الثلاثاء، 8 فبراير 2011

خواطر أخت مسلمة



بسم الله الرحمن الرحيم


قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء 32].

أيتها الأخوات الكريمات: يقول جل جلاله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا)، والتمني فعل متعلق بالحاضر والمستقبل، التمني أن تتمنى شيئًا لا يقع، بينما الترقب أن تنتظر شيئًا يقع، فإذا قلت: ألا ليت الشباب يعود يومًا، فهذا تمنٍّ، والتمني كما يقول بعض الحكماء بضائع الحمقى، يعيش في خيالات وفي أوهام لا تقع، فالله سبحانه وتعالى تطييباً لقلوبنا، وإراحة لنفوسنا نهانا أن نتمنى ما فضل به بعضنا على بعض... فالله سبحانه وتعالى خلق جنس البشر من ذكر وأنثى، وجعل في كل منهما فروقاً في أصل خلقتهما وخصائص عقلية ونفسية وجسمية واجتماعية ينفرد بها كل طرف عن الآخر... وجمع بينهما بأن جعلهما كائنين مكرمين عند الله، مخيرين، مسؤولين، مشرفين، فحينما نقول الجنس البشري ذكر وأنثى فهناك قواسم مشتركة بينهما، وهناك فوارق. فالقواسم المشتركة أكدتها آيات كثيرة. جعلتهما في التكليف سواء، قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب 35].

فكلاهما في التكليف وفي التشريف وفي المسؤولية سواء، المرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة من الرجل عن رعايته، والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، فنقاط الاشتراك كثيرة جداً، فهي من بني البشر، وهي إنسان، لها فكرها، ولها مشاعرها، ولها عواطفها، يؤذيها ما يؤذي الرجل، ويفرحها ما يفرحه، ترقى إلى الله كما يرقى الرجل إلى الله، تسمو كما يسمو، وتسقط كما يسقط ، وتنحط كما ينحط، هناك قواسم مشتركة بين الذكر والأنثى، وما أكثرها، لأنهما من جنس واحد، من جنس البشر. قال تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) [الروم 21]، أي خلق من جنسكم، من جنس بشريتكم، إنساناً.

ولكن قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) [آل عمران 36] وهذا هو الواقع حقيقة، ولكن، فحينما يتجاهل الرجل ما تتميز به الأنثى فإنه يقع في خطأ كبير، وحينما تتجاهل الأنثى ما يتميز به الرجل فإنها تقع في خطأ كبير، فلذلك ورد في أسباب نزول هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى حينما فرض الفرائض، وفرض للذكر مثل حظ الأنثيين تمنت النساء أن يكون لهن في الإرث نصيب كنصيب الرجل، وحينما فرض للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى الرجال أن يكون أجرهم في الآخرة مثلي أجر المرأة، فجاءت الآية الكريمة، (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، فالحق أن الله سبحانه وتعالى أعطى لكل نوع خصائص تعينه على أداء مهمته، ففي أصل التصميم صممت المرأة لتكون زوجة ولتكون أماً، فأعطيت من الخصائص الجسمية والخصائص النفسية، وهو شدة عاطفتها، ومن الخصائص الاجتماعية تعلقها بزوجها، ومن الخصائص الفكرية اعتناؤها بالجزئيات... ما يؤهلها لتكون زوجة ناجحةً، وأماً ناجحةً، فهذه الخصائص التي اختص بها الله سبحانه وتعالى النساء كجنس بنيت على حكمة بالغة وكانت من لدن عليم خبير، قال تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر 14].
وفي المقابل خص الله سبحانه الذكور بخصائص جسمية ونفسية واجتماعية وعقلية ومن اهتمام بالكليات لا بالجزئيات تتناسب مع كسب الرزق ومع الحركة خارج البيت ومع قوامتهم على النساء.

هناك إشارة لطيفة إلى أن عمل الرجل خارج البيت هو كسب الرزق، وأن المرأة مهمتها الأولى تربية الأولاد، وهي سكن لزوجها، وهو قائد لمؤسسة البيت، فهناك تناغم وتكامل بينهما، هناك صفات إنسانية مشتركة بين الذكور والإناث، كلاهما مكرم عند الله، وكلاهما مشرّف عند الله، وكلاهما مكلف من الله، وكلاهما مسؤول أمام الله، ولحكمة أرادها الله جعل امرأة الطاغية فرعون آسية صدّيقة، وبكل ثقله وكل جبروته وكل قوته وكل ألوهيته المزعومة، ما استطاع أن يقنعها أن تعبده، ولا أن تقر بألوهيته المزعومة، قالت ما يوضح أن المرأة صاحبة قرارها ومكلفة به، ومسؤولة عنه، ومحاسبة عليه... فهي كالرجل، ولا يتحمل عنها شيئاً من التكليف مهما كانت درجة قرابته منها... قالت ما قاله الله تعالى عنها: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم 11].

فمما أراد الله سبحانه من هذه القصة أن يعلم النساء جميعاً أن المرأة مستقلة في دينها عن زوجها، تحاسب عن دينها، ولتعلم أيضاً أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلذلك معظم النساء حينما يقلن: هكذا يريد أزواجنا وهو في رقبتهم... هذا كلام مرفوض، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهي مكرّمة كما هو مكرّم، وهي مشرّفة كما هو مشرّف، وهي مكلّفة كما هو مكلّف، وهي مسؤولة كما هو مسؤول، هذه من نقاط الالتقاء.

أما نقاط الاختلاف فإذا تجاهلناها وقعنا في فساد عريض حيث قال الله عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب 33]. فالأصل أن المرأة تقوم بأخطر عمل أناطه الله بها حينما تقر في بيتها لتربية الأولاد. فالمرأة التي تربي أولادها، وتدفعهم إلى المجتمع عناصر ملتزمة مخلصة واعية هي امرأة عظيمة؛ لأن شهاداتها الحقيقية ليست تلك الأوراق التي تعلق على الجدران، إن شهاداتها الحقيقية أولادها الذين ربتهم ودفعتهم إلى المجتمع، وكثيراً ما نعثر على شباب يلفتون النظر بأخلاقهم، ويلفتون النظر برحمتهم، ويلفتون النظر بتعاونهم، ويلفتون النظر بحبهم للخير، ولو دققنا وبحثنا لوجدنا أنهم تلقوا تربية عالية من أمهاتهم، إنك إن علَّمتِ فتاة علَّمتِ أسرة.

أيتها الأخوات الكريمات، المرأة والرجل كلاهما مكلف، وكلاهما مشرف، وكلاهما مسؤول، ولكن هناك فروقاً دقيقة وكثيرة بين الذكور والإناث. وخصائص الذكور العقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية تتناسب مع المهمة التي أنيطت بهم، وخصائص الإناث العقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية كذلك تتناسب مع المهمات التي أنيطت بهن.

قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، فإن الله أناط بالذكور مهمات ومسؤوليات، من أجل أن يحققوا أهدافهم بخصائص متعلقة بهم، أو أن لكل واحد بحسب استقامته، وبحسب إقباله، وبحسب انضباطه وبحسب علاقته بربه، هيأ الله له الشيء الذي يعد بحقه حكمة بالغة. وكذلك المرأة أناط الله بها مهمات ومسؤوليات عظيمة وهيأها عقلياً ونفسياً وجسدياً واجتماعياً للقيام بها، وتنال درجتها عند الله بمقدار استقامتها وبمقدار إقبالها، وبمقدار انضباطها...

فلو تشبه الرجل بالمرأة بأن يلبس لباس النساء، ويتبرج تبرجهن، ويتمايل تمايلهن، ويرقق في صوته... فهذا كله محرم.
وكذلك المتشبهة من النساء بالرجال التي تتمنى أن تكون رجلاً، بل إن المرأة المسترجلة، فعلها من الكبائر لأنها رفضت اختيار الله لها أن تكون أنثى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» (أخرجه البخاري).

فالمرأة المؤمنة ترضى عن الله أنه اختارها أنثى، مع أن الأنثى لا تقل ولا شعرة واحدة في مكانتها عند الله عن الذكر إن هي قامت بحق الله عليها.

إن الاختلاف بين الذكر والأنثى هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والحضارة الغربية الفاسدة المفسدة تعاملت مع واقع كل من الذكر والأنثى على درجة واحدة، وأرادت أن تزيل الفوارق فكان في ذلك فساد عظيم.

بقلم: حاملة دعوة – فلسطين

ميمونة بنت الحارث (رضي الله عنها)



بسم الله الرحمن الرحيم


سلسلة أمهات المؤمنين (9)


هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن هلال أحد أشراف قريش وسادتها، وأمها هند بنت عوف سيدة من سيدات مكة اللواتي اشتهرن بالفضل والنسب الرفيع، وخالة خالد بن الوليد (رضي الله عنه).
وكان لميمونة أخت شقيقة كبرى هي لبابة (أم الفضل)، وكانت زوجة لعم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وأخرى تدعى أسماء تزوجها أيضاً عمه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء (رضي الله عنه)، وأخرى تدعى لبابة الصغرى هي أم خالد بن الوليد (رضي الله عنه).
وهكذا فإن المصاهرة قديمة بين بني عبد المطلب بن هاشم وبين شقيقات ميمونة أم المؤمنين (رضي الله عنها). ولقد كانت الوشائج قوية والصلات متينة.

نشأتها
ولدت ميمونة (رضي الله عنها) في مكة قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بست سنوات لذا أدركت الإسلام صغيرة غريرة، لا تفقه ولا تميز، فبقيت مع أبويها وعشيرتها على خطى الجاهلية يسيرون، يعظمون الأوثان ويقدسون الأصنام، ويعبدون ما ينحتون.
وتقلبت في أحضان الجاهلية ترضع من ثديها قيماً زائفة، وتستقي من ينابيعها الآسنة مبادئ زائلة..!
ولكنها مع نموها ونضوجها، وتعاقب الأحداث وتوالي الأعوام، كانت تستمع بشيء من الوعي والإدراك إلى أنباء البعث والوحي وغيرها، وتفكر في ذلك وتمعن التفكير، إذ أوتيت فهماً وعقلاً وعلماً وحرية اختيار.

زواجها
عندما اكتملت أنوثتها، ونما عودها، وبلغت مبلغ النساء، جاءها أحد فتيان مكة المرموقين خاطباً يدها، وهو أبو رهم بن عبد العزى، فوافق والدها، وزوجه إياها. وانتقلت ميمونة (رضي الله عنها) إلى دار زوجها، فأقامت معه، راعية لشؤونه مدبرة لأموره حافظة لعهده. لكنها كانت كثيرة التردد على دار أختها أم الفضل لبابة الكبرى وزوجها العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت تستمع منها إلى بعض تعاليم الإسلام، وإلى أنباء المسلمين المهاجرين، وإلى أخبار معارك بدر وأحد فيترك كل ذلك في نفسها أثراً عميقاً، وشعوراً إيجابياً ميالاً.
وحدث أن ترامت إلى قريش في مكة أخبار غزوة خيبر مشوهة على غير حقيقتها، ففرح المشركون، وأخذوا يسمعون العباس بن عبد المطلب كلاماً مؤذياً، كلما التقوا به عند الكعبة، فيعود إلى داره مغموماً حزيناً.
ولم يمضِ وقت طويل حتى جاء الخبر اليقين بانتصار المسلمين وهزيمة اليهود والاستيلاء على خيبر وما فيها.
فقام العباس من فوره، ولبس أحسن ثيابه، وخرج إلى الناس، وكأنه في يوم عيد متزيناً متطيباً، وجرى بينه وبين بعض المشركين المتغطرسين تحاور، انتهى بأن خرست ألسنتهم، ولجمت أفواههم حين أخبرهم بأن من نقل إليهم الأخبار قد غرر بهم، وكذب عليهم، ليستخلص حقوقه منهم، وكانت ميمونة (رضي الله عنها) في بيت شقيقتها أم الفضل تتأثر بهم ومعهم وتميل بكل جوارحها إلى الإسلام..، لكن وجودها في بيت زوجها أبي رهم كان يكتم أنفاسها ويقيد منطقها..، ويبدو أنها كانت قد أسلمت ولكنها تنتظر الفرصة المواتية للخروج من قمقم الشرك والكفر إلى رحاب الإيمان، وها هي الفرصة قد واتت!!
فعندما عادت إلى بيتها، وضمتها أركان الدار مع زوجها الذي كان مغموماً، متضايقاً حزيناً، لا يطيق كلمة.. دخلت ميمونة (رضي الله عنها) وعلى وجهها علامات البشر والسرور، فياضة الفرحة، بادية الغبطة، فحصل الصدام بينها وبينه، وتلاحيا، ثم أعلن الزوج غضبه عليها، ومفارقتها (طلاقها). فخرجت من عنده إلى بيت العباس تقيم عنده، وكأنها تقيم في بيت أهلها، فأختها أم الفضل بمثابة الأم، والعباس (رضي الله عنه) مكان الأب. فرحبا بها، وأكرما نزلها، وهيّئا لها كل أسباب الراحة!!

صلح الحديبية
خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين من المدينة قاصداً مكة المكرمة لأداء العمرة وتعظيم بيت الله، وثار أهل مكة وأقسموا ليمنعوه من دخولها عليهم عنوة. ولما أصبح المسلمون على مقربة من مكة على بعد أميال منها في مكان يدعى الحديبية نسبة إلى بئر ماء كانت هناك، توقفوا لأن قريشاً أقسمت على الحرب والصد واستعدت لذلك. ومما هو جدير بالذكر والتسجيل أن ناقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء توقفت عن المسير في ذلك المكان، ولم يدركوا أبعاد معنى هذه الحركة. فقط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدركه، فقال: «والله ما خلأت القصواء وليس بها خلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا تسألني قريش اليوم خطة فيها تعظيم لبيت الله إلا وافقتهم عليها». ثم جرت بين قريش وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مفاوضات ومراسلات، وانتهت بتوقيع معاهدة، عرفت فيما بعد بصلح الحديبية ولقد تضمنت هذه المعاهدة بنوداً عدة، من أهمها:
أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة في عام قابل ومعه المسلمون، لا يحملون إلا سلاح المسافر أي السيوف في أغمادها فيقيمون في مكة ثلاثة أيام يؤدون خلالها مناسكهم، وتخليها لهم قريش، ولا يزيدون على ذلك.

عمرة القضاء
وعندما حل موعد الأجل المضروب سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين، وما أن شارفوا مكة حتى أذّن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم بالوقوف.. إذ استقر رأيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام بمناورة بارعة، فأمر بتقسيم المسلمين إلى قسمين، يدخل أولهما مكة للطواف والسعي وأداء المناسك، ويبقى القسم الآخر مرابطاً بسلاحه خارجها، على تمام الأهبة للقاء المشركين إذا ما سوّلت لهم أنفسهم شراً أو عدواناً وغدراً. ثم ساروا حتى انكشف لهم البيت الحرام الذي حيل بينهم وبينه منذ عام مضى، ومنعوا عنه سنوات طوال، فما كادوا يرونه حتى علا صوتهم جميعاً بالتهليل والتكبير. وأحاط المسلمون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إعزاز وإكبار، وما أن أهلت جموعهم حتى جلا القرشيون عن مكة مسرعين إلى التلال والجبال التي تحيط ببطن الوادي، لأنهم لم يقتنعوا، ولا يريدون أن يروا محمداً وصحبه يعودون إلى مكة. بعد أن غادروها منذ أعوام تحت جنح الليل الحالك وسواده الداهم أذلاء مقهورين مبعدين، أو هاربين مهاجرين!!
وكان قد بقي في مكة عدد من المسلمين المستضعفين ومنهم ميمونة (رضي الله عنها).

خلوا بني الكفار عن سبيله
دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فرحاً، وكذلك أصحابه، وعبد الله بن رواحة (رضي الله عنه) آخذ بزمام ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء فكان يرتجز الشعر.
فأراد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن يمنعه من ذلك، فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاله له:
دعه يا عمر، والله لوقع كلامه أشد عليهم -أي المشركين- من ضربات الحسام، ووقع السهام...!
فاستمر عبد الله يرتجز ويردد:
خلوا بني الكفار عن سبيله
يا رب إني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله خلوا فكل الخير في رسوله
أعرف حق الله في قبوله
كما قتلناكم على تنزيله
ويذهل الخليل عن خليله
وكانت ميمونة (رضي الله عنها) تنظر إلى ذلك وتستمع، فيكاد قلبها يقفز من بين جناحيها، إعجاباً وحباً.
وطاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين وسعى، ونحر الهدي، وحلق رأسه الشريفة، وأتم مناسك العمرة. وأقام مع أصحابه ثلاثة أيام.
وقد دخل إليها القسم الذي كان خارجها حارساً، وخرج القسم الذي أدى المناسك.

ميمونة تعرض نفسها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لقد كانت ميمونة (رضي الله عنها) إلى عهد قريب مؤمنة تكتم إيمانها، فإذا بهذا الإيمان يتفجر كالبركان عند رؤية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهوت بكليتها إليه، وأعلنت رغبتها على الملأ، ولم تقف عند هذا الحد، بل طلبت إلى العباس زوج أختها أم الفضل أن يعرض الرغبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن تكون ميمونة له زوجة..
موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن غير تردد ولا إبطاء قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا العرض، لماذا؟ لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول فيها وفي أخواتها “الأخوات المؤمنات”، وذلك من خلال تعاطفهن مع الدين الحنيف منذ أن أشرق فجره وعم ضياؤه. أضف إلى ذلك أنها (رضي الله عنها) قد تأيمت حديثاً، وأنها هي التي أبدت رغبتها... وتم العقد، وأصدقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمثل غيرها من نسائه أربعمائة درهم.
اخرج عنا..!
وكانت مدة الأيام الثلاثة التي نص عليها صلح الحديبية قد انقضت، فأرسل القرشيون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: لقد انتهى أجلك، فاخرج عنا.. فابتسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لرسولهم: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه؟ إذ أراد عليه الصلاة والسلام أن يتخذ من زواجه من ميمونة ذريعة لإطالة مدة إقامته، ودعا إلى الوليمة أكابرهم وزعماءهم، فأبوا أن يحضروا، بل قالوا في إصرار: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا. قالوا ذلك وهم يتوجسون خيفة من بقائه أكثر من ذلك، لأنهم أدركوا ما تركته زيارته هذه من أثر في بعض النفوس والعقول. إذ انتفض المستضعفون، وتكاثر المؤمنون، والتف الكثيرون حوله. وها هي ميمونة بنت الحارث إحدى أبرز سيداتهم لا تكتفي بإظهار إسلامها، بل تضيف إليه ما يزيد غيظهم، حين تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسها زوجة..! وفي هذا الحفل الحاشد أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زواجه من ميمونة.. وحفاظاً منه على نصوص صلح الحديبية لم يبنِ بها في مكة، وطلب إلى مؤذنه أن يؤذن بالتوجه إلى المدينة. وحين أصبح في مكان من ضواحي مكة يدعى سرف على بعد عشرة أميال منها ضرب معسكره، وبنى بميمونة في قبة لها.

ميمونة في بيت النبوة
وصلت ميمونة (رضي الله عنها) إلى المدينة، واستقرت في البيت النبوي الطاهر زوجة كريمة، وأماً للمؤمنين فاضلة، تؤدي واجب الزوجية على خير ما يكون الأداء، سمعاً وطاعةً وإخلاصاً ووفاءً.
وضم إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرتها أختها سلمى أرملة عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وسيد الشهداء...
في هذا العام فجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكبرى بناته زينت فقامت ميمونة (رضي الله عنها) تواسيه وتخفف ما به من ألم المصاب، ولم تكن لتثقل كاهله بشكوى أو طلب.

الوفاة
بعد أن لحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى، عاشت ميمونة سنين عدداً بلغت خمسين عاماً، أمضتها صلاحاً وتقوى، وفية لذكرى سيد ولد آدم، ورسول الهدى، ومعلم الإنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، لقد أحبت ميمونة فيه الروح والقلب وشفافية النبوة... وقد بلغ من وفائها لذكرى أكرم الأزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أوصت بدفنها في نفس المكان الذي بنى بها فيه، وهو سرف، ويروى أنها كانت تحج ذلك العام عام وفاتها، وداهمها المرض بعد أن أدت المناسك، وحين تماثلت للشفاء، حملت في هودجها إلى المدينة، وكان معها ابن أختها عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) فلما قارب الركب سرف هاجت بها الذكرى، وثارت في جوارحها... فلم يقوَ البدن الضعيف على التحمل فنزلوا بها هناك، وما هي إلا ساعات حتى لفظت الأنفاس الطاهرة، وصعدت روحها العفيفة البريئة إلى بارئها.
فقام ابن عباس (رضي الله عنه) بتجهيزها ودفنها.. (رضي الله عنها) وأنزل عليها شآبيب رحمته، وبوأها مقام الأبرار الصالحين.

المصدر: مجلة الوعي .

صفية بنت حيي (رضي الله عنها)



بسم الله الرحمن الرحيم


سلسلة أمهات المؤمنين (8)


هي صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء بني النضير من يهود المدينة. وأما أمها فهي برة بنت سموأل من بني قريظة. والسموأل هو تحريف عبري لكلمة إسماعيل عن العربية، تماماً كما نقل اسم السموأل من العربية إلى الأعجمية بلفظ صموئيل، هذه ملاحظة. وهناك ملاحظة أخرى، فإن كثيراً من أسماء يهود الحجاز واليمن في الجزيرة العربية عامة، كانت مستقاة من واقع البيئة، مثل اسم برة أو صفية أو كعب أو غيرها.

كان والدها حيي من أشد اليهود عداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأكثرهم حقداً على الإسلام والمسلمين، لم يترك فرصة سانحة للنيل من الدعوة الإسلامية والقوة الإيمانية الفتية إلا استغلها وعمد إلى تقويض أركانها، سواء بالتحالف مع عشائر اليهود في المدينة، أم في الفتنة والوقيعة بين الأوس والخزرج، أم السعاية لدى قريش والتحالف معها واستقدام الأحزاب لقتال المسلمين في المدينة. على العموم كان هذا اليهودي كتلة حقد متحركة ومنبع حسد متدفق، ومجمع كره للإسلام وأهله.

نشأتها
كانت صفية فتاة صغيرة، عندما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المسلمين إلى المدينة مهاجراً، ولم تكن وهي في تلك السن لتدرك أبعاد الأحداث والوقائع. نشأت في بيت زعيم من زعماء يهود، وكبير من كبرائهم. وكانت على جانب عظيم من الجمال، لم يعرف في يثرب بين العرب أو اليهود من هي أجمل منها، فكانت محط الأنظار، تهفو إليها القلوب وتتمناها زوجة.

زواجها الأول
فلما استدار عودها، ونما جسمها، واكتملت أنوثتها، خطبها أحد فتيان يهود وكبرائهم، اسمه سلام بن مشكم من بني قريظة، ثم فارقها على الخطوبة، ولم تطل عشرته معها.

الزواج الثاني
ثم تزوجها كنانة بن الربيع بن أبي حقيق وما أكثر ما تهافت عليها الفتيان والرجال، كل يريد لأن تكون له الحظوة عندها فيظفر بها، إلا أن أباها حيي بن أخطب كان لا يفرط فيها، فلا يعطيها إلا لمن يرى فيه الكفاءة المالية، والاجتماعية، فلا بد للزوج أن يكون غنياً ذا ثروة، وأن يكون سيداً ذا مكانة وسلطة. وهكذا كان ابن أبي حقيق.

غزوة خيبر وفتحها
بعد أن أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهود المدينة عنها، كل اليهود، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، بسبب غدرهم ونفاقهم ونكوصهم بالعهود والمواثيق التي وقعوها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعهدوا فيها بالتعايش السلمي، وعدم التعرض للمسلمين بالأذى، إلا أنهم غدروا ونقضوا، فحاربهم عليه الصلاة والسلام وأجلاهم عن ديارهم.
بعد هذا ارتحل حيي بن أخطب ومعه ابنته صفية وزوجها ابن أبي حقيق وبنو النضير إلى خيبر، حيث لاذوا بها. ولكنهم ما انفكوا يمعنون في تدبير المؤامرات وحياكة الدسائس ورسم الخطط التي تؤذي المسلمين وتضر بالإسلام.

ومن خيبر البعيدة، كان حيي بن أخطب لا ينفك يعادي المسلمين، ويدبر المؤامرات فتحالف مع بعض القبائل العربية أمثال غطفان على غزو المدينة، ومهاجمة المسلمين في عقر دارهم، ومفاجأتهم والقضاء عليهم والتخلص منهم. لكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغته أنباء ذلك التحالف، وتلك المؤامرة، وقبل أن يبدأوه بدأهم، فخرج من المدينة على رأس قوة من المسلمين إلى خيبر ليفاجئ اليهود بغزوهم وقبل أن يأخذوا تمام أهبتهم.

وهناك جرت بين المسلمين واليهود وهم داخل حصونهم عشرة معارك، لم يحظَ المسلمون في بادئها بأدنى نجاح، ذلك أن خيبر كان فيها عدة حصون وقلاع، وأهلها أصحاب بأس وقوة، ورماة سهام. لذا سقط العديد من المسلمين في تلك المعارك بين شهيد وجريح، وأخيراً فتح الله على المسلمين وانتصروا على اليهود، ودكوا حصونهم وقلاعهم، وقتلوا الكثيرين منهم، وعلى رأسهم حيي بن أخطب داهيتهم ووالد صفية وكذلك زوجها كنانة بن الربيع، ووقع أكثر اليهود أسرى في أيدي المسلمين، وسبيت نساؤهم وكان من بينهن صفية.

وقوعها في السبي وقصة رؤيتها
كان بلال بن رباح (رضي الله عنه) قد اقتاد صفية ومعها ابنة عم لها فمر بهما على قتلى يهود، فصرخت ابنة العم وصكت وجهها، فسمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أغربا هذه الشيطانة عني... ثم عزل صفية وجعل كساءه عليها، فعرف جميع الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اصطفاها لنفسه. وكان مما قاله لبلال مؤنباً: أنزعت الرحمة من قلبك يا بلال حتى تمر بالمرأتين على قتلاهما!! فأسلمت ثم أعتقها، وبعد أن اصطفاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتزوجها ولاحظ عليه الصلاة والسلام خضرة حول عينيها، فسألها عن سبب ذلك، فقالت: استيقظت ذات صباح يا رسول الله على رؤيا، إذ رأيت القمر يأتي من ناحية يثرب ويستقر في حجري، فحدثت بذلك زوجي كنانة بن الربيع بن أبي حقيق، فاستشاط غضباً لأنه تأول الرؤيا فلطمني هذه اللطمة على وجهي. وقال: أو تريدين أن تتزوجي من ملك العرب..؟!

إسلامها وزواجها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام والعتق، وكان مما قاله لها: اختاري... فإن اخترت الإسلام أسكنك نفسي، وإن اخترت اليهودية، فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك. فقالت رضي الله عنها: يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني بين الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي..! فأسلمت (رضي الله عنها) فأعتقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل عتقها مهرها...

خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر باتجاه المدينة، ولم يعرس بصفية، وقد أردفها وراءه على بعير، وشدها بثوبه، وجعلها من خاصة نسائه. فلما صار إلى منزل يقال له تبار على بعد ستة أميال من خيبر، مال عليه الصلاة والسلام يريد أن يبني بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه..! فلما كان بالصهباء بعد ذلك قال لها: ما حملك على الذي صنعت حين أردت أن أنزل المنزل الأول وأدخل بك؟ قالت (رضي الله عنها): خشيت عليك قرب يهود!! فزادها ذلك عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محبة وتقديراً. لقد تغلغل الإيمان وامتلك حبُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناصية فؤادها، فباتت تخشى عليه وعلى دعوته ودينه من أذى قومها اليهود، لأنها تعرف ما انطوت عليه نفوسهم من الغدر.

أبو أيوب الحارس
وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع أقدام تطيف بالمكان الذي أعرس فيه بصفية، واستمر ذلك إلى الفجر، فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخباء وجد أبا أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) شاهراً سيفه لا يفتأ يدور حول المكان... فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب تأخره عن الركب فأخبره أبو أيوب أنه كان يخشى عليه من صفية، وما أمر الشاة المسمومة التي صنعتها زوجة سلام بن مشكم ببعيد فطمأنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد لصفية بحسن الإسلام، ودعا لأبي أيوب بخير.

عائشة الغيور
ويروى أنه لما اجتلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صفية (رضي الله عنها) رأى عائشة وسط الناس، وكان ذلك في بيت من بيوت حارثة بن النعمان الأنصاري الذي احتشد بنساء الأنصار القادمين لرؤية صفية. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة: كيف رأيتها يا عائشة؟ فقالت: رأيت يهودية!! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولي هذا يا عائشة، فإنها قد أسلمت وحسن إسلامها، ولقد حدث من عائشة (رضي الله عنها) أكثر من حادث بحق صفية يدل على غيرتها الشديدة منها.
مكانتها بين أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم)

كان من عظيم أخلاقه وحسن حكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أنزل صفية من قلبه ونفسه وأهله منزلاً كريماً طيباً... فقد كانت ابنة زعيم قومها، وكانت رضية الأخلاق كريمة الصفات، وأيضاً قد أسلمت واختارت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالأولى أن تكافأ على ذلك كله، وتقدر من أجله. كان إذا خرج لغزوة يغزوها يقرع بين نسائه، ومنهن صفية ويسهم لها كما يسهم لهن من الفيء والغنيمة، ويقسم لها كما يقسم لهن. ويروى أنه قسم لها يوم خيبر وأطعمها ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً أو قمحاً. حدث زيد بن أسلم (رضي الله عنه) قال: إن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في الوجع الذي توفي فيه، فاجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية (رضي الله عنها): أما والله يا نبي الله، لوددت أن الذي بك بي. فغمزنها أي أزواج النبي وأبصرهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهن: مضمضن.. فقلن: من أي شيء يا رسول الله؟ فقال: من تغامزكن بصاحبتكن... والله إنها لصادقة!!

صفية الرقيقة الشعور، المرهفة الإحساس
حين حدثت الفتنة أيام عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وحوصر في داره من قبل الثائرين، كانت رضي الله عنها إحدى المدافعات عنه، المنافحات عن كرامة منصب الخلافة، الداعية إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، المطالبة بالروية والاعتدال وعدم سفك وإراقة الدماء. وقد اضطرت يوم أن هوجم (رضي الله عنه) في داره، وتكاثر الثائرون على بابه، أن تركب بغلتها وتقود فئة من المدافعين بنفسها. إذ روى أحد شهود ذلك اليوم قال: كنت أقود بصفية لترد عن عثمان، فلقيها الأشتر (جاء في الرواية أن اسمه كنانة) فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت ردني... لا يفضحني هذا!! وحين اشتد الحصار عليه، فمنع عنه الطعام والشراب، اتخذت خشباً كالعارضة أو الجسر من سطح دارها إلى داره، وراحت تنقل إليه من فوقه الماء والطعام... فقد كانت تريد أن تدفع الأذى والفتنة عن المجتمع الإسلامي، والسلطة التي يمثلها الخليفة أيا كان هذا الخليفة.

بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أقامت (رضي الله عنها) بعد لحوق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى في خاصة دارها -حجرتها-، عابدةً تصلي وتصوم وتقوم، وتفعل الخير، وتبذل من ذات يدها كل ما تقدر عليه، وكان كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدرونها وفاءً منهم لنبيهم، ويحترمونها إخلاصاً منهم لشعوره (صلى الله عليه وآله وسلم) وحبه لصفية التي آمنت وأسلمت صادقة. كانوا يزورونها في بيتها، ويسألونها حاجتها، ويقدمون لها كل ما يلزم، إن احتاجت لأمر أو شيء من الشؤون الدنيوية، ويجلونها في رأيها، ويستشيرونها إذا ما حزب أمر.

الوصية والوفاة
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: ورثت صفية مائة ألف درهم بقية أرض، فأوصت لابن أختها وهو يهودي بثلثها. فأبوا أن يعطوه وينفذوا وصية صفية، وكانت لا تزال على قيد الحياة، فكلمت في ذلك عائشة (رضي الله عنها)، فأرسلت إلى من يعنيهم الأمر تقول: اتقوا الله وأعطوه وصيته، فأخذ ثلثها (أي الوصية). وكانت لها دار فتصدقت بها في حياتها. ولما كان في العام الثاني والخمسون من الهجرة، وكانت صفية (رضي الله عنها) قد جاوزت العقد السادس من العمر، اعتلّت، ثم وهنت، وعانت من أعراض وأوجاع المرض، ثم وافاها الأجل، وكان ذلك في خلافة معاوية بن أبي سفيان ودفنت بالبقيع.
رضي الله عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب وتقبلها بقبول حسن، وبوأها من لدنه أرفع الدرجات وأسماها، وألحقنا بالصالحين من عباده.

المصدر: مجلة الوعي .

جويرية بنت الحارث (رضي الله عنها)



بسم الله الرحمن الرحيم


سلسلة أمهات المؤمنين (7)


بنو المصطلق هم نفر من قبيلة خزاعة، أصحاب بأس وشدة وكثرة عدد.

ولقد عز على زعيمهم الحارث بن أبي ضرار أن يرى محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغ المكانة الرفيعة بين العرب، وأن يتبوأ تلك المنزلة السامية، وأن يشتد ساعده مع أنصاره وأصحابه إلى درجة كبيرة جعلت كل الجزيرة العربية، من أدناها إلى أقصاها ترهب جانبه وتدين له بالطاعة. عزّ عليه ذلك وثارت عنجهيته الجاهلية وغطرسته القبلية، فقام بهم إلى المدينة لقتال المسلمين في عقر دارهم. قرر ذلك دون أدنى تقدير لما يمكن أن تجره عليه وعلى قبيلته هذه النزوة الجاهلية، والعصبية العشائرية الجياشة، حباً بالزعامة، ورغبةً بالتسلط والسيطرة.

وكم من مغرور أمثال الحارث في الماضي والحاضر يحاول أن يهدم هذا الدين، ويتعرض للدعوة وأصحابها وأتباعها بالتسلط والإيذاء، فلا يلبث أن يزول وينتهي، على صورة العبرة والموعظة، والدرس البليغ لغيره من بعده.

القائد المظفر الناجح (صلى الله عليه وآله وسلم).

إن التحليل الموضوعي الصادق لشخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناحية القيادية العسكرية يثبت دون أدنى ريب أنه كان على أعلى المستويات في هذا المضمار.
فقد أرسل عليه الصلاة والسلام أحد أعوانه ممن كان يكلفهم مهمّات الاستطلاع، أن يستطلع ويستكشف أحوال وأخبار الحارث بن أبي ضرار، وجيشه الذي يعده، وخطته التي ينوي اتباعها، لتكون خطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبادأة والمفاجأة ناجحة ومؤكدة الظفر بإذن الله تعالى.

المعركة

وبعد أن أتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استعداداته، خرج على رأس جيش المسلمين إلى ديار بني المصطلق لمفاجأتهم، كان ذلك في شهر شعبان من السنة الخامسة من الهجرة.

والتقى الجيشان في مكان يسمى المريسيع، بعد أن خرج بنو المصطلق سريعاً لملاقاة المسلمين الذين نزلوا ديارهم وباغتوهم.
ودعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام فأبوا واستكبروا بغير الحق، ثم نشب القتال ترامياً بالنبال وتراشقاً بالسهام، ثم جردت السيوف من أغمادها والتحم الفريقان في قتال مرير شديد، وأسفر عن هزيمة بني المصطلق هزيمة منكرة، ووقع أكثرهم أسرى في أيدي المسلمين، ولقد بلغ عددهم ما يزيد على سبعمائة، كما غنم المسلمون كثيراً من الإبل والشياه.

وفر الحارث مع قلةٍ من أصحابه لا يلوي على شيء ولا يهتدي إلى طريق، فر وقد ضاعت آماله، وانهارت قصوره وأوهامه وأحلامه التي زينها له شيطانه وجهله. وكان أعز شيء عليه أن تقع ابنته في الأسر مع من وقع من أصحابه وتسبى. لكن نجاته من الموت والأسر، كانت تخفف عنه بعض أحزان قلبه وأساه.

«برة» الأسيرة
وكان من بين الأسرى ابنة الحارث وتدعى برة وهي نفسها جويرية (رضي الله عنها) وسنأتي إن شاء الله على سبب تغيير اسم برة إلى جويرية.
كانت برة زوجة لأحد رجالات بني المصطلق الذين قتلوا في تلك المعركة، واسمه مسافع بن صفوان.

حديث عائشة (رضي الله عنها)
ولنترك الحديث الآن إلى السيدة عائشة (رضي الله عنها) فهي أولى بإتمامه وتفصيله منا وأصدق لهجة.
قالت أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءً من بني المصطلق فأخرج الخمس منه، ثم قسمه بين الناس، فوقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكانت تحت ابن عم يقال له مسافع بن صفوان بن مالك بن جذيمة ذو الشعر، فقتل عنها. فكاتبها الحارث بن قيس على نفسها على تسع أواقٍ، وكانت امرأة جميلة، لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه.

فبينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندي، إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعرفت أنه سيرى منها الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأسر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبني على تسع أواقٍ، فأعني على فكاكي. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أو خير من ذلك؟! فقالت: ما هو؟ قال: أؤدي عنك كتابك وأتزوجك.. قالت (قول المؤمنة بالله تعالى وبرسوله): نعم يا رسول الله... فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعلت.

الخير العظيم
نعود إلى حديث عائشة (رضي الله عنها) فتقول متابعة الحديث:
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا أصهار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسترقّون؟ فأعتقوا ما كان بأيديهم من سبي بني المصطلق فبلغ عتقهم مائة أهل بيت بتزويجه إياها. فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها.

اخترت الله ورسوله
وعلم أبوها الحارث بن أبي ضرار وهو في مكة لاجئاً عند قريش بما كان شأنها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزواجه منها، وكيف تحرر أكثر بني المصطلق بسبب بركتها، فأراد أن يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليباحثه في أمرها ويفتديها، فجمع إبلاً كثيرة وقدم إلى المدينة، فلما كان في ضاحية منها، أعجبه بعيران مما معه فعزلهما في ناحية وأخفاهما عن أعين الناس.. وعندما أذن له بالحضور وأمن على نفسه وجلس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: يا محمد... إن ابنتي لا يسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك، فخلِّ سبيلها..! فأجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مبتسماً: أرأيت إن خيرناها... أليس قد أحسنّا. فقال الحارث: بلى، وأديت ما عليك.
فأتاها أبوها وهي في حجرتها من بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه رسول الله، فقال لها: يا ابنتي إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا.. فقالت: إني قد اخترت الله ورسوله... فقال لها: قد والله فضحتنا... وخرج من عندها...

إسلام الحارث
ولم يغادر الحارث المدينة إلا وقد أسلم... وسبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل عن عدد الإبل التي جاء بها ليقدمها فدية لابنته، فذكر العدد، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن البعيرين الذين أخفاهما في الضاحية؛ عندئذ تيقظ وجدان الحارث، وأدرك أنه أمام نبي يوحى إليه؛ فاستسلم وأقسم أنه لم يعلم أحداً من خلق الله بأمر هذين البعيرين، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك يا محمد رسول الله.
وبإسلام الحارث سيد قومه تظهر بركة هذا الزواج وقيمته في الدعوة الإسلامية.

من برة إلى جويرية
روى سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: كانت جويرية بنت الحارث تدعى برة، فحول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمها فسماها جويرية لأنه كان يكره أن يقال خرج من عند برة. وتلك لطائف من أخلاق المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمو سجاياه.

الصوامة القوامة في بيت النبوة
يروى عن تقواها (رضي الله عنها) كثير من الوقائع التي تدل على تغلغل الإيمان والإسلام في أعماق قلبها وفي صميم وجدانها؛ فقد صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليل الفجر، ثم خرج من عندها، فجلس حتى ارتفع الضحى، ثم جاءها في بيتها وهي لا تزال في مصلاها، حيث أدت فريضة الفجر خلفه، فقالت: مازلت بعدك يا رسول الله دائبة، فقال عليه الصلاة والسلام: ولقد قلت بعدك كلمات لو وزنَّ لرجحْنَ بما قلت: سبحان الله عدد خلقه، وسبحان الله رضى نفسه، وسبحان الله زنة عرشه، وسبحان الله مداد كلماته.

ويروي أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على جويرية بنت الحارث يوم جمعة وهي صائمة فقال لها: أصمت أمس؟ فقالت: لا... قال: أفتريدين الصوم غداً؟ قالت: لا... قال: فأفطري إذاً.
بينها وبين زوجاته (صلى الله عليه وآله وسلم)

المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان، قد ركب الله سبحانه وتعالى فيها غرائز معينة محددة، فهي تتسلل في الإنسانية والبشرية منذ حواء إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولقد سبق لنا أن تحدثنا في أكثر من مناسبة عن عاطفة الغيرة التي كانت تثور وتتفاعل في نفوس زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحداهن تغير من الأخرى... ومن الجديدة دائماً على وجه الدقة.

ونحب أن نقول بأن تلك الغيرة قد تهذبت كثيراً، وخفت حدتها بفضل توجيهات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). ولقد جاءت جويرية (رضي الله عنها) ذات يوم ولم يكن قد مضى على زواجها إلا أيام قلائل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيماء الحزن والأسى بادية على عينيها الدامعتين، ثم قالت: يا رسول الله، إن نساءك يفخرن علي، يقلن لم يتزوجك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهدهد عليه الصلاة والسلام من ثورة نفسها، وطمأن من حدة غضبها وحزنها، وقال لها: ألم أعظم صداقك؟ ألم أعتق أربعين من قومك؟ فسكتت جويرية (رضي الله عنها) سكوت الرضى.

ولقد أصبحت (رضي الله عنها) بإكرام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها درة ثمينة في عقد زوجاته الفاضلات. وضرب عليها الحجاب مثلهن، وفرض عليها ما فرض عليهن من الواجبات، ولها ما لهن من الحقوق. وكان يقرع لها مثلهن في الخروج معه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغزوات، والحج والعمرة، وكذلك كان يسهم لها فيما يحصل عليه المسلمون من غنائم.
وقد ذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطعم جويرية يوم خيبر ثمانين وسقاً تمراً، وعشرين وسقاً قمحاً.
بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

اشتدت العلة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأذن من نسائه ومن بينهن جويرية أن يمرض في بيت عائشة (رضي الله عنها) فأذن له.

وكانت جويرية تأتي وتمكث للاطمئنان عليه، وحين تخلو بنفسها في حجرتها تبكي وتتألم، وتسأل الله تعالى أن يخفف ما برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ألم المرض. فلما كان يوم وفاته عليه الصلاة والسلام ولحوقه بالرفيق الأعلى، كانت جويرية بين الحضور، بل كانت أدنى الناس من فراشه، تتأمل الوجه الشريف، ثم تبكي، ولكن دون نحيب أو عويل.
وعاد كل إلى داره ومأواه... وعادت جويرية إلى حجرتها، وإلى وحدتها، وليس لها من أنيس أو جليس سوى اتصالها الدائم بالله تعالى عن طريق عبادتها، قياماً وصياماً.

كانت (رضي الله عنها) شأن أمهات المؤمنين جميعاً، موضع حفاوةٍ واحترام وتقدير من أجلاء الصحابة. تصلها أعطياتها، ومخصصاتها من بيت المال، فتنفقها كلها على المساكين والمحتاجين والفقراء والمعوزين، تأسياً بسيد الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي علمهن أعظم الأمثولات، وأسمى الدروس.

وكانت (رضي الله عنها) تقصد الحج عندما يؤذن المؤذن بالرحيل، فتؤدي المناسك بقلب طاهر خاشع، ثم تعود إلى المدينة حيث مستقرها بجوار الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقيم في بيتها عابدة خاشعة، وتستأذن في زيارة الرمس الطاهر بين الحين والحين لتقف عنده بكل صفائها وحبها واحترامها مسترجعة أيام الذكرى متشوقة ليوم اللقاء في الجوار الكريم.
موقفها من الفتن.

وعصفت في أيام خلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) الفتن بالمسلمين، وذر قرنها وأطلت على الأمة برؤوس الشياطين. فوقفت جويرية (رضي الله عنه) في الخصومات موقف المحايدة الحريصة على وحدة الأمة وترابطها وتماسكها، فكانت لا تصدر في أقوالها وأفعالها إلا عن دعوة إلى الخير والمحبة والسلام، فلا تناصر فئة على فئة، ولا تقف إلى جانب جماعة دون أخرى. اعتزلت يوم الجمل بعد استشهاد عثمان (رضي الله عنه) بل وجهت النصيحة إلى عائشة (رضي الله عنها) كما فعلت أم سلمة وغيرهما من أمهات المؤمنين. وكانت رضي الله عنها تدعو إلى الله أن يحجب دماء المسلمين وأرواحهم. وكذلك فعلت بعد استشهاد علي (رضي الله عنه)، كرم الله وجهه، لقد لزمت دارها وألزمت نفسها موقف الحق والعدل، وحب المسلمين جميعاً.
وفاتها (رضي الله عنها).

ولما أطل شهر ربيع الأول من العام السادس والخمسين للهجرة، كانت جويرية (رضي الله عنها) قد شاخت، ووهن منها العظم وضعفت ووقعت تحت وطأة المرض الذي لم ينفع معه علاج، ثم وافتها المنية وانتقلت إلى جوار الكريم، وصلى عليها والي المدينة يومئذ مروان بن الحكم، وكانت جنازتها مشهودة.

رضي الله عن أم المؤمنين جويرية بنت الحارث الحسيبة النسيبة، الطاهرة العفيفة، التقية النقية، الصوامة القوامة، المتصدقة الكريمة، وأكرم الله نزلها ومثواها.

المصدر: مجلة الوعي .

الثلاثاء، 1 فبراير 2011

الديمقراطية والإسلام.. توأمان أم ضدان



بسم الله الرحمن الرحيم


نتناول في هذا البحث علاقة الشورى بالديمقراطية؟ وهل هناك حقاً ثمة تطابق بينهما، تجعل الديمقراطية جزءا من الإسلام أو العكس؟

إنّ واقع الديموقراطية هو حكم الشعب الذي يقابل حكم الله حتماً، وليس حكم الفرد كما يتصور البعض، إذ أنّ مصطلح الحكم يأخذ وجهين، الأول هو التشريع، وهو الذي يمنح من خلاله الناس حق الاستفتاء والتصويت على القوانين مباشرةً أو بإنابتهم عنهم من يقوم لهم بالتشريع لهم، والثاني هو التنفيذ وهو ما لا يتصور حصوله من قبل شعبٍ من الشعوب أصلاً، إذ أنّ الذي ينفذ الأحكام ويفصل بين الناس هو جهات مختصة، كالوزراء والقضاة وأجهزة الدولة المختلفة، وهذه الجهات تتأهل لذلك من خلال دراساتٍ أكاديمية ومعرفية وخبرات فنية، وبهذا كان حكم الشعب في الفلسفة الديموقراطية هو مقابل حكم الله، هذا هو واقعها وهذا هو ما يؤكده السياق التاريخي والإجرائي لها حتى يومنا هذا.

واستناداً إلى ما سبق نجد أنّ الديمقراطية تتناقض مع جوهر الإسلام الذي يحصر التشريع بالله تعالى حيث يقول "إن الحُكمُ إلا لله" وبذلك لا يكون هناك داعي للاستطراد في بحث بقية الفروع، لأن تباين جذري العقيدتين، الديمقراطية والإسلام، وتضادهما يغنيان عن بحث التفاصيل.

إلا أن إصرار البعض على دمقرطة الإسلام وإقحامها فيه، يضطرنا للتعرض لبعض أهم تلك الاعتراضات، بغية إزالة كل لبس يشوب حقيقة المسألة.

وعليه، فقد التبس ارتباط الديمقراطية بالإسلام لدى البعض، من خلال وجود مفهوم الشورى، والذي يعتبر واحداً من الأحكام الشرعية التي تضبط علاقة الحاكم بالأمة. وبما أن الحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، كان لزاماً توضيح واقع الشورى من الجانب الذي يشير إلى شبهة ذلك الارتباط، من غير الغرق في تفاصيل كثيرة ليست ذات صلة وثيقة بالبحث.

فالشورى هي أخذ الرأي، وتكون ملزمة في حالات، وهو ما يهمنا هنا، لأن الديمقراطية تتحدث عن فكرة إخضاع الحاكم لرأي الأمة. ومن خلال قراءة متفق عليها بين كل من اطلع على الفكر الإسلامي يجد أنه لا شورى في الأحكام الشرعية الأربعة، أي في الواجب والمندوب والمكروه والحرام، ولذلك يبقى أخذ الرأي محصوراً في الدائرة الخامسة وهي المباح.

كما يؤخذ الرأي من الجهة المتعلق بها، كأصحاب الاختصاص والخبرات فيما هو مرتبط بالأمور العلمية والتقنية والفنية وفي الإدارة والتصميم، وهذا ما فعله النبي الكريم في معركة بدر حيث نزل عند رأي الحباب بن المنذر في ترتيب وضع تمركز الجيش، وعند رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وهما رجلان فقط، لكنهما من أهل الاختصاص، وقد اكتفى برأييهما دون إجراء مباحثات ومناقشات واسعة في ذلك مع جمهور الصحابة. كما يكون رأي عامة الناس في بعض القضايا المتعلقة بشأنهم كجماعة ملزما، كحال نزول النبي الكريم عن رأيه الذي يرجحه هو في غزوة أحد، إبان مشاورته لأهل المدينة بقتال قريش خارج المدينة أو داخلها. كما ترك الإسلام للحاكم تبني ما يراه مناسباً في قضايا كثيرة وألزم الأمة بطاعته، حتى تشكلت القاعدة الدستورية "رأي الإمام يرفع الخلاف" و "رأي الإمام نافذ" استناداً للنصوص الكثيرة المتضافرة، والتي عطفت طاعة ولي أمر المسلمين الشرعي، في طاعة الله، على طاعة الله ورسوله، كما في قوله تعالى " (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )".

ومن التجني اختصار الديمقراطية بالشورى أو العكس. فالديمقراطية هي وجهة نظر متكاملة في الحياة، وهي فكرةٌ أساسية عن الحياة، لا تترك شيئا من أمورها إلا وتمنح الإنسان حق إبداء رأيه فيه والتعليق عليه ونقده، فلا قداسة لشيء البتة سوى رغبات الشعب، وتلزم الأكثرية (ولو شكلياً) الحاكم، سواء من خلال استفتاء عام أو بأغلبية برلمانية (نسبية) في كافة القضايا. فيما تعتبر الشورى حكماً شرعياً فرعياً، لا يحلل ولا يحرم ولا دور لها البتتة خارج دائرة الإباحة، التي تحكمها تفاصيل سبق وتطرقنا لبعضٍ منها أعلاه.

وخلاصة القول هي: إن الإسلام يخضع الإنسان لقاعدة "الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع" وأن بغض الإنسان أو حبه لأمر ما لا يعنيان الشيء الكثير، حيث يقول الله تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وأن إجماع الغالبية العظمى من الناس على أمرٍ ليس مبرراً لقبوله حيث يقول الله تعالى (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ).

أما بالنسبة لحق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شئون محاسبة الحاكم ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، إنمّا هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها وليس من رغبات الناس، يقول النبي الكريم (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه) ويقول ( لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم)، فقد أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة. كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء له على قومهم. وأما المحاسبة والتقويم فتدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمن التعاون على البر والتقوى ... وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة.

كما أن النصح والتسديد والتقويم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي أحكامٌ شرعية منفصلة عن حكم الشورى، وهدفها ضمان أمثل تنفيذ للإسلام وإحسان رعاية شؤون الأمة به، وليس النزول عند رغبة الأكثرية! يقول النبي الكريم "مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".

فمهمة الحاكم المبايع من قبل الأمة وكذلك الممثلين لها هو إبقاء كيان الدولة مسيساً بالشريعة منفذاً لها على اعتبارها تعلو ولا يعلى عليها وهي السيد في المجتمع، وأنّ أية رعاية لشؤون الناس ومصالحهم ينبغي ضبطها بما يرشد إليه الإسلام نفسه، ولذلك كانت بيعة الأمة لحاكمها مشروطة بالحكم بكتاب الله وسنة نبيه. أولا ينسف هذا مفهوم السيادة للأمة، أوليس هذا بالنقيض مما هو عليه النظام الديموقراطي!؟

ولا ينبغي أن ينصرف ذهن القارئ إلى أن هذا يعني ترسيخاً للاستبداد وتكريساً للدكتاتوية في المجتمع الإسلامي، إذ أن الإسلام قد جعل الشرع السيادة للشرع لا للحاكم، وأوجب على الناس الاحتكام إليه، وهو فوق الحاكم والمحكوم وبينهما، وينبغي خضوعهما له سويةً، وكان الحاكم نائباً ووكيلاً عن الأمة في تنفيذ الشرع وليس سيدا وصيّا على المجتمع أو على الأمة، وكانت صلاحياته منضبطة بمدى ارتباطه بعقد البيعة الشرعي، وعلى هذا الأساس يفهم قول الخليفة أبو بكر الصديق (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). وكذلك تنص القاعدة الإسلامية المعروفة على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).

مما يلفت النظر إلى أن موضوع الحاكم الفرد المستبد لا مكان له في المجتمع الإسلامي من حيث نظام الحكم في الإسلام، اللهم إلا إذا حصل انحراف عن منهج الله، وعندها ينبغي تقويم الخلل بمعالجته وتصويبه، كما هو شأن أي نظام يقع فيه مثل ذلك. ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تتناول معالجة كفر الحاكم أو خروجه عن الشريعة ومتى يخلع من منصبه أو ينخلع، ومتى يعزل من منصبه أو يخرج عليه لعدم استمرار شروط صحة ولايته.

ولذلك ينبغي اتخاذ الآليات المناسبة وتبني الأساليب والوسائل السليمة التي تحفظ العدل في الأمة، وتمنع الجور من الاستمرار، وتضمن استقرار الإسلام كسيد في المجتمع، وهذا مما يلزم الإبداع فيه، لأن انحراف الحاكم قد يجرف الأمة إلى الهاوية، إن استهانت بحقوقها واستهترت بواجباتها، ولم تتدارك التقصير من جانب الحاكم في رعاية شؤونها بحسب الإسلام، وعليه كان لا بد من الاستفادة من كل المعطيات الحديثة من وسائل وأساليب وتقنيات تضمن الأداء الحسن للحاكم والمحكوم، فيما ينطبق عليه قاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ولا يعني هذا إلغاء النظام الإسلامي واستبداله بنظام آخر بحجة الاستفادة مما توصلت إليه البشرية، فنظام الحكم في الإسلام عبارة عن أحكام شرعية ينبغي الانضباط بها وتجسيدها كما جاءت، والمطلوب هو اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى ذلك لا إلى نقيضه. كما أنه ينبغي إدراك أن أي نظام سياسي في الدنيا معرضٌ طالما أن منفذيه هم من البشر للتعرض لهزات أو لخللٍ ما، سواء لهشاشة محتواه أو لسوء تنفيذه أو لكليهما، بما في ذلك النظام الديمقراطي نفسه، وما أكثر وقوع ذلك فيه. وتكون معالجة ذلك برد الأمور لنصابها والاستفادة من الثغرات التي تقع لإيجاد ما يقلل من تعرض النظام السياسي لمثلها.

وبذلك يتضح أن نظام الحكم في الإسلام هو تلاحم بين الحاكم والمحكوم لضمان إحسان تطبيق شرع الله ومنهجه. وكون أن الإسلام أجاز انتخاب الحاكم من قبل الأمة مباشرة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد، كما هو حاصلٌ في النظام الديمقراطي الرأسمالي أو النظام الاشتراكي الشيوعي أو حتى في نظام دولة الفاتيكان حيث يجتمع الكرادلة من أنحاء مختلف العالم لاختيار البابا، فإن ذلك لا يلغي كل تلك الفوارق الشاسعة بين تلك المبادئ والإسلام، ولا يعقل دمجهم سوية بحال لتشابههم في جزئية، فيصبح أحدهما جوهر الآخر رغماً عن أنفه. كما لا يمكن جعل المبدأ كله يأخذ بحالٍ حكم واحدٍ من أحكامه الفرعية، إذ أن في ذلك تعسفاً في الفكر، وإخراجاً للأشياء عن حقيقة ما هي عليه.

ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والشورى من حيث أصل ما بنيتا عليه أو من حيث دلالاتهما ومعنى الالتزام بهما.

بقلم: م. حسن الحسن