الجمعة، 19 فبراير 2010

الأمة الإسلامية لا تموت... والإسلام قادم


بسم الله الرحمن الرحيم

لا يشك عاقل أن الإسلام مطبقاً في دولة جامعة تجمع المسلمين تحت لواء واحد كما كانوا أصبح قريباً إن شاء الله تعالى. والمسألة مسألة وقت لا أكثر حتى يتوحد المسلمون في دولتهم الكبرى, دولة الخلافة, والتي انفرط عقدها مع بداية القرن الماضي, ما أدى إلى تشرذمهم في دول تحكم فيها المستعمر سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

أما أن نظام الإسلام مطبقاً في دولة غائب منذ بضع وثمانين سنة فسببه أن أبناء الأمة قبلوا أن ينحّى جانباً بعد أن ضعفت ثقتهم به, ما أغرى أعداءهم في النيل منهم عن طريق أساليب استعمارية معروفة أهمها ضرب فكر الإسلام في نفوسهم, خصوصاً الجانب السياسي فيه (أي تطبيق نظم الإسلام في دولة), ومنه هيمنة الغرب الكافر السياسية في بلادهم, من خلال أنظمة مأجورة تابعة له, ومنه هيمنته الاقتصادية عن طريق السيطرة على مقدرات الأمة وخيراتها.
ومنذ أن سقط نظام الأمة السياسي، والمستعمر يعمل من أجل هدفين: الأول عدم عودة المسلمين قوة واحدة في دولتهم, والثاني امتصاص ثرواتهم ليستقوي بها عليهم.

والغرب الذي يحارب الإسلام على جميع الجبهات يدرك أن وحدة المسلمين السياسية مرة أخرى من شأنها أن تهدد وجوده, وتقطع يده من أن تمتد إلى بلاد المسلمين, لذلك لا يترك سبيلاً لمنعهم إلا سلكه, فتارة يضلل المسلمين بالاستقلال المزعوم هنا وهناك, وتارة يتهم دينهم ليغرقهم بالدفاع عنه ليحرف بوصلتهم, وتارة يزرع الفتن بينهم ليمعن في تفريقهم, وتارة يشوه دولة الخلافة في أذهانهم لينفرهم منها, وتارة يضللهم (بالإصلاح) المفروض عليهم على طريقته, وتارة يتهمهم بالإرهاب (تلك الكذبة الكبرى, والنكتة المكشوفة) حتى يرفعوا الرايات البيض, وينبطحوا أمام إملاءاته, وتارة يهاجمهم عسكرياً في عقر دارهم ويقتلهم بالجملة لإطباق سيطرته عليهم كما يفعل في غير بلد من بلادنا.

والملاحظ يجد أن الغرب الرأسمالي (وهو يحارب الإسلام وأهله) لم يحمل شيئاً من فكره الفاسد للمسلمين يجعلهم يتطلعون إليه, أو يجعلهم يتشككون في فكر إسلامهم, ذلك أن الغرب الآن مفلس فكرياً, ومهزوم أمام مبدأ الإسلام في معركة الأفكار, وهو نفسه يعاني من جراء عقيدته وأحكامه في بلاده!
والغرب - والحالة هذه - يعلم قوة الإسلام, وقوة أمة الإسلام إذا هي أخذت زمام أمرها أكثر من كثير من أبناء المسلمين الذين لا يدركون ما هم قادرون على فعله, وما هم قادرون على تحقيقه, إن هم انتفضوا وقامت لهم قائمة, ولذلك نرى استعار هجومه على الإسلام والمسلمين مؤخراً, ما يدل على أنه يرتعد من فكرة عودة الأمة لدينها ودولتها, ويرتعد من فكرة أن الإسلام ما زال قوياً رغم كل ما يحاك ضده.

أما الأمة العظيمة, فبعد سنوات من التيه والضياع تلت سقوط دولتها, وبعد أن جربت كل شيء لم ينفعها, وبعد أن صار في الأمة من يعمل لعودة الإسلام ... يأخذ بيدها, ويرشدها إلى عزتها, فإن أداءها باتجاه دينها وهويتها وقضاياها (والحمد لله) يرتفع باطراد, خصوصاً في السنوات الأخيرة, وهذه بشارة على أن الأمة يمكن أن تضعف, لكنها لا تموت, وإذا استمرت وتيرة وعيها على إسلامها, فالنتيجة حتمية وهي انبعاثها من جديد قوة كونية.

إن المتبصر يدرك أن العاملين الهامين في استيقاظ الأمة وصحوتها يتمثلان في:
1- عامل داخلي بين ظهراني الأمة: وهو عمل أبنائها الدؤوب والظاهر والصادق من أجل نهضتها, وعودتها خير أمة أخرجت للناس... هؤلاء الدعاة المستنيرون الواعون على قضايا الإسلام, والعارفون بما يجب على الأمة أن تسير فيه إن هي أرادت الانبعاث من جديد. فهؤلاء الدعاة السياسيون من أبناء الأمة كلها يحققون اليوم نجاحاً عظيماً في استنهاض الأمة, والسير بها لما يريد الإسلام من وحدة سياسية, وتحكيم لأنظمته بعد التخلص من دويلات الذل والهزيمة.
2. عامل خارجي: وهو محاربة الغرب للإسلام والعاملين له. وهذا عامل كشف للأمة أعداءها أكثر, وجعلها تعرف ما الذي يعزها ويرفعها, وجعلها تعرف طريق الخلاص وأسباب نهضتها. وها هم أعداء الإسلام يكررون أخطاءهم التاريخية تجاه مبدأ الإسلام وأمة الإسلام, فهم لا يدركون أن اشتداد هجومهم على الإسلام وأهله معناه شيء واحد: رجوع أهل الإسلام لإسلامهم, واشتداد عودهم ... والتاريخ يقدم النماذج للعبرة.

إن هذا الهجوم الكبير على الإسلام والمسلمين في الشرق والغرب يؤكد أن الأمة الإسلامية حية, ولو أن الأمة ميتة, ما ضربها أحد أو هاجمها أحد. وإن هجوم الغرب علينا وعلى ديننا دليل على صحوتنا. ففي مقال نشرته صحيفة (ذا بوليتان) يوم الجمعة 15-5-2009 حذر الكاتب الأميركي هيرب دنينبيرج مما أسماه بـ"الغزو الإسلامي" لأوروبا قائلاً «إن هدف المسلمين حالياً ربما يقتصر على النيل من إسرائيل، ولكن هدفهم الأساسي يتمثل في السيطرة على أوروبا», وأضاف أنه إذا كانت أوروبا في الظاهر تعتبر "قارة غربية مسيحية" إلا أنها قريباً ستكون خاضعة للسيطرة الإسلامية، معتبراً أن «انهيار أوروبا المسيحية يمضي بخطى متسارعة", وأن انحسار الثقافة الأوروبية يعود إلى "تراجع الإيمان بالقيم الغربية، في الوقت الذي يستميت فيه آخرون (في إشارة إلى المسلمين) في سبيل إعلاء قيمهم وثقافتهم», وحذر دنينبيرج من أن «الهيمنة الإسلامية سوف تغزو الولايات المتحدة بعد أوروبا باعتبارها الهدف النهائي للمسلمين». وهذا ما أكدته مقررات مؤتمر عقد مؤخراً في الغرب حضره مفكرو الغرب وسياسيوه, الذين باتوا مقتنعين أكثر من أي وقت مضى أن الإسلام قادم قادم, لذلك أعلنوا في مؤتمرهم متسائلين: إن الإسلام قادم إلى الغرب فماذا نحن فاعلون؟! أما بات بوكانان, وهو جمهوري أميركي محافظ فيقول: "الحقيقة هي أن ثبات الإسلام وقدرة الاحتمال لديه شيء مبهر حقاً. فقد تمكن الإسلام من البقاء رغم قرنين من الهزائم والإذلال... لقد تحمل الإسلام أجيالاً تعاقبت على الحكم, واقتبست النمط الغربي، برغم ذلك صمد الإسلام أمام الملوك والحكام التابعين للغرب، بل وتصدى الإسلام بسهولة للشيوعية ... وبرهن على قدرته على التحمل أكثر من الوطنيات التي سادت في العالم العربي. وما نراه الآن هو أن الإسلام يقاوم الولايات المتحدة آخر قوة عالمية كبرى... وطالما تمكنت فكرة الحكم الإسلامي من السيطرة على الشعوب الإسلامية، فلن يتسنى آنذاك لأضخم جيوش الأرض الحيلولة دون ذلك". إن كلام بوكانان يؤكد الحقيقة التي قالها الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون: "نحن نؤخر خروج المارد الإسلامي من القمقم."

نعم... سياسيو الغرب يدركون أكثر من غيرهم خطر الإسلام عليهم وعلى مبدئهم, فهم يعيشون لمنعه من الانبعاث من جديد في دولته, وتصريحاتهم التي تدل على هذا أكثر من أن تحصى في هذا المقام, فكم مرة صرح بوش الابن أنه لن يسمح "بقيام الخلافة الإسلامية"؟, وكم مرة أعلن بلير أن "مشكلتنا" هي "مع العاملين لإعادة الخلافة"؟ ولكن... هل يصح أن يعرف أعداء الإسلام عن قوته وخطره عليهم أكثر منا, نحن أبناء المسلمين؟ وإلى متى يظن البعض منا أن الأمة غير قادرة على النهوض مرة أخرى لتقتعد مكانتها الطبيعية بين الأمم, وهي مقام الريادة والقيادة؟ متى يدرك أبناء الأمة أن دينهم ينتصر كل يوم, وأن أسهم الأمة الإسلامية في صراعها مع أعدائها في ارتفاع, وأن الغرب الرأسمالي في انحدار وانحسار؟ ومتى لا يتلفت بعض أبناء الأمة إلى الأقلام العلمانية المأجورة التي تشكك في مبدأ الإسلام, وعودة الأمة إلى سابق مجدها؟ متى يدرك أبناء الأمة أن أميركا نمر من ورق؟ ألا يرون ما يحصل لها وحلفاءها في العراق وأفغانستان, على أيدي مجموعات ولا أقول دول؟ هل أدرك هؤلاء أن لا سبيل لأميركا علينا إذا ما قامت دولة المسلمين الجامعة الواحدة؟ ألا يرون كيف تعاني الرأسمالية اليوم من جراء أفكارها الفاسدة, وكيف تترنح ؟ ألا يرون كيف أن كثيراً من رجال ونساء الغرب اعتنقوا الإسلام على الرغم من حملات التشويه الرسمية والمبرمجة هناك؟ ألا يرون انحسار كل الأفكار التي كانت رائجة في بلاد المسلمين لصالح فكر الإسلام الصحيح؟ ألا يرون تقدم المد الإسلامي, في العالم كله, من خلال عودة الناس إلى الوعي على الإسلام, ومن خلال عمل من يقود الأمة نحو وحدتها, وتحكيم نظم إسلامها في خلافتها؟ ألا يتفكرون في ما تعلنه الأوساط السياسية والاستخبارية في الغرب من أن ما يحصل الآن من حراك سياسي في العالم الإسلامي, على أيدي أبنائها المخلصين, سيقود خلال سنين إلى دولة تجمع شمل المسلمين, وأن هذا أصبح واقعاً لا يمكن إيقافه؟ ألا يرون كيف يتعرض الإسلام والمسلمين للملاحقة في الشرق والغرب؟ وكيف يستهدفون حتى يجبنوا ويتراجعوا عن نصرة دينهم, ومع ذلك يرفعون لواء التحدي؟

إننا كأمة إسلامية لن نبقى مزرعة للدول الاستعمارية, ولن نبقى ممزقين إلى بضع وخمسين دويلة كرتونية, ولن نقبل أن تطبق علينا أنظمة الكفر والضلالة التي يسمونها القيم الغربية, فنحن قادرون على تجسيد هذا الرفض, وهذا التحدي, وإبرازه إلى حيز الوجود من خلال إحداث الانقلاب المطلوب على أوضاعنا, لنقود العالم مرة أخرى قيادة لا تقوم على استغلال الشعوب, ومص دمائها, بل قيادة تقود العالم إلى الهدى, وإلى مساواته بأنفسنا حين يحمل عقيدتنا وقيمنا, فقيادة العالم رسالة اختار الله الأمة الإسلامية وحدها بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لحملها للناس, وهو القائل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران 110].

إن الأمة اليوم قادرة على إقامة المنهاج الإسلامي من جديد, واستئناف حياتها الإسلامية في دولتها, وقادرة على حمل الدعوة إلى العالم وذلك من خلال الأمور التالية:
1- إنه لا يوجد في البلاد الإسلامية اليوم نظام يحمل له المسلمون الولاء, فالحكام في واد والناس في واد آخر.
2- لقد ثبت فشل كل الأنظمة التي طبقت علينا من اشتراكية، وقومية, وبعثية، وملكية، وجمهورية، وعلمانية, وفشلت الأنظمة البوليسية, والأنظمة الليبرالية الغربية, وأدرك المسلمون أن لا خلاص لهم إلا بنظام الإسلام ودولة الإسلام.
3- إن المسلمين يتحركون من أجل إعادة النظام الإسلامي, وغالبية المسلمين الساحقة يريدون الخلافة, ولا يمنع إقامتها إلا وقوف الأنظمة المأجورة القمعية ومن لف لفها من علماء السلاطين في طريقها خدمة للغرب.
4- إن المسلمين مستعدون للتضحية في سبيل دينهم. ظهر هذا جلياً في مناسبات كثيرة, ما يبشر أنهم قادرون على إحداث التغيير والدفاع عنه. وما تحرك الأمة أثناء حرب غزة وفي موضوع الصور المسيئة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم), وما يحصل على أيدي المجاهدين في العراق وأفغانستان إلا أمارات على قوة كبيرة كامنة في الأمة ستظهر عما قريب ظهوراً جلياً مزلزلاً في دولة كونية كبرى للمسلمين تقود البشرية لما فيه خيرها.
5- إنه بعد أن أدرك الغرب أن العاملين للتغيير يسيرون بالأمة نحو عزتها, وبعد أن أدرك أنهم مصممون على إرجاع وحدتهم السياسية المتمثلة في الخلافة, وأنه لا يستطيع إيقافهم, بدأ بالالتفاف على عملهم من خلال صناعة دين جديد روج له في بلاد المسلمين أسماه (الإسلام المعتدل) ليقف للأمة بالمرصاد, لكن مكره أصبح مكشوفاً للكثير.

إن الأمة الإسلامية يجب أن تعلم أن مصيرها بيدها وأنها يجب أن تعمل باتجاه وحدتها بإقامة دولتها وأن ذلك أصبح قريباً بإذن الله, وهذه حقيقة راسخة يعلمها العدو قبل الصديق, ولا ينكرها إلا مكابر.

لتعلم الأمة أنها تمرض ولكن لا تموت, وتضعف ولكن لا تنتهي ولا تنهزم وذلك بسبب قوة الإسلام وحيويته... والمسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها بدؤوا بالاستيقاظ الحقيقي من غفلتهم وسباتهم العميق, وأخذوا بالتململ والتحرك الرشيد, والإسلام قادم إن شاء الله ليسود مرة أخرى حتى ينقذ البشرية مما هي فيه من شقاء وظلم. والمسألة مسألة وقت حتى يحصل هذا, وهو وإن لم يحصل اليوم ففي الغد إن شاء الله وإن غداً لناظره قريب...، فالله تعالى يقول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور 55].

دكتور حازم بدر- فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

سودة بنت زمعة رضي الله عنها


بسم الله الرحمن الرحيم

من خديجة إلى سودة (رضي الله عنهما)
بعد الخروج من الشعب، بسبب القطيعة التي فرضتها قريش على بني هاشم والمسلمين، والتي استمرت طيلة أعوام ثلاثة لقي فيها المسلمون عنتاً شديداً، وإرهاقاً ما بعده إرهاق. كانت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سبق وذكرنا تقاسي من المرض والضعف، ثم ما لبثت أن لحقت بالرفيق الأعلى، فوجد عليها رسول (صلى الله عليه وسلم) وجداً شديداً وحزن حزناً بالغاً. وكذلك بناتها الأربع، زهرات بيت النبوة النضرات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وكل المسلمين!

ثم إن أبا طالب قد لحقها والذي كان نعم العشير والنصير لابن أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فازداد عليه الصلاة والسلام حزناً وهماً!!
وكان عمه أبو لهب قد رد عليه ابنتيه رقية وأم كلثوم بسبب ما نزل فيه من الوحي. فلقد تكأكأت على القلب الشريف الكبير من كل ناحية، مما زاده تعلقاً بالله، واستمساكاً بحبله، ورجاءً به سبحانه. ولقد قصد (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف لعله يجد في أهلها بني ثقيف تفهماً للدعوة، وقبولاً لها، فردوه أقبح رد وجفوه أشنع جفاء، حتى إنهم أغروا صبيانهم وسفهاءهم برميه بالحجارة فأدموا قدميه الشريفتين.
تلك الأيام وتلك الحقبة كانت أقسى ما مر به (صلى الله عليه وسلم) من محن وشدائد.

بين القبول والتردد

وبينما هو (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم في بيته، يلفه الحزن والكآبة، يفزع إلى الصلاة والدعاء ليجد بهما عزاء قلبه وروحه، جاءته إحدى السيدات المسلمات خولة بنت حكيم (رضي الله عنها) تحدثه حدثاً عجيباً.

لقد كان المسلمون جميعاً يشعرون بما يقاسي عليه الصلاة والسلام من آلام المحنة، فقد خلا البيت النبوي من أطهر الزوجات وأكرمهن، ومات العم المدافع عن أخيه ورده أهل الطائف رداً قبيحاً منكراً، فكان المسلمون يحسون بذلك، ويحاولون أن يخففوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى من يقوم على شؤونه ويدبر له أموره.
روى الطبري أن خولة بنت حكيم قالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟!
فقال عليه الصلاة والسلام: ومن؟
قالت: إن شئت بِكراً وإن شئت ثيِّباً.
قال: فمن البكر؟
قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة ابنة أبي بكر.
قال: ومن الثيِّب؟
قالت: سودة بنت زُمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما أنت عليه.
قال: فاذهبي فاذكريها علي (أي اخطبيها لي).
فجاءت فدخلت بيت أبي بكر قالت: ثم خرجت فدخلت على سودة فقالت: أي سودة، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟!
قالت: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطبكِ عليه.
فقالت: وددت (أي أتمنى ذلك) ادخلي على أبي فاذكري له ذلك.
قالت: وهو شيخ كبير، فدخلت عليه، فحييته بتحية الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة.
قال: كفءٌ كريمٌ، فماذا تقول صاحبته (أي مخطوبته).
قالت: تحب ذلك.
قال: ادعيها لي. فدُعيت له. قال أبوها: أي سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوِّجْكِهِ؟
قالت: نعم
قال: فادعيه لي. فدعته خولة، فجاء فزوجه.

نسبها ونشأتها

هي سَوْدَةُ بنت زُمْعَة بنت قيس من بين شمس، وأمها الشموس بنت قيس بن عمر من بني النجار من أهل يثرب.
نشأت سودة في مكة وفيها ترعرعت حتى بلغت مبلغ الصبا والفتوة، فتقدم لخطبتها والزواج منها السكران بن عمرو فقبل به أبوها وزوجها به. ومات عنها وكان من المصدقين الأوائل السابقين إلى الإسلام الذين آمنوا بالله ورسوله. وكانت سودة (رضي الله عنها) امرأة مسنة، فارعة العود طويلة القامة ضامرة الجسم، نحيلة، ليست على أي قسط من الجمال، ولا مطمع فيها للرجال.

إسلامها

حين أشرقت شمس الدعوة الإسلامية على مكة استضاء بها قلب الزوجين السكران وسودة فأعلنا إسلامهما وإيمانهما، وانضويا تحت اللواء الشريف، وانتظما في موكب النور. وعندما ضاق المؤمنون القلائل ذرعاً بأذى قريش وتعرضها الدائم لهم بالإكراه والتعذيب والفتنة، أذن النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن أراد منهم الهجرة إلى الحبشة.

هجرتها

هاجرت سودة مع زوجها السكران بن عمرو إلى الحبشة في جملة من هاجروا وهناك أقاموا مدة من الزمن بعيداً عن الأهل والوطن، في شوق دائم وحنين لا ينقطع، خصوصاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

العودة من الحبشة

وبإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنهما) تشجع بعض المهاجرين إلى الحبشة بالعودة إلى مكة وآثر الآخرون البقاء. وكانت سودة (رضي الله عنها) مع زوجها ممن أسرعوا بالعودة..! وتعود أسباب سرعتها في العودة إلى ما كان قد أصاب زوجها من أمراض وعلل في غربته الموحشة، وبعده عن الأهل والوطن، والأحباب والأصحاب، وتغير المناخ.

الأيم

ومع وصول الزوجين إلى مكة فوجئا بأن قريش ماتزال على موقفها من العداء الشديد للإسلام والمسلمين، بل زادت من حدة الصراع، ولم ترعوِ عن غيها وكفرها وعنادها. ولازم الزوج السكران بن عمرو الفراش بسبب العلة، والضعف المتناهي، وقامت سودة على تمريضه ومداواته ومساعدته. ولكن لم تمضِ أيام على وصوله حتى اشتد به المرض ومنعه من الكلام والحركة، ولم يلبث أن فارق الحياة. وتأيمت سودة (رضي الله عنها) وأمضت أيامها بمكة حزينة آسفة، صابرة على قضاء الله وقدره، معتصمة بإيمانها، متمسكة بإسلامها، تستمد من الباري عز وجل العون والرحمة.

أم المؤمنين

ثم كانت البشرى السعيدة التي أثلجت قلبها، وعزتها في حزنها على مصابها، وأزاحت عن صدرها كابوس المحنة...، بشرى خطبتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقد أرسل إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: مري رجلاً من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو فزوجها. فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد خديجة (رضي الله عنها). وكان ذلك في شهر رمضان سنة عشر من البعثة النبوية الشريفة. وبهذا الزواج المبارك، أصبحت سودة بنت زمعة أماً للمؤمنين بعد خديجة وكانت (رضي الله عنها) تقوم خير قيام على رعاية بيت النبوة، من خدمة وحدب على الفتيات الطاهرات اللواتي فجعن بالسيدة العظيمة خديجة بنت خويلد، وهن في سن مبكرة أم كثلوم وفاطمة. فقد كانت زينب (رضي الله عنها) متزوجة من ابن خالتها أبو العاص ابن الربيع ورقية (رضي الله عنها) من عثمان بن عفان (رضي الله عنه).
وكذلك قدرت سودة وجودها الجديد واختيار النبي (صلى الله عليه وسلم) لها، فأكبرت ذلك واعتبرته تكريماً عظيماً، فاحترمت الإرادة النبوية السامية، وأجلتها، وأنزلتها من نفسها وقلبها أسمى مقام وأرفعه.

يومي لعائشة إذاً

قامت سودة (رضي الله عنها) على شؤون بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قياماً حسناً طيباً وأدت ما عليها من واجب تجاه النبي العظيم وهي تحاول جهدها أن تحظى برضاه وعطفه وحبه..! ثم جرت الأقدار بما دبرت من العلي الحكيم.. إذ جاء جبريل عليه السلام ذات ليلة يحمل قطعة من حرير عليها صورة فتاة صغيرة السن ليخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن صاحبتها هي زوجته المنتظرة ورفيقته في الآخرة. وتكررت الزيارة في ليال ثلاث متواليات. وكانت الصورة لعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ثم بعد الهجرة إلى المدينة تم الزواج، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعائشة.
أما سودة بنت زمعة (رضي الله عنها) فكانت من المهاجرات إلى المدينة المرافقة لرسول (صلى الله عليه وسلم) الدائمة المواظبة على رضاه وحبه.. ولقد أدركت (رضي الله عنها) شغف النبي (صلى الله عليه وسلم) بعائشة وإيثاره لها، فكانت تشعر بشيء، لكنها كانت في الوقت نفسه حريصة على استمرارية بقائها زوجة للنبي الكريم، وأماً للمؤمنين.

تحدثنا السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن ذلك فتقول: كانت سودة بن زمعة قد أسنت، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يستكثر منها، وقد علمت مكاني من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنه يستكثر مني، فخافت أن يفارقها، ورضيت بمكانها عنده فقالت: يا رسول الله، يومي الذي يصيبني لعائشة وأنت من حل، فقبله النبي (صلى الله عليه وسلم).

خفيفة الروح والظل

كانت سودة (رضي الله عنها) فيها دعابة وتحب الضحك، وروي أنها قالت ذات يوم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): صليت خلفك البارحة، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن تقطر الدم... فضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وكثيراً ما كانت تضحكه بالقول والفعل. فقد كانت (رضي الله عنها) خفيفة الروح والظل، صاحبة فكاهة ومزاح صادق، لا ثقيلة تُشعر بالملل، ولا تفتعل الحركة أو تصطنع الكلمة.

المتصدقة، الكريمة، السخية:

روت عائشة (رضي الله عنها) قالت: اجتمع أزواج النبي ذات يوم فقلن: يا رسول الله، أينا أسرع لحاقاً بك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أطولكن ذراعاً. قالت عائشة: وتوفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانت سودة بنت زمعة أسرعنا به لحاقاً، فعرفنا بعد ذلك أنما كان طول يدها الصدقة.
ولقد قسم لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر من الفيء كما قسم لكل أزواجه، فنالها من التمر ثمانين وسقاً ومن القمح عشرين. ولكنها (رضي الله عنها) لم تدخر ذلك.. ولم تخزنه.. ولم تجمعه في بيتها، بل فرقته على من يحتاجه قبل وصولها إلى حجرتها.
وروى محمد بن عمر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرسل إلى سودة زمن خلافته، كما كان يفعل مع باقي أمهات المؤمنين، غرارة من دراهم فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم من أمير المؤمنين.. قالت: في الغرارة مثل التمر! ثم نادت على جارية لها، وطلبت أن توزع ما في الغرارة على المحتاجين والمساكين، ودعت ربها سبحانه وتعالى أن يثبتها على القناعة والاكتفاء.

الوفية بالعهد

عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: حجّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنسائه عام حجة الوداع، وكان كل نسائه يحججن بعده إلا سودة بنت زمعة وزينب ابنة جحش قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وروي عن سودة قولها: حججت واعتمرت، فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله عز وجل.

الوفاة

هناك اختلاف في تاريخ وفاتها (رضي الله عنها)، فمن المؤرخين من يقول إنها كانت أول نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) لحاقاً به، حسب رواية عائشة (رضي الله عنها)، وقد توفاها الله تعالى في العام الرابع والخمسين من الهجرة، زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان والله أعلم.
رضي الله عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة المسلمة المهاجرة والمؤمنة الصادقة المتصدقة والوفية المحبة. وأنزلها من لدنه تعالى منازل الأبرار الصالحين، في جنات النعيم، وألحقنا بها في الطائعين التائبين من عباده، إنه أكرم مأمول وخير مسؤول وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: مجلة الوعي

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها


بسم الله الرحمن الرحيم

إن بيت النبوة هو أجل البيوت وأطهرها، وإن كان لنا في رسول الله أسوة حسنة فلنا في حياته وفي بيته وسط أسرته النصيب الأكبر منها، تلك الحياة التي أنشئت على طاعة الله، فكانت نساؤه توفرن له حياةً هنيئة، وجواً إيمانياً صافياً، ويحملن معه هم الدعوة، ويسعين إلى إيصالها إلى الناس، فأكرمهن الله تعالى وجعلهن أمهات للمؤمنين، قال سبحانه وتعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب 6]. ولنا في أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عبر كثيرة، وحياة يحتذى بها، ففي عهدها بُعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين، وفي عهدها تنزّل عليه الوحي، فساندته وآزرته وصدقته وآمنت به حين كذبه الناس، ووفرت له الصفاء والسكينة، وكانت له خير معين. لله درها من أم يقتدى بها! لله ما أعظم أجرها! إنها بحق سيدة نساء العالمين.

نسبها

كان والدها سيد قومه وعشيرته، يطيعونه ويهابونه، ويحترمون رأيه ويقدرونه. ولقد حفظت قريش له شجاعته عندما تصدى لـ"تبّع" (ملك اليمن) حين أراد أن يحمل معه (الحجر الأسود) إلى بلاده، فمنعه من ذلك، فنصبته قريش عليها زعيماً، لا ينازعه في ذلك أحد.

وكان له ابن أخ اسمه ورقة اشتهر بين الناس بالحكمة وسداد الرأي، وهو أحد أربعة خاصموا قريشاً في وثنيتها وعبادتها للأصنام، ولما لم تستجب لهم اعتزلوها وما تعبد من دون الله.

ولادتها

تزوج خويلد من فاطمة بنت زائدة بن الأحم، القرشية، أجمل سيدات مكة وأكثرهن صباحة وجه، وروعة حسن، فولدت له "خديجة" (رضي الله عنها)، قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً تقريباً فكانت صورة عن والدتها، كما ورثت عن والدها خويلد الحزم والذكاء، واكتسبت من ابن عمها ورقة العلم والحكمة.

نشأتها

نشأت خديجة (رضي الله عنها) في بيت طاهر طيب الأعراق.
وعن زواجها يقول الزهري: «تزوجت خديجة بنت خويلد بن أسد قبل رسول الله رجلين الأول منهما عتيق بن عايذ... فولدت له جارية وهي أم محمد بن صيفي المخزومي ثم خلف على خديجة بعد عتيق بن عايذ أبو هالة التميمي وهو من بني أسيد بن عمر فولدت له هالة وهند» ولما توفيا الواحد بعد الآخر انصرفت إلى تربية أولادها وكانت معروفة بين القاصي والداني بلقبي" الطاهرة" و"سيدة قريش".

في ميدان التجارة

لقد عملت خديجة (رضي الله عنها) في ميدان التجارة واستطاعت أن تؤسس في مكة بيتاً مالياً ضخماً، أصبح من بعد علماً عليها، يعرف بها، ورحلت قوافلها تمضي مصعدة إلى الشام، أو هابطة نحو اليمن، تحمل من الأسواق ما يدر عليها الربح الوفير والمال الكثير.

الأمين على تجارة خديجة

قال ابن إسحق: «كانت السيدة خديجة امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بلغها، من صدق حديثه، وعِظَم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التُجَّار، مع غلامٍ يقال له ميسرة».
وعن نفيسة بنت منية قالت: «لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمساً وعشرين سنة، وليس له بمكة اسمٌ إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير، قال أبو طالب: يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي، وقد اشتدَّ الزمان علينا، وألحَّت علينا سيول مُنكرة، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضَّلتك على غيرك لما بلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من اليهود، ولكن لا نجد من ذلك بداً. ولكن غلب على النبي الكريم حياؤه وعزة نفسه، فقال لعمه أبي طالب: لعلها ترسل إلي في ذلك، فقال أبو طالب: أخاف أن تولي غيرك فتطلب الأمر مدبراً -أي تفوتك الفرصة- فافترقا. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وبلغها قبل ذلك ما كان من صدق حديثه وعظم أمانته فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. ففعل عليه الصلاة والسلام، ثم لقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك».

لكن أبا طالب كان شديد القلق على ابن أخيه، الذي كان قد وصاه به خيراً الراهب بحيرا. فأتى إلى ميسرة غلام خديجة يوصيه بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وإزاء ذلك تركز اهتمام ميسرة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يراقبه ويرعاه، تنفيذاً لوصية أبي طالب، ولقد رأى ميسرة من أمر محمد العجب العجاب: شخصية خارقة، وخلق دمث، وكلمة متزنة، ومشية كلها وقار، وحديث كله عذوبة، وأمانة ما بعدها أمانة، وصدق بالغ، وحنكة ودراية يعجز عنها فحول التجار.
ورأى ما لا يمكن أن يُستهان به، أو يمر به مرور الكرام!! رأى السماء تظله بظلها حين يشتد لهيب الشمس، وغمامة تتبعه في تنقلاته وتحركاته لتحميه من القيظ الشديد. وعندما آوى مرة إلى شجرة ليستريح في بعض ظلها... أورقت... واخضرت وزهت. لقد كان ما يراه ميسرة من أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مألوف بالنسبة إلى الناس، فازداد حرصه عليه، ورعايته له، في الحل والترحال.

العودة الميمونة

عندما عادت القافلة إلى البلد الحرام (مكة المكرمة) وقد ربحت بضاعتها، وكثرت عليها، وكان ربحها كثيراً وفيراً... وعندما أذن مؤذن العير بالوصول، قامت "خديجة" على غير عادتها إلى سطح دارها ترقب القافلة، واللهفة بادية على وجهها. وبكلمة وجيزة وأدب جم ووقار باسم أفضى "محمد" إلى "خديجة" بوقائع الرحلة.

وبعد انصرافه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عندها حدثها غلامها ميسرة عن البيع والشراء والربح الوفير الذي يفوق أضعاف ما كانت تكسبه في المرات السابقة، وحدثها عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في كل ذلك سماعة له مصغية بأذنيها وعواطفها...، تستزيده فيزيدها... فينشرح صدرها وقلبها.

وكان لا يغيب عنها ما رأته في منامها منذ أمد... إذ رأت الشمس عظيمة مضيئة مشرقة..، أشد ما يكون الضوء جلالاً وجمالاً وسطوعاً..، تهبط إلى دارها من سماء مكة فيغمر ضوءها ما يحيط به من أماكن وبقاع..!

وإنها على أثر الرؤيا سعت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تحدثه بذلك، فقال لها: لك البشرى يا خديجة يا ابنة العم، فهذه الشمس المضيئة علامة على قرب مجيء النبي الذي أظل زمانه...، ودخولها في دارك دليل على أنك ستتزوجين منه.

الزواج الميمون

فكرت خديجة في ذلك ملياً، ثم استقر رأيها على قرار. مضت إلى دار ابن عمها ورقة وحدثته من جديد بحديث ميسرة عن محمد والغمام الذي كان يظله في تنقلاته يحميه من وهج الشمس ولفحها وأذاها، فهتف ورقة: قدوس.. قدوس.. لقد قرب الأوان، واستدار الزمان، وآن لمكة أن تشهد الآية الكبرى. وأبدت خديجة رغبتها لابن عمها بالاقتران من محمد بن عبد الله فوافقها.

وعادت إلى دارها ثم أرسلت نفيسة إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تذكرها عنده، وتعرض عليه نفسها. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفيسة: «ما بيدي ما أتزوج به..»
قالت: فإن كُفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والشرف... ألا تجيب؟
قال: «فمن هي؟»
قالت: خديجة
قال: «خديجة بنت خويلد؟!»
قالت: نعم
فقال في ابتهاج: «وكيف لي بذلك؟»
قالت: أنا أفعل..
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «وأنا رضيت»

عمت الفرحة بيوت الهاشميين، وتناقل الناس النبأ العظيم، وتقدم أبو طالب يفتتح الحفل بالخُطبة، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا حكاماً على الناس. أما بعد... فإن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإذا كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل. ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خَطب خديجة بنت خويلد وبذل ما عاجله خمسمائة درهم، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم.

ثم تكلم ورقة بن نوفل ابن عم خديجة فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرتَ، وفضلنا على ما عددتَ، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على الصداق المسمى.. ثم سكت.

فقال له أبو طالب: قد أحببتُ أن يشركك عمها. فقام عمرو بن أسد فقال: اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحتُ محمد بن عبد الله، خديجة بنت خويلد، فهو والله الفحل الذي لا يُقرع أنفه...

ولما تم العقد نحرت الذبائح ووزعت على الفقراء، وفتحت دار خديجة للأهل والأقارب فإذا بينهم حليمة السعدية جاءت لتشهد عرس ولدها الذي أرضعته، وعادت بعد ذلك إلى قومها ومعها أربعون رأساً من الغنم هديةً من العروس الكريمة لمن أرضعت محمداً الزوج الحبيب...

وهكذا تأسس البيت النبوي الكريم، وكانت خديجة (رضي الله عنها) يومذاك في الأربعين من عمرها والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخامسة والعشرين.

من بيت أبي طالب إلى بيت خديجة

وانتقل عليه الصلاة والسلام من بيت عمه أبي طالب إلى بيت خديجة، ومرت أيام الحياة بالزوجين على أهنأ ما تكون، فقد كان هذا الزواج في حقيقته زواج عقل راجح إلى عقل راجح، وأدب جم وطيب خلق إلى مثله. يقول العقاد رحمه الله في وصف ذلك: لم يجد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه فتاة غريزة تنزع ولا تدري ما تصنع، بل وجد إلى جانبه قلباً كريماً، وروحاً عظيماً، وسكناً تهدأ عنده جائشة صدره، وتطمئن إليه خشبة فؤاده.

زهرات بيت النبوة
وبعد مرور عام وبعض عام أنجبت خديجة (رضي الله عنها) زينب كبرى بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فملأت البيت بالحركة والحيوية. وبعد ذلك بعام، وضعت رقية فكانت محل الحب والإعزاز، ثم أعقبتها أم كلثوم ثالثة النجوم..! فتهامس الناس في أندية قريش بأن محمداً لا يرزق إلا بنات..!

لقد اختصت وتشرفت (رضي الله عنها) بأنها أم أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم إلا إبراهيم فهو من مارية القبطية. وقد أنجبت له من الذكور القاسم وهو أول من مات من ولده ودفن بمكة، وعبد الله ويقال له الطاهر والطيب لأنه ولد في الإسلام ومات صغيراً بالبلد الحرام.

وحين دخل العام العاشر من الزواج الميمون كانت قد حملت خديجة وتمنى المحبون الغيورون أن يكون المولود ذكراً. وحلت في ذلك العام بقريش كارثة إذ احترقت أستار الكعبة، ومر بها سيل جارف فصدع جوانبها وأسقط بعض جدرانها وتنافس الناس في البناء بعد رهبة وفزع وشمر الجميع عن ساعد الجد، وحينما بلغوا موضع الحجر الأسود اختلفوا...، إذ تطلعت كل قبيلة لأن تحظى بشرف إعادته إلى مكانه من الركن... ثم اشتد النزاع وامتدت الأيدي إلى مقابض السيوف، ولولا كلمة صدرت عن أمية بن المغيرة المخزومي فحجزتهم، لفتك بعضهم ببعض، إذ قال لهم: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم. فقبلوا جميعاً، ثم تعلقت عيونهم بالباب تنتظر القادم المجهول، وبينما هم كذلك إذ أقبل وجه يضيء كأنه البدر ليلة التمام، يعلوه الجلال، ويكسوه الوقار، متزن الخطى من غير تكلف، رزين من غير فتور... فصاح الناس جميعاً: هذا محمد بن عبد الله، رضينا بحكمه واستبشرنا بطلعته.

الحكمة النبوية

ثم حكموه فيما هم فيه مختلفون... وبحكمته البالغة (صلى الله عليه وآله وسلم) طلبَ ثوباً طويلاً (رداءً) وضع في وسطه الحجر الأسود ثم طلب إلى الكبراء منهم أن يمسكوا كل بطرف، ثم يرفعوه...
وأعاد (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجر إلى مكانه بيده الشريفة، وحقن برجاحة عقله وسمو حكمته دماء القبائل من قريش. وغادرهم إلى بيته، قلق البال على زوجته التي تركها وهي تعاني من آلام الوضع، وعلى بعد خطوات من باب بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) تلقى البشرى...، لقد وضعت خديجة الوليدة الجديدة الرابعة فاطمة الزهراء. لقد وُلدت (رضي الله عنها) عنها في اليوم الذي أنقذ الله فيه قريشاً على يد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتنة عمياء، وصان عليها الدماء، وجاءت الزهراء مع البشرى.

فجر الإسلام

وأخذت خديجة (رضي الله عنها) تلاحظ سمات جديدة تعلو وجه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصمتاً طويلاً عميقاً يلازمه، وتأملاً شديداً يسرح به، وهو مع هذا كله يزداد تألقاً وصفاءً، ويشع نوراً وبهاءً. فأحست بقرارة نفسها وصدق حدسها أن الأمر جلل..! فقامت خير قيام بما يمليه عليها وفاؤها لزوجها فوفرت له كل أسباب الصفاء والسكينة، وما عكرت عليه أبداً خلوته وتأملاته. وتتابعت الرؤى يردف بعضها بعضاً... فأخذ يحدثها بكل ما يراه ويعتريه، فتستمع له بنفس مبتهجة وصدر منشرح، ثم تثبته على ما هو فيه، وتبعث في ذاته الشريفة العزم والتصميم.

في غار حراء

وعندما أهل هلال رمضان من ذلك العام، كان انصراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلواته وتأملاته أشد من ذي قبل وأبلغ...، وقامت خديجة بتهيئة زاده، وتوفير جو الخلوة في غار حراء، في سكينة واستقرار. وأرجف الناس بأن محمداً قد عشق ربه..! فما زادته أقاويلهم إلا رغبة عنهم، وبعداً عن مجتمعهم وأنديتهم... كما رأى كثير من القوم بعض الخوارق والمعجزات فكانت مثار تكهناتهم ومدعاة ظنونهم، وافتراءاتهم... وكان عليه الصلاة والسلام حين يمضي إلى غار حراء لما حُبب إليه الخلاء تودعه خديجة خاشعة النفس والهة القلب آملة راجية ضارعة إلى الله تعالى أن يكلأه ويرعاه، ويحقق آماله وتطلعاته.

ليلة القدر

وفي يوم خالد على الدهر، وفي ليلة مباركة وهي ليلة القدر، هبط جبريل عليه السلام بالأمر إلى الرسول الأمين، قائلاً له: اقرأ... فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارئ! فأخذه جبريل وغطه حتى أجهده، ثم أرسله وقال له: اقرأ. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارئ! فأخذه وغطه ثانية وثالثة، ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق 1-5].

بعد هذه الحادثة...، عاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصدر الحنون، والقلب الكبير، والنفس المواسية، عاد إلى خديجة راجفاً قلبه، يحدثها بما رأى وسمع، وهو يقول: «زملوني... زملوني...» فانصاعت (رضي الله عنها) لطلبه، وزملته في دثاره وهي تقول أبشر يا ابن العم واثبت، فقد أريد بك الخير العظيم، وإنك والله لأهل لكل خير، والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف وتعين على النوائب. وما زالت به حتى طعم وشرب وضحك، وذهب عنه روعه.

ثم إنها رضي الله عنها قصدت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فحدثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديثه وشأنه، وما أن فرغ حتى هتف ورقة: قدوس...، قدوس...، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءك الناموس الأعظم الذي كان يأتي موسى...، وليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أوَمخرجي هم؟
فأجاب ورقة: نعم...، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.
أول الناس إسلاماً
أسلمت خديجة وآمنت. ولم تقف في إيمانها عند حد معين، بل انطلقت في سبيل الله مثبتةً رسوله، داعيةً لدينه، باذلةً الغالي والنفيس لأجله.

ثم تتابع الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمره أن يقوم فينذر عشيرته الأقربين (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء 214]. فترك فراشه ودثاره، وأمنه وراحته، وقال لخديجة: «لقد انقضى زمن النوم والراحة يا خديجة».

السابقون السابقون

ثم تتابع دخول المؤمنين في موكب الإيمان، وأخذت المسيرة طريقها إلى الله تعالى، فأسلم على التتابع الفتى علي بن أبي طالب والمولى زيد بن حارثة والصديق أبو بكر وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهم أجمعين).

فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين

ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله سراً ثلاثة أعوام، حتى أمره الله سبحانه وتعالى أن يجهر بالدعوة، إذ أوحي إليه قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر 94] وفي هذه الرحلة بدأ الصراع العنيف الحاد من قبل قريش لدعوة الحق وأخذ صناديدها يناصبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العداء، ويفتنون أصحابه، فلم يضعف ولم يهن ولم تلن له قناة. وأمعن أبو لهب في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر ولديه عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رقية وأم كلثوم نكايةً وتشفياً...! لكن رحمة الله أعظم وأوسع... وأقرب من المحسنين، فلم يترك الأمر يبلغ مداه وغايته، إذ جاء عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهو أكثر شباب قريش مالاً، وأكرمهم نسباً، يخطب رقية إلى نفسه، فكان العزاء الكبير لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولزوجته خديجة (رضي الله عنها) ولرقية نفسها.

الصابرة في البأساء والضراء

وامتدت يد قريش إلى تجارة خديجة تنال منها، فتصادر الأموال، وتقطع السبل، وتحرض الأتباع، فكانت (رضي الله عنها) تتقبل كل ذلك بصبر وجلد، راضيةً مرضية. وكثيراً ما كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله معفر الجبين، وقد أصابه سفهاء القوم بالأذى... فتتلقاه خديجة بحنانها وحبها، فتمسح جراحه الزكية، وتغسل وجهه الشريف، بيد حانية رقيقة...، ولا تزال تواسيه بالكلمة الطيبة حتى يبتسم ويتناول طعامه.

الجزاء الأوفى

ويهبط من الملأ الأعلى جبريل عليه السلام حاملاً البشرى إلى المؤمنة الصابرة والمسلمة المجاهدة، والزوجة الوفية، فيخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك قائلاً: «لقد أمرني جبريل عليه السلام أن أقرئك السلام، والله تعالى يبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب». وحين أذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وظلمها، ودَّعت خديجة (رضي الله عنها) ابنتها رقية المهاجرة بصحبة زوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهي تكبت في أعماق ذاتها نوازع الأمومة، محتسبة فلذة كبدها وبضعة فؤادها أمانة بين يدي الله تعالى.

القطيعة في شعب أبي طالب

لم تفلح وسائل قريش أبداً في فل عزيمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه، فلجأت إلى سلاح جديد، هو سلاح المقاطعة.
فلا مجالسة، ولا مبايعة، ولا شراء، ولا مزاوجة، ولا مخاطبة، مع الهاشميين وأنصارهم، يعني: لا تعايش على الإطلاق!!
وكتبوا بذلك وثيقة علقوها على جدران الكعبة الداخلية، فاضطر المسلمون ومعهم بنو هاشم الاعتزال في شعب من شعاب مكة عرف بشعب أبي طالب ثلاثة أعوام!! يقاسون من الشدائد والمتاعب والمصاعب ما تنهار له الشم الرواسي، وتتزلزل معه أصلب النفوس.
وكان لأم المؤمنين خديجة (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنوات المحنة هذه فضل كبير... كانت تواسي نساء المسلمين بنفسها ومالها، وتغدق عليهم من فيض حنانها ومحبتها، وتنفق إنفاق من لا يخاف فقراً ولا شحاً.
ثم انهارت مقاومة قريش أمام صلابة المؤمنين وصبرهم، وصدق عزائمهم، وانجلى الحق وعاد المسلمون إلى مكة وهم أشد مضاءً، وأقوى إسلاماً.

عام الحزن

تتابع نزول الوحي، وأخذ أمر الرسالة يقوى، ورايتها تعلو، ويكثر عدد المؤمنين...، ما جعل الصراع بين الإيمان والكفر يشتد ضرامه وتتوقد ناره، ويلتهب لظاه... وفي عام واحد، العاشر من البعثة النبوية الشريفة، أصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحادثين جللين جعلاه يسمي ذلك العام بـ"عام الحزن". فقد توفي عمه أبو طالب الذي كان درعه الواقية، يدفع عنه الأذى، ويحميه من سفه السفهاء، والذي كانت تهابه قريش لمكانته فيها، لقد مات الرجل الذي كفله صغيراً، ورعاه يافعاً، وحماه نبياً ورسولاً، ثم لحقته خديجة (رضي الله عنها). إذ أوهنت سنوات الحصار والمقاطعة بقسوتها وشدة وطأتها جسد النبيلة الطاهرة، والمجاهدة الكريمة الصابرة، فسقطت صريعة المرض.
وأحس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحزن والأسى، كما أحاطت بالفراش الطاهر زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة يبكين أغلى الأمهات وأكثر المجاهدات. ثم دنا منها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باكياً، وهو يقول: «ما أمر الفراق يا خديجة، سيكون في الجنة قصرك الذي أعده الله من لؤلؤ مضيء...» فتجيبه الصديقة مع آخر نسمة من نسمات الحياة: إن شاء الله.
ويبكى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبكي بناته، ويخلو البيت الكريم من الشعلة الإيمانية التي أضاءت جوانبه وآفاقه، ثمانية وعشرين عاماً.
ولحقت خديجة (رضي الله عنها) بالرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

فضلها وإكرام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاتها

- روى أحمد عن عائشة (رضي الله عنها): «كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا، قَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاء»

- وعنها (رضي الله عنها) قالت: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلا خَدِيجَةُ! فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» (متفق عليه).
- أخرج الطبري في تفسيره عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع:... وخديجة بنت خويلد»

- «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ» (أخرجه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)).

المصدر: مجلة الوعي

أسامة بن زيد رضي الله عنه


بسم الله الرحمن الرحيم

في السنة السابعة قبل الهجرة في مكة، كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يكابد من أذى قريش له ولأصحابه ما يكابد، ويحمل من هموم الدعوة وأعبائها ما أحال حياته إلى سلسلة متواصلة من الأحزان والنوائب. وفيما هو كذلك أشرقت في حياته بارقة سرور، فلقد جاءه البشير يبشره أن "أم أيمن" وضعت غلاماً. فأضاءت أساريره عليه الصلاة والسلام بالفرحة، وأشرق وجهه الكريم بالبهجة. فمن يكون هذا الغلام السعيد الذي أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل هذا السرور؟! إنه أسامة بن زيد.

لم يستغرب أحد من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهجته بالمولود الجديد، وذلك لموضع أبويه منه ومنـزلتهما. فأم الغلام هي "بركة الحبشية" المكناة بأم أيمن. وقد كانت مملوكة لآمنة بنت وهب أم الرسول عليه الصلاة والسلام، فربته في حياتها، وحضنته بعد وفاتها، ففتح عينيه على الدنيا وهو لا يعرف لنفسه أماً غيرها. فأحبها أعمق الحب وأصدقه، وكثيراً ما كان يقول: هي أمي بعد أمي، وبقية أهل بيتي. هذه أم الغلام المحظوظ، أما أبوه فهو حب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن حارثة، وابنه بالتبني قبل الإسلام، وصاحبه وموضع سره، وأحد أهله وأحب الناس إليه بعد الإسلام. وقد فرح المسلمون بمولد أسامة بن زيد كما لم يفرحوا بمولود سواه، ذلك لأن كل ما يُفرح النبي يفرحهم، وكل ما يُدخل السرور على قلبه يسرهم، فأطلقوا على الغلام المحظوظ لقب: "الحِبُّ وابنُ الحِبِّ".

ولم يكن المسلمون مبالغين حين أطلقوا هذا اللقب على الصبي الصغير أسامة، فقد أحبه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حباً تغبطه عليه الدنيا كلها. فقد كان أسامة مقارباً في السن لسبطه (ابن ابنته) الحسن بن فاطمة الزهراء. وكان الحسن أبيض أزهر رائع الحسن شديد الشبه بجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وكان أسامة أسود البشرة أفطس الأنف شديد الشبه بأمه الحبشية. ولكن الرسول صلوات الله عليه ما كان يفرق بينهما في الحب، فكان يأخذ أسامة فيضعه على إحدى فخذيه، ويأخذ الحسن فيضعه على فخذه الأخرى ثم يضمهما معاً إلى صدره ويقول: «اللهم إني أُحِبُّهما فأَحِبَّهما». وقد بلغ من حب الرسول لأسامة أنه عثر ذات مرة بعتبة الباب فشجت جبهته، وسال الدم من جرحه، فأشار النبي صلوات الله وسلامه عليه لعائشة رضوان الله عليها أن تزيل الدم عن جرحه فلم تطب نفسها لذلك. فقام إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه وجعل يمص شجته، ويمج الدم وهو يطيب خاطره بكلمات تفيض عذوبة وحناناً.

وكما أحب الرسول صلوات الله عليه أسامة في صغره فقد أحبه في شبابه. فلقد أهدى حكيم بن حزام أحد سراة قريش لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلة ثمينة شراها من اليمن بخمسين ديناراً ذهباً كانت "لذي يزن" أحد ملوكهم. فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقبل هديته لأنه كان يومئذ مشركاً، وأخذها منه بالثمن. وقد لبسها النبي الكريم مرة واحدة في يوم جمعة، ثم خلعها على أسامة بن زيد، فكان يروح بها ويغدو بين أترابه من شبان المهاجرين والأنصار.

ولما بلغ أسامة بن زيد أشده، بدا عليه من كريم الشمائل وجليل الخصائل ما يجعله جديراً بحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد كان ذكياً حاد الذكاء، شجاعاً خارق الشجاعة، حكيماً يضع الأمور في مواضعها، عفيفاً يأنف الدنايا، آلفاً مؤلفاً يحبه الناس، تقياً ورعاً يحبه الله. ففي أحد الأيام جاء أسامة بن زيد مع نفر من صبيان الصحابة يريدون الجهاد في سبيل الله، فأخذ الرسول منهم من أخذ، ورد من رد لصغر أعمارهم، فكان من جملة المردودين أسامة بن زيد، فتولى وعيناه الصغيرتان تفيضان من الدمع حزناً ألا يجاهد تحت راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي غزوة الخندق جاء أسامة بن زيد أيضاً ومع نفر من فتيان الصحابة، وجعل يشد قامته إلى أعلى ليجيزه رسول الله، فرقّ له النبي عليه الصلاة والسلام وأجازه، فحمل السيف جهاداً في سبيل الله وهو ابن خمس عشرة سنة.

وفي يوم حنين حين انهزم المسلمون، ثبت أسامة بن زيد مع العباس عم الرسول، وأبي سفيان بن الحارث ابن عمه وستة نفر آخرين من كرام الصحابة، فاستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الفئة الصغيرة المؤمنة الباسلة، أن يحول هزيمة أصحابه إلى نصر، وأن يحمي المسلمين الفارين من أن يفتك بهم المشركون.

وفي يوم مؤتة جاهد أسامة تحت لواء أبيه زيد بن حارثة وسنه دون الثامنة عشرة، فرأى بعينيه مصرع أبيه، فلم يهن ولم يتضعضع، وإنما ظل يقاتل تحت لواء جعفر بن أبي طالب حتى صرع على مرأىً منه ومشهد، ثم تحت لواء عبد الله بن رواحة حتى لحق بصاحبيه، ثم تحت لواء خالد بن الوليد حتى استنقذ الجيش الصغير من براثن الروم. ثم عاد أسامة إلى المدينة محتسباً أباه عند الله، تاركاً جسده الطاهر على تخوم الشام، راكباً جواده الذي استشهد عليه.

وفي السنة الحادية عشرة للهجرة، أمر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتجهيز جيش لغزو الروم، وجعل فيه أبا بكر، وعمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم من جلة الصحابة، وأمَّر على الجيش أسامة بن زيد، وهو لم يجاوز العشرين بعد. وأمره أن يوطئ الخيل تخوم "البلقاء" و"قلعة الداروم"، القريبة من غزة من بلاد الروم. وفيما كان الجيش يتجهز مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما اشتد عليه المرض، توقف الجيش عن المسير انتظاراً لما تسفر عنه حال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال أسامة: «ولما ثقل على نبي الله المرض، أقبلت عليه وأقبل الناس معي، فدخلت عليه فوجدته قد صمت فما يتكلم من وطأة الداء، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها عليه، فعرفت أنه يدعو لي.

ثم ما لبث أن فارق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الحياة، وتمت البيعة لأبي بكر، فأمر بإنفاذ بعث أسامة. لكن فئة من الأنصار رأت أن يؤخر البعث، وطلبت من عمر بن الخطاب أن يكلم في ذلك أبا بكر، وقالت له: فإن أبى إلا المضي، فأبلغه عنا أن يولّي أَمْرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة. وما إن سمع الصديق من عمر رسالة الأنصار، حتى وثب لها -وكان جالساً- وأخذ بلحية الفاروق وقال مغضباً: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب... استعمله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأمرني أن أنزعه؟! والله لا يكون ذلك. ولما رجع عمر إلى الناس، سألوه عما صنع، فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، فقد لقيت ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله.

ولما انطلق الجيش بقيادة قائده الشاب، شيّعه خليفة رسول الله ماشياً وأسامة راكب، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، فقال أبو بكر: والله لا تنـزل، ووالله لا أركب... وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؟! ثم قال لأسامة: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، وأوصيك بإنفاذ ما أمرك به رسول الله، ثم مال عليه وقال: إن رأيت أن تعينني بعمر فائذن له بالبقاء معي، فأذن أسامة لعمر بالبقاء.

مضى أسامة بن زيد بالجيش، وأنفذ كل ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأوطأ خيل المسلمين "تخوم البلقاء" و"قلعة الداروم" من أرض فلسطين، ونزع هيبة الروم من قلوب المسلمين، ومهد الطريق أمامهم لفتح ديار الشام، ومصر، والشمال الأفريقي كله حتى بحر الظلمات... ثم عاد أسامة ممتطياً صهوة الجواد الذي استُشهد عليه أبوه، حاملاً من الغنائم ما زاد عن تقدير المقدرين، حتى قيل: "إنه ما رئي جيش أسلم وأغنم من جيش أسامة ابن زيد".

ظل أسامة بن زيد ما امتدت به الحياة موضع إجلال المسلمين وحبهم، وفاء لرسول الله، وإجلالاً لشخصه. فقد فرض له الفاروق عطاءً أكثر مما فرضه لابنه عبد الله بن عمر، فقال عبد الله لأبيه: «يا أبتِ، فرضت لأسامة أربعة آلاف وفرضت لي ثلاثة آلاف، وما كان لأبيه من الفضل أكثر مما كان لك، وليس له من الفضل أكثر مما لي. فقال له الفاروق: هيهات... إن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان هو أحب إلى رسول الله منك... فرضيَ عبد الله بن عمر بما فُرض له من عطاء». وكان عمر بن الخطاب إذا لقي أسامة بن زيد قال: مرحباً بأميري... فإذا رأى أحداً يعجب منه قال: لقد أمره علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

رحم الله هذه النفوس الكبيرة، فما عرف التاريخ أعظم ولا أكمل ولا أنبل من صحابة رسول الله.

المصدر: مجلة الوعي

زيد بن حارثة رضي الله عنه


بسم الله الرحمن الرحيم

مضت سُعْدى بنتُ ثَعْلَبَة تبتغي زيارة قومها بني معن، وكانت تصحب معها غلامها زيد بن حارثة الكعبي. فما كادت تحل في ديار قومها حتى أغارت عليهم خيل لبني القَيْنِ فأخذوا المال، واستاقوا الإبل، وسبوا الذراري... وكان في جملة من احتملوه معهم ولدها زيد بن حارثة. وكان زيد إذ ذاك غلاماً صغيراً يدرج نحو الثامنة من عمره، فأتوا به سوق عكاظ وعرضوه للبيع فاشتراه ثري من سادة قريش هو حكيم بن حَزَام بن خويلد بأربعمائة درهم. واشترى معه طائفة من الغلمان، وعاد بهم إلى مكة. فلما عرفت عمته خديجة بنت خويلد بمقدمه، زارته مسلمة عليه، مرحبة به، فقال لها: يا عمة، لقد ابتعت من سوق عكاظ طائفة من الغلمان، فاختاري أياً منهم تشائينه، فهو هدية لك. فتفرست السيدة خديجة وجوه الغلمان... واختارت زيد بن حارثة، لما بدا لها من علامات نجابته ومضت به.

وما هو إلا قليل حتى تزوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرادت أن تُطْرِفه وتُهدي له، فلم تجد خيراً من غلامها الأثير زيد بن حارثة فأهدته إليه. وفيما كان الغلام المحظوظ يتقلب في رعاية محمد بن عبد الله، ويحظى بكريم صحبته، وينعم بجميل خلاله. كانت أمه المفجوعة بفقده لا ترقأ لها عبرة، ولا تهدأ لها لوعة ولا يطمئن لها جنب. وكان يزيد أسًى على أساها أنها لا تعرف أحي هو فترجوه أم ميت فتيأس منه... أما أبوه فأخذ يتحراه في كل أرض، ويسائل عنه كل ركب، ويصوغ حنينه إليه شعراً حزيناً تتفطر له الأكباد حيث يقول في بعضه:

بكيتُ على زيد ولم أدرِ ما فعلْ أحي فيُرجى أم أتى دونه الأجلْ؟
فوالله ما أدري وإني لسائلٌ أغالك بعدي السهلُ أم غالك الجبلْ
تُذَكِّرُنيه الشمسُ عند طلوعِها وتعرضُ ذكراه إذا غربها أفلْ
سأعمل نَصَّ العيس في الأرض جاهداً ولا أسأَمُ التَّطوافَ أو تسأم الإبلْ
حياتيَ، أو تأتي عليَّ منيَّتي فكل امرئٍ فانٍ وإن غرَّهُ الأملْ

وفي موسم من مواسم الحج قصد البيت الحرام نفر من قوم زيد، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، إذا هم بزيد وجهاً لوجه، فعرفوه وعرفهم وسألوه وسألهم، ولما قضوا مناسكهم وعادوا إلى ديارهم أخبروا حارثة بما رأوا وحدثوه بما سمعوا. فما أسرع أن أعد حارثة راحلته، وحمل من المال ما يفدي به فلذة الكبد وقرة العين، وصحب معه أخاه كعباً، وانطلقا معاً يغذان السير نحو مكة، فلما بلغاها دخلا على محمد بن عبد الله وقالا له: يا ابن عبد المطلب، أنتم جيران الله، تفكون العاني، وتطعمون الجائع، وتغيثون الملهوف. وقد جئناك في ابننا الذي عندك، وحملنا إليك من المال ما يفي به. فامنن علينا، وفاده لنا بما تشاء.

فقال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن ابنكما الذي تعنيان؟»، فقالا: غلامك زيد بن حارثة. فقال: «وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟» فقالا: وما هو؟! فقال: «أدعوه لكم، فخيروه بيني وبينكم، فإن اختاركم فهو لكم بغير مال، وإن اختارني فما أنا -والله- بالذي يرغب عمن يختاره». فقالا: لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف. فدعا محمدٌ زيداً وقال: «من هذان؟». قال: هذا أبي حارثة بن شُراحيل، وهذا عمي كعب. فقال: «قد خيرتك: إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أقمت معي». فقال في غير إبطاء ولا تردد: بل أقيم معك. فقال أبوه: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على أبيك وأمك؟! فقال: إني رأيت من هذا الرجل شيئاً، وما أنا بالذي يفارقه أبداً. فلما رأى محمد من زيد ما رأى، أخذ بيده وأخرجه إلى البيت الحرام، ووقف به بالحِجْر على ملأٍ من قريش وقال: يا معشر قريش، اشهدوا أن هذا ابني يرثني وأرثه... فطابت نفس أبيه وعمه، وخلفاه عند محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعادا إلى قومهما مطمئني النفس مرتاحي البال. ومنذ ذلك اليوم أصبح زيد بن حارثة يدعى بـ"زيد بن محمد"، وظل يدعى كذلك حتى بعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأبطل الإسلام التبني، فأصبح يدعى: زيد بن حارثة.

لم يكن يعلم زيد -حين اختار محمداً على أمه وأبيه- أي غُنْمٍ غنمه. ولم يكن يدري أن سيده الذي آثره على أهله وعشيرته هو سيد الأولين والآخرين، ورسول الله إلى خلقه أجمعين. وما خطر له ببال أن دولةً إسلاميةً ستقوم على ظهر الأرض فتملأ ما بين المشرق والمغرب بِراً وعدلاً، وأنه هو نفسه سيكون اللبنة الأولى في بناء هذه الدولة العظمى... لم يكن شيء من ذلك يدور في خلد زيد... وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء... والله ذو الفضل العظيم.

ذلك أنه لم يمضِ على حادثة التخيير هذه إلا بضع سنين حتى بعث الله نبيه محمداً بدين الهدى والحق، فكان زيد بن حارثة أول من آمن به من الرجال. وهل فوق هذه الأوَّلية أوَّلية يتنافس فيها المتنافسون؟! لقد أصبح زيد بن حارثة أميناً لسر رسول الله، وقائداً لبعوثه وسراياه، وأحد خلفائه على المدينة إذا غادرها النبي عليه الصلاة والسلام.

وكما أحب زيد النبي وآثره على أمه وأبيه، فقد أحبه الرسول الكريم صلوات الله عليه وخلطه بأهله وبنيه، فكان يشتاق إليه إذا غاب عنه، ويفرح بقدومه إذا عاد إليه، ويلقاه لقاءً لا يحظى بمثله أحد سواه. فها هي ذي عائشة رضوان الله عليها تصور لنا مشهداً من مشاهد فرحة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلقاء زيد فتقول: «قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه الرسول عرياناً -ليس عليه إلا ما يستر ما بين سرته وركبته- ومضى إلى الباب يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله. ووالله ما رأيت رسول الله عرياناً قبله ولا بعده».

وقد شاع أمر حب النبي لزيد بين المسلمين واستفاض، فدعوه بـ"زيد الحب"، وأطلقوا عليه لقب "حِبِّ" رسول الله، ولقبوا ابنه أسامة من بعده بحب رسول الله وابن حبه. وفي السنة الثامنة من الهجرة شاء الله -تباركت حكمته- أن يمتحن الحبيب بفراق حبيبه. ذلك أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما بلغ الحارث "مؤتة" بشرقي الأردن، عرض له أحد أمراء الغساسنة شُرَحْبِيل بن عمرو فأخذه، وشد عليه وثاقه، ثم قدمه فضرب عنقه. فاشتد ذلك على النبي صلوات الله وسلامه عليه إذ لم يُقتل له رسول غيره. فجهز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل لغزو مؤتة، وولى على الجيش حبيبه زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد فتكون القيادة لجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر كانت إلى عبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله فليختر المسلمون لأنفسهم رجلاً منهم. ومضى الجيش حتى وصل إلى "معان" بشرقي الأردن. فهب هِرَقْلُ ملك الروم على رأس مائة ألف مقاتل للدفاع عن الغساسنة، وانضم إليه مائة ألف من مشركي العرب، ونزل هذا الجيش الجرار غير بعيد من مواقع المسلمين. بات المسلمون في "معان" ليلتين يتشاورون فيما يصنعون. فقال قائل: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا وننتظر أمره. وقال آخر: والله -يا قوم- إننا لا نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة وإنما نقاتل بهذا الدين. فانطلقوا إلى ما خرجتم له. وقد ضمن الله لكم الفوز بإحدى الحسنيين: إما الظفر... وإما الشهادة. ثم التقى الجمعان على أرض مؤتة، فقاتل المسلمون قتالاً أذهل الروم وملأ قلوبهم هيبةً لهذه الآلاف الثلاثة التي تصدت لجيشهم البالغ مائتي ألف. وجالد زيد بن حارثة عن راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلاداً لم يعرف له تاريخ البطولات مثيلاً حتى خرقت جسده مئات الرماح فخر صريعاً يسبح في دمائه. فتناول منه الراية جعفر بن أبي طالب وطفق يذود عنها أكرم الذود حتى لحق بصاحبه. فتناول منه الراية عبد الله بن رواحة فناضل عنها أبسل النضال حتى انتهى إلى ما انتهى إليه صاحباه. فأمَّر الناس عليهم خالد بن الوليد -وكان حديث إسلام- فانحاز بالجيش، وأنقذه من الفناء المحتم.

بلغت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنباء مؤتة، ومصرع قادته الثلاثة فحزن عليهم حزناً لم يحزن مثله قط. ومضى إلى أهليهم يعزيهم بهم. فلما بلغ بيت زيد بن حارثة لاذت به ابنته الصغيرة وهي مجهشة بالبكاء، فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى انتحب. فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا بكاء الحبيب على حبيبه».

المصدر: مجلة الوعي


بلال بن رباح (رضي الله عنه)


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: علي وعمار وبلال

مؤذن الإسلام ومزعج الأصنام بلال بن رباح الحبشي (أبو عبد الله)، الشديد السمرة، النحيف الناحل المفرط الطول، الكث الشعر، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه، إلا ويحني رأسه ويغض طرفه ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل: «إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً».

ذهب يوماً (رضي الله عنه) يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما: «أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، إن تزوجونا فالحمد لله، وإن تمنعونا فالله أكبر».

قصة إسلامه

إنه حبشي من أمة سوداء، كان عبداً لأناس من بني جُمَحٍ بمكة، حيث كانت أمه إحدى إمائهم وجواريهم، ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، وكان يصغي إلى أحاديث سادته وأضيافهم، ويوم إسلامه كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر (رضي الله عنه) معتزلين في غار، إذ مر بهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان، فأطلع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رأسه من الغار وقال: «يا راع هل من لبن؟» فقال بلال: ما لي إلا شاة منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم. فقال رسول الله: «إيت بها». فجاء بلال بها، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقعبه، فاعتقلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلب في القعب حتى ملأه، فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحفل ما كانت. ثم قال: «يا غلامُ، هل لَكَ في الإسلامِ؟ فإني رسولُ الله». فأسلم، وقال: «اكتم إسلامك». ففعل وانصرف بغنمه، وبات بها وقد أضعف لبنها [أي زاد]، فقال له أهله: لقد رعيت مرعًى طيباً فعليك به، فعاد إليه ثلاثة أيام يسقيهما، ويتعلم الإسلام، حتى إذا كان اليوم الرابع، فمر أبو جهل بأهل عبد الله بن جدعان فقال: إني أرى غنمك قد نمت وكثر لبنها؟ فقالوا: قد كثر لبنها منذ ثلاثة أيام، وما نعرف ذلك منها؟ فقال: عبدكم، وربِّ الكعبة، يعرف مكان ابن أبي كبشة، فامنعوه أن يرعى المرعى، فمنعوه من ذلك المرعى.

افتضاح امره

دخل بلال يوماً الكعبة وقريش في ظهرها لا يعلم، فالتفت فلم ير أحداً، أتى الأصنام وجعل يبصق عليها ويقول: خاب وخسر من عبدكنّ، فطلبته قريش فهرب حتى دخل دار سيده عبد الله بن جدعان فاختفى فيها، ونادوا عبد الله بن جدعان فخرج فقالوا: أصبوت؟ قال: ومثلي يقال له هذا؟ فعلي نحر مئة ناقة للات والعزى، قالوا: فإن أسودك صنع كذا وكذا.
فدعا به فالتمسوه فوجدوه، فأتوه به فلم يعرفه، فدعا راعي ماله وغنمه فقال: من هذا؟ ألم آمرك أن لا يبقى بها أحد من مولديها إلا أخرجته؟ فقال: كان يرعى غنمك، ولم يكن أحد يعرفها غيره، فقال لأبي جهل وأمية بن خلف: شأنكما به فهو لكما، اصنعا به ما أحببتما. (وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف الذي رأى في إسلام عبد من عبدانهم لطمة جللتهم بالخزي والعار، ويقول أمية لنفسه: إن شمس هذا اليوم لن تغرب إلا ويغرب [يغيب] معها إسلام هذا العبد الآبق!!).

العذاب

وبدأ العذاب، فقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر متسعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقون به فوقه، ويصيح به جلادوه: اذكر اللات والعزى، فيجيبهم: أحد أحد. وإذا حان الأصيـل أقاموه، وجعلوا في عنقـه حبلاً، ثم أمروا صبيانهـم أن يطوفوا به جبال مكـة وطرقها، وبلال (رضي الله عنه) لا يقول سوى: أحد أحد. قال عمار بن ياسر: كل قد قال ما أرادوا -ويعني المستضعفين المعذبين قالوا ما أراد المشركون- غير بلال. ومر به ورقة بن نوفل وهو يعذب ويقول: أحد أحد، فقال: يا بلال، أحد أحد، والله لئن مت على هذا لأتخذن قبرك حناناً (أي بركة).

الحرية

ويذهب إليهم أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) وهم يعذبونه، ويصيح بهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم يصيح في أمية: خذ أكثر من ثمنه واتركه حراً. وباعوه لأبي بكر الذي حرره من فوره، وأصبح بلال من الرجال الأحرار.

الهجرة

و بعد هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين إلى المدينة، آخى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بين بلال وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشرع الرسول للصلاة أذانها، واختار بلال (رضي الله عنه) ليكون أول مؤذن للإسلام.

غزوة بدر

وينشب القتال بين المسلمين وجيش قريش وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الإسلام، غزوة بدر، تلك الغزوة التي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون شعارها: أحد أحد. وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف عبد الرحمن بن عوف صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحتمى به وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته، فلمحه بلال فصاح قائلاً: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي طالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبدالرحمن بن عوف: أي بلال، إنه أسيري. ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين فصاح بأعلى صوته في المسلمين. يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. وأقبلت كوكبة من المسلمين وأحاطت بأمية وابنه، ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئاً، وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف نظرة طويلة ثم هرول عنه مسرعاً وصوته يصيح: أحد أحد.

يوم الفتح

وعاش بلال مع الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) يشهد معه المشاهـد كلها، وكان يزداد قرباً من قلب الرسـول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وصفه بأنه رجل من أهل الجنة. وجاء فتح مكة، ودخل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، ويؤذن بلال فيا لروعة الزمان والمكان والمناسبة.

فضله

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني دخلت الجنة، فسمعت خشفة بين يدي، فقلت: يا جبريل، ما هذه الخشفة؟ قال: بلال يمشي أمامك. وقد سأل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالاً بأرجى عمل عمله في الإسلام فقال: لا أتطهر إلا إذا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: إلى علي وعمار وبلال.

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني اعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وعلي وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر والمقداد وحذيفة وسلمان وعمار وبلال وابن مسعود وأبو ذر.

وقد دخل بلال على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتغدى فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغداء يا بلال، فقال: إني صائم يا رسول الله، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): نأكل رزقنا، وفضل رزق بلال في الجنة، أشعرت يا بلال أن الصائم تسبح عظامه، وتستغفر له الملائكة ما أكل عنده.
وقد بلغ بلال بن رباح أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال: كيف تفضلوني عليه، وإنما أنا حسنة من حسناته!!

الزواج

جاء بني البكير إلى رسـول اللـه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: زوِّج أختنا فلاناً، فقال لهم: أين انتم عن بلال؟ ثم جاؤوا مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكِحْ أختنا فلاناً، فقال لهم: أين أنتم عن بلال؟ ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكِحْ أختنا فلاناً، فقال: أين أنتم عن بلال؟ أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ فأنكحوه.
وأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة بلال فسلم وقال: أثَم بلال؟ فقالت: لا،قال: فلعلك غضبى على بلال! قالت: إنه يجيئني كثيراً فيقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما حدثك عني بلال فقد صدقك بلال، بلال لا يكذب، لا تُغضبي بلالاً فلا يقبل منك عمل ما أغضبت بلالاً.

بلال من المرابطين

وذهب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى، ونهض بأمر المسلمين من بعده أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، وذهب بلال إلى الخليفة يقول له: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله، قال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال؟ قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، قال أبو بكر: ومن يؤذن لنا؟ قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع: إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله، قال أبو بكر: بلِ ابقَ وأذِّنْ لنا يا بلال، قال بلال: إن كنت قد اعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له، قال أبو بكر، بل أعتقتك لله يا بلال. ويختلف الرواة في أنه سافر إلى الشام حيث بقي مرابطاً ومجاهداً، ويروي بعضهم أنه قبل رجاء أبي بكر وبقي في المدينة، فلما قبض وولي الخلافة عمر، استاذنه وخرج إلى الشام.

الرؤيا

رأى بلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً، فركب إلى المدينة، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذن في السحر. فعلا سطح المسجد، فلما قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، خرج النساء من خدورهن، فما رؤي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.

الأذان الأخير

وكان آخر أذان له يوم توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما زار الشام أمير المؤمنين عمر  توسل المسلمون إليه أن يحمل بلالاً على أن يؤذن لهم صلاةً واحدةً، ودعا أمير المؤمنين بلالاً، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها، وصعد بلال وأذن فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبلال يؤذن، بكوا كما لم يبكوا من قبل أبداً، وكان عمر أشدهم بكاءً.

وفاته

مات بلال في الشام مرابطاً في سبيل الله كما أراد ورفاته تحت ثرى دمشق على الأغلب سنة عشرين للهجرة.

أبو أحمد - تفوح - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

أبو عبيدة عامر بن الجراح (رضي الله عنه)



بسم الله الرحمن الرحيم


كان وضيء الوجه، بهي الطلعة، نحيل الجسم، طويل القامة، خفيف العارضين: ترتاح العين لمرآه، وتأنس النفس للقياه، ويطمئن إليه الفؤاد. وكان إلى ذلك رقيق الحاشية، جم التواضع، شديد الحياء، لكنه كان إذا حزب الأمر وجدَّ الجِدُّ يغدو كأنه الليث عادياً. فهو يشبه نصل السيف رونقاً وبهاءً، ويماثله حدةً ومضاءً. ذلكم هو أمين أمة محمد، عَامِرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الجَرَّاحِ الفِهْرِيُّ القُرَشِيُّ، المكنّى بأبي عبيدة. نعته عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) فقال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها حياء، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذِّبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح.

كان أبو عبيدة من السابقين الأولين إلى الإسلام، فقد أسلم في اليوم التالي لإسلام أبي بكر، وكان إسلامه على يدي الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.

عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية في مكة من بدايتها إلى نهايتها، وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها وآلامها وأحزانها ما لم يعانٍهٍ أتباع دين على ظهر الأرض، فثبت للابتلاء، وصدق الله ورسوله في كل موقف. لكن محنة أبي عبيدة يوم بدر فاقت في عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين.

انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى، فهابه المشركون، ويجول جولة من لا يحذر الموت، فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه... لكن رجلاً منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه، فكان أبو عبيدة يتحرف عن طريقه ويتحاشى لقاءه. ولجَّ الرجل في الهجوم، وأكثر أبو عبيدة من التنحي، وسد الرجل على أبي عبيدة المسالك، ووقف حائلاً بينه وبين قتال أعداء الله. فلما ضاق به ذرعاً ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين، فخر الرجل صريعاً بين يديه. ترى من يكون هذا الرجل الصريع؟.. ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة. لم يقتل أبو عبيدة أباه وإنما قتل الشرك في شخص أبيه. فأنزل الله سبحانه وتعالى في شأن أبي عبيدة وشأن أبيه قرآناً فقال -علت كلمته-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة 22].

لم يكن ذلك عجيباً من أبي عبيدة، فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه، والأمانة على أمة محمد مبلغاً طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله. حدَّث محمد بن جعفر، قال: قدم وفد من النصارى على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا أبا القاسم ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا ليحكم بيننا في أشياء من أموالنا اختلفنا فيها، فإنكم عندكم معشر المسلمين مرضيون. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين. قال عمر بن الخطاب: فرحت إلى صلاة الظهر مبكراً، وإني ما أحببت الإمارة حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت... فلما صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر، جعل ينظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يقلب بصره فينا حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه فقال: «اخرج معهم فاقضِ بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه»، فقلت: ذهب بها أبو عبيدة.

ولم يكن أبو عبيدة أميناً فحسب، وإنما كان يجمع القوة إلى الأمانة، وقد برزت هذه القوة في أكثر من موطن:
برزت يوم بعث الرسول جماعةً من أصحابه ليتلقوا عيراً لقريش، وأمّر عليهم أبا عبيدة رضي الله عنهم وعنه، وزودهم جراباً من تمر، لم يجد لهم غيره، فكان أبو عبيدة يعطي الرجل من أصحابه كل يوم تمرة، فيمصها الواحد منهم كما يمص الصبي ضرع أمه، ثم يشرب عليها ماءً، فكانت تكفيه يومه إلى الليل.

وفي يوم أحد حين هزم المسلمون وطفق صائح المشركين ينادي: دلُّوني على محمد... دلُّوني على محمد... كان أبو عبيدة أحد النفر العشرة الذين أحاطوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليذودوا عنه بصدورهم رماح المشركين. فلما انتهت المعركة كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كسرت رباعيته وشج جبينه وغارت في وجنته حلقتان من حلق درعه، فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعهما من وجنته فقال له أبو عبيدة: أقسم عليك أن تترك ذلك لي، فتركه، فخشي أبو عبيدة إن اقتلعهما بيده أن يؤلم رسول الله، فعض على أولاهما بثنيته عضاً قوياً محكماً فاستخرجها ووقعت ثنيته... ثم عض على الأخرى بثنيته الثانية فاقتلعها فسقطت ثنيته الثانية... قال أبو بكر: «فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً» (الأهتم من انكسرت ثنيتاه).

لقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن وافاه اليقين. فلما كان يوم السقيفة، قال عمر بن الخطاب لأبي عبيدة: ابسط يدك أبايعك، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إن لكل أمة أميناً، وأنت أمين هذه الأمة». فقال أبو عبيدة: ما كنت لأتقدم بين يدي رجل أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤمنا في الصلاة فأمنا حتى مات. ثم بويع بعد ذلك لأبي بكر الصديق، فكان أبو عبيدة خير نصيح له في الحق، وأكرم معوان له على الخير. ثم عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلى الفاروق فدان له أبو عبيدة بالطاعة، ولم يعصه في أمر، إلا مرة واحدة. فهل تدري ما الأمر الذي عصى فيه أبو عبيدة أمر خليفة المسلمين؟! لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة بن الجراح في بلاد الشام يقود جيوش المسلمين من نصر إلى نصر حتى فتح الله على يديه الديار الشامية كلها... فبلغ الفرات شرقاً وآسيا الصغرى شمالاً. عند ذلك دهم بلادَ الشام طاعونٌ ما عرف الناس مثله قط فجعل يحصد الناس حصداً... فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجه رسولاً إلى أبي عبيدة برسالة يقول فيها: إني بدت لي إليك حاجة لا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إلي، وإن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك ألا يمسى حتى تركب إلي. فلما أخذ أبو عبيدة كتاب الفاروق قال: قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي، فهو يريد أن يستبقي من ليس بباق، ثم كتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلي، وإني في جند من المسلمين ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم... ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره... فإذا أتاك كتابي هذا فحللني من عزمك، وائذن لي بالبقاء. فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه، فقال له من عنده لشدة ما رأوه من بكائه: أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، ولكن الموت منه قريب. ولم يكذب ظن الفاروق، إذ ما لبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون، فلما حضرته الوفاة أوصى جنده فقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا، فإن المرء لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم التفت إلى معاذ بن جبل وقال: يا معاذ، صل بالناس. ثم ما لبث أن فاضت روحه الطاهرة، فقام معاذ وقال: أيها الناس، إنكم قد فجعتم برجل -والله- ما أعلم أني رأيت رجلاً أبرَّ صدراً، ولا أبعد غائلة (الشر والحقد الباطن) ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه، فترحموا عليه يرحمكم الله.

المصدر: مجلة الوعي