‏إظهار الرسائل ذات التسميات فهم الواقع. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فهم الواقع. إظهار كافة الرسائل

السبت، 17 يناير 2015

كـذبـــــة اسمـــــــها «الإرهــــــــــــاب» (1)


بسم الله الرحمن الرحيم 
 
تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل وخطط الغرب الخبيثة (الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) في حربه على الإسلام ودعاته، وهو يستميت في ذلك ليحول دون عودة الإسلام ودولته دولة الخلافة الراشدة الثانية التي أظلَّ زمانها بإذن الله تعالى. فها نحن نراه يطلق سمومه ممثلة بمصطلحات ومفاهيم يصنعها صناعة في الغرف المعتمة والمشبوهة من وراء الكواليس كفكرة حقوق الإنسان، وسياسات السوق، والحوار بين الأديان، والأصولية، والعولمة، والوسطية، وأخيراً وليس آخراً: الإرهاب. نعم إنه المصطلح والفكرة والواقع الجديد الذي صنع منه صانعوه وأعد له معدوه وأخرج له مخرجوه لأن يلعب في فيلم الكاوبوي الأميركي دور الشبح والجن الذي يؤرق ويقضُّ مضاجع العالم، فتكون النتيجة احتلال مزيد من بلاد المسلمين، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والشباب، وهدم وتدمير للشجر والحجر، ويكون هذا (الإرهاب) حجة وذريعة لاستعباد العباد واحتلال البلاد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وفكرياً. لقد بات الإرهاب الواقع الجديد القديم، والذي مازال حتى الساعة يقطف الغرب ثمرته ويضرب به البلاد والعباد، هذا وقد تناولت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المحلية والدولية مصطلح الإرهاب لترسخ هذا المصطلح خدمة للأنظمة ومن ورائها الغرب الحاقد. وفي هذا المقال لن نسلط المجهر سوى على مصطلح الإرهاب الذي بات سرطاناً وجب على الأمة استئصاله واستئصال أمه المبدأ الرأسمالي واجتثاثه من جذوره واستبداله بمبدأ الإسلام؛ لتتعافى الأمة وتصبح خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ولكن كيف يتسنى لنا ذلك؟
وعلى ذلك، فسنبحر في هذا البحث ونتعمق في عدة محاور فيه تتمثل بـ: 1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً. 2- نشأة الإرهاب والغاية منه. 3- ماذا استفاد الغرب من فكرة الإرهاب؟. 4- صور من الإرهاب الغربي. 5- أسباب إخفاق الثورات. 6 - عوامل نجاحه 

ودعمه. 7- كيفية مواجهة الإرهاب ( فكراً وواقعاً) وعلاجه .

1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً:
الإرهاب لغةً: رَهِبَ بالكسر يَرهَبُ رهْبَةً ورُهباً بالضم ورَهَبَا بالتحريك أي خاف. ورهب الشيء رهباً ورهباً ورهبة: خافه. ويقال: رهبوت خير من رحموت، أي لأن تُرهب وتُخف خير من أن تُرحم.
والرهبة: الخوف والفزع، ترهب الرجل إذا صار راهباً يخشى الله، والراهب: المتعبد في الصومعة.
والإرهاب شرعاً: لا يوجد معنى في الشرع في الآيات والأحاديث يصرفه عن معناه في اللغة، وبالتالي يكون لغة وشرعاً بنفس المعنى، قال تعالى:((وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُون)) . أي فإياي فخافون. وقال تعالى: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)). أي يدعوننا قربة إلى الله وخوفاً من الله تعالى من الآخرة. وفي الحديث: «عليكم بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي» يريد أن الرهبان وإن تركوا الدنيا وزهدوا فيها وتخلوا عنها فلا ترك وزهد ولا تخلٍّ أكثر من بذل النفس في سبيل الله، وكما أنه ليس عند النصارى عمل أفضل من الترهب، ففي الإسلام لا عمل أفضل من الجهاد؛ ولهذا ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.
والإرهاب اصطلاحاً: هناك اصطلاح للإرهاب اصطلح عليه الغرب وأخفى غايته من هذا المصطلح الخبيث، والذي أصبح واقعاً 

 متجسداً في حياتنا ويعني به: قتل المدنيين وتخويفهم وإفزاعهم بدافع وغرض سياسي.

2- نشأته والغاية منه:
نشأ الإرهاب كمصطلح أسوة بأخواته فيما تقدم كالوسطية والعولمة والأصولية في الغرب، وبحسب الحاجة إليه وضعت الغاية له. أما مصطلح الإرهاب فقد نشأ في عام 1979م بعد مداولات ونقاشات بدأت منذ ما قبل عقد أو عقدين من ذلك التاريخ حتى توصلت إليه الاستخبارات الأميركية والبريطانية في ندوة عقدت لهذا الغرض، وقد سنت تشريعات وقوانين لتحديد الأعمال التي يمكن أن توصف بالإرهاب، وأنواع الحركات التي يطولها المصطلح بعيداً طبعاً عن إرهاب الدول الكبرى؛ لأنه حينها لا تكون له جدوى وفائدة، لأن واضعيه يريدون أن يخدم توجهات ومصالح هذه الدول الكبرى والمستعمرة للوصول إلى المزيد من خنوع وخضوع المسلمين للغرب، وهذا ما أدى بهم إلى جعل (الإرهاب) كلمة ضبابية يسهل اللعب بها هي وأخواتها بحيث يكون كل منها له مأربه ومقصده الاستعماري. فالإرهاب هو الكلمة التي لم يكن لها واقع، فأوجد لها الغرب واقعاً لتخدم مصالحه. وكذلك سواء أكانت الغاية من المصطلح الاستعمار الفكري أم الثقافي أم الاقتصادي أم السياسي... فهي تحقق له غاية، فما هي غايته؟
إن الغاية من أي فكرة أو أي عمل يعرف إما من الخبرة السياسية والمعلومات السابقة المربوطتين بالواقع المعاش، وهي أفضل من معرفتها عن طريق النتائج التي تتلو تنفيذ وتطبيق هذه الفكرة والعمل؛ لأنه حينها تكون قد وقعت الفأس بالرأس؛ لذلك كانت الطريق الأول أفضل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإفشال ما يمكن إفشاله من مشاريع قد تؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، فيا ترى: ما المصلحة والفائدة المرجوة لدى الغرب من استخدام هذه الفكرة؟ وأليست دول الغرب هي المستفيد الأول، وعلى وجه الخصوص أميركا. فماذا استفاد الغرب من شبح ما سماه بـ«الإرهاب»؟


3- ماذا استفاد الغرب من مصطلح «الإرهاب» فكراً وواقعاً:
لقد استفاد الغرب، وعلى رأسه أميركا، من استخدام مصطلح «الإرهاب» وتجلت هذه الاستفادات بـ:
1- احتلال أميركا للعراق ومن قبل أفغانستان، ونهب وسلب ثرواتهما، وفرض سيطرتها على ما حولها من بلاد وعباد.
2- هجوم أميركا على بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان واليمن بطائرات بدون طيار، وهو انتهاك للبلاد والعباد والبشر والشجر والحجر، وفرض إرهابها على هذه البلاد وقاطنيها بإذلالهم بهذه الضربات، وكذلك على جيران هذه البلاد على طريقة المثل القائل: «اضرب المربوط يخاف السائر».
3-فرض ضغوط سياسية واقتصادية على البلاد التي يوجد فيها ما يسمى بالإرهاب، وربطها باتفاقيات ومعاهدات تزيد من سيطرتها على هذه الدول؛ وذلك بإرسال قوات لتلك البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها، وإرسال جيشها إليها بحجة التدريب ومكافحة الإرهاب والمساعدة في ذلك (وهو في ذلك احتلال عسكري ) وكذلك شراء وكسب قواد الجيوش لصالحها، وبيع هذه البلاد أسلحة بمبالغ هائلة وفي كثير من الأحيان أسلحة فاسدة لتكدس وتصدأ دون استخدام سوى على شعوبها، فمنذ متى لم تُحارِب هذه البلاد أعداءها؟؟ مرت عقود وعقود دون حروب، فما فائدة هذه الأسلحة سوى انتفاع الغرب منها، وقمع الشعوب بها، وإرسال خبراء (جواسيس) لتشتري الذمم وتحول الولاءات والعمالات لصالحها.
4-الضغط على هذه البلاد وإخافة دعاتها ومفكريها وأحزابها وإجبارهم على السير معها في فكرة ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي يعترف بأجندة الغرب من الديمقراطية وحوار الأديان والحريات العامة، ويرضى بالغرب ويوجد له مبررات مفتراة من القرآن والسنة، والتلبيس على الناس بهذه الدلائل التي لا محل لها في الإسلام، وربط إقامة الخلافة الراشدة ورفع راية العقاب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإرهاب رغم أن المطلبين شرعيان وليسا مرتبطين بالحركات التي تتخذ العنف طريقة للتغيير بل بحزب التحرير الذي يدعو لهذا الهدف العظيم منذ أن نشأ في الخمسينات في عام 1953م، ولكن الإعلام المأجور للغرب لا يظهر هذا بل يكتمه، ويعتم على هذه الحركة الصافية النقية التي تدعو للإسلام النقي الصافي ولا تستخدم العنف تأسياً بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذا الهدف العظيم، والذي يتوجب على كل مسلم أن يسعى لإيجاده في الواقع، فهو فرض، وفيه إنقاذ للأمة والعالم مما يعانيه من شقاء الرأسمالية. نعم إن الإعلام الفاسد يظهر الحركات الفاسدة ابتغاء تشويه الإسلام النقي وحملته مما يدل على أن هذه الحركات أعدت وجهزت لتقوم بدور مرسوم لها، سواء أكان ذلك بعلم أم بجهل منها، فتجد أميركا والغرب من ورائها ضالتها وذريعتها لاحتلال البلاد الإسلامية.
5- العمل على ضرب الإسلام النقي الصافي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بما تقوم به بعض الحركات من تفجير وأعمال عنف حيث ترفع شعارات حقة مثل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله (راية العقاب)، ومن المناداة بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة رغم أنها حق؛ إلا أن من يرفعها هم من يقومون بهذه الأعمال (العنف) فيشوهون هذه الراية وهذه الأعمال العظيمة التي يدعو لها دعاة الخلافة فيخلط الحابل بالنابل، والزبد بما ينفع الناس، وفكر الحق بفكر الباطل.
6- ربط أشخاص عملاء للغرب وللاستخبارات الأميركية ليقوموا بأعمال العنف هذه في بلاد المسلمين لتمتلك أميركا حجتها لضرب هذه الجهة في أي بلد وفي أي مكان وأي زمان بحجة الإرهاب؛ فيكون العالم كله قرية خاضعة لها بحجة هذا المصطلح الخبيث، فيفرض الغرب أوامره على البلد، فإذا كان تابعاً لها سكتت عنه، وإذا لم يكن كذلك ضغطت عليه بهدف أن يصبح موالياً لها، أو يحقق بعض مطالبها.
7- العزوف من قبل المسلمين عن أن يعملوا للتغيير مع الحركات الإسلامية عامة، لاعتبارهم أنها شوهت الإسلام، فتلك تقوم بالعنف، وتلك تجامل وتداهن وتعترف بالديمقراطية، وتلك ترفع شعارات الموت للأعداء وتقتل المسلمين، وتلك تهتم بالسنن وتترك الفروض وتسمي الحاكم ببلاد المسلمين بولي الأمر... وجل هذه الحركات لا تفهم الإسلام فهماً صحيحاً، ولا تطرح مشروعاً لحل المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية والعالم؛ وهذا ما أدى إلى نفور الناس والأمة من هذه الحركات وخاصة تلك التي ترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ثم تقوم بالعنف فتشوه صورة وفكرة كل من يحمل هذا الراية العظيمة، سواء أكانت طريقته حقاً أم باطلاً.
8- محاولة إيجاد ما يسمى بالإرهاب الفكري وإلصاقه بدعاة الإسلام السياسي (الخلافة الراشدة) الذي يدعو إلى إيصال الإسلام لسدة الحكم، وتطبيقه في مناحي الحياة، وإيقاف التبعية للغرب وجعل الأمة مستقلة عنه، بل قائدة للأمم الأخرى...
يحارب هذا المشروع ويتهم ليُحْمَل المسلمون على نبذ الجهاد وجعله جهاد دفع وإلغاء جهاد الطلب (الفتوحات الإسلامية) الذي لولاه لما كنا مسلمين، وقبول العلمنة والديمقراطية والانتخابات وحصر الإسلام فقط في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وما يؤكد هذا هو ما دعت إليه السعودية مؤخراً من سن قانون يجيز اعتقال وتجريم كل من يدعو إلى الإسلام السياسي ليصبح في لائحة الإرهاب حسب قانونها امتثالاً لأوامر أميركا، وهذا قد أتى بعد الزيارات المتبادلة للمسؤولين الأميركان والسعوديين كزيارة أوباما للسعودية مؤخراً قبل شهر؛ ويمكن القول إن جهود الغرب وعملائهم من حكام المسلمين تنصب الآن على محاربة الإسلام السياسي الذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة، وهم في سبيل ذلك يطورون قوانينهم باستمرار حتى تلاحق هؤلاء أولاً بأول، ومن أساليب تطويرها المستحدثة إيجاد تلك الحالة الشاذة من الدعوة إلى الخلافة...
9-ضرب الإسلام السياسي الذي ينافس الرأسمالية ويهدد زوالها رغم أنه لا توجد له دولة. فبالدعوة إلى «محاربة الإرهاب» تستبق دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، الأحداث وتضع معوقات ومزالق لتحول دون عودة الخلافة أو تأخير عودتها؛ فتشوهه من خلال الـ C.I.A وشركة البلاك ووتر الأمنية التابعة لأميركا؛ فتقوم بأعمال العنف هي وعملاؤها ومرتزقتها من جنسيات مختلفة من تفجير وقتل، وإظهار أن من يقوم بهذه الأعمال هم مسلمون ليلصق بالإسلام؛ فيكون رد الفعل عند الغرب ضرب البلاد الإسلامية محل إقامة هؤلاء الذين قاموا بالعنف.
10- إيجاد حالة من التوتر والبغض بين الجيش والأمة من جراء قيام الجيش بحملات تفتيش وقصف وقتل بالأسلحة والطائرات بطيار وبدون طيار ضد من يقوم بالتفجيرات والعنف؛ فيوقع فيها ضحايا وأبرياء ومدنيين ما يؤدي إلى أن ينقم أهالي الضحايا على هذه الحركات وعلى الجيش ليقوم أهالي الضحايا بالانتقام من الجيش، وكذلك تنشأ فتنة بين الناس على أساس العرق والطوائف والديانات والقوميات كما حدث في العراق بسبب هذه العمليات التي يجريها الجيش.
11- إنشاء منظمات والإيعاز إلى مراكز أبحاث، وتقديم ندوات وبرامج ثقافية وإخراج أفلام بعدة لغات تركز على خدمة أميركا وتعريفها لـ»لإرهاب» ويحدث هذا بدعم مالي منها.


4-صور من الإرهـــــاب الغـــربي :
عرَّف الغرب الإرهاب كما يريد وكما يشاء وفق مصالحه التي تعكس مبدأه القائم على فصل الدين عن الحياة. فبحسب تعريفه، الإرهاب هو القيام بقتل وإفزاع مدنيين بدافع سياسي. فلماذا عُرِّف بهذا التعريف؟ أليس لمصلحتهم؟ وهل يطبَّق هذا التعريف على الناس جميعاً سواء وافق مصالح الغرب أو تعارض معه، أو هناك ازدواجية في التعريف فينطبق على جهات ولا ينطبق على غيرها؟!.
نعم، إن الغرب عرَّف الإرهاب بهذا التعريف ليوافق مصلحته، ومصلحته هي القضاء على الإسلام العدو اللدود له بعد الاشتراكية، رغم أنه ليس له دولة، فما بالنا لو كان لنا دولة خلافة؟! لذلك كان المقصود بهذا الإرهاب الإسلامَ. وهو قد أوجد جماعات لتقوم بأعمال تشوِّه الإسلام، وتقوم بأعمال عدوانية يجد الغرب فيها ذريعة ليضرب الإسلام وبلاده ويحتلها. فبدون هذه الذرائع لا يتسنى له ذلك، وتأكيد هذا الكلام ما خرج من أفواه الغرب نفسه، فقد صرّح ريتشارد مايرز رئيس أركان القوات المسلحة الأميركية من خلال شهادته أمام لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ: «إن الإرهابيين في العراق يريدون إقامة خلافة إسلامية والعودة للقرن السابق» وكذلك تصريح جورج بوش في 8/10/2005م حيث قال» «يعتقد المقاومون المسلمون أنهم باستيلائهم على بلد واحد سيقودون الشعوب الإسلامية ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة، ومن ثم إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من أسبانيا إلى إندونيسيا». وفي مؤتمر صحفي مطوَّل عقده بوش يوضح كيف أنه متابع لما وصل إليه ملف الخلافة عند دعاتها ما أكده في مؤتمره الذي عقده في 11/10/2006م حيث قال: «إن وجود أميركا في العراق هو لمنع إقامة الخلافة الإسلامية التي ستمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد مصالح أميركا في عقر داره. إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية والحريات؛ ولهذا يريدوننا أن نرحل؛ ولكننا باقون حتى لا نندم. وليعلم الشعب الأميركي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان. هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم وإقامة دولة الخلافة. إن مغامرة الرحيل من العراق خطرة جداً إنها تعني التخلي عن جزء من المنطقة للمتطرفين الراديكاليين الذين سيمجدون النصر على الولايات المتحدة، وستمنحهم هذه المنطقة التي نخليها الفرصة للتآمر والتخطيط بمهاجمة أميركا، واستغلال الموارد التي ستمكنهم من توسيع رقعة دولة الخلافة» الله أكبر، الله أكبر، ماذا بعد هذا التصريح من عداء؟! ألد أعداء الإسلام بوش يصرح بهذا التصريح، فماذا بعد هذا التصريح من حقد على الإسلام، يا أمة الإسلام؟! فأين عقول المسلمين؟ وأين التدبر لخطورة هذا الكلام؟ أليس بوش هو الذي حدَّد أن عدوه الإسلام عندما قال إنها «حرب صليبية» قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. نعم هناك رجال يعملون لهذه الخلافة، وهي لن تأتي من الله إلا بعد الإخلاص والوعي والسعي والتضحية والصبر... ولكن المدقق والممعن للنظر والمتدبر لهذا التصريح من بوش يجد أنه يؤكد على أن إحلال الواقع الذي يحاول أن ينكره ويرفضه، وهو الخلافة، قادم، وما هي إلا مسألة وقت. ألم يذكر أنها دولة قوية تهدد أميركا في عقر دارها؟ الله أكبر على الظالمين  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . ومن هنا كان من الطبيعي أن يبقى بوش في العراق خشية إقامة الخلافة لأنه بإقامتها سيكون زوال استعماره وزوال حضارته. وستكون نتيجته كما صرح «حتى لا نندم». ثم ألم يمدح حكام البلاد العربية بقوله: «ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة» وبقوله: «هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم»؟ وهل يمدح هذا العدو اللدود للإسلام إلا من يحمل عقيدته وسياسته وفكرته وينفذ أوامره؟ وهل يمجد الكافر إلا عميله المنافق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. لقد وصف بوش هذه الدول، دول الضرار، بالاعتدال فأي اعتدال هذا؟ إنه السير وفق نهجه وعكس أحكام الإسلام؛ إذ التطرف والأصولية والراديكالية حسب وصف بوش هي بالسير وفق أحكام الإسلام؟ وإذا لم يكن بوش وأشباهه هم أعداء الله والإسلام فمن هم هؤلاء إذن؟! ألم يذم بوش الراديكاليين والمتطرفين ويتخذهم أعداء عندما قال إنهم سينتصرون على أميركا من خلال زيادة مواردهم والتي ستمكنهم من اتساع رقعتهم حسب وصفه؟ فأين أنتم أيها المسلمون من هذا العداء الصريح؟.


إن هذا يذكرنا بتكذيب وتشويه وحرب كفار قريش لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عندما كانوا يقولون إن محمداً يزعم أنه يكلَّم من السماء. فلمَ لا يحوِّل الصفا والمروة ذهباً؟. وكذلك عندما كان يجادل أُبَيّ بن خلف بعدما جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا أَرَمَّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا وَيُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ». وكذلك الحال مع بوش، فهو يستهزئ ويشوِّه ويشنُّ حربه على الإسلام ويعمل على الصد عن الخلافة؛ لكن وعد الله وعد نافذ وأمره غالب... إن الله أنطق بوش بما أنطقه ليكون دافعاً لحمَلة الحق ودعاة الإسلام والخلافة لأن يجدُّوا من أجل السير من أجل تحقيق الغاية العظمى إرضاءً لله سبحانه وتعالى بإقامة الدين والخلافة الراشدة بعونه وحده.
إن «الإرهاب» الذي يقصده الغرب هو عينه الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لمن الطبيعي أن يحارب بهذه الشراسة والحقد لأنه المنافس الحضاري الجدي لحضارته المتهاوية، وهو بعد أن قضى على الشيوعية فلا يريد دولة خلافة جامعة للمسلمين مستقلة عنه بل دولاً تابعة ضعيفة يسهل السيطرة عليها في كل مواردها السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية ليحركها كيفما شاء ومتى شاء كما يفعل الآن حيث يسخرها لأهدافه في حربه على «الإرهاب» حسب التعريف المطاطي له، والذي لا يعد إرهاب الدول نحو المسلمين إرهاباً، بل دفاعاً عن النفس تجاه اعتداء الإرهابيين. ومن الجرائم الجسام العظام التي ارتكبتها الدول بحق الإسلام والمسلمين ولم تعدّ إرهاباً، بل اتهم الإسلام والمسلمون فيها بأنهم هم الإرهابيون نذكر:
1-قتلُ دكتاتور عصره الهالك ستالين لـ (11) مليون مسلم في روسيا وحدها.
2- احتلالُ يهود لفلسطين وارتكاب أبشع المجازر بحق أبنائها داخل فلسطين وخارجها من مثل مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها 3500 ضحية.
3- مذابحُ أهل البوسنة في يوغسلافيا كمذبحة مسجد فوجا (12) ألف شهيد. و6 آلاف مسلم في جسر فورا.
4-قتلُ المسلمين الإيغور في الصين منذ عام 1945م، وقتل العلماء وإتلاف المساجد وتعطيلها.
5-قتلُ المسلمين بالحبشة على يد الطاغية هيلاسيلاسي حتى أحرق الشيوخ والأطفال والنساء بالنار والبنزين في قرية جرسم. وقتل 1000مصلٍّ في رمضان بالرصاص من قبل اللعين منغستو مريام بمدينة رايرادار بإقليم أوجادين.
6- مذابح المسلمين في الفلبين وقتل وحرق وبقر البطون، والذبح بالخناجر وقطع الرؤوس وانتهاك الأعراض.
7-مذابح المسلمين في الهند في أحمد آباد في عام 1970م التي راح ضحيتها 15 ألف مسلم باعتراف إنديرا غاندي وحرق 300 مسلمة، ومذبحة آسام الشهيرة التي راح ضحيتها 50 ألف مسلم على يد ا لهندوس.
8- حرق المسلمين في تايلاند حيث أحرق 100 مسلم شاب.
9-مأساة قتل المسلمين في كشمير حيث تم تقريباً قتل 44000 مسلم، وجرح ،67000، واعتقال 40000 وهدم قرابة 129000 منزل ومسجد، واغتصاب آلاف النساء.
10-مأساة المسلمين في تايلاند وبورما وليبيريا وسريلينكا وكوسوفا والشيشان وإندونيسيا وأفريقيا الوسطى... حيث قتل مئات الآلاف وأحرق الآلاف و تم فصل الرؤوس عن الأجساد واغتصاب النساء...
11- مجازر عدو الله بشار في سوريا التي وصلت إلى أكثر من 250 ألف مسلم، والسكوت العالمي على هذه المجازر لأنها ترتكب بحق المسلمين. ألا يعد هذا كله إرهاباً وإجراماً؟!. نعم، إن الغرب الحاقد يغمض عينيه ويغفل عن هذا كله ولا يصفه إرهاباً، إنها مآسٍ تدمي القلوب وتفطر الأكباد. إلا أنه لا يكفي أن يتألم القلب وتدمع العيون ونملأ الدنيا عويلاً وصراخاً إن لم نحرك ساكن النفوس، ونجعل من كل ذلك ناراً تحرق كل باطل، ونوراً يعيننا على التغيير فتبرأ ذمتنا أمام الله، عسى أن يطفئ ذلك غضب الله علينا بعد أن قصرنا طوال هذه السنين.
إن أميركا وحدها قامت باعتقال رئيس دولة بنما وحاكمته وسجنته، وقاتلت في فيتنام (15) سنة وارتكبت هناك أبشع الجرائم، وقصفت ليبيا مرتين، وضربت أفغانستان واحتلتها، وضربت ملجأ العامرية الذي استشهد فيه أكثر من (300) فرد حينها معظمهم أطفال، وضربت هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية حيث قتل فيها 200 ألف شخص، وغزت كوبا في خليج الخنازير، وقتلت أكثر من مليوني عراقي، ألا يُعدُّ هذا كله إرهاباً في حق الإنسان الذي تدعي، زوراً وبهتاناً، المحافظة على حقوقه!
وهكذا نرى أن أميركا والغرب أصحاب غرض في حربهم على الإرهاب بحيث ينصب جله على الإسلام الحق وعلى أصحاب المشروع الإسلامي، ويتغاضى عن إرهاب الدول التي تسير وفق مفهومها للإرهاب. وإلا فلماذا اعتبرت أميركا تفجير مبنى مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوكلاهوما إرهاباً عندما حسبته من فعل المسلمين، ولكن عندما تبين لها أن وراءه منظمات أميركية غيرت رأيها وأصبح عملاً إجرامياً، وليس بإرهابي. وكذلك اعتبار أميركا لحركة ثوار نيكاراغوا حركة مقاومة، وكذلك جيش التحرير الأيرلندي، بينما تعتبر على النقيض من ذلك الحركات الجهادية الإسلامية حركات إرهابية... هذه هي الازدواجية في المعايير، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل دلالة واضحة على حربها الضروس على الإسلام، وعلى استخدام الإرهاب تارة وتعطيله تارة أخرى وفق مصالحها. أي إن «الإرهاب» هو الذي لا يتماشى مع مصالحها. والـ «لا إرهاب» هو الذي يسير وفق مصالحها. نعم هذه هي عدالة أميركا التي تقود العالم بمبدئها الرأسمالي الكافر الظالم!


بقلم: أ.ع  
المصدر: مجلة الوعي

الأربعاء، 13 فبراير 2013

المرأة بين أعلى درجات الرفعة في الإسلام وبين أسفل دركات الرأسمالية والأنظمة الوضعية




بسم الله الرحمن الرحيم


سعيد الأسعد – فلسطين


تخرج علينا بين الفينة والأخرى بعض الأقلام المسمومة والأصوات المأجورة للغرب الحاقد على الإسلام كحضارة تعطي المرأة حق قدرها لتنال تلك الأقلام والأصوات من رعاية الإسلام وحفظه للمرأة وتكريمه لها. وتحت عنوان : «المرأة في فلسطين معنَّفة: ضرب وإهانة وجنس بالإكراه وحرمان من الميراث» نشرت وكالة معاً الإخبارية تقريراً بتاريخ 25/6/2012م عن برنامج في لقاء حول هذه القضايا بما يشير إلى درجة الوحشية التي تعيشها المرأة في ظل أنظمة وضعية لا تراعي أدنى حقوق الإنسانية للمرأة، ولكن البرامج هذه فاتها ذكر الأسباب والمسببات، فلم تتطرق لتشخيص الداء على حقيقته، ولم تبين أن سبب أي حال متردٍّ هو سيطرة الأنظمة الوضعية والتي هي من ترقيعات المبدأ الرأسمالي المفروض على الناس، والذي لا ينظر إلى المرأة أكثر من كونها سلعة تستغل استغلالاً قذراً، تلك النظرة الجائرة المبنية على استحقار المرأة والحط من قدرها... وهذه البحوث لم تتطرق إلى تشريعات الإسلام، ولا إلى تاريخ حكمه وتقديره للمرأة، وكيف أنه اعتبرهاأماً وربة بيت وعرضاً يجب أن يصان؛ فالإسلام وحده هو الذي حفظ المرأة واعتبرها عرضاً، وجعل ذلك هدفاً من الأهداف العليا لصيانة المجتمع.
الدعاوى الكاذبة والخاطئة والمتربصة بالإسلام والمرأة:


إن الدعوات إلى تحرير المرأة في بلاد المسلمين وإعطائها كامل حريتها وحقوقها وتحويلها كما المرأة في الغرب ما هي إلا دعوات لأهانتها واستعبادها واستحقارها على كافة الصعد أسرياً ومجتمعياً، في الحالة الفردية وضمن الجماعة، وما قضية حقوق المرأة إلا دعوى لكشف سترها وإبعادها عن أحكام الإسلام وتوجيهاته. 
وللرد على هذه الأصوات وبيان حقيقة الأمر والفرق بين سمو أحكام الإسلام ورفعه للمرأة وبين امتهانها وإذلالها وإهلاكها كما في المبادئ الوضعية وما يدعو لها هؤلاء نعرض ما يلي:
رعاية الإسلام للمرأة وهي بنت:


لقد رعى الإسلام المرأة وأعطاها قدرها من المهد، فكانت وصية غالية وأمانة عظيمة، وقد وعدهم الله الجنة ونعيمها إن أحسن الأهل رعايتها وأدَّوا أمانة الله في حقها، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من عال ثلاث بنات يكفيهن ويرحمهن ويرفق بهن فهو في الجنة أو قال: معي في الجنة». وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وسرائهن وضرائهن أدخله الجنة بفضل رحمته إياهن: قال رجل: وابنتان؟ قال: وابنتان، قال رجل: وواحدة؟ قال: وواحدة». [المصنف كتاب الأدب]. وهذه ميزة للبنت حرص الإسلام عليها كل الحرص -بعدل معالجاته واستقامة أحكامه- مقارنة بما كانت عليه في الجاهلية، فكان رحمة ما بعدها رحمة، وهو ما زال على وصيته وصدق معالجاته في ظل جاهلية ظهر فيها المبدأ الرأسمالي الذي أطلق الحريات الغرائزية البهيميةمما أتاح إطلاق مزيد من الاعتداء والقتل في حق الأطفال من البنات في اعتداءات جنسية يشيب منها الولدان وتشمئز منها جاهلية الأولين من الناس. ما يشير بشكل واضح قاطع إلى مدى حاجة العالم أجمع إلى تشريعات الإسلام واستقامة أحكامه وتطبيق نظامه ،الأمر الذي يوجب على الحقوقيين وكل اللجان التي تدعي الحرص على المرأة وتدعو لحفظ كرامتها أن يحملوا دعوة الإسلام وأن يستنفروا لتطبيقها.


رعاية الإسلام للمرأة وهي شابة راشدة:
لقد ضمن الإسلام للمرأة وهي شابة حقها في العمل بما يمنع استغلال أنوثتها وأحاطها بالحفظ والاحترام؛ فحرَّم عليها أن تعمل عملاً تأكل من خلاله بأنوثتها، بل اعتبرها درة كريمة مصانة لا تحلُّ لغيرها إلا بكلمة الله ووفق أحكامه، وتزف لبيت الزوجية بشكل راقٍ مهيب لتصبح هناك ربة بيت وأماً وعرضاً يحرس ويصان ويفتدى بالنفس، ولتشكل ركناً إلى جانب الرجل لتأسيس عائلة محترمة ومستقرة... وهذا ما يفتقده الغرب كل الافتقاد، حيث نرى بشكل عام كيف أن الأسر مفكَّكة، ونكاد لا نجد شابة عذراء، وإذا ما وجدت فهي تخفي نفسها حتى لا تتهم بأنها معقَّدة...وحيث تستغل أنوثتها أبشع استغلال لجني المال.


الإسلام جعل للمرأة الحق في إبداء الرأي ومحاسبة رأس الدولة: 
ومن ذلك أن امرأة حجَّت عمر بن الخطاب في تقدير المهور حتى قال مقالته العابرة للأجيال: «أخطأ عمر وأصابت امرأة» 
فهذا سيدنا عمر، وهو خليفة وله منصبه وعلمه وقوة شخصيته التي تهابها الرجال، يستمع لامرأة وينصاع لفهمها في تقدير المهور ويقدمه على فهمه لما رأى فيه من وجاهة وقوة حجة بغض النظر عمن تكون هذه المرأة. 
المرأة هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم:


لقد كانت المرأة (ولازالت) وصية نبيـِّنا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فعن سليمان ابن عمرو بن الأحوص حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ.... أَلاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِى كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» سنن ابن ماجة. وقوله: «إن النساء شقائق الرجال». وعن أنس بن مالك قال: كان البراء بن مالك رجلاً حسن الصوت فكان يرجز برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يرجز برسول الله في بعض أسفاره إذ قارب النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والقوارير، إياك والقوارير». فأيُّ رفق وأي تلطُّف ووصاية هذه، فقد استحال نظيرها في الأمم وفي العالمين. فعندما جاء الإسلام أبطل كل ما كان عليه العرب والعجم من حرمان النساء من التملك أو التضييق عليهن في التصرف بما يملكن، واستبداد الأزواج بأموال زوجاتهم، فأثبت لهن حق الملك بأنواعه والتصرف بأنواعه المشروعة، فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال، وزادهن ما فرض لهن على الرجال من مهر الزوجية والنفقة على المرأة وعلى أولادها وإن كانت غنية، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجارة والهبة والصدقة وغير ذلك. ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها كالدفاع عن نفسها بالتقاضي وغيره من الأعمال، وفي المقابل نرى أن المرأة الفرنسية لا تزال إلى يومنا هذا مقيدة بإرادة زوجها في جميع التصرفات المالية والعقود القضائية.


ومما يجدر ذكره أن الإسلام حين كانت دولته تحكم العالم وتسود فيه مثل هذه الأحكام وتعطى المرأة تلك المنزلة كان الإفرنج يعدون المرأة من الحيوان الأعجم أو من الشياطين لا من نوع الإنسان، وبعضهم يشك في ذلك، فجاء الإسلام وفيه قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقوله سبحانه: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وما في معناهما، وكان بعض البشر في أوروبا وغيرها يرون أن المرأة لا يصح أن يكون لها دين، حتى كانوا يحرمون عليها قراءة الكتب المقدسة رسمياً، فجاء الإسلام ليخاطب الرجال والنساء معاً بالتكاليف الدينية بلقب المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. وكان أول من آمن بمحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم امرأة، وهي زوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وقد ذكر الله تعالى مبايعته صلى الله عليه وسلم للنساء في نص القرآن ثم مبايعته للرجال بما جاء في بيعة النساء. ولما جمع القرآن في مصحف واحد جمعاً رسمياً وضع عند امرأة هي حفصة أم المؤمنين، وظل عندها من عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق إلى عهد الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عن الخلفاء الراشدين أجمعين - فأُخذ من عندها واعتُمد عليه في نسخ المصاحف الرسمية التي كتبت وأرسلت إلى الأمصار لأجل النسخ عنها والاعتماد عليها.


وكان بعض البشر يزعمون أن المرأة ليس لها روح خالدة؛ لذلك لا تكون مع الرجال المؤمنين في جنة النعيم في الآخرة - وهذا الزعم أصل لعدم تدينها - فنزل القرآن الكريم ليقول: ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ويقول سبحانه: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) وفيها الوعد الصريح بدخول الفريقين جنات تجري من تحتها الأنهار.
وكان بعض البشر يحتقرون المرأة فلا يعدونها أهلا للاشتراك مع الرجال في المعابد الدينية والمحافل الأدبية، ولا في غيرهما من الأمور الاجتماعية والسياسية والإرشادات الإصلاحية، فنزل القرآن يصارحهم بقوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وقد عين عمر بن الخطاب الشفاء وهي امرأة قاضية للحسبة.


وكان بعض البشر يحرِمون النساء من حق الميراث وغيره من التملك، وبعضهم يضيق عليهن حق التصرف فيما يملكن، فأبطل الإسلام هذا الظلم وأثبت لهن حق التملك والتصرف بأنفسهن في دائرة الشرع، قال الله تعالى: ( لرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) وقال سبحانه: ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن) ونحن نرى أن دولة الولايات المتحدة الأميركية لم تمنح النساء حق التملك والتصرف إلا من عهد قريب في عصرنا هذا فيما يشير إلى ترقيعات النظام الرأسمالي الباهت، وأن المرأة الفرنسية لا تزال مقيدة بإرادة زوجها في التصرفات المالية والعقود القضائية، وقد منحت المرأة المسلمة هذه الحقوق منذ ثلاثة عشر قرناً ونصف. 
وكان الزواج في قبائل البدو وشعوب الحضارة ضرباً من استرقاق الرجال للنساء، فجعله الإسلام عقداً ورباطاً وثيقاً لقضاء حق الفطرة بسكون النفس من اضطرابها الجنسي بالحب بين الزوجين، وتوسيع دائرة المودة والألفة بين العشيرتين، واكتمال عاطفة الرحمة الإنسانية وانتشارها من الوالدين إلى الأولاد، على ما أرشد إليه قوله تعالى: ( مِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).


ولقد كلَّف الإسلام المرأة والرجل بالتكاليف الشرعية على السواء من غير تفاضل بينهما وذلك باقتسام الواجبات والحقوق بالمعروف، مع جعل حق رياسة الزوجية للرجل لأنه أقدر على النفقة والحماية بقول الله عز وجل في الزوجات: ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) وقد بيَّن هذه الدرجة بقوله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) فجعل من واجبات هذه القيامة على الزوج نفقة الزوجة والأولاد بحيث لا تكلف منه شيئاً ولو كانت أغنى منه، وزادها المهر إذ المسلم يدفع لامرأته مهراً مفروضاً عليه بمقتضى العقد.
وكان أولياء المرأة يجبرونها على التزوج بمن تكره، أو يعضلونها بالمنع منه مطلقاً وإن كان زوجها وطلقها، فحرم الإسلام ذلك، والنصوص في هذا معروفة في كلام الله وكلام رسوله وسنته. وكان الرجال من العرب وبني إسرائيل وغيرهم من الأمم يتخذون من الأزواج ما شاؤوا غير مقيدين بعدد، ولا مشترط عليهم فيه العدل، فقيَّدهم الإسلام بألا يزيدوا على أربع، وأن من خاف على نفسه ألا يعدل بين اثنين جعل الاقتصار على واحدة.


والطلاق قد يكون ضرورة من ضروريات الحياة الزوجية، إذا تعذر على الزوجين القيام بحقوق الزوجية من إقامة حدود الله وحقوق الإحصان والنفقة والمعاشرة بالمعروف، وكان مشروعاً عند أهل الكتاب والوثنيين من العرب وغيرهم، وكان يقع على النساء منه وفيه ظلم كثير وغبن يشق احتماله، فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذي لم يسبقه إليه شرع ولم يلحقه بمثله قانون، وكان الإفرنج يحرمونه ويعيبون الإسلام به، ثم اضطروا إلى إباحته، فأسرفوا فيه إسرافاً منذراً بفوضى الحياة الزوجية وانحلال روابط الأسرة والعشيرة. بينما الإسلام جعل عقدة النكاح بيد الرجال، ويتبعه حق الطلاق؛ لأنهم أحرص على بقاء الزوجية بما تكلفهم من النفقات في عقدها وحلها، وكونهم أثبت من النساء جأشاً وأشد صبراً على ما يكرهون، وقد أوصاهم الله تعالى على هذا بما يزيدهم قوة على ضبط النفس وحبسها على ما يكرهون من نسائهم فقال سبحانه: ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت، وأعطتها حق طلب فسخ عقد الزواج من القاضي إذا وجد سببه من العيوب الخلقية أو المرضية كالرجل، وكذا إذا عجز الزوج عن النفقة. وجعلت للمطلقة عليه حق النفقة مدة العدة التي لا يحل لها فيها الزواج، وذم النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق بأن الله يبغضه للتنفير عنه إلى غير ذلك من الأحكام التي بيَّنها في تفسير الآيات المنزلة فيها. 


وكذلك بالغ الإسلام في الوصية ببرِّ الوالدين فقرنه بعبادة الله تعالى، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم فيه حق الأم، فجعل برَّها مقدماً على بِرِّ الأب، ثم بالغ في الوصية بتربية البنات وكفالة الأخوات، بأخص مما وصى به من صلة الأرحام، بل جعل لكل امرأة قيِّماً شرعياً يتولى كفايتها والعناية بها، ومن ليس لها ولي من أقاربها وجب على أولي الأمر أن يتولوا أمرها.


كذلك فقد أكبر الشرع الإسلامي المرأة وأكرمها كلما كبر سنها، وجعل الجنة تحت أقدام الأمهات. وإن الأمهات من الجدات في الإسلام لهن صدور البيوت وأحسن المجالس وأطيب الطعام وتقبيل الأيدي والرأس وحسن الخدمة وكبير الاحترام والتنعم وخفض الجناح والدعوة لهنَّ في السجود وبين السجدتين وفي أدبار الصلوات... ولعمر الحق،إنه إن كانت المرأة يكرمها الأبناء أو الإخوة والأهل، فإنها، في الإسلام تكرم أكثر وهي جدة، وذلك بخلاف أنظمة الطاغوت من شرائع الغاب الرأسمالية وأضرابها فإن مصير الجدات هي مآوي العجزة حيث الملل والقهر والضغط النفسي ولسان الحال أنهن أصبحن عالة على المجتمع هناك، ويضيق ذرعاً بهم الأبناء والأحفاد، يحجزن ويحبسن كالمجرمين، ويحجر عليهن كالمرضى السلبيين، فهل هناك ما هو أشد ظلماً من هذا؟! وجملة القول: إنه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في أمة من الأمم أعطى النساء ماأعطاهنَّ إياه الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة.


هذه هي حقائق الإسلام في رعاية المرأة من مهدها إلى لحدها تشع نوراً وتعلو فخاراً وتفضح خزي الأنظمة الوضعية ودعاوى الناعقين المزينين لقبحها ممن يتسمون بلجان حقوق وكتَّاب ومفكرين ومنظّرين. وإن كثيراً من تلك المؤسسات تعمل لتخريب الجيل ولإفسادهم ضمن أجندات دولية. وفي هذا الصدد نقلت وكالة معاً الإخبارية تقريراً عما قاله : بسام زكارنة رئيس نقابة العاملين في الوظيفة العمومية بتاريخ 1/7/2012م: «إن بعض مؤسسات المجتمع المدني أوكار للموساد وللمخابرات العالمية هدفها تدمير المجتمع الفلسطيني وتفكيكه» وقال زكارنة «إن مسؤولين إسرائيليين على تواصل مع هذه المؤسسات وتقودها بشكل مباشر من خلال بعض المسؤولين فيها أو بشكل غير مباشر من خلال أجهزة مخابرات عالمية بحيث إن 80 بالمئة من هذه المؤسسات يؤدي الدور بفعالية مطلقة، ويساهم ببث الفتنة وسرقة أموال الشعب الفلسطيني». وبين زكارنة: «إن دور هذه المؤسسات الأهلية ينحصر في البحث عن أي قضية داخلية وإثارتها مثل قضايا فساد وحقوق الإنسان والديمقراطية وهي مفبركة أو تم علاجها بعيداً عن الفاسدين المتعاونين مع تلك الأجهزة بحيث لا تساهم في تقوية المجتمع وإنما تفتيته». http://www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=500178


وإننا فوق هذا فقد وجدنا في الجدول المرفق للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم) في مناطق السلطة الفلسطينية كيف أن عدد الاعتداءات وحتى القتل على خلفية شرف العائلة هو أقل القليل، وهناك فرق شاسع بينه وبين أي قضايا جنائية أخرى، أو حتى ضحايا حوادث السير، فلماذا يكون هذا الاستهداف للتشهير بالمجتمع المحافظ الذي يكرم المرأة لتأثره بالإسلام تأثراً منقوصاً ولا يعيشه عيشاً كاملاً في دار الإسلام وفي دولة الخلافة التي تعد الحصن الحصين الحامي للمرأة؟!.


وضع المرأة في الغرب بلغة الأرقام


أولاً:في تقريره السنوي الذي قام بإعداده فريق متخصص برصد أحوال المرأة في العالم الغربي، ذكر «معهد المرأة» في إسبانيا ـ مدريد، مجموعة من الإحصاءات المذهلة:
- في عام 1990م قدّم 130 ألف امرأة بلاغات بالاعتداء الجسدي والضرب المبرح من قبل الرجال الذين يعيشون معهن، سواء كانوا أزواجاً أم أصدقاء .
- ويقول أحد المحامين: إن الشكاوى بالاعتداء الجسدي والضرب المبرح بلغت عام (1997م) 54 ألف شكوى، وتقول الشرطة: إن الرقم الحقيقي عشرة أضعاف هذا العدد.
- وفي عام 1995م خضع مليون امرأة لأيدي جراحي التجميل، أي بمعدل امرأة من كل 5 نساء يعشن في مدريد وما حولها.
- كما أن هنالك بلاغًا يوميًّا عن قتل امرأة بأبشع الطرق على يد الرجل الذي تعيش معه.
ثانياً: الولايات المتحدة الأميركية:
- في عام 1980م (1.553000) حالة إجهاض، 30% منها لدى نساء لم يتجاوزن العشرين عاماً من أعمارهن، وقالت الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك.
- وفي عام 1982 م: (80%) من المتزوجات منذ 15 عاماً أصبحن مطلقات.
- وفي عام 1984م: (8 ملايين) امرأة يعشن وحدهن مع أطفالهن ودون أية مساعدة خارجية.
- وفي عام 1986م: (27%) من المواطنين يعيشون على حساب النساء.
- وفي عام 1982م: (65) حالة اغتصاب لكل 10 آلاف امرأة.
- وفي عام 1995م: (82) ألف جريمة اغتصاب، 80% منها في محيط الأسرة والأصدقاء، بينما تقول الشرطة: إن الرقم الحقيقي 35 ضعفاً.
- وفي عام 1997م بحسب قول جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة : اغتصبت امرأة كل 3 ثوان، بينما ردت الجهات الرسمية بأن هذا الرقم مبالغ فيه في حين أن الرقم الحقيقي هو حالة اغتصاب كل 6 ثوان!
- وفي عام 1997م: (6) ملايين امرأة عانين سوء المعاملة الجسدية والنفسية بسبب الرجال، 70% من الزوجات يعانين الضرب المبرح، و4 آلاف يقتلن كل عام ضرباً على أيدي أزواجهن أو من يعيشون معهن.
-74% من العجائز الفقراء هم من النساء، 85% من هؤلاء يعشن وحيدات دون أي معين أو مساعد.
- ومن 1979م إلى 1985م: أجريت عمليات تعقيم جنسي للنساء اللواتي قدمن إلى الولايات المتحدة من أميركا اللاتينية، والنساء اللاتي أصولهن من الهنود الحمر، وذلك دون علمهن.
- ومن عام 1980م إلى عام 1990م: كان في الولايات المتحدة ما يقارب مليون امرأة يعملن في البغاء.
- وفي عام 1995م: بلغ دخل مؤسسات الدعارة وأجهزتها الإعلامية 2500 مليون دولار .
يشار إلى أن هذا التقرير السنوي المسمى بـ “قاموس المرأة” صدر عن معهد الدراسات الدولية حول المرأة، ومقره مدريد، وهو معهد عالمي معترف به.
وتحت عنوان: “العنف المدني، مشكلة اجتماعية منتشرة في أميركا.” ذكرت منظمة الكومنولث في استطلاع 1998م أنه تقريباً “ثلث النساء الأميركيات، تعرضن لمضايقات جسدية أو جنسية من الزوج أو الصديق، خلال فترة من حياتهن”. 
وذكر المعهد الأميركي للعدل أنه تقريباً “25 بالمائة من النساء الأميركيات اغتصبن، و/أو تم الاعتداء عليهن جسدياً”، من رفيق سابق أو حالي، أو خلال أحد المواعيد. 
وذكر مكتب العدل الأميركي أنه خلال العام 2000م تعرضت 588490 امرأة للضرب (لعنف لم يؤدِّ لإصابات)، من الشريك الحميم (المقرب). وتشير التقديرات إلى أن 18% من مجموع النساء في الولايات المتحدة الأميركية تعرضن للاغتصاب، وأن 1900 فتاة يومياً يتم اغتصابهن، وهذه النسبة تشكل رقماً كبيراً خاصة إذا نظرنا إلى أن نسبة العلاقات غير الشرعية مرتفعة جداً، وأن أكثر من 5% من الزوجات يخنَّ أزواجهنَّ من باب المعاملة بالمثل. علاوة على ذلك فإن 2% من حالات الاغتصاب المذكورة تكون من الأب أو أحد أفراد الأسرة. 
وتشير مصادر أخرى إلى ارتفاع هذه النسبة إلى 22% من مجموع النساء في الولايات المتحدة الأميركية اللائي يتعرضن لحوادث الاغتصاب، وهذا يجعل الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأولى في العالم من حيث معدلات الاغتصاب الواقعة على النساء. ونشير هنا أيضاً إلى أن ما مجموعه 47% من حالات الاغتصاب المذكورة كان يصاحبها اعتداء جسدي شرس وعنيف بالضرب ونحوه كما نشرت ذلك صحيفة ال “يو إس توداي”. 


وهذه النسب المذكورة لا تشكل إلا ما تم الإبلاغ عنه من جرائم الاغتصاب، وأما ما لم يتم تسجيله أو الإبلاغ عنه فإنه أكبر بكثير من الرقم المذكور، وتشكل هذه الجرائم أكثر من عشرين ضعفاً من مثيلاتها في كل من اليابان وإنجلترا وإسبانيا مع مراعاة أن الدول السابقة دول شعوبها غير متدينة بعكس الولايات المتحدة الأميركية فإن شعبها متدين وبنسبة كبيرة.
وقد نشرت مجلة الطب النفسي الأميركية تقارير تفيد بأن ما نسبته 42% من النساء العاملات في الولايات المتحدة الأميركية يتعرضن للمضايقات والاعتداء الجنسي، ومن أشهر القصص في هذا المجال قصة أحد أعضاء الكونغرس الأميركي عندما قامت إحدى العاملات معه بشكايته لأنه قام بالتحرش بها جنسياً، وبعد اشتهار أمره تقدمت أكثر 26 امرأة بشكاوى تفيد أنه مارس معهنَّ التحرش.
كما نشرت منظمة التحالف الوطني المنزلي في أميركا تقارير تفيد بأن أكثر من سبعة ملايين امرأة يتعرضن للضرب من قبل الأزواج ولا يقمن بإبلاغ الشرطة، ويدخل مئات الآلاف منهن سنوياً إلى المستشفيات لتلقي العلاج من آثار الضرب، وهي حالات مختلفة بعضها خفيف وبعضها قوي جداً وقد يصل إلى القتل. 
وتشير تقارير ودراسات أخرى إلى أن 95% من ضحايا العنف العائلي هم من النساء، وأن من بين كل أربعة حالات اعتداء على المرأة يكون الزوج هو المعتدي في ثلاثة حالات منها. 


الخلاصة:
1- لقد رعى الإسلام المرأة في التشريع والتوجيه والتنفيذ من مهدها وفي شبابها إلى شيخوختها، واعتبرها شقيقة الرجل، ولها دور مهم ومفصلي على صعيد الأسرة والمجتمع واستقامتهما وارتفاع بنيانهما، فهي أم وربة بيت وعنصر إيجابي فاعل. وقد منع بشكل قاطع النيل منها أو استغلال أنوثتها وجعلها عرضاً يجب أن يصان. وقد أعطاها من الحقوق كما أعطى الرجل سواء بسواء إلا ما يختلفان فيه من ناحية فطرية.
2- لقد سجل التاريخ والحاضر بأن جميع المبادئ والتشريعات البشرية قد وضعت المرأة في أسفل الدركات ظلماً واستهانة واستضعافاً، ولا زال الخط البياني يرتفع بأرقام قياسية في هضم حقوقها والاعتداء عليها، وما الترويج لحرية الغرب ومناداته بحقوق المرأة إلا ذراً للرماد في العيون وتزييفاً للحقيقة المذهلة عن جرائمه.
3- هناك دعاوى لا سيما في العالم الإسلامي من لجان حقوق ومؤسسات نسوية وكتاب ومفكرين للنيل من عفاف الأسرة المسلمة من أجل تدميرها وإشاعة الانحلال الذي يدعو له الغرب في بلاد المسلمين حتى تعم مثل تلك الفوضى الحاصلة في المجتمعات الغربية وتصبح مجتمعاتنا أسوأ حالاً، وذلك من خلال دعوة المرأة لأخذ الأمر على عاتقها وتجاوز الرجل وحرمانه من قوامته عليها، والتعامل معه بالندية والمنافسة لا بالتفاهم والمودة والرحمة التي دعا لها الإسلام، وقد تبين أن الكثير من هذه المؤسسات لها ارتباطات واضحة في النشوء والتمويل بالدول المعادية للإسلام لتحقيق مآربها وشرورها في بلاد المسلمين ضمن مخططات إعادة رسم المعادلة لتخدم بقاء الغرب جاثماً على بلاد المسلمين ولا سيما بعد الثورات التي قامت في بلاد المسلمين من أجل قلعه وإعادة الاعتبار للإسلام كنظام شامل لكافة مناحي الحياة.
4- هي دعوة نوجهها لكل عاقل في العالم، ولكل من يحرص على المرأة كإنسان مثلها مثل الرجل، ولها الحق في عيش وافر كريم، بأن تنصب الدعوات والجهود لإعادة الاعتبار للنظام الاجتماعي في الإسلام والدعوة والمطالبة بتطبيقه لإحقاق الحق والعدل ولرفع مكانة المرأة إلى أعلى درجات الرقي الإنساني دون أي امتهان أو انتقاص أو عدوان 
قال تعالى:( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )


المصدر: مجلة الوعي

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

أثر الروح عند المسلمين وأثر فقدانها في الحضارات الأخرى


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل إلينا هذه الحضارة صافية نقية من فوق سبع سماوات فتعرضت لجميع مناحي الحياة فعالجتها، وإلى الإنسان وحاجاته فأشبعتها. الحمد لله الذي عرفنا إلى نفسه من خلال عقيدة عقلية. حكم العقل بصحتها، فبعد أن تتالت النصوص النقلية لتحديد علاقة الخــالق بالمخــلوق، وذلك أن الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوق لخالق واجب الوجود، واستطاع العقل أن يقف على هذه الحقيقة ويقرها، فكانت الناحية الروحية عند المسلمين جلية واضحة في أبهى صورها، وهي حقيقة راسخة لا ريب فيها، وهي أن الكون وما عليه من إنسان وحياة مخلوق لخالق. فكانت هذه الصلة بين الإنسان وخالقه هي الناحية الروحية عند المسلمين، وكانت هي الأساس الراسخ لإدراك الصلة بالله أنها صلة عبد بمعبود، فكان إيماناً نابعاً عن إدراك، لا إيماناً شعورياً في مهب الريح. 


فإدراك هذه الصلة، أي إدراك كون الأشياء مخلوقة لخالق هو الروح. وأن هذه الروح ليست من الإنسان و لا جزءاً من تركيبه، وإنما من الإدراك نفسه، ومن خلال هذا الإدراك يتقيد المؤمن بكل ما جاء به الوحي من عند الله من أفكار وأحكام طائعاً لله عز وجل وحده لأنه أدرك أنه عبد له وحده. فوجود هذه الروح عند المؤمن يشكل الضابط الأساسي في تقيده بالأحكام الشرعية بشكل ثابت و مستمر، فتجعل سلوكه الدؤوب في إشباع جوعاته سلوكاً منضبطاً بالوازع الداخلي، ومنطلقاً من إيمانه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1] وذلك رغبةً في نيل رضوان الله ودخول جنته وهروباً من عذابه.

فما أعظم هذه الروح عند المؤمنين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن التابعين وغيرهم ممن تربوا في ظل خلافة تنمي عندهم هذه الروح وتحرسها من الضعف والضياع! فقد كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيات عظيمة متميزة وبناء مجتمعات راقية يشار لها بالبنان.

وقد أثبت التاريخ الإسلامي على مر العصور أثر هذه الروح في بناء الشخصية الإسلامية المتميزة ذات اللون الواحد والطابع المحدد، وذلك من خلال التزامهم بأوامر الله التزاماً ثابتاً مبنياً على إدراك الصلة بالله عزّ وجل طمعاً بنيل رضوانه سبحانه لا لتحقيق مصلحة دنيوية أو منفعة زائلة، وإنما طاعة لله دون الالتفات إن كان في ذلك ضرر أو نفع، فكان الخير ما أرضى الله والشر ما أسخطه. 

فقد التزم المسلمون بأوامر الله جميعها ولو خالفت أهواءهم، وأقلعوا عن عادات أحبوها وأسرت قلوبهم طوال جاهليتهم؛ فلم يكن ذلك إلا بفضل هذه الروح، فلم يكن الامتناع عن شرب الخمرة مثلاً إلا طاعة لله واستجابة لأوامره، فلم يكن ذلك لمذاق سيئ أو لغلاء سعر أو غيره، وكانت هذه الطاعة مبنية على إدراك الصلة بالله عز وجل، فما أن حرم شربها حتى جرت الخمرة في شوارع المدينة، هكذا كان التزام المسلمين بأوامر الله، وخاصة في زمن الصحابة الكرام وزمن من جاء بعدهم من التابعين، وهكذا يجب أن يكون (إن شاء الله تعالى) التزام الأمة في ظل الخلافة الراشدة القادمة، فتجعل أبناءها متصلين متواصلين مع ربهم، وتكون هذه الروح سبباً أساسياً في بناء شخصياتهم، وقوية حاضرة في كل لحظة من حياتهم، فيتمثل فيهم قوله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام 162].
إن غياب هذه الروح و ضعف الإدراك للصلة بالله عز وجل ولو لفترات بسيطة، تضعف المسلم في تقيده بأوامر الله وتجعله عرضة لحبائل الشيطان وعرضة للزلل؛ لأن هذه الروح ليست جزءاً من تركيب الإنسان أو المسلم وإنما هي طارئة عليه آتية من الإدراك ذاته، ولكن المؤمن الحق سرعان ما يفيء إلى أمر ربه فيجدد هذا الإدراك ويستحضر هذه الروح من جديد، فيرجع إلى إيمانه وتقواه، فها هي الغامدية في لحظة غياب هذه الروح وضعف هذا الإدراك فعلت ما فعلت من معصية، و لكنها عند تفعيل هذا الإدراك، أي تجديد هذه الروح أصرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهرها بإقامة حد الرجم عليها، خوفاً من عذاب الله، وقد أصرت على ذلك طيلة ثلاث سنوات، ولم يستطع الشيطان أن يردها عن ذلك، فما أعظم هذه الروح! وما أعظم هذه التقوى! عندما تكون مبنية على إدراك الصلة بالله (عز وجل)، أي مسيرة بهذه الروح!

ولا يغيب عن أذهاننا أثر هذه الروح على ترابط وتراحم المجتمع المسلم، و ذلك من خلال تقيد أبناء هذا المجتمع بالتراحم و التكافل والإيثار وغيره تقيداً دائمياً غير منقطع، ذا وتيرة واحدة طاعة لله وطمعاً بالأجر والثواب من عنده، وذلك أثراً لوجود هذه الروح، فيتسابقون على كفالة اليتيم طمعاً بالأجر والثواب من الله عز وجل لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» (رواه أحمد وأبو داود) وأشار بالسبابة والوسطى، كما ويؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذلك كما آثر الجرحى في جيش المسلمين كلٌ أخاه على نفسه في شرب الماء، رغم عطشهم حتى استشهدوا جميعاً دون أن يشرب أحد منهم . فكان ذلك أيضاً بفضل وجود هذه الروح العظيمة عندهم، كما أن حرص المسلمين على أن لا يبات جار أو قريب جوعان لأثر لهذه الروح تقيداً منهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد)، وإن وجود هذه الروح يجعل المسلمين في جد واجتهاد وطاعة وانضباط وإخلاص، في كل مجال من مجالات حياتهم ومن ضمنها طاعة الحاكم الذي يحكم بالإسلام حيث طاعته من طاعة الله، فيثمر ذلك في تقدم وازدهار وتطور الدولة والمجتمع؛ ليكون مجتمعاً ربانياً متميزاً يتمثل فيه وصف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم)؟ فكيف ينطبق هذا الوصف على واقعه إن لم تكن هذه الروح موجودة وحاضرة عند أبناء المجتمع المسلم حيث يتقيدون بأحكام الله سراً وعلانية، رغبة في ما عند الله ورجاء رضوانه؟ فكان عزوف المسلمين عن الغيبة والنميمة هو عزوف متصل بهذه الروح، استجابة لأمر الله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات 12]، وكان انصراف المسلمون عن النميمة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ»، وكان الالتزام بصلة الرحم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، وانتهوا أيضاً عن قذف المحصنات الغافلات خوفاً من الله تعالى لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور 23]، فكل ذلك وغيره كان بفعل هذه الروح التي تجعلهم متصلين مع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ولهذا كانت العلاقات التي تربط أفراد المجتمع المسلم علاقات متينة مبنية على أساس واحد وهو خشية الله عز وجل، فكان مجتمعاً راقياً مصطلحاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، يحكمه الوازع الداخلي، ويقوم على تقوى الله عز وجل النابعة بشكل مستمر من وجود هذه الروح أي هذا الإدراك القوي المتين. 

لقد كان السواد الأعظم من هذه الأمة يتمتعون بهذه الروح، وعلى هذه الدرجة من التقوى، فقصة بنت بائعة اللبن لأعظم دليل على ذلك، فما أعظم هذه الروح عند هذه المؤمنة البسيطة، فهي من عامة الأمة، ولعلها فقيرة أو يتيمة لكنها كانت بهذه التقوى النابعة من الإدراك المتواصل بخالقها. 

أليس هذا طبيعياً لمن تربى على مائدة الخلافة الراشدة! خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فشاء الله أن يَسمعها سيدنا عمر، عندما قالت مقولتها، فشاع صيتها ووصلنا خبرها، ولكن هناك الكثير الكثير من أبناء ذلك المجتمع الذين هم بنفس الروح والإدراك، ولكن لم يسمعهم ابن الخطاب أو غيره، فلم يصلنا خبرهم، ولكن المقطوع به أن السواد الأعظم من أبناء تلك الأمة كان لديهم نفس الروح، وسيعود ذلك إن شاء الله في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة التي تقوي هذه الروح وتحرسها، وتربي أجيالاً على مائدة التقوى، فيظهر عندها رجال أمثال الخلفاء الراشدين وغيرهم، ويكون أفراد المجتمع بسواده الأعظم كبنت بائعة اللبن، مجتمعاً متميزاً يعيش لله ويموت لله.

وقد فرضت الشريعة الإسلامية الكثير من التشريعات بهذا الخصوص، فالتزم بها المسلمون بشكل ثابت بفضل وجود هذه الروح، فكان مجتمعاً متميزاً بعلاقاته وأفراده وحكامه، حيث كان تمثل هذه الروح عند ولاة الأمر كالخلفاء الراشدين واضحاً متميزاً، فلم يكن هناك فرق بين حاكم ومحكوم أمام شرع الله، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يرى الفاحشة بأم عينه فيثور ويغضب لله ولكنه لا يستطيع البوح باسم الفاعل أو عقابه لغياب شهوده الأربع، فكان ذلك التقيد بالحكم الشرعي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أثراً لوجود هذه الروح، فلم يتجاوز أوامر الله رغم كونه رأس الهرم، كما تجلت هذه الروح العظيمة عند الصحابة بمن فيهم سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهم يشكلون الوسط السياسي آنذاك، فلم يكونوا أقل التزاماً بأوامر الله من أمير المؤمنين حيث قال له سيدنا علي (رضي الله عنه): «والله لو كشفت الفاعل دون شهود لأقمنا عليك حد القذف يا أمير المؤمنين»، علماً أن الصحابة وعلي بن أبي طالب يعرفون قدر عمر بن الخطاب ويصدقونه، فهو الإمام التقي العادل الورع، ولكن وجود هذه الروح كان سبباً في تقيدهم جميعاً وحرصهم على أوامر الله عز وجل.

فما أروع هذا التقيد بأحكام الله كأثر كبير لوجود هذه الروح عند الحاكم والمحكوم في مجتمع متجانس يُحكم بنفس النظام الذي يؤمن به! فكان هذا التقيد بأحكام الله حامياً للمجتمع من كل سوء، وموفراً للأمة الأمن والأمان بشكل دائم، وما كان ذلك إلا أثراً وثمرة لوجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وبهذه الروح تتحقق جميع القيم بالمجتمع الإسلامي بشكل متوازن، فتتحقق القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية وكذلك القيمة المادية.
و تتجلى هذه الروح عند المسلمين حتى في حملهم لدعوة الإسلام، فعندما خرجوا من الجزيرة العربية فاتحين البلاد وحاملين عقيدة الإسلام كانوا مسلحين بهذه الروح متقيدين بأحكام الله، فلم يخرجوا لاستعمار البلاد والعباد أو لنهب خيرات الأمم، وإنما خرجوا حاملين لواء الهداية طاعة لله وأملاً بنيل الشهادة أو النصر. فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح (رضي الله عنه) يرجع الجزية لأهل حمص وهم نصارى، وذلك عندما اضطر للانسحاب من المدينة تطبيقاً لأحكام الله وبفضل هذه الروح، وقد اعتنق أهل إندونيسيا الإسلام بفضل أخلاق التجار المسلمين، الذين كانوا يرتادون بلادهم، وذلك بسبب تطبيقهم لأحكام الله في تجارتهم بفضل وجود هذه الروح لديهم، فكانت هذه الأخلاق ناتجة من ربط كل سلوك لديهم بعقيدتهم فكان هذا الربط هو الإدراك ذاته والروح عينها.

كما كان وجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية في ظل دولة الإسلام سبباً في بروز العديد من العلماء المسلمين في شتى أنواع العلوم. شرعية كانت أو دنيوية، فلم تكن جهودهم إلا تقرباً من الله عز و جل لا تقرباً من أمراء أو حكام طمعاً بمال أو جاه، بل كان معظمهم يحرص على بعده من الأمراء والمناصب الهامة بالدولة حتى لا يشوب عمله وجهده أي شائبة من عرض الدنيا، بل يريدونها خالصة لوجه الله؛ وذلك لإدراكهم الصلة المستمرة بالله عز وجل. فقد رُوي عن أحد علماء الأمة أن والدته كانت تؤكله بيدها أثناء عمله الدؤوب حرصاً منه على عدم ضياع الوقت، فلو كان عمله من أجل دنيا يصيبها لما كان ذلك الحرص، ولكنهم كانوا لا يرجون في أعمالهم وعلمهم إلا وجه الله، فدل ذلك دون أدنى شك على إدراكهم العظيم الصلة بالله عز وجل، فلم تكن هذه النهضة العلمية في العصور الإسلامية السابقة إلا ثمرة لقوة هذه الروح لدى أبناء الأمة، حيث خاضوا شتى الميادين رابطين علمهم وعملهم بعقيدتهم تقرباً إلى الله، فبرعوا وأنجزوا، و سيعود ذلك قريباً بإذن الله في ظل خلافة راشدة ترعى شؤون الأمة بأوامر الله، وتهيئ كل الظروف للأجيال القادمة التي تنشأ وتتربى على مائدة الولاء والطاعة لله وحده، ويكون إدراكهم للصلة بالله عز وجل، قوياً متواصلاً، فيرهنون حياتهم للإسلام والمسلمين طاعة لله عز وجل، فيعيدون أمجاد أسلافهم في شتى الميادين، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.

كما ساهم وجود هذه الروح لدى المسلمين من حيث التزامهم بأوامر الله عز وجل مساهمة كبيرة في نمو الاقتصاد في الدولة الإسلامية، فشكل ذلك جانباً روحياً فريداً من نوعه في الاقتصاد الإسلامي حيث تفتقر إلى ذلك كافة الأنظمة الاقتصادية في العالم على مر التاريخ، فقد كان لتحريم كنز المال وتقيد المسلمين بذلك دون رقيب سوى الله عز وجل الأثر الكبير في اقتصاد الدولة الإسلامية، حيث كانت أموال الأمة في استثمار مستمر؛ فساعد ذلك كثيراً في عدم ظهور البطالة لتوفر فرص العمل في الدولة، كما حد ذلك من الحاجة والعوز، فما كان ذلك الالتزام إلا طاعة لله عز وجل وخوفاً من معصيته كأثر واضح لقوة هذه الروح لديهم. كما كان لالتزام المسلمين بالعبادات المالية الواجبة منها والمندوبة، سراً وعلانية، طاعة لله وتقرباً منه، أثر عظيم لتواصل إدراكهم لصلتهم بالله عز وجل، فتنافس المسلمون في ذلك للحصول على الأجر والثواب أضعافاً مضاعفة، إيماناً بقوله عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 261]، ولم يكن هذا إلا للتقيد بشرع الله ولم يكن هذا الإنفاق نفاقاً أو رغبة في سمعة أو جاه، ولكن كان أكيداً بفضل هذه الروح، فتمثل قوله عز وجل في نفوسهم وسلوكهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة 264]، ألم ينفق سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) قافلة ضخمة طاعة لله وتقرباً من الله عز وجل ورغبة بدخول الجنة رغم أنه من المبشرين بالجنة، فلم تكن هذه البشرى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدعاة للتقاعس، فمن أدرك هذه الصلة بالله عز وجل ووجدت عنده هذه الروح لا يسعه إلا أن يبذل الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاة الله، فلم يكن هذا الصحابي الجليل ليطمع في سمعة أو جاه، و إنما كانت تجارة مع الله، وما أجملها، وما أسماها من روح! فكيف يكون هناك فقر أو عوز وأبناء هذه الأمة يتحلون بهذه الروح العظيمة وهذا الإيمان الراسخ! يتقون الله ولو بشق تمرة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (البخاري ومسلم)، حتى أصبح الإنفاق في سبيل الله عند أبناء هذه الأمة سجية لا حدود لها.

وهذا سيدنا عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة على نفقته الخاصة، ويشتري بئر رومة من يهود المدينة المنورة بعشرين ألف درهم، و يسبلها ليشرب المسلمون منها بلا مقابل طلباً للأجر والثواب من الله عز وجل، ورغبة في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فما كان ذلك ليكون لولا هذه الروح. ويضع سيدنا أبو بكر الصديق ماله كله في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبإيمان راسخ مبني على إدراك وثقة بالله عز وجل يقول رداً على سؤال الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَاذَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فيقول أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، فلم يكن وجود هذه الروح لديهم لتجعلهم يخشون فقراً أو فاقة إيماناً بقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 268] فكانوا بفضل هذه الروح كالريح المرسلة، هكذا كان وسيكون أبناء هذه الأمة بسبب هذا الإدراك، أي بسبب هذه الروح العظيمة.

إن هذه الأمة غنية ليس فقط لوفرة مواردها الطبيعية، وإنما أيضاً بتوفر هذه النفسيات العظيمة الملتزمة بشرع الله، كثمرة لوجود هذه الروح التي تجعل تقيدهم بشرع الله تقيداً ثابتاً دون حاجة لأي رقابة بشرية، وإنما بالوازع الداخلي المتمثل برقابة الله؛ فكان ذلك المحرك والمسير لهذا الالتزام.

ولا شك أن الشريعة الإسلامية زاخرة بالتشريعات التي يشكل التزام المسلمين بها إيماناً واحتساباً هذا الجانب الروحي في اقتصاد المسلمين، فنبذ المسلمون على سبيل المثال التعامل بالربا خوفاً من غضب الله وسخطه وتعاملوا بالقرض الحسن، وابتعدوا عن الاحتكار وغيرها من التشريعات، كما شكل هذا الالتزام بهذه التشريعات مع وجود هذه الروح الجانب الروحي في كل مجالات حياتهم. 

نعم؛ إن التشريعات الإسلامية تشريعات سماوية من لدن عليم خبير، ولكن لو طبقت هذه التشريعات نفاقاً دون وجود هذه الروح لما أثمرت في الفرد ولا في المجتمع، لأنه لن يربط عندها السلوك بالعقيدة. وكذلك لو طبقت هذه التشريعات في أنظمة أخرى منفصلة عن عقيدتها لما أثمرت ولما تشكل هذا الجانب الروحي لغياب الروح عند تطبيقها. ولذلك فإن العبرة ليست في نوع التشريع فحسب، وإنما أيضاً بوجود الروح عند الالتزام بها حيث يكون هذا الالتزام طاعة لأوامر الله، ورغبة بنوال رضوانه لا نفاقاً أو جرياً وراء منفعة، وعندها يكون لهذا الالتزام ثمرة في جميع مناحي الحياة بفضل هذه الروح.

إنه لشرف عظيم لأبناء هذه الأمة المخلصين أن يهبوا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام استجابة لأوامر الله، فتعيد الأمة الإسلامية لسابق عهدها لتنهض بها وتكون قدوة لباقي الأمم، فتخلصهم من الكفر والضلال، لاسيما وأن بني الإنسان يعيشون في هذا الزمان في ظل فكرة فاسدة ألقت بظلال فسادها على البشرية كلها، فطال ذلك كل شيء في حياتها حتى الحجر والشجر، فلم تُبقِ ولم تذرْ، إنها الرأسمالية الكافرة الفاجرة، التي أفسدت حياة البشر، وأفسدت فطرة الإنسان وانحرفت بها عن جادة الصواب، حيث تحمل فسادها في ثنايا عقيدتها ونظامها ومقياس أعمالها، فكان من فساد عقيدتها بأنها لم تحدد علاقة الإنسان بخالقه، ولم تقف من هذه المسألة موقفاً جاداً لتقرر أن لهذا الإنسان خالقاً واجب الوجود، بل كان موقفاً هامشياً. فكانت الناحية الروحية عندهم، أي كون الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوقاً لخالق، قضية فردية يعتقدها من يشاء وينكرها من يشاء، فبقيت الناحية الروحية قائمة على إحساس غريزي وليس على أساس فكري قائم على إدراك العقل لها والتدليل عليها والوقوف على حقيقتها، فكان التقديس عند أفرادهم ناتجاً عن إحساس غريزي بحت، فلا يوجد للعقل أي وجود، بل يستبعد العقل والإدراك، فكان هذا التقديس ليس إيماناً ولا ناتجاً عن إيمان، وإنما هو ضلال وكفر، وهو ليس عبادة لله، و إن توجه فيه صاحبه لله أو لفكرة الألوهية.

وبهذا يكون هذا النظام قد فقد إدراك الصلة بالله، أي فقد أفراده الروح في أعمالهم، لاسيما وأنهم استبعدوا حق الله في التشريع، وسيَّروا حياتهم حسب تشريع البشر؛ فكان العقل هو المشرع الوحيد عندهم، فلم يعد هناك أي روح في أفعالهم، ولم يعد هناك أي اعتبار لمرضاة الله، وانطلقوا في إشباع جوعاتهم من إملاءات غرائزهم دون أي وازع داخلي، فلم يعد هناك روح لربط سلوكياتهم بها حتى يكون لها أثر في بناء أفرادهم ومجتمعاتهم، بل أصبحت أعمالهم تربط بالمصالح والمنافع التي تحقق لهم إشباع جوعاتهم كيفما شاءوا، فأصبحت المنفعة مقياس أعمالهم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية هي السعادة بأعينهم، فأصبحوا كالأنعام يعيشون لشهواتهم بلا قيود، فسيطرت على مجتمعاتهم القيمة المادية وما نتج عنها من أنانية وجشع، فانعكس ذلك كله على نفسياتهم الخالية من الروحانية؛ فأحسوا بالشقاء وعدم الطمأنينة؛ فكثرت عندهم حالات اليأس والانتحار والأمراض النفسية، وضعفت عندهم مظاهر الأبوة والأمومة، فلم يعد تكوين الأسرة أمراً هاماً في حياتهم، وإن وجدت فهي أسر متفككة، كما انعكس ذلك أيضاً على المجتمع و أفراده، حيث أصبحت مجتمعاتهم متفككة لا ترابط بين أفرادها، و لا يلمس بها أي تراحم أو تكافل، فتلاشت منها القيمة الروحية والإنسانية حتى إن القيمة الخلقية أصبحت تحكمها المنفعة والمصلحة. ونتيجة لغياب هذه الروح وإشباعهم لغرائزهم البهيمية دون أية ضوابط انتشرت في مجتمعاتهم العلاقات غير الشرعية، فاختلطت الأنساب وامتلأت ملاجئهم باللقطاء، وتفشت بينهم الأمراض المعضلة، فكان ذلك عبئاً كبيراً على الدولة واقتصادها.

كما أن جشع هذه الدول واضح للعيان، ودليل على غياب الروح في علاقاتهم مع الأمم الأخرى، فهي قائمة على الاستعمار والاستغلال ونهب الثروات لتوفر لشعوبها رغد العيش على حساب الآخرين دون أي رادع. فأين هذا من الروح التي تمثلت في المسلمين عند فتوحهم للبلاد الأخرى، حيث لم يكن ذلك طمعاً بسيادة أو نهباً لثروة وإنما طاعة لله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟!

هذا هو حال الأنظمة الرأسمالية ومجتمعاتهما، ولا يسمح المقام للإسهاب في وصف شقائهم. ويكفي ما قال رب العزة عنهم وعن أمثالهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124]، فبئست العقيدة تلك، التي جرت الشقاء والويلات لمجتمعاتهم ومجتمعات الأرض كافة.

ولكن المحزن المؤسف أن نرى هذا الداء قد انتقلت عدواه إلى مجتمعاتنا؛ فغابت هذه الروح عند أبناء هذه الأمة وهم لا يزالون يعتقدون العقيدة الإسلامية، فضعف أو حتى انعدم إدراك الصلة بالله عز وجل، في معاملاتهم اليومية وفي مواقفهم تجاه قضاياهم، فلم تعد هذه الروح سمة واضحة في سلوكهم وتصرفاتهم، ولم يعد لها دور في العلاقات الاجتماعية. فقد نرى كثيراً من أبناء هذه الأمة يطبقون بعض الأحكام الشرعية دون ربط مع هذه الروح، أي دون إدراك الصلة بالله، وإنما عادة اعتادوها أو جرياً وراء مصلحة أو منفعة أو لاعتبارات أخرى، وقد غاب عن أذهانهم أن الأصل في التقيد والالتزام أن يكون طاعة لله أولاً وأخيراً، ورغبة في نوال رضوانه. ألا يعلم المسلمون أنه لا بد من التقيد بأحكام الله كأحكام شرعية منبثقة عن عقيدتهم! وأن يكون هذا التقيد طاعة لله دون أي اعتبار آخر، لقد غاب عنهم للأسف هذا الربط بالأساس الذي يأمر به الإسلام والذي بني كل من الفرد والأمة عليه. فمن لهذه الأمة سوى حملة دعوة تحمل ثقافة راقية خالصة من كل شائبة، وتنشر عقيدة عقلية وتدرك الصلة بالله، وتسير بفكر مستنير؟!

ولهذا، لا بد من وجود هذه الروح في حلنا وترحالنا، ليلنا و نهارنا، سرنا وعلانيتنا، ألسنا الأجدر والأولى أن تتمثل فينا هذه الروح وهذا الإدراك بعد كل هذه الثقافة الإسلامية النقية؟ فمن كان مسلماً فعليه أن يكون حامل دعوة بطبيعته مدركاً للصلة بالله عز وجل، فهذه أمور متلازمة وبها تقوم حجته على غيره. فلا بد أن تكون الهمم على هذا المستوى حتى نكون أهلاً لنصر الله، ونكون قادة لهذه الأمة، فإن الله لا ينصر أصحاب الهمم و النفسيات الضعيفة، فلا بد من ملازمة هذه الروح، وعندها يكون المسلمون وبخاصة حملة الدعوة منهم كبائع المسك، لا تفوح منهم إلا هذه الأفكار وتلك المفاهيم قولاً وسلوكاً، بناء على إدراك الصلة بالله عز وجل، فيكونون بذلك شامة بين الناس، ويكسبون ثقتهم، ولا يحق لهم النفخ في الكير ولو نفخة واحدة، فإنها لا تحرق الثياب فحسب وإنما تؤذي المحيطين بها أيضاً، وليعلم المسلمون أنهم ليسوا أحراراً ولا ملكاً لأنفسهم لأنهم أقروا بالعبودية لله عز وجل، كما أنهم قد خلعوا عباءة الحرية بالمفهوم الغربي على أعتاب هذا الدين بمجرد إدلاء شهادة أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فحذار أن يصدر منا، نحن حملة الدعوة، أي تحكم للمنفعة، أو العلاقات المصلحية في تصرفاتنا أو دعوتنا، أو أن تثور فينا مفاهيم الأعماق المهجورة المرفوضة لأي سبب من الأسباب، بل يحرص على التقيد بالحكم الشرعي ويحرص على عدم التجاوز له، فإن أحسنّا كان ذلك رصيداً مطلوباً لتحقيق الغاية، وإن أسأنا أسأنا لأنفسنا وللإسلام وعصينا الله عز وجل وحملنا وزراً عظيماً، فإن وزر من يعلم ليس كوزر من لا يعلم.

إننا قد خلقنا في زمن غاب فيه حكم الله في الأرض، لغياب الخلافة الإسلامية، وإننا لا شك نعاني الكثير من جراء ذلك، ولكن أيضاً فرصتنا لنعمل في صفوف هذه الدعوة بجد واجتهاد، دون ملل أو كلل، لتحكيم شرع الله في الأرض، فنفوز برضوان الله ومغفرته وجنة عرضها السماوات والأرض، فلا نضيع هذه الفرصة.
ألا نرضى أن يتمثل فينا قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد 10]، ولذلك لا عذر لنا في تقاعس أو فتور همة، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا حَارِثَه، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» إننا والله قد عرفنا فهل التزمنا؟
 
فلنتق الله في أنفسنا وفي هذه الدعوة، وليراجع كل منا نفسه، فيجدد الهمم ويفعِّل إدراك الصلة بالله عز وجل، ويعقد العزم على نصرة هذا الدين.
ثبتنا الله وإياكم، وتقبل جهودكم، وسدد خطاكم، وجعل النصر قريباً على أيدي العاملين الواعين المخلصين بإقامة الخلافة الراشدة، إنه على كل شيء قدير 
وبالإجابة جدير.

المصدر: مجلة الوعي

الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

الأزمات الاقتصادية ومعالجتها من وجهة نظر الإسلام



أضحت الأزمات الاقتصادية التي تهز العالم من حين لآخر مرضا مزمنا وبالكاد تنتهي أزمة حتى تولد أخرى، و يمكن إرجاع الأزمات الاقتصادية إلى ثلاثة أسباب أساسية تتفرع عنها أزمات أخرى لا تقل عنها خطرا، و هذه الأسباب هي: النقد واختلال الميزان التجاري وسوء توزيع الثروة.

1. النقد

ظهر في القرن الماضي نظام ورقي نقدي إلزامي غير مغطى بالذهب والفضة، تقدر قيمته بالغطاء الاقتصادي المتمثل في السلع و الخدمات واحتياط الذهب و المواد الخام الإستراتيجية وغيرها مما توفره الدولة التي أصدرت تلك العملة. فالدولار الأمريكي على سبيل المثال، له غطاء اقتصادي عن طريق دعمه عالميا من عدة دول اقتصادية عظمى، وهذا بالتالي يعطيه قوة اقتصادية وثقة. وقد تشكل هذا النظام عندما قامت أمريكا بإقصاء الذهب كغطاء نقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية "بروتن وودز" مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم بديلا عنه في بداية السبعينات. في ظل هذا النظام تصبح الدول مهتمة بالتركيز في احتياطاتها على نقد الدول المؤثرة اقتصادياً وسياسياً لحاجتها إليه، ليتأتى لها إيجاد علاقة تجارية، أو علاقة اقتصادية مع الدول، وأي تغير سياسي أو اقتصادي في تلك الدول ينعكس على شكل أزمة في نقد الدول الأخرى وبالتالي اقتصادها. فالدول التي تربط نقدها بالأورو مثلاً تصبح مهتمة بالمحافظة على استقرار الأورو للمحافظة على احتياطاتها، فإذا اشتد طلب الناس على العملة المحلية أدى هذا إلى ارتفاع سعر عملتها بالنسبة للأورو فتقوم هذه الدولة بإنزال كميات من عملتها إلى السوق وتسحب بدلاً منها كميات من الأورو أي تبيع عملتها بالأورو، وإذا حصل العكس وتخلى الناس عن عملتها كما يحصل في المضاربات أي زاد العرض تقوم بسحب هذه الزيادة فتشتري عملتها من السوق بالأورو، أي تنـزل للسوق كمية من الأورو من خزينتها وتعيد لخزينتها عوضاً عنها عملتها. و كمثال على ذلك ما أحدثته الديون اليونانية من اضطراب في أسعار الصرف، حيث فقدت الثقة بالأورو وأصبح الفرنك السويسري ملاذا آمنا لرؤوس الأموال قصيرة الأجل، التي يمكن أن تنتقل من بلد لآخر بحثا عن الربح، وكما هو الحال بالنسبة للنفط والذهب، فان زيادة الطلب على الفرنك السويسري رفع سعر صرفه، مما دفع البنك المركزي السويسري للتدخل عدة مرات خلال الفترة ما بين يناير ويونيو2010 وعلى الأخص خلال الثلاثة أشهر من الربيع الماضي من أجل الحد من ارتفاع سعر صرف الفرنك أمام الأورو، ولقد كلفت هذه الإستراتيجية البنك الوطني السويسري ما يقارب 150 مليار فرنك تم استثمارها بشكل خاص في شراء كميات كبيرة من الأورو. ولذلك فكل دولة تربط نقدها بالأورو أو بالدولار تكون مكلفة بالدفاع عن عملتها هي وكذلك عن الأرورو أو الدولار، وتتحمل الدولة هذا العبء وحدها بدرجة أكبر وأشد من الدولة صاحبة النقد الأجنبي المعتمد.

و بما أن معظم دول العالم تعتمد في مخزونها النقدي من العملة الصعبة على الدولار الورقي، فإن أمريكا تستطيع أن تحدث اضطراباً في اقتصاد العالم بطباعة دولارات زائدة لتغطية مصالحها الخاصة على حساب الدول الأخرى فتجر عليهم أعباء من خزينتهم لإعادة التوازن، أي أن الدول الأخرى تكون ملزمة في تحمل أي عجز في ميزان المدفوعات للولايات المتحدة الأمريكية.

و بالإضافة لتأثير النقد الأجنبي مباشرة على نقد الدولة التي تحتفظ بذاك النقد في مخزونها الاحتياطي فإن نظام الورق الإلزامي معرض للتضخم بين الحين والآخر لأن سياسة الدولة الاقتصادية محلياً وخارجياً هي التي تعطيه القيمة، ولهذا فانخفاض قيمة النقد أي ضعف قوته الشرائية محتمل الحدوث بدرجة كبيرة ولعدة عوامل سياسية واقتصادية: كالديون الأجنبية والعجز في الميزان التجاري الذي يؤدي إلى التضخم، حيث تنهب الدولة موجودات الناس وجهودهم بطبع أوراق نقدية وضخها في السوق. ومعلوم أن التضخم يؤدي إلى غلاء الأسعار وضعف القوة الشرائية وتأثير ذلك على الحياة الاقتصادية شديد الخطورة خاصة إذا استمر على فترات متقاربة.

ولأن النقد لا ينسب إلى وحدة ثابتة متعارف عليها، فيصبح نظام النقد الإلزامي طريقاً إلى المؤامرات والمضاربات بين الدول فهذه تخفض عملتها لزيادة صادراتها فتقوم تلك برفع الفائدة على نقدها بالنسبة لودائع الناس بهذا النقد، لاكتناز الادخار من المواطنين وجذب رؤوس الأموال من الخارج، و هو ما حصل و يحصل الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث قامت هذه الأخيرة بتقويم عملتها مرتين أضعف من سعرها الحقيقي أمام الدولار فيما لو ترك الأمر للعرض والطلب دون تدخل من طرف الدولة، ما دفع أمريكا وأوروبا بالضغط على الصين أثناء لقاء الثماني في الصيف الماضي للحد من تدخلها (أي الصين) في سعر الصرف.

وقد تداخلت تقلبات النقد مع الأعمال التجارية، فإذا رفعت نسبة الفائدة على نقد معين أو تحسن الوضع الاقتصادي لدولة ما انصرف الناس عن الاستثمار التجاري إلى الاستثمار الادخاري للنقد صاحب الفائدة القوية في البنوك. وهذا من أسوأ ما أنتجت النقود الورقية الإلزامية، حيث تركز استثمار الأموال في أسواق وهمية، يتحكم فيها قراصنة المال، وكبار المضاربين، فتنعقد الأسواق على سلع أو خدمات وهمية تمثل أكثر من 90 % من الاقتصاد العالمي، وتجري المضاربات والمزايدات فيها إما بإشارة باليد أو بمكالمة هاتفية، أو عبر فضائيات الإنترنت، وعلى مبالغ ضخمة تقدر بالمليارات. إن الأداة الأساسية التي يعتمد عليها السوق المالي، والتي يتحرك السوق بتحركها ارتفاعا وانخفاضا إنما هو الربا أي الفائدة ويرتبط بها سعر الصرف بين العملات النقدية، كما ترتكز عليها أسعار الأسهم والسندات وباقي المعاملات المالية في سوق البورصات التجارية. وحيث أن هذه الرساميل المستثمرة تشكل مبالغ ضخمة، تقدر بالمليارات، فإن أي تغيير في نسبة الفوائد وبالتالي في سعر الصرف يؤثر تأثيرا كبيرا على المستثمرين ربحا أو خسارة. ولو كان النظام النقدي في العالم مبنيا على قاعدة نظام الذهب، لما تجرّأ أحد على القيام بهذه المضاربات، ولما عقدت هذه الأسواق ابتداء.

وحركة الأسواق هذه تقوم على تشابك بين عدة مؤسسات وتجمعات، تبتدئ بصندوق النقد الدولي، ثم تأتي شركات المصارف الضخمة، والنوادي المالية، هذه المؤسسات يقوم عليها أشخاص ذوو موهبة فذة في التخطيط لنصب الفخاخ، فيكون أحدهم يملك مؤسسة مضاربة كبيرة، وفي نفس الوقت عضوا في نادي مالي، كما يكون مستشارا لأحد المصارف، ويكون له ثقل في المؤتمرات الاقتصادية الدائمة، مثل مؤتمر (دافوس)، كما يكون مستشارا في بعض جوانب صندوق النقد الدولي، مثل هؤلاء يكونون ملمين بأطراف القضايا الاقتصادية، فيعرف أحدهم كيف يدخل الأسواق، وكيف يحركها، وكيف ينهب الأسواق ويخربها. فيفتح هؤلاء النصابون أسواق المال (بورصات) ويقومون بمضاربات أي مزايدات تبتدئ من خط معين (مؤشر) فيرتفع الخط إذا شاءوا رفعه، فتزدهر قطاعات الإنتاج، وتستعر حمى المضاربات، وترتفع مؤشرات البورصات، عندها يضرب هؤلاء النصابون ضربتهم، بعد أن كانت قد تحولت عشرات المليارات من الدولارات إلى حساباتهم، فيعمدون إلى لعبة مشروعة عندهم يفترضون عندها أمراً مباشراً أو غير مباشر، فينخفض سعر الفائدة عند أحد البنوك المعتبرة، أو يجري التخفيض في سعر عملة ما من عملات دول المجال، وفي الغالب يكون ذلك إما بإيعاز من صندوق النقد الدولي وجهازه المتآمر أو بتأثير منه، أو بإيعاز من البنك الفيدرالي الأمريكي، وبالتعاون مع وول ستريت، أي بالتنسيق بين هذه المؤسسات والنوادي المالية، وصناديق الاستثمار. فتهرب المليارات بسرعة ويخلى السوق منها، وتفتح لها أبواب الهرب إلى الخارج، فتنكشف السوق وتقع الكارثة وينتشر صداها حتى يطال كافة القطاعات المالية والإنتاجية، وتتفاقم الأزمة، فتعلن الكثير من الشركات إفلاسها، وتفرغ خزائن ميزانيات الدولة.

2. الأزمات الاقتصادية نتيجة ميزان المدفوعات

يتكون ميزان المدفوعات من جانبين (دائن ومدين) والوضع المستقر أن يتساوى جانبا الميزان، ويبدأ العجز في الميزان عندما لا تكفي الإيرادات لسد قيمة المدفوعات، ويحصل هذا العجز لأسباب كثيرة من اهمها التوسع في الواردات الإنشائية و الترفيهية دون الإنتاجية والفساد الإداري و هروب رؤوس الأموال لعدم الاستقرار السياسي. والعجز يصبح أزمة إذا لم تكف السيولة النقدية للدولة للمعالجة المؤقتة له حتى تستعيد الدولة تنشيط صادراتها وتقليل وارداتها ورسم سياسات وإجراءات لتحسين ميزان المدفوعات. والمقصود بالسيولة النقدية موجودات الدولة الجاهزة لسد العجز منها، وهي احتياطي الدولة من الذهب والقطع الأجنبي وكذلك حصتها المدفوعة ذهباً (الشريحة الذهبية) في صندوق النقد الدولي، حيث يتوجب على كل دولة عضو في الصندوق أن تدفع ربع حصتها ذهباً أو 10٪ مما تمتلك رسمياً من ذهب ودولارات، وهذه التي تسمى بالشريحة الذهبية.

فإذا لم توجد السيولة اللازمة لسد قيمة المدفوعات تسقط الدولة في براثن المؤسسات المالية المقرضة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، الذي يهرع مندوبوه لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي في البلد، ويحضرون معهم قوائم الشروط العلاجية، ليتم على ضوء تنفيذها إسداء القروض، كما يكون هناك العديد من الشركات الضخمة المتعددة الجنسية الرابضة على جوانب الساحة لتلتهم القطاعات العامة، والتي ستتحول إلى قطاعات خاصة، بفعل قوانين الخصخصة، وبموجب اتفاقيات منظمة التجارة الدولية ؛ وتقع الفريسة في مخالب وحوش المال، ويصبح البلد بكل مقدراته نهبا لهؤلاء الناهبين، كما تصبح الدولة مشلولة الحركة، مكبلة الأيدي، كما حصل لليونان مؤخرا، حيث أصبحت مقدرات الدولة اليونانية مطمعا للطامعين ولن ينسى الشعب اليوناني المسكين والمغلوب على أمره الاستغلال الأوروبي الفاحش الذي التهم مقدراتهم وجهود أجيالهم خاصة الشركات الألمانية منهم.

3. سوء توزيع الثروة بين الناس

أما الأزمة الثالثة التي تضرب اقتصاد الدول فهي ناتجة عن سوء توزيع الثروة بين الناس، فقد لا تكون هناك أزمة نقدية ولا حتى أزمة نتيجة ميزان المدفوعات، بمعنى أن الإيرادات تغطي المدفوعات ولكن الإيرادات تذهب لتغطية واردات ونفقات لسد حاجة فئة من الناس دون الآخرين، فمثلاً لو قلنا أن بلداً ما يصدر بترولاً بمبلغ مليون دينار ثم يستورد به قمحاً يكفي حاجة السكان فيكون الميزان التجاري سليماً، وبالتالي ميزان المدفوعات. ولكن لو ذهب هذا القمح فاشتراه عدد من الناس بقدرتهم المالية ولم يقدر على شرائه آخرون فإن أزمة جديدة تنشأ وتكون ناتجة عن عدم توزيع الثروة على الناس أجمعين لتمكينهم من سد حاجاتهم الأساسية فتتسبب في حدوث فقر في الأمة.

وبذلك تكون الأزمات الاقتصادية المتوقع حدوثها والتي تتطلب علاجاً محصورة في ثلاث أزمات مهمة: أزمة ناتجة عن النظام النقدي وأزمة ناتجة عن ميزان المدفوعات وأزمة ثالثة ناتجة عن عدم توزيع الثروة بشكل سليم على الناس، أي ناتجة عن سوء توزيع الثروة.


ومعالجة هذه الأزمات من وجهة نظر الإسلام يكون كالتالي:

1. النظام النقدي الحالي

فللقضاء على الأزمة الناتجة عن النظام النقدي الحالي، لا بد من الرجوع إلى نظام القاعدة الذهبية سواء بالتعامل المباشر بالذهب أو بأوراق نائبة عن الذهب قابلة للتحويل بدون قيد ولا شرط، لأن هذا النظام هو الذي يحفظ الاستقرار ويؤدي إلى الازدهار في النشاط الاقتصادي دون هيمنة لدولة على أخرى، وفيه ينسب النقد لوحدة متعارف على احترامها وتقييمها، وفيه كذلك لا تستطيع الدول زيادة حجم الكتلة النقدية لأن الدول لا تستطيع إصدار أية كمية تشاء من النقد لأنها ملزمة بالرصيد الذهبي وهذا نقيض الأوراق الإلزامية، إذ إن الدول تستطيع وقت الحاجة إصدار الكمية التي تريد من أجل خدمة مصالحها الخاصة، الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى إحداث التضخم النقدي وإضعاف الثقة بالوحدة النقدية.

ولذلك فإنه لمعالجة الأزمات النقدية لا بد من الرجوع إلى القاعدة الذهبية سواء الذهب وحده أو الذهب والفضة. غير أن هذا الرجوع لا يخلو من مشاكل نتيجة للاحتكارات العالمية ولوجود الحواجز الجمركية ولتركز الكمية العظمى من الذهب والفضة في خزائن الدول الكبيرة وخزائن الدول التي زادت طاقتها على الإنتاج وقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها بالعلماء والفنيين والمهندسين، ولاتخاذ نظام النقد الورق الإلزامي بدلاً من نظام الذهب والفضة.

ولتخطي ذلك لا بد للدولة التي تريد العودة للقاعدة الذهبية أن تسير على سياسة الاكتفاء الذاتي فتقلل من استيرادها وتعمل على أن تبادل السلع التي تستوردها بسلع موجودة عندها، كما عليها أن تعمل على بيع السلع الموجودة عندها بسلع تحتاج إليها أو بالذهب والفضة أو بالعملة التي هي في حاجة إليها لاستيراد ما تحتاج إليه من سلع وخدمات.

و دولة الخـلافة القادمة بإذن الله سيكون نقدها ذهبا وفضة لأن الإسلام قد نص على أن يكون الذهب والفضة هما نقدا الدولة لا غير حيث ربط أحكاماً شرعية بالذهب والفضة باعتبارهما نقدين وأثماناً للمبيعات وأجرة للجهود وحدد بهما نصاب الزكاة وأحكام الحدود والديات وبين أحكام الصرف بينهما في المعاملات. لكل هذا فإن نقد الدولة الإسلامية هو الذهب والفضة. و يكون دينار دولة الخلافة من الذهب يساوي 4.25 غرام و أما الدرهم من الفضة فيساوي 2.975 غرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة."

و سوف يكون الانتقال من النقود الإلزامية إلى القاعدة الذهبية أسهل وأيسر عند دولة الخلافة من غيرها، لأن الذهب الموجود في البلدان الإسلامية والمكدس في البنوك والخزائن فيها، فيه كفاية تامة لتمكين دولة الخـلافة من العودة إلى قاعدة الذهب، هذا فضلاً عن أن كميات الفضة الموجودة في البلاد الإسلامية موجودة بكميات كبيرة مما يسهل على دولة الخـلافة العودة إلى قاعدة الذهب والفضة.

وزيادة على ذلك فإن البلاد الإسلامية متوفر لديها جميع المواد الخام التي تلزم الأمة مما يجعلها في غير حاجة إلى سلع غيرها احتياجاً (أساسياً) أو احتياج ضرورة، وبذلك تستغني دولة الخـلافة بسلعها المحلية عن استيراد السلع الخارجية مما سيوفر خروج الذهب إلى الخارج وبقاؤه داخل البلاد.

كما أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً مهمة كالنفط تحتاجها جميع دول العالم وتستطيع دولة الخـلافة أن تبيعها بالذهب أو بسلع هي في حاجة إليها أو بنقود تحتاجها لاستيراد ما يلزمها من سلع وخدمات كما تستطيع أن تمنع بيعها لأية دولة إلا إذا دفعت ثمنها ذهباً مما يجعل احتياطي الدولة من الذهب في ازدياد. وبالرجوع إلى نظام الذهب يعود الاستقرار وتزول الأزمات والهيمنة النقدية لدولة على أخرى.

2. ميزان المدفوعات

أما معالجة الأزمة الناتجة عن ميزان المدفوعات من طرف الدول القائمة حاليا فانه يكون كالآتي: إذا حدث عجز في ميزان المدفوعات، أي عندما تكون الإيرادات لا تكفي لسد المدفوعات، تتخذ الدول الحالية علاجاً مؤقتاً لسد العجز من السيولة النقدية لديها، وتبدأ بسياسات وإجراءات لتنشيط أوضاعها الاقتصادية وتحسين ميزان المدفوعات وذلك برفع سعر الفائدة السوقية كوسيلة لجذب رؤوس الأموال من الخارج، و فرض ضرائب على الواردات لتخفيضها، وتخفيض قيمة العملة لتشجع الصادرات، واستغلال الثروات الطبيعية لتصديرها، و في نقس الوقت تهتم الدولة بإنتاج السلع الأساسية داخل البلاد حتى لا تضطر لاستيرادها من الخارج، وبذلك تكون قد قللت الواردات، وقد تلجأ لطبع أوراق نقدية إضافية كما فعلت أمريكا في أزمة الرهن العقاري، مما بوجد تضخماً أي ارتفاعاً في الأسعار نتيجة لخلل التوازن بين النقد والسلع، وقد تلجأ إلى الاقتراض من الخارج لإعادة التوازن لميزان المدفوعات وهذا هو السم القاتل، حيث تبدأ مرحلة جديدة من الأزمة وهي دخول مصيدة المديونية خاصة بالنسبة للدول التي لا تحسن التصرف في القروض لتشغيلها في مشروعات إنتاجية تدر دخلاً على البلاد، وهذا ما حدث لمعظم الدول النامية أو دول العالم الثالث، فإن هذه الدول قد وجدت أن الاقتراض هو أيسر السبل لمعالجة ميزان المدفوعات لأن الكثير منها لا ينتج ما يسد حاجته الأساسية، وسلعه القابلة للتصدير قليلة جداً إن لم تكن معدومة، وبذلك يجدون أن سد العجز بالقروض هو الممكن بالنسبة لهم، حيث أن الضغط على الواردات لتقليلها سيؤدي إلى ندرة السلع وبالتالي ارتفاع الأسعار وهذا بدوره يؤدي إلى تعطيل الطاقة الإنتاجية فتزيد البطالة وتقف عجلة النمو، وكذلك فإن سد العجز من احتياطياتها النقدية غير ممكن لضآلة حجم احتياطات هذه الدول من الذهب والعملات الأجنبية كما أن استنـزاف الاحتياطات واستخدامها في سد العجز يعرض مستوى هذه الاحتياطات للخطر ويدفع سعر العملة المحلية إلى التردي، فإذا ما أضيف إلى ذلك عدم اهتمام كثير من هذه الدول إلى استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل جدي تكون النتيجة التوجه إلى الاقتراض ومما يضاعف الأزمة أن يصاحب الاقتراض ثلاثة عوامل خطيرة و هي أولا توجيه هذه القروض إلى مشاريع غير إنتاجية بل إنشائية أو تَرفيَّه، وبذلك تكون هذه المشاريع عبئاً جديداً يضيف عجزاً إلى العجز السابق، ثم ثانيا الفساد الإداري من قبل المسئولين الذين ينهبون نسبة كبيرة من القروض والمساعدات الأجنبية فتجد هذه الأموال مرة أخرى طريقها إلى الخارج حيث تعود من حيث أتت و لكن تحت أسماء اللصوص من مسئولي الدولة، و أما ثالثا وهو الأخطر على الإطلاق هو استعمال الدول الكبرى أو صاحبة النفوذ هذه القروض طريقاً لبسط الهيمنة على الدول المدينة فهي ترسم سياسات تشجع هذه الدول على الاقتراض لغايات تخدم مصالحها و تمكنها من بسط نفوذها والإمساك بها وإلى الأبد. فقد ارتفعت ديون البلاد العربية من 13 بليون دولار سنة 1972 إلى أكثر من 200 بليون دولار في نهاية 1986، و ارتفعت نسبة ديون الأردن مقارنة بناتجها المحلي إلى 300٪ في 1988. ولم تنقذ القروض اليونان في بداية هذا القرن بل زادته ثقلا وصل إلى أكثر من 400 مليار أورو.

أما المعالجة الصحيحة لأزمة المديونية في الدول القائمة في بلاد المسلمين اليوم فهي كما يلي: تسديد المديونية دون الفوائد الربوية لأنها حرام: ]وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[. و يكون تسديدها من فائض أموال كل من شارك في الحكم طوال فترة المديونية لأن أخذهم للقروض وإغراق الناس في المديونية يلحق ضرراً بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» والضرر يزال ويتحمل مسؤولية إزالته من تسبب فيه. كما أن مسؤولية الحاكم في الإسلام هي رعاية شؤون الرعية في جميع نواحي الحياة ومنها الاقتصادية «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته»، فلا يجوز لمن يتولى الحكم أن يمارس أي عمل مالي تجاري وليس له سوى تعويضه أي مخصصاته الشهرية، فإذا أثرى خلال ولايته يحاسب على ذلك، والإثراء هو واقع جميع الحكام خلال فترة المديونية. وقد كان عمر رضي الله عنه إذا اشتبه في والٍ أو عامل صادر منه أمواله التي تزيد عن رزقه المقدر له أو قاسمه عليها، وقد كان يحصي أموال الولاة والعمال قبل أن يوليهم وبعد توليتهم فإن وجد عندهم مالاً زائداً أو حصلت عنده شبهة في ذلك صادر أموالهم أو قاسمهم ويضع ما يأخذه منهم في بيت المال. ولا يعتبر هذا تعدياً على ملكيتهم الخاصة لأنهم لم يكسبوها بطريق مشروع، فإن الرجل إذا كان حاكماً وأثرى خلال ولايته ثراءً لافتاً للنظر فإن هذا بينة كافية لمصادرة بعض ماله لأنه يكون قد اكتسبه بطريق غير مشروع أي من غير راتبه، أما غير الحكام من الموظفين فلا يصادر شيء من مالهم إلا إذا ثبت ببينة قضائية أنهم قاموا بالاختلاس أو ما هو في حكمه. ويكون ما يؤخذ من الحكام والموظفين على النحو المبين أعلاه ملكاً لبيت المال تسدد المديونية منه.

كما تحجم الدولة عن أخذ أية قروض جديدة لأن طريق القروض الخارجية للتمويل أخطر طريق على البلاد وكانت في السابق طريقاً للاستعمار المباشر على البلاد وهي اليوم طريق أساسي لبسط النفوذ والتآمر على البلاد. ولذلك فإن الأخطار المترتبة على القروض متحققة فعلاً يضاف إلى ذلك أنها بالربا ولذلك فهي لا تصح شرعاً بحال من الأحوال.

وإلى جانب العمل للتخلص من المديونية تقوم الدولة بتنشيط الاقتصاد، حيث عالج الإسلام هذه المشكلة، وذلك برسم سياسات اقتصادية سليمة في الزراعة والتجارة والصناعة وملحقاتها، وكذلك بفرضه إيجاد المشاريع الضرورية على بيت المال حال الوجود والعدم. أما بالنسبة للزراعة فإن السياسة الزراعية في الإسلام هي أن الأرض وجدت لتنتج، وبأعلى نسبة لإنتاج المواد الغذائية، والمواد اللازمة للكساء كالقطن والصوف والحرير، و يكون ذلك بالقدر الذي يمكن من الاكتفاء الذاتي و يمكن الدولة من التصدير. ولأجل ذلك توزع الأراضي على جيوش العاطلين عن العمل وتساعدهم الدولة على حسن استغلالها. وأما بالنسبة للتجارة فقد حرم الإسلام أخذ ضريبة جمارك من المسلمين والذميين وأباح لهم الاستيراد والتصدير إلا في حالتين: تمنع التجارة مع الدول المحاربة فعلاً وتمنع استيراد أو تصدير أية سلعة فيها ضرر على الأمة. وأما الدول التي بيننا وبينها معاهدات فحسب شروط المعاهدة، وأما الدول المحاربة حكماً كالسويد مثلاً فهؤلاء يحتاجون إلى رخصة استيراد لدخول مالهم. وأما الصناعة فتعمل الدولة على استغلال الثروات الطبيعية في البلاد وتصنيعها والانتفاع بها داخلياً والتصدير خارجياً. كما تركز وبشكل جاد على إيجاد صناعة الآلات حتى يمكننا بواسطة الآلات المصنعة عندنا أن نبني مصانعنا الفرعية لأن عدم إيجاد هذه الصناعة يجعل مصانعنا تحت رحمة الدول الصناعية، فإذا تعطلت آلة أو قطعة غيار يتوقف المصنع حتى نستوردها وفي ذلك ما فيه من إهدار للجهد والوقت والسلعة.

وأما الثاني وهو إيجاد المشاريع الضرورية، فإن الإسلام قد أوجد الحل على النحو التالي:

أن كل ما كان واجباً على بيت المال من رعاية شؤون للناس وفيه مصلحة لهم فهذا مرهون تنفيذه على الموجود في بيت المال، فإن وجد أنفق وإن لم يوجد لا ينفق مثل فتح طريق يوجد غيرها أو بناء مدرسة أو مستشفى يوجد غيرها يفي بالحاجة.

ـ وما كان واجباً على المسلمين مثل فتح طريق لا يوجد غيرها يغني عنها أو بناء مستشفى أو وحدة صحية لا يوجد غيرها أو مدرسة ضرورية وما شاكلها، فإن هذه المشاريع وأمثالها التي يصيب الأمة ضرر من عدم وجودها، تكون واجبة على بيت المال وعلى المسلمين، فإن وجد في بيت المال مال أنفق عليها وإن لم يوجد تفرض بقدرها ضرائب على أغنياء المسلمين وتؤخذ من فضل أموالهم عن حاجاتهم الأساسية والكمالية، أي ما زاد عن عيشهم المعتاد تؤخذ منه وبنسبته بالقدر اللازم للمشروع الواجب، وتكون هذه الأموال قد حصلت بموجب نصوص الكتاب والسنة لأن الإسلام لا يجيز للدولة جباية الضرائب كيف تشاء فإن أخذ أموال الناس بلا دليل حرام وإثمه كبير مثل ضريبة الجمارك على التجار المسلمين وأهل الذمة «لا يدخل الجنة صاحب مكس» أي الذي يجبي ضريبة الجمارك، «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبالكيفية المذكورة سابقاً تكون المديونية قد وجدت حلاً شافياً لها وكذلك تنشيط الاقتصاد وتنفيذ المشاريع العمرانية والإنتاجية الواجبة على الأمة بدون قروض أو مديونية.

3. سوء توزيع الثروة

أما سوء توزيع الثروة فقد أوجد الإسلام له حلاً شافياً بإيجاد فرص عمل نتيجة السياسة الاقتصادية التي ذكرناها في الزراعة والتجارة والصناعة، وكذلك نتيجة إنشاء المشاريع الواجبة على الأمة بالإنفاق عليها من بيت المال وإن لم يكف فمن الضرائب على أغنياء المسلمين وهذا يحتم وجود المشاريع في جميع الحالات، كما ضمن الإسلام إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد في الدولة، وهذه الحاجات هي المأكل والملبس والمسكن المعروف لمثله في مثل بلده طبقاً للنصوص الشرعية الواردة. وقد ضمن الإسلام هذه الحاجات بالكيفية التالية: أولا جعل العمل فرضاً على القادرين من الذكور إذا كان ينقصه شيء من الحاجات الأساسية. كما فرض النفقة للأنثى، وللعاجز من الرجال إذا كان فقيراً سواء كان عاجزاً عن الكسب فعلاً كأن كان غير قادر على العمل أم كان عاجزاً حكماً كأن كان قادراً على العمل ولكن لا يجده. والنفقة المذكورة تحصلها الدولة جبراً ممن فرضت عليه وتعتبر مقدمة على سائر الديون، فحكم النفقة أولاً يحصل ولا تقبل فيه دعوى الإعسار وحكم الدين تقبل فيه دعوى الإعسار. وبذلك يكون جميع رعايا الدولة في الإسلام قد ضمنت حاجاتهم الأساسية المذكورة عن طريق النفقة إلا في حالتين: إن كان ليس له قريب وارث، أو إذا عجز من تجب عليهم النفقة عن النفقة. وفي هذه الحالة تكون النفقة على بيت المال أي على الدولة (من ترك كلاً فإلينا ومن ترك مالاً فلورثته) والكَل الضعيف الذي لا ولد له ولا والد.

وهذه النفقة مستحقة على بيت المال في حال الوجود والعدم لأنها واجبة على بيت المال والمسلمين، أما بيت المال فظاهر، وأما المسلمون (أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى). فتفرض ضرائب إن لم يوجد في بيت المال وإذا خيف يقترض ثم يسدد، ولذلك تسدد حاجة الفقراء في جميع الحالات من النفقة ثم الزكاة ثم بيت المال من الواردات الأخرى ثم من الضرائب على أغنياء المسلمين. والنفقة أو الضرائب تؤخذ عن ظهر غنى أي مما يفضل من الحاجات الأساسية للمكلف وكذلك عن حاجاته الكمالية أي عيشه المعتاد، ثم يؤخذ مما زاد عن ذلك. وبهذه الكيفية تضمن الحاجات الأساسية للرعايا وبالتالي تعالج مشكلة البطالة والفقر.

كذلك فإن الدولة في الإسلام تضمن الحاجات الأساسية للرعية كلها وهي: الأمن، والتطبيب، والتعليم، حسب النصوص الشرعية الواردة في ذلك وبالكيفية السابقة.

ومن الجدير ذكره أن واردات بيت المال في الإسلام هي الفيء كله، والجزية، والخراج، وخمس الركاز، والزكاة، والأموال الخاصة بالدولة، وكذلك ما يأخذه العاشر من المعاهدين والحربيين، والأموال الناتجة عن الملكية العامة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له، ومال الغلول من الحكام وموظفي الدولة ومال الكسب غير المشروع ومال الغرامات ومال المرتدين والضرائب، و غالباً ما تكفي لسد الحاجات المذكورة بدون فرض ضرائب على أغنياء المسلمين لأجلها، إنما وضع الشرع هذه الأحكام معالجة لكل مشكلة تحدث في أي مكان وأي زمان، فإذا حدث ولم تكف واردات بيت المال الدائمية فرضت ضرائب على الأغنياء بقدرها.

مما سبق يتبين كيف عالج الإسلام الأزمات الاقتصادية معالجة تضمن السعادة للناس في حياتهم الدنيا فضلاً عن حياتهم الأخرى، والحمد لله على فضله وإنعامه.

الكاتب: شاكر حليم