الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

دوحة الإسلام عائدة


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى بجعل الجزيرة العربية، وتحديداً مكة المكرمة، سكنى إبراهيم عليه السلام، بأن تكون منبتاً لشجرة الإسلام العظيم ودوحته العظيمة. كما شاءت إرادته عز وجل بأن تنبت تلك البذرة على يدي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

فما إن اصطفاه الله سبحانه وتعالى وجعله من المرسلين حتى عمل بدون كلل ولا ملل، مع نفر ممن آمن برسالته السمحاء، على نمو تلك الشجرة العظيمة لتكون دوحة تظلل البشرية، وتنقل الناس من حر ورمضاء الجاهلية والعبودية إلى أن تفيء بظل عدل ورحمة شجرة الإسلام، والتي في ظلها السعادة والطمأنينة والعيش الكريم.

لقد عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أولئك النفر المؤمن على رعاية تلك النبتة حتى تظلل الأرض، وصبروا وثبتوا على رعاية نبتة الإسلام هذه، رغم كل ما لاقوا من مشقة وعذاب ومقاطعة ممن آثروا بقاء أشجار الزقوم على هذه الشجرة المباركة، والتي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي أكلها، ثمراً وشراباً بارداً هنيئاً للآكلين، وقد كلل الله سبحانه وتعالى عمل الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الميامين وثباتهم وصبرهم، بنجاح نمو هذه النبتة وتفرع أغصانها حتى أعطت، وبغزارة، أشهى الثمرات، والتي توِّجت بإقامة حكم وسلطان الله في الأرض، ناشراً الرحمة بين الناس.
وبعد أن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى برفع منهج النبوة من الأرض بموت آخر الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قيّـض الله سبحانه وتعالى لهذه الشجرة الضخمة من يرعاها ويحرث أرضها، فبقيت هذه الشجرة قوية الفروع خضراء الأغصان، تفيض حيويةً ونضارةً وجمالاً، وتعطي بغزارة أطيب وأشهى الثمرات، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، عندما حصل الخلل في ميزان القوى الدولي فسقطت الدولة الإسلامية من مركزها، وأخذت بالانحدار سريعاً حتى تفككت الأمة الإسلامية، وحطت في الحضيض بين الأمم مهدورة الكرامة، مسفوكة الدم، منهوبة الخيرات، مقطعة الأوصال. وقد تزامن هذا السقوط مع حصول الانقلاب الصناعي في أوروبا، والتي شهدت تطوراً كبيراً في الاختراعات والصناعات، وقفزت بعض دولها إلى المراكز الأولى في السلم الدولي، فأحدثت هذه العوامل صدمةً في عقول وأذهان المسلمين، فاندفع بعضهم يعيد النظر في فهم الإسلام، بل إن بعضهم صار يعيد النظر في بعض أفكار وأحكام الإسلام، وقد نتج عن ذلك أن ذبلت أغصان تلك الشجرة العظيمة، وضعفت فروعها، وقلت ثمارها؛ ففقدت لذتها وطيبها. إلا أن جذع هذه الشجرة بقي، ولكن اعتراه الضعف ودب فيه الجفاف. بيد أن الكفار أبوا بقاء حتى الجذع فضربوا ضربتهم باقتلاعه، وذلك بإلغاء نظام الحكم الإسلامي نظام (الخلافة) فبعد ذلك لم يبقَ من دوحة الإسلام العظيمة إلا الجذور والتي دب فيها الجفاف أيضاً. فلما نجح العدو في حكم بلاد المسلمين حكماً مباشراً، بعد أن قطعها إرباً، أخذ يعمل على قلع جذور الإسلام فنجح بذلك إلى حد كبير، ولم يبقَ من شجرة الإسلام إلا البذرة وبعض خيوط الجذور الرفيعة.

هذه هي حال شجرة الإسلام، فبذرتها لم ولن تموت؛ لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها وإعادة إنباتها مرة أخرى، فأدرك المسلمون في هذا الزمان أن لا عزة ولا نصر لهم إلا بأن تعود شجرة الإسلام شامخةً قويةً كما كانت في السابق، ويجب أن يعمل لإعادة إنشاء جذع أقوى، وفروع وأغصان أكثر نضارةً، وذلك بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. فعند النظر إلى حالة بذرة هذه الشجرة ووضعها الحالي يظهر أنه من الاستحالة أن تنبت هذه البذرة جذعاً، إلا بعلاج الجذور من نقطة انبثاقها عن البذرة، وذلك بوصل الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية بالعقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل أي فكر أو أي حكم شرعي إلا أن يكون منبثقاً من تلك البذرة، أي العقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل إلا بما هو مأخوذ من الكتاب والسنة، وبعد ذلك تسقى هذه الجذور، وتحرث الأرض من حولها، ويكسر ما جف منها، ويقلع كل جذر نبت من غير تلك الشجرة في هذه الأرض، كل ذلك من أجل إنشاء جذع قوي وأغصان ناضرة، كتلك التي نبتت في الجزيرة العربية على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته الذين رعوا تلك الدوحة العظيمة الشامخة.

وعند النظر في حال الأمة الإسلامية اليوم، قياساً بالفترة التي تلت اقتلاع جذع شجرتها وذلك بهدم كيانها، يلاحظ أن شجرة الإسلام اليوم أحسن حالاً من تلك الفترة، وقد تحقق ذلك بوجود أبناء خيِّـرين من تلك الأمة الكريمة يتصفون بتلك الصفات التي اتصف بها من زرعوا شجرة الإسلام الأولى وأنبتت على أيديهم، ألا وهم صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فعند وضع ميزان القياس للمقارنة بين تلك الفترتين (هذا الزمان، وفترة اقتلاع الجذع) يلاحظ أن الكثير من جذور الشجرة بدأت تنبت، وبدأت الحيوية تدب في بعضها، وذهب الجفاف عن قسم منها، واخضر القسم الآخر، وبذلك برزت جذور للشجرة مرة أخرى مخضرةً مبشرةً بتكوّن جذع صحيح من جديد، تنبثق منه أغصان وفروع مورقة تنبت براعم مثمرة، أي تبشر من جديد بإنبات شجرة الإسلام الطيبة التي تؤتي أكلها بإرادة ربها كما كات في سابق عهدها وذلك بإقامة حكم الله في الأرض، أي بإقامته على الفكرة الإسلامية الخالصة، أي خلافة راشدة ثابتة تكون على منهاج النبوة.
فالهدف ليس إيجاد جذع لتلك الشجرة بأي شكل كان، بل إيجاد الجذع المنبثق عن الجذور الأصلية والمنبثقة عن البذرة الأولى، ألا وهي العقيدة الإسلامية، أي بمعالجة الجذور من نقطة انبثاقها من البذرة، والاستمرار بهذه المعالجة بصبر وثبات حتى تَـنبتَ تلك الشجرة باسقةً بشكل طبيعي.

وعملية رعاية شجرة الإسلام لتعود كما كانت في إنباتها الأول، لابد من أن يكون العمل في الأمة الإسلامية ومعها، لتقوم هذه الأمة بتسليم حكمها ورعايتها لمن يرعى هذه الشجرة بالطريقة الصحيحة، فمن الخطأ والخطر بل العبث الاشتغال في غير معالجة الجذور لانبات الجذع، فلا بد من أن يكون العمل محصوراً في معالجة الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة وحرث ما حولها باستمرار، فمن هنا يجب أن يحصر العمل في إعادة دوحة الإسلام إلى القرون الأولى في أربعة أمور هي:
1- كسر الجذور اليابسة أي تحطيم المفاهيم المغلوطة في المجتمع، كقاعدة «حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» ونسف فكرة أن الديمقراطية من الإسلام وفكرة القومية والعصبية.. فيهاجم كل فكر يدّعى أنه من الإسلام وهو ليس منه، وكل فكر يناقض الإسلام.
2- إزالة الأتربة والغبار عن الجذور، أي ربط الأفكار والأحكام بالعقيدة الإسلامية، وبيان انبثاقها عن الكتاب والسنة. فربطها يكون ببيان علاقتها بالإيمان، وعلاقة طاعة الله ومعصيته بالعقيدة، وأن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرمه، وأما بيان انبثاقها عن الكتاب والسنة فإنما يكون بالإتيان بالدليل الشرعي، واستنباط الحكم الشرعي منه بحسب الأصول المنضبطة شرعاً.
3- سقي الشجرة، أي تنـزيل الأفكار على الوقائع والأحداث والمشاكل اليومية الجارية، وهذا هو الذي يحيي الأفكار والأحكام، وبغير ذلك تبقى أفكاراً ميتةً لا حياة فيها، فسقيها هو جعل الوقائع الحية تعالج بأفكار الإسلام وأحكامه فيكون هذا هو الماء الذي يحييها.
4- عزق الأرض وحرثها حول الشجرة، فيكون ذلك بالعيش مع الأمة وبينها وتوصيلها وتعليمها أفكار الإسلام؛ لهدم الأفكار والأعراف المخالفة للإسلام وبناء الأفكار والأعراف الإسلامية بدلاً منها.
بهذه الأمور الأربعة تعود دوحة الإسلام قوية شامخة، فهذه هي قصة الإسلام كشجرة ودوحة عظيمة، فكانت العقيدة الإسلامية هي البذرة التي أنبتت هذه الشجرة العظيمة، وأفكار الإسلام عن الحياة والأحكام التي تعالج مشاكل الحياة هي جذور هذه الشجرة، والجذع الباسق من الجذور هو الحكم أي السلطان وكانت فروعها القوية وأغصانها النضرة وهي خوض الأمة معترك الحياة الإسلامية وحملها الدعوة الإسلامية إلى العالم. ففي النظرة إلى تلك الشجرة في هذا الزمان يكون من الجهل أن يقال إن الإسلام كشجرة موجود في الحياة، ومن اليأس أن يقال إنه لا يمكن إعادته للحياة، ومن الظلم والإجحاف أن يقال إن الجهود التي تبذل لإعادة تلك الشجرة ذهبت هباءً منثوراً.

وعند تقييم شجرة الإسلام يرى أن الأمل بانبثاق الجذع صار أقوى من أي وقت مضى، وبدأت ملامح الشجرة بالتكوين، فأدركت الأمة الإسلامية ان لا عزة ولا نصر لها إلا بعودة شجرة الإسلام كما كانت نضرة خضراء قوية، وأصبح الإسلام مطلباً عند الأمة الإسلامية، تتشوق إلى أن تتفيأ ظلال دوحته العظيمة الشامخة الحامية من برد الشتاء ورمضاء الصيف.

فمسألة عودة الإسلام إلى واقع الحياة أصبحت أمراً واقعاً منوطاً بالمداومة على كسر الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة والغبار عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة كلها، وعزق ما حولها وحرثه، فبالاستمرار والدأب على هذه العملية، والمنهجية الربانية، تقوم الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور 55].

عطية الجبارين ـ فلسطين

الاثنين، 5 سبتمبر 2011

استئناف الحياة الإسلامية



بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العرش العظيم و أصلي و أسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا و حبيبنا محمد و على آله و صحابته و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

بعد أن كسر جدار الخوف ورأينا بأم أعيننا كيف أن الأمة التي عانات سنينا طوال تحت الذل و القهر والهوان تطالب اليوم و بكل جرأة بحل يعيد مجدها و يعيدها إلى سيرتها الأولى. ورأينا أن البضاعة التي تباع بثمن بخس و تستعرض في التلفاز ليل نهار من ديمقراطية وحرية ووطنية ووسطية وتدرج ودولة مدنية علمانية، أنها خيوط وضعية ووهمية تعاني منها البشرية . وبعد التدقيق في البحث استنتجنا معا أن السبب الرئيسي لكل هذه المشكلات الإجتماعية، والاقتصادية، و التعليمية، و الصحية و حتى السياسية ، هي غياب الإسلام من و اقع الحياة... فالحل إذاً يكمن في إستئنافه وإرجاعه ولكن كيف ... و ما السبيل ؟ وماهي الطريقة الصحيحة لإيجاده؟

قبل الحديث عن الطريقة كان لزاماً أن نعي جيداً أن إيجاد الإسلام هو عمل و فعل....و القاعدة الشرعية تقول الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي و الحكم الشرعي له أربعة مصادر لا غير:القرءان، السنة، إجماع الصحابة و القياس أي الاجتهاد المستنبط من القرءان و السنة و إجماع الصحابة. فإذا الكيفية في إيجاد الإسلام في واقع الحياة يجب أن تكون مستنبطة من هذه المصادر و مقيدة بها...لا أن تكون من العقل و لا الهوى ولا الواقع .

يقول الله سبحانه:
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر و ذكر الله كثيراً }
سورة الأحزاب آية ٢١

و معنى أسوة: أي مثال نقتدي به و نحتذي به خطوة خطوة
إذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء ليس في الملبوسات والأخلاق و العبادات فحسب بل في كل نواحي حياتنا. وهذا يقتضي أن ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم لا على أنه درس تاريخ كما أخذناه في المدارس مجرد حفظ كالببغاء لسلسلة الأحداث و التواريخ دون فهم أو ربط، ولا على أنها قصص جميلة مستحيلة التطبيق على أرض الواقع. لا و ألف لا ... فالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك التسلسل الدقيق لم تكن مجرد صدفة أو من هواه بل هو من وحي الله.

{ و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }
سورة النجم آية ٣ و ٤

و على هذا فينبغي لنا أن نتيقن أن الكيفية و الطريقة هي نفسها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. و ماأشبه الأمس باليوم كيف أننا نعيش في انحطاط وتخبط في دياجير الظلام و أننا بحاجة ماسة إلى ذاك السبيل الذي ارتقى بالبشرية و أخرجها من الظلمات إلى النور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


طريقة استئناف الحياة الإسلامية

و طريقة التغييرثابتة في الإسلام دليلها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بعثه الله في مجتمع مكة الجاهلي فعمل على تغييره بالطريقة التي رسمها الله، وقد سار في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: مرحلة التثقيف و تكوين الجماعة

بعد أن أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة، بدأ بتبليغه سراً، إلى أقرب الناس إليه كزوجته خديجة، وصاحبه أبي بكر، وابن عمه علي بن أبي طالب، وغيرهم ما بين رجل و امرأة من مختلف البيئات والأعمار، أكثرهم من صغار الشباب و كان فيهم الضعيف و القوي والغني و الفقير. و قد بلغ عددهم في هذه المرحلة ما يقارب الأربعين شخصاً. وكان حريصاً على التثقيف الجماعي في دار الأرقم ينقل إليهم ما ينزل عليه من الوحي، فيتلقونه تلقياً فكرياً، يضبط سلوكهم، ويقوي صلتهم بالله، ويزيد ثباتهم على الدين الجديد.
وكان الأثر الجماعي في الدعوة واضحاً و قد أحست قريش بهذا الدين الجديد بالرغم أنها لم تكن تعلم مكان تجمعها.و يذكر حرص الصحابة على تبليغ الدعوة فور اعتناقهم للإسلام فهاهو أبا بكر يدعو ستة من الصحابة للدخول في هذا الدين و لم ينتظر حتى يتعلم كل أمور الدين . و بهذه العزيمة وطدوا دعائم الدولة وحملوا لواء الدعوة خارج الجزيرة العربية .

المرحلة الثانية : مرحلة التفاعل

عندما نزلت الآية وأنذر عشيرتك الأقربين جمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على طعام في بيته يدعوهم إلى الإسلام و أن يؤازروه. و في حديث طويل يرويه علي بن أبي طالب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه رضي الله عنه خشيته من ردة فعل قومه و أنهم لن يقبلوا هذه الدعوة. فلما سكت نزل جبريل و أخبره أنه إن لم يفعل ما يؤمر سينزل به عقاب. و على إثر هذا جمعهم مرتين في منزله، المرة الأولى لم يتركه أبو لهب لأن يتحدث و المرة الثانية تمكن من دعوتهم. فهذه دلالة على أن الرسول لم يتدرج في أي أمر من أوامر الله بل كان يعمل لتنفيذه بالفور مهما كان صعبا. حتى أنه أعاد الكرة وجمعهم على الصفا فكان سب أبو لهب وكان رد القرآن يهاجم أبا لهب و يذكره باسمه :تبت يدا أبي لهب وتب، بالرغم من شرفه و مكانته في بني هاشم.

وعندما نزلت فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين خرج المسلمين علنا في صفين كان على رأس أحدهما حمزة بن عبد المطلب و على رأس الثاني عمر بن الخطاب و ذهب بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل فطاف بهم الكعبة ، وانتقل الرسول بذلك في أصحابه من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان. و هنا بدأ الصراع بين الحق و الباطل و المفاصلة في الدعوة للكفر و أفكاره و عدم الرضا بالقواسم المشتركة. فقد عاب آلهة قريش ، و سفه عقولهم ،و كشف أعمالهم السيئة، وواجه المجتمع متحديا طريقة عيشهم. و صارت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم في الدعوة في إنكار الشرك، و النعي على تقليد الآباء و الأجداد من غير نظر، و هاجمت الربا و التجارة الفاسدة ، و الغش في الكيل و الميزان ، ووأد البنات و هن أحياء.

فجاء زعماء قريش يشكونه لعمه أبي طالب، وعندما فاتحه أبو طالب بالأمر، قال عليه السلام : (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته) وهذا الموقف الحازم حمل أبا طالب لأن يقول لابن أخيه : (اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً) . و عندما عرضوا على الرسول الشرف و الملك و المال رفض رفضا تاما. بعدها عرضوا عليه أن يشتركوا معه في العبادة، فنزل فيهم قوله تعالى : (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون ... إلى قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين) .
فهذه كلها دلائل واضحة أنه لم يلجأ إلى الحل الوسط أو إلى إرضاء الطرفين بل و قف وقفة حاسمة لأن هذا أمر الله و مسألة عظيمة لا هوادة فيها.

وحاولت قريش بشتى الوسائل والأساليب أن تقف في وجه هذه الدعوة الجديدة، فجربوا الأساليب السياسية، حيث أشاع الوليد بن المغيرة بأن محمداً ساحر، يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته، وجعلوا يجلسون بالطرقات يتحدثون بذلك، للقادمين إلى موسم الحج(و هذا تماما مثل الإعلام الحالي الذي ينشر الكذب والخداع لأنه مبني على أساس باطل ،مثلا ينقل دائما تلك الصورة المشرقة للغرب وأن الأمة لا تريد الإسلام حلا لمشاكلها و في الحقيقة أن معظم الاستفتاءات تؤكد أن الإسلام مطلب الأمة و أعداد هائلة من المظاهارات تنادي و تندد بتطبيق الشريعة تحت ظل دولة الإسلام ) .و بذلك انتشر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب كلها.

فهددوه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر، وبالكهانة والجنون وأحاطوا به مرة يقولون : أأنت الذي تقول كذا وكذا في آلهتنا وديننا، فيقول لهم : نعم، أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) . و عانى المسلمين المستضعفين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء. ومنهم من يثبت على دينه حتى الموت.

ولما رأت قريش أن الإسلام يفشو في القبائل، اجتمع زعماؤها، واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب حماة محمد عليه السلام، وأن لا ينكحوهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم، وذلك من أجل أن يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت المقاطعة لمدة ثلاث سنوات.
إلا أن هذه الأساليب جميعها وهذه المغريات، وهذه الصعاب لم تثن الرسول عليه السلام ولا الصحابة عن عزمهم. و استمر الرسول دون ركون في هدم العقائد الفاسدة و الأراء الخاطئة و المجاهدة في سبيل الدعوة بالقرءان دون أن يلين أو يستكين أو أن يبدل.

وهنا نقطة مهمة:معاملة قريش للموحدين الذين كانوا يدعون إلى الرجوع إلى الدين الإبراهمي تختلف تماما عن معاملتهم مع رسول الله الذي كان يدعو إلى الإسلام. الفرق و اضح بينما كان الأول يكتفي بالفرد و ممارسة الفرد لدينه من الناحية التعبدية فحسب كان الثاني دينا كاملا أي أن كل الأنظمة يجب أن تكون نابعة من الإسلام. فبالتالي شعرت قريش بالتهديد من الإسلام مالم تشعره من الموحدين. و هذا تماما ما يحصل اليوم، كيف أن الغرب والحكومات الحالية لا ترى بأسا بأن نمارس الإسلام بالطريقة التعبدية أو أن نبني المساجد أو أن نتصدق إلى الفقراء لأن هذا لا يضرها بشيء. أما أن يدعو أحد برجوع الإسلام كنظام حياة عن طريق الحكم فلا يسمح أبدا. و لذلك حوربت أفغانستان و العراق والآن باكستان خوفا من هذا الكابوس الذي يراودهم .

المرحلة الثالثة: طلب النصرة و إقامة الدولة واستلام الحكم

تجمد مجتمع مكة على أفكار الكفر، بسبب عناد زعمائه واستكبارهم، و لم تبلغ الدعوة المدى الذي يمكن من التطبيق العملي حتى أمره ربه بطلب النصرة لحماية الدعوة وإقامة الدولة من القبائل المحيطة بمكة .فذهب إلى الطائف يلتمس النصرة و المنعة و عمد إلى نفر من سادة بني ثقيف و أشرافهم ولكن كما نعلم عومل بأسوء معاملة و رفضوا عرضه . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل و يقول (يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذا الأنداد، و أن تؤمنوا بي و تصدقوا بي و تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به) و جاء في سيرة ابن هشام: ( و حدث الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى كندة في منازلهم و عرض عليهم نفسه فأبوا عليه، و أنه أتى كلبا في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم ، وأنه أتى بني حنيفة في منازلهم و طلب منهم النصرة و المنعة فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم، و أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:” الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء “.فقال بيحرة : أفنهدف نحورنا للعرب دونك. فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك) .و هنا و قفة نرى كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب النصرة لنفسه بل طلبها لتطبيق شرع الله على الأرض . كان يمكن أن يتماشى مع الواقع الذي لديه و يرضى بهذا العرض أو أن يداهن و يأتي بالحل الوسط يرضي بها الطرفين بالمشاركة مثلا حتى يحصل النصرة التي عانى كثيرا من أجلها. و لكن كما رأينا كان ثابتا على الحق لا يخاف في الله لومة لائم.

وهكذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو القبائل إلى الله و يعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة و عكاظ و منى أن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه و لهم الجنة. يقال أن عدد القبائل التي باشرها تقارب الأربعين.والناظر يرى أن الرسول قد طلب النصرة من الزعماء الذين يملكون القوة . وأنه بالرغم من الرد القبيح الذي تتالى عليه من قبيلة إلى قبيلة فإنه بقي مصراً على الطلب وكرره ولم يهدأ بطلبه . فهذا الإصرار إنْ دل على شيء فإنه ليدل بشكل واضح على أنّ طلب النصرة كان أمراً من الله له بفعله .

فليست قبيلة من العرب تستجيب له ويؤذى ويُشتَم حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده ،فهيأ هذه الدعوة المدينة المنورة، وتجاوب أهلها مع الإسلام، وأعطوا النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر هو وأصحابه إليها، وأقام الدولة الإسلامية . و من خلالها طبق الإسلام عملياً في كل نواحيها و ماعلينا إلا أن نبحث في السيرة لنتعلم جهاز الحكم و كيف أنه صلى عليه و سلم كحاكم دولة راعى الشؤون الداخلية و كذلك الخارجية. و هل توقف الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كلا، استمر الصحابة على نهجه و الخلفاء من بعدهم حتى كانت الضربة المميتة عندما هدمت الخلافة في عام ١٩٢٤ م التي من جرائها تعيش الأمة في الظلمات ولكنها لم تفقد الأمل لإرجاع أمها الحنون التي سترعاها خير رعاية و لن تسمح لأي أحد كائناً من كان أن يمسها بسوء.

هذه المراحل الثلاث التي مرت بها الدعوة الإسلامية لإيجاد الإسلام و تطبيقه في المجتمع و هي الطريقة الشرعية لاستئناف الحياة الإسلامية، ولا يجوز مخالفتها، فعلى العاملين للتغيير على أساس الإسلام أن يلتزموا بها بحذافيرها.

{ وماآتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا }
سورة الحشر آية ٧

{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني و سبحان الله و ماأنا من المشركين }
سورة يوسف آية ١.٨

و ختاما إن الأمة الإسلامية بأحوج ما تكون إلى الدواء الشافي و العلاج الصحيح المجرب و الثابت نجاحه. ذلك أن الأمة المسكينة لم يبق فيها- لكثرة ماأجري فيها من التجارب - وريد و لا شريان ولا عضل أو أي مكان آخر يصلح للتجارب و غرز الإبر ، و كفى هذه الأمة آلاماً و تعذيباً، مما يوجب على الأمة رفض أي علاج لم تثبت جدواه بطريقة قطعية تدلل على أنه العلاج الذي ليس بعده علاج . و لا سبيل لها إلا باتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في إيجاد الإسلام في واقع الحياة.

{ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه وأنه إليه تحشرون }
سورة الأنفال آية ٢٤

بقلم: أم أمين- أرض الحجاز