الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 37- 39 و الأخيرة



الطريق السوي

قلنا إن النهضة هي الرقي الفكري ، والفكر الراقي هو الفكر المتصف بالشمول والعمق بحيث يشمل الوجود بكامله – الكون والحياة والإنسان- هذا من حيث الشمول . أما من حيث العمق فلتقرير حقيقة هذا الوجود – أهو أزلي أم مخلوق لخالق – وبناء على ذلك فإن النهضة لا يمكن أن تتحقق إلا بمبدأ يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها مبيناً الأساس الفكري في حياة الناس ، والذي يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة .

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً }الأنعام(79) مسلماً وما أنا من المشركين،{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}البقرة(156).
هذه هي الإجابة عن معنى وجودنا في الحياة { إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}الأنعام(162) . أي إن العقيدة التي هي أساس المبدأ ، هي أساس حياة الفرد وأساس حياة المجتمع وأساس حياة الدولة . هذه العقيدة هي ((الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر )).

من هذه العقيدة تنبثق كافة المعالجات لمشاكل الإنسان ، وتبين له علاقاته الثلاث ، علاقته مع خالقه بالعبادات وعلاقته مع نفسه بالعبادات وعلاقته مع غيره في المعاملات . فلم تترك شريعتنا أمراً إلا بينته ، ولا عملاً إلا بينت حكمه فهي منهج حياة كامل ، يحاسب الإنسان على ما كسب أو اكتسب في هذه الحياة بموجب هذا المنهج { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}الزلزلة(8)، { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}البقرة(284).

كما إنها بينت أن عمل الإنسان الأساسي هو حمل هذه الرسالة ، وتأدية هذه الأمانة ونشر هذا الدين . { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }فصلت(33)، وقال تعالى :{ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }النحل(125). وقال :{ قل إن كان أبناؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }التوبة(24)، ويقول :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}المجادلة(22)، الآية .

ولم تقتصر عقيدة المبدأ على المعالجات وحمل الدعوة بل بينت ما يلي :-
كيفية إيصال هذا المبدأ لواقع الحياة ، وإنهاض الأمة على أساسه ، وبناء الدولة التي توجده في معترك الحياة وتحمله للعالم وذلك بالأمر باقتفاء طريق الرسول ، وسيرته والمراحل التي مر بها. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }الأحزاب(21).
بينت كذلك طريقة تنفيذ المحافظة على المبدأ والمحافظة على العقيدة والمحافظة على المجتمع والمحافظة على الدولة بأحكام بلغت حد القتل على من يحاول هدم هذه العقيدة أو المجتمع أو الدولة . وأوكلت لمن أنابه المسلمون عنهم . تولي تنفيذ هذه الأحكام .
بينت تنفيذ المعالجات فلم تتركها وصايا وإرشادات ومواعظ بل أمرت رئيس الدولة أن ينفذ هذه الأحكام سواء أكانت من العبادات أو الأخلاق أو المعاملات . فأمرت بتنفيذ العقوبة بكل من يقصر في العبادات في الصلاة أو الصوم أو الزكاة . كما أمرت بإيقاع العقوبة على من يقوم بأي عمل مناف لصفات المسلمين وأخلاقهم . أو من أكل طعاماً حراماً أو شرب شراباً حراماً فلم تترك له حرية الأكل أو الشرب .

كما إنها أوقعت العقوبات الرادعة لأية مخالفة شرعية في الحفاظ على أرواح الناس وكرامتهم وأنسابهم وأموالهم مثل قتل القاتل وجلد القاذف وقتل الزاني المحصن وقطع يد السارق . كما إنها حافظت على أمن الجماعة وطمأنينتهم في حياتهم بإيقاع العقوبات الزاجرة على المفسدين في الأرض . كالقتل والتصليب وقطع الأطراف والنفي من الأرض .
أما بالسبة لحمل الدعوة فقد أوجبت ذلك على المسلمين جميعاً وأوجبت على من أنابوه عنهم الإعداد لتجهيز الجيوش ، وقتال الكفار لتطبيق حكم الإسلام عليهم أو حفظ علاقات المسلمين معهم كالمعاهدات وأخذ الجزية وغير ذلك . وقد بينت ذلك في عشرات الآيات من القرآن الكريم وعشرات الأحاديث الشريفة .

وللوصول إلى الرقي الفكري –أي النهضة – فقد حدد الإسلام الثقافة التي على المسلم أن يتثقف بها . والكيفية التي تؤخذ بها هذه الثقافة . أما الثقافة الإسلامية فهي :

أولاً : ما جاءت به العقيدة الإسلامية . كالكتاب والسنة .

ثانياً : ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه . كعلوم اللغة العربية .
أما ما جاءت به العقيدة الإسلامية فهو مجموعة النصوص التي تضمنها كتاب الله وشرحها وتفسيرها ، وتبيان أفكارها وأحكامها . وتوضيح الحجج والبراهين التي لا تدع مجالاً للشك بأن الكتاب والسنة وحي من الله وأن ما جاء به محمد رسول الله لم يكن إلا وحياً من عند الله ، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات والأحاديث .

وأما ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه – فالمعروف أن الكتاب نزل باللغة العربية ، وأحاديث محمد هي باللغة العربية ، ولا يمكن فهمها إلا باللغة العربية ولهذا كانت دراسة اللغة العربية بكافة فروعها مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .
كذلك فإن تتبع الأحداث ومعرفة الواقع وفهم ما يستجد لإنزال الأحكام الشرعية عليها أو لبيان حكم الله فيها أو إظهار مخالفتها لأفكار الإسلام وأحكامه ، فإن هذا مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

كذلك فإن المعارف التاريخية بحقائقها وأحداثها لمعرفة واقع الأمة الإسلامية عبر العصور وكيفية تطبيق الخلفاء للإسلام ، ومعرفة البلاد التي ارتفعت عليها راية الإسلام وما يترتب على ذلك من أحكام، فإن ذلك مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

وأخيراً فإن معرفة الواقع الدولي والعلاقات الدولية وما يحيط ببلاد المسلمين من أحداث كذلك مما تقتضيه العقيدة الإسلامية ، حتى يتمكن المسلمون من أداء دورهم في الحياة وتقديم الشهادة على الناس .
أما طريقة أخذ هذه المعارف جميعها فلابد من أن تؤخذ أخذاً فكرياً بحيث تتبلور إلى مفاهيم تؤثر بسلوك الناس وتسيرهم في الطريق السوي وذلك بـ :

أولاً : أن يدرك الواقع الذي يراد معالجته إدراكاً ينفي عنه كل غموض ويزيل عنه كل التباس ويبعد عنه العموم أو الاشتباه .

ثانياً : أن يدرك واقع النصوص أو الأفكار وما تحويه من معان بحسب معانيها اللغوية أو الاصطلاحية أو الشرعية ،والموضوع الذي جاءت به إدراكاً يبين ما حوت من علل أو شروط أو موانع أو أسباب.

ثالثاً : أن يجري التصديق بها وذلك بقياسها إلى القاعدة الفكرية أي العقيدة الإسلامية وما جاءت به من أدلة ومقاييس تصديقاً يحولها في نفس الإنسان من أفكار لها واقع إلى مفاهيم . أي إلى أفكار أُدرِك واقعها وجرى التصديق به ، حتى تؤثر في سلوك الفرد .

رابعاً : أن تؤخذ هذه المعارف للعمل بها ، وحملها إلى العالم أجمع .

خامساً: وأن يكون ذلك كله بطريقة مثيرة مؤثرة ، أما كونها مثيرة فإن تجسيد الواقع بحيث يصبح ملموساً لدى الشخص يثير نحوه المشاعر والأحاسيس ، ويشد الانتباه له وأما كونها مؤثرة فإنزالها على هذا الواقع بشكل دقيق ويربطها بالدليل الذي استنبطت منه ، أي ربطها بالعقيدة أي القاعدة الفكرية التي آمن بها يجعلها مؤثرة فيه دافعة له للعمل .

ونتيجة طبيعية لسلوك هذا الطريق ، أن توجد في الأمة طريقة للتفكير منتجة مبنية على قاعدة فكرية صحيحة ، تؤدي إلى النهضة والارتقاء الفكري وبما أن الفكر لا يطيق أن يبقى حبيساً في النفس إذ لابد أن يظهر أثره في الحياة لأنه أخذ بطريقة سليمة أي أخذ عن إدراك واقعه ، وإدراك الواقع الذي ينطبق عليه . وجرى التصديق به بالإضافة إلى كونه أخذ للعمل به . لا للترف الفكري أو المباهاة ، ولذلك فإنه يصبح طبيعياً قائداً لمن آمن به مسيراً لسلوكه ، أي أصبح قيادة فكرية ، ينقاد بها الناس ويقودون بها غيرهم .

وبذلك تكون عقيدتهم قاعدة فكرية لهم يبنون عليها أفكارهم عن الوجود والحياة وتكون كذلك قيادة فكرية تنبثق منها نظمهم وأحكامهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . وساروا في طريق الكمال أي في طريق الرقي والنهضة ، وعرف الناس معنى وجودهم في الحياة .

هذه هي النهضة ، وهذه هي الكيفية التي توصل لها والحمد لله رب العالمين . اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .


النهضة صفحة 33-37



المعاناة

بسم الله الرحمن الرحيم { والعصر ، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر.

وبعد نزول الوحي على رسول الله لأول مرة ، ذهبت به زوجته خديجة رضوان الله عليها ، إلى عمها ورقة بن نوفل ليسأله عما رآه وسمعه ، قال ورقة : إن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران ، ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك ، فأنصرك نصراً مؤزراً ، قال رسول الله :(( أو مخرجي هم يا عماه ، قال ورقة :نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )).
وقال :(( ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا حيث دار ، ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فالزموا الكتاب ألا وإنه سيولى عليكم أمراء ضالون مضلون ، إن اتبعتموهم أضلوكم وإن خالفتموهم قتلوكم ، قالوا فماذا نفعل يا رسول الله ، قال كما فعل أصحاب عيسى شدوا على الخشب ونشروا بالمناشير فو الذي نفس محمد بيده لميتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته ))(رواه أبو نعيم في دلائل النبوة.) .

كما قص الله سبحانه وتعالى من قصص الأنبياء على رسوله مبيناً له ما لاقى إخوانه من الأنبياء من الصد والتكذيب والإيذاء ، وما كانت مواقف أولي العزم منهم ، وذلك ليثبت به فؤاد رسول الله ، ويقول له :{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }الأحقاف(35) ، فالناس هم الناس ، وعملية التغير عليهم تلاقي ما لاقى سلفها ، من إهمال ورد وتكذيب وصد ومحاربة بل إننا لنكاد نسمع من الناس اليوم ما قاله قوم نوح عليه السلام :{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل }هود(27). هو نفس الكلام الذي يسمعه حملة الدعوة اليوم .

ولهذا كان على العاملين لإنهاض أمتهم ورفعة شأنها وتغيير ما في نفوسها حتى يغير الله واقعها {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }الرعد(11) . كان على هؤلاء العاملين أن يوطدوا العزم ويشحذوا الهمم لمجابهة خصومهم ، ودحر أعدائهم مقتدين برسول الله متوكلين على الله . ولقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ، مذكراً المؤمنين بما لاقوا من عنت ، وما جابهوا من أخطار { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26)، نعم عليهم، أي مريدي النهضة أن يضعوا في حسابهم ما لاقى الرسول الله وأصحابه الكرام . كيف كان ابتلاء الله لهم ، وكيف كانت مواقفهم . مجاهدة النفس وبناؤها . وحملها على ما فرض الله عليها من علم وعمل ، علم بما تريد ، وما تدعو له ، وعمل لإيجاد ذلك في واقع الحياة مع ما في ذلك من جهد ومثابرة ،ومع ما فيه من محنة وابتلاء فإعداد النفس ووضعها في مركز المسؤولية والقيادة لهذه الأمة يحتم معرفة ما تتطلبه المسؤولية وما يلزم للقيادة .

إن من أوجب ما تطلبه المسؤولية والقيادة مسؤولية مباشرة عن ألف مليون مسلم ومسؤولية مستقبلية عن العالم بكامله ، ليتحقق قوله تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143).
إن من أوجب ما تتطلبه المسؤولية هو العلم بما تريد وإلا فكيف يكون المسؤول مسؤولاً عن قوم ولا يدري ما هي مسؤوليته ؟ وكيف يمكن أن ينقاد القوم لهذا المسؤول وهو لا يدري لأي اتجاه يقودهم؟ وصدق من قال (( إن الأمة لا تعطي قيادتها لجاهل ولا جبان )) ولا يعني ذلك أن أبقى ساكتاً حتى ألم بالعلم كله بل المسألة أن أعقد العزم على معرفة ما يلزمني وما أحتاجه في مسؤوليتي والعمل بما بلغني أو عرفت فقد كان رسول الله يبلغ ما سمعه من الوحي وما أوحى له به ربه ، غير منتظر استكمال المعرفة وتمام العلم وقد استمر في الدعوة والتبليغ والتنفيذ ثلاثاً وعشرين سنة ، فقد كان يبلغ الآية أو السورة أو الحديث بمجرد فراغ الوحي منه . فقد قال عليه الصلاة والسلام (بلغوا عني ولو آية))(رواه البخاري والإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر) وقال: ((نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ))(رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن حبار في صحيحه عن ابن مسعود).

هذا من حيث الفرد وأما من حيث الكتلة فإنه ومن أوجب واجباتها كذلك أن تعي ما تريد وأن تدرك مسؤوليتها وتعرف مكانتها وإمكانية قيادتها لشبابها وللأمة بل وللعالم حين توجد في مركز المسؤولية الفعلية وهذا يحتم عليها وضع المخطط الهندسي كاملاً لما تريد لتربي شبابها على أساسه وتأخذ ثقة الأمة وقيادتها بموجبه مدركة لما يجري في العالم من حولها من وقائع وأحداث ، لتضع لها الحلول المناسبة والمعالجات الصحيحة فالأحداث والوقائع لا تتوقف . واتخاذ المواقف تجاهها أو وضع الحلول والمعالجات لها أمر لازم اقتداء لما جاء في القرآن الكريم وتنزله على الوقائع والأحداث وكشفه لما يحاك من خدع ومؤامرات وتصديه فكرياً لما يجري من أمور حتى ذاك الذي نهى صاحبه عن الصلاة نزلت الآية الزاجرة له { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16)، ولذا كان عليها أي على الكتلة أن تبدي رأيها في الأحداث والوقائع وتتخذ منها ما يجب من المواقف لا تأخذها في الله لومة لائم فلا تمالئ حاكماً ولا تتزلف إلى زعيم ولا تسكت على منكر { ودوا لو تدهن فيدهنون }القلم(9) .

هذه هي مجاهدة النفس بالعلم والصبر على المكاره مثل ما حصل مع بلال الحبشي ضرب بلال الحبشي رضوان الله عليه مرة وما أكثر ما ضرب وعذب فضاقت نفسه وذهب لرسول الله شاكياً وقال يا رسول الله لو دعوت عليهم فسكت رسول الله وسار به حتى استند إلى جدار الكعبة وقال له يا بلال إني لأرجو الله أن تسير الجارية بغنمها من اليمن إلى الفرات لا تخشى عليها إلا الله والذئب . درس يلقنه رسول الله لأصحابه للارتفاع إلى مستوى المسؤولية والقيادة . أما قوله لآل ياسر (( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))مختصر سيرة ابن هشام ص(57) وترد سمية أم عمار بقولها كأني أراها أمامي يا رسول الله فهذا درس آخر ومن نوع آخر وهو احتمال الأذى والصبر على المكاره .

المعاناة في معاداة الولد والأهل والأقارب :
وظلم ذوي القربى أشد مضاعفة على النفس من وقع الحسام المهند

إنها سنة الله في خلقه فقد قص الله على رسوله ما حدث مع الأنبياء السابقين فهذا سيدنا نوح ابتلي بزوجته وولده { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما }التحريم(10)، وقال الله تعالى :{ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين }هود(42)، وقص قصص الأقوام وما فعلوا بأنبيائهم وقص عليه ما فعلت بنو إسرائيل وقتلهم أنبيائهم بغير حق ،{ ولن تجد لسنة الله تبديلا }فاطر(43). ورسولنا وقدوتنا ماذا لاقى من عشيرته من الابتلاء ؟ هذا عمه أبو لهب وامرأته ، وهذه قريش ومواقفها ، وهاهم العرب جميعاً يرمون عن قوس واحدة ، وهذا دعاؤه حين عودته من الطائف: (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل في غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ))(سيرة ابن هشام ج1ص420) أو كما قال .

وبنظرة بسيطة إلى صحابته الكرام ومعاداة أولادهم ، أو آبائهم أو أمهاتهم أو أقاربهم لهم خير مثال ، فهذا أبو بكر ابتلي بأبيه وابنه ، وهذا أبو عبيدة ابتلي بأبيه ، وهذا سعد ابن أبي وقاص ابتلي بأمه، وهاهم جمهرتهم يهاجرون إلى الحبشة فراراً بدينهم ، ليس لهم ناصر من أهليهم وأقاربهم إلا الله وكفى بالله وكيلا . هذا ما على الكتلة وشبابها من معاناة وصبر على مجابهة الأهل والأقارب ، وما يجب عليهم اتخاذه من مواقف ، حيال هذا الأمر ، فلا يتوقع الفرد أو الكتلة المؤازرة أو التأييد والنصرة إلا بعد الامتحان والثبات .

المعاناة والصبر تجاه الناس :

من البدهي أن يقف الناس موقف عداء وتصد لكل فكر جديد يريد أن يغير عليهم نمط عيش ألفوه ، وطراز حياة اتخذوه بالإضافة إلى تغيير كامل في العلاقات التي تربطهم بعضهم ببعض ويتكون على أساسها مجتمعهم وبنيت عليها مصالحهم ونظمهم ، وتوحدت على ذلك أحاسيسهم ومشاعرهم ولنا في رسول الله أسوة حسنة . فلم تكن دعوته للوحدانية وعبادة الله هي التي أثارت غضب قريش والعرب ، فقد كان غيره يدعو لذلك مثل جماعة الحنيفية ، كورقة بن نوفل ، والقس بن ساعدة الإيادي الذي كان يخطب في سوق عكاظ ويقول ( يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً خيراً من دينكم الذي أنتم عليه ) فلم تعاده العرب ولم تتصد له لأنه لم يتعرض إلى العلاقات القائمة بينهم ، ولا إلى مصالحهم ونمط عيشهم وحياتهم ، ولكنهم حين سمعوا من رسول الله يقول لهم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) وسمعوا منه ما جاء به من قرآن أدركوا أبعاد ذلك ، وتبين لهم أنه إنما يريد تغيير وجهة نظرهم للحياة ، وهدم ذلك الكيان ، وبناء كيان جديد على أسس جديدة ، ونظرة للحياة جديدة ، وفي هذا القضاء على مصالحهم وانتفاء زعامتهم ، وجعل الحاكمية لله أي لغيرهم .

ومن هنا كانت ثورتهم ومعاداتهم وعملهم للقضاء على هذه الدعوة ، وكانت المجابهة بين الرسول وصحبه من جهة ، والقريش والعرب من جهة ثانية ، وكان تعذيب المستضعفين أمثال بلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن مسعود وغيرهم ، وكانت هجرة القادرين عليها ، أمثال جعفر وعثمان وعبد الله بن جحش وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ، وما أجمل ما وصف به رب العالمين هذه المعاناة والصبر عليها بقوله :{ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26) ، فقد بلغ الحال أن يخشى الفرد على نفسه ، وتخشى الكتلة على نفسها من أن يتخطفها الناس ويزيلوها من الوجود ، وما تحالفت عليه قريش من مقاطعة ، وحبس الرسول ومن معه ، ومن أيده في شعاب مكة ، في شعب أبي طالب إلا ضرب من ضروب المقاومة ، وأسلوب من أساليب التصدي .

وعليه ؛ فإن أية كتلة أو حزب يعمل على تغيير المجتمع ، أو تغيير العلاقات القائمة بين الناس ، وتغيير النظام الذي ينتظم تلك العلاقات ، وتغيير وجهة نظر الناس في الحياة ، وبناء مجتمع على أفكار ومشاعر جديدة ، ويسير علاقات الناس بأحكام جديدة ويمنع نظاماً ينظم العلاقات بأسس وقواعد جديدة ، ويقوم على رعاية الناس بنمط جديد ، ويوجد عندهم وجهة نظر معينة تبين لهم معنى وجودهم في الحياة .

إن أية كتلة أو حزب يقوم على هذه الأمور عليه أن يضع في حسبانه أن الإهمال والمقاطعة وقطع الأعناق ، وقطع الأرزاق ، هي بعض ما يلاقي في نضاله وعمله لإيجاد فكرته في واقع الحياة { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر(10) وهنا يأتي وصفهم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر(3)، أو قوله تعالى :{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عينهم تريد زينة الحيوة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }الكهف(28).
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }الزمر(10).

المعاناة مع النظام والحكام :

إن الهدف هو إيجاد الإسلام في واقع الحياة ، أي جعل أحكام الإسلام هي المسيرة لسلوك الفرد ، والمنظمة لعلاقات المجتمع ، وأن تكون السيادة للشرع ، وأن يحمل الإسلام للعالم حتى تقوم الحجة على الناس ، وأن يخرج الناس من الظلمات إلى النور . هذا معنى إيجاد الإسلام في واقع الحياة . وهذا يعني بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع ، وإقامة دولة تتولى تطبيق الإسلام في الداخل وحمله دعوة إلى العالم .

إن هذه العملية وإن كانت تقوم على بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع من أفكار ومشاعر ، فتبين فساد العلاقات القائمة بين الناس ، سواء منها العلاقات القائمة بين الأفراد بعضهم مع بعض ، أو العلاقات القائمة بين الناس والهيئة التنفيذية – السلطة – أو فساد العلاقات بين أجهزة الهيئة التنفيذية وصلاحية كل جهاز . إن هذه العملية وإن كانت تقوم على ذلك بالفكر فقط ، وبوضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج ، إلا أن ذلك يزعج القائمين على تنفيذ النظام ، ويثير حفيظتهم ، ويدفعهم لمحاولة القضاء على تلك الدعوة بشتى الأساليب وأقلها السجن ، لأنهم يدركون أن وجود هذه الفكرة في الأمة إنما تعني زوال ملكهم وضرب مصالحهم .

إن فرعون مضرب المثل عند الناس بالطغيان والجبروت ، لما قام به من ظلم وتجبر ولما لحق الناس منه من إذلال واستخفاف، حتى طلب من الناس عبادته { ما علمت لكم من إله غيري }القصص(38) ووصفه رب العالمين أنه كان من المفسدين ، وأنه كان طاغية إلى غير ذلك – إلا أن هذا الفرعون الطاغية الجبار قبل مقارعة الحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان . قال تعالى على لسان فرعون { فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى }طه(50). عند ذلك التفت فرعون إلى خاصته ومستشاريه وقال :{ إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى }طه(63)، وقال له مستشاروه { أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحَّار عليم}الشعراء(37) ، فالتفت فرعون إلى موسى وقال له : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى . قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى }طه(50) . فما أروع هذا الحوار الذي ورد في سورة طه بين موسى عليه السلام وهذا الطاغية .

سبحان الله إن هذا الفرعون الموصوف بالطغيان والجبروت يقبل بمقارعة الحجة ويقبل البرهان على مرأى ومسمع من الناس . فإن كان مثل هذا من يوصف بالظلم والجور والتعسف فبماذا نصف القائمين على رقاب الناس في هذه الأيام . الذين لا يقبلون نقد أي حكم أو قانون ، أو نظام ينظم علاقات الناس ، وما جزاء من يفعل ذلك إلا السجن والتعذيب أو القتل أو التشريد ، هذا هو الواقع الذي يتحتم على الكتلة العاملة مجابهته . وليس هناك أي طريق آخر يمكن أن يؤدي إلى بناء الأمة ، وإصلاح المجتمع وتغيير النظام ، وإيجاد الفكرة في واقع الحياة . ذلك لأن المجتمع إنما يقوم على العلاقات الدائمة بين الناس ، وانتقاد أي علاقة إنما يعني انتقاد النظام القائم ، وانتقاد النظام القائم يعني العمل على إزالته ، والعمل على إزالة النظام بنظر الحاكم جريمة ، وفاعلها بنظر القانون مجرم يستحق العقاب ، وعملية تغيير ما عليه المجتمع من علاقات تقضي بوجوب إظهار فساد العلاقات ، وفساد النظام . ولهذا وجبت المعاناة والصبر ، ولهذا كان الأجر عظيماً والثواب جزيلاً (( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم فقتله )) وهل أعظم أجراً وأجزل ثواباً من مصاحبة سيد الشهداء – حمزة بن عبد المطلب – أسد الله ، وعم رسول الله .

فكيف يجمع بين النقيضين ، فالعمل يعني إظهار الحق وإزهاق الباطل ، وهذا إنما يعني إظهار فساد العلاقات القائمة بين الناس والنظام الراعي لهذه العلاقات . سواء أكانت علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ، فالدستور والقوانين هي التي حددت هذه العلاقات وبينت كيفية تسييرها ، من السير في الشارع إلى كلمة التي يقولها ، ومن سلعة يبيعها أو بيت يستأجره أو بضاعة يستوردها أو يستوردها أو امرأة يتزوجها ، أو تركة يرثها أو مدرسة يؤمها ، أو مادة يدرسها فكلها علاقات نظمها القانون وقام الحاكم على تنفيذه . وإظهار أية مفسدة في ذلك إنما يعني إظهار مفاسد الحاكم والأجهزة القائمة على التنفيذ ، وهذه جريمة تؤدي بصاحبها إلى السجن أو القتل . وإيثار السلامة يقتضي القعود عن العمل . فكيف نوفق بين العمل والسلامة ؟ فالعمل يعني السجن والاضطهاد ، والقعود يعني الإثم وسخط رب العباد .

والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعمل :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وقال رسول الله : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم }(رواه البزار والطبراني في الأوسط)، ويقول : (( الساكت عن الحق شيطان أخرس))، أو كما قال . فكيف نوفق بين العمل والسجن ، بين طاعة الله والسلامة. هذا ما تقتضيه المعاناة والصبر والتواصي بالصبر . وهذا ما يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة . إما الخسران المبين ، وإما العمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك هو الفوز العظيم.

ورحم الله من قال : (( والله لو لم أجد مقاومة من أهلي وأقرب الناس إلي ، ولو لم أجد مقاومة وصدوداً من الناس ، ومقاومة ومحاربة من النظم القائمة في العالم الإسلامي لشككت في الطريق الذي أسلكه لأن المقياس الثابت عندي قوله : (( لا راحة بعد اليوم يا خديجة ))، ومنهجي الوحيد طريقته التي سلكها ، وما قصه الله عليه من سير الأنبياء والمرسلين الأولين وما لاقوا من أقوامهم وأهلهم . وما أجود كلمة ورقة بن نوفل حين قال للرسول ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزراً . قال رسول الله : (( أو مخرجي هم يا عماه ، قال نعم ، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )). { سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}الأحزاب(62).
قال تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143) ، وقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ….}آل عمران(110) الآية .

أية أمة هذه ؟

إنها الأمة الإسلامية بدليل ما كتبه علي بن أبي طالب وما أملاه عليه محمد رسول الله في أول دستور مكتوب موقع عليه من علية القوم . حين هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة ، فكانت أول مادة فيه هي التعريف بهذه الأمة ، حيث جاء فيها : محمد رسول الله والذين معه من المؤمنين المسلمين أمة واحدة من دون الناس . هذه هي الأمة التي جعلها الله أمة وسطا . أي خير أمة أخرجت للناس ، تحتل مركز الصدارة في العالم حتى تستطيع أن تقوم بالمهمة التي كلفت بها ، أي الشهادة على الناس ، تماماً كالمهمة التي قام بها محمد . فقد كان في مركز الصدارة في هذه الأمة فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده . وترك في هذه الأمة الأمان من الضياع والوقاية من الضلال ، فقال عليه السلام : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ))حديث صحيح رواه الحاكم برواية عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه شهادة رسول الله على أمته ، وحجته عليهم فأين شهادة أمته على الناس ؟. وقد بكى رسول الله حين سمع قوله تعالى :{ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }النساء(41) . وقال للقارئ((حسبك)).

لقد تولى هذا الأمر رسول الله طيلة حياته ، حتى إذا اختار الرفيق الأعلى ، ترك هذا الأمر لأمته . فنهضت به وتولى قيادتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فأقام الشهادة على فارس والروم ، وسار في أثره عمر وتتابع بعده الخلفاء والأمراء حتى أقاموا الشهادة على الناس في ذلك العصر بحق . فكانوا أمة وسطا – كانوا الدولة الأولى التي تحتل مركز الصدارة في العالم ، وتقيم الحجة على الناس وتبلغ ما بدأ به . { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا }سبأ(28) . فحملت دعوة الإسلام وبلغتها إلى أمم الأرض قاطبة ، من حدود الصين شرقاً إلى مياه الأطلسي غرباً ومن تركستان وسمرقند وأذربيجان مروراً بآسيا الوسطى حتى أسوار فينا في أواسط أوروبا ، ومن جبل طارق إلى سهل بواتييه قرب باريس . واستمر الحال على هذا المنوال ما استمروا متصفين بما أمرهم الله به – يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – فلما زاغوا ودب فيهم الوهن وابتعدوا عما أمروا به واقتربوا مما نهوا عنه ، وضعفت جذوة الإيمان في نفوسهم وساء فهمهم لمعنى وجودهم في الحياة ، ومعنى كونهم مسلمين ، كما ساء فهمهم للإسلام ، وانخفض تفكيرهم بل انحط في كثير من الأمور فانتشرت فيهم أمراض التجزئة والتخلف والانحطاط كالقومية والقبلية والوطنية والإقليمية والعصبية فدالت دولتهم وكسرت شوكتهم وهدمت دولتهم بل هدموا دولتهم ومزقوا راية مجدهم وتهافتوا على موائد الأمم يلتقطون من فتاتها ما يلم شعثهم ويقيم أودهم .

وورثنا نحن اليوم هذه التركة . والمطلوب هو { لتكونوا شهداء على الناس }البقرة(143) وهل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نوجد الإسلام في واقع الحياة ، هل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نستأنف نحن الحياة الإسلامية دون دولة تقيم الحدود وتحمي الثغور وترعى الشؤون ، وتطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمل الإسلام إلى أمم الأرض لتقيم عليها الحجة فتحقق بذلك الشهادة عليها ، أي أنها بلغت هذه الدعوة لكافة الأمم ، وبسطت سلطان الإسلام على الأرض وأظهرت أحكامه وبينت عقائده وأفكاره فلم يبق لأحد حجة على الله ، وهي الشاهدة على ذلك .

ورثنا هذه التركة ، أكثر من ألف مليون مسلم في أكثر من خمسين دولة ليس للإسلام فيها سلطان ، بل ليس له وجود في حياة الناس العامة ، أفراد اقتصر المؤمنون منهم على العبادات والأخلاق – إلا من رحم ربي – ومجتمعات تسودها الأفكار الرأسمالية والشيوعية والآراء الانهزامية والنفاق واللامبالاة ، وتنتابها المشاعر الوطنية والقومية والعصبية الروحية ودول تحكم بالأنظمة الرأسمالية والرأسمالية المرقعة والمصيبة الكبرى أنها جميعها مسيرة بإمرة الكفار وعملائهم .

وقادة سياسيون وتكتلات سياسية على اختلاف مشاربها تتسابق وتتناحر للحصول على مكاسب رخيصة وتحقيق أهداف آنية أنانية لم تعرف للنهضة أساساً ولم تستبن لها طريقاً . لا تجد عندها إلا شعارات لأفكار عامة لم تضع لنفسها منهجاً على الأقل يبين ما تريد نقل المجتمع إليه وإنهاضه على أساسه كما أنها لم توضح طريقة لها إلا المظاهرات ورفع الشعارات وممالأة الحكام والتزلف إليهم أو معاداتهم والتصدي لهم حسب مقتضى الحال وما يتطلبه تحقيق مصلحة أو ترضية الشارع معلمين الناس أن السياسة إنما هي خداع وتضليل ونفاق وتزلف للوصول إلى الأهداف وتحقيق الآمال . والأنكى من ذلك أنهم يرون وجوب الاستعانة بالكفار لتحقيق مآربهم والوصول إلى مقاصدهم أو على الأقل لا يرون غضاضة في ذلك دون أن يعلموا أنه انتحار سياسي . هذه هي التركة التي ورثناها وهذا هو واقع الأمة التي نريد التعامل معها لإنهاضها .



النهضة صفحة 29-32


السير في طريق النهضة

قلنا : إن النهضة لا يمكن أن توجد إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها أي حتى يعرف كيف ينظم علاقاته ويحدد سلوكه ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس أو من الكائنات الحية الأخرى أو من الأشياء المادية التي يحتاجها فهو إنسان يعيش مع غيره من البشر ومع أمم أخرى من المخلوقات الأخرى على هذه الأرض في هذا الكون الشاسع فكيف يتعامل مع الناس أو مع الكائنات الحية الأخرى أو مع الأشياء لقضاء حاجاته أو إشباع رغباته إن لم يكن له وجهة نظر في هذه الحياة التي يحياها ومعرفة لهذه الحياة وموقعه منها .

ولهذا كان لا بد أن يسبق إجابته عن معنى وجوده في الحياة معرفة حقيقية لهذه الأشياء جميعها . أي أن تكون له فكرة أساسية عن الإنسان والكائنات الحية والكون ،أي لا بد أن تكون له فكرة أساسية شاملة عن هذه الأشياء جميعها .تكون هذه الفكرة الأساسية قاعدة لتفكيره ،ومنطلقاً لكل مفهوم عن هذه الحياة ومنظماً لكل سلوك أو علاقة .هذا إن أراد أن ينهض حقاً ويرتقي إلى المكانة التي كرمه الله بها .أي لمستوى إنسان فيرتفع بما حباه الله من عقل عن مكونات جسمه الحياتية أي التي شارك فيها غيره من الموجودات في التركيب العنصري أو المادي .أما إن أراد أن يخلد إلى الأرض ويلتصق بها ويعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى كالأنعام مثلاً_ فاليصم أذنيه عما يسمع وليغمض أذنيه عما يرى وليتخل عن النعمة التي اختصه الله تعالى بها أي القلب لينطبق عليه قوله تعالى :{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ،أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) أو قوله تعالى :{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان وكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث }الأعراف(176).

ولهذا : كان على مريدي النهضة أن تكون لهم فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها جميعها بما بعد الحياة الدنيا أي أن تكون لهم عقيدة عقلية تكون أساساً لتفكيرهم وتنبثق عنها كافة أنظمتهم وقوانينهم وتحدد لهم وجهة نظرهم في الحياة – أي تحدد لهم الأساس الذي يتصرفون بموجبه مع الناس والأشياء . هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن تشمل هذه القاعدة الفكرية على الأسس التي تبين كيفية تنفيذ هذه النظم والقوانين ،كما يجب أن تحتوي هذه القاعدة الفكرية على الطريقة التي تبين كيفية إيجادها في واقع الحياة، وإيصالها للناس كافة وبعبارة مختصرة أن يكون لهم مبدأ ينقادون له ويقودونه ويقودون به غيرهم من البشر وهذا يقتضي أن يكونوا هم بمجموعهم كأنهم المبدأ الحي الذي يسير في الناس فهم وثقافتهم وسلوكهم المرآة التي تنطبع عليها صورة المبدأ الذي يحملونه والفكرة التي يدعون لها . كما أن عليهم – وعملهم هو إنهاض الأمة ونقل المجتمع إلى الحالة الأفضل – أن يكونوا على معرفة بالواقع الذي يعملون فيه ، معرفة تمكنهم من وضع العلاج المناسب ، أو وصف العلاج المناسب لكل مسألة أو حادثة أو واقع من الأمراض الأساسية أو الجانبية التي تنخر جسم الأمة وتمزق المجتمع وتسمم أجواءه ولا يكفي أن تكون العقيدة وفهم أفكارها وأحكامها كل ما يعرفون أو يدعون إليه ولتفصيل ذلك نقول إن عليهم ما يلي :-

من المعروف أن حمل الدعوة الإسلامية فرض على كل مسلم فهي الرسالة المكلف بتبليغها ونشرها بين الناس (( لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )). أو كما قال وفي رواية ((خير لك مما طلعت عليه الشمس )) رواه الطبراني عن ابن رافع. وقال تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ))النحل(125) . إلا أن المسألة ليست مسألة حمل دعوة وحسب بل هي مسألة حمل دعوة من أجل غاية معينة أي بناء أمة وإنهاضها على أساس معين وإقامة دولة تجعل الإسلام موجوداً في واقع الحياة ، وبعبارة أخرى هي مسألة توعية للمسلمين لتنفيذ حكم شرعي معطل ، وهو مبايعة الخليفة (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية ))(1) أي أن يكون حمل الدعوة من أجل غاية معينة وتحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يأتي بالعمل الفردي والوعظ والإرشاد . فلا بد أن يكون هذا العمل في كتلة واستبعاد العمل الفردي من أذهان الناس .وهذا معنى وجوده في هذه الحياة أي أنه يعيش من أجل ذلك من أجل أداء هذه الرسالة وتبليغها للناس وإيجادها في واقع الحياة .

فهم المبدأ بفكرته وطريقته وأعني بذلك أخذ العقيدة أخذاً عقلياً يقينياً ومبنياً على العقل وفهم ما انبثق عن العقيدة من أحكام ومعالجات ومعرفة الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى نشرها وتبليغها للناس . كما أعني فهم ما جاءت به هذه العقيدة وما انبثق عنها من أحكام تبين كيفية المحافظة على المبدأ نفسه وكيفية تنفيذ ما جاءت به من معالجات وأحكام . ومعرفة الكيفية المحددة لنشر المبدأ نفسه وهيمنته ونشره للناس كافة . أي بسط سلطان الإسلام – المبدأ – على الناس حتى يؤمنوا به .

معرفة الكيفية- الطريقة – التي يتمكن من إيجاد المبدأ في الحياة . من نقطة ابتداء الفكرة عند شخص أو أشخاص مروراً بإيجاد تكتل يقوم على الفكرة وبناء هذا التكتل بناء فكرياً – أي تثقيف حملة هذا المبدأ وأعضاء هذا التكتل بثقافة محددة موحدة بحيث يصبح كل فرد فيه هو المبدأ نفسه هذا مع الاحتكاك بالناس ودعوتهم إليه وأخذ ثقتهم بالمبدأ وبحملة المبدأ-التفاعل- ووصولاً إلى إمكانية وضع هذه الأحكام والمعالجات موضع التنفيذ أي الحكم وبذلك يوجد المبدأ في واقع الحياة تماماً كما فعل رسول الله وهذا يقتضي التفريق بين كيفية إيصال المبدأ إلى الحياة أي إلى الحكم وبين كيفية تنفيذ أحكام المبدأ ونشره أي مباشرة الحكم بكافة أحكامه من محافظة على المبدأ أو تنفيذ للمعالجات ورعاية شؤون الناس إلى حمل هذا المبدأ للعالم بالجهاد .

وقد سار الرسول بالكيفية الأولى ابتداء من نزول الوحي إلى الهجرة وإقامة الدولة أي إلى إيجاد هذا المبدأ في واقع الحياة . ومن ثم قام بالجزء الثاني أي الجانب العملي من الطريقة فباشر تنفيذ أحكام هذا المبدأ فبنى بذلك أرقى مجتمع عرفه التاريخ وأقام نهضة لم يشهد العالم لها مثيلاً . وبذلك يجب أن تكون طريقة الرسول بجزأيها مع وضوح التفريق بينهما لوضع كل جزء في مكانه يجب أن تكون هي الطريقة التي تحمل بها الدعوة الآن .

وبالنظر في طريقة الرسول نجد أنه أوجد تكتلاً سياسياً يقوم على المبدأ أي على عقيدة واحدة وفكرة واحدة وقد كان ذلك واضحاً جلياً في كلمة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول (( لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة ولا إمارة بلا طاعة )) وهذا نفي للعمل الفردي ومنافاة للإسلام حين العمل لتحقيق هدف معين فكيف إذا كان الهدف قد حدده المبدأ وطبيعة العمل تقتضي وجود جماعة بإمارة وليس المقصود أية جماعة بأية إمارة بل المقصود جماعة سياسية وإمارة سياسية كذلك أما كونها سياسية فذلك للأمور التالية :

أ- إن الغاية التي وجدت من أجلها هذه الكتلة والفرض الذي أوجب وجودها هو تغيير المجتمع ونقله إلى الوضع الأفضل -أي إنهاض المجتمع – ولما كان المجتمع مكوناً من جماعة من الناس لهم أعراف عامة ونظام ينظم شؤونهم إلا أن هذه الأعراف وهذا النظام دون المستوى اللائق والمراد هو رفعة شأن هؤلاء الناس فلا بد من رفعة شأن أعرافهم – وأفكارهم ومشاعرهم وتغيير النظام الفاسد الذي ينتظمهم-ووضع النظام الذي يصلح شأنهم ويتفق مع ما يحملونه من عقيدة وأفكار أي تغيير هذا الكيان السياسي الفاسد وما يقوم عليه من أفكار ومشاعر ونظام ووضع كيان سياسي صالح يحل محله . ولذلك لابد أن تكون هذه الكتلة التي تعمل للنهضة كياناً فكرياً سياسياً حتى تستطيع أن تحقق غايتها وتصل إلى هدفها . لأن فاقد الشيء لا يعطيه .

ب - أما الأعمال التي على الكتلة القيام بها في عملية التغيير هذه – النهضة - فهي جميعها أعمالاً سياسية فعملية تغيير الأعراف والتقاليد والأفكار التي تتحكم في علاقات الناس تتطلب تثقيف الناس ثقافة سياسية تتناول جميع الأفكار والأحكام التي تريد أن تبني المجتمع على أساسها أي تتناول المسير للعلاقات الدائمة التي جعلت جماعة الناس مجتمعاً متميزاً سواء أكانت أفكار حكم أو اقتصاد أو اجتماع أو أمن أو تعليم أو غير ذلك انطلاقاً من قاعدتها الفكرية – العقيدة – وهذا يعني جعل العقيدة التي تعتقدها الأمة عقيدة سياسية تتناول كافة شؤونهم الحياتية وعلاقاتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية .

ج - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لفساد العلاقات والنظم والقوانين التي تنتظم هذه العلاقات وهذا يعني التعرض للهيئة التنفيذية القائمة على تنفيذ هذه النظم والقوانين وتصدي الدولة لهذه الكتلة وأعضائها أمر حتمي وهذا هو الكفاح السياسي.

د - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لما في المجتمع من أفكار مخالفة لها أولما في المجتمع من عادات وتقاليد أو مفاهيم أو كتل وأحزاب مخالفة لما هي عليه وهذا يعني الصراع الفكري بين الكتلة وغيرها من الناس من حملة مثل هذه الأفكار المغلوطة والآراء الفاسدة . وهذا كذلك عمل سياسي.

هـ - قوله ( من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم ))(2) ، أو قوله عليه الصلاة والسلام:
(( من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرمات الله ناكثاً لعهود الله حاكماً في عباد الله بغير ما أنزل الله ولم يغير عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مدخله ))(3) ، وعشرات الأحاديث التي توجب على المسلم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا أيضاً عمل سياسي .
أو قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وعلى رأس الواجب إن أول من تأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر هم ولاة الأمور أي الحكام . وهذا كذلك قمة العمل السياسي .

هذه بعض موجبات أن تكون الكتلة العاملة لإنهاض المجتمع والأمة كتلة سياسية . وجميع أعمالها وأفكارها . أعمالاً وأفكاراً سياسية .

أن تقوم هذه الكتلة بتحديد فكرتها وأهدافها تحديداً يجلو عنها كل غموض ويزيل عنها كل إبهام بالإضافة إلى حرصها على صفاء فكرتها ونقائها وذلك بربط كل فكر أو حكم أو رأي لها بدليل من الكتاب أو السنة أو مما أرشدا إليه -الكتاب والسنة – من أدلة . بحيث تبدو للعيان أنها مستنبطة مما جاء به الوحي كما تحرص على نقائها بإبعاد كل فكر أو حكم أو رأي ليس منهما - الكتاب والسنة – فتزيل ما ألحق بها في العصر الهابط أو غيره من أحكام وآراء وأفكار وقواعد وعقائد لا تمت إليها بصلة . أو بصلة واهية هذا من حيث الصفاء والنقاء . وأما من حيث تحديد أهدافها وأفكارها وأحكامها وآرائها فلا بد لها أن تحدد كيفية تسيير أعمالها بموجبها أي أن تتخذ لها قاعدة عملية ثابتة مثل (( أن يسبق كل عمل فكر وأن يكون من أجل غاية معينة وفي جو إيماني ))، أي فكر أولاً ،يتبعه عمل من أجل غاية ،في جو إيماني وهذا يعني أن يكون ما تتبناه من أفكار . أفكاراً عملية بعيدة عن الخيال والتنظير فالفكر مجرداً عن العمل خيال وتنظير وفلسفة لا جدوى منها وقد امتلأت خزائن المسلمين من مثل هذه الكتب فالمكتبة الإسلامية هي أغنى مكتبة على وجه الأرض .

لذلك لا بد أن تكون أفكارها أفكاراً عملية وتؤخذ هذه الأفكار للعمل بها إلا أن اقتران الفكر بالعمل دون تحديد غاية أو هدف من العمل هو دوران في حلقة مفرغة وقد ابتليت الأمة بمثل هذا الأمر . وهناك جمهرة من الوعاظ والمرشدين الذين يصرخون في الأمة والناس أن اتقوا الله وعودوا إلى ربكم ولم يغيروا من واقع الأمة شيئاً لأنهم يدعون بلا هدف . لذلك لا بد من تحديد الهدف من الفكر والعمل على أن يكون الهدف أو الغاية قد حددته العقيدة نفسها وأن يكون كل ذلك أي الفكر والعمل والهدف المنشود أن تكون جميعها في جو إيماني ذلك لأن صعوبة السير ووعورة الطريق وعنف المقاومة قد تضعف الاندفاع في الكتلة ولذلك لابد من اللجوء إلى الناصر المعين وهو الله سبحانه وتعالى لكي يأخذ بيدها ويثبت أقدامها وهذا لا يتأتى إلا بربط كل فكرة يقوم عليها عمل بأمر الله سبحانه – أي اقتران كل حكم بدليله وبالعقيدة سيراً على نهج القرآن في آيات الأحكام حيث تنتهي الآية بربط الأمر بالله تعالى وبالصفة التي يقتضيها الحكم . مثل قوله تعالى :{ السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم }المائدة(38) ، وهذا يعني أن توضع الفكرة والعمل والهدف وكيفية الوصول إليه والقاعدة التي تنطلق منها كمخطط هندسي قاعدته العقيدة ويحدد شكل البناء وكيفية إقامته تماماً كما يفعل المعمار . فهو حين يتخذ قراره ببناء بناية ما أي حين يحدد هدفه يضع المخطط الهندسي - الخريطة - الذي يبين له طبيعة الأرض التي يريد أن ينشئ عليها البناية ثم يبين شكل البناء الداخلي والخارجي وما فيه من أدوار وما يحتوي من أجنحة وما يحتاج من مواد وتكاليف .

وحين تحدد العقيدة وجوب إيجادها في واقع الحياة ، وتلتزم الكتلة هذا الهدف . فلا بد لها ، أي الكتلة من الوعي على هذا الهدف وعياً كاملاً ، لتنقل إلى الأمة هذا الوعي وهذا التطور ، كي ترتفع الأمة بمجموعها إليه وتعمل على تحقيقه . لا أن تتجاهل وضوحه ، أو أن تبقيه في صدور قادتها بل لابد من وضع ذلك الهدف بكلياته وجزئيا ته تحت أنظار الأمة حتى يتسنى لجميع العاملين والمؤيدين والناس أجمعين ، الذين نريد نقلهم إليه للاطلاع عليه ومعرفته ولا يجوز فيه التعتيم أو التعميم . فمثلاً حين يكون الهدف هو بناء الأمة واستئناف الحياة الإسلامية ، ولا يتأتى ذلك مطلقاً إلا بإقامة دولة إسلامية . فإن هذا قول عام فلا يكفي فلا بد أن تعي الكتلة ومعها الأمة على معنى بناء الأمة ونهضتها وذلك بتوضيح هذا المعنى وشرحه للناس ويتلخص ذلك المعنى بأن يكون للأمة قاعدة فكرية وطريقة تفكير منتجة وحين نقول : استئناف الحياة الإسلامية ، أن تبين هذا القول وما تعنيه به ، أن تعيد ثانية تحكيم الإسلام في علاقات الناس الداخلية والخارجية وأن القول باستئناف الحياة الإسلامية أي العودة إلى تطبيق الإسلام كما طبق منذ عهد الرسول إلى آخر عهد الخلافة ، فالعملية هي استئناف حياة توقفت ، وليست مسألة جديدة ، يراد إيجادها وإنما هي مسألة استئناف لحياة مضت . وحين تقول ذلك عليها أن تبين أن ذلك لا يتأتى إلا بإقامة دولة إسلامية ، ومبايعة الخليفة ، فلا بدلها من توضيح هذا الهدف ، والذي يترتب على وجوده وجود الإسلام في واقع الحياة ونهضة الأمة ، نعم لابد من وضوحه في ذهن الكتلة وتصورها ، كما لا بد من وضوحه في ذهن الأمة وتصورها ، فلابد لها إذن من تحديد معنى الدولة الإسلامية ، وما القواعد التي تقوم عليها ، وما هي أركانها ، وما هي أجهزتها ، وما هي النظم التي تنتظمها ، أي لابد لها من رسم المخطط الهندسي كاملاً بحيث لا يبقى إلا وضع الأشخاص في مراكزهم ، أي لابد أن يكون دستورها بكلياته وجزئياته واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ، أما أن تدعو لأمر لا تعرفه . أو تطلب من الأمة انتقالها إلى واقع تجهله، وتطلب منها الثقة والتأييد ، فهذا ضرب من الخيال وزيادة في الجهل ، ومخالف لقوله تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108).

ومن المعروف بداهة أن فاقد الشيء لا يعطيه ، هذه نقطة . ومن جهة أخرى فمن المعروف أن يكون في المسألة الواحدة أكثر من رأى في معظم الأحيان ، قد تصل حد التناقض ، في الأصول والقواعد ، أو في الفروع والجزئيات ، ولذلك يقتضي أن تختار هذه الكتلة ما يلزمها من أحكام وآراء وأفكار تتبناها وتسير بموجبها ، وتعمل لتنفيذها ، حتى لا تجمع بين النقيضين . ومن المؤكد أن يؤدي عدم تحديد الفكرة إلى الاختلاف والتناقض في الرأي بين أعضائها وبالتالي قد يؤدي إلى انشطار الكتلة إلى كتل وأجنحة لا يجمع بينها إلا اسم الكتلة ، وذلك لأن كل رأي يمكن أن يتكتل عليه جماعة ويدعون له ، وبالتالي فيؤدي إلى تمزيق وحدة الجماعة . ويكفي هذا أن يكون موجباً للتبني وتحديد الفكرة والهدف وخط السير .

مثلاً : في الإسلام آراء فقهية متعددة تتعلق بشخص الخليفة ، الذي هو الركيزة الأولى التي يقوم عليها تطبيق الإسلام ، ووجوده في واقع الحياة فهناك رأي يقول ، إن أي مسلم تتوفر فيه الشروط التالية يجوز له أن يكون خليفة ويجوز للمسلمين أن يولوه أمرهم ، وهذه الشروط هي الإسلام والرجولة والعقل والبلوغ والحرية والعدالة وعلى كل شرط من هذه دليل من الكتاب والسنة ، ولا عبرة لنسبه وقوميته ومدى علمه . وهناك رأي آخر في هذه المسألة يقول: إن الخليفة يجب أن تتوفر فيه هذه الشروط الستة ، شرط أن يكون من قريش ، والدليل على ذلك قوله :(( الأئمة من قريش ))(4) . وهناك رأي ثالث يشترط بالإضافة إلى الشروط الستة بأن يكون الخليفة من آل البيت لقوله تعالى:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }الأحزاب(33) وهناك رأي رابع بوجوب أن يكون مجتهداً ، حتى لا يكون خاضعاً لرأي مجتهد غيره فلا تتوفر فيه الولاية الحقَّة فلو افترضنا أن كتلة ما لم تحدد رأيها في هذه المسألة وكان بين أعضائها ومنتسبيها ومؤيديها من يحمل هذه الآراء الأربعة. وتكتل على هذه الآراء الأربعة جمهرة من المفكرين فيها وقادتها وكل منهم يرى أن رأيه هو الصواب ، فلا يجوز له أن يتنازل عنه لغيره . فإذا وصلت هذه الكتلة إلى الحكم وتنفيذ ما عندها من أحكام وأفكار وآراء ، فأي رأي تأخذ ؟ ومن المؤكد أن كل صاحب رأي سيحاول فرض رأيه ومقاومة الرأي الآخر .وماذا ستكون النتيجة ؟ انشطار الكتلة واختلافها ، إن لم يكن الاقتتال . ولهذا وللحكم الشرعي القائل (( أن حكم الله الواحد للشخص الواحد لا يتعدد )) والكتلة شخصية معنوية حكمها حكم الشخص الواحد فيما هو من صلاحيتها . فلا يجوز مطلقاً أن تتعدد فيها الأحكام والآراء والأفكار والمعتقدات ، وكان تبني ما يلزمها من أفكار وأحكام ومعتقدات هو الصورة الحقيقية لها وهي بمثابة الروح لها ، وعليها يتوقف وجودها حية وبها تأخذ ثقة الناس على بصيرة وتتغير أفكارهم وآراؤهم تبعاً لها ، وبذلك تستطيع أن تكون لها رأياً عاماً تبني عليه أعراف الناس وتقاليدهم ، التي هي الدعامة الأساسية من مقومات المجتمع .

أن تتعامل مع الأفكار الفاسدة والعادات السيئة الموجودة في المجتمع لإزالتها ووضع البديل لها . وهذا يقتضي معرفة ما في المجتمع من أفكار فاسدة وآراء خاطئة وعقائد باطلة حتى تتمكن من دحضها وإظهار فسادها وكشف زيفها وبطلانها ، ولا يصح التعميم في ذلك والقول ( الكفر ملة واحدة )- على صدق هذا القول – بل لابد من مناقشة كل فكرة أو رأي أو معتقد مناقشة فكرية تبين خطأه وتكشف عواره ، نعم إن الكفر ملة واحدة وهذه حقيقة ثابتة وتقرير واقع ، فالدين لا يتجزأ فإما إسلام وإما كفر وليس هناك بين بين . لكن المسألة هنا ليست من أجل تقرير حقيقة ، بل من حيث إزالة الفساد والخطأ والبطلان ، ببيان ذلك وإقامة الحجة عليه بالدليل والبرهان وبنظرة دقيقة في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، بنظرة فيه ، أنه تعامل مع فئات الكفر الموجودة جملة وتفصيلاً فقد تعامل مع كل فئة بما تقول وتدعي ، وبما تؤمن وتعتقد فكانت تنزل الآيات الكريمة لإثبات بطلان تلك الأقوال والمعتقدات ، وإقامة الحجة بالدليل القاطع على الحقيقة المراد إظهارها ، حتى يكون إيمان من يؤمن عن عقل وبينة .

ولم يكتف القرآن الكريم بإظهار عقيدة الإسلام وبيان ما احتوت عليه من حقائق وبراهين ساطعة ، وترك للناس التفكير في ذلك بل ضرب على الأوتار الحساسة المثيرة لهم فهاجم معتقداتهم وسفه أحلامهم وبين غباءهم وجمودهم. وخاطبت آياته كل فئة بما عندها من أفكار ومعتقدات فخاطبت مشركي العرب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومن لف لفهم من عبدة الأوثان ، فهاجمت عبادة الأصنام والوثنية هجوماً لا هوادة فيه ، وعابت على معتقدي ذلك ، وبينت تفاهتهم ، من حيث عدم استعمالهم عقولهم ، ليروا أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع .

ولذلك وصفهم بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) وهل هناك استفزاز وضرب على أوتار حساسة . كما ناقش كل فكرة من أفكارهم سواء من أنكر وجود الله ، أو من اتخذ إلهه هواه أو من عبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى ، ثم بين لهم عبادة الأصنام منذ سالف الزمن فذكر أصنام قوم إبراهيم عليه السلام وكيف حطمها فلم تملك قوة الدفاع عن نفسها كما ذكر أصنام قوم نوح بأسمائها { وقالوا لا تذرون آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا }نوح(23) كما ذكر أسماء بعض آلهة قريش { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }النجم(19) كما ناقش ألوهية من يدعي الألوهية بمثل ضربه عن حوار إبراهيم مع النمرود ، بقوله تعالى :{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}البقرة(258) أو مناقشة موسى مع فرعون ، وهكذا فإنه لم يقتصر على فئة دون أخرى ولم يجملهم جملة واحدة ولم يكتفي بشرح فكرته وعقيدته وما يريده من الناس.

كما إنه أي القرآن الكريم لم يقتصر في هجومه على الأديان والمعتقدات ، بل تعداها لما كانوا يقولون ، أو ما كانوا يقومون به من أعمال والعلاقات التي تنتظم حياتهم ففي الوقت الذي يهاجم فيه الأديان كان يهاجم الأفعال ومل يتحلون به من صفات فقد نجد في سورة قصيرة ما يشمل كل هذا . مثل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون }الماعون ، وكما في قوله تعالى :{ ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين }المطففين(1).

وليقرأ كل منا القرآن الكريم ليتدبر الآيات والسور المكية كيف تناولت المجتمع بما فيه من عقائد وعادات وأعمال كانت تصدر عن العرب المشركين ، بالإضافة إلى لفت النظر ، وتركيز عقيدة الإسلام بالحجة والبرهان ، بأن الله خالق كل شيء ، وأنه منزل هذا القرآن وأنه لا إله إلا هو أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وأن يوم القيامة لا ريب فيه .

ولنتدبر كيف تناولت تلك السور والآيات صنفاً آخر من الكفار هم أهل الكتاب ، فكانت تجمل بينهم وبين مشركي العرب حين يقتضي الإجمال { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة }البينة(1) ، وكقوله تعالى : { وما جعلنا من أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا }المدثر(31) ولكنه يمزج بين اليهود والنصارى ويخاطبهم { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء }آل عمران(64) ، ولكنه يفرد لكل منهما نوعاً خاصاً من المناقشة . وإقامة الدليل على بطلان ما يقول هذا الطرف أو ذاك . فهو يناقش بني إسرائيل ويخاطبهم يا بني إسرائيل حين يكون الأمر متعلقاً بما تدعيه اليهود ويناقشهم في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم وماذا أحدثوا في دينهم ، وما غيروا في كتبهم وما قتلوا من أنبياء الله ظلماً وعدواناً وما طلبوا من أنبيائهم وما امتحنوا به ، حتى ذكرهم القرآن في أكثر من سبع وعشرين سورة ،وفي مواضع مختلفة .

وحين كان يخاطب النصارى منفردين كذلك كان يتناول ما أحدثوا في دينهم ، وما بدلوا من عقائدهم سواء من قال منهم { إن الله ثالث ثلاثة }المائدة(73) ، أو من قال { إن الله هو المسيح بن مريم }المائدة(17) أو الذين قالوا إن المسيح هو ابن الله ويذكرهم بما جاءهم به ليقيم الحجة عليهم ويسرد لهم قصة ولادة عيسى عليه السلام في سورة مريم ، أو في سورة آل عمران مع قصة ذكريا ، ويحيى ومريم في دقة متناهية لا يعرفها إلا من كان له إطلاع عليها ، ومما كان الكثير من العرب إن لم يكن كلهم يجهلونه { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك }هود(49) كما بين أقوال اليهود في عيسى بن مريم ، وما قالوا في النصارى وكذلك ما قال النصارى في اليهود { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }البقرة(113) فلم يترك شيئاً إلا بينه لهم لدحض حجتهم ، وتسفيه أحلامهم ثم يذكر كل منهم على حده ، بأن رسول الله محمد قد ذكر في كتاب كل منهم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }الفتح(29) .

ولم يقف عند حد ما هو موجود عندهم ، بل تعداه إلى ما يجري بينهم من حوار وما يتفوهون به من أقوال ، وما يقومون به من أعمال وما يحوكون من مؤامرات . حين ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً ، وادعت النصارى أن إبراهيم كان نصرانياً بين بعبارة قصيرة سخف ما ذهبوا إليه فقال :{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً }آل عمران(67) وقال :{وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده }آل عمران(65) . أي إن الديانة اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم فكيف يتبع السابق اللاحق . إنه منتهى السخف . كما بين لهم بعض ما يقومون به من أعمال كقتلهم الأنبياء وأكلهم الربا ، والسحت وقد نهوا عنه كما بين تآمرهم على المسلمين. إذ قالوا لجماعتهم آمنوا أول النهار واكفروا آخره ليشككوا المسلمين في صدق نبوة سيدنا محمد ، إلى غير ذلك .

ولما وجدت فئة جديدة لم تكن موجودة قبلاً في مجتمعه ، تناولها بالكشف وبيان ما بيتت في نفوسها. فأفرد لهم سورة سميت باسمهم (( المنافقون )) بالإضافة إلى ذكرهم وصفاتهم وما يبيتون من أمور في مواطن كثيرة وفي سور متعددة . ففي مطلع سورة البقرة مثلاً ، ذكر المؤمنين بأربع آيات وذكر الكفار بآيتين وذكر المنافقين بثلاث عشرة آية ، كما ذكر بناءهم مسجداً ضراراً ، وما أرادوا به من كيد فحرق عليهم رسول الله ذلك المسجد ، حتى إن أحدهم لو قال كلمة فضحه الله بها ، كالذي قال { ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }التوبة(49)، أو قولهم : {لولا يعذبنا الله بما نقول }المجادلة(8) . إلى غير ذلك من الأمور التي تناولها القرآن الكريم ، كشد أزر رسول الله والمؤمنين بذكر سير الأنبياء السابقين ، وما لقوا من أقوالهم .

من هذه التبصرة القصيرة يجب على فئة تدعي أنها تعمل لإنهاض الأمة ، ورفعة شأنها أن تسير بنفس الطريق التي سارها رسول الله ، فتخوض صراعاً فكرياً مع ما في المجتمع من أفكار مغايرة ، ولا يمكنها ذلك قطعاً إلا إذا كان لديها المعرفة الكاملة لهذه الأفكار والمعتقدات ، حتى تتمكن من إثبات بطلانها ، وفساد آرائها ولا يجوز أن تكتفي بطرح ما عندها على الناس لأن في هذا مخالفة لطريق رسول الله وطريقة القرآن الكريم في الصراع الفكري ، وقرع بالحجة والبرهان بالبرهان .

نزل القرآن الكريم على رسولنا منجماً على فترة دامت ثلاثاً وعشرين سنة ولم ينزل جملة واحدة وإنما كان بحسب الظروف والوقائع والأحوال ، ومن هنا كان الواجب على كل فئة تعمل لإنهاض الأمة أن تتعايش مع الأحداث والوقائع والأحوال ، حتى تستطيع أن تعطي رأي الإسلام في كل مسألة أو حادثة أو حالة ، وتتبع الوقائع والأحداث يقتضي معرفة الواقع أو الحادثة معرفة تمكنه من الإحاطة بما يكتنفها من ظروف وأحوال وما يتعلق بها من أسباب وعلل ، حتى يكون الرأي أو الحكم عليها صواباً أو قريباً من الصواب .

وهذا يقتضي معرفة واقع مجتمعنا أولاً ثم معرفة القوى المتصارعة فيه ، والدول المتنافسة على خيراته ، وبسط هيمنتها ونفوذها عليه، ولنا بقصة أبي بكر رضي الله عنه ومراهنته كفار مكة على نتائج الحرب بين الفرس والروم وتدخل القرآن في ذلك خير دليل على وجوب تتبع الوقائع والأحداث ، فهي تبين أن رسول الله ومن معه كانوا كتلة سياسية تعي واقعها وتعرف مجتمعها كما تعي ما يحيط بها . فهذا أبو بكر يراهن كفار مكة على واقع عسكري وسياسي ، بين أكبر دولتين في العالم في ذلك العصر ، الفرس والروم وتأييد الباري عز وجل لمثل هذا الحوار . بسم الله الرحمن الرحيم { ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله }الروم(1) هذا في الصراع الدولي والسياسة الخارجية .

وأما في الوضع الداخلي فما أروع كشف الواقعة التي اجتمع عليها كفار مكة لمناقشتها ويتدبروا أمرهم فيها ، ويرسموا لذلك خطة عمل . وكان الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد ، فحين اجتمع كفار مكة في دار الندوة يتشاورون بشأن رسول الله ودعوته ، وماذا يقولون عنه ، وبماذا يجيبون الأعراب الوافدة إلى السوق ، سوق عكاظ . وقد تزعم المجتمعين الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم ، أو سيد مكة فقالوا يا أبا الوليد ، ماذا نقول للناس ؟ فقال : قولوا حتى أسمع فكانوا يدلون بآرائهم ، والوليد يردها لعدم مطابقتها للواقع . فلما أعياهم الأمر قالوا : قل أنت إذن ، فقطب حاجبيه وعقد ما بين عينيه ، وأخذ يحك دماغه ، ويذرع النادي ذهاباً وإياباً ، حتى توصل إلى كلمة مضللة بليغة ، فقال نقول عنه إنه ساحر بيان ، يقول قولاً يفرق فيه بين المرء وأهله .

وإذ بالوحي يخبر رسول الله بما يدبر هؤلاء ، فينزل فيهم قرآناً يكشف ذلك التآمر ويفضح ما جرى فيه بوصف دقيق رائع ، قال تعالى :{ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن يزيد ، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ، سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ، ثم نظر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، إن هذا إلا قول البشر ، سأصليه صقر}المدثر(26).

هذا ما يجب أن يكون عليه الوعي على الأحداث والوقائع حتى نستطيع أن نعطي حكم الله فيها، أو أن نوضح للأمة ما يجري فيها من أحداث ، أو ما يحاك لها من مؤامرات ، وما يوضع في سبيل الدعوة من عقبات ، قد تكون من أبناء الأمة نفسها أو من أعدائها بيد أبنائها ، أو من أعدائها .

قلنا إن مقومات المجتمع هي العرف العام والنظام . وكما يجب أن تتعامل الكتلة مع الأفكار الفاسدة ، والأحداث الجارية لبيان فسادها وإظهار بطلانها ، وإبعادها عن حياة الناس وتفكيرهم، أن تعمل لإيجاد فكرتها في المجتمع لتكوين رأي عام عليها ، يتكون بموجبه العرف العام . هذا ما يجب أن تتعامل به . كما إنه يجب عليها أن تتعامل مع الركيزة الثانية من مقومات المجتمع وأعني بذلك النظام القائم المتحكم بعلاقات الناس ورعاية شؤونهم ، وإظهار فساده وزيف معالجاته ، وسوء رعايته لشؤون الناس ومخالفته لعقيدتهم وما جاءت به من أحكام . وتحطيم الأسس التي يقوم عليها ذلك النظام . مع طرح البديل وإقامة الدليل على صدقه وصلاحه . وتضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج حتى يفقد الناس ثقتهم بالنظام وتأييدهم للقائمين على تنفيذه . هذا من جهة ومن جهة أخرى أن تتولى الكتلة كشف واقع هؤلاء النواطير الذين أقامهم الكافر على رقاب الناس حماة لمصالحه ومنفذين لنظامه ، وناشرين لثقافته ، حتى تثبت للناس خيانتهم لأمتهم، وعمالتهم لعدوها ، فينفضوا عنهم بل ويساعدوا الكتلة على الإطاحة بهم وإبعادهم عن الحكم وهذا ما نعنيه بالكفاح السياسي وذلك اقتداء برسول الله ، وتطبيقاً للطريقة التي استعملها القرآن في هذا المجال.

وفي الوقت الذي كان يبين فساد النظام كان يبين فساد الحكام وطغيانهم وجبروتهم ومنهم من هاجمه باسمه ، ومنهم من هاجمه بصفته ومنهم من هاجمه بكلمة قالها ، أو عمل قام به ، فقد قال تعالى فيمن ذكرهم بالاسم { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد }المسد . بالرغم من شرفه ومكانته في بني هاشم وقريش ، ولم يكن هذا بأقل مما قاله في سيد مكة سيد بني مخزوم وأعني الوليد بن المغيرة { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدوداً } إلى أن يقول { سأصليه صقر }المدثر(26). ويقول فيه في سورة ن والقلم وما يسطرون { عتل بعد ذلك زنيم …. سنسمه على الخرطوم }القلم(16) كما قال في الأخنس بن شريق { كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16) . وكما يقول في غيرهم :{ أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى }القيامة(34) ومن هنا كان الكفاح السياسي وأعني به مهاجمة النظام وبيان فساده ومهاجمة الحكام وإظهار خيانتهم وكشف مخططات سادتهم كان هذا الكفاح السياسي من أهم الأعمال التي يجب على الكتلة القيام به ، لأنه هو الطريق الذي سار به سيدنا محمد ، والذي أرشده إليه ربه جل وعلا . والذي أمرنا باتباعه حيث يقول تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108) .

إذن الطريق الموصلة إلى الأهداف المنشودة – دعوة إلى الله على بصيرة بالفكرة تبين أفكارها وأحكامها ونظمها وقوانينها وما جاءت به من أفكار ومعتقدات . وبصيرة بالطريق بحيث يعرف بكل خطوة يخطوها ، ويعرف الكيفية التي ينفذ بها الفكرة وأحكامها ، وبصيرة بالواقع الذي يعمل فيه لتغييره ، بحيث يحيط علماً بما في هذا الواقع من عقائد وأفكار ونظم ، وما فيه من أعراف وتقاليد ، حتى يعرف كيف يقتلعها من النفوس ، ويغرس بدلها ما جاء به من عقائد وأفكار وأحكام .


ـــــــــــــ
(1) رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر ورواه الطبراني (مجمع الزوائد ج5 ص218) عن معاوية. وفي روايه (( من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية )).

(2) رواه الحاكم عن ابن مسعود ورواه البيهقي في شعب الإمام ورواه الطبراني وأبو نعيم .

(3) رواه الطبراني في التاريخ وابن الأثير في الكامل وغيرهما عن الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما.

(4) حديث صحيح ، رواه البخاري في ( كتاب الأحكام ) عن معاوية أنه سمع رسول الله يقول : ( إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ). ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بنص أن رسول الله قال : ( الناس تبع لقريش في هذا الشيء مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم ). والنص الوارد في هذه الصفحة رواه أبو داوود في مسنده عن أنس ورواه الترمذي عن عمر بن العاص والإمام أحمد عن أنس بن مالك .


النهضة صفحة 25-28


الاستعمار

الاستعمار هو طريقة المبدأ الرأسمالي في الانتشار ،وإيجاده في واقع الحياة وهو يعني بسط الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية ، وكما هو طريقة في نشر المبدأ وإيجاده في واقع الحياة فقد اتخذ كذلك وسيلة لنهب خيرات البلاد وسلب ثرواتها وامتصاص دماء أبنائها . هذه هي الطريقة الأساسية في نشر المبدأ الرأسمالي وهي نفس الطريقة التي سار عليها في نشر مبدئه في العالم الإسلامي . فجيش الجيوش وعقد الأحلاف وسخر العملاء والطامعين من أبناء الأمة وأعلنها حرباً أسموها الحرب العالمية الأولى . فقد أجمعت دول الكفر قاطبة باستثناء ألمانيا على هدم الخلافة وإزالة سلطان المسلمين . ولما تم له ذلك بسط هيمنته العسكرية على أقطار المسلمين فمزقها أولاً حتى تفقد قواها حين تدرك خطورة ما حصل وفظاعة ما أعانت عليه أو سكتت عنه ثم عمد إلى بسط هيمنته السياسية فأقام عملاءه وأعوانه حكاماً على رقاب المسلمين يأتمرون بأمره وينفذون ما يشاء من سياسة .ووضع يده على مقدرات البلاد وخيراتها وفرض النظام الاقتصادي الذي يريد ووقع هؤلاء العملاء معه الاتفاقيات الاقتصادية التي تمكنه من الحصول على الثروة مثل اتفاقيات النفط المزرية . وسار في بسط هيمنته الفكرية والثقافية وكلف نواطيره بتنفيذ ما يريد حتى يتم له بناء المجتمع وترسيخ المبدأ فيه على عين بصيرة بالشكل الذي يريد والقدر الذي يريد .

ولما كانت الثقافة هي صاحبة الأثر الأكبر على الفكر الإنساني ،والذي يؤثر على مجرى الحياة عمد إلى فرض ثقافته على الناس فوضع مناهج التعليم والثقافة على أساس فلسفته– فصل الدين عن الحياة- والتي هي وجهة نظره في الحياة . وللإسراع في تركيزها أو سرعة انتشارها قام بإنشاء المدارس والمعاهد العلمية في كل مدينة أو قرية . ساعده في ذلك خلو معظم المدن والقرى من المدارس . نتيجة لسوء تصرف القائمين على رعاية شؤون المجتمع في العصر الهابط مما جعل الناس يرتاحون بعض الشيء لمثل هذا العمل وغاب عنهم ما يخفي وراءه .

وقد فرض على هذه المدارس والمعاهد مناهج أعدها هو ، وألزم المدارس والمعاهد بها ولم يسمح بجزئية واحدة أن تخرج عما وضع من مناهج وفرض من برامج . وبنظرة بسيطة إلى ما وضع من مناهج ثقافية نرى مثلاً مادة الدين؛ فالاستعمار لم يمنع تدريس الدين الإسلامي بل على العكس جعله مادة أساسية في جميع المدارس ولكن بالكيفية التي يريد فالدين لا دخل له بالسياسة وشؤون الحياة وإنما هو شأن من شؤون الآخرة وعلاقة العباد بربهم . فالمنهج يقتصر على العقائد والعبادات والأخلاق . ولا يجوز أن يتدخل هذا المنهج في نظام الحكم أو النظام الاقتصادي أو الواقع السياسي ، فالدين مفصول عن السياسة مبعد عن الدولة (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) وتدخله في الحكم والسياسة يثير الفتن والحروب! ويجلب المصائب والويلات! فأوروبا عانت من تدخل الدين بالسياسة وجرها إلى حروب دامت مئات السنين فلم تنهض ولم ترتق إلا بعد أن أبعدت الدين عن السياسة والدولة . هذا ما يجب أن يسير عليه منهج مادة الدين وعلى القائمين في وضع التفصيلات للمنهج أن يلتزموا هذه القاعدة .هذا ما فرضه على الناس .

أما مادة التاريخ ، فالقاعدة الأساسية فيها جعل تاريخ أوروبا هو المثل الذي يحتذى وشخصية الغرب هي المثل الأعلى الذي يجب أن تقلد ولكم في الغرب أسوة حسنة –وتشير الإصبع إلى واقع تلك البلاد الراقية الناهضة . فالقاعدة الأساسية في مادة التاريخ نقطتان الأولى : الصورة المشرقة لأوروبا ونهضتها وتاريخها وشخصيات رجالها ومفكريها . وأما الثانية فتاريخ الأمة الإسلامية : كما كتبه المستشرقين أمثال فيليب حتي أو غيره من المستشرقين فما تركوا فتنة حدثت أو خلافاً وقع أو صراعاً على حكم إلا أبرزوه في قالب جعل الشباب المسلم يخجل من تاريخه ويتصور معركة الجمل ومعركة صفين ومعركة مرج دابق وغيرها وتنافس الخلفاء واغتيال عثمان واغتيال عمر واغتيال علي وما إلى ذلك من أمور صورت بقالب جعل المسلم يأنف حتى من سماعها ، وأصبح لا يرى من تاريخه إلا تلك الصورة القاتمة التي وضعوها أمامه .

وأما مادة اللغة العربية فقد غلفوها بالقالب القومي بحيث يتأتى لهم نشر المشاعر القومية والاعتزاز بالعرب والعروبة والتغني بأمجادها وألفت الكتب ودبجت المقالات ونظمت الأشعار في هذا المضمار حتى باتوا لجهلهم يرون أن للعرب والعروبة فضلاً على الإسلام فلولا ذلك ما انتشر الإسلام ولا وجد في الحياة .

هذه بعض المواد الأساسية في المنهاج الثقافي وهي المواد التي تؤثر في تكييف عقلية الفرد وبناء شخصيته زد على ذلك من عينوهم لتنفيذ هذه المواد والإشراف عليها وتدريسها مما جعل الطلاب يكرهون الدين لشخصية المدرس وتصرفاته ، وطلاب اللغة العربية خرجوا بل أنهوا مناهجهم فتخرجوا أعاجم فجمعوا بين الأمرين :فساد المنهج وفساد القائمين عليه . إلى غير ذلك مما أدى إلى النتائج التالية: وهي ما نعني بأثر الاحتلال الغربي على أفكار المجتمع والرأي العام فيه :

1 - وجود جمهرة من المثقفين بثقافته المؤمنين بعقيدته العاملين بحسب وجهة نظره وفلسفته .
2 - استبعاد عودة الإسلام لواقع الحياة وإعادة سلطان المسلمين واعتبار الدعوة لذلك ضرباً من الخيال أو نوعاً من الجنون واعتبار الدعوة إلى الإسلام رجعية وتخلفاً .
3 - تركيز الفكر القومي أو الإقليمي ونشر الحقد والبغضاء بين أبناء الأمة الواحدة .
4- تسليط الأضواء على الديمقراطية وجعلها الهدف المنشود والغاية التي يعمل لتحقيقها .
5 – نشر أفكار الحرية والحريات العامة –حرية عدالة مساواة .
6 - انتشار أفكار الاشتراكية بأنواعها وما أضيفت إليها من معان وتفسيرات .
7 - وإرضاء للمسلمين وتضليلاً لهم ركزوا وجهة نظرهم في فهم المجتمع على أنه مكون من أفراد فانتشرت بين المسلمين الدعوة إلى الرجوع إلى الله بإصلاح الفرد نفسه ، (( أصلح الفرد يصلح المجتمع))!. والتقرب إلى الله بالعبادة والطاعة وبالأخلاق الحميدة وأقيمت على هذا الأساس العديد من الجمعيات الخيرية الدينية والأخلاقية وغير ذلك .
8 - تحريم العمل السياسي على المسلم ، باعتبار السياسة دجلاً ونفاقاً والإسلام استقامة ووضوح فلا يلتقي الإسلام بالسياسة . وأبعدوا عن أذهان المسلمين أن السياسة هي رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً .
9 - الاعتماد على الأجنبي في الوصول إلى الأهداف وتحقيق النتائج .

هذا بالإضافة إلى انتشار الأفكار الانهزامية ، والآراء المنحطة من مثل قولهم تضليلاً .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم }المائدة(105) اللامبالاة للحياة العامة .
(( اليد التي لا تقدر عليها بوسها (أي قبلها ) وادع عليها بالكسر ) مسح جوخ ونفاق !.
(( الشهر الذي ليس لك فيه أجر لا تعد أيامه )). اللامبالاة في الحياة العامة .
(( الكف لا يلاطم مخرز )) انهزام وجبن .
(( لا يحل للمسلم أن يذل نفسه ومجابهة الحاكم إذلال )). فهذا حرام –تحريم العمل السياسي .
(( أقبل الكلب من فمه حتى آخذ حاجتي منه )). نفاق .
(( الرضا بالأمر الواقع إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون )). واقعية خانعة .
(( خذ وطالب )) . حلول جزئية .
قاعدة (( الحل الأوسط )).أسلوب الغرب في حل مشاكله بناء على عقيدته .

إلى غير ذلك من الآراء والأفكار التي تسمم بها المجتمع وتشربت بها عقول الناس حتى أخذت مقاييس لأفعالهم وقواعد لتفكيرهم وصار على مريدي النهضة أن يعملوا على إزالة هذه الآثار وغسل هذه الأدمغة وإبعاد هذه الأدران حتى يعود للأمة نقاؤها ويتم بناء عقليتها على أسس مبدئية صحيحة .

أما أثر الاحتلال على مشاعر الجماعة – أي المجتمع –
لقد استطاع أن يغرس بذرة القومية والإقليمية والعنصرية والقبلية والعشائرية والمذهبية والطائفية فوجد تربة خصبة سرعان ما نمت وترعرعت فاشتعلت النفوس بالعداوة والبغضاء . فكانت الأداة التي استطاع من خلالها الهيمنة على الجميع فكان يغذي كافة الأطراف انطلاقاً من قاعدته المشهورة (فرق تسد ) .وأصبحت الأمة أمماً شتى والشعب الواحد شعوباً والمجتمع الواحد مجتمعات صاغها على هواه وصارت أحاسيس الناس ومشاعرهم لا تثور إلا ضمن الخط الذي رسمه لها .

هذا من جهة ومن جهة ثانية حين جعل شخصيته -أي شخصية المستعمر – هي الشخصية المثالية في نفوس الناس وبلاده وتاريخها هي الصورة التي يتطلع إليها الناس بإكبار وإجلال حتى بلغ الحال بالمثقفين بثقافته المعتقدين بعقيدته السائرين في ركابه والمضبوعين بأفكاره أصبح هؤلاء أغراباً في مجتمعهم يزدرون أهلهم ويحتقرون أمتهم ويخجلون من تاريخهم .

وعند هذه العبارة أذكر قصة حصلت مع أحد الوفود - المثقفين جداً – الذين زاروا الصين فاستقبلتهم استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ونزلوا في ضيافتهم بالحفاوة والتكريم . وزيادة في إكرامهم تخطوا معهم حدود الرسميات فآنسوهم في أمسياتهم . وفي إحدى الأمسيات كان وزير خارجية الصين يجلس معهم مرحباً ومجاملاً فحدثهم عن البطل الأسطوري الذي لم يتجاوز سنه العشرين ذلك القائد المسلم الذي اجتاز الهند فاتحاً حتى وصل إلى حدود الصين وذكر ما جرى من حوار بين ملك الصين والقائد الشاب وحين قال القائد الشاب محمد بن القاسم إن أميرنا أقسم أن يطأ تراب الصين بقدميه قال له ملك الصين تحمل له معك تحياتي وما خف حمله وغلا ثمنه هدايا مع كيس من تراب ينثره تحت قدميه فيدوس عليه ليبر بقسمه هذا ما رواه المسؤول الصيني الكبير إلا أن الوفد المثقف المحترم وارى وجهه خجلاً من هذه القصة . وبدأ يهاجم همجية محمد بن القاسم وعمله البربري الاستعماري ولماذا يهاجم الصين وما له وللصين ؟ ولم خرج العرب من الجزيرة ؟! إنها عقلية الاستعمار وعنجهيته وأسلوبه . هذا ما تفوه به الوفد المثقف المحترم فغضب المسؤول الصيني غضباً شديداً وانتفض قائماً . وقال مخاطباً الوفد ببغض وازدراء مشيراً إلى رئيس الوفد المحترم الذي كان يستنكر أعمال محمد بن القاسم وقال له اسمع يا هذا : إن أمة تخجل من تاريخها لا تستحق الحياة . وتركهم هو وجماعته وخرج وأخرجوا في اليوم التالي من الصين هذا ما رواه أحد الحضور الذي كان بمنزلة سفير ممثلاً لبلاده هناك . هذه هي المشاعر التي تركها في نفوس الناس .

وأما أثر الاحتلال على النظام- فالنظام يتمثل بالدستور والقوانين والهيئة التنفيذية القائمة على تطبيقه على الناس . أي الحاكم أما الحاكم فان قبعة الكافر لم تختف من الشارع المسلم إلا بعد أن اطمأن لوجود الناطور الذي يحمي له مزرعته أي إن الكافر لم يدع الحكم لعملائه من أبناء المسلمين إلا بعد أن تأكد أنهم خير من يحفظ له وجوده ويؤمن له مصالحه وينفذ له سياسته . وأنهم خير سائس يروض الناس ويكيفهم حسب وجهة نظر الغرب وثقافتهم وخير من ينقل المجتمع برمته إلى المجتمع الرأسمالي نظماً وأفكاراً ومشاعر .

نقل العقائد والشرائع والقرى والناس نقل كتائب بالساح

وقد جعل الأساس للعمل السياسي في البلد هو الصراع على الحكم ،بين مجموعة من عملائه لا يتغير الحكم ،بل لتغيير الحاكم واستبداله .وخير دليل على ذلك ما شهدناه في السنوات الماضية من صراعات سياسية،وثورات ، وانقلابات لم تخرج واحدة منها عن محاولة تغير الحاكم ،فنجح الكثير منها في تغيير الحاكم وبقي النظام كما هو بل إن النظم ومعظم القوانين التي سنها منذ الاحتلال حتى الآن لم يتغير منها شيء إلا في بعض الجزئيات التي لم تخرج عن القواعد الأساسية ،والخط العريض ، بالرغم من تغيير الحكام عدة مرات .

وما زلنا نرى ما في المجتمع من تكتلات وأحزاب سياسية تخوض في صراعات سياسية عنيفة تصل في كثير من الأحيان إلى الصراع الدموي ونرى ما وضعت من مناهج وثقافة إن وجدت فلا تخرج واحدة منها من تزيين برامجها أو مناهجها بكلمات الديمقراطية والحرية والاشتراكية والجمهورية والتقدمية وغير ذلك من الألفاظ التي يتزلفون بها إلى آلهتهم، ويتقربون بها ظناً منهم إلى قلوب الناس .إن أي نظام يفرض على الناس فرضاً ومخالفاً لعقيدتهم أو مناقضاً لأفكارهم ومشاعرهم من البديهي أن يجابه بسخط الناس وكراهيتهم ومقاومتهم إن استطاعوا ولذلك فلا بد من استعمال سياسة الجزرة والعصا .

فكانت سياسة القمع والاضطهاد وكانت الأحكام العسكرية وحكم المخابرات وتأمين المصالح والحصول على الوكالات التجارية والمنح والقروض وإجازات الاستيراد. فالعصاة بيد والجزرة باليد الأخرى ومما زاد الطين بلة ،تصارع دول الكفر على البلاد وتنافسها على بسط سلطانها واتساع نفوذها وتحقيق مصالحها. فأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية قررت الخروج من عزلتها بعد أن تحملت القسط الأكبر من أعباء الحربين ورأت أنها هي التي حققت النصر فيها لذلك اعتبرت نفسها الوريث الشرعي للاستعمار البريطاني والفرنسي بل والغربي بكامله الذي كان يهيمن على العالم الإسلامي قبل الحرب . إلا أن بريطانية وفرنسة قررتا التشبث بوجودهما والاحتفاظ ببقاء مصالحهما ونفوذهما. ومن هنا بدأ الصراع بينهم ولكن بشكل خفي فأمريكا تستعمل ثقلها الدولي وضغوطها المالية وعملاءها الجدد وبريطانية وفرنسة تستعملان عملاءهما من الحكام وأعوانهما .فيجري الصراع الدموي وأدواته أبناء الأمة ووقوده ثرواتها وتكتوي الأمة بنار الفتن والحروب الداخلية .تنفيذاً لرغبة الكفر والكفار وتحت ستار الحرية والتحرر.

هذا ما صارت إليه حال مجتمعنا وهكذا أمست أمتنا وهذه هي التركة الضخمة التي يجب على العاملين لإنهاض الأمة التعامل معها وهذا ما نعنيه بفهم الواقع والتفقه فيه قبل محاولة إصلاحه والحكم عليه فلا يكفي أن يكون المبدأ واضحاً في أذهان من يريدون إنهاض الأمة على أساسه ويقودونها بموجبه ويريدون نقلها إلى المنزلة اللائقة بها بل لابد لهم أن يدركوا ما عليه الناس وما يعانون من أمراض أساسية أو جانبية . فكيف إن كانوا لا يدركون من المبدأ إلا اسمه ولا يفهمون من القرآن إلا رسمه والتغني فيه ولا يعرفون عن أهدافهم التي يسعون إليها إلا القول أنهم يريدون دولة إسلامية ويريدون عزة المسلمين ولكن كيف ؟ قل علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو .


النهضة صفحة 24- 25



الأمراض الجانبية

نعم ، ليت الأمر وقف عند حد إخلال أو إتلاف العناصر الأساسية من مقومات المجتمع ،ولكن الأمر تعداه إلى أمراض جانبية لا تقل خطورة عن الأمراض الأساسية ، لأنه لا يمكن أن يصار إلى المعالجة الأساسية ، إلا بزوال هذه الأمراض الجانبية ، لأنها تشكل حاجزاً منيعاً يحول دون الوصول إلى جوهر المشكلة. والذي أدى إلى تفاقم هذه الأمراض عاملان .

العامل الأول مخلفات العهد الهابط ، أما العامل الثاني فهو زوال الدولة الإسلامية وهيمنة دول الغرب على عالمنا الإسلامي برمته، وحكمه حكماً مباشراً، أو غير مباشر، ولم يتوقف تأثير هذين العاملين ولم يقتصر على جانب واحد من حياتنا . بل كان له الأثر الأكبر بل الأثر كله على المقومات الأساسية لمجتمعنا . فبسبب هذين العاملين الأساسين سكت المسلمون على إزالة دولتهم وتمزيق مجتمعهم ، وانتهاء وحدتهم. وبسبب هذين العاملين تسربت إلى المجتمع بعض الأفكار الفاسدة، وظهرت بعض مشاعر الوطنية والإقليمية والقومية. وبسبب هذين العاملين تمكن الغرب من إزالة دولة الإسلام وإبعاد الإسلام عن واقع الحياة .
وبسبب هذين العاملين جعل الغرب كعبة المثقفين ومحط أنظارهم فضبعوا بثقافته وتبنوا عقيدته أو كادوا إلا من رحم ربي وبسبب هذين العاملين أمسى العالم الإسلامي خاضعاً لأنظمة الكفر ولعملائه الذين أقامهم على رقاب الناس ينفذون أوامره ويرعون مصالحه ويحقون أهدافه. ولذلك كان لا بد من الإحاطة بهذه الأمراض الجانبية إحاطة كاملة والعمل على إزالتها حتى نتمكن من الوصول إلى جوهر المشكلة في نفس الوقت الذي تبذل فيه الجهود في معالجة الأمراض الأساسية .

العامل الأول :- مخلفات العصر الهابط :- أثر العصر الهابط على الأفكار التي يقوم عليها المجتمع .
وصل المجتمع الإسلامي إلى الدرك الأسفل من الانحطاط حين قام أبناؤه بمساعدة الكفار على إزالة دولتهم ، وتمزيق مجتمعهم في الحرب العالمية الأولى . وقد بدأ انحداره السريع بعد الغزو المغولي ولم تستطع الحركات المتعددة والتغييرات الكثيرة التي طرأت عليه من إنهاضه أو على الأقل وقف انحداره ذلك لأنها لم تدرك معنى النهضة ولم تعرف أثر الأفكار في حياة الناس بل زادت في الطين بلة حين فصلت الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية وقالت بغلق باب الاجتهاد فجمدت العقول وأبعد التفكير المبني على قاعدة ثابتة وساد الأمة بكاملها عقلية التقليد والاتباع .

وبهرت عيون الناس أضواء الثورة الصناعية في أوروبا ، ولم تعتن الدولة أو القائمون على أمرها بالجانب الفكري ، أو الثقافي في حياة الناس ظناً منها أن القوة العسكرية هي النهضة ومفتاح الرقي فصبت جل اهتمامها في الجانب العسكري ، فما إن توقفت فتوحاتها في أواسط أوروبا حتى وجدت نفسها غرضاً يرمى وفريسة تطارد ولم تنتبه وهي في قوتها العسكرية إلى الأمراض الداخلية التي فتكت بها . ومن أبسط الصور على مدى الانحطاط الفكري وعقلية التقليد تلك الصورة التي نأخذها عن خطباء المساجد وهم باعتبارهم القادة الفكريين في الأمة فقد كان خطباء المساجد في خطبة الجمعة التي تعتبر الموجه السياسي للرأي العام، كانت هذه الخطب تقرأ من كتاب ابن نباتة المتضمن خطباً بعدد أسابيع السنة وبحسب المناسبات ففيه خطب بمناسبة شهر رمضان ، وفضائل الصوم ، وفيه خطبة الجمعة اليتيمة في آخر رمضان وخطبة ليلة القدر وخطب أشهر الحج وعرفة وفضائلها ، وعاشوراء والهجرة ومولد النبي والنصف من شعبان وهكذا على مدار السنة . فإذا كان هذا حال المفكرين في الأمة والموجهين لها، فكيف يكون حال الأمة الموجهة بهذا التوجيه ؟ ولئن سألتهم عن شيء قالوا ، ما ترك الأوائل مقالة لقائل.

وأما أثر العصر الهابط على المشاعر فلغياب الأفكار الحية المعالجة لمشاكلهم والمنبثقة عن عقيدتهم فقد ساد الأمة مشاعر متعددة متناقضة ومخالفة في كثير من الأحيان لعقيدتها من مثل تقديس الأضرحة ومقامات الأولياء والصالحين ، والأئمة حين أضفوا عليهم من الصفات ما يفوق مكانة الأنبياء والمرسلين ، حتى قالوا إن النبي لم يصل لمنزلته بجهده ، بل هو مرسل من الله ولا فضل له فهو يوحى إليه أما هؤلاء فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بجهدهم وما قاموا به من رياضة وتقرب وأعمال (كم من أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره ) ( يا عبدي اعبدني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون ) إلى غير ذلك من الأقوال التي شدت الناس إلى التوسل بأضرحة هؤلاء الأئمة أو الأولياء أو تلامذتهم ومريديهم . كما انتشرت بعض المشاعر الصوفية المتأثرة بالفلسفة الهندية التي تدعوا إلى العزوف عن الدنيا وتعذيب الجسد لتسمو أرواحهم في السماء . وظهر في هذا العصر فئة المشايخ والدراويش حتى قالوا من لا شيخ له فالشيطان شيخه .

ومن مثل هذه المشاعر الكثير حتى تبلد إحساس الناس وفقدوا شعورهم بالعزة بالإسلام والعيش به ومن أجله ومن أجل رفعته وقوة سلطانه أو على الأقل فقد الإحساس بوجوب التغير وانتشرت مشاعر القدرية الغيبية انتشاراً فظيعاً واعتبروا أن ما حصل لهم وما هم فيه هو قدرهم وعليهم الرضى بما قسم الله كما انتشرت فكرة انتظار المهدي الموكل إليه أمر التغيير فلا بد من أن تملأ الأرض فسقاً وجوراً حتى يسارع ظهوره كما بدأت فيه بعض مشاعر الوطنية أو القومية أو المذهبية أو الطائفية .
وأما أثر العصر الهابط على النظام أو على القائمين عليه .

فإن النظام لم يجر عليه أي تغيير يذكر عدة قرون ولو أنه كان بداية لتغيير بعض القواعد الأساسية فيه وإدخال بعض المفاهيم الغربية عنه وكان السبب في ذلك هو الضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام لإهمال شأن اللغة العربية التي هي لغة الإسلام واللغة التي لا يفهم الإسلام إلا بها. كما أدى غلق باب الاجتهاد إلى أخذ أحكام النظام نصوصاً جامدة قصرت عن متابعة مشاكل العصر ومعالجة النظام لها . مما جعل القائمون على النظام يشعرون أنهم بحاجة إلى بعض القواعد والقوانين لمعالجة مشاكل العصر . وقد ساعد في ذلك تلك الفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام والقائلة (( إن ما لا يخالف الإسلام فهو من الإسلام )) مما أدى إلى إدخال العديد من القواعد والتشريعات من الفقه الروماني أو الفرنسي إلى أنظمة المسلمين بحجة أنها لا تخالف الإسلام فهي من الإسلام .

مع أن الإسلام هو ما جاء به محمد رسول الله وحياً من عند الله . إما لفظاً ومعنى وهو القرآن وإما معنى عبر عنه الرسول بألفاظ منه أو بأفعال منه أو بسكوت عن عمل في معرض النطق. وما يمكن أن ينبثق عن تلك النصوص – قرآناً أو أحاديث- من نظم وما يستنبط منها من أحكام( هذا هو الإسلام) وليس هو ما لا يخالف الإسلام . فالعبرة في مصدر الشيء لا في موافقته أو مخالفته فجواز الملكية الفردية في النظام الرأسمالي لا يعني أنها من الإسلام فهي لا تخالفه لأنه يبيح التملك فحرية الملكية في النظام الرأسمالي حكم كفر ونتاج عقلي . وإباحة التملك في الإسلام حكم شرعي دليله النص الذي جاء به الوحي فالعبرة إذن في مصدر الشيء لا في منطوقه ولا في مدلوله ولا في النتيجة التي يوصل إليها ولا في موافقته أو مخالفته .

هذا من حيث الأثر على النظام . أما من حيث أثره على القائمين على النظام . فإنه واضح من تصرفاتهم وتطبيقهم للنظام . فإنهم من هذا المجتمع نفسه بما فيه من أمراض وعلل فلم يكونوا أحسن حالاً من جمهرة الناس من حيث الفهم والوعي وإدراك المسؤولية حتى الأتقياء والمؤمنون منهم فقد اتجهوا إلى الناحية العسكرية والقوة المادية هذا في أحسن أحوالهم جاهلين ما يجب أن يكون وراء كل قوة عسكرية من نهضة فكرية ووعي على الواقع حتى تكون الأمة كلها وراء كل قوة عسكرية وبذلك عزلت الدولة والنظام عن المجتمع وأصبح النظام والقائمون عليه وأعوانهم في نظر الأمة شيئاً والأمة شيء آخر ثم ازدادت العزلة حتى تحولت إلى عداء وكراهية وبادلهم الحكام وأعوانهم هذه الرؤية حتى أمست حقيقة وأخذ كل منهما يتصرف مع صاحبه بناء على هذه النظرة فالحكام وأعوانهم أرادوا فرض احترامهم وتقديرهم وتنفيذ أوامرهم بقوة السلاح مستعملين كل وسائل الضغط والإرهاب فأساءوا في تطبيق كليات النظام وجزئياته وأرهقوا الأمة بما يشاءون من ضرائب فعاشت الأمة في ذعر من حكامها يقول الشخص لرفيقه أنج سعد فقد هلك سعيد .

إن هذا الواقع الذي سار عليه القائمون على النظام سهل على من يريد هدم هذا الكيان وجعل الأمة تبحث عمن تلتف حوله لهدم هذا الكيان معتبرة ذلك سبيل النجاة وطريق الخلاص .ولذلك وبمساعدة أولئك النفر الذين تلقوا ثقافتهم في لندن وباريس والذين باعوا أنفسهم للشيطان طمعاً في حكم أو تحقيقاً لمنصب أو نوالاً لمصلحة استطاع الغرب أن يحرك الأمة بواسطة هؤلاء وأن يهدم الخلافة ويمزق الأمة ويحتل بلاد المسلمين مصوراً للناس أنه هو المخلص لهم من ظلم الأتراك وجبروتهم وقطع أوصال البلاد ليقيم فيها دولاً كرتونية هزيلة وينصب عليها عملاءه وصنائعه حكاماً ينفذون له ما يريد ويحققون له ما يبتغي.


النهضة صفحة 23-24


مجتمعنا

إن المجتمع الذي نعيش فيه هو مجتمع كأي مجتمع, ومكوناته هي مكونات أي مجتمع, ومقوّماته هي مقوّمات أي مجتمع, وما يصلح أي مجتمع يصلحه ، وما يقوم أي مجتمع يقومه . إلا أنه كما اشترطنا وجوب معرفة الواقع الذي نريد أن نحكم عليه ونعالجه ، لا بد من معرفة كل شيء عنه ، ومعرفة ظروفه وأحواله وما يتعلق به . ولذلك كان لابد من تطبيق هذه القاعدة على هذا الواقع ، أي على مجتمعنا نحن ، الذ نريد معالجته . فلا يكفي فيه معرفة مكوناته أو مقوماته حتى يصار إلى معالجتها فوراً. بل لابد من معرفة مجتمعنا معرفة تجلو كل غموض ، وتزيل كل إبهام ، وتلقي الضوء الكاشف على كل جانب فيه ، فهل مازال يقوم على وحدة الأفكار والمشاعر؟ وهل الأعراف والتقاليد مازالت موجودة ، أم تلاشت وهل حل بدلها أعراف وعادات وتقاليد جديدة؟ وهل النظام المطبق عليه ، والحافظ لوحدته السياسية منبثق من عقيدة الناس أم يخالفها ويناقضها ؟ وهل الهيئة التنفيذية فيه أنابتها الأمة لتطبيق هذا النظام عليها ؟ أم أنها فئة باغية متسلطة؟ وهل هي مرتبطة بغيرها؟ –عميلة – أم أنها مخلصة لذاتها ولمجتمعها ؟ أم أن كل شيء قد تلاشى وأصبح مجتمعنا ليس له صفة تميزه ؟ أو وحدة تجمعه ؟ فكره غير شعوره ، ونظامه لا يلتقي مع عقيدته ، هذا من حيث معرفة الواقع من كافة جوانبه ، أما معرفة ظروفه وأحواله وما يتعلق به ، فإن ما يمر به مجتمعنا من ظروف وأحوال لابد من وقفة معها تبينها وتجلو غوامضها حتى نستطيع معرفة وإزالة كافة العقبات التي تمنع إعطاء العلاج أو توقف تقدمه .

إن مجتمعنا – وأعني بكلمة مجتمعنا أي مجتمع قائم في العالم الإسلامي – هو كأي مجتمع فهو يقوم على مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمة ، يرعاها ويحافظ على وحدتها نظام . إلا أن الملاحظ في هذا المجتمع بالذات أن وحدة الأفكار فيه قد تلاشت بالرغم من وحدة العقيدة التي يفترض أن تكون هي القاعدة الفكرية التي ينبثق عنها وتبني عليها كافة المفاهيم والأفكار . إلا أن هذه العقيدة لم تتخذ كقاعدة فكرية ، فتكون أساساً للتفكير جمهرة الناس ومثقفيهم ومفكريهم ، فهي عقيدة توارثها الناس ، ولم تكن حصيلة أعمال فكر ونظر ولم تكون نتيجة تفكير وقناعة عقلية ، بالإضافة إلى ذلك فقد أماتوها كعقيدة سياسية ، وأبقوها حية كعقيدة روحية .

وأنها مازالت في أسسها صافية نقية بالرغم مما علق في بعض أجزائها من غشاوات وما لحق بعض أفرادها من تشويه ، خصوصاً بعد أن أبعدت كلياً عن واقع الحياة ، أعني علاقات الناس وأنظمة المجتمع ، واقتصر عملها على الجانب الروحي ، وأبعدت كلياً عن المجال السياسي . ولذلك فقد بقيت في النفوس عقيدة روحية وبقيت أساساً لمعتقداتهم الدينية وما يتعلق بعلاقات الأفراد بخالقهم من حيث العبادات ، أو من حيث علاقات الناس بأنفسهم من الأخلاق والمطعومات والملبوسات لذلك ظل أثرها فرديا ً ولا علاقة له بحياة الناس وعلاقاتهم ولا بأنظمة المجتمع ورعايتها لشؤون الناس . اللهم إلا في النظام الاجتماعي في أمور الزواج والطلاق والميراث والنفقة أو ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية فقد بقية العقيدة الإسلامية مصدر هذا القانون . وانتهى أثرها في تفكير الناس بما هو من شؤونهم كمجتمع .

ومع خلو المجتمع من هذه القاعدة الفكرية – العقيدة – لم يحمل المجتمع بعد عقيدة سياسية وغيرها ، يبني عليها أفكاره ، وتنبثق عنها أنظمته ، بالرغم من تسرب بعض الآراء الفلسفية ، والأفكار الرأسمالية أو الاشتراكية ، وبالرغم من وجود فئة من المثقفين مضبوعة بمثل هذه الأفكار والآراء ولذلك لم يبقى في المجتمع وحدة أفكار، وعدمت في الناس طريقة التفكير المنتجة ، وتسممت الأجواء ببعض الأفكار الداخلية ، كفكرة الحرية والديمقراطية والاشتراكية ، وغير ذلك من الآراء والأحكام والتشريعات التي لا تمت إلى عقيدة الناس بصلة ، ولذلك نجزم أن وحدة الأفكار قد تمزقت وتلاشت.

وأما وحدة المشاعر التي هي الأساس الثالث من مكونات المجتمع ، فقد بينا أن المشاعر إنما هي حصيلة طبيعية لما يحمل الناس من أفكار وما تركز في أعماقهم من مفاهيم، يغضبون لمخالفة هذه المفاهيم ، ويسرون بوجودها ويرضون بما يوافقها ، هذا هو واقع المشاعر عند الناس ، وبناء على انتفاء وحدة الفكر واختلاف المفاهيم انتفت وحدة الشعور ، وباختلاف الأفكار وتناقضها اختلفت المشاعر والأحاسيس ، ولم يعد هناك ما يجمع مشاعر الناس إلا بالأمور التي ما زالت ترتبط مباشرة بعقيدتهم ، مثل كونهم مسلمين في بعض الأحيان . أما ما سوى ذلك فلا تثور مشاعرهم ولا يهيج غضبهم وهم يرون انتهاك حرمات الله ، أو الحكم بغير ما أنزل الله ، أو الدعوات الإلحادية والإباحية وغيرها الكثير . بل وصل الحال في بعض المدن أنه يجتمع الفرح والحزن في البناية الواحدة في وقت واحد . ولم يراع الجار مشاعر جاره.

وبانتفاء وحدة الفكر والشعور ينتفي وجود العرف العام إلا في بعض الجزئيات ، ذلك لأن العرف العام إنما يبدأ بفكرة إنما يؤمن الناس بها ويصدقونها، وتلتزمها جمهرتهم كمفاهيم تسير سلوكهم. حتى إذا تركزت في النفوس ، وحركت مشاعر الغضب والرضى حيالها ، وأصبحت قناعة مطلقة صارت عادة متعارف عليها . وقد ينسى أصل الفكرة أو الدليل الذي أخذت منه ، أو القاعدة التي بنيت عليها ، إلا أن تسيير الناس سلوكهم بحسبها أصبح قانوناً يرفض الناس بمجموعهم مخالفته ويغضبون لما يخالفه ، تكون هذه العادة قد أخذت دور العراقة والتركيز ، فأصبحت عرفاً عاماً لجمهرة الناس. فمثلاً:
قال رسول الله ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))(1). هذا القول فكرة مصدرها الوحي آمن بها قائلها وتبعه في ذلك من آمن به. لأنها فكر أدرك واقعه وجرى التصديق به فصارت مفهوماً يسير سلوك من آمن به ، ولما تقدم عليها الزمن أصبح إكرام الضيف أمراً عادياً ، يسير مع الناس ويسير الناس أي أصبح عادة . إلا أن هذه العادة شملت القطاع العام من الناس ، وتعارفوا على هذا الأمر حتى جرى في عروقهم وصار لا يجرؤ أحد على مخالفته ، وإلا تعرض إلى غضب ومقت الناس ونقمتهم ، ونعتوه بشتى التهم التي تنقص من قدره وكرامته .

مع أنه لو سألنا جمهرة هؤلاء الناس عن دليل هذا العرف ، والفكرة التي بني عليها ، ومصدر هذه الفكرة ، لما وجدنا إلا القلة القليلة التي يمكن أن ترده لدليله وتعرف أصله وتستشهد بحديث رسول الله . وبالتالي فإن مجتمعنا اليوم لا يحكمه عرف ولا تسوده أفكار ولا تهتز مشاعره لأمر. هذه حقيقة واضحة لا بد من معرفتها قبل وضع العلاج.

أما موضوع النظام وهو الأساس الرابع من مكونات المجتمع ، والركن الأساسي في الحفاظ على وحدته ورعاية شؤونه. فالنظام في مجتمعنا مهمته الأولى المحافظة على تمزيق الأمة مع المحافظة على بقاء هذه الأجزاء معبرة عن كيانات سياسية مبعثرة. هذا من حيث القول إنه هو الركن الحامي والحفاظ لوحدة المجتمع فهو على النقيض من ذلك . أما من حيث حقيقته وارتباطه بعقيدة الناس فهو نظام دخيل عليهم لا يمت إلى عقيدة الناس بصلة ، ولا هو منبثق عن أعرافهم ومفاهيمهم وأفكارهم . ولكنه نظام رأسمالي فرض عليهم، وليس لهم إلا الطاعة والالتزام بهذا النظام . وارتبطت مصالحهم به ، ورعت شؤونهم بموجبه ، وبه وبالرقعة من الأرض المقام عليها حدد للناس هويتهم وإقامتهم . فهم ملزمون به وملتزمون بأحكامه بغض النظر عن موافقته لما عندهم من أفكار،أو ما يعتقدونه من عقائد . ولذلك تجد الغالبية العظمى من الناس تشير بإصبع الاتهام إلى النظام القائم وتعتبره مصدر كل مفسدة وأساس كل بلوى . وتتمنى تغييره، بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يغيره ويزيله عن أعناقهم ، مع أنهم لا يملكون البديل ، بل ولم يفكروا جدياً بالبديل حتى الداعون لذلك . ذلك لأنهم كما أسلفنا ، ليس لديهم قاعدة فكرية ينطلقون منها ، ويأخذون منها أفكارهم ، ونظمهم وليس لديهم طريقة تفكير منتجة يسلكون بها السبل لمعرفة أسباب الفساد وتحديد الأهداف ووضع البديل . ولهذا نجد الكثير بل الكثير جداً من الحركات والأحزاب التي تسعى لتغيير النظام القائم ولكنها للآن لم تضع في برامجها أو مناهجها بديلاً لما تريد تغيره ، وقد جرت في عالمنا الإسلامي انتفاضات أو انقلابات أو ثورات استهدفت تغيير النظم القائمة فيه، وقد وصل الكثير من هؤلاء الثوار والانقلابين إلى الحكم ، ولكنهم لم يستطيعوا تغيير النظام لأنه ليس لديهم البديل. وإنه وإن جرى بعض التبديل فإنما كان لمعالجة مشكلة آنية ، أو وضع شيء جديد مقتبس عن بعض المجتمعات ، أو تنفيذاً لما ارتفع من شعارات . وبطل إحدى الانقلابات والذي صار رئيساً لدولة ، كان يفاخر حين غير دستور الدولة التي حكمها ، كان يفاخر بأن الدستور الذي اختاره للناس ، وفرضه عليهم، هو مستخلص من دساتير واحدة وخمسين دولة.

هذه مقومات مجتمعنا الأساسية الثلاث ، الأفكار والمشاعر والنظام وما آلت إليه حتى أصبح مجتمعنا مثل الماء لا لون له . ولا رائحة ولا طعم. هذه هي أمراضه الأساسية التي شلت عافيته ، وأسقمت جسمه، وحطمت أضلاعه وليت الأمر وقف عند هذا الحد ، حيث إن الأمراض الجانبية التي نشأت عن هذه الأمراض الأساسية لا تقل خطورة عنها.


ــــــــــــ
(1) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وعن أبي هريرة وقد صححه السيوطي في الجامع الصغير. ونص الحديث (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليسكت)).

النهضة صفحة 19-22


مسؤولية الدولة وليست مسؤولية الفرد

وهذه الأبواب الأربعة هي:_

1-إقامة الحدود :من المعروف أن الإنسان ليس ملاكاً، ولا كائناً آلياً، وإنما هو كائن اجتماعي ابتلي بالخير والشر فتنة. وفيه قابلية الافتنان، فقد تزل القدم، أو يطغيه شيطانه، أو شيطانه، فيرتكب مخالفة، أو يحمل إثماً، أو يقصر في فرد، أو يعتدي على غيره، فمن يضرب على يده؟ أو يوقفه عند حده؟ ويجبر كبوته؟ وهل يحق للأب أن يقيم الحد على ابنه الزاني أو السارق؟ لم يقل أحد من المسلمين بذلك. لأنه من المعروف من الدين بالضرورة، أن حفظ الجماعة وفض المنازعات، وحفظ الحقوق، وبيانها، وإلزام الأفراد بالانضباط ليست مسؤولية الفرد، بل مهمة من أنابه المسلمون عنهم، ليتولى هذه الأمور. أي مهمة النظام والقائمين على تنفيذ النظام. فهي فرض على المسلمين ككل. وأناب المسلمون عنهم خليفة يتولى عنهم تنفيذ ما فرض عليهم بوصفهم جماعة. فهو المسؤول عن تنفيذ قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}النور (2) . مع أن المخاطب بها جماعة المسلمين، ومثلها قوله تعالى:{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}المائدة (38) ، وهكذا. وليس لأي فرد الحق بإيقاع العقوبة، أو إقامة حد على أي مخالف إلا إذا كان نائباً عن المسلمين جميعاً، أو كلفه الخليفة بصفته نائباً عن المسلمين جميعاً في ذلك. فهي مسؤولية الخليفة حفظ هذا الجزء من العلاقات العامة وما تقوم عليه الجماعة حيث يقول تعالى:{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}البقرة (179).

2-رعاية شؤون الجماعة بوصفهم جماعة :
من المعروف أن للجماعة_المجتمع_ شؤوناً ومرافق لا بد من إيجادها ورعايتها. وقد فرضها الله على المسلمين بوصفهم جماعة، وجعلها من مسؤولية الراعي للجماعة لا من مسؤولية الفرد، ولا مسؤولية مجموعة من الأفراد، مثل إيجاد المرافق العامة كالطرق، وساحات البلدة والمدارس والمستشفيات ورعاية المصالح، كتأمين المواصلات كالبرق والبريد وتنمية الثروة وتوزيعها، كاستخراج الثروات الطبيعية والمعادن والنفط وغيرها. ورعاية أموال وممتلكات الجماعة، وغير ذلك مما هو من مرافق أو مصالح الجماعة. فهل يجوز للفرد أو يجب عليه مباشرة هذه الأمور، دون أن يكون في مركز المسؤولية. نائباً للمسلمين، أو أوكل إليه نائب المسلمين _ الخليفة_ مثل هذا الأمر؟ وحين استعرضنا مقومات الفرد ، هل كانت معرفة هذه الأمور ومباشرتها جزء من مقوماته ؟ وهل صلاح الفرد واستقامته يؤدي إلى تسيير هذه العلاقات وتأمين هذه المرافق والمصالح ؟ أم إنه لا بد من أجهزة يعينها من أنابه المسلمون عنهم_الخليفة_ تتولى هي رعاية هذه الشؤون وتأمين مرافق المسلمين.

3_حماية أمن المسلمين داخلياً و خارجياً:
هل هي مسؤولية الفرد ليقوم بحفظ الأمن في الداخل ؟ فيتولى دور الشرطة والقضاء، ويلاحق المجرمين والخارجين عن القانون ؟ أم إن هناك جهازاً خاصاً بهذا الأمر؟ فمن المعروف أن أي مجتمع مهما بلغ من السمو والرقي، لا بد وأن يوجد فيه من يخرج على ما اتفق عليه الناس من أعراف صيغت قوانين تنظم حياتهم، أو على احتمال وجود مثل هذا الأمر، فلا بد من وجود جهاز خاص يبعث الأمن و الطمأنينة في نفوس الناس، ليأمنوا على أنفسهم وممتلكاتهم وكرامتهم وحقوقهم. هذا من حيث الأمن الداخلي، وأما الأمن الخارجي وهو ما يسمى بحماية الثغور فإن أي كيان سياسي يقوم على قطعة من الأرض معلومة الحدود، يحيط به كيانات أخرى ومن طبيعة ذلك في حياة الناس والمجتمعات أن تجري منازعات وخصومات، قد تصل إلى حد الحروب و التطاحن. أو كما قيل (من لم يكن ذئباً أكلته الذئاب) فأي مجتمع لا يستطيع بوسيلة أو أخرى حماية حدوده وأمن ثغوره. فاجتياحه من دولة أخرى أو تقسيمه بين جيرانه، أو إخضاعه لسلطان إحداها أمر لا مفر منه. كما هو مشاهد محسوس اليوم أو عبر التاريخ. فهذه طبيعة الناس والمجتمعات. فهل من مقومات الفرد أن يكون هو جيشاً أو قوة تستطيع حماية حدود الكيان السياسي الذي ينتمي إليه؟ إن هذا كذلك لم يرد حين بحث مقومات الفرد وعوامل صلاحه. فالمسؤول عن حفظ الأمن داخلياً، وعن حماية الثغور خارجياً هو من أنابه المسلمون عنهم في القيام بما كلفوا به بوصفهم جماعة، فعليه مسؤولية إعداد جهاز الشرطة لحفظ الأمن في الداخل وعليه نفسه مسؤولية إعداد الجيش والإعداد لملاقاة العدو مع أن المخاطب في ذلك جماعة المسلمين بوصفهم جماعة {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}الأنفال (60).

4_حمل الدعوة:
إن كل مجتمع مبدئي، بل كل إنسان يحمل فكرة صدق بها أو مبدءاً آمن به، فإن هذه الفكرة وهذا المبدأ لا يطيق أن يبقى حبيساً في نفس صاحبه، لأن المبدأ نفسه يحمل في ثناياه بل في أسسه وجوب نشره، وكيفية حمله للناس، وإيجاده في واقع حياتهم لأنه كما سبق وبينا مكونات المبدأ أي مبدأ، حين قلنا إن المبدأ هو عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام. وقلنا أيضاً إنه فكرة للعيش وطريقة للتنفيذ والفكرة فبه هي:_
أ_ عقيدة المبدأ.
ب_ المعالجات التي انبثقت عن عقيدة المبدأ لمعالجة مشاكل الحياة.
ج_ حمل الدعوة لاعتناق المبدأ والإيمان به.

وأما طريقة تنفيذه والحفاظ عليه فقد قلنا إنها:
أ_ المحافظة على عقيدة المبدأ.
ب_ كيفية تنفيذ كل معالجة من المعالجات التي جاء بها.
ج_ كيفية حمل الدعوة للناس.

ويتولى تنفيذ أحكام الطريقة، وتنفيذ ما جاءت به من معالجات، والقيام بأعباء الدعوة ونشرها للناس وحملها للعالم بأسره. يتولى تنفيذ ذلك الخليفة والأجهزة التي يعينها لذلك بصفته نائباً عن المسلمين.

إذن فالمبدأ هو الذي أوجب علينا حمله، وحدد لنا كيفية ذلك، فأوجب على حملته إخضاع الناس لأحكامه، ومعالجاته، ولا يتم ذلك إلا بالجهاد. ولم يترك المبدأ أسلوب نشره للأفراد ونشاطاتهم.هذه طبيعة المبدأ، وأساس من أسسه وجوب نشره بالكيفية التي حددها. وحمل الدعوة للناس هي الأساس في علاقات المسلمين كجماعة مع غيرهم من كيانات الكفر المحيطة بالمسلمين. فالسياسة الخارجية أو رعاية شؤون الإسلام والمسلمين خارجياً، أي العلاقات بين المسلمين وغيرهم من كيانات الكفر يتولاها أيضاً من أنابه المسلمون عنهم- الخليفة -.

والمبدأ نفسه هو الذي قسم العالم إلى دارين ، دار إسلام يمثلها الخليفة ، ودار الحرب أو دار الكفر المتمثلة بكافة كيانات الكفر . وقسم هذه الكيانات الكافرة إلى دول معاهدة ، وأخرى محاربة حكماً ، وأخرى محاربة فعلاً ، وحددت علاقات المسلمين بها بموجب ما قسمه المبدأ .

وما سار عليه رسول الله طيلة حياته في تنظيم هذه العلاقات الخارجية منذ وضع دستوره الأول في المدينة إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى .فقد عاهد نيابة عن المسلمين ورعى غير المسلمين تحت سلطانه ، وأخذ الجزية منهم ، وحارب كيانات ودولاً كانت تحيط به ، لكسر الحواجز المادية التي تقف بوجه بسط سلطان الإسلام على الناس . وعلى هذه الساسة سار صحابته الكرام ، وإلى آخر يوم من أيام الدولة الإسلامية ، فهل هذه مهمة الفرد أو تدخل تحت مقوماته وأسس صلاحه ؟.

هذه لمحة موجزة مقارنة بين ما هو من مقومات الفرد ومقومات المجتمع ، ولو أنها تحتاج إلى كثير من التفاصيل والإيضاح حتى يدرك القائمون على هذا الأمر ، والسائرون في هذا الطريق – طريق إصلاح الفرد ليصلح المجتمع إن عملهم هذا لن يوصل مطلقاً إلى ما يصبون إليه من صلاح المجتمع ، واستئناف الحياة الإسلامية ، والنهوض بالأمة إلى المستوى اللائق بها. لأن طريقتهم هذه تبدأ بالفرد وتنتهي بالفرد ولا تعدو ذلك مطلقاً.

والسبب الوحيد الذي أدى إلى هذا الخطأ الفاحش ليس سوى سوء فهم، وعدم إدراك للواقع الذي يريدون إصلاحه.أي فهم مكونات المجتمع ومقوماته. لذلك فإننا نتمنى عليهم أن يعيدوا النظر في فهم هذا الواقع، ومن السهولة بمكان التميز بين مجتمع قرية لا يتعدى سكانها ألف نسمة وركاب سفينة يعدون بالآلاف. فالقرية مجتمع كامل، أما ركاب السفينة فهم جماعة أفراد لا يشكلون مجتمعاً.

ولو كان كما يزعمون أن المجتمع هو مجموعة من الأفراد. إذن لتعددت المجتمعات في المجتمع الواحد ، ولتفككت وحدة كافة الكيانات السياسية القائمة بناء على هذا الفهم.

وكقاعدة أساسية لإصدار أي حكم على أي شيء لا بد من معرفة الواقع والتفقه فيه، قبل إصدار الحكم ووضع المعالجات.
ولم يقتصر الأمر على فئة واحدة من هذه الحركات العاملة على إنهاض الأمة بل تعددت الفئات وبأسماء مختلفة ومناهج متعددة ولكنها جميعها سارت في طريق واحد جرها إليه سوء الفهم لواقع المجتمع، وإنه وإن اختلفت أسماؤهم وتعددت مناهجهم ، فإنهم لم يخرجوا عن الخط الأول الذي تمت مناقشته آنفاً. إذ لا يوجد فروقات كبيرة بينها، وكلها تدور حول مقومات الفرد وسبل صلاحه، سواء منها من اقتصر على العبادات وحرم العمل السياسي ، ودعا إلى الانقطاع إلى الله في العبادة، أو من شمل حياة الفرد ككل . أو من يرى أن طريق إصلاح الفرد توصل حتماً لصلاح المجتمع، وإقامة كيان ودولة تتولى شؤون الجماعة وتعيد للمسلمين عزتهم ومجدهم.

والغريب في شأنهم أنهم يقولون بالوصول إلى إصلاح المجتمع وإقامة الدولة وليس لديهم أي تصور عن صلاح المجتمع لأنهم لم يدركوا مقوماته وليس لديهم أدنى صورة عن الدولة التي يريدون مع أن القاعدة العقلية، بل المسلمة البدهية تقول:( فاقد الشيء لا يعطيه).

أما شبهة الاهتمام بأمر الداعية، ومن يحمل فكرة الإصلاح ويعمل لها، فإنه من نافلة القول أن يكون الداعية، أو حامل الفكرة نسخة طبق الأصل عما يحمل من عقيدة، وما يدعو إليه من أفكار، وإلا كان سبة على ما يحمل، وإساءة لما يدعو إليه. فالمسألة هي هذه التكتلات الصالحة المؤمنة- وليس مجال طعن بأشخاص أو تصرفات أفراد أي الطريقين تسلك؟ طريق إصلاح المجتمع أم طريق إصلاح الفرد ؟ أما وجوب أن يكون الداعية صالحاً مؤمناً فهذا أمر مسلم به، ولا أظن أن هناك كتلة أو جماعة أو حزباً لا يهتم لتربية شبابه وإلزامهم بما يدعو إليه. وأن يقبل في صفوفه أشخاصاً ليسوا من جنس فكرته ودعوته. فمن يدعوا لقيادة الناس بفكرة معينة لا بد أن يكون مهيأً نفسياً وسلوكياً لما يدعوا إليه. كما أنه لابد أن يكون تنظيم سلوك الأفراد من ضمن الثقافة التي يتبناها ذلك الحزب أو الجماعة أو التكتل. ولذلك لا يصح أن تكون هذه الشبهة شبهة يختفي البعض وراءها. كقولهم: كان الصحابة يقولون كنا نتعلم العشر آيات فو الله ما نجتازها لغيرها حتى نعمل بها. وهنا أحب أن أسأل متى نزلت التكاليف الشرعية؟وأين الأعمال والتكاليف في السور المكية؟بل المقصود من قول الصحابة من أنهم كانوا لا يجتازون هذه الآيات حتى يفهموا معانيها ويحفظوها وينزلوها على الواقع المشخص أمامهم سواء في مهاجمة أفكار الكفر أو أئمة الكفر أو فساد العلاقات القائمة بين الكفار لأن هذه هي المواضيع التي كانت تعالجها السور والآيات.

إذن فالمسألة هي أي سبيل تسلك هذه التكتلات والأحزاب المؤمنة الملتزمة. أتسلك طريق إصلاح الفرد أم طريق إصلاح المجتمع؟ هذه هي المسألة ، أما الذين يدعون إلى إصلاح الفرد بعقيدته وعبادته. ليصلوا إلى صلاح المجتمع وبناء الأمة ، وإقامة الدولة، ويحرمون على أنفسهم العمل السياسي، ومحاسبة الحاكم، فإن مصيبتهم وبلوتهم أعظم {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}محمد(24). إننا ندعوهم لتدبر السور المكية التي هي بيت القصيد، والمدنية إن شاءوا . من حيث إن السور المكية هي التي عالجت مثل هذه المرحلة التي نعانيها ، مرحلة غياب الإسلام وهيمنة أحكام الكفر وحكامه على رقاب الناس. ليتدبروا السور والآيات وما جاءت به من مواضيع ومعالجات. ليروا بأعينهم، وليسمعوا بآذانهم ،ولتعي قلوبهم ما جاءت به تلك السور والآيات من مواضيع وما تضمنته من أفكار .

وبنظرة بسيطة في تلك السور ، ولكن بقلوب واعية نجد ما يلي :-
إنها تناولت ما في المجتمع من عقائد فاسدة وأفكار باطلة على اختلاف أنواعها ، فبينتها وبينت زيفها وبطلانها ، وأقامت على ذلك الحجج والبراهين ، ووضعت بدلها العقيدة الصحيحة ، والتفكير السليم فقد تعرضت لكل ما كان يدعيه العرب ، أو يعتقدونه ، وما يمارسون من عبادات وشعائر ، وما في مجتمعهم من مفاهيم وأفكار ، مجملة مرة ، ومفصلة مرات . سواء قولهم {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }الجاثية(24) ، أو قولهم: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }لقمان(25). أو قولهم :{وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }الزمر(3). أو تسميتهم الملائكة بأسماء الإناث {ليسمون الملائكة تسمية الأنثى}النجم(27) أو إنكارهم الخلق {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون }الطور(35) ، وتكررت الآيات التي تبين الاعتقاد الصحيح والتفكير السليم في عشرات السور ومئات الآيات . ولفت النظر لأعمال العقل في ملكوت السماوات والأرض ليدركوا عن نقل وبينه أن لهذا الوجود خالقاً خلقه وهو الله تعالى ، بصفاته وأسمائه التي وصف بها نفسه ، أي سار في ما في المجتمع من عقائد وأفكار باطلة بأسلوب وضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج . والاحتكام إلى المسلمات العقلية بطريقة تتناول تباين ما في المجتمع من عقائد فاسدة ، وأفكار باطلة ، من شيوعية واشتراكية ، ورأسمالية ، ورأسمالية مرقعة ، وديمقراطية ، وقومية ، وإقليمية ، ووطنية ، فتوضحها للناس وتثبت لهم بطلانها وتزعزعها في نفوس حملتها
ومن آمن بها ، لتضع بدلها عقيدة الإسلام صافية نقية كما جاءت من عند الله تعالى .

إنها تناولت ما في المجتمع من علاقات فاسدة ، ومعاملات باطلة ، وتصرفات خاطئة ، وعادات سيئة ، ويظهر ذلك جلياً ، وبوضوح كامل في سور واحدة لا تحتاج إلى عمق في التفكير ولا إمعان ولا إلى ذكاء خارق . فقد جاء في سورة الماعون : { أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراءون ويمنعون الماعون }الماعون. نرى في هذه الصور القصيرة أنها تعرضت لما يلي : -
{ أرأيت الذي يكذب بالدين} – عقيدة
{ فذلك الذي يدع اليتيم } – معاملة وعلاقة بين الناس.
{ ولا يحض على طعام المسكين } – معاملة وعلاقة بين الناس .
{ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون }- عبادة وعلاقة مع الخالق.
{ الذين هم يراءون } صفة خلقية ومعاملة مع الناس.
{ ويمنعون الماعون } – معاملة وعلاقة مع الناس .
وقد تكرر مثل هذا الأمر في عشرات السور بل لا تكاد تخلوا سورة من ذلك من مثل قوله تعالى:
{ ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم }المطففين(2) تناولت علاقات عامة مرتبطة بعقيدة - أي باليوم الآخر.
ومن مثل قوله تعالى :{ وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت}التكوير(8). إلى غير ذلك.مما لا يحتاج إلى عمق في التفكير ، وإمعان نظر بل يحتاج إلى قلوب واعية، وعقول مفكرة فقط.
إنها تعرضت للقائمين على أمر الجماعة من السادة والحكام والأمراء، أئمة الكفر وأولياء الشيطان، من الذين يقفون في وجه الدعوة، ويمثلون رأس الكفر فمنهم من صرحت باسمه ، ومنهم من ذكرته بصفته ومنهم من كشفت فعلته أو مقالته. بل ردت على معظم ما كان يدعي. فقد تناولت بالاسم أبا لهب {تبت يدا أبي لهب وتب }المسد(1) .
وتناولت بالصفة الوليد بن المغيرة {عتل بعد ذلك زنيم}القلم(13) . وقوله تعالى: { ذرني ومن خلقت وحيدا} الآيات إلى قوله تعالى {سأصليه صقر}المدثر(11) .
وتناولت بالعمل الأخنس بن شريق { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى …} إلى قوله { كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة}العلق(9). أو في رواية عمرو بن هشام. أبا جهل.

كما وصفت تآمرهم في دار الندوة ليلة باتوا يتساءلون كيف يتصدون للدعوة، وما يقولون للناس عنها وعن رسول الله في سوق عكاظ. فبينت تفاصيل دقيقة عما جاء في تلك الجلسة وصورت الوليد بن المغيرة . وهو يقطع دار الندوة جيئة وذهاباً. يفكر ويقدر، يعبس ويبسر ، خصوصاً وأنه رد ما قاله الآخرون. من مثل قولهم نقول عنه ساحر، ونقول عنه شاعر ونقول عنه كاهن، وبين خطأ ما ذهبوا إليه وجاء الآن دوره ليقول كلمته. فقال فيه جل جلاله : {إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه صقر}المدثر(18).
كما وصفت من جاء ليقول لرسول الله من يحيي العظام وهي رميم بعد أن سحقها ونفخ بها في وجه رسول الله . فقال{وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون }يس(78-80).

حتى أولئك الذين كانوا يقولون على الله غير الحق فيما بيتهم ولم يسمعهم رسول الله ولم يسمعهم أحد كانوا يتطاولون على الله ويقولون فليعذبنا الله إن كان محمد صادقاً. { لولا يعذبنا الله بما نقول}المجادلة(8) الآية.فكانت تأتي الآيات لتفضح ما كانوا يتحدثون به مقيمة الدليل على صدق نبوة محمد مثل قوله((لولا…)) الآية.

لفتت أنظار الناس إلى آلاء الله سبحانه وتعالى ، وخاطبت عقول البشر ليتوصلوا إلى الإيمان به وبالقرآن الكريم وبنبوة محمد ، والتسليم المطلق بما جاء في هذا القرآن ليتوصلوا إلى الإيمان بذلك عن عقل وبينة .

وصفت حقيقة الخلق وحقيقة هذا الإنسان {إن الإنسان لربه لكنود* وإنه على ذلك لشهيد وإنه بحب الخير لشديد }العاديات(6)،{إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}المعارج(19) إلى عشرات الآيات التي تبين حقيقة النفس البشرية وما فيها من دوافع وما لها من جوعات وحاجات.

ذكرت من قصص الأنبياء السابقين ما يكفي ليشد عزيمة المؤمنين ويشحذهم. ويبين للرسول أن ما يلاقيه هو سنة الله في خلقه ، وما يلاقيه هو ما لاقاه إخوانه من الأنبياء والرسل السابقين {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}فصلت(43)، {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}الأحزاب(62) ونختم هذا بالقول بما قال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}الإسراء(9). وقوله: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}محمد(24).

وهناك من تجاهل هذا الوقع ولم يعن نفسه بمعرفته ولكنه يدرك أن هذا المجتمع مجتمع مريض ، فراح يبحث في أصناف متعددة من الأدوية المنتشرة في العالم ، مضبوعاً بما سمعه ، أو شاهده أو لقنه من تقدم ونهضة وازدهار في العالم المتقدم ، فأخذ منها ما بهرته أضواؤه وأعمت بصيرته أنواره وأصم أذنيه ضجيج آلاته ومصانعه ، وراح يقلد أولئك القوم في دعواهم ونظام عيشهم ، واعتبر أن ذلك علاج هذا المجتمع ما دام أنه سبب نهضة تلك المجتمعات والأمم فارتفعت الشارات وعلت الهتافات بوضع ما أتوا به موضع التنفيذ ، حتى نلحق بركب المدنية وأعلنوها حرباً ضروساً على مافي مجتمعها وأمتهم من أفكار ومفاهيم ، أو عادات و تقاليد ، فهم أعداء ماضي هذه الأمة بكل ما فيه من خير أو شر ، فهم يرونه كله شراً ، فهذا ينادي بالحرية ، ويرى أن الكبت والحرمان والتقيد بالعادات والتقاليد ، وما في المجتمع من قيم ، هي السبب في هذا الانحطاط وهذا البلاء .

وهذا ينادي بالديمقراطية فلا يعرف منها إلا أنها كلمة أجنبية أدت إلى نهضة الغرب والشرق وآخر يحاول التوفيق بين هذه والإسلام فيقول : إن الديمقراطية هي طريق إيجاد الإسلام في الحياة . وآخر يدعوا للاشتراكية أو الشيوعية ولم ينسى أن يحاول التوفيق بين الإسلام والاشتراكية هذا إن لم يصور أن الإسلام مصدر الاشتراكية فأبو ذر رضي الله عنه هو أول اشتراكي بعد رسول الله !! وأحزاب شيوعية كانت تفتتح جلساتها بتلاوة آيات من القرآن الكريم . إلى غير ما هنالك من شعارات وعبارات منمقة ليس هذا مجال للتعرض لها . ويكفي أن أقول لكل هؤلاء : إن من ينادي بالحرية عليه أن يعرف ماذا تعني هذه الدعوة وما هي أبعادها وهل تنطبق على هذا الواقع الذي نعيشه وتصلح لمعالجته .

وعليه أن يعرف هل هي نظام حياة أو أنها أسلوب من أساليب تنظيم الحياة ، وهل هناك مدلول حقيقي لهذه الكلمة أم أنها كذبة كبرى لا وجود لها في العالم ، وهل يمكن أن يقال هذا على مدلولها أي المجتمع بالرغم من جمع التعديلات التي أدخلت تجاوزاً على مدلولها . ألا يكفي لأحدهم أن ينظر لأي إنسان أو لأي مجتمع في الدنيا ، في الشرق أو في الغرب ، لينتفي من ذهنه أي وجود لهذا المعنى في العالم . وذلك لأننا نجد كل إنسان يعيش في مجتمع ما بحكم عيشه فيه ، فهو يخضع لما في من نظم وقوانين ، فلا يستطيع أن يتصرف أي تصرف إلا بالقانون الذي يجيزه ذلك البلد . فكل إنسان مجبر على السير ضمن ما تجيزه قوانين أنظمة البلد الذي يعيش فيه سواء أوافقت هواه أم خالفت رغباته . فسيره منضبط بالقانون وإلا كان معرض للعقوبة فلا وجود لهذا المعنى في الدنيا مطلقاً .أي معنى الحرّية.

وعلى من ينادي بالديمقراطية أن يعرف أن هذه الكلمة جوفاء ، لا وجود لمدلولها أو معناها في أي أمة أو مجتمع إلى في بطون الكتب وعلى أفواه المضلِّلين والمضلَّلين ، أو الذين يحاولون تحميلها معنى متخيل في أذهانهم ليس هو معناها الحقيقي . وإلا فهل هناك شعب أو مجتمع أو أمة تجتمع لتضع دستورها وتسن قوانينها ؟! . بل ولا حتى مادة واحدة من الدستور أو قانون واحد من القوانين فقلة قليلة أو نخبة من الناس لا تتعدى أصابع اليدين لتضع الدستور ، ومثلها فئة تسن القوانين ، وأقلية تختار الحاكم. فلا الأمة تضع دستورها ولا المجتمع يسن قوانينه ولا الشعب يختار حاكمه ، فأي انطباق لمعناها الذي وضعت له – حكم الشعب بالشعب وللشعب . إنها كذلك كذبة كبرى لابد من إدراكها .

والأسوأ من ذلك المنادون بالاشتراكية ، فلا يميزون بين ما هو إلغاء للملكية الفردية ويبن ما هو تحديد لها بالكم أو الكيف ، أو منع امتلاك بعض المواد والمصالح كأدوات الإنتاج ومثل ذلك ولا يدرون هل ذلك مقتصر على النظام الاقتصادي أم هي نظام حياة كامل . فإن كانت نظام حياة كامل فما هي عقيدتها وإن كانت نظام اقتصادياً فحسب فما هي العقيدة التي انبثق منها ؟
فإلى هؤلاء جميعاً نقول : قبل المناداة بعلاج ما ، عليكم معرفة ما تدعون إليه على أنفسكم وأهليكم ، فإن وجدتم فيه الخير لأنفسكم وأهليكم ، فحاولوا تشخيص المرض الموجود في المجتمع الذي تعيشون فيه ، أو تدعون لإصلاحه ، هل يناسبه هذا العلاج الذي تحملونه والذي عالجتم به أنفسكم فشفيت به أو شقيت به .