأمر أن حجم الأزمة وامتدادها العالمي لا يمكن معالجته في ظلّ الأوضاع الدولية الحالية، وإنما سوف يزداد الأمر اتساعاً يوماً بعد يوم حتى يقف العالم أمام الحقيقة وهي: (حتمية التخلي عن هذا النظام)!! ..

والسؤال الذي يرد هنا هو ما هو مستقبل أمريكا وأوروبا بعد سنوات؟؟ فمن يتابع الأحداث فإنه يدرك يقيناً أن مستقبل أمريكا وكذلك أوروبا هو التخلّي عن كثير من أفكار النظام الرأسمالي كلما اشتدت الأزمات والأحداث في داخلها، وبالتالي التخلّي شيئا فشيئا عن النظام الرأسمالي المالي برمته!!..

ففي المستقبل القريب ستجد الدول الرأسمالية نفسها في مواجهة الجماهير الصاخبة المطالبة بالعدالة في الانتفاع من الأموال والثروات، وسيجد الرأسماليون الكبار أنفسهم وجهاً لوجه مع هذه الجموع الثائرة المتزايدة في كل يوم، وهذا بالتالي سيؤدي حتماً إلى موضوع آخر وهو إحجام المواطنين عن دفع الضرائب للدولة، وذلك بسبب عدم الثقة بينهم وبين الدولة، وهناك أمر ثالث أخطر من هذا وذاك ربما يحصل في الولايات المتحدة بالتحديد- وقد بدت بعض مظاهره تطفو على السطح في ظل الأزمة الأخيرة_ وهو: مطالبة الولايات الغنية بالانفصال عن الولايات الفقيرة بسبب عمق الأزمة، واتساع دائرة الاحتجاجات ضد الدولة؛ وهذا معناه تفكّك منظومة الولايات المتحدة تماماً كما حصل مع الاتحاد السوفيتي السابق، ومن ثم التخلي نهائياً عن هذا المبدأ!! .

وما سيحصل في أمريكا سيحصل في أوروبا ولكن بطريقة أخرى؛ ألا وهي انتهاء عقد الاتحاد الأوروبي عندما تجد الشعوب نفسها تتحمل أوزار الدول المتعثرة- مثل اليونان_ فوق تحمّلها لعثرات الرأسماليين داخل حدودها، وبالتالي فإن منظومة اليورو لن تصمد طويلاً ولن يبقى عند ألمانيا وفرنسا وهولندا النفس الطويل في مواجهة شعوبها الثائرة بسبب تحمّلها لأعباء الدول المتعثرة، -حيث بدأت بوادر هذا الأمر تظهر في ظل الأزمة الأخيرة في الاتحاد الأوروبي- وهذا سيكون ضربةً للاتحاد الأوروبي تؤدي إلى تفككه وانهياره ..

إلا أن الخطر الكبير على العالم سيكون في انهيار أمريكا وتفككها؛ لأن أمريكا هي رأس العالم ورأس الغرب اقتصادياً ومبدئياً، وأيُّ انهيارٍ يحصل فيها سيكون بمثابة البركان أو الزلزال الذي يهزّ الكرة الأرضية برمتها، وسيضع العالم أجمع أمام الحقيقة وهي البحث عن مخلّصٍ مبدئيٍّ جديد يخلص العالم من هذا الدمار والخراب والشرّ المستطير ..

وفي هذا مبشرٌ عظيم- بإذنه تعالى- لأمة الإسلام في عودتها وعودة مبدئها لينقذ البشرية مرةً أخرى مما هي فيه من دمارٍ وضياع..

نسأله تعالى أن يسبق هذا الحدث أو يتزامن معه قيامُ دولة الإسلام التي تحمل مشعل الهداية لهذه البشرية التائهة .

بقلم: حمد طبيب

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

الفضائيات ومحاولة حرف الثورات عن مطلب الإسلام



ليس غريباً أن يُطلق مصطلح السلطة الرابعة على وسائل الإعلام المختلفة ومنها الفضائيات التي ما بقي بيت أو يكاد إلا ودخلته، وهذا الإطلاق إنما هو لبيان مدى التأثير الذي تحدثه وسائل الإعلام على الناس في مختلف الجوانب، الاقتصادية منها والفكرية والمشاعرية...
لا بد من القول بأن الفضائيات ليس لها تأثير فعلي بمفهوم السلطة التنفيذية للدولة، أي أنها لا تقوم بالفعل نفسه بصورة مباشرة، ولكنها يمكن أن تحول المشاهد إلى أداة فاعلة عن طريق التحريض لأمر ما، أو إعطاء تصور مسبق عن حدث ما. فالفضائيات لديها القدرة للتحريض وتوجيه وإنجاح العديد من التغييرات السياسية وإشعال الثورات والتوترات السياسية أو حتى تحريض جهة ما ضد جهة أخرى وإشعال الفتن والحروب الطائفية أو العرقية في العديد من دول العالم. كما أنها أي الفضائيات تستطيع من خلال الضغط السياسي المساهمة بشكل فاعل في تغيير الأنظمة وإحلال أنظمة أخرى محلها، حيث إن تأثير وتدخل ونفوذ تلك الفضائيات بل ووسائل الإعلام المختلفة الأخرى في الشؤون الداخلية للدول لا تقف أمامها حدود أو اتفاقيات أو حتى التزامات دولية ولا مواثيق ولا قوانين أو ما شابه ذلك.
بدون هذه السلطة (الإعلام ومنه الفضائيات) لم يكن من الممكن إنجاح التغييرات التي حدثت في المعسكر الاشتراكي والإسراع بإسقاط الأنظمة البوليسية هناك، فلم تكن هناك حاجة مع هذا التدخل الإعلامي لأي تدخل عسكري من قبل جيوش حلف الناتو.
وكم من الحكومات سقطت من خلال ما سُمي بالثورات البيضاء بتأثير من الإعلام فقط. ولا أدل على ذلك مما حصل في الثورة الإيرانية ودور الإعلام الهائل في إنجاح التغيير السياسي في إيران وإسقاط سلطة الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية فيها.

إن سيطرة الدول المتنفذة على الكثير من الفضائيات والعمل على توجيهها لما يخدم مصالحهم جعل من هذه الفضائيات جهاز حرب يستخدم في العمل الدعائي للترويج لأفكار ما، كاستخدام الإعلام الغربي في إسقاط أو الإسراع بإسقاط العديد من دول المنظومة الاشتراكية دون مشاركة القوى العسكرية لحلف الناتو، مع أن المشرفين ومن لهم السيطرة الفاعلة على الإعلام الغربي يرفضون هذا الاتهام ولا يعترفون به ويقولون إنهم إنما روجوا لأفكار هم يؤمنون بها، وإنهم واثقون من صحتها كالديمقراطية وحرية الرأي والانتخاب والحريات العامة.
إن الدول والأنظمة التي تملك السيادة الفعلية يمكن أن توجه مثل هذه السلطة (سلطة الإعلام) الوجهة الصحيحة وتحقق بالتالي الفائدة المرجوة منها، ولكن لو نظرنا من حولنا لوجدنا أن هذا لا يوجد في الواقع سوى في بعض الدول في العالم التي تملك أمرها بل وتملك أمر غيرها مثل الدول العظمى التي باتت تسيطر على كل شيء حتى على أذهان وأذواق الشعوب المستضعفة ومنها دول الشرق الأوسط.

وبما أن هذا هو حالنا وتأثير الإعلام فينا، فلا بد إذًا من أن يكون كل ما يبث من إعلام على أمم هذه المنطقة لا بد وأن يكون قد دُبِّر أو مرَّ على شريط المراقب، وهو الدولة السيدة التي تملك النفوذ في تلك البلاد، وعليه لا يمكن التصديق بكل ما يُعرض، كيف لا والمشاهد لا يرى أو يسمع إلا ما يريده صاحب النفوذ والصلاحية والسلطة، ويدلل على هذا القول ما يحدث الآن في منطقة الشرق الأوسط من ثورات.
إن المتتبع لهذه الثورات من على شاشات الفضائيات يرى بأنها إنما تريد فقط إسقاط النظام أو الحاكم وأقصد شخص الحاكم، بل وإنها تطالب بعد ذلك بتطبيق الديمقراطية والحريات، وإن من يموت منهم إنما قدم روحه رخيصة من أجل أن يعيش غيره من الأجيال في ظل تلك الديمقراطيات والحريات والتعدديات السياسية والتي تجمع أصحاب التوجه الإسلامي مع غيرهم من نصارى وعلمانيين وغيرهم.
تظهر تلك الفضائيات أن الدوافع الحقيقية لهذه الثورات إنما هي الجوع والقهر وقلة العمل ولقمة العيش، فتراها إذا ما نزلت إلى الشارع لا تقابل الا تلك الشريحة من المجتمع التي ترفع تلك الشعارات العلمانية، ولا تبث شيئاً عن تلك الثورات الا ما ترغب في بثه عنها وهو ما يعطي انطباعاً عند جميع المشاهدين بأن الحقيقة هي تلك التي تُروجها وسائل الإعلام.
فهم يُعدون التقارير تلو التقارير عن تلك الثورات ويجرون اللقاءات المباشرة مع شريحة من الشرائح التي يعلمون توجهها سلفاً حتى يصب ذلك كله في تحقيق هدف الأسياد المسيطرين على تلك الفضائيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل حقاً أن جميع الشعوب تهدف إلى إسقاط -أو قل استبدال- الأنظمة الموجودة لتأتي بأختها ولكن بزي آخر وشكل متجدد؟ أم أن هناك مطالب أخرى لا تبرزها تلك الفضائيات سوى ما يظهر رغماً عنها ولا يمكن تفاديه وتمر عليها مرور الكرام ولا تعود إليه ثانية؟.
في الحقيقة أن الواقع ليس كذلك أبداً، فتلك الفضائيات إنما تضخم ما تريد تضخيمه وتقلل من شأن ما تريد تقزيمه، بل وتتجاهل بالمطلق كل ما لا تريد أن يُعلم أنه قد حدث.
كيف لا وأن نبض الشارع اليوم يرنو نحو الإسلام، وأن الثائرين إنما يتوقون ليروا الإسلام مطبقاً في واقع حياتهم.
ألم يُشاهد الجميع صور الثائرين في تونس ومصر وليبيا واليمن وهم يؤدون الصلوات في أوقاتها ويتضرعون ويتوجهون إلى الله الجبار المنتقم أن يخلصهم من طواغيتهم، فهذه المشاهد ما كان للفضائيات أن تزيلها حال إعدادها للتقارير أو بث الأخبار.
أما الأحداث العظيمة والتي تنادي بعودة الإسلام ليطبق في الواقع فبالرغم من عظمتها وضخامة بعضها، إلا أنهم لم يأتوا على مجرد ذكرها.
فهل لا تعلم الفضائيات مثلًا عن المؤتمر الذي عُقد في إندونيسيا تحت عنوان «معاً لاستئناف الحياة الإسلامية في دولة الخلافة» والتي أقامته حاملات الدعوة هناك بتاريخ 21/4/2010م؟ وهل جهلت الفضائيات المؤتمر الكبير الذي دوّى تأثيره أصداء المعمورة حيث ارتفعت حناجر عشرات الألوف مدوية بالمطالبة بعودة الخلافة بتاريخ 12/آب/2007م؟ وأين الفضائيات من مؤتمر علماء المسلمين الذي انعقد بتاريخ 21/7/2009م وكان من الضخامة بمكان بحيث ضم علماء من مختلف البلاد الإسلامية في العالم عربها وعجمها ولكن لم تأت الفضائيات على ذكره.

تلك أمثلة من أحداث سبقت، أما الأحداث الحالية وأخبار الثورات اليوم فليس كل ما يحدث في الواقع يعرض على شاشات الفضائيات، ومثال ذلك قناة الجزيرة مثلاً والتي يصلها بعض التسجيلات من داخل الحدث ويقوم بتسجيلها الناس والمشاركون ثم تقوم هي بعرض بعضها بالصوت والصورة والبعض الآخر بالصورة دون الصوت، والسبب في ذلك أن الصوت في تلك التسجيلات يُكذب ما تروج إليه تلك الفضائيات من مطالب الناس الحقيقية، ففي حمص مثلاً وفي تسجيل شاهدته وسمعته على إحدى المنتديات طالبوا بعودة الخلافة الإسلامية حلاً لمشاكلهم وكانت تلك في مسيرة ليلية، ولم تأت الجزيرة والتي تعودت على نقل مثل هذه التسجيلات على ذكره. وفي ثورة تونس لم تظهر الفضائيات أي مطلب إسلامي على الإطلاق مع أننا سمعنا ومن مواقع مختلفة بعض تلك المطالب من مثل «لا مفر لا مفر، الخلافة هي الحل» وفي غيرها من البلاد التي تشهد الثورات الآن والتي يوجد فيها من يقول بأن لا بد للإسلام من عودة والحل لهذه المعضلات لا يكون إلا بتطبيق الإسلام، وغيرها الكثير الكثير.

نعم، لم تُظهر الفضائيات مثل ذلك استجابة لما تأمر به القوى المتسلطة، فالخوف من الإسلام السياسي الفاعل والمؤثر يؤدي بهؤلاء وأسيادهم إلى عدم التطرق إليه خشية من انتشاره.
هناك تصريحات أدلى بها كبار الساسة في العالم من أمثال هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية حذرت فيها بتاريخ 13/1/2011م الأنظمة العربية من السقوط في براثن السياسات الراكدة وخوَّفتها من خطر الزحف الإسلامي القادم لاجتياحها فقالت: «إن الذين يتمسكون بالوضع الراهن كما هو قد يتمكنون من الصمود أمام مجمل مشاكل بلدانهم لفترة قصيرة ولكن ليس للأبد، وأن آخرين سيملؤون إذا ما فشل القادة في إعطاء رؤية إيجابية للشباب وسبل حقيقية للمشاركة». وحذَّرت كلينتون قادة الدول العربية: «من التطرف الذي يمكن أن يملأ الفراغ». وللخروج من مأزق الركود والجمود دعت كلينتون في منتدى المستقبل في الدوحة إلى إشراك القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في صناعة القرار، ووصفت المؤسسات القائمة في الدول العربية بأنها فاسدة وسياساتها بأنها راكدة. ودعت الحكام العرب «لمكافحة الفساد وضخ حياة جديدة في أنظمتهم السياسية الراكدة وإلا جازفوا بخسارة المستقبل لصالح المتشددين الإسلاميين» على حد قولها.

ولقد تزامنت تلك التصريحات التحذيرية مع سقوط طاغية تونس زين العابدين بن علي من الحكم وفراره خارج البلاد، وهو ما يشير إلى خوف كلينتون على الحكام العرب من السقوط واجتياح الإسلاميين للسلطة في الدول العربية.
لكن تركيبة الأنظمة العربية الحاكمة لا تؤهلها للسير في مشاريع الإصلاح، خاصة بعد ما ثبت عجزها عن التغيير وإيجاد الحلول الجذرية للمشاكل المتفاقمة فيها. فهذه الأنظمة قد انتهى دورها وانتهى مفعولها وهي أنظمة من المؤكد أنها سوف تسقط قريباً ولن تجدي نصائح كلينتون لها نفعاً بالبقاء.
إن تخوف الأسياد من الإسلام السياسي الفاعل أدى بعملائهم إلى تغييب دوره وما يصدر عنه في الواقع، وإبراز دور الأشخاص المنادين بالديمقراطية والعلمانية والحرية.
وللإنصاف فإنهم يظهرون بعض المطالب لبعض الإسلاميين أفراداً وحركات، ولكن هؤلاء ممن ترضى عنهم دول الغرب تحت ذريعة أنهم ينتمون إلى ما يُسمى بالإسلام المعتدل.
من كل ما تقدم نخلص إلى أن الفضائيات تعمل جاهدة على التدخل في الثورات الحاصلة الآن، تعمل لتوجيهها نحو الهدف الذي يريده الغرب المتسلط على وسائل الإعلام المختلفة ومنها الفضائيات، وبالتالي فإنها تعمل وبكل جد على حرف هذه الثورات عن المطلب الأساس ألا وهو الإسلام، الإسلام الحق وليس إسلام مشايخ هذا الزمان، الإسلام الذي يريده رب العالمين، وليس الإسلام الذي تريده الدول المستعمرة التي صنفت الإسلام بالمعتدل والإرهابي وغيره من التصنيفات التعسفية.

بقلم عماد أبو توفيق

ما الفرق بين الخلافة والملك؟



ما الفرق بين الخلافة والملك؟ سؤال شغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبينما هو في مجمع من الصحابة سأل سلمان رضي الله عنه: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فاستعبر (بكى) عمر. ذكره ابن سعد في طبقاته.
وعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، قال قائل: يا أمير المؤمنين ! إن بينهما فرقاً، قال ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك. والملك يعسف (يظلم) الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر. ذكره ابن سعد في طبقاته.

وعن رجل من بني أسد أنه شهد عمر بن الخطاب سأل أصحابه وفيهم طلحة وسلمان والزبير وكعب فقال: إني سائلكم عن شيء فإياكم أن تكذبوني فتهلكوني وتهلكوا أنفسكم، أنشدكم بالله! أخليفة أنا أم ملك؟ فقال طلحة والزبير: إنك لتسألنا عن أمر ما نعرفه، ما ندري ما الخليفة من الملك، فقال سلمان يشهد بلحمه ودمه: إنك خليفة ولست بملك، فقال عمر إن تقل فقد كنت تدخل فتجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال سلمان: وذلك أنك تعدل في الرعية وتقسم بينهم بالسوية وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله وتقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري ولكن الله ملأ سلمان حكماً وعلماً.

وقد مايز بن خلدون بين الخلافة والملك في كتابه المقدمة ممايزة من دخل السياسة وعاش أحوالها وأهوالها وانقطع في آخر حياته للكتابة والتأليف حيث قال «لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر، اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته» مقدمة ابن خلدون ص 177

والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسية الدنيا به» مقدمة ابن خلدون ص 178

الخميس، 6 أكتوبر 2011

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (7)


بسم الله الرحمن الرحيم

الصيدلة والصناعة الطبية
الصَّيْدَلَةُ لَفْظٌ فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ يَدُلُّ في الأصلِ على بيعِ العِطْرِ، واصطلاحًا يَدُلُّ على العلمِ الذي يختصُّ بتركيبِ وصرفِ الأدويةِ العلاجيةِ، والصَّيْدَلَةُ تربطُ علومَ الصحةِ بعلومِ الكيمياءِ، وهيَ تُعْنَى بسلامةِ ونجاعةِ الأدويةِ.
والصيدلةُ كالتطبيبِ خدمةٌ صحيةٌ يجوزُ للفردِ أنْ يَعْرِضَها للناسِ بشكلٍ خاصٍّ، كأنْ يقومَ بفتحِ صيدليةٍ ويصرفَ الدواءَ، أوْ يُنْشِئَ مصنعًا للدواءِ بقصدِ الربحِ. إلا أَنَّ كَوْنَ الصيدلةِ قدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ إنْ لمْ يَكُنِ المتعاطي لها منْ أهلِ العلمِ بفنونِها يجعلُها كالتطبيبِ بحاجةٍ إلى ترخيصٍ مِنَ الدولةِ لممارسَتِها، وذلكَ مَنْعًا للضررِ المترتبِ على مباشرةِ الجاهلِ لصُنْعِ الدواءِ وَصَرْفِهِ، وَفْقَ القاعدةِ «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وَمَنْ باشَرَ أعمالَ الصيدلةِ أوْ صَرَفَ دواءً دونَ إذنٍ وترخيصٍ فَأَضَرَّ بمريضٍ ضَمِنَ مقدارَ ضررِهِ وجنايتِهِ، وعوقِبَ تَعْزِيرًا مِنْ قِبَلِ الدولةِ سواءَ أَوَقَعَ الضررُ بالمريضِ أمْ لمْ يَقَعْ.

وفوقَ ذلكَ فإنَّ على الدولةِ أنْ تُشْرِفَ على صُنْعِ الدواءِ وإنتاجِهِ مباشرَةً، لِما أخرجَهُ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ: «صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ»، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّوَاءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ»، وَأَخرجَ البيهقيُّ وأَبو داودَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِى دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهَا»، صحَّحَهُ الألبانيُّ. ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يَدُّلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النَّهْيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تمنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ.

وعملاً بالأدلَّةِ القاضيَةِ بأنَّ التطبيبَ واجبٌ على الدولةِ مجانًا لرعيتِها، وكَوْنَ الإمامِ راعيًا وهوَ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ، فإنَّ الدولةَ تُوَفِّرُ الدواءَ للمرضى، إما بشرائِهِ مِنْ مصانِعِ الدواءِ وشركاتِهِ في الدولةِ أوْ في الخارِجِ، وإمَّا بإنشاءِ مصانعَ للدواءِ تملِكُها الدولةُ وتنتجُ الأدويةَ المطلوبةَ. وتُشَكَّلُ لجنةٌ مِنَ الأطباءِ والصيادلةِ تُحَدِّدُ الأدويةَ التي على الدولةِ أنْ تُوَفِّرَهَا مجانًا، وهيَ الأدويةُ التي يُسَبِّبُ عدمُ توفيرِها للمريضِ ضررًا بصحتِهِ، دونَ الأدويةِ والمستحضراتِ الكماليةِ. كمَا تُحدِّدُ هذهِ اللجنةُ الأدويةَ التي لا تُصْرَفُ إلا بِوصفَةٍ منَ الطبيبِ، والأدويةَ التي يستطيعُ الصيدليُّ صَرْفَها دونَ وصفةٍ منَ الطبيبِ، وكلُّ هذا منْ رعايَةِ الإمامِ لرعيتِهِ وهيَ واجبةٌ عليهِ.

ولأنَّ الدواءَ حاجةٌ حيويةٌ قدْ يُؤَدِّي نقصُها أوْ فقدانُها إلى ضررٍ على الفردِ والجماعةِ، فإنَّ الدولةَ تبذلُ قُصارَى جهدِها في تحقيقِ الاكتفاءِ الذاتيِّ في صُنْعِ الدواءِ، حتى لا تحتاجَ إلى استيرادِ الدواءِ وبالتالي تتعرضُ لابتزازِ الدولِ الكافرةِ أوْ ضغوطِها السياسيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. وإذا استوردَ الأفرادُ أوِ الدولةُ الدواءَ منْ دولٍ أخرى فلا بُدَّ أنْ يُخْضَعَ الدواءُ المستوردُ للفحوصِ والتحليلِ على يَدِ الصيادلةِ والكيميائيينَ في الدولةِ الإسلاميةِ قَبْلَ أنْ يُصْدَرَ ترخيصٌ منْ مصلحةِ الصحةِ بجوازِ استيرادِهِ، خصوصًا وأنَّ شركاتِ الأدويةِ العالميةِ لمْ تتورعْ في السابقِ عنْ بيعِ شحناتٍ منَ الدواءِ الفاسدِ للمسلمينَ، كشحناتِ الدمِ المُلَوَّثِ بالإيدز، الذي ارسلتهُ شركاتُ الأدويةِ الفرنسيةِ مطلعَ ثمانيناتِ القرنِ الماضي إلى العراقِ وليبيا وتونسَ والجزائرِ. وصحيحٌ أنَّ دليلَ البيعِ والتجارةِ عامٌّ لقولِهِ سبحانه وتعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة 275]، إلا أنَّ القاعدةَ الشرعيةَ تقضِي بأنَّ الشيءَ المباحَ إذا كانَ فردٌ منْ أفرادِهِ يُؤَدِّي إلى ضررٍ، يُمْنَعُ ذلكَ الفردُ ويبقى ذلكَ الشيءُ مباحًا، وهذهِ القاعدةُ اسْتُنْبِطَتْ منْ منعِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجيشَ أنْ يشربَ منْ بئرِ ثمودَ وهوَ في طريقهِ إلى تبوكَ، ذَكَرَهُ ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ وَقالَ عنهُ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ إِنَّهُ مُرْسَلٌ صحيحُ الإسنادِ.

ونشيرُ هنا إلى أَنَّ المصانعَ في الدولةِ الإسلاميةِ ومنْها مصانعُ الدواءِ تقومُ على أساسِ الصناعةِ الحربيةِ، ولذلكَ تكونُ مصانعُ الدواءِ (سواءً التابعةُ للأفرادِ أمْ الدولةِ) مُعَدَّةً وقابلةً دائمًا لمتطلبات الصناعة الحربية والمُضَادَاتِ الحيويةِ والتطعيماتِ ضِدَّ الأسلحةِ البيولوجيةِ على أوسعِ نطاقٍ مُمْكِنٍ وفي أسرعِ وقتٍ.
الْكَوَارِثُ وَالْحَالاَتُ الاسْتِثْنَائِيَّةُ

تعتبرُ الكوارثُ الطبيعيةُ مِنْ براكينَ وزلازلَ وأعاصيرَ وفيضاناتٍ، والكوارثُ الحربيةُ مِنَ الهجومِ بأسلحةِ الدَّمَارِ الشاملِ مِنْ أسلحةٍ بيولوجيةٍ وكيماويةٍ ونوويةٍ، حالاتٍ استثنائيةٍ تَتَطَلَّبُ التحضيرَ والتهيئةَ المُسْبَقَةَ لمحاولةِ منعِها والتقليلِ منْ تأثيرِها أوِ للتعامُلِ معَ آثارِها بسُرعةٍ وفعاليَّةٍ.

ومنْ مُنطلقِ رعايةِ الشؤونِ الواجبةِ على الخليفةِ تجاهَ رعيتهِ كما روى الإمامُ مسلمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ: "الأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، ومنعًا أوْ إِزالةً للضررِ المُتَرَتِّبِ على مثلِ هذهِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ، لما رواهُ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ بسندٍ صحيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ (رضي الله عنه): "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَضَى أَنْ لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وإغاثَةً للمنكوبينَ والملهوفينَ ممنِ ابْتُلُوا بهذهِ الكوارثِ منَ الرعيةِ حيثُ روى الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ بإسنادٍ جيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، فَإِنَّ الدولةَ الإسلاميةَ مسؤولةٌ عَنِ الإعدادِ الوقائيِّ ضِدَّ هذهِ الكوارثِ، وعنِ التهيئةِ المسبقةِ لمواجهةِ هذهِ الكوارثِ حالَ وقوعِها، وعنْ إعادةِ بناءِ ودعمِ المناطِقِ المنكوبةِ بعدَ الكوارثِ.

غيرَ أنَّ كَوْنَ الدولةِ الإسلاميةِ هيَ المسؤولُ الأولُ عنْ علاجِ آثارِ مثلِ هذهِ الكوارثِ لا يعني أنَّ المسلمينَ كأفرادٍ مُعْفَوْنَ مِنَ المساعدةِ والمساهمةِ في جهودِ التَّصَدِّي للكوارثِ، لأنَّ أدلةَ إزالةِ الضَّرَرِ وأدلَةَ وجوبِ إغاثَةِ الملهوفِ والمُصَابِ أدلةٌ عامَّةٌ، تشملُ الدولةَ والأفرادِ، كقولِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»، رواهُ أبو داودَ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، أَخْرَجَهُ الطبرانيُّ في الكبيرِ وقالَ الهيثميُّ: «إسنادُهُ جَيِّدٌ». وقولِهِ عليهِ وآلهِ الصلاةُ والسلامُ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رواهُ البخاريُّ. كلُّ هذهِ الأدلةِ عامةٌ توجِبُ إغاثَةَ الملهوفِ على أفرادِ المسلمينَ كما توجِبُها على الدولةِ، ولذلكَ فإنَّ الدولةَ تُجنِّدُ وتستعينُ بكلِّ منْ يلزَمُ مِنَ الرعيةِ المسلمينَ في مجهودِ الإغاثَةِ حالَ وقوعِها، وتهتمُّ بتنظيمِهِمْ للاستفادَةِ القصوى مِنْ مجهودِهِمْ وحمايَتِهِمْ حالَ عَمَلِهِمُ الإغاثِيِّ والتنسيقِ بينَهُمْ وبينَ الكوادِرِ الرسميةِ المختصَّةِ، كما وأنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تفرِضَ الضريبةَ على أغنياءِ المسلمينَ بما يَفْضُلُ عَنْ حاجاتهمْ بالمعروفِ للإنفاقِ على المجهودِ الإغاثيِّ إذا لمْ تكفِ الأموالُ في بيتِ المالِ لذلكَ.

ولأنَّ الكوارثَ قدْ تختلفُ تبعًا للمناطقِ المختلفةِ في الدولةِ الإسلاميةِ، فبعضُ المناطقِ يكونُ مُعَرَّضًا للزلازلِ بينَما يُعاني البعضُ الآخرُ منَ الفيضاناتِ أوِ الأعاصيرِ، فإنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تُعَيِّنُ لجنةً مِنَ المختصينَ في كلِّ ولايةٍ وظيفتُها الإعدادُ لمواجهةِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ في الولايةِ، ويكونُ عملُها على أربعةِ أصعدَةٍ:
1) العملُ المُسْبَقُ للحدِّ منْ وقعِ الكوارثِ ونتائِجِها: تحاولُ هذِهِ اللجانُ منعَ تفاقُمِ المخاطِرِ وَتَحَوُّلِها إلى كوارثَ، أوْ تخفيفِ تأثيرِ الكوارثِ حالَ حدوثِها، عنْ طريقِ إجراءاتٍ ووسائلَ استباقيةٍ هيكليةٍ كإنشاءِ السُّدُودِ وشبكاتِ الصرفِ لمنعِ الفيضاناتِ، وبناءِ المساكِنِ مُرْتَفِعَةً على أعمدةٍ في المناطقِ المعرضةِ للفيضاناتِ، أوْ إنشاءِ أقْبِيَةٍ وملاجِئَ تحتَ الأرضِ في المناطِقِ المعرضةِ للأعاصيرِ والعواصفِ أوِ القصفِ. وكذلكَ عنْ طريقِ إجراءاتٍ استباقيةٍ غيرِ هيكليةٍ كبعضِ القوانينِ التي يَتَبَنَّاهَا الخليفةُ وَيُلْزِمُ الرعيةَ بِها، مثلَ وَضْعِ صَمَّامَاتِ أمانٍ لأنابيبِ الغازِ والنفطِ لإغلاقِها في حالِ حُصولِ الزلازلِ، أوْ حمايَةِ بعضِ الأراضي لاستعمالِها كحاجِزٍ وفاصِلٍ في وجْهِ الفيضاناتِ أوِ انبعاثاتِ البراكينِ، أوْ برامجِ إرشادِ الرعيةِ لكيفيةِ التصرُّفِ الصحيحِ حالَ حُصولِ الكوارثِ. هذهِ الإجراءاتُ (الهيكليةُ وغيرُ الهيكليةِ) تُعْتَبَرُ مِنَ الوقايةِ، وَهِيَ منْ أنجعِ الوسائلِ لمنعِ الكوارثِ أوِ التخفيفِ منْ حِدَّتِها.

2) وَضْعُ خُطَطِ العَمَلِ للكَوارِثِ: تضعُ لجانُ مواجهةِ الكوارثِ خُطَطًا مُسْبَقَةً لمواجهةِ الكوارثِ، ومنْ هذهِ الخططِ تدريبُ وتهيئةُ طواقمِ الإغاثةِ المختلفةِ منْ قواتٍ خاصةٍ وقواتِ الشرطةِ والجيشِ لمواجهةِ آثارِ الكوارِثِ، وَمِنْهَا وَضْعُ وسائلِ اتصالٍ ولُغَةٍ مشتركةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ لطواقمِ الإغاثةِ لمنعِ البَلْبَلَةِ، وَمِنْهَا تطويرُ وسائلِ إنذارٍ مُبَكِّرٍ وخُطَطِ إخلاءٍ مُبَكِّرٍ وَمَآوٍ بديلةٍ لساعاتِ الكوارثِ، وَمِنْهَا خُطَطٌ لتأمينِ وتوصيلِ المؤَنِ والموادِّ الغذائيةِ والمعداتِ للمنكوبينَ، وَمِنْهَا أَيْضًا برامجُ تدريبٍ لطواقمٍ منَ الرعيةِ لمساعدةِ قواتِ الإغاثةِ التي لا تكونُ كافيةً وقتَ الكارثةِ عادَةً. وهذهِ الخططُ تُعدُّ لمعالجةِ آثارِ الكارثةِ الطبيعيةِ أوِ الحربيةِ حالَ حصولهِا على عكسِ الإجراءاتِ الوقائيةِ في البندِ السابقِ.

3) التعاملُ مَعَ الكارثَةِ: لمواجهةِ الكارثةِ حالَ حصولِها تقومُ هذِهِ اللجانُ بإدارَةِ المجهودِ الإغاثيِّ بتوجيهِ ونقلِ طواقمِ ومعدَّاتِ الإغاثةِ الأوليَّةِ إلى المناطقِ المنكوبةِ، ومنْ ثمَّ مواصلةِ دعمِ هذهِ الطواقمِ الأوليةِ وتزويدها بالطواقمِ الثانويةِ والمتطوعينَ. وتوضَعُ قواتُ الشرطةِ وقواتٌ منَ الجيشِ تحتَ تصرُّفِ اللجانِ في حالةِ كَوْنِ الكارثةِ طبيعيةً أو حربيةً لكنَّ الحربَ انتهتْ أوْ تَوَقَفَتْ ولا خوفَ مِنَ الهجومِ على الدولةِ، أما إنْ كانتِ الكارثةُ حربيةً والحربُ ما زالتْ جاريةً فالأولويةُ لقواتِ الجيشِ هيَ في صدِّ العدوِّ والمجهودِ الحربيِّ لا الإغاثِيِّ.
ومنَ المهمِّ أنْ تهتَمَّ اللجانُ خلالَ المجهودِ الأوليِّ المتمثلِ بالبحثِ عنِ الضحايا وإنقاذِهِمْ، بتزويدِ المناطِقِ المنكوبَةِ بالاحتياجاتِ الإنسانيَّةِ الأساسيَّةِ بعدَ زوالِ إعصارٍ مَثَلاً، أوْ نقلِ السُّكانِ إلى مناطِقَ آمنَةٍ أخرى بعدَ تفجُّرِ بركانٍ وبقائِهِ نَشِطًا، ولذلكَ تتحدَّدُ خُطَةُ العملِ بالتزويدِ أوِ الإخلاءِ وَفْقَ طبيعةِ الكارثةِ ومدى الخطرِ المُتَمَثِّلِ في بقاءِ السُّكانِ في المناطقِ المنكوبةِ.

4) إصلاحُ نتائِجِ الكارثَةِ: تقومُ اللجانُ بعدَ الكوارثِ بوضْعِ خُططٍ للتعامُلِ معَ نتائِجِ الكارثَةِ بعدَ جُهودِ الإغاثَةِ الأوليَّةِ لإعادَةِ وضعِ المناطقِ المنكوبَةِ إلى ما كانتْ عليْهِ قبلَ الكارثَةِ معَ الاستفادةِ منَ الأخطاءِ السابقَةِ في الإجراءاتِ الهيكليَّةِ وغيرِ الهيكليَّةِ والتَحَرُّزِ مِنْها. وتشملُ الجهودُ في هذهِ المرحلةِ إعادَةَ إصلاحِ البُنى التحتيةِ والمباني المتضرِّرَةِ، وإعادَةَ تأهيلِ المناطقِ المنكوبةِ وتعميرَها.

ولا يَعْني إنشاءُ لجنةٍ لمواجهةِ الكوارثِ في كلِّ ولايةٍ أنَّ باقي الولاياتِ لا تُشارِكُ في المجهودِ الإغاثيِّ، بلْ إنَّ كلَّ هذِهِ اللجانِ تكونُ مرتبطةً وتعملُ معًا بالتنسيقِ لمواجهةِ الكارثةِ أينَمَا كانتْ، على أَنَّ إدارةَ العملياتِ الإغاثيةِ تكونُ منْ قِبَلِ اللجنةِ في الولايةِ المنكوبةِ، وتكونُ مواردُ باقي اللجانِ تحتَ تَصَرُّفِهَا. ورسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، رواهُ البخاريُّ. ويقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضًا: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رَوَاهُ البخاريُّ. كَما أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَمَدَّ الأَعْرَابَ في عامِ الرَّمَادَةِ بالإبلِ والقمحِ والزيتِ مِنْ كُلِّ أَرْيَافِ المسلمينَ، حَتى بَلَحَتِ الأَرْيافُ كُلُّها (أَيْ أَجْهَدَتْ وَتَعِبَتْ وَلَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا) مِمَا جَهَدَهَا ذلكَ، رَوَى ذلِكَ البُخارِيُّ في الأدبِ المفردِ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ. وكانَ عامُ الرَّمَادَةِ عامَ قَحْطٍ وَجُوعٍ، سُمِّيَ بذلكَ لأَنَّ الأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ المطرِ حتى عادَ لَوْنُها شَبِيهًا بِالرَّمادِ، أَو لأنَّ الريحَ كانَتْ تَسْفِي تُرَابًا كَالرَّمَادِ، حتى بَلَغَ عَدَدُ الأَعْرَابِ الذينَ وَفَدُوا إلى المدينةِ طَلَبًا للقوتِ أكثَرَ منْ خمسينَ ألفًا، وَذَكَرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ: "كَتَبَ عُمَرُ (رضي الله عنه) إلى أَبي مُوسى (رضي الله عنه) بالبصرةِ أَنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، وكتبَ إلى عمرو بنِ العاصِ (رضي الله عنه) بمصرَ أنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، فبعثَ إليهِ كلُّ واحدٍ منهُما بقافلةٍ عظيمةٍ تحملُ البُرَّ وسائرَ الأُطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ ميرةُ عمرو (رضي الله عنه) في البحرِ إلى جدَّةَ ومنْ جدَّةَ إلى مكَّةَ". وقالَ ابنُ كثيرٍ إِنَّ هذا الأَثَرَ جيدُ الإسنادِ، وَكَذلِكَ فَعَلَ عُمَرُ (رضي الله عنه) مَعَ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ (رضي الله عنه) في العِرَاقِ وَمُعاوِيَةَ في الشَّامِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ.

أما فِرَقُ المنظماتِ الدوليةِ وفرقُ الإنقاذِ والإغاثةِ التابعةِ للدولِ الكافرةِ فتُمْنَعُ منْ دُخولِ البلادِ بِحُجَّةِ المساعدةِ في المجهودِ الإغاثيِّ، لأنَّ مثلَ هذهِ المنظماتِ المُسْتَتِرَةِ تحتَ شعاراتِ الإنسانيَّةِ وإغاثَةِ المنكوبينَ عادَةً ما تستغلُّ الكوارثَ لدخولِ البلادِ والعملِ التبشيريِّ كمحاولاتِ التَنْصِيرِ التي حَصَلَتْ بعدَ التسُونَامِي الذي ضَرَبَ إندونِيسْيَا، أوْ لِخَطْفِ الأطفالِ كما حَصَلَ معَ المنظمةِ الفرنسيةِ التي حاولَتْ اختِطافَ الأطفالِ التشادِيِينَ، أوْ للعملِ السياسيِّ أوْ الاستخباراتيِّ ودعمِ جماعاتِ المتمردينَ وإثارةِ الفِتَنِ كما حصلَ في دارفورَ في السودانِ. فَضَرَرُ هذهِ المنظماتِ قَطْعًا أعظمُ منْ نَفْعِهَا، بلْ إنَّ دخولَها لدارِ الإسلامِ ولوْ بِحُجَّةِ الإغاثَةِ يُمَهِّدُ لِزَرْعِ الفتنِ وَجَعْلِ سُلْطَانٍ لدولِ الكفرِ على الدولةِ الإسلاميةِ، واللهُ سبحانه وتعالى يأمرُنا بألاَّ نجعلَ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. والمساعداتُ الخارجيةُ منْ أموالٍ ومواردَ تُمْنَعُ كذلكَ منْ دُخولِ الدولةِ لأنَّها عادةً ما تكونُ وسيلةً لتهريبِ السلاحِ أوْ لتمهيدِ الطريقِ نحوَ إنشاءِ مصالِحَ لدولِ الكفرِ داخلَ البلادِ.

وفي المقابلِ، إذا كانتْ الكارثةُ في دولةٍ منْ دولِ الكفرِ، فإنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تساعدَ في الأعمالِ الإغاثيَّةِ بإرسالِ الطواقمِ المُخْتَصَّةِ أوِ المساعداتِ، وَفْقَ ما يراهُ الخليفةُ منْ مصلحةٍ للدولةِ وللدعوةِ إلى الإسلامِ، على أنْ لا تُؤَدِّي هذهِ المساعداتُ إلى تقويةِ الدولةِ المنكوبةِ عسكريًّا.

وقدِ استجابَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستغاثَةِ قريشٍ، وَكَتَبَ إلى ثُمَامَةَ بْن أُثَالٍ الْحَنَفِيّ بأنْ يَسْمَحَ للميرةِ بالوصولِ إلى قريشٍ وهيَ على الكفرِ وَعداءِ الإسلامِ آنذاكَ، وَذَكَرَ ابنُ هشامٍ ذلكَ في سيرَتِهِ فقالَ: "خَرَجَ (أي ثُمَامَةَ) إلَى الْيَمَامَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا، وَقَدْ قَتَلْت الآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ".

الخَاتِمَةُ
تَناوَلْنا في هذهِ الصفحاتِ أُسُسَ وأهدافَ وبعضَ نواحي الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ مُنْبَثِقَةً أَحْكامُها وَمَبْنِيَةً أفكارُها على أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ. وتبرزُ أهميةُ مثلِ هذهِ الرعايةِ الصحيةِ وَأَثَرُها حينَ نتذكرُ أَنَّهُ في هذا الزَّمانِ الذي يُدَّعَى أَنَّهُ يَشْهَدُ تَقَدُّمًا علميًّا وطبيًّا لا مثيلَ لهُ، نتذكرُ أَنَّ حوالي 2.6 مليارَ شخصٍ في العالمِ هُمْ أكثرُ منْ ثُلْثِ سكانِهِ ومنهمْ 980 مليونَ طفلٍ، يفتقرونَ إلى أبسطِ مرافقِ المياهِ والصرفِ الصحيِّ، ويموتُ يوميًّا 35 ألفَ طفلٍ بسببِ الجوعِ والمرضِ، ويقضِي خُمْسُ سكانِ البلدانِ الناميةِ بقيةَ اليومِ وهمْ يَتَضَوَّرُونَ جوعًا.

نتذكرُ أنَّ 100 مليونَ شخصٍ حولَ العالمِ لا مأوى لهمْ، ومليارَ شخصٍ (ما يقربُ منْ 17% منْ سكانِ الأرضِ) يعيشونَ في بيوتٍ مؤقتةٍ غيرِ آمنةٍ تفتقدُ الخدماتِ الأساسيَّةِ. نتذكرُ أنَّ ما يقربُ منْ ثلاثة آلاف مليونَ شخصٍ يعيشونَ تحتَ ما يُسَمَّى بخطِّ الفقرِ وهوَ دولارانِ أميركيانِ في اليومِ، ومنْ بينِ هؤلاءِ هنالكَ 1.2 مليارَ إنسانٍ يحصلونَ على أقلِ منْ دولارٍ واحدٍ يوميًّا. نتذكرُ أنَّ خُمْسَ سكانِ العالمِ يفتقرونَ لأبسطِ الخدماتِ الصحيةِ الاعتياديةِ. نتذكرُ كُلَّ هذا ونتذكرُ أَنَّنَا نتحدثُ عنْ أَدْنَى مقوماتِ الحياةِ، سَلَبَتْها الرأسماليةُ منْ أكثرِ البشرِ على الأرضِ، وأَبدلتْهُمْ بِها البؤسَ والشقاءَ بمفاهيمِها.

إِنَّ مفهومَ الرعايةِ أوسعُ منْ أَنْ يُحْصَرَ بالصحةِ، والإسلامُ حَدَّدَ حاجاتِ الإنسانِ الأساسيةَ، وَضَمِنَ إِشباعَها إشباعًا كاملاً بنظامٍ رَبَّانِيٍّ منْ لَدُنِ حَكيمٍ خبيرٍ، رؤوفٍ رحيمٍ. فَقَدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ عنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ وَجِلْفِ الْخُبْزِ وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ»، صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر وأخرجهُ الحاكمُ في المستدركِ وصَحَّحَهُ ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وروى الإمامُ أحمدُ عَنْ أَبِي عَسِيبٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَيْلاً فَمَرَّ بِي، فَدَعَانِي إِلَيْهِ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا بُسْرًا». فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَصْحَابُهُ (رضي الله عنهم)، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ (رضي الله عنه) الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَئِنَّا لَمَسْؤُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟"، قَالَ: "نَعَمْ، إِلا مِنْ ثَلاثٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقُرِّ»، صَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ. والحديثانِ نصٌّ شَرْعِيٌّ في أَنَّ الحاجاتِ الأساسيةَ هيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، ولا يستطيعُ أيُّ إنسانٍ الاستغناءَ عنْ واحدةٍ مِنْها، ولذلكَ كانَ إِشباعُها حقًّا لِكُلِّ إنسانٍ يأخذُهُ بوصفِهِ حقاً منْ حقوقِهِ التي يجبُ أنْ يَصِلَ إليْها.

وكما أن هناك حاجات أساسية للأفراد، فإن هناك حاجات أساسية للرعية، يجب على الدولة توفيرها:
الأمن والصحة والتعليم.
أما الأمن فهو من واجبات الدولة الرئيسة، فعليها أن توفر الأمن والأمان للرعية، حتى إن الدولة تفقد كينونتها إذا لم تستطع حفظ أمنها، ولذلك فإنه شرط في دار الإسلام أن تكون الدولة الإسلامية قادرة على حفظ أمنها بقواتها، ولهذا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أخبر المسلمين بدار هجرتهم ذكر الأمن أول ما ذكر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه في مكة فيما رواه ابن اسحق في سيرته: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَاناً وَدَاراً تَأْمَنُونَ بِهَا»، كما أن الأنصار عندما استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه أبا بكر، قالوا لهما أول ما قالوا، كما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمائةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حتى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا. فقالت الأنصارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ»، فتوفير الدولة الأمان للرعية هو من واجباتها الرئيسة.

أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون، في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة. وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب:
أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه».
وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مرضت في زمان عمر بن الخطاب مرضاً شديداً، فدعا لي عمر طبيباً فحماني حتى كنت أمص النواة من شدة الحمية».
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه حاكماً بعث طبيباً إلى أبيّ، وعمر (رضي الله عنه) الخليفة الراشد الثاني دعا بطبيب إلى أسلم ليداويه، وهما دليلان على أن الصحة والتطبيب من الحاجات الأساسية للرعية التي يجب على الدولة توفيرها مجاناً لمن يحتاجها من الرعية.

وأما التعليم، فلأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل فداء الأسير من الكفّار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم، وهي ملك لجميع المسلمين... ولإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم.

وعليه فإنه يجب على الدولة أن توفر الأمن والطب والتعليم للرعية جميعهم، وأن يضمنها بيت المال، لا فرق بين مسلم وذمي، ولا بين غني وفقير...
ولأهمية الحاجات الأساسية للفرد وللأمة فقد بيَّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن توفير هذه الحاجات يكون كحيازة الدنيا بأكملها كناية عن أهمية هذه الحاجات، فقد أخرج الترمذي وابن ماجة من طريق سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ وكانت له صحبة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وفي الختام نقول إننا قدْ طَرَقْنا هذا البابَ فقط مِنْ زاويةِ الحاجاتِ الأساسيةِ للأفراد، والحاجات الأساسية للأمة التي ضَمِنَ الإسلامُ إِشْباعَها، دونَ الحديثِ عنْ إِحسانِ الرعايةِ والقيامِ على مصالحِ الناسِ بما يُصْلِحُها، الأَمْرُ الذي أَوْجَبَهُ الإسلامُ على الإمامِ، والشافعيُّ: يقولُ: «منزلةُ الإمامِ مِنَ الرعيةِ منزلةُ الوَلِيِّ مِنَ اليتيمِ».

أَمَّا الرأسماليةُ، فقدْ حَرَمَتِ الناسَ الخرقةَ والكسرةَ وهدمتِ الحجرَ، وَأَوْرَثَتْهُم السقمَ والجهلَ والخوفَ، وَمَحَتْ مفهومَ رعايةِ الشؤونِ منَ الأذهانِ. إِنَّ ذِكْرَ الرأسماليةِ يورثُ المرضَ، ويُسقمُ النفوسَ الزكيةَ المتطلعةَ إلى رضى الرحمنِ، وما لمْ يُجْتَثَّ هذا المرضُ منْ جَسَدِ الإنسانيةِ، بقيتْ تَصْطَلِي بنارِهِ وَشَقْواهُ.
فإلى عفوٍ منَ اللهِ وعافيةٍ ندعوكُمْ أيُّها المسلمونَ، إلى علاجِ النفوسِ والقلوبِ وإخراجِ الناسِ منَ الظلماتِ إلى النورِ ندعوكُمْ، إِلى العملِ لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ، على منهاجِ النُّبوةِ الخاتمةِ، إلى الرُّشدِ والصلاحِ ندعوكمْ، فَهَلْ تُلَبُّونَ؟
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال 24]. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[انتهى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات].

المصدر: مجلة الوعي

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (6)


بسم الله الرحمن الرحيم

القطاع العام والقطاع الخاص

تكونُ الرعايةُ الصحيةُ في الدولةِ الإسلاميةِ مجانيةً وشاملةً منْ قِبَلِ الدولةِ، وعلى الدولةِ أنْ تُوَفِّرَ كلَّ ما يلزمُ منْ معدَّاتٍ وخدماتٍ صحيةٍ للمرضى، مما يُشَكِّلُ عَدَمُ توفيرِهِ لهمْ ضررًا عليهِمْ. ولكنْ لا يُمْنَعُ الأفرادُ أوِ الشركاتُ في الدولةِ الإسلاميةِ منْ تقديمِ الخدماتِ الصحيةِ الخاصةِ، أوْ فَتْحِ العياداتِ والمستشفياتِ الخاصةِ، ولا يُمنعُ أَحَدٌ مِنَ الرعيةِ منَ التداوي في القطاعِ الخاصِّ، والدليلُ على ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قال: «دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ». فالغلامُ هنا قامَ بالحجامةِ وقبضَ أجرهُ منَ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويُشْتَرَطُ في مَنْ يُقَدِّمُ الرعايةَ الصحيةَ منَ القطاعِ الخاصِّ، سواءَ أكانَ فردًا أم شركةً، أَنْ يلتزمَ بقوانينِ الدولةِ ورقابَتِها، وَيُشترطُ أيضًا أنْ يكونَ مَنْ يُقَدِّمُ أيًّا مِنَ الخدماتِ الصحيةِ مُؤَهَلاً لذلكَ، سواءَ أَعَمِلَ في القطاعِ الخاصِّ أوِ العامِّ، ومنْ يُقَدِّمُ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ دونَ أنْ يكونَ مؤهلاً لتقديمِها يُمْنَعُ منْ قِبَلِ الدولةِ وَيُعاقَبُ، وأما إذا أدَّى إلى ضررٍ بِعَمَلِهِ هذا فهوَ ضامِنٌ لِمَا سَبَّبَ منْ ضررٍ بإقدامِهِ على ما ليسَ مِنَ اختصاصهِ.

والدليلُ على هذا عامٌّ وخاصٌّ، فأما الدليلُ العامُّ فهوَ قاعدَةُ لا ضررَ ولا ضرارَ، حيثُ إنَّ ممارسةَ العلاجِ أوِ الرعايةِ الصحيةِ منْ قِبَلِ مَنْ لا عِلْمَ لهُ بها قَدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ بالمريضِ. يقولُ الماورديُّ في الأحكامِ السُّلطانِيَّةِ عندَ حديثِهِ عَمَّنْ يُؤْخَذُ وُلاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ: "فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ: فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ؛ لأَنَّ للطَّبِيبِ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا. فَيُقَرُّ مِنْهُمْ (أيِ الأطباءُ والمعلمونَ) مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الآدَابُ." وَيَنْقُلُ القرافيُّ في الذَخيرَةِ عنِ الإمامِ مالكٍ قولَهُ: “يَنْهَى الإمَامُ الأَطِبَّاءَ عَنْ الدَّوَاءِ إِلاَ طَبِيبًا مَعْرُوفًا، وَلاَ يُشْرَبُ مِنْ دَوَائِهِمْ إِلاَ مَا يُعْرَفُ”. أمَّا الدليلُ الخاصُّ، فقدْ روى أبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجَةَ وغيرُهُمْ عنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَوْلَهُ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإسْنادِ، ووافقهُ الذهبيُّ، وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «لا أَعْلَم خِلافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِج إِذَا تَعَدَّى فَتَلِفَ الْمَرِيض كَانَ ضَامِنًا، وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلاً لا يَعْرِفهُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا تَوَلَّدَ مِنْ فِعْله التَّلَف ضَمِنَ الدِّيَة وَسَقَطَ الْقَوَد عَنْهُ لأَنَّهُ لا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ دُون إِذْن الْمَرِيض»، انتهى.

وكانَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُشْرِفُ عَلى إنتاجِ الأدويةِ أيضًا، أخرجَ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّواءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ». ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يدلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النهيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تَمْنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ. وهذهِ الأدلةُ تُبَيِّنُ أنَّ للدولةِ أنْ تُشْرِفَ على القطاعِ الصحيِّ الخاصِّ، بلْ إنَّ ذلكَ واجبٌ عليها.

نظام الصحة الإداري
يقومُ النظامُ الإداريُّ للرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ على البساطةِ والإسراعِ في تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ والعلاجِ، كما يقومُ على الكفايةِ فيمنْ يَتَوَلَّوْنَ الإدارَةَ. وهذا مأخوذٌ منْ واقعِ إنجازِ المصالحِ بشكلٍ عامٍّ، فصاحبُ أيِّ مصلحةٍ إنما يَبْغِي سرعةَ إنجازِها وَإنجازَها على الوجهِ الأكملِ، والرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ فيما رواهُ الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». فالإحسانُ في قضاءِ الأعمالِ مأمورٌ بهِ مِنَ الشرعِ. وللوُصولِ إلى هذا الإحسانِ في قضاءِ المصالحِ لا بُدَّ أنْ تتوفرَ في الإدارةِ ثلاثُ صفاتٍ، إِحداها البساطةُ في النظامِ لأنَّها تُؤَدِّي إلى السهولةِ واليُسْرِ، والتعقيدُ يوجِدُ الصعوبةَ. وثانِيَتُها الإسراعُ في إِنْجَازِ المعاملاتِ لأنهُ يُؤَدِّي إلى التسهيلِ على صاحبِ المصلحةِ. وثالِثَتُها القدرةُ والكفايةُ فيمنْ يُسْنَدُ إليهِ العملُ، وهذا يوجِبُهُ إحسانُ العملِ كما يَقْتَضِيهِ القيامُ بالعملِ نَفْسِهِ.

وبالنسبةِ للمصالحِ الصحيةِ بشكلٍ خاصٍّ، فالسرعةُ والبساطةُ والبُعدُ عنِ التعقيدِ في المعاملاتِ الإداريةِ أَوْلى وَأَهَمُّ، إذْ إنَّ المرضَ حاجةٌ مُلِحَّةٌ قدْ يُؤَدِّي تأخيرُ علاجِهِ إلى تَفَاقُمِهِ وزيادةِ الضررِ الناتجِ عنْهُ، ثمَّ إنَّ المريضَ لا تُطِيقُ نفسُهُ المماطلةَ والانتظارَ وتعقيداتِ المعاملاتِ. ومما يُقَلِّلُ منَ التعقيداتِ والمعاملاتِ الإداريةِ في إدارةِ الرعايةِ الصحيةِ توحيدُ كافةِ الخدماتِ والمنشآتِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ في جهازٍ واحدٍ، على رأسِهِ مديرُ عامِّ مصلحةِ الصحةِ، ويليهِ في السُّلَّمِ الإداريِّ مدراءُ الدوائرِ المقسمَةِ حسبَ الولاياتِ، ثمَّ مدراءُ الإداراتِ المقسمةِ حسبَ العمالاتِ، بحيثُ تَتَوَلَّى مصلحةُ الصحةَ شؤونَ المصلحةِ ذاتِها وما يتبعُها منْ دوائرَ وإداراتٍ فرعيةٍ، وتتولى الدائرةُ شؤونَ الدائرةِ نفسِها وما يتبعُها منْ إداراتٍ متفرعةٍ عنها في عمالاتِ الولايةِ. ويكونُ أطباءُ العائلةِ وممرضاتُ المدارسِ ومراكزُ رعايةِ الأمِّ والطفلِ والمراكزُ الصحيةُ والمستشفياتُ والصيدلياتُ وكلُّ مرافِقِ وعُمَّالِ الصحةِ الأخرينَ مسؤولينَ أمامَ مُديرِ الإدارةِ في العمالةِ التي يَتْبَعونَ لها.

أما منْ حيثُ تمكينُ كلِّ الرعيةِ منَ الحصولِ على الخدمةِ الصحيةِ اللازمةِ فيتمُّ على النحوِ التالي:
يكونُ في كلِّ عمالةٍ عددٌ منَ المراكزِ الصحيةِ التي تَحوي أطباءَ عائلةٍ وممرضاتٍ وصيدليةً وطاقمَ طوارئٍ وسياراتِ إسعافٍ، حسبَ عددِ سكانِ العمالةِ وبُعْدِ المناطقِ السكنيةِ عنْ بعضِها، بحيثُ لا يكونُ لكلِّ طبيبِ عائلةٍ عددٌ كبيرٌ منَ المرضى يَعْجَزُ معهُ عنْ تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ لهمْ بسرعةٍ وبإحسانٍ، وبحيثُ لا يكونُ المركزُ الصحيُّ بعيدًا جدًّا عنِ المريضِ. وإذا حصلَ وكانَ سَكَنُ أَحَدِ الرعيةِ معزولاً وبعيدًا عنْ أقربِ تَجَمُّعٍ سكنيٍّ، وُضِعَتْ تَحْتَ تَصَرُّفِ أقربِ مركزٍ صحيٍّ إليهِ وسائلُ نقلٍ تضمنُ نقلَ المريضِ إلى المركزِ في أيِّ وقتٍ لِتَلَقِّي أيِّ خدمةٍ طبيةٍ سواءَ أكانتْ طارئةً أمْ لا، أوْ نقلِ الدواءِ إلى المريضِ.

مَنْ أرادَ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ غيرِ طارئةٍ يتوجهُ إلى طبيبِ العائلةِ، ويقومُ الأخيرُ بتقديمِ هذهِ الخدمةِ إِنْ كانتْ في مجالِ تخصُّصِهِ وعِلْمِهِ، وإلا أحالَ المريضَ إلى مُخْتَصٍّ آخرَ أوْ إلى المُستشفى بحسبِ المشكلةِ الصحيةِ وَضَرورةِ تقديمِ العلاجِ دونَ تأخيرٍ.
مَنْ كانَ لديهِ مشكلةٌ صحيةٌ مُزْمِنَةٌ كالسُّكَرِي أوْ ضغطِ الدَّمِ أوْ مرضِ القلبِ أوْ المفاصلِ أوْ غيرِ ذلكَ، يقومُ بزياراتٍ دوريةٍ ومتابعةِ المرضِ والعلاجِ عندَ طبيبٍ مختصٍّ في هذا المرضِ المُزْمِنِ، وعلى طبيبِ العائلةِ أنْ يُتابِعَ المريضَ أيضًا عنْ طريقِ الإطِّلاعِ على تقريراتِ الطبيبِ المختصِّ الدوريةِ.

مَنْ أرادَ خِدْمَةً صحيةً طارئةً يتصلُ بالإسعافِ، ويقومُ أقربُ طاقمِ إسعافٍ بتقديمِ العلاجِ الأوليِّ ونقلِ المريضِ إلى المُستشفى فورًا.على الدولةِ أَنْ تُنْشِئَ في كلِّ عمالةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ، يحوي التخصصاتِ الأساسيةِ كالباطنيةِ والجراحةِ والأطفالِ وما إلى ذلكَ، ويحوي أيضًا قسمًا للطوارئِ. وعلى الدولةِ أنْ تهتمَّ أنْ يكونَ في كلِّ ولايةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ يحوي بالإضافةِ إلى التخصصاتِ الأساسيةِ تخصصاتٍ فرعيةً وأقسامًا للأمراضِ النادِرَةِ، وتتحدَّدُ هذهِ الأقسامُ حسبَ الأمراضِ الموجودةِ في تلكَ الولايةِ، إذْ قدْ توجدُ أمراضٌ في مناطقِ الشرقِ الأقصَى ولا تُعرفُ في أفريقْيَا.

بَنْكُ الْمَعْلُومَاتِ وَالدَّوَاوِينِ وَالْمَلَفَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ الإلِكترونِيَّةِ: على مصلحةِ الصحةِ في الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تُنشِئَ سجلَ معلوماتٍ إلكترونيًّا لكلِّ فردٍ منْ أفرادِ الرعيةِ يحوي كلَّ التفاصيلِ الصحيةِ المتعلقةِ بِهِ، ويحوي كلَّ المشاكِلِ الصحيةِ التي عَانَى منها والخدماتِ أوِ الأدويةِ التي تَلَقَّاهَا، وتُسْتَقَى هذهِ المعلوماتُ منْ مراكزِ رعايةِ الأمِّ والطفلِ وممرضاتِ المدارسِ والمستشفياتِ وأطباءِ العائلةِ وكلِّ جهازٍ إداريٍّ صحيٍّ آخرَ في الدولةِ، بحيثُ تُدَوَّنُ في سِجِلٍّ إلكترونيٍّ واحدٍ. والهدفُ مِنْ مثلِ هذا التدوينِ هُوَ إطلاعُ كلِّ منْ يريدُ تقديمَ خدمةٍ صحيةٍ لهذا المريضِ على ماضيهِ الصحيِّ لِيَسْهُلَ عليهِ تشخيصَ المشاكلِ الصحيةِ ووصفَ العلاجِ الملائِمِ.

ولأنَّ الطبيبَ مُسْتَشَارٌ، وَ«المستشارُ مُؤْتَمَنٌ» كما روى أبو داودَ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ، وَجَبَ أَنْ تكونَ هذهِ المعلوماتُ عنِ المريضِ سريةً لا يَطَّلِعُ عليها إلا المريضُ نفسُهُ أوْ مَنْ أَذِنَ لهُ المريضُ بذلكَ، لأنَّ المرضَ مما يُكتَمُ عادَةً ولا يُرْغَبُ بِاطِّلاَعِ الناسِ عليهِ. وَفَضْلاً عنْ ذلكَ، فإنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ في الحديثِ الذي حَسَّنَهُ الألبانيُّ مِنْ رِوايةِ الترمذيِّ وأبي داودَ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»، والتفت هنا تعني أن صاحب الحديث ينظر حوله خشية إن يتسمع على حديثه أحد، وهو كناية عن أن ما يتحدث به هو خاص بمن يُحدثه، ولهذا كان حديثه أمانة عند من يتحدث إليه، وحديث المريض للطبيب هو من هذا القبيل، أي هو أمانه لأن المريض يخص به الطبيب ولا يحب أن يطلع عليه أحد غير مأذون له. وأيضا فقد روى مسلمٌ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والتحدثُ بأسرارِ المريضِ مِنَ الغيبةِ لأنهُ ذِكْرٌ للمريضِ بما يَكْرَهُ، والغيبةُ محرمةٌ لقولِهِ تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات:12).

وَتُسْتَثْنَى منْ وُجوبِ الكتمانِ المعلوماتُ الصحيةُ التي قدْ يُسَبِّبُ كتمانُها ضررًا على الجماعةِ، كإخفاءِ مَرَضٍ مُعْدٍ أوْ عَدَمِ التبليغِ عنْ مريضٍ يُسَبِّبُ عَمَلُهُ خَطَرًا على الجماعةِ، كسائِقِ طائرةٍ أوْ شاحنةٍ مُصَابٍ بالصَّرَعِ، وهذا منْ بابِ منعِ الضررِ وإزالَتِهِ الذي هوَ واجبٌ شرعًا. والاستثناءُ هنا محصورٌ بتبليغِ الجهاتِ التي تُعالِجُ هذا الضررَ المُحْتَمَلَ وتمنَعُهُ، لا بتبليغِ أيِّ شخصٍ آخرَ.

تعليم الطب والتأهيل المهني والبحث العلمي
نهى الإسلامُ عنْ ممارسةِ التطبيبِ ممنْ لمْ يُعْرَفْ منهُ الطِّبُّ، فقدْ جاءَ في الحديثِ المرفوعِ الذي رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجةَ عنْ عُمَرَ بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقدْ صَحَّحَ الحاكمُ إسنادَ هذا الحديثِ ووافقهُ الذهبيُّ. ولفظُ تَطَبَّبَ في الحديث من التَّطَبُّبِ على وزنِ تَفَعُّل، وهوَ يدلُّ على تَكَلُّفِ الشيءِ والدخولِ فيهِ بِكُلْفَةٍ، كَكَوْنِهِ ليسَ مِنْ أهلِهِ، أوْ كَوْنِهِ مِنْ أهلِ عِلْمِهِ النَّظَرِي لكنَّهُ لا يُحْسِنُ تَطْبِيقَهُ.

ولذلكَ كانَ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تَضَعَ معاييرَ يُعْلَمُ منْ خِلالها منْ هوَ الطبيبُ منْ غيرِهِ، وأنْ تمنعَ مَنْ لمْ تنطبقْ عليهِ هذهِ المعاييرُ منْ مزاولةِ الطِّبِّ. فإنْ تَكَلَّفَ ما لمْ يكُنْ منْ مجالِ عِلْمِهِ أوْ تَخَصُّصِهِ فَأَضَرَّ بالمريضِ فإنهُ يكونُ مسؤولاً عنْ جِنَايَتِهِ، وضامنًا بِقَدْرِ ما أحدثَ منْ ضررٍ، لأنهُ يُعتبرُ بعملهِ هذا مُتَعَدِّيًا، ويكونُ الضمانُ في مالِهِ. ويُشْمَلُ مُساعدو الأطباءِ منْ مُمَرِّضينَ وأَخِصَّائِيِّي أَشِعَّةٍ أو صَيادلةٍ وَغَيْرِهمْ في الحكمِ بالضمانِ أيضًا على منْ مارسَ منهُمْ المهنةَ دونَ أهليةٍ مُعتبرةٍ للقيامِ بها وأضرَّ بالمريضِ.

ولذلكَ تُقيمُ الدولةُ لجنةً مِنَ الأطباءِ المُتَخَصِّصِينَ ورجالِ التدريسِ مُهِمَّتُهُمْ وَضْعُ برنامجٍ لتدريسِ الطبِّ في الجامعاتِ، ووضعِ الحدِّ الأدنَى منَ الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبِ مِنَ الطبيبِ أَنْ يُلِمَّ بها وَيُتْقِنَها حتى يُمْنَحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ. وتوضَعُ أيضًا برامجُ لِكُلِّ تخصصٍ طبيٍّ مِنْ قِبَلِ المتخصصينَ في ذلكَ المجالِ لمنحِ ترخيصٍ بمزاولةِ تخصصاتِ معينةٍ مِنَ الطبِّ لمنْ يُتْقِنُها، وذلكَ كالجراحةِ والباطنيةِ وطبِّ الأطفالِ وما إلى ذلكَ، وَتُؤَسَّسُ لجانٌ مشابهةٌ لمهنِ التمريضِ والصيدلةِ وباقي المواضيعِ المتعلقةِ بالطبِّ.

أما الأطباءُ الذينَ درسُوا الطبَّ في جامعاتٍ خارجَ الدولةِ الإسلاميةِ فَيُنْظَرُ، فإنْ كانَ قدْ عَمِلَ في الطبِّ مُدَّةً كافيةً في تلكَ الدولةِ بحيثُ اكْتَسَبَ خبرةً ودِرَايَةً في مجالِهِ، مُنِحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ، وإنْ لمْ يَكُنْ قدْ عَمِلَ مدةً كافيةً أُخْتُبِرَ في الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبةِ ممنْ دَرَسَ الطبَّ في الدولةِ الإسلاميةِ، فإنْ اجتازَ الاختبارَ مُنِحَ ترخيصًا، وإلا فإنَّهُ يُدَرَّسُ ما يَنْقُصُهُ مِنْ الموادِّ والمهاراتِ حسبَ نتيجةِ الاختبارِ ثُمَّ يُمْنَحُ الترخيصَ.

ويتولى جهازُ الحسبةِ منعَ أيِّ شخصٍ لمْ يحصلْ على الترخيصِ الملائمِ مِنْ تقديمِ الخدمةِ الصِّحِيَّةِ، ولا يُكْتَفَى بمجردِ تضمينِهِ الضررَ الناتجَ عنْ فعلِهِ، بلْ يُعَزَّرُ بمقدارِ ما ادَّعَى منْ علمٍ ومارسَ منْ مهنةٍ لمْ يَكُنْ أهلاً لها، ويُعاقبُ ويُشَهَّرُ بِهِ، لأنَّ إدعاءَ الأهليةِ والعلمِ مِنَ الجاهلِ غِشٌّ نهى عنْهُ الشَّرْعُ، فقدْ روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وفي حديثٍ آخرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عندَ مسلمٍ أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».

كما وتهتمُّ الدولةُ بتدريسِ المهاراتِ الطبيةِ الأساسيةِ كالإسعافاتِ الأوليةِ والإنعاشِ القلبيِّ في دوراتٍ خاصةٍ ومجانيةٍ، وتكونُ هذهِ الدوراتُ إلزاميةً لأفرادِ الشُّرْطَةِ والجيشِ والمعلمينَ في المدارسِ، واختياريةً لباقي الرعيةِ. وَيُقَامُ جهازٌ خاصٌّ بالإرشادِ الصحيِّ يكونُ تابعًا لمصلحةِ الصحةِ ومُرْتَبِطًا بمصلحةِ الإعلامِ وظيفتُهُ تقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ العامةِ للرعيةِ عَنْ طريقِ الإعلامِ، وتقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ الخاصةِ لِكُلِّ قطاعٍ وَفْقَ ما يلزمُهُ، كالإرشاداتِ الخاصةِ لِعُمَّالِ المناجِمِ، والقواتِ المُسَلَّحَةِ، والسائقينَ وغيرِهمْ.

وَكَوْنُ علمِ الطبِّ اليومَ يتقدمُ بخطواتٍ واسعةٍ، فإنَّ على الدولةِ أيضًا أنْ تَحُثَّ الأطباءَ على مواصلةِ التَّتَبُّعِ ودراسةِ كُلِّ ما يجدُّ مِنْ اكتشافاتٍ أوْ اختراعاتٍ، حتى يَتَمَكَّنُوا منْ تقديمِ خيرِ الخدماتِ الصحيةِ وأكثرِها تقدُّمًا وتطورًا. ويكونُ ذلكَ عَنْ طريقِ دعمِ وتشجيعِ النشراتِ العلميةِ الدَّوْرِيَّةِ وتوزيعِها على الأطباءِ، وعنْ طريقِ المؤتمراتِ والدوراتِ المكثفةِ الدوريةِ للأطباءِ، كُلٌّ في مجالِ تَخَصُّصِهِ. وقدْ سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجهلَ داءً، وجعلَ شفاءَهُ السؤالَ والتعلُّمَ، ففي روايةِ أبي داودَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ، شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ»، والحديثُ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وَالْعِيُّ معناهُ الجهلُ، وأَلْحَقَ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِهِمُ الْوَعِيدَ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي الإِثْم قَتَلَةً لَهُ، ولهذا كانَ على الأطباءِ أنْ يَتَعَلَّمُوا ما هُوَ جديدٌ؛ لأنَّ الجهلَ ببعضِ المستجداتِ الطبيةِ قدْ يترتبُ عليهِ إلحاقُ أذًى وضررٍ بالمريضِ.

ولا يُكْتَفَى بمجردِ تَتَبُّعِ ما هوَ جديدٌ، بلْ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تكونَ في طليعةِ الدولِ في البحثِ والابتكارِ العلميِّ ومنهُ الطبيُّ. وبالرغمِ مِنْ أنَّهُ لجميعِ أفرادِ الرعيةِ الحقُّ في إنشاءِ المختبراتِ العلميةِ المتعلقةِ بكافةِ شؤونِ الحياةِ ومنها الطبُّ، إلا أنَّهُ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تقومَ هِيَ بإنشاءِ هذِهِ المختبراتِ. وتُهَيِئُ الدولةُ المكتباتِ وسائرَ وسائلِ المعرفةِ في غيرِ المدارسِ والجامعاتِ لتمكينِ الذينَ يرغبونَ منْ مواصلةِ الأبحاثِ في الطبِّ وسائرِ العلومِ والمعارفِ، ومنْ مواصلةِ الاختراعِ والاكتشافِ وغيرِ ذلِكَ، حتى يوجَدَ في الأمةِ حشدٌ مِنَ المجتهدينَ والمبدعينَ والمخترعينَ، وحتى تُشَجِّعَ العلماءَ والأطباءَ على بذلِ الوسعِ في الإبداعِ والابتكارِ لتحقيقِ السَّبْقِ في المجالِ العلميِّ.

إلا أنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تَخُصُّ بعضَ الأمراضِ والمجالاتِ الطبيةِ بمزيدِ دَعْمٍ للبحثِ العلميِّ فيها، كالأمراضِ الوبائيةِ المنتشرةِ أوْ الأمراضِ المُسْتَعْصِيَةِ، دونَ نظرٍ إلى المردودِ المادِّيِّ مِنْ الاكتشافاتِ أوِ الابتكاراتِ العلميةِ في هذهِ المجالاتِ.
وتُنْشِئُ الدولةُ صندوقَ جوائزٍ طِبِّيَّةٍ منْ بيتِ المالِ يُكافئُ العلماءَ والأطباءَ الذينَ يكتشفونَ العلاجاتِ واللقاحاتِ، ويُقَدِّمُ هذا الصندوقُ أكبرَ الجوائِزِ لمُنْتِجِي العلاجاتِ أوْ سُبُلِ الوقايةِ مِنَ الأمراضِ الأخطرِ والأكثرِ انتشارًا في العالمِ.
وَقَدْ حَثَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوِي، والبحثِ عنِ الدواءِ، فقالَ عليهِ وآلهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ حينَ سَأَلَهُ الأعرابُ عنِ التداوِي: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أَوْ قَالَ دَوَاءً- إِلا دَاءً وَاحِدًا» قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «الْهَرَمُ»، وهَذَا حَدِيثٌ صَحَّحَهُ الألبانيُّ وأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

وعندَ الحاكمِ في المستدركِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِمْ يُنْزِلْ داءً إِلا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»، وَقالَ الحاكِمُ: «هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». وقولُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فيهِ حَثٌّ عَلَى عَدَمِ اليَأْسِ مِنْ اكتشافِ الدواءِ أوِ العلاجِ الأمثلِ لأيِّ مرضٍ.
وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الشِّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ أَنْ تُعَلِّمَ حَفْصَةَ زَوْجَهُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو داودَ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: "أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ"، والنَّمْلَةُ هِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مِنَ الْجَنْبِ أَوْ الْجَنْبَيْنِ. وَفِي هذا الأَمْرِ مِنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِشَارَةٌ إِلى تَدْرِيسِ عُلُومِ الطِّبِّ وَأَسالِيبِ العِلاجِ.

وفي هذا المقامِ منَ المهمِّ أنْ نَذكُرَ أنَّ ما يُسمَّى بحقوقِ الطبعِ وبراءةِ الاختراعِ المتَّبَعَةِ في الأنظمةِ الرأسماليةِ، هيَ شروطٌ غيرُ شرعيةٍ، لا يجبُ الالتزامُ بها، لأنَّ مُقتضى عقدِ البيعِ في الإسلامِ، كما يُعطي للمشتري حقَّ الملكيةِ يُعطيهِ أيضًا حقَّ التصرفِ بما يملكُ، وكلُّ شرطٍ مخالفٍ لمقتضى عقدِ البيعِ باطلٌ يكونُ المشتري في حِلٍّ منهُ، ولو كانَ مائةَ شرطٍ، فعنْ عائشةَ (رضي الله عنها): "أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال:َ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاء لِمَنْ أَعْتَقَ»، متفقٌ عليهِ. فالحديثُ يدلُّ بمنطوقهِ على أنَّ الشرطَ المخالفَ لِما في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ لا يجوزُ الالتزامُ بهِ، ولأنَّ شروطَ حمايةِ الملكيةِ الفكريةِ تجعلُ الانتفاعَ بالعينِ المباعةِ مَقْصُورًا على انتفاعٍ دونَ انتفاعٍ آخرَ، فَهِيَ شروطٌ باطِلَةٌ ومُخالِفَةٌ لما في كتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رسولِهِ، لكوْنها مُخَالِفَةً لمقتضى عقدِ البيعِ الشرعيِّ الذي يُمَكِّنُ المُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُفِ والانتفاعِ بالعينِ بأيِّ وجهٍ مِنَ الوجوهِ الشرعيةِ كالبيعِ والتجارةِ والتصنيعِ والهِبَةِ. وإنَّ الشروطَ التي تُحَرِّمُ الحلالَ شُروطٌ باطلةٌ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، رواهُ الترمذيُّ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ. وعليهِ فإنَّهُ لا يجوزُ شَرْعاً أنْ تكونَ حقوقُ الطَّبْعِ أوِ النَّسْخِ أوْ براءَةِ الاختراعِ محفوظةً، بلْ هيَ حقوقٌ مُبَاحَةٌ.

ولا تُحاسِبُ الدولةُ ولا تَمْنَعُ أيًّا مِنَ الشركاتِ أوِ الأفرادِ تحتَ حُكْمِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ والانتفاعِ بما استَوْرَدُوهُ أوْ نَقَلُوهُ مِنْ دُوَلٍ أُخْرَى، وذلكَ ضِمْنَ حُدُودِ الشرعِ، مثلَ تحليلِ الأدويةِ المَحْمِيَّةِ دوليًّا ببراءةِ إختراعٍ ثمَّ إعادَةِ تصنيعِها وفق الأسس الطبية الصحيحة وبَيْعِها، أوْ إعادَةِ طبعِ المقالاتِ العلميةِ وَنَشَرْها دونَ إِذْنٍ مِنْ كاتِبِها أوْ ناشِرِها.

ولا يُنْظَرُ إلى ما يُسمَّى باتفاقيةِ حقوقِ الملكيةِ الفكريةِ (TRIPS)، أوْ الاتفاقيةِ العامةِ للتعريفاتِ والتجارةِ (GATT)، حيثُ إنَّ هذهِ الاتفاقياتِ مُحَرَّمَةٌ شرعًا وشروطُها لا تُلْزِمُ المسلمينَ، أما العقوباتُ الدوليةُ أوِ المقاطعةُ التجاريةُ التي قدْ تَسْتَخْدِمها الدولُ الأخرى أوِ الأمَمِ المتحدةِ ضدَّ الدولةِ الإسلاميةِ في حالِ خَرْقِ هذِهِ الاتفاقياتِ فهيَ مسألةٌ سياسيةٌ ينبغي للدولةِ التعاملُ مَعَها دونَ التنازلِ أوْ مخالفَةِ الشرعِ، ويمكنُ أنْ يستخدمَ الإعلامُ لمحاولةِ كَشْفِ الجَشَعِ الرأسماليِّ واستغلالِهِ لهذهِ الاتفاقياتِ لحرمانِ الدولِ والشعوبِ الفقيرةِ منَ الانتفاعِ بخيراتِ الْعِلْمِ، ومحاولةِ استمالةِ الرأيِ العالميِّ منْ أجلِ كَسْرِ هذهِ الاتفاقياتِ والتخلصِ منْ تَبِعَاتِهَا.

المصدر:
مجلة الوعي

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

دوحة الإسلام عائدة


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى بجعل الجزيرة العربية، وتحديداً مكة المكرمة، سكنى إبراهيم عليه السلام، بأن تكون منبتاً لشجرة الإسلام العظيم ودوحته العظيمة. كما شاءت إرادته عز وجل بأن تنبت تلك البذرة على يدي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

فما إن اصطفاه الله سبحانه وتعالى وجعله من المرسلين حتى عمل بدون كلل ولا ملل، مع نفر ممن آمن برسالته السمحاء، على نمو تلك الشجرة العظيمة لتكون دوحة تظلل البشرية، وتنقل الناس من حر ورمضاء الجاهلية والعبودية إلى أن تفيء بظل عدل ورحمة شجرة الإسلام، والتي في ظلها السعادة والطمأنينة والعيش الكريم.

لقد عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أولئك النفر المؤمن على رعاية تلك النبتة حتى تظلل الأرض، وصبروا وثبتوا على رعاية نبتة الإسلام هذه، رغم كل ما لاقوا من مشقة وعذاب ومقاطعة ممن آثروا بقاء أشجار الزقوم على هذه الشجرة المباركة، والتي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي أكلها، ثمراً وشراباً بارداً هنيئاً للآكلين، وقد كلل الله سبحانه وتعالى عمل الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الميامين وثباتهم وصبرهم، بنجاح نمو هذه النبتة وتفرع أغصانها حتى أعطت، وبغزارة، أشهى الثمرات، والتي توِّجت بإقامة حكم وسلطان الله في الأرض، ناشراً الرحمة بين الناس.
وبعد أن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى برفع منهج النبوة من الأرض بموت آخر الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قيّـض الله سبحانه وتعالى لهذه الشجرة الضخمة من يرعاها ويحرث أرضها، فبقيت هذه الشجرة قوية الفروع خضراء الأغصان، تفيض حيويةً ونضارةً وجمالاً، وتعطي بغزارة أطيب وأشهى الثمرات، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، عندما حصل الخلل في ميزان القوى الدولي فسقطت الدولة الإسلامية من مركزها، وأخذت بالانحدار سريعاً حتى تفككت الأمة الإسلامية، وحطت في الحضيض بين الأمم مهدورة الكرامة، مسفوكة الدم، منهوبة الخيرات، مقطعة الأوصال. وقد تزامن هذا السقوط مع حصول الانقلاب الصناعي في أوروبا، والتي شهدت تطوراً كبيراً في الاختراعات والصناعات، وقفزت بعض دولها إلى المراكز الأولى في السلم الدولي، فأحدثت هذه العوامل صدمةً في عقول وأذهان المسلمين، فاندفع بعضهم يعيد النظر في فهم الإسلام، بل إن بعضهم صار يعيد النظر في بعض أفكار وأحكام الإسلام، وقد نتج عن ذلك أن ذبلت أغصان تلك الشجرة العظيمة، وضعفت فروعها، وقلت ثمارها؛ ففقدت لذتها وطيبها. إلا أن جذع هذه الشجرة بقي، ولكن اعتراه الضعف ودب فيه الجفاف. بيد أن الكفار أبوا بقاء حتى الجذع فضربوا ضربتهم باقتلاعه، وذلك بإلغاء نظام الحكم الإسلامي نظام (الخلافة) فبعد ذلك لم يبقَ من دوحة الإسلام العظيمة إلا الجذور والتي دب فيها الجفاف أيضاً. فلما نجح العدو في حكم بلاد المسلمين حكماً مباشراً، بعد أن قطعها إرباً، أخذ يعمل على قلع جذور الإسلام فنجح بذلك إلى حد كبير، ولم يبقَ من شجرة الإسلام إلا البذرة وبعض خيوط الجذور الرفيعة.

هذه هي حال شجرة الإسلام، فبذرتها لم ولن تموت؛ لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها وإعادة إنباتها مرة أخرى، فأدرك المسلمون في هذا الزمان أن لا عزة ولا نصر لهم إلا بأن تعود شجرة الإسلام شامخةً قويةً كما كانت في السابق، ويجب أن يعمل لإعادة إنشاء جذع أقوى، وفروع وأغصان أكثر نضارةً، وذلك بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. فعند النظر إلى حالة بذرة هذه الشجرة ووضعها الحالي يظهر أنه من الاستحالة أن تنبت هذه البذرة جذعاً، إلا بعلاج الجذور من نقطة انبثاقها عن البذرة، وذلك بوصل الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية بالعقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل أي فكر أو أي حكم شرعي إلا أن يكون منبثقاً من تلك البذرة، أي العقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل إلا بما هو مأخوذ من الكتاب والسنة، وبعد ذلك تسقى هذه الجذور، وتحرث الأرض من حولها، ويكسر ما جف منها، ويقلع كل جذر نبت من غير تلك الشجرة في هذه الأرض، كل ذلك من أجل إنشاء جذع قوي وأغصان ناضرة، كتلك التي نبتت في الجزيرة العربية على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته الذين رعوا تلك الدوحة العظيمة الشامخة.

وعند النظر في حال الأمة الإسلامية اليوم، قياساً بالفترة التي تلت اقتلاع جذع شجرتها وذلك بهدم كيانها، يلاحظ أن شجرة الإسلام اليوم أحسن حالاً من تلك الفترة، وقد تحقق ذلك بوجود أبناء خيِّـرين من تلك الأمة الكريمة يتصفون بتلك الصفات التي اتصف بها من زرعوا شجرة الإسلام الأولى وأنبتت على أيديهم، ألا وهم صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فعند وضع ميزان القياس للمقارنة بين تلك الفترتين (هذا الزمان، وفترة اقتلاع الجذع) يلاحظ أن الكثير من جذور الشجرة بدأت تنبت، وبدأت الحيوية تدب في بعضها، وذهب الجفاف عن قسم منها، واخضر القسم الآخر، وبذلك برزت جذور للشجرة مرة أخرى مخضرةً مبشرةً بتكوّن جذع صحيح من جديد، تنبثق منه أغصان وفروع مورقة تنبت براعم مثمرة، أي تبشر من جديد بإنبات شجرة الإسلام الطيبة التي تؤتي أكلها بإرادة ربها كما كات في سابق عهدها وذلك بإقامة حكم الله في الأرض، أي بإقامته على الفكرة الإسلامية الخالصة، أي خلافة راشدة ثابتة تكون على منهاج النبوة.
فالهدف ليس إيجاد جذع لتلك الشجرة بأي شكل كان، بل إيجاد الجذع المنبثق عن الجذور الأصلية والمنبثقة عن البذرة الأولى، ألا وهي العقيدة الإسلامية، أي بمعالجة الجذور من نقطة انبثاقها من البذرة، والاستمرار بهذه المعالجة بصبر وثبات حتى تَـنبتَ تلك الشجرة باسقةً بشكل طبيعي.

وعملية رعاية شجرة الإسلام لتعود كما كانت في إنباتها الأول، لابد من أن يكون العمل في الأمة الإسلامية ومعها، لتقوم هذه الأمة بتسليم حكمها ورعايتها لمن يرعى هذه الشجرة بالطريقة الصحيحة، فمن الخطأ والخطر بل العبث الاشتغال في غير معالجة الجذور لانبات الجذع، فلا بد من أن يكون العمل محصوراً في معالجة الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة وحرث ما حولها باستمرار، فمن هنا يجب أن يحصر العمل في إعادة دوحة الإسلام إلى القرون الأولى في أربعة أمور هي:
1- كسر الجذور اليابسة أي تحطيم المفاهيم المغلوطة في المجتمع، كقاعدة «حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» ونسف فكرة أن الديمقراطية من الإسلام وفكرة القومية والعصبية.. فيهاجم كل فكر يدّعى أنه من الإسلام وهو ليس منه، وكل فكر يناقض الإسلام.
2- إزالة الأتربة والغبار عن الجذور، أي ربط الأفكار والأحكام بالعقيدة الإسلامية، وبيان انبثاقها عن الكتاب والسنة. فربطها يكون ببيان علاقتها بالإيمان، وعلاقة طاعة الله ومعصيته بالعقيدة، وأن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرمه، وأما بيان انبثاقها عن الكتاب والسنة فإنما يكون بالإتيان بالدليل الشرعي، واستنباط الحكم الشرعي منه بحسب الأصول المنضبطة شرعاً.
3- سقي الشجرة، أي تنـزيل الأفكار على الوقائع والأحداث والمشاكل اليومية الجارية، وهذا هو الذي يحيي الأفكار والأحكام، وبغير ذلك تبقى أفكاراً ميتةً لا حياة فيها، فسقيها هو جعل الوقائع الحية تعالج بأفكار الإسلام وأحكامه فيكون هذا هو الماء الذي يحييها.
4- عزق الأرض وحرثها حول الشجرة، فيكون ذلك بالعيش مع الأمة وبينها وتوصيلها وتعليمها أفكار الإسلام؛ لهدم الأفكار والأعراف المخالفة للإسلام وبناء الأفكار والأعراف الإسلامية بدلاً منها.
بهذه الأمور الأربعة تعود دوحة الإسلام قوية شامخة، فهذه هي قصة الإسلام كشجرة ودوحة عظيمة، فكانت العقيدة الإسلامية هي البذرة التي أنبتت هذه الشجرة العظيمة، وأفكار الإسلام عن الحياة والأحكام التي تعالج مشاكل الحياة هي جذور هذه الشجرة، والجذع الباسق من الجذور هو الحكم أي السلطان وكانت فروعها القوية وأغصانها النضرة وهي خوض الأمة معترك الحياة الإسلامية وحملها الدعوة الإسلامية إلى العالم. ففي النظرة إلى تلك الشجرة في هذا الزمان يكون من الجهل أن يقال إن الإسلام كشجرة موجود في الحياة، ومن اليأس أن يقال إنه لا يمكن إعادته للحياة، ومن الظلم والإجحاف أن يقال إن الجهود التي تبذل لإعادة تلك الشجرة ذهبت هباءً منثوراً.

وعند تقييم شجرة الإسلام يرى أن الأمل بانبثاق الجذع صار أقوى من أي وقت مضى، وبدأت ملامح الشجرة بالتكوين، فأدركت الأمة الإسلامية ان لا عزة ولا نصر لها إلا بعودة شجرة الإسلام كما كانت نضرة خضراء قوية، وأصبح الإسلام مطلباً عند الأمة الإسلامية، تتشوق إلى أن تتفيأ ظلال دوحته العظيمة الشامخة الحامية من برد الشتاء ورمضاء الصيف.

فمسألة عودة الإسلام إلى واقع الحياة أصبحت أمراً واقعاً منوطاً بالمداومة على كسر الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة والغبار عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة كلها، وعزق ما حولها وحرثه، فبالاستمرار والدأب على هذه العملية، والمنهجية الربانية، تقوم الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور 55].

عطية الجبارين ـ فلسطين

الاثنين، 5 سبتمبر 2011

استئناف الحياة الإسلامية



بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العرش العظيم و أصلي و أسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا و حبيبنا محمد و على آله و صحابته و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

بعد أن كسر جدار الخوف ورأينا بأم أعيننا كيف أن الأمة التي عانات سنينا طوال تحت الذل و القهر والهوان تطالب اليوم و بكل جرأة بحل يعيد مجدها و يعيدها إلى سيرتها الأولى. ورأينا أن البضاعة التي تباع بثمن بخس و تستعرض في التلفاز ليل نهار من ديمقراطية وحرية ووطنية ووسطية وتدرج ودولة مدنية علمانية، أنها خيوط وضعية ووهمية تعاني منها البشرية . وبعد التدقيق في البحث استنتجنا معا أن السبب الرئيسي لكل هذه المشكلات الإجتماعية، والاقتصادية، و التعليمية، و الصحية و حتى السياسية ، هي غياب الإسلام من و اقع الحياة... فالحل إذاً يكمن في إستئنافه وإرجاعه ولكن كيف ... و ما السبيل ؟ وماهي الطريقة الصحيحة لإيجاده؟

قبل الحديث عن الطريقة كان لزاماً أن نعي جيداً أن إيجاد الإسلام هو عمل و فعل....و القاعدة الشرعية تقول الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي و الحكم الشرعي له أربعة مصادر لا غير:القرءان، السنة، إجماع الصحابة و القياس أي الاجتهاد المستنبط من القرءان و السنة و إجماع الصحابة. فإذا الكيفية في إيجاد الإسلام في واقع الحياة يجب أن تكون مستنبطة من هذه المصادر و مقيدة بها...لا أن تكون من العقل و لا الهوى ولا الواقع .

يقول الله سبحانه:
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر و ذكر الله كثيراً }
سورة الأحزاب آية ٢١

و معنى أسوة: أي مثال نقتدي به و نحتذي به خطوة خطوة
إذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء ليس في الملبوسات والأخلاق و العبادات فحسب بل في كل نواحي حياتنا. وهذا يقتضي أن ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم لا على أنه درس تاريخ كما أخذناه في المدارس مجرد حفظ كالببغاء لسلسلة الأحداث و التواريخ دون فهم أو ربط، ولا على أنها قصص جميلة مستحيلة التطبيق على أرض الواقع. لا و ألف لا ... فالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك التسلسل الدقيق لم تكن مجرد صدفة أو من هواه بل هو من وحي الله.

{ و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }
سورة النجم آية ٣ و ٤

و على هذا فينبغي لنا أن نتيقن أن الكيفية و الطريقة هي نفسها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. و ماأشبه الأمس باليوم كيف أننا نعيش في انحطاط وتخبط في دياجير الظلام و أننا بحاجة ماسة إلى ذاك السبيل الذي ارتقى بالبشرية و أخرجها من الظلمات إلى النور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


طريقة استئناف الحياة الإسلامية

و طريقة التغييرثابتة في الإسلام دليلها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بعثه الله في مجتمع مكة الجاهلي فعمل على تغييره بالطريقة التي رسمها الله، وقد سار في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: مرحلة التثقيف و تكوين الجماعة

بعد أن أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة، بدأ بتبليغه سراً، إلى أقرب الناس إليه كزوجته خديجة، وصاحبه أبي بكر، وابن عمه علي بن أبي طالب، وغيرهم ما بين رجل و امرأة من مختلف البيئات والأعمار، أكثرهم من صغار الشباب و كان فيهم الضعيف و القوي والغني و الفقير. و قد بلغ عددهم في هذه المرحلة ما يقارب الأربعين شخصاً. وكان حريصاً على التثقيف الجماعي في دار الأرقم ينقل إليهم ما ينزل عليه من الوحي، فيتلقونه تلقياً فكرياً، يضبط سلوكهم، ويقوي صلتهم بالله، ويزيد ثباتهم على الدين الجديد.
وكان الأثر الجماعي في الدعوة واضحاً و قد أحست قريش بهذا الدين الجديد بالرغم أنها لم تكن تعلم مكان تجمعها.و يذكر حرص الصحابة على تبليغ الدعوة فور اعتناقهم للإسلام فهاهو أبا بكر يدعو ستة من الصحابة للدخول في هذا الدين و لم ينتظر حتى يتعلم كل أمور الدين . و بهذه العزيمة وطدوا دعائم الدولة وحملوا لواء الدعوة خارج الجزيرة العربية .

المرحلة الثانية : مرحلة التفاعل

عندما نزلت الآية وأنذر عشيرتك الأقربين جمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على طعام في بيته يدعوهم إلى الإسلام و أن يؤازروه. و في حديث طويل يرويه علي بن أبي طالب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه رضي الله عنه خشيته من ردة فعل قومه و أنهم لن يقبلوا هذه الدعوة. فلما سكت نزل جبريل و أخبره أنه إن لم يفعل ما يؤمر سينزل به عقاب. و على إثر هذا جمعهم مرتين في منزله، المرة الأولى لم يتركه أبو لهب لأن يتحدث و المرة الثانية تمكن من دعوتهم. فهذه دلالة على أن الرسول لم يتدرج في أي أمر من أوامر الله بل كان يعمل لتنفيذه بالفور مهما كان صعبا. حتى أنه أعاد الكرة وجمعهم على الصفا فكان سب أبو لهب وكان رد القرآن يهاجم أبا لهب و يذكره باسمه :تبت يدا أبي لهب وتب، بالرغم من شرفه و مكانته في بني هاشم.

وعندما نزلت فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين خرج المسلمين علنا في صفين كان على رأس أحدهما حمزة بن عبد المطلب و على رأس الثاني عمر بن الخطاب و ذهب بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل فطاف بهم الكعبة ، وانتقل الرسول بذلك في أصحابه من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان. و هنا بدأ الصراع بين الحق و الباطل و المفاصلة في الدعوة للكفر و أفكاره و عدم الرضا بالقواسم المشتركة. فقد عاب آلهة قريش ، و سفه عقولهم ،و كشف أعمالهم السيئة، وواجه المجتمع متحديا طريقة عيشهم. و صارت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم في الدعوة في إنكار الشرك، و النعي على تقليد الآباء و الأجداد من غير نظر، و هاجمت الربا و التجارة الفاسدة ، و الغش في الكيل و الميزان ، ووأد البنات و هن أحياء.

فجاء زعماء قريش يشكونه لعمه أبي طالب، وعندما فاتحه أبو طالب بالأمر، قال عليه السلام : (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته) وهذا الموقف الحازم حمل أبا طالب لأن يقول لابن أخيه : (اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً) . و عندما عرضوا على الرسول الشرف و الملك و المال رفض رفضا تاما. بعدها عرضوا عليه أن يشتركوا معه في العبادة، فنزل فيهم قوله تعالى : (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون ... إلى قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين) .
فهذه كلها دلائل واضحة أنه لم يلجأ إلى الحل الوسط أو إلى إرضاء الطرفين بل و قف وقفة حاسمة لأن هذا أمر الله و مسألة عظيمة لا هوادة فيها.

وحاولت قريش بشتى الوسائل والأساليب أن تقف في وجه هذه الدعوة الجديدة، فجربوا الأساليب السياسية، حيث أشاع الوليد بن المغيرة بأن محمداً ساحر، يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته، وجعلوا يجلسون بالطرقات يتحدثون بذلك، للقادمين إلى موسم الحج(و هذا تماما مثل الإعلام الحالي الذي ينشر الكذب والخداع لأنه مبني على أساس باطل ،مثلا ينقل دائما تلك الصورة المشرقة للغرب وأن الأمة لا تريد الإسلام حلا لمشاكلها و في الحقيقة أن معظم الاستفتاءات تؤكد أن الإسلام مطلب الأمة و أعداد هائلة من المظاهارات تنادي و تندد بتطبيق الشريعة تحت ظل دولة الإسلام ) .و بذلك انتشر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب كلها.

فهددوه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر، وبالكهانة والجنون وأحاطوا به مرة يقولون : أأنت الذي تقول كذا وكذا في آلهتنا وديننا، فيقول لهم : نعم، أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) . و عانى المسلمين المستضعفين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء. ومنهم من يثبت على دينه حتى الموت.

ولما رأت قريش أن الإسلام يفشو في القبائل، اجتمع زعماؤها، واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب حماة محمد عليه السلام، وأن لا ينكحوهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم، وذلك من أجل أن يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت المقاطعة لمدة ثلاث سنوات.
إلا أن هذه الأساليب جميعها وهذه المغريات، وهذه الصعاب لم تثن الرسول عليه السلام ولا الصحابة عن عزمهم. و استمر الرسول دون ركون في هدم العقائد الفاسدة و الأراء الخاطئة و المجاهدة في سبيل الدعوة بالقرءان دون أن يلين أو يستكين أو أن يبدل.

وهنا نقطة مهمة:معاملة قريش للموحدين الذين كانوا يدعون إلى الرجوع إلى الدين الإبراهمي تختلف تماما عن معاملتهم مع رسول الله الذي كان يدعو إلى الإسلام. الفرق و اضح بينما كان الأول يكتفي بالفرد و ممارسة الفرد لدينه من الناحية التعبدية فحسب كان الثاني دينا كاملا أي أن كل الأنظمة يجب أن تكون نابعة من الإسلام. فبالتالي شعرت قريش بالتهديد من الإسلام مالم تشعره من الموحدين. و هذا تماما ما يحصل اليوم، كيف أن الغرب والحكومات الحالية لا ترى بأسا بأن نمارس الإسلام بالطريقة التعبدية أو أن نبني المساجد أو أن نتصدق إلى الفقراء لأن هذا لا يضرها بشيء. أما أن يدعو أحد برجوع الإسلام كنظام حياة عن طريق الحكم فلا يسمح أبدا. و لذلك حوربت أفغانستان و العراق والآن باكستان خوفا من هذا الكابوس الذي يراودهم .

المرحلة الثالثة: طلب النصرة و إقامة الدولة واستلام الحكم

تجمد مجتمع مكة على أفكار الكفر، بسبب عناد زعمائه واستكبارهم، و لم تبلغ الدعوة المدى الذي يمكن من التطبيق العملي حتى أمره ربه بطلب النصرة لحماية الدعوة وإقامة الدولة من القبائل المحيطة بمكة .فذهب إلى الطائف يلتمس النصرة و المنعة و عمد إلى نفر من سادة بني ثقيف و أشرافهم ولكن كما نعلم عومل بأسوء معاملة و رفضوا عرضه . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل و يقول (يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذا الأنداد، و أن تؤمنوا بي و تصدقوا بي و تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به) و جاء في سيرة ابن هشام: ( و حدث الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى كندة في منازلهم و عرض عليهم نفسه فأبوا عليه، و أنه أتى كلبا في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم ، وأنه أتى بني حنيفة في منازلهم و طلب منهم النصرة و المنعة فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم، و أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:” الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء “.فقال بيحرة : أفنهدف نحورنا للعرب دونك. فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك) .و هنا و قفة نرى كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب النصرة لنفسه بل طلبها لتطبيق شرع الله على الأرض . كان يمكن أن يتماشى مع الواقع الذي لديه و يرضى بهذا العرض أو أن يداهن و يأتي بالحل الوسط يرضي بها الطرفين بالمشاركة مثلا حتى يحصل النصرة التي عانى كثيرا من أجلها. و لكن كما رأينا كان ثابتا على الحق لا يخاف في الله لومة لائم.

وهكذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو القبائل إلى الله و يعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة و عكاظ و منى أن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه و لهم الجنة. يقال أن عدد القبائل التي باشرها تقارب الأربعين.والناظر يرى أن الرسول قد طلب النصرة من الزعماء الذين يملكون القوة . وأنه بالرغم من الرد القبيح الذي تتالى عليه من قبيلة إلى قبيلة فإنه بقي مصراً على الطلب وكرره ولم يهدأ بطلبه . فهذا الإصرار إنْ دل على شيء فإنه ليدل بشكل واضح على أنّ طلب النصرة كان أمراً من الله له بفعله .

فليست قبيلة من العرب تستجيب له ويؤذى ويُشتَم حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده ،فهيأ هذه الدعوة المدينة المنورة، وتجاوب أهلها مع الإسلام، وأعطوا النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر هو وأصحابه إليها، وأقام الدولة الإسلامية . و من خلالها طبق الإسلام عملياً في كل نواحيها و ماعلينا إلا أن نبحث في السيرة لنتعلم جهاز الحكم و كيف أنه صلى عليه و سلم كحاكم دولة راعى الشؤون الداخلية و كذلك الخارجية. و هل توقف الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كلا، استمر الصحابة على نهجه و الخلفاء من بعدهم حتى كانت الضربة المميتة عندما هدمت الخلافة في عام ١٩٢٤ م التي من جرائها تعيش الأمة في الظلمات ولكنها لم تفقد الأمل لإرجاع أمها الحنون التي سترعاها خير رعاية و لن تسمح لأي أحد كائناً من كان أن يمسها بسوء.

هذه المراحل الثلاث التي مرت بها الدعوة الإسلامية لإيجاد الإسلام و تطبيقه في المجتمع و هي الطريقة الشرعية لاستئناف الحياة الإسلامية، ولا يجوز مخالفتها، فعلى العاملين للتغيير على أساس الإسلام أن يلتزموا بها بحذافيرها.

{ وماآتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا }
سورة الحشر آية ٧

{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني و سبحان الله و ماأنا من المشركين }
سورة يوسف آية ١.٨

و ختاما إن الأمة الإسلامية بأحوج ما تكون إلى الدواء الشافي و العلاج الصحيح المجرب و الثابت نجاحه. ذلك أن الأمة المسكينة لم يبق فيها- لكثرة ماأجري فيها من التجارب - وريد و لا شريان ولا عضل أو أي مكان آخر يصلح للتجارب و غرز الإبر ، و كفى هذه الأمة آلاماً و تعذيباً، مما يوجب على الأمة رفض أي علاج لم تثبت جدواه بطريقة قطعية تدلل على أنه العلاج الذي ليس بعده علاج . و لا سبيل لها إلا باتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في إيجاد الإسلام في واقع الحياة.

{ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه وأنه إليه تحشرون }
سورة الأنفال آية ٢٤

بقلم: أم أمين- أرض الحجاز