الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

فبهداهم اقتده: عباد بن بشر رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

 "ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يسمو عليهم فضلاً: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبَّاد بن بشر" عائشة أم المؤمنين عباد بن بشر اسم وضيء مشرق في تاريخ الدعوة المحمدية... إن نشدته بين العُباد وجَدتَه التّقيّ النقيّ قوّام الليل بأجزاء القرآن. وإن طلبتَه بين الأبطال ألفيته الكميَّ الحميَّ خوّاض المعارك إعلاء لكلمة الله... وإن بحثت عنه بين الولاة رأيته القوي المؤتمن على أموال المسلمين... حتى قالت عائشة فيه وفي اثنين آخرين من بني قومه: “ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يسمو عليهم فضلاً: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعبَّاد بن بشر”.

 كان عباد بن بشر الأشهلي حين لاح في آفاق يثرب أول شعاع من أشعة الهداية المحمدية فتىً موفور الشباب، غضّ الإرهاب، تعرف في وجهه نضرة العفاف والطهر، وتلمح في تصرفاته رزانة الكهول؛ على الرغم من أنه لم يكن إذ ذاك قد جاوز الخامسة والعشرين من عمره السعيد. وقد اجتمع إلى الداعية المكي الشاب مصعب بن عمير فسرعان ما ألّفت بين قلبيهما أواصر الإيمان، ووحَّدت بين نفسيهما كريم الشمائل ونبيل الخصال. وقد استمع إلى مصعب وهو يرتل القرآن بصوته الفضيِّ الدافئ، ونبرته الشجية الآسرة فشغف بكلام الله حبًّا، وأفسح له في سويداء فؤاده مكاناً رحباً، وجعله شغله الشاغل فكان يردّده في ليله ونهاره، وحلّه وترحاله، حتى عرف بين الصحابة بالإمام، وصديق القرآن. وقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يتهجّد ذات ليلة في بيتِ عائشة الملاصق للمسجد، فسمع صوت عبّاد بن بشر وهو يقرأ القرآن رطباً ندياً كما نزل به جبريل على قلبه فقال: "يا عائشة هذا صوت عباد بن بشر؟!" قالت:"نعم يا رسول الله"، قال: "اللهم اغفر له".

 شهد عباد بن بشر مع الرسول صلوات الله عليه مشاهده كلها، وكان له في كل منها موقفٌ يليق بحامل القرآن... من ذلك أن الرسول صلوات الله عليه لما قفل عائداً من غزوة ذات الرقاع نزل بالمسلمين في شعبٍ من الشعاب ليقضوا ليلتهم فيه. وكان أحد المسلمين قد سبى -في أثناء الغزوة- امرأةً من نساء المشركين في غيبة من زوجها، فلما حضر الزوج -ولم يجد امرأته- أقسم باللات والعزى ليلحقن بمحمد وأصحابه وألا يعود إلا إذا أراق منهم دماً. وما كاد المسلمون يُنيخون رواحلهم في الشعب حتى قال لهم الرسول صلوات الله عليه: "من يحرسنا في ليلتنا هذه؟" فقام إليه عباد بن بشر، وعمار بن ياسر وقالا: "نحن يا رسول الله" وقد كان النبي آخى بينهما حين قدم المهاجرون على المدينة. فلما خرجا إلى فم الشعب قال عباد بن بشر لأخيه عمار بن ياسر: "أي شطري الليل تؤثر أن تنام: أوله أم آخره؟" فقال عمار: "بل أنام أوله واضطجع غير بعيد عنه". كان الليل وقتها ساجياً هادئاً وادعاً، وكان النجم والشجر والحجر تسبح بحمد ربها وتقدس له، فتاقت نفس عبّاد بن بشر إلى العبادة، واشتاق قلبه إلى القرآن. وكان أحلى ما يحلو له القرآن إذا رتّله مصلياً فيجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة. فتوجه إلى القبلة ودخل الصلاة وطفق يقرأ من سورة الكهف بصوته الشجيِّ النديِّ العذب. وفيما هو سابح في هذا النور الإلهي الأسنى غارقٌ في لألاء ضيائه؛ أقبل الرجل يحث الخطى فلما رأى عباد من بعيد منتصباً على فم الشعب عرف لأن النبي وصحبه بداخله وأنه حارس القوم، فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته ورماه به فوضعه فيه. فانتزعه عباد من جسده ومضى متدفقاً في تلاوته غارقاً في صلاته... فرماه الرجل بآخر فوضعه فيه؛ فانتزعه كما انتزع سابقه، فرماه بثالث فانتزعه كما انتزع سابقيه، وزحف حتى غدا قريباً من صاحبه وأيقظه قائلاً: انهض فقد أثخنتني الجراح. فلما رآهما الرجل ولّى هارباً. وحانت التفافة من عمار إلى عبّاد فرأى الدماء تنزف غزيرة من جراحه الثلاثة فقال له: يا سبحان الله هلا أيقظتني عند أول سهم رماك به؟! فقال عباد: "كنت في سورة فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها. وأيم الله لولا خوفي من أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها."

ولما نشبت حروب الردة على عهد أبي بكر رضي الله عنه، جهّز الصديق جيشاً كثيفاً للقضاء على فتنة مسيلمة الكذاب، وإخضاع المرتدين الذين ظاهروه، وإعادتهم إلى حظيرة الإسلام، فكان عباد بن بشر في طليعة ذلك الجيش. وقد رأى عباد -خلال المعارك التي لم يحقق المسلمون فيها نصراً يذكر- من تواكل الأنصار على المهاجرين، وتواكل المهاجرين على الأنصار، ما شحن صدره أسىً وغيظاً، وسمع من تنابزهم ما حشا سمعه جمراً وشوكاً، فأيقن أنه لا نجاح للمسلمين في هذه المعارك الطاحنة إلا إذا تميز كل من الفريقين عن الآخر ليتحمل مسؤوليته وحده... وليعلم المجاهدين الصابرين حقاً. وفي الليلة التي سبقت المعركة الحاسمة رأى عباد بن بشر فيما يراه النائم أن السماء انفرجت له، فلما دخل فيها ضمته إليها وأغلقت عليه بابها... فلما أصبح حدَّث أبا سعيدٍ الخدري برؤياه وقال: والله إنا الشهادة يا أبا سعيد. فما طلع النهار واستؤنف القتال علا عباد بن بشر نشزاً من الأرض وجعل يصيح: يا معشر الأنصار تميزوا من الناس واحطموا جفون السيوف... ولا تتركوا الإسلام يؤتى من قبلكم... وما زال يردد ذلك النداء حتى اجتمع عليه نحو أربعمائة منهم على رأسه ثابت بن قيس، والبراء بن مالك، وأبو دجانة صاحب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومضى عباد بن بشر ومن معه يشق الصفوف بسيفه ويلقي الحتوف بصدره، حتى كسرت شوكة مسيلمة الكذاب ومن معه وأُلجِئوا إلى حديقة الموت. وهناك عند أسوار الحديقة سقط عباد بن بشر شهيداً مضرَّجاً بدمائه... وفيه ما فيه كم ضربات السيوف وطعنات الرماح ووقع السهام. حتى إنهم لم يعرفوه إلا بعلامة كانت في جسده.

المصدر: مجلة الوعي

أثر الروح عند المسلمين وأثر فقدانها في الحضارات الأخرى


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل إلينا هذه الحضارة صافية نقية من فوق سبع سماوات فتعرضت لجميع مناحي الحياة فعالجتها، وإلى الإنسان وحاجاته فأشبعتها. الحمد لله الذي عرفنا إلى نفسه من خلال عقيدة عقلية. حكم العقل بصحتها، فبعد أن تتالت النصوص النقلية لتحديد علاقة الخــالق بالمخــلوق، وذلك أن الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوق لخالق واجب الوجود، واستطاع العقل أن يقف على هذه الحقيقة ويقرها، فكانت الناحية الروحية عند المسلمين جلية واضحة في أبهى صورها، وهي حقيقة راسخة لا ريب فيها، وهي أن الكون وما عليه من إنسان وحياة مخلوق لخالق. فكانت هذه الصلة بين الإنسان وخالقه هي الناحية الروحية عند المسلمين، وكانت هي الأساس الراسخ لإدراك الصلة بالله أنها صلة عبد بمعبود، فكان إيماناً نابعاً عن إدراك، لا إيماناً شعورياً في مهب الريح. 


فإدراك هذه الصلة، أي إدراك كون الأشياء مخلوقة لخالق هو الروح. وأن هذه الروح ليست من الإنسان و لا جزءاً من تركيبه، وإنما من الإدراك نفسه، ومن خلال هذا الإدراك يتقيد المؤمن بكل ما جاء به الوحي من عند الله من أفكار وأحكام طائعاً لله عز وجل وحده لأنه أدرك أنه عبد له وحده. فوجود هذه الروح عند المؤمن يشكل الضابط الأساسي في تقيده بالأحكام الشرعية بشكل ثابت و مستمر، فتجعل سلوكه الدؤوب في إشباع جوعاته سلوكاً منضبطاً بالوازع الداخلي، ومنطلقاً من إيمانه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1] وذلك رغبةً في نيل رضوان الله ودخول جنته وهروباً من عذابه.

فما أعظم هذه الروح عند المؤمنين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن التابعين وغيرهم ممن تربوا في ظل خلافة تنمي عندهم هذه الروح وتحرسها من الضعف والضياع! فقد كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيات عظيمة متميزة وبناء مجتمعات راقية يشار لها بالبنان.

وقد أثبت التاريخ الإسلامي على مر العصور أثر هذه الروح في بناء الشخصية الإسلامية المتميزة ذات اللون الواحد والطابع المحدد، وذلك من خلال التزامهم بأوامر الله التزاماً ثابتاً مبنياً على إدراك الصلة بالله عزّ وجل طمعاً بنيل رضوانه سبحانه لا لتحقيق مصلحة دنيوية أو منفعة زائلة، وإنما طاعة لله دون الالتفات إن كان في ذلك ضرر أو نفع، فكان الخير ما أرضى الله والشر ما أسخطه. 

فقد التزم المسلمون بأوامر الله جميعها ولو خالفت أهواءهم، وأقلعوا عن عادات أحبوها وأسرت قلوبهم طوال جاهليتهم؛ فلم يكن ذلك إلا بفضل هذه الروح، فلم يكن الامتناع عن شرب الخمرة مثلاً إلا طاعة لله واستجابة لأوامره، فلم يكن ذلك لمذاق سيئ أو لغلاء سعر أو غيره، وكانت هذه الطاعة مبنية على إدراك الصلة بالله عز وجل، فما أن حرم شربها حتى جرت الخمرة في شوارع المدينة، هكذا كان التزام المسلمين بأوامر الله، وخاصة في زمن الصحابة الكرام وزمن من جاء بعدهم من التابعين، وهكذا يجب أن يكون (إن شاء الله تعالى) التزام الأمة في ظل الخلافة الراشدة القادمة، فتجعل أبناءها متصلين متواصلين مع ربهم، وتكون هذه الروح سبباً أساسياً في بناء شخصياتهم، وقوية حاضرة في كل لحظة من حياتهم، فيتمثل فيهم قوله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام 162].
إن غياب هذه الروح و ضعف الإدراك للصلة بالله عز وجل ولو لفترات بسيطة، تضعف المسلم في تقيده بأوامر الله وتجعله عرضة لحبائل الشيطان وعرضة للزلل؛ لأن هذه الروح ليست جزءاً من تركيب الإنسان أو المسلم وإنما هي طارئة عليه آتية من الإدراك ذاته، ولكن المؤمن الحق سرعان ما يفيء إلى أمر ربه فيجدد هذا الإدراك ويستحضر هذه الروح من جديد، فيرجع إلى إيمانه وتقواه، فها هي الغامدية في لحظة غياب هذه الروح وضعف هذا الإدراك فعلت ما فعلت من معصية، و لكنها عند تفعيل هذا الإدراك، أي تجديد هذه الروح أصرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهرها بإقامة حد الرجم عليها، خوفاً من عذاب الله، وقد أصرت على ذلك طيلة ثلاث سنوات، ولم يستطع الشيطان أن يردها عن ذلك، فما أعظم هذه الروح! وما أعظم هذه التقوى! عندما تكون مبنية على إدراك الصلة بالله (عز وجل)، أي مسيرة بهذه الروح!

ولا يغيب عن أذهاننا أثر هذه الروح على ترابط وتراحم المجتمع المسلم، و ذلك من خلال تقيد أبناء هذا المجتمع بالتراحم و التكافل والإيثار وغيره تقيداً دائمياً غير منقطع، ذا وتيرة واحدة طاعة لله وطمعاً بالأجر والثواب من عنده، وذلك أثراً لوجود هذه الروح، فيتسابقون على كفالة اليتيم طمعاً بالأجر والثواب من الله عز وجل لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» (رواه أحمد وأبو داود) وأشار بالسبابة والوسطى، كما ويؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذلك كما آثر الجرحى في جيش المسلمين كلٌ أخاه على نفسه في شرب الماء، رغم عطشهم حتى استشهدوا جميعاً دون أن يشرب أحد منهم . فكان ذلك أيضاً بفضل وجود هذه الروح العظيمة عندهم، كما أن حرص المسلمين على أن لا يبات جار أو قريب جوعان لأثر لهذه الروح تقيداً منهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد)، وإن وجود هذه الروح يجعل المسلمين في جد واجتهاد وطاعة وانضباط وإخلاص، في كل مجال من مجالات حياتهم ومن ضمنها طاعة الحاكم الذي يحكم بالإسلام حيث طاعته من طاعة الله، فيثمر ذلك في تقدم وازدهار وتطور الدولة والمجتمع؛ ليكون مجتمعاً ربانياً متميزاً يتمثل فيه وصف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم)؟ فكيف ينطبق هذا الوصف على واقعه إن لم تكن هذه الروح موجودة وحاضرة عند أبناء المجتمع المسلم حيث يتقيدون بأحكام الله سراً وعلانية، رغبة في ما عند الله ورجاء رضوانه؟ فكان عزوف المسلمين عن الغيبة والنميمة هو عزوف متصل بهذه الروح، استجابة لأمر الله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات 12]، وكان انصراف المسلمون عن النميمة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ»، وكان الالتزام بصلة الرحم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، وانتهوا أيضاً عن قذف المحصنات الغافلات خوفاً من الله تعالى لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور 23]، فكل ذلك وغيره كان بفعل هذه الروح التي تجعلهم متصلين مع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ولهذا كانت العلاقات التي تربط أفراد المجتمع المسلم علاقات متينة مبنية على أساس واحد وهو خشية الله عز وجل، فكان مجتمعاً راقياً مصطلحاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، يحكمه الوازع الداخلي، ويقوم على تقوى الله عز وجل النابعة بشكل مستمر من وجود هذه الروح أي هذا الإدراك القوي المتين. 

لقد كان السواد الأعظم من هذه الأمة يتمتعون بهذه الروح، وعلى هذه الدرجة من التقوى، فقصة بنت بائعة اللبن لأعظم دليل على ذلك، فما أعظم هذه الروح عند هذه المؤمنة البسيطة، فهي من عامة الأمة، ولعلها فقيرة أو يتيمة لكنها كانت بهذه التقوى النابعة من الإدراك المتواصل بخالقها. 

أليس هذا طبيعياً لمن تربى على مائدة الخلافة الراشدة! خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فشاء الله أن يَسمعها سيدنا عمر، عندما قالت مقولتها، فشاع صيتها ووصلنا خبرها، ولكن هناك الكثير الكثير من أبناء ذلك المجتمع الذين هم بنفس الروح والإدراك، ولكن لم يسمعهم ابن الخطاب أو غيره، فلم يصلنا خبرهم، ولكن المقطوع به أن السواد الأعظم من أبناء تلك الأمة كان لديهم نفس الروح، وسيعود ذلك إن شاء الله في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة التي تقوي هذه الروح وتحرسها، وتربي أجيالاً على مائدة التقوى، فيظهر عندها رجال أمثال الخلفاء الراشدين وغيرهم، ويكون أفراد المجتمع بسواده الأعظم كبنت بائعة اللبن، مجتمعاً متميزاً يعيش لله ويموت لله.

وقد فرضت الشريعة الإسلامية الكثير من التشريعات بهذا الخصوص، فالتزم بها المسلمون بشكل ثابت بفضل وجود هذه الروح، فكان مجتمعاً متميزاً بعلاقاته وأفراده وحكامه، حيث كان تمثل هذه الروح عند ولاة الأمر كالخلفاء الراشدين واضحاً متميزاً، فلم يكن هناك فرق بين حاكم ومحكوم أمام شرع الله، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يرى الفاحشة بأم عينه فيثور ويغضب لله ولكنه لا يستطيع البوح باسم الفاعل أو عقابه لغياب شهوده الأربع، فكان ذلك التقيد بالحكم الشرعي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أثراً لوجود هذه الروح، فلم يتجاوز أوامر الله رغم كونه رأس الهرم، كما تجلت هذه الروح العظيمة عند الصحابة بمن فيهم سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهم يشكلون الوسط السياسي آنذاك، فلم يكونوا أقل التزاماً بأوامر الله من أمير المؤمنين حيث قال له سيدنا علي (رضي الله عنه): «والله لو كشفت الفاعل دون شهود لأقمنا عليك حد القذف يا أمير المؤمنين»، علماً أن الصحابة وعلي بن أبي طالب يعرفون قدر عمر بن الخطاب ويصدقونه، فهو الإمام التقي العادل الورع، ولكن وجود هذه الروح كان سبباً في تقيدهم جميعاً وحرصهم على أوامر الله عز وجل.

فما أروع هذا التقيد بأحكام الله كأثر كبير لوجود هذه الروح عند الحاكم والمحكوم في مجتمع متجانس يُحكم بنفس النظام الذي يؤمن به! فكان هذا التقيد بأحكام الله حامياً للمجتمع من كل سوء، وموفراً للأمة الأمن والأمان بشكل دائم، وما كان ذلك إلا أثراً وثمرة لوجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وبهذه الروح تتحقق جميع القيم بالمجتمع الإسلامي بشكل متوازن، فتتحقق القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية وكذلك القيمة المادية.
و تتجلى هذه الروح عند المسلمين حتى في حملهم لدعوة الإسلام، فعندما خرجوا من الجزيرة العربية فاتحين البلاد وحاملين عقيدة الإسلام كانوا مسلحين بهذه الروح متقيدين بأحكام الله، فلم يخرجوا لاستعمار البلاد والعباد أو لنهب خيرات الأمم، وإنما خرجوا حاملين لواء الهداية طاعة لله وأملاً بنيل الشهادة أو النصر. فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح (رضي الله عنه) يرجع الجزية لأهل حمص وهم نصارى، وذلك عندما اضطر للانسحاب من المدينة تطبيقاً لأحكام الله وبفضل هذه الروح، وقد اعتنق أهل إندونيسيا الإسلام بفضل أخلاق التجار المسلمين، الذين كانوا يرتادون بلادهم، وذلك بسبب تطبيقهم لأحكام الله في تجارتهم بفضل وجود هذه الروح لديهم، فكانت هذه الأخلاق ناتجة من ربط كل سلوك لديهم بعقيدتهم فكان هذا الربط هو الإدراك ذاته والروح عينها.

كما كان وجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية في ظل دولة الإسلام سبباً في بروز العديد من العلماء المسلمين في شتى أنواع العلوم. شرعية كانت أو دنيوية، فلم تكن جهودهم إلا تقرباً من الله عز و جل لا تقرباً من أمراء أو حكام طمعاً بمال أو جاه، بل كان معظمهم يحرص على بعده من الأمراء والمناصب الهامة بالدولة حتى لا يشوب عمله وجهده أي شائبة من عرض الدنيا، بل يريدونها خالصة لوجه الله؛ وذلك لإدراكهم الصلة المستمرة بالله عز وجل. فقد رُوي عن أحد علماء الأمة أن والدته كانت تؤكله بيدها أثناء عمله الدؤوب حرصاً منه على عدم ضياع الوقت، فلو كان عمله من أجل دنيا يصيبها لما كان ذلك الحرص، ولكنهم كانوا لا يرجون في أعمالهم وعلمهم إلا وجه الله، فدل ذلك دون أدنى شك على إدراكهم العظيم الصلة بالله عز وجل، فلم تكن هذه النهضة العلمية في العصور الإسلامية السابقة إلا ثمرة لقوة هذه الروح لدى أبناء الأمة، حيث خاضوا شتى الميادين رابطين علمهم وعملهم بعقيدتهم تقرباً إلى الله، فبرعوا وأنجزوا، و سيعود ذلك قريباً بإذن الله في ظل خلافة راشدة ترعى شؤون الأمة بأوامر الله، وتهيئ كل الظروف للأجيال القادمة التي تنشأ وتتربى على مائدة الولاء والطاعة لله وحده، ويكون إدراكهم للصلة بالله عز وجل، قوياً متواصلاً، فيرهنون حياتهم للإسلام والمسلمين طاعة لله عز وجل، فيعيدون أمجاد أسلافهم في شتى الميادين، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.

كما ساهم وجود هذه الروح لدى المسلمين من حيث التزامهم بأوامر الله عز وجل مساهمة كبيرة في نمو الاقتصاد في الدولة الإسلامية، فشكل ذلك جانباً روحياً فريداً من نوعه في الاقتصاد الإسلامي حيث تفتقر إلى ذلك كافة الأنظمة الاقتصادية في العالم على مر التاريخ، فقد كان لتحريم كنز المال وتقيد المسلمين بذلك دون رقيب سوى الله عز وجل الأثر الكبير في اقتصاد الدولة الإسلامية، حيث كانت أموال الأمة في استثمار مستمر؛ فساعد ذلك كثيراً في عدم ظهور البطالة لتوفر فرص العمل في الدولة، كما حد ذلك من الحاجة والعوز، فما كان ذلك الالتزام إلا طاعة لله عز وجل وخوفاً من معصيته كأثر واضح لقوة هذه الروح لديهم. كما كان لالتزام المسلمين بالعبادات المالية الواجبة منها والمندوبة، سراً وعلانية، طاعة لله وتقرباً منه، أثر عظيم لتواصل إدراكهم لصلتهم بالله عز وجل، فتنافس المسلمون في ذلك للحصول على الأجر والثواب أضعافاً مضاعفة، إيماناً بقوله عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 261]، ولم يكن هذا إلا للتقيد بشرع الله ولم يكن هذا الإنفاق نفاقاً أو رغبة في سمعة أو جاه، ولكن كان أكيداً بفضل هذه الروح، فتمثل قوله عز وجل في نفوسهم وسلوكهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة 264]، ألم ينفق سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) قافلة ضخمة طاعة لله وتقرباً من الله عز وجل ورغبة بدخول الجنة رغم أنه من المبشرين بالجنة، فلم تكن هذه البشرى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدعاة للتقاعس، فمن أدرك هذه الصلة بالله عز وجل ووجدت عنده هذه الروح لا يسعه إلا أن يبذل الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاة الله، فلم يكن هذا الصحابي الجليل ليطمع في سمعة أو جاه، و إنما كانت تجارة مع الله، وما أجملها، وما أسماها من روح! فكيف يكون هناك فقر أو عوز وأبناء هذه الأمة يتحلون بهذه الروح العظيمة وهذا الإيمان الراسخ! يتقون الله ولو بشق تمرة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (البخاري ومسلم)، حتى أصبح الإنفاق في سبيل الله عند أبناء هذه الأمة سجية لا حدود لها.

وهذا سيدنا عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة على نفقته الخاصة، ويشتري بئر رومة من يهود المدينة المنورة بعشرين ألف درهم، و يسبلها ليشرب المسلمون منها بلا مقابل طلباً للأجر والثواب من الله عز وجل، ورغبة في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فما كان ذلك ليكون لولا هذه الروح. ويضع سيدنا أبو بكر الصديق ماله كله في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبإيمان راسخ مبني على إدراك وثقة بالله عز وجل يقول رداً على سؤال الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَاذَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فيقول أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، فلم يكن وجود هذه الروح لديهم لتجعلهم يخشون فقراً أو فاقة إيماناً بقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 268] فكانوا بفضل هذه الروح كالريح المرسلة، هكذا كان وسيكون أبناء هذه الأمة بسبب هذا الإدراك، أي بسبب هذه الروح العظيمة.

إن هذه الأمة غنية ليس فقط لوفرة مواردها الطبيعية، وإنما أيضاً بتوفر هذه النفسيات العظيمة الملتزمة بشرع الله، كثمرة لوجود هذه الروح التي تجعل تقيدهم بشرع الله تقيداً ثابتاً دون حاجة لأي رقابة بشرية، وإنما بالوازع الداخلي المتمثل برقابة الله؛ فكان ذلك المحرك والمسير لهذا الالتزام.

ولا شك أن الشريعة الإسلامية زاخرة بالتشريعات التي يشكل التزام المسلمين بها إيماناً واحتساباً هذا الجانب الروحي في اقتصاد المسلمين، فنبذ المسلمون على سبيل المثال التعامل بالربا خوفاً من غضب الله وسخطه وتعاملوا بالقرض الحسن، وابتعدوا عن الاحتكار وغيرها من التشريعات، كما شكل هذا الالتزام بهذه التشريعات مع وجود هذه الروح الجانب الروحي في كل مجالات حياتهم. 

نعم؛ إن التشريعات الإسلامية تشريعات سماوية من لدن عليم خبير، ولكن لو طبقت هذه التشريعات نفاقاً دون وجود هذه الروح لما أثمرت في الفرد ولا في المجتمع، لأنه لن يربط عندها السلوك بالعقيدة. وكذلك لو طبقت هذه التشريعات في أنظمة أخرى منفصلة عن عقيدتها لما أثمرت ولما تشكل هذا الجانب الروحي لغياب الروح عند تطبيقها. ولذلك فإن العبرة ليست في نوع التشريع فحسب، وإنما أيضاً بوجود الروح عند الالتزام بها حيث يكون هذا الالتزام طاعة لأوامر الله، ورغبة بنوال رضوانه لا نفاقاً أو جرياً وراء منفعة، وعندها يكون لهذا الالتزام ثمرة في جميع مناحي الحياة بفضل هذه الروح.

إنه لشرف عظيم لأبناء هذه الأمة المخلصين أن يهبوا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام استجابة لأوامر الله، فتعيد الأمة الإسلامية لسابق عهدها لتنهض بها وتكون قدوة لباقي الأمم، فتخلصهم من الكفر والضلال، لاسيما وأن بني الإنسان يعيشون في هذا الزمان في ظل فكرة فاسدة ألقت بظلال فسادها على البشرية كلها، فطال ذلك كل شيء في حياتها حتى الحجر والشجر، فلم تُبقِ ولم تذرْ، إنها الرأسمالية الكافرة الفاجرة، التي أفسدت حياة البشر، وأفسدت فطرة الإنسان وانحرفت بها عن جادة الصواب، حيث تحمل فسادها في ثنايا عقيدتها ونظامها ومقياس أعمالها، فكان من فساد عقيدتها بأنها لم تحدد علاقة الإنسان بخالقه، ولم تقف من هذه المسألة موقفاً جاداً لتقرر أن لهذا الإنسان خالقاً واجب الوجود، بل كان موقفاً هامشياً. فكانت الناحية الروحية عندهم، أي كون الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوقاً لخالق، قضية فردية يعتقدها من يشاء وينكرها من يشاء، فبقيت الناحية الروحية قائمة على إحساس غريزي وليس على أساس فكري قائم على إدراك العقل لها والتدليل عليها والوقوف على حقيقتها، فكان التقديس عند أفرادهم ناتجاً عن إحساس غريزي بحت، فلا يوجد للعقل أي وجود، بل يستبعد العقل والإدراك، فكان هذا التقديس ليس إيماناً ولا ناتجاً عن إيمان، وإنما هو ضلال وكفر، وهو ليس عبادة لله، و إن توجه فيه صاحبه لله أو لفكرة الألوهية.

وبهذا يكون هذا النظام قد فقد إدراك الصلة بالله، أي فقد أفراده الروح في أعمالهم، لاسيما وأنهم استبعدوا حق الله في التشريع، وسيَّروا حياتهم حسب تشريع البشر؛ فكان العقل هو المشرع الوحيد عندهم، فلم يعد هناك أي روح في أفعالهم، ولم يعد هناك أي اعتبار لمرضاة الله، وانطلقوا في إشباع جوعاتهم من إملاءات غرائزهم دون أي وازع داخلي، فلم يعد هناك روح لربط سلوكياتهم بها حتى يكون لها أثر في بناء أفرادهم ومجتمعاتهم، بل أصبحت أعمالهم تربط بالمصالح والمنافع التي تحقق لهم إشباع جوعاتهم كيفما شاءوا، فأصبحت المنفعة مقياس أعمالهم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية هي السعادة بأعينهم، فأصبحوا كالأنعام يعيشون لشهواتهم بلا قيود، فسيطرت على مجتمعاتهم القيمة المادية وما نتج عنها من أنانية وجشع، فانعكس ذلك كله على نفسياتهم الخالية من الروحانية؛ فأحسوا بالشقاء وعدم الطمأنينة؛ فكثرت عندهم حالات اليأس والانتحار والأمراض النفسية، وضعفت عندهم مظاهر الأبوة والأمومة، فلم يعد تكوين الأسرة أمراً هاماً في حياتهم، وإن وجدت فهي أسر متفككة، كما انعكس ذلك أيضاً على المجتمع و أفراده، حيث أصبحت مجتمعاتهم متفككة لا ترابط بين أفرادها، و لا يلمس بها أي تراحم أو تكافل، فتلاشت منها القيمة الروحية والإنسانية حتى إن القيمة الخلقية أصبحت تحكمها المنفعة والمصلحة. ونتيجة لغياب هذه الروح وإشباعهم لغرائزهم البهيمية دون أية ضوابط انتشرت في مجتمعاتهم العلاقات غير الشرعية، فاختلطت الأنساب وامتلأت ملاجئهم باللقطاء، وتفشت بينهم الأمراض المعضلة، فكان ذلك عبئاً كبيراً على الدولة واقتصادها.

كما أن جشع هذه الدول واضح للعيان، ودليل على غياب الروح في علاقاتهم مع الأمم الأخرى، فهي قائمة على الاستعمار والاستغلال ونهب الثروات لتوفر لشعوبها رغد العيش على حساب الآخرين دون أي رادع. فأين هذا من الروح التي تمثلت في المسلمين عند فتوحهم للبلاد الأخرى، حيث لم يكن ذلك طمعاً بسيادة أو نهباً لثروة وإنما طاعة لله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟!

هذا هو حال الأنظمة الرأسمالية ومجتمعاتهما، ولا يسمح المقام للإسهاب في وصف شقائهم. ويكفي ما قال رب العزة عنهم وعن أمثالهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124]، فبئست العقيدة تلك، التي جرت الشقاء والويلات لمجتمعاتهم ومجتمعات الأرض كافة.

ولكن المحزن المؤسف أن نرى هذا الداء قد انتقلت عدواه إلى مجتمعاتنا؛ فغابت هذه الروح عند أبناء هذه الأمة وهم لا يزالون يعتقدون العقيدة الإسلامية، فضعف أو حتى انعدم إدراك الصلة بالله عز وجل، في معاملاتهم اليومية وفي مواقفهم تجاه قضاياهم، فلم تعد هذه الروح سمة واضحة في سلوكهم وتصرفاتهم، ولم يعد لها دور في العلاقات الاجتماعية. فقد نرى كثيراً من أبناء هذه الأمة يطبقون بعض الأحكام الشرعية دون ربط مع هذه الروح، أي دون إدراك الصلة بالله، وإنما عادة اعتادوها أو جرياً وراء مصلحة أو منفعة أو لاعتبارات أخرى، وقد غاب عن أذهانهم أن الأصل في التقيد والالتزام أن يكون طاعة لله أولاً وأخيراً، ورغبة في نوال رضوانه. ألا يعلم المسلمون أنه لا بد من التقيد بأحكام الله كأحكام شرعية منبثقة عن عقيدتهم! وأن يكون هذا التقيد طاعة لله دون أي اعتبار آخر، لقد غاب عنهم للأسف هذا الربط بالأساس الذي يأمر به الإسلام والذي بني كل من الفرد والأمة عليه. فمن لهذه الأمة سوى حملة دعوة تحمل ثقافة راقية خالصة من كل شائبة، وتنشر عقيدة عقلية وتدرك الصلة بالله، وتسير بفكر مستنير؟!

ولهذا، لا بد من وجود هذه الروح في حلنا وترحالنا، ليلنا و نهارنا، سرنا وعلانيتنا، ألسنا الأجدر والأولى أن تتمثل فينا هذه الروح وهذا الإدراك بعد كل هذه الثقافة الإسلامية النقية؟ فمن كان مسلماً فعليه أن يكون حامل دعوة بطبيعته مدركاً للصلة بالله عز وجل، فهذه أمور متلازمة وبها تقوم حجته على غيره. فلا بد أن تكون الهمم على هذا المستوى حتى نكون أهلاً لنصر الله، ونكون قادة لهذه الأمة، فإن الله لا ينصر أصحاب الهمم و النفسيات الضعيفة، فلا بد من ملازمة هذه الروح، وعندها يكون المسلمون وبخاصة حملة الدعوة منهم كبائع المسك، لا تفوح منهم إلا هذه الأفكار وتلك المفاهيم قولاً وسلوكاً، بناء على إدراك الصلة بالله عز وجل، فيكونون بذلك شامة بين الناس، ويكسبون ثقتهم، ولا يحق لهم النفخ في الكير ولو نفخة واحدة، فإنها لا تحرق الثياب فحسب وإنما تؤذي المحيطين بها أيضاً، وليعلم المسلمون أنهم ليسوا أحراراً ولا ملكاً لأنفسهم لأنهم أقروا بالعبودية لله عز وجل، كما أنهم قد خلعوا عباءة الحرية بالمفهوم الغربي على أعتاب هذا الدين بمجرد إدلاء شهادة أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فحذار أن يصدر منا، نحن حملة الدعوة، أي تحكم للمنفعة، أو العلاقات المصلحية في تصرفاتنا أو دعوتنا، أو أن تثور فينا مفاهيم الأعماق المهجورة المرفوضة لأي سبب من الأسباب، بل يحرص على التقيد بالحكم الشرعي ويحرص على عدم التجاوز له، فإن أحسنّا كان ذلك رصيداً مطلوباً لتحقيق الغاية، وإن أسأنا أسأنا لأنفسنا وللإسلام وعصينا الله عز وجل وحملنا وزراً عظيماً، فإن وزر من يعلم ليس كوزر من لا يعلم.

إننا قد خلقنا في زمن غاب فيه حكم الله في الأرض، لغياب الخلافة الإسلامية، وإننا لا شك نعاني الكثير من جراء ذلك، ولكن أيضاً فرصتنا لنعمل في صفوف هذه الدعوة بجد واجتهاد، دون ملل أو كلل، لتحكيم شرع الله في الأرض، فنفوز برضوان الله ومغفرته وجنة عرضها السماوات والأرض، فلا نضيع هذه الفرصة.
ألا نرضى أن يتمثل فينا قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد 10]، ولذلك لا عذر لنا في تقاعس أو فتور همة، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا حَارِثَه، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» إننا والله قد عرفنا فهل التزمنا؟
 
فلنتق الله في أنفسنا وفي هذه الدعوة، وليراجع كل منا نفسه، فيجدد الهمم ويفعِّل إدراك الصلة بالله عز وجل، ويعقد العزم على نصرة هذا الدين.
ثبتنا الله وإياكم، وتقبل جهودكم، وسدد خطاكم، وجعل النصر قريباً على أيدي العاملين الواعين المخلصين بإقامة الخلافة الراشدة، إنه على كل شيء قدير 
وبالإجابة جدير.

المصدر: مجلة الوعي

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

نظرات في العمق


كتاب الله نصــرٌ واكتســابٌ               ودربُ محمــد ٍفيــه الجــوابُ
وفي الدّارين تختلف الدّواعي              هنا عملٌ وفي الأخرى حسابُ
ضــعيفُ الجسم بالتّقوى قويٌّ              قويُّ الجسـم في كفر ٍ ســرابُ
يُميـــتُ اللهُ في الغابـــات ليثاً             ليـــأكلَ لحمـه نهمــاً غــرابُ
ويفنى الفيلُ مطروحًا بأرض ٍ             وقد كـــانت ضــخامتهُ تـُُهابُ
فلا عِظَمٌ لمخــلوق ٍضــعيف ٍ              ولـو خـــرّت لقوّتــه الهضابُ
تمرُّ بِنا الليالي في اضطّراب ٍ              ويطرقُ بابَنا العَجَب ُ العُجابُ
ونفقدُ كــــلَّ آمـــال ٍ بنصــر ٍ              وتكثــرُ في مسـالكِنا الصِّعابُ
ومـــا زلْـنــا نقــولُ لنــا إلهٌ               وفي هذا المقـــال ِلنــا اقترابُ
أخـي في اللهِ لا تبغــي عَليَّ                ففي البغي انتهــاكٌ واحتـرابُ
تجـنّبْ ظــلمَ أهـل ِاللهِ يـوماً                فـــإنّ دعــاءَهم فــورًا مُجـابُ
وحاذرْ أنْ تصيبَ بغير ِحقٍّ                  من الأمــوال ِفـالدّنيـا مُصـابُ
عجبتُ لمن يشيدُ هنا قصوراً              ويعــــلمُ أنّ آخــــره تــــرابُ
فمن عَظُمت بعينيه الملاهي               سـيصـــغرُ فيهما جهلاً عذابُ
تـذكـّرْ أنّ روحَــك في وعاءٍ                يُــــراقبُها مــــلاكٌ لا يـــهابُ
فكن في الأرض مسكينًا     لتحيا  بـــدار الله يُنصـــفكَ النّصـابُ                                            
على الأعداءِ شدَّ العزمَ سـيفاً             وسـامحْ إن يُجــافيكَ الصّحابُ
عجوزٌ نــازلَ الأعداءَ عزماً               ويخشــى أن يـنــازلهم شــبابُ
إذا الآجــال مضروب مداها               فلا خــوفٌ عليك ولا انتــحابُ
وفي الأرزاق تقديــرٌ لــربٍّ                وليس الـرزق من تعب ٍ يجابُ
هي الآجـــال والأرزاق فينا               تـــزلــزلنــا بـداهيـــة ٍ تُــعابُ
ولـــو أنـّـا بــإدراك ٍ بسـيط ٍ              فهمنــا قــدْرهـا لبــدا الجـوابُ
علينــا أن نـعمّق نــاظــرينا              ففي التّعميق يحضــرنا الغيابُ
فـــلا همٌّ ولا بـــؤسٌ لـدينــا               إذا ســكن النُّهى فينا الصـّوابُ
ففينا من رجــال المجد جمعٌ              إذا مــا اســتُنفرت هممٌ أجـابوا
يوحّدنــا على الإيمــان فـردٌ              إلــــهٌ واحــــدٌ ولـــه كتـــــابُ
ويـدعونــا إلى التّـوحيد هاد ٍ             رســـــول إلهنـــا داع ٍ يُجــابُ
ورايتنــا على الأعـلام تعـلو             تــرفــرفُ لا يغطـّيهـا ســحابُ
وفي لغــة الكتـاب لنـا التقاءٌ             ويجمعنــا على الرؤيـا خطـابُ
فمــا تلك الحـدود وقد بنـاها             لنا الأعــداء يعلــوها الخــرابُ
وما في طــرق أبواب العدوِّ              وبــــــاب الله لا يدنــــوه بــابُ
إذا اعتصـمت بحبـل الله أيدٍ             فتلك عــــلامة ٌ فيـهــا الإيــابُ
إذا خضعَ الجميعُ لحكم ِربّي             وقـــاموا وحـــدة ً ولــهُ أنــابوا
فبشـــّر ثمّ بشــــّر كـلّ بـاك ٍ            فبعد النّصــــر يبتعــد العتــابُ
تذكــّر يــا أخي أنــّّي بديني             مع الإيمـــان أعـــلو لا أهــابُ
فلا وهنٌ ولا حــزنٌ ســيأتي             وفي الإيمــان لــلأتقـى حجـابُ
وفي بعدي عن الإيمان أبقى            طـــريحا قد تنــاوشــه الكـلابُ
عــزيزٌ أنت بالإســلام دوما             ذليــلٌ في الهــوى لا تـُسـتجابُ
إلهك من حبـــاك بخير عقل ٍ           ومنــه الأمـــرُ يتبعـــه العقـابُ
فلا ترجو ســواه ولا تنـاجي           لأنــــك دونـــه وهـمٌ ســـــرابٌ
يزول الملك والأمـلاك تفنى            وبعد المــوت يـأتيــك الحسـابُ
فلا مـــالٌ بـــه تنجــو هنـاك           ولا جــــاهٌ ولا ولـــــدٌ مُهـــابُ
ولا دنيا ملكــت بها الروابي           فـــذاك مــغيّبٌ ولــك العـــذابُ
بتقـــوى الله تعلــو لا بمــال ٍ         وعنــــد الله للتقـــــوى ثـــوابُ
بقلم أبو زيد الأمين
بيت المقدس

بنو علمان يكفيكم





ألا كفّــوا عن الإســـلام أيديــكم            فلا دمتم ولا دامـــت دواعيكم

بنـــو علمـان أشــقيتم أهـــالينا              إلهي ، أيها الفسّــاق يُشقيكم

ســـقيتونا كـؤوس الذلّ أعواما              ومـــا زالت تعــادينا بـواقيكم

تركنا الساحة الكبرى لترعوها               سنين العجز والإفسـاد تغنيكم

ســـلبتم كـــلّ أمـوالي وآمــالي               مع الأعداء أودعتم مخـازيكم

علـــوتونا فدســتونا وداســتكم              نعال الغرب في عارٍ يواريـكم

حكمتــــونا من الأعوام تسعينا               فتعســاً حكمكم فينا ومـا فيكم

مع الأعداء في صـفٍّ تخونونا                وأوطاني أباحوها، ويرضيكم

ألسـتم تخدمون الغرب في هذا               وهذا الشّـعب مغبــونٌ يحـيّكم

ألا يـكفي من الإذلال تســـعونا               ألا يــكفي أعــالينا تـــراخيكم

ألســنا أمّة الإســلام في عــال ٍ               فما الجـاري لكي نهوي مهاويكم

هم الأعداء ما زالوا بـأوطاني                بأسـماء لها انضمّت أساميكم

هم الأعداء للإسلام قد أقصوا                 وفي الإســلام إعـلاءٌ ينـاديكم

بنــو علمان خـــدّام لأعــدائي                إذا ظــلّوا فقد ظــلّت مـآسيكم

بنو علمان أصــحابٌ لأعدائي                ومن في صحبة العادي، يعـاديكم

ومن قد صــافح الأعداء في زهو ٍ            وبــالكفّين للأعــداء يُدميـــكم

أراضــــينا أبــاحوها لشـــذّاذ ٍ                قضـــايانا بــأيديهم تجــازيكم

وأعراضٌ هتكتوها مع العادي               فهل للص أن يبقى ليحميكم؟

خـزيتونا بما تدعون من عار ٍ               غدا ربي بدعواكم ســيخزيكم

لذاك الكفــر أذنـــابٌ رأينــاكم                وثوب الذّلّ في جهر ٍ يغطيكم

أجيبــونا إذا معكم إجــابــــاتٌ                لماذا الجيش مبنيّ ليحميكم ؟

لمــاذا المـــال مجنيّ ليغنيكم ؟               وجُلّ الشعب في فقرٍ يجافيكم

لماذا الأرض في يبس ٍ بلا ماء ؟             ومــاء البحر في أرضي يساقيكم

لمـاذا أمّتي أضـــحت بلا حام ٍ               ســوى الرّحمن حاميها وحاميكم

ألستم زمرة الحكّام  مفروضٌ                عليكم أن تُراضوها فترضيكم

أكـلتوها شـربتوها على جوع ٍ                وللأعــداء بعتم كلّ ماضــيكم

ألا تبّـــا لأفكـــار ٍ حمــلتــوها                وتبّـــا للذي يومـــا يخلّيــــكم

كشفنا سرّكم حقّا لكي تمضوا                فما اســتحيت وما ابتلّت مــآقيكم

فلا عذرا من الأعداء أو منكم                 هو الشــيطان يطــغيهم ويطغيكم

ألستم ســـادة الإجرام في هذا                وعلمان الّذي صــنتم يغذّيـكم

أنا الإســلام دين الله لا غيري                ومنّي الفكرة الكبرى ستحيكم

ومنها المبــدأ الأعلى يقوّيـكم                ومن هذا نظــام الحكم يُعليكم

تسودون الدّنا شـــرقا وفي غرب            سيحني الغرب هامات ٍ ليرضيكم

فقد كنتــم وقد كنّــا بماضــينا                وأنتـم من تنكّــرتم لماضــيكم

فلا علمــان من ذنب ٍ يـوفّيكم                ولا شيعان من ربّي سينجيكم

مع الشيطان إن ظلّت أمانيكم                 ففي النيــران تكويه وتكويكم

فصــلتونا عن الإســـلام في جرم ٍ          كفصل الرأس عن جسم ٍ له فيكم

جمعتونا مع الأعــداء في نار ٍ                بلا خــوف ٍ ولا اســتحياء يبديكم

فمن أنتم ومن منــكم غدا منّا                أشكّ اليوم في أصل ٍ يسمّيكم

فلو صدقا لكم أصـلٌ من الدّين                لقمتم فورَ أن قامت لتقصيكم

عرفناكم ، كشفناكم ، فهمناكم                فمــا عدنا بعيد اليـوم نوليكم

فلن نحيا إذا عاشــت بـواقيكم                مللناكم ، بنو علمــان يكفيكم

فقد جعنـا ومــا أموالنــا معنـا                وقد ضعنا وفي الأوطـان نؤويكم

ومـــا بعنا فـأنتم أرضــنا بعتم               ولن نُعنى بشـيء من أياديكم

فلا معنى لئن تُبقوا كراســيكم                أطعنـا الله إعــلانا لنعصـــيكم

دعونا اليوم للرحمن في أوب ٍ               لعـلّ الله ينجينـــا ويـــرديـــكم

هنــا فســـطاط إيمـانٌ بلا كفر ٍ               ولا فسـق ٍ ولا تدليسَ يعنيكم

وفســـطاط ٌ من الكفّار أســيادٌ                لكم كانوا وما زالوا نواصيكم

وفي هذا لقاء الحســـم ناداكم                مع الكفّـار في صــفَّ ليفنيكم

أمــام الله يوم البعث أشـــقاكم                شــقاء الشّــعب في دنيا تناجيـكم

فلا مــالاً هنــاك اليـوم يغنيكم                ولا جاها ولا سـلطان يحميكم

ولا جندا لهم في الأرض إرهــاب           ولا قصـــرا مع الحـرّاس ينجيكم

عذاب الله في هول ٍ ســيأتيكم                ســنين الكِبْــر والتّضـليل يُنسيكم


بقلم: أبو زيد الأمين
بيت المقدس 

الأحد، 10 يونيو 2012

هل يجوزالدعوة إلى التدرج في تطبيق أحكام الإسلام؟

بسم الله الرحمن الرحيم 


إن تطبيق الإسلام كله من المعلوم من الدين بالضرورة، لا يختلف عليه اثنان من المسلمين، ورغم ما حصل من اختلاف واختلاط وإشكال في فهم جواز التدرج في تطبيق الإسلام بوجه حق أو بغير وجهٍ حق قياساً على التدرج في تشريع التحريم لبعض الأحكام من مثل حكم تحريم الخمر عند الصلاة، ومن ثمّ تحريمها مطلقاً. وبالرغم من هذا الاختلاط إلا انه لا خلاف في أن الإسلام كاملاً هو الذي يجب أن يطبق وحده، وإننا ننظر للدعوة إلى التدرج في تطبيق أحكام الإسلام نظرة الخوف من وقوع بعض الحركات الإسلامية في فتنة إبعاد الإسلام رويداً رويداً عن سدة الحكم، والرضا بدخول الحركات الحكم بدون الإسلام في نهاية المطاف. وإن هذا لهو السقوط بعينه في مكر الدول الكافرة حيث تملي لبعض الحركات الإسلامية وتكيد لها حتى إذا استوثقت منها رمتها على قارعة الطريق، فلا هي أوصلت الإسلام ولا هي أوصلت أمتها إلى بر الأمان في السعادة والاطمئنان في ظل حكم الإسلام.

إن قضية التدرج في تطبيق أحكام الإسلام ليس عليها دليل من السنة ولا من الكتاب، عدا أن هناك عدة نصوص صريحة واضحة الدلالة في وجوب تطبيق الإسلام جملة وتفصيلاً دون إنقاص أو انتقاص ولو لحكم واحد من أحكامه، فيقول الله عز وجل:
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ }
وقد وقع التأكيد على الحكم بلفظ "مآ " وهي من صيغ العموم للدلالة الأكيدة على شمول التطبيق لجميع الأحكام, وقد تتابع التأكيد ليقطع على أي إرادة مريبة أو نفوس مريضة، وكان التأكيد باثنتين: الأولى: التأكيد على الحكم بالحق وهو الحكم بكل ما أنزل الله كاملاً دون إنقاص بدلالة العموم { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } والثانية التأكيد على الحذر من الفتنة وهي عدم تطبيق بعض ما أنزل الله، انظر قوله تعالى: { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } فاعتبر الشرع هذا فتنة ينبغي الحذر منها ومن دعاتها وأهلها وهو اتباع لأهواء الشياطين من البشر، وقد جاءت الآيات الثلاث في الحكم بغير ما أنزل الله محذرة بمراتب ثلاث: الفسق، والظلم، والكفر. لأمر واحد في جنسه وهو عدم الحكم بما أنزل الله  { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، { الظَّالِمُونَ } ، {الْفَاسِقُونَ } وقد كان التأكيد واضحاً في المقصود وهو جميع ما أنزل الله بلفظ {مآ}، وهي من ألفاظ العموم في لغة القرآن قولاً واحداً وفي غير ذلك من آيات كثيرة قاطعة في الحكم بما أنزل الله، والتي تطلب الرضا والتسليم والاطمئنان بحكم الله وعدم الرضا بغيره بديلاً، بل واعتبار البديل إنما هو طاغوت يُعبد من دون الله قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} فكل هذه الآيات كانت واضحة قاطعة في الدلالة على طلب الحكم بجميع ما أنزل الله، وإذا أضفنا إلى كل هذه الآيات قوله تعالى:  { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فإنها تؤكد أن حال المؤمنين أن يكونوا مذعنين لا خيار لهم ولا اختيار. وبغير هذا تكون الفتنة والافتراء المبين لقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . فلا اختيار لغير حكم الله ولا بديل ولا دليل.


وأما ما يقال عن جواز التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية فهو عدا عن أنه ليس عليه دليل بل إن الدليل يدل على نقيضه في عدم جواز التدرج، ثم إن هذا لهو تبرير للفعل بدون دليل لمن ليس له مشروع يسير عليه، والدليل على عدم جواز التدرج واضح في ما روى ابن هشام في سيرته؛ أنه عندما قدم وفد ثقيف ليفاوضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه: «أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وإنما يريدون بذلك، فيما يظهرون، أن يتسلّموا بتركِها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يُروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله إلاّ أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه» كل هذا مع من هم حديثي عهد بهذا الأمر .

وأما ما يستشهد به البعض وهو التدرج في التشريع في استدلالهم على التدرج في التطبيق، وذلك في حكم تحريم الخمر فهو أمر في التشريع لا أمر في التطبيق، وفرق كبير بين التشريع والتطبيق. وما أمرنا إلا بالتنفيذ السريع والإذعان لحكم الله رغم الشدة على النفس، وما قوله عز وجل { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} إلا فيه دلالة على أن الشرع لا يأتي بما تهواه الأنفس وتختاره، وإنما يأتي بما يصلح البشر بما يأمر به الله، وإلا فكيف في صوم رمضان وقد شرعه الله شهراً كاملاً ولم يتدرج به بما تطيقه النفس رويداً رويداً ابتداء من ثلاثة أيام ثم أسبوع ثم عشرة أيام وهكذا، أو ليس الصوم أصعب من الخمر في نظر الكثيرين؟ وكذلك القتال في سبيل الله قد أتى فيه التكليف بعكس الترتيب الذي لوحظ في تحريم الخمر فقد أُمر المؤمنون في بداية القتال أن يقاتلوا عشرة أضعافهم ثم جاء التخفيف إلى أن يقاتلوا ضعف عددهم. فإن كان الأمر في التدرج بدلالة التخفيف فهذا رد واضح على التكليف بالأشق ثم التخفيف، وفي هذا المقام لم يجعل الشرع للظروف وشدتها على المسلمين في بداية بنائهم لدولتهم مبرراً للتدرج بل كان الأمر على العكس تماماً، وإنها لحكمة بالغة في بناء الدولة والأمة على الشدة والبأس والقوة، وهذا آية في الرد القاطع للرأي والمفند لمن يقول بالتدرج في التطبيق. فهذه الآيات بعكس ما يفهم في حاجة التخفيف من جهة التشريع في ترويض النفس على الالتزام بالطاعة، ثم إن الطلب في التنفيذ والتطبيق في كلا الأمرين وفي كافة الحالات كان حاسماً وحازماً بالتنفيذ الفوري سواء أكان التشريع في الحكم مرحلياً أو جملة واحدة، فأمر التشريع لله وأمر التنفيذ علينا في الوقت الذي لا علاقة لنا فيه بالتشريع تخفيفاً وتشديداً أو تشديداً ومن ثم تخفيفاً فهو لله وحده ليس لنا فيه من أمر, فقط ننفذه على وجهه كما أمر به الله ولا كلام .

هذا من جهة الفرق بين التشريع والتطبيق، وأما من حيث التطبيق في دولة الإسلام وفي الحكم وحتى على الصعيد الفردي فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل التدرج في تنفيذ أي حكم من أحكام الإسلام، ولا حتى من الأفراد الحديثي عهد بالإسلام في شرب الخمر فيما سبق بيانه في مرحلية التشريع، بل كان صلى الله عليه وسلم في التطبيق يقوم به جملة واحدة بشكل كلي، وهذا في البلاد التي فُتحت فيما بعد سواء في الطائف أو في اليمن أو البحرين وهكذا، ولا أدل على ذلك مما كان في مطالبة وفد ثقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتدرج في التطبيق عليهم في موضوع عبادة الأصنام أو ترك الصلاة، فكان رده عليهم بالتطبيق الفوري ورفض التدرج. فكل هذا دليل واضح قاطع وحازم وحاسم على عدم جواز التدرج في التطبيق، بل الواجب هو التطبيق الانقلابي الجذري الشامل، وهذا ما أوصى به صلى الله عليه وسلم صحابته ممن كان يوليهم في الأمصار ان يحكموا بكتاب الله وبسنة رسوله بشكل كلي شامل وبدون تدرج في التطبيق, وفي هذا أيضاً دلالة قاطعة على تطبيق الحكم في بلاد لم يسبق أن حكمت بالإسلام بالطريقة الانقلابية الجذرية الشاملة والتي لا يجوز فيها التدرج ولو في حكم واحد بصرف النظر عن أية حالة أو ظرف, وأما ما كان من قبيل الرخصة فهو من ضمن الالتزام التام بالحكم الشرعي فيما يجوز فيه التخفيف عن حكم الأصل ولا تدرّج فيه مع بقاء الأصل على ما هو عليه ضمن ظرفيهما .

هذا من جهة التأصيل الشرعي في عدم جواز التدرج في تطبيق الشريعة وكون طريقة الإسلام في التطبيق واحدة ووحيدة وهي التي عليها مدار النصوص ويدل عليها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك طلبه من ولاته وعماله السير عليها وهي الطريقة الانقلابية الجذرية الشاملة فيقول الصديق أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه".

وأما موضوع الظروف والأوضاع الداخلية، والأولويات وترتيب البيت الداخلي، وتهدئة الدهماء وإرضاء النفوس، وعدم إثارة المجتمع الدولي، والمجاملة لقبول الآخر، واستيعاب الجميع... فإن كل هذا لم يقم عليه دليل، وهو ابتداع ما أنزل الله به من سلطان، وليس هذا محل اتباع، وهو على خلاف الأصل من المفاصلة القطعية التي عليها الإسلام باعتباره رسالة كاملة ونظام شامل فيه الحل والعلاج لإصلاح كل الأوضاع جملة وتفصيلاً في كل الظروف والأحوال. ألم يأت الإسلام على الجاهلية بكافة تفصيلاتها وقَلَّبها وغيّرها بأحكامه في كافة المجالات؟؟! ألم يكن الحكم بالإسلام هو المرحلة التطبيقية الشاملة لما بني عليه المجتمع في فكره ورأيه العام فكان الحكم شاملاً من حيث التطبيق لكافة الشؤون والقضايا جملة واحدة, باعتبار أن الحكم هو رعاية شؤون الناس مباشرة وفق أحكام الإسلام؟! وما إرادتنا التي بها نغير الأنظمة ونطيح من خلالها بالتيجان إلا هي نفس الإرادة التي لا يقبل الإسلام إلا بها في تكوينها من حيث عدم قبول الشراكة ولا المرحلية. لقد قبل بنو عامر بن صعصعة نصرة الاسلام للحكم به كاملاً بدون تدريج على أن يكون لهم الحكم من بعده فرفض الرسول عرضهم مع شدة الحاجة لهذه الفرصة، فلم يقبل بشرط واحد فكيف لو اشترط عليه تنحيه التطبيق في بعض الأحكام بتبرير التدرج لتحقيق القبول ؟ فرفض تعطيل جملة من أحكام الإسلام بحجة التدرج أولى من رفض شرط واحد منافٍ لطريقة الإسلام في أخذ الحكم.

إن اشتمال الإسلام على أنظمة لجميع علاقات المجتمع وجميع مناحي الحياة، سواء أكان على صعيد الفرد أم الأسرة أم الجماعة أم المجتمع أم علاقة الأمة بغيرها من الأمم... فيه دلالة على أن لا مجال لأحد يبحث عن حل مبدئي من لدن لطيف خبير خالق مدبر أن يختار حكماً واحداً من سواه، فكيف بمن يحمل الدعوة إلى الناس عن جدارة وحجة ومحجة واقتدار، وعن تقوى الله وحده تدفع حاملها إلى تعبيد الناس لله وإنذارهم وتحذيرهم من مخالفة حكمه ونهيه في كل شاردة وواردة؟ وكيف لنا وجه نلقى به الله يوم القيامة ونحن نتلو قول الله عز و جل:


 { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وقوله { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وقوله { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }وقوله { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ونصدح بهذا وندعو إليه من على المنابر وفي كافة المحافل؟ ثم إذا ما جدّ الجدّ نقول: بالمرحلية والتحالف مع اليسارية في تدرج مرحلي؟!. فكيف بنا نلزم الناس بمنع الربا ونسمح بالعري والسفور؟! وكيف بنا نمنع الرشوة ونسمح بالاختلاط والمجون؟! وكيف بنا نترك الأحزاب على غير الإسلام تدعو بكل كفر وإلحاد في بلادنا؟! فهل نرضى ونقبل في أمهات المدن العظام مثل القاهرة وبغداد ودمشق وتونس والقيروان أن تستظل بخليط من هنا وهناك في مشهد بائس لا يظهر فيه الإسلام على الكفر، ويكونان فيه صنوان وفي اختلاط ٍما أنزل الله به من سلطان؟؟!!

إذا كان عدم جواز التدرج في تطبيق أحكام الإسلام واعتبار ذلك مخالفاً لطريق الإسلام القطعية في التطبيق الانقلابي الجذري الشامل من جنس أحكامه، فكيف بقبول الأخذ بجزء من أحكام الإسلام مع الأخذ من غيره من أحكام الكفر واعتبار ذلك تدرجاً في تطبيق أحكام الإسلام مع أن هذا هو تطبيق لجزء من الإسلام وجزء من الكفر البواح الذي اعتبر الشرع الحكم به موجباً للفسق أو الكفر؟!!!.

إن طريقة الإسلام لهي طراز خاص ذو لون معين في العيش لا يقبل الاختلاط مع غيره، فهو الحق وما دونه باطل، والحق لا يقبل الشراكة مع الباطل بل حكمه ما قضى الله { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} وحكمه فيه مفاصلة ظاهرة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) } وحكمه على الرعية واحد على الحاكم وذويه وعلى المحكوم ضمن أصل ثابت مبني على قوله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» فيا أصحاب الدعوات ويا شيوخ ويا دعاة بعض الحركات الإسلامية خذوا الإسلام كله ولا تتركوا منه حكماً واحداً ولو تحت أية ذريعة. فمن أراد الإسلام كما أراده الله وسعى سعيه وهو مؤمن فعليه بتطبيق أحكامه فوراً من غير تخيير. وان شئتم فاسمعوا قول الله المزلزل { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

فلتحذروا لإسلامكم وانفروا للحكم به كاملاً وجملة واحدة بطريقته الواجبة وهي الطريقة الانقلابية الجذرية الشاملة والتي لا تقبل بشراكة الكفر والباطل تحت أي ظرف أو تبرير، فالله عزوجل تعبدنا بأمره لا بما تهواه أنفسنا، وهو أعلم وأحكم، فإنه وأيم الله على هذا ينتخبكم الناس، وهذا ما يأملون منكم، ولو أرادوا الشراكة والتدرج لما سلكوا لكم طريقاً ولا أعطوكم قطميراً.

إن الأمة الإسلامية وهي تتعافى لا تؤمن إلا بالقرآن كله، ولا ترضى إلا بحكمه وبالاحتكام له كله، ولن ترضى ببقاء أي فتات مما يرميه الشرق والغرب من ضرار الرأسمالية وعقم معالجاتها، وإلا فما معنى الشراكة والتدرج والمرحلية إلا قبول الاحتكام والعيش ببعض أحكام الكفر مكان بعض أحكام الإسلام العظيم, فاتقوا الله في دينكم وفي إقبالكم على سلطان قد نزعه الله ممن حكم بالكفر كله، فليس من يقبل الحكم بجزء من الكفر هو أحسن حالاً ممن سبقه ممن قد نزع الله ملكه، وقد حكم الله في هذا حيث قال:  {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

وخالص النصيحة لكل من يعمل لخير الإسلام ويطمح للحكم به ويرنو لسعادة الدارين بما يرضي الله أن لا يقبل بإقصاء عشر معشار حكم واحد من أحكام الإسلام، ولا بوضع حكم مهما كان صغيراً من أحكام الكفر، ولنقدّم الموت في طاعة الله فإن ذلك خير وأبقى من حياة في معصيته أخرج الطبراني في الكبير من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلَا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ يَمْنَعُكُمُ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ، أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلَا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ. أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَقْضُونَ لَكُمْ، فَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: "كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ"

قال تعالى:  { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }


بقلم:سعيد الأسعد
المصدر: الوعي

طاعة الله مقابل طاعة أهل الكفر



بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } (100)

ورد في تفسير البغوي لهذا الآية الكريمة ما يلي:
قال زيد بن أسلم: إن شاس بن قيس اليهودي - وكان شيخاً عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين - مرَّ على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من إلفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، قال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله، ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شاباً من اليهود كان معه فقال: اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً وقالا: قد فعلنا، السلاح السلاح، موعدكم الظاهرة، وهي حرة فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألَّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً، الله الله!! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية .
وورد في نفس السورة الكريمة (من آل عمران) في معنى متقارب للآية الأولى قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } (151)

وقد أتى عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:  "أمتهوِّكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيّاً ما وسعه إلا أن يتبعني"
حديث صحيح رواه أحمد (3/387) عن جابر بن عبد الله، وحسنه الألباني في الإرواء (1589)
في خضم ثورات ما يسمى الربيع العربي التي كسرت حاجز الخوف وأسمعتنا دبيب الحيوية في جسم الأمة بعد طول غفلة ورقاد، ورسخت عندنا الشعور بأن المصاب واحد والعلاج واحد لدى جميع المسلمين في شتى بقاع الأرض، فقد أخذت الأمة تتلمس طريقها نحو التغيير، وهناك من اختار أن يشارك في مسرحية الانتخابات المصممة أصلاً من الغرب للالتفاف على هذه الثورات المباركة ممن يلبس لبوس الإسلام، متناسين ومتغافلين أن هذا الغرب الاستعماري الكافر حاول وما زال يحاول بشكل حثيث حرف مسار هذه الثورات وتحويلها إلى أهدافه الخبيثة المتجسدة في استمرار تطبيق أنظمة حكمه العلمانية التي أشقت البشر والحجر والشجر، والحيلولة، أو على الأقل تأخير رجوع الأمة إلى تحكيم إسلامها كاملاً... وذلك بعد أن يُوهم الأمة أن بإسقاط أشخاص بعض عملائه القدامى، والإتيان بأناس أو أحزاب يرفعون شعارات للإسلام فرغت من مضامينها وإقناعهم أنها تحقق ما يصبو إليه الإسلام والمسلمون بما يلبي فطرة الناس المدّخرة في وجدانهم الديني... فليس لهم بعد ذلك إلا الخضوع والطاعة لأولي الأمر الجدد السائرين على نهج الباطل المستورد من أعداء الأمة، وذلك من خلال عملائه الذين لم تحترق أوراقهم بعد لدى جماهير الأمة مسخراً لهم ماكينات إعلامية ضخمة تسعى سعياً خبيثاً في نفس الاتجاه، مسممة الأفكار، ومضلِّلة الرأي العام، وخالطة الحق بالباطل حتى لا تقوم لهذه الأمة قائمة، فخيَّب الله سعيهم وفألهم، فلن ينالوا إلا خساراً بإذن الواحد الديان.
ولأنه بات معروفاً أن أكثر ما يؤثر في الأمة هو الخطاب الديني، راح يُسخّر لدعم هذا التوجه الخبيث بعض ما يسمى بعلماء الدين الذين يدعون إلى الباطل باسم الحق، ويتبنَّون مشاريع الكفر باسم النهضة على أساس المرجعية الإسلامية على نسق ما فعلته الحركة الماسونية قديما من خلال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهم...ونرى بين الفَينة والأخرى من هؤلاء الموصوفين بالعلماء من يساهم في إعادة تثبيط الأمة عبر ادعائه أن قوى الاستعمار الممثلة في هيئة الكفر المتحدة وما انبثق عنها من مجلس الظلم (الذي يسمونه بالأمن زوراً وبهتاناً) وسائر المنظمات والهيئات الخبيثة الدائرة في فلك الكفر والاستكبار العالمي هي الملاذ الآمن والقوة الركينة التي يُلتمس من عندها الفرج والنصر، داعين المسلمين إلى الاستمرار العبثي في وضع قضاياهم الحساسة في تلك الأروقة التآمرية، ناسين أن اتِّباع نهج الكفر وطاعة الكفار من أهل الكتاب أو غيرهم يؤدي الى الخسران والبوار في الدنيا قبل الآخرة، وأن لا ملاذ آمناً ولا حصن حصيناً لهذه الأمة ولا فرج ولا نصر حقيقياً لها يُرتجى إلا من عند الحق الجليل خير الناصرين، ومن خلال حزبه الغالب بأمره تعالى، والمتوفرة فيه صفات الولاء الكاملة لله ورسوله والمؤمنين الصادقين المخلصين،قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (56) . 

إن أمثال هؤلاء العلماء وهذه الحركات،من حيث يدرون أو لا يدرون، لا يستطيعون أن يحققوا أي نهضة، ولا أن يرتقوا بالأمة بل إنهم يزيدون أوضاع الأمة سوءاً وخبالاً... بل إن المطلوب هو التماشي مع مبدأ المفاصلة التامة بين حكم الجاهلية وحكم الله، وذلك كما ورد في الآية 50 من سورة المائدة: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }(50)

كتب الإمام محمد البشير الإبراهيمي المتوفى قبل نحو خمسين عاماً في الجزائر مقالاً قيماً عن أحوال الأمة الإسلامية جاء فيه: "وما أضلَّنا إلا المجرمون الذين يدعوننا بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق، والأوَّلون هم رجال الدين الضالُّون الذين فرَّقوه إلى مذاهب وطوائف، والآخرون رجال السياسة الغاشُّون الذين بدَّلوا المشرب الواحد، فجعلوه مشارب.. فهل هبَّةٌ من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء وهؤلاء إلى حيث ألقت، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة، وأيديهم على بناء حصن الحق، على الأسس التي وضعها محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولا مطمع لنا في الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا أصبح المسلم يلتفت إلى جهاته الأربع، فلا يرى إلا أخاً يشارك في الآلام والآمال.. فهو حقيق أن يشاركه في العمل". ثم يقول: "مَنْ حَاوَلَ إصلاَحَ أمَّةٍ إسلاميةٍ بغيرِ دينِهَا فَقَد عَرَّضَ وَحْدَتَهَا للانِحَلالِ، وجِسْمَهَا للتَلَاشِي، وصَارَ هَادِمًا لعَرْشِهَا بِنِيَةِ تَشْييدِهِ...".

فحريٌّ بنا أن نتنبه وننبه إلى أن أية دعوة للإصلاح غير منضبطة بالطريقة الشرعية التي تدعو حصراً إلى إعادة بناء عرش الأمة من خلال خلافة راشدة على منهاج النبوّة، توحد ولا تفرق، وتُقوّي ولا تُضعف، وتُحصِّن بناء الأمة ولا تهدمه... متوكلة على الله خير الناصرين، مخالفة لكل المناهج التي يدعو إليها أهل الكفر على تعدد أسمائها ومسمياتها، أقول: والله المستعان، إن أية دعوة إصلاح مخالفة لتلك الطريقة الشرعية المقطوع بوجوب اتِّباعها مآلُها الى الفشل والبوار والسقوط، شأنها شأن الحكام الطغاة الذين يتساقطون الواحد تلو الآخر، ملعونين مذمومين غير مأسوف عليهم...كما نتوجه إلى الإسلامقراطيين (الاسلاميين المتبعين لنظام الكفر الديمقراطي الآتي بالأصل من الغرب الرأسمالي الكافر) بدعوتهم إلى الاتِّعاظ بقول الحق جل في علاه: { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } (52) وتحذيره تبارك وتعالى للمخالفين عن أمره بقوله: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (63) 

بقلم: أبو مريم الشامي
 المصدر: الوعي