الأربعاء، 19 أغسطس 2009

الإنسان بين تشريعه و تشريع خالقه



بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحديث عن أي شيء في هذا الوجود لا يستقيم إلا بالحديث عن الإنسان، لأنه محور الوجود وركيزته؛ لذلك كرمه الله:
أولاً: بالعقل ليدرك من خلاله وجود الله تعالى، فاستعمله الإنسان في غير محله فشقي وتاه،
ثانياً: خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وخلق كل ما في السموات والأرض لأجله، فقلب الإنسان الآية، وعاش هو، بل ومات من أجل أرزة أو نجمة أو تراب، من أجل بعض الموجَدات.
ثالثاً: كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بأن جعله عبداً له، فأبى الإنسان إلا أن يكون عبد شهواته ونزواته.

لقد خلق الله الإنسان، وأوجد فيه طاقة حيوية تتطلب الإشباع، ليبقى هذا الإنسان على قيد الحياة، وليضمن حياة هنيئة مستقرة. وهذه الطاقة الحيوية المتمثّلة بالحاجات العضوية والغرائز، هي التي تدفع الإنسان إلى القيام بالأعمال التي نراه يقوم بها. فهو يسعى ليأكل ويشرب ويلبس، كما ويسعى ليتملك ويقدّس، إلى غير ذلك من الحاجات التي نراه يسعى لإشباعها. وعندما اندفع الإنسان ليحصل على ما يحتاج إليه من الأشياء من حوله، وجد نفسه أمام مشكلة يجب أن يجد لها حلاً، وهي تتعلق بطريقة إشباع حاجاته وغرائزه، أو بعبارة أخرى معرفة النظام الذي سيسير عليه حين القيام بعملية الإشباع. وممّا يحتّم على الإنسان وجود نظام في حياته يسير عليه، هو أن كثيراً ممّا يحتاج إليه موجود لدى غيره من الناس، ولا بدّ له من الاجتماع معهم، وهو ما أدى إلى قيام علاقات دائمية بين الناس من أجل تبادل المصالح، وهذه العلاقات الدائمية، وما ينتج عنها من مشكلات، تحتاج إلى نظام ينظّمها ويعالجها.

لذلك بدأ الإنسان يعيش حالة من الصراع، بين ضوابط معينة وضعها بنفسه، فحيناً يلبسها حلة إلهية مقدسة، وحيناً ينـزع عنها هذه الحلّة، وبين رغباته التي لا تقف عند حد إذا ما أطلق لها العنان، إلى أن توصله إلى ما دون مستوى الحيوان. فكانت العصور الوسطى، وما حصل فيها من ظلم وطغيان وشقاء، تحت شعار أن رجال الدين هم ممثلو الله على الأرض، وبالتالي لا يحق لأحد أن يعترض أو يناقش، إلا أنّ هذه الأحكام كانت أحكاماً بشرية، أُلبست كما قلنا لبوسَ الإلهية وهي ليست كذلك، بل كانت مجردَ رغباتٍ لفئة معينة من الناس، وبعد صراعٍ دامٍ نقل الإنسان صلاحية إصدار الأحكام إلى فئة أخرى من الناس، هم ممثلو الأمة أو الشعب كما أوهموه، إلا أنه لم يتغير في الجوهر شيء، فتسلَّم أمرَ التشريع فئة أخرى من الناس، لم تلبسها لبوس الدين هذه المرة، بل لبوس الحرية وسيادة الناس والشعب والأمة، فلم يتغير الحال وبقي الظلم سائداً، بل إنّ الظلم قد ازداد، وعمّ الناس الشقاء وإن كان بمسمى آخر.

وبعد أن جاء المفكرون الغربيون بفكرة فصل الدين عن الحياة وعن الدولة، جعلوا حقّ التشريع للإنسان، متخذين الحقوق الطبيعية أساساً لذلك. وهذه الحقوق حسب نظرتهم تولد مع الإنسان، كحقه بالحياة والحرية والمساواة، وما يتفرع عنها من سلامة الجسد والعيش بأمان، أو حرية الرأي والمعتقد، وأن يتصرف في شؤون حياته على أي وجه يريد إلى غير ذلك من الحقوق.

والناظر في فكرة الحقوق الطبيعية التي بَنَوْا عليها وجهة نظرهم في مسألة التشريع، يجدها باطلة بطلاناً مطلقاً، فالله تعالى أوجد في الإنسان الغرائز والحاجات العضوية التي تتطلب الإشباع، أي الطاقة الحيوية التي تدفع الإنسان للقيام بالأعمال، وهذه الطاقة الحيوية هي التي تعدّ فطرية، وهي جزء منه، ولكنّ كيفية إشباع هذه الطاقة الحيوية، ليست جزءاً من تكوينه، فالجوع والعطش وحبّ التملك وحب السيادة وغيرها من الحاجات ومظاهر الغرائز، هي من الأمور التي تولد مع الإنسان، أما كيف يشبع الإنسان حبه للتملك أوكيف يشبع جوعة معدته، أو كيف يشبع طموحه للسيادة والسلطة، فهذا ليس من طبيعة الإنسان، وإنما يتم بإخباره مجموعة من المفاهيم يسير بحسبها في حياته، وهذا واضح من أن كل الناس لديهم هذه الجوعات، ولكنها تختلف بكيفية إشباعها، وتختلف بطريقة عيشها، ممّا يعني أن الحقوق الطبيعية ليست جزءاً من الإنسان. وعلاوة على ذلك فإنها لو كانت حقوقاً طبيعية لرأيناها متجسدة في كل إنسان، أو على الأقل يطالب بالحصول عليها كلّ إنسان، ويشعر بالحاجة إليها لو كانت جزءاً منه، وهذا غير حاصل، إذ المسلم لا تتجسد فيه فكرة الحقوق الطبيعية، بل إنه يعتبرها باطلة، ويؤمن أن الله تعالى وحده هو من يبيّن له حقوقه.

ولأن فكرة الحقوق الطبيعية من نتيجتها الحتمية أن يعتديَ الإنسان، وهو يمارس حقوقه الطبيعية، على حقوق الآخرين، كان لا بد من ضوابط تنظم عمل الإنسان. هذه الضوابط، إذا أردنا ان ننطلق من مفهومهم للحقوق الطبيعية، فيها اعتداء على تلك الحقوق، لأنه لا يستطيع أن يمنع الحق إلا من أعطاه، فكيف يقيدون حريته بالسجن، وحقه الطبيعي أن يكون طليقاً لأنه ولد كذلك، وكيف يمنعونه من ممارسة الزنى مع فئة عمرية معينة وهذه حرية شخصية، ولو تجاوزنا هذا الأمر، نرى أن الإنسان وضع لنفسه نظاماً حدد بموجبه ما هو حسن أو قبيح، وما هو خير أو شر، بناء على رغباته وأهوائه، معتبراً أن الفيصل في ذلك هو للأغلبية أو للأكثرية من الناس، فمتى كانت الحقيقة تؤخذ من العدد، ومتى كان الحق يعرف برفع أيدٍ صبغتها الجريمة، وخفض أيد أخرى مجبولة عليها، قال تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام 116].

إن الإنسان عاجز عن وضع النظام الصحيح الذي يؤمِّن له الطمأنينة والرفاهية، وذلك لأنّ عقله عاجز عن إدراك كنه الطاقة الحيوية لديه وما يصلح لها، ونتيجة لعدم إحاطة عقله بذلك، لم يعد العقل هو أساس النظام، وصار الإنسان يشرّع بناء على ما يهواه وما يراه موافقاً لطبعه. فترى دولة تبيح عملاً معيناً، والدولة التي بجوارها تمنعه، مع أنهم قد يكونون من شعب واحد، وظروفهم واحدة، وهذا مثلاً ما نشاهده في الولايات المتحدة، إذ إنهم يحملون ذات القيم والأفكار، ومع ذلك اختلفت الولايات في القوانين المتبعة في اداراتها فيما بينها، وفيما بينها وبين الإدارة المركزية، أو كما هو حاصل في أوروبا، وفي كل دول العالم، مع أن الإنسان هو الإنسان، سواء أكان في كاليفورنيا أم تكساس، أو كان في فرنسا أم هولندا، أو كان في لبنان أم إيران، فالإنسان لا يتغير حاله بتغير المكان، ولا حتى الزمان، لأن متطلباته ثابتة، أما المتغير فهو وسيلة إشباع هذه المتطلبات. هذا الاختلاف والتناقض في الحكم على عمل واحد، مع وحدة الظروف والأوضاع، من الإنسان نفسه، يدل دلالة قاطعة على أن الإنسان عاجز على أن يضع نظاماً صحيحاً لنفسه، لأن البشر جميعهم اليوم وفي كل عصر قد اتفقوا على بعض الأمور والقضايا؛ لأن حقيقتها واضحة جلية، كالأمور العلمية مثلاً، وهذا يعني أن اختلافهم على شيء ما في الحكم عليه، هو دليل عجزهم عن الوصول إلى الحق فيه، لذلك ترى ما حل بالعالم نتيجة تحكم أهواء بعض الناس، بما صار يعرف بالقانون الوضعي، وهو ما صار الناس يتداولونه باسم الديمقراطية.

ولنعرف ما فعلت الديمقراطية بشعوب العالم، لا بد من لمحة سريعة عن المعطيات الحالية، ولن نتحدث عما فعلته الدول الديمقراطية المتحكمة بشعوب العالم، فهذا مما لا يخفى على أحد من الناس، ولكن نريد أن نعرف كيف تعيش هذه الشعوب، وإلى أي مدى وصلت.
ولنبدأ من السلطة الأعلى في الدولة الأقوى، أي مجلسي الكونجرس في أميركا، الذي يشرع للناس، فهناك: 7 أعضاء اعتقلوا بتهمة الاحتيال، و8 بتهمة السرقة من المتاجر، و19 اتهموا بإصدار شيكات بلا رصيد، و17 منهم لا يستطيعون الحصول على بطاقة اعتماد مصرفية نتيجة سوء سمعتهم، و29 اتهموا بإساءة معاملة زوجاتهم، و84 أوقفوا بتهمة قيادة السيارة بحالة سكر، و14 اعتقلوا بتهم تتعلق بالمخدرات، أظن أنه إذا كان من يضع النظام هذا حاله، فهنيئاً للعالم بهذا النظام!

أما على صعيد الشعب فتعداد سكان الولايات المتحدة يزيد عن 300 مليون نسمة، 76 مليون منهم يشربون الكحول بأجواء عائلية، ينفق المراهقون على الخمور سنوياً 27 مليار دولار، وينفق الشعب الأميركي عليها 108 مليارات، مليون أميركي يتعاطون الكوكايين بشكل منتظم، 50 مليون أميركي يزورون العيادات النفسية سنوياً، و12 مليون من أطفال أميركا يعيشون تحت خط الفقر، 50% من الذكور ومليون ونصف مليون إمرأة قد مارسوا الشذوذ الجنسي، 22% من النساء اعتُدي عليهنّ بالاغتصاب، بلغت نسبة الأسر بلا زواج 48% عام ألفين، ونسبة الآباء الذين لم يتزوجوا 35% ، والأمهات 42%، 22% من الأميركيين يعتقدون أنهم سيدخلون جهنم بعد الوفاة، و28% من الطلاب يرون الحياة جحيماً لا معنى لها، كل 17 دقيقة هناك محاولة انتحار في أميركا أي ما يزيد عن 80 محاولة يومياً، وكل ست ساعات ينتحر مراهق بإطلاق النار على نفسه، و45% من المراهقين لا يشعرون بالأمان داخل مدارسهم، يقتل في أميركا يومياً 65 شخصاً بسبب العنف، مليون من القاصرات في أميركا يحملن دون زواج، و400 ألف منهن يقمن بعملية إجهاض، واحد من كل خمسة من الأميركيين يعاني من التعاسة والكآبة، بشكل متوسطي يقتل في أميركا طفلان كل يوم، وأن ثلث الضحايا يموتون على أيدي أطفال مثلهم، يوجد في أميركا 171 ألف شخص بلا مأوى، 171 ألف أميركي تقل أعمارهم عن 18 سنة قاموا بعمليات تجميل وخاصة لتعديل الأنف، إن متوسط دخل الأميركي الأبيض يفوق بعشرة أضعاف متوسط دخل الأميركي الأسود، حيث يتقاضى الأبيض حوالى 67 ألف دولارمقابل 6 آلاف دولار للأسود، 23 ولاية أميركية تأخذ ضرائب على تجارة المخدرات المحظورة، (ويوجد) في سجون أميركا ما يزيد عن مليونين ونصف المليون، بنسبة 741شخصاً لكل 100 ألف.

أما بقية العالم، فقد احتلت النرويج المرتبة الأولى في معدل الجرائم الناجمة عن تعاطي المخدرات، سجل عدد السرقات اليومية في مدينة لندن 175حالة، ويعيش 20% من سكان بريطانيا تحت عتبة الفقر، يبلغ معدل الجرائم اليومي لمدينة زيوريخ السويسرية 250 جريمة، وصل عدد السلع المزورة في إيطاليا إلى103 ملايين سلعة، سيدة من كل عشر سيدات تعرضت للاغتصاب تحت سقف بيتها في فرنسا، وتموت سيدة واحدة كل خمس أيام جراء اعتداءات من جانب الأزواج، ويمتن بين طعن بالسكين وإطلاق النار عليهن وخنقهن، تحتاج فرنسا إلى 6 مليارات يورو تقريباً لمواجهة الآثار المرضية للابتزاز الجنسي الذي تتعرض له البنات، وهناك 186 ألف شخص يعيشون بلا مأوى في فرنسا، 52% من المستطلعة آراؤهم في النمسا وألمانيا يفضلون حياة المخادنة على الحياة الزوجية، و42% لم يمانعوا أن يسمح رسمياً للرجل بالزواج من رجل، و40% من نساء السويد اللواتي أجري عليهن استطلاع في استوكهولم أعلنّ أنهن يخن أزواجهن، 96% من تلاميذ المدارس في اليونان ممن تقل أعمارهم عن 16 سنة معتادون على شرب الخمر، و18% منهم مدمنون على المخدرات، و90% من شباب هولندا يشربون الخمر و30% منهم مدمنون عليها، وليس مستغرباً أن يعرب علماء اجتماع نرويجيون عن قلقهم إزاء ارتفاع نسبة زنى المحارم، وبلغت تكلفة التجسس السنوية على الهواتف في إيطاليا 2.5 مليار يورو.

هناك مليار و200مليون شخص يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، ومليار يعيشون في مدن الصفيح، وما يزيد عن 750 مليون شخص يعانون من سوء تغذية مزمن بينهم 180 مليون طفل تقل أعمارهم عن 10 سنوات، وهناك 700 ألف طفل وأمرأة تمت المتاجرة بهم لأغراض الدعارة، وبيع 20 مليون طفل في ظل ظروف معيشية صعبة في العشر سنوات الأخيرة، وهناك ما يقارب 300 مليون طفل يشاركون في نزاعات في العالم، ويوجد في العالم 21 مليون لاجئ، و180 مليون مدمن على المخدرات، وهناك مليار و100مليون نسمة لا تصلهم المياه النظيفة، ومليونا شخص يعانون من الجوع الدائم، وما يفوق 40 مليون مصاب بمرض نقص المناعة، معظمهم في أفريقيا، ومات بهذا المرض ما يزيد عن 22 مليون إنسان، و500 إنسان من الأثرياء، دخلهم يساوي دخل 415 مليون من الفقراء.

هذا غيض قليل من فيض الديمقراطية، من فيض تشريع الإنسان لنفسه، فهل هذه شعوب يُحتذى بها، وهل هذه حضارة يُفتتن بها، وهذا ما ذكرنا مما يعتبرونه هم جرائم، غير شامل لحالات الزنى بين البالغين مثلاً، والحق يقال، إن ما يدرك بالواقع والمشاهدة أكثر بكثير. هذه هي نتيجة الديمقراطية، نتيجة تشريع الإنسان لنفسه، نتيجة ظلم الإنسان لنفسه، وقد يقول قائل: إنّ هذا لا دخل له بالديمقراطية، إنما هو سوء تصرف من حكام وظلام، ونقول لا يمكن أن يكون سوء تصرف لحاكم ظاهرة متفشية على جميع نواحي الكوكب، بل أصبح هو الأصل ونقيضه الاستثناء، وزيادة على ذلك فإنّ مقياس الأعمال في الديمقراطية هو المنفعة، لذلك فالمتحكمون بالعالم اليوم وعلى رأسهم أميركا، لا يرون بأساً في أن يقتلوا ويدمّروا ويستعمروا من أجل الحصول على النفط والمواد الخام وغير ذلك من الخيرات والثروات، وما إعطاء الغرب فلسطين ليهود وطرد أهلها منها، واحتلال العراق وأفغانستان وتدمير لبنان مرات عدة بأسلحة الغرب، وإشعال الحروب لتصريف إنتاج المصانع الغربية من الأسلحة، وسجنا أبو غريب وغوانتنامو، إلا أدلة قاطعة على أن شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لا تعنيهم شيئاً عندما تتعارض مع المنفعة، خصوصاً أن نشأة أميركا كانت على جماجم 100 مليون من الهنود الحمر، و100 مليون من سود أفريقيا، فماذا ننتظر من دولة نشأت على جماحم200 مليون من البشر؟ وها هو ساركوزي يرفض الاعتذار من الجزائر على استعمار فرنسا لها ما يزيد على مئة وثلاثين عاماً، ولماذا يعتذر وهو يعتبر أن استعمار الشعوب حق لفرنسا؟

إنه لا معنى للإنسان، أن يتنقل بالطائرات ويسكن ناطحات السحاب، ويتواصل عبر شبكة المعلومات، وهو لا يدري لماذا يعيش، أو تكون الحياة بالنسبة إليه جحيماً لا يطاق، أو يحيا لكأس خمر أو جرعة مخدرات، حتى وصلوا بالإنسان إلى ما لم يسبقهم أحد إليه، فأصبحنا في جاهلية نشعر أنها أدهى وأمرّ من جاهلية ما قبل الإسلام، كانوا هناك يفتخرون ببعض المعاني من كرم وشجاعة وصون للأعراض، أما جاهلية اليوم، فهي قد صوّرت أن سعادة الإنسان إنما تكون بنيل أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية، فلا وجود للقيم الرفيعة والأخلاق الفاضلة والأهداف السامية، فانحصر تفكير الإنسان في نفسه، وانعدم شعوره بالمسؤولية تجاه الآخرين، وصار أكبر همه كيف يحصل على المتع الجسدية، ولا يعنيه مقابل الحصول على ذلك موت الآخرين جوعاً أو مرضاً أو قتلاً، وهو ما نشاهده اليوم في بقاع الأرض.

وما دام الإنسان عاجزاً عن أن يضع نظاماً صحيحاً لنفسه كما أسلفنا، وبما أنه لا بد من نظام صحيح ينظم به الإنسان حياته، كان لا بد أن يكون هذا النظام من الله تعالى، فهو سبحانه خالق الإنسان، العالم بما خلق وما يصلح له، الذي يتصف بصفات الكمال، فلا وجود لنقص أو اختلاف أو تناقض؛ لذلك كان لا بد من رسل الله يبلغون الناس دين الله تعالى. فكان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين، أرسله الله تعالى لإنقاذ الإنسان كإنسان، وليفك قيود العبودية عنه، سواء كانت لملك أو إمبراطور أو مالاً وطمعاً، أو استعماراً وجشعاً، (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف 157]، ليصبح هذا الإنسان كما أراده الله عبداً له، فكانت القضية المحورية للإنسان هي قضية التوحيد، لأنها دعوة كل الأنبياء، وهدف كل الكتب السماوية، توحيد الله سبحانه وتعالى، ليس فقط لكونه خالقاً مالكاً معزاً مذلاً...، وليس فقط لأنه لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له، بل كذلك لأنه هو وحده صاحب الأمر والنهي قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف 54]، والتحليل والتحريم، قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل 116]، أي هو وحده له صلاحية إصدار الأحكام على الأشياء والأفعال، وأي اعتقاد أن هناك من يحق له أن يشرع من دونه هو إشراك بالله، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) [الشورى 21]، فتوحيد الله بأنه وحده الخالق، يستدعي أنه وحده له الحكم، ولا معنى لإفراد الله بالخلق دون الحاكمية، فمن أراد أن يكون مسلماً، عليه إفراد الله تعالى بكل خصائصه، ومن أهمها إفراده سبحانه بالحاكمية.

وهذا الأمر الذي اصطلح على تسميته بالحاكمية، هو الذي كان مدار البحث بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين زعماء قريش، ومن أجله عانى محمد وأصحابه كل أنواع العذاب والتشريد والتجويع..، لأن قريشاً لم يكن لديها مشكلة في أن تقر أن الله هو الخالق، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [العنكبوت 61]، كما أنهم لا مشكلة لديهم من يعبدون، إذ عرضوا على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعبدوا إلههم عاماً، ويعبدوا إله محمد عاماً، كل هذه الردود المتساهلة في مسائل لا تتعدى مسألة الفرد الواحد، وعلاقته بخالقه، أما مسالة توحيد الله بكل أنواع التوحيد، فقد تم رفضه رفضاً قاطعاً لأن معناه أن تذهب مناصبهم وتزول.

وكذلك اليوم مع كل طواغيت العالم، من حكام المسلمين ومن غيرهم طواغيت دول الكفر والاستعمار، فإنهم لا يجدون مشكلة بأن تدعو إلى أن الله هو الخالق المالك المحيي المميت...، ولا يعتبرونها عقدة أن تدعوَ إلى الصلاة والصيام وصدق الحديث، لا بل قد يكونون في الصفوف الأمامية في صلاة الجمعة أو العيد، وهم من ينفقون على المساجد وعمارتها البنيانية، فهذا المجال لا يشكل مشكلة مع طواغيت العصر الحالي، كما أنه لم يشكل مشكلة مع طواغيت قريش. أما أن تدعو إلى توحيد الله كاملاً، ومن ضمنه توحيده سبحانه بالحاكمية، فهنا تكون تجاوزت وضللت وأضللت، وأصبحت إرهابياً أو أصولياً أو متطرفاً، كيف لا وأنت تريد أن تنـزع من بين أيديهم ما تجرأوا به على خالقهم، بتشريعهم القوانين والأحكام، وكأنهم يضعون أنفسهم أنداداً له، وتحاكمهم لأهوائهم، المتمثلة بقرارات تصدر عن هيئة يزعم أنها تمثل الشعب، ولو أنها الشعب كله، فليس هذا من حقهم، وليس من صلاحياتهم، بل هو من الأمور التي انفرد بها سبحانه وتعالى، ولا يجوز لأحد أن يتعدى هذه الحدود.

إن هذه العقيدة التي تقوم على توحيد الله في كل شيء، وهذه الأحكام التي أتت بها هذه العقيدة، هي وحدها التي تصلح لأن تنقذ العالم من هذا الضلال والشقاء والانحراف المستشري في أعماقه، هي وحدها الصالحة، لأن هذه العقيدة التي انبثقت منها هذه الأحكام، هي وحدها التي تقرر ما في الإنسان من عجز وقصور، وتبين الاحتياج إلى الله، ليس بكونه خالقاً فحسب، بل بكونه خالقاً مشرعاً، لذلك كانت أحكام الإسلام تعالج مشكلات الإنسان بوصفه إنساناً، أي جاءت لتعالج كيف يشبع جوعاته جميعها، بغض النظر عن العرق واللون ...، فهي تصلح أن تعالج مشكلات كل البشر، وتستطيع أن تؤمن لهم الطمأنينة في العيش إن كانوا غير مسلمين، أما إن كانوا يبحثون عن الطمأنينة الدائمة فما عليهم إلا الدخول في حظيرة الإسلام، باعتناق عقيدته، ليتمكنوا من أن يصلوا إلى أرقى أنواع السعادة.

وبنظرة بسيطة إلى ما فعلت هذه العقيدة وهذه الأحكام عندما كانت سائدة، ونحن هنا لن نتكلم عن الأمور المدنية والعمرانية، فلن نتحدث عن الأندلس أو بغداد أيام الخلافة، نحن هنا نريد أن نتحدث عن الإنسان، كيف صنعته عقيدة الإسلام، فها هم العرب قبل الإسلام، لا وزن لهم ولا شأن، يقرون بتبعيتهم لفارس والروم، هم أنفسهم، بعد اعتناقهم لهذا الدين، يدكون صروح الطواغيت في بلاد فارس الروم، وصدق من قال: إن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) استطاع أن يجعل من رعاة الغنم قادة للأمم، وهذه العقيدة هي نفسها التي صهرت كل الشعوب المختلفة الأعراق واللغات والثقافات، ببوتقة العقيدة، لنصل إلى أن تكون الكتب الصحاح الستة عند المسلمين برواية ستة من علماء المسلمين، الذين لا ينتمون للأمصار العربية، أي ليسوا ممن انطلقوا من الجزيرة العربية ليحملوا هذا الدين إلى العالم، وهذا يظهر كيف أن هذه العقيدة استطاعت أن تتجسد فيهم لتصبح عقيدتهم، يبذلون في سبيلها كل غالٍ ونفيس، وهذا يدل على أن الفتح الإسلامي لم يكن لاستعمار الشعوب ومص دمائها، بل كان من أجل الإنسان، فلم يشعر أهل البلدان التي تفتح، بغالب أو مغلوب، بل كانت الغلبة للعقيدة للفكرة، فمن يؤمن بها يصبح كأول من آمن، لا فرق بين هذا وذاك إلا بصحبة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). إن أي مظهر من مظاهر المجتمع الإسلامي، تظهر كيف استطاع الإسلام أن يبني الإنسان، من خلال عيشه من أجل قضية سامية، هي قضية توحيد الله وتجسيد هذا التوحيد، فيحيا الإنسان لمعنى معين ولهدف معين، ويموت في سبيل معنى معين ولهدف معين، فهو يحيا لمعنى التوحيد، ولهدف إيصاله إلى كل البشرية، ويموت في سبيل التوحيد، وبهدف نيل الشهادة، وهذا وذاك في سبيل رضوان الله، المتفضل على هذا الإنسان بكل النعم والمكرمات، فيصبح الإنسان إنساناً يستأهل أن يوصف بأنه عبد لله، ويا لها من منْزلة عظيمة لو وعينا حقيقتها، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام 122]. ونذكر هنا أنه عندما أتى الكفار المستعمرون، ليقاتلوا المسلمين في العراق، في حرب الخليج الثانية عام 1991م، قال قائد القوات العسكرية شوارتزكوف: لقد أتينا إلى هنا لنصحح خطأ الرب. وعندما جاء الصحابي ربعي بن عامر إلى العراق أيضاً قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فانظروا وتمعنوا، فهذان القولان يلخصان الأمر، الأول جاء ليصحح ما اعتقده خطأ من وجود النفط عند المسلمين، فأتى بجيوشه وعتاده، وضحى بدمه وماله، من أجل المنافع المادية المتمثلة بالنفط، فظهر جلياً أن قضيتهم المنافع ولو على حساب الإنسان، أما الصحابي الجليل ربعي بن عامر، فخرج ليخرج العباد من الشرك والكفر والإلحاد، من الشقاء والتعاسة والعبودية، ليخرج العباد إلى الإيمان والسعادة والطمأنينة، خرج وهدفه إنقاذ الإنسان، ومن أجل هذا المعنى السامي، ضحى المسلمون بأموالهم وأنفسهم.

لذلك فقضية الحاكمية في الإسلام تأخذ أبعاداً رئيسة ثلاثة:

الاعتقاد: فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً لا لبس فيه، أن الله وحده له صلاحية إصدار الأحكام على الأشياء والأفعال، ومن يعتقد أنه يحق لأحد أن يشرع من دون الله، مع اتباعه له، يكن قد عبده، أي عبد غير الله، لقول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة 31]، فقال عدي: ولكنهم لم يعبدوهم، فقال سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألم يحلوا لهم الحرام ويحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم؟» قال: نعم، فقال: «تلك عبادتهم». وانظروا كيف أن الآية تكمل بأنهم لم يؤمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، وذلك بعد الحديث عن التشريع والحاكمية، ما يعني أن الحاكمية هي من أخص خصائص الألوهية. ويجب عليه أن يعتقد أن كل طواغيت الأرض ليس لهم هذا الحق، وأنهم بتشريعهم يكونون قد تجاوزوا حدودهم، ووضعوا أنفسهم نداً لله، تعالى الله عن ذلك، لأن الله يقول في كتابه: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) [البقرة 256]، فقدَّم سبحانه الكفر بكل الطواغيت على الإيمان بالله، لأن هذا الإيمان لا يعني شيئاً إن استمر الاعتقاد بأن لهؤلاء الطواغيت صلاحية التشريع.

الحكم: يجب على المسلمين أن يُحكموا بالإسلام، في كل شؤون حياتهم، قال تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49]، وقال الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة 44]، و(الظَّالِمُونَ) و(الْفَاسِقُونَ)، وبالتالي لا يجوز السكوت على من أقصى شريعة الخالق، وحكم بقوانين المخلوقين، وكيف وإن كان هؤلاء من أحط أنواع البشر على الإطلاق، ولأهمية موضوع الحكم بالإسلام، قرنه الله سبحانه بالإيمان، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65]، فانظر فهو سبحانه ينفي الإيمان عمن لم يحكِّم شريعة محمد، لا بل لا بد أن يحكِّمها، ثم لا بد أن تطمئن نفسه بهذا الحكم، ثم يسلم تسليماً.

التحاكم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء 60]، لذلك أوجب الله سبحانه على المسلمين أن يتحاكموا إلى شريعة ربهم، وان ينبذوا كل شرائع الطواغيت وراء ظهورهم، وليستجيبوا لدعاة تطبيق الشريعة، وتحكيم الإسلام، لأن الله يقول: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور 51]، فها نحن ندعوكم أيها المسلمون للعمل لتطبيق شريعة محمد فلا تكونوا كالمنافقين، لأن الله تعالى جعل من أهم صفات المنافقين صدودهم وصدَّهم عن تحكيم الإسلام، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء 61].

إن نظرة بسيطة للشريعة الغراء، تري أن الله قَرَنَ بين الحاكمية والإيمان، وبين الحكم والإيمان، وبين التحاكم والإيمان، وهذا ليدلل على أهمية هذه الأفكار الثلاثة في حياة الأمة، ولكي يحرصَ المسلمون على تطبيق شريعتهم، في أي ظرف، وفي أي وقت، لأنها وحدها الكفيلة بإخراجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الحق، بل هي كفيلة بإخراج العالم أجمع، قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة 50].

إن الإنسان يعيش لمعانٍ سامية، والإنسان يقاس بنوع القضية التي يحمل، والتي من أجلها يعيش، فلا اعتبار للون أو عرق أو مذهب، وإن أسمى القضايا هي قضية التوحيد، وإنقاذ الناس من دهاليز الشرك والعبودية، فوالله الذي لا إله غيره، كلما رأينا من يسجد لصنم، أو يقدس حيواناً، أو يعبد بشراً، كلما رأيناهم، حمِدنا الله أنه عصمنا من هذا، ولولاه لكنا مثلهم أو أسوأ حالاً، كذلك شعرنا بالمسؤولية تجاه هذا العالم الذي شقي بهذه الحضارة، والله نسأل أن يثبتنا على دينه، وأن يمكننا من تطبيق شرعه، ومن حمل هذا الدواء للإنسانية جمعاء، استجابة لقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة 143]، ولقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110].

بقلم: عمر حمود - لبنان
الوعي

حول معنى السعادة !



يُسَرُّ المرء عندما يحقق نجاحاً في دراسته أو في عمله أو في أي شأن ذي قيمة لديه، فيما يصيبه إحباط وربما انهيار في حال إخفاقه. وعهد الناس مذ وجدوا الانتقال بين حالات متفاوتة من الاضطراب والقلق أو الاستقرار والطمأنينة بحسب تعرجات مسيرة الحياة وتناوب الأيام والأحداث عليهم بحلوها ومرها.
يستوي في ذلك الغني والفقير والشريف والوضيع بشكل يتناسب مع وضع كل منهم. إلا أن البحث عما يسعد الإنسان وعما يحد من مواجعه ويبدد حالات الأرق والقلق لديه كانت ديدن الإنسان في كل زمان ومكان، لا سيما في الزمن الحالي. حيث علت القيمة المادية كل قيمة أخرى وبات تحصيل السلطة والثروة السبيل الوحيد لتحقيق السعادة، لما يكفلانه من إشباع نهم النفس ونزواتها وتحقيق الرفاهية والاستقرار لصاحبها.


إلا أنه سرعان ما ينكفئ هذا التصور الساذج (عن كيفية تحقيق السعادة) على عقبيه حين نرى مشهد البؤس الذي يصيب الكثيرين من أصحاب الجاه والمال من أثرياء ومشاهير. فبينما يقترف بعضهم جرائم مخزية وبشعة يدنى لها جبين الآدميين، يعجز آخرون منهم عن مجابهة الحياة فيقدمون على الانتحار. وقد ملأت أخبار هؤلاء كتب التاريخ وصفحات الجرائد والمجلات منهم: نيرون روما وهتلر ومارك أنطونيو وإرنست همنغواي ومارلين مونرو وداليدا وغيرهم كثير، يمكن قراءة أسمائهم في موسوعات أشهر المنتحرين.

في هذا الإطار نجد أن ذلك المفهوم الشائع (عن تحقيق السعادة من خلال السلطة والثروة) دافعه غرائزي بالأساس، فشهوات الإنسان ورغباته وضعفه أمام مظاهر الحياة المختلفة وحاجته إلى الكساء والإيواء والحماية تستدعي ذلك بشكل أو بآخر.

وهو ما قد يؤدي إلى الخلط بين مفهوم السعادة لدى الإنسان وبين ما يحقق إشباع رغباته، وكأنهما شيء واحد.

ومما يعزز ذلك المفهوم مصاحبة عملية إشباع جوعات الإنسان تحقيق لذة حسية (كالجنس) أو إخماد ألم (كالجوع) أو تنفيس لاحتقان جراء الكبت والحرمان، ما يدفع المرء إلى اللهاث وراء ما يفتقده أو يتلذذ به أو يضع حداً لآلامه، ويجعله يتصور بأن مجرد إدراك تلك الأشياء سيحقق له السعادة حتماً، وبأن السلطة والثروة هما السبيل الملموس لضمان تحقيق كل ذلك.

ولشدة رواج ذلك المفهوم بين الناس وتأثرهم به، غاب عنهم أن اقتصار الإنسان على الإشباع المادي والغرائزي هو شأن كافة الحيوانات، مع فارق أن الأخيرة لا تسأل عن السعادة أو التعاسة، إنما تصارع من أجل البقاء. ما يعني أنَّ اقتصار الإنسان على النمط المادي من الحياة يسقطه إلى درك البهيمة ويفقده آدميته وأبعاد وجوده ككائن مفكر.

وهذا ما هو حاصلٌ في عالمنا المعاصر إلى حد بعيد، حيث تحول الإنسان إلى وحش سيطر عليه حب الأنا، مما أفقده توازنه وأوهمه بأنه في حرب ضد كل من حوله لتحقيق ذاته، غير متورع عن سحق أقرب الناس إليه، على اعتبار أن قانون الغاب هو السائد، وأن الأقوى والأمثل هو من يستحق الحياة دون غيره. إلا أن هذا النمط من العيش سرعان ما يصيب صاحبه بالنكد والسأم والشقاء ويجعله ينشد سلوك أي طريق يخرجه من دوامة الفراغ والتيه اللذين يغشيان حياته ولو كان بارتكاب مزيد من الشنائع بحق نفسه أو بحق الآخرين.

مرة أخرى، لو كان النهم والاستغراق بالإشباع المادي كاف لتحقيق السعادة، لما وجدنا أولئك المترفين المتخمين بإشباع الشهوات الجسدية مصابين بحالات اكتئاب تجعل منهم زبائن دائميين لدى أطباء النفس والمشعوذين.

وفي حالات أخرى، تجدهم يتحولون إلى ممارسات شاذة يأنف اقتراف مثلها الحيوانات فضلاً عن الأسوياء من البشر. وهي ظواهر منتشرة في المجتمعات التي تُعرِّفُ السعادة بأنها تحقيق أكبر قدر من المتع الجسدية وتتفاخر بكونها مجتمعات الرفاهية المنشودة، كالسويد والدانمرك وفنلندا وسويسرا واليابان. وبهذا يظهر جلياً فشل نموذج التغول في الإشباع المادي بشأن تحقيق السعادة للإنسان ليتجلى بأنه مجرد وهم لا أكثر، كما يكشف عن زيف ما يشاع من اقتران الثراء بالسعادة حتماً، ويؤكد وجود أبعاد أخرى لدى الإنسان لا بد من مراعاتها حتى تتحقق الطمأنينة لديه في الحياة.

على النقيض من ذلك، يذهب أصحاب الفلسفات الحالمة إلى أن تحقيق السعادة يكمن في الابتعاد ما أمكن عن إشباع الإنسان لرغباته واستبدالها بتحصيل الحكمة وتغذية العقل بالمعرفة والعلوم المختلفة للسمو بالنفس الإنسانية عن لوثات المادة والارتفاع بها عن البهيمية. وبالاستقراء نلحظ أنه لطالما أدى هذا التوجه بأصحابه إلى نتائج معاكسة في الأغلب، مما يفضي إلى مثالية كاذبة، لا تنسجم مع تركيبة البشر، تلك التي تُعتبر الشهوات والرغبات والطموحات المادية من خصائصها الظاهرة.

وبالتالي فإنها بدل أن تعالج مشكلة الغرق في عالم الشهوات تعقدها وربما أدت إلى النقيض من مبتغاها. حيث إن تجاهل حاجيات البشر وعدم تلبية رغباتهم بشكل يتناسب مع طاقاتهم وإمكانياتهم يؤدي بالبعض إلى حالة من التقوقع واللجوء إلى "زوايا" معتمة يعتزلون فيها الحياة، فيما يندفع البعض الآخر إلى البحث عن طرق ملتوية لإشباع نهم النفس وما يتجدد فيها من شهوات ورغبات فطرية جراء الكبت والحرمان المتولد تلقائياً عن الامتثال لمثل هذه الفلسفة.

إن هاتين الفلسفتين، المادية والحالمة، تكشفان عن حاجة ماسة للتعامل مع الإنسان بواقعه لا بافتراضات عنه أو بردود فعل إزاء ما ينتابه من حالات عابرة. وفي هذا السياق، فإن المُسَّلمَ به هو أن الإنسان كائن مفكر يمتلك مشاعر ورغبات ودوافع غرائزية، ينبغي التعامل معها وفق ما يحقق الانسجام بينها جميعاً. من هنا فإنه لا يمكن بحال إهمال آلة التفكير لدى الإنسان أي عقله، ذلك الذي يبني التصورات والمفاهيم عن الأشياء، وإلا تشتت شأن صاحبه وبات في حيرة واضطراب من أمره.

وكذلك فإن إرغام النفس على اقتراف ما تأنفه أو تنفر منه يصيب صاحبها بالضيق والأسى والاشمئزاز. كما أن عدم إشباع رغبات الإنسان بشكل يتناسب مع طاقات صاحبها يؤدي إلى كبت واضطراب غير مأمون العاقبة لديه. وعليه فإن تكوين شخصية إنسانية مستقرة متصالحة مع نفسها رهن بالتعاطي مع الإنسان كما هو حتى يحظى براحة البال والطمأنينة ما أمكن.

ولبناء رؤية واضحة عن كيفية التعاطي مع الإنسان، ولتحديد كيفية بناء الإنسان لشخصيته، لا بد من تبلور الأفكار الأساسية الكبرى لديه حول الحياة، تلك التي تفسر له سبب وجوده ومماته ومآله بشكل يقيني، لِتُلقيَ تلك الأفكار بدورها الضوء على نمط العيش المفترض للإنسان بالاستناد إلى المفاهيم الصادقة التي من شأنها تبديد هواجسه وإزالة أسباب القلق التي تعتريه. إلا أن نجاح الإنسان في ذلك يبقى رهن تجسيده تلك القناعات في واقعه، بغض النظر عن حجم المعوقات التي تواجهه، ما يجعله إنساناً سوياً منسجماً مع نفسه قادراً على مواجهة تحديات الحياة باعتماد حقائقها، غير آبه بأوهام الآخرين عن السعادة الزائفة، متوقفاً بذلك عن الحيرة والارتباك والاضطراب الذي يصيب الآخرين بسبب لهاثهم وراء الأوهام.

ميدل ايست اونلاين

بقلم: حسن الحسن

و بكيت عند لقائه



كان لقائي به العام الماضي .. زارني كما يزور غيري من الناس ، وعاش معي في نفس البيت كما هي عادته أن يعيش مع كل إنسان في نفس بيته ! ولقيته تلك الأيام في كل مساحة من الأرض يملؤها حباً وجمالاً كما يملؤها زهاءً وتألقاً بل عزةً ورفعة!

أعجب شيء فيه أنه يكتب الفرحة على كل وجه ، ويأخذ القلب من الأرض ليعانق به السماء ، ويجمع شمل الفُرقاء من أزمان ليجمعهم في بساط حبه في أيام ولحظات.

كان ضيفي, كما هو ضيف كل إنسان ، وكان روحي كما هو روح كل إنسان ، وكان أيامي وحياتي وقلبي وآمالي كما هو مع كل إنسان !

ثم افترقنا ...!!

وفي ليلة الفراق بكيت بكاء الثكالى ، بكيت أن كان الوداع على غفلة ، والرحلة دون استئذان .. وتمنيت تلك اللحظة أن يأخذ مني كل شيء فيعود .. لكنها الأيام .. !




وذهبت بي الدنيا في لهوها ، ونسيته ، وضاع دمع الحب في أحداث الحياة ، ولم يكن له في قلبي حنيناً كما هي تلك الأيام لحظة فراق كل عزيز.

وفجأة ، وفي يوم من الأيام نمت ليلي, فاستيقظت على طارق يطرق الباب برفق ، يحدثني من وراء الباب: أنا ضيفك الراحل عدت ..!

استذكرت أيامي ، وجمعت أفكاري ، واستعدت ذاكرتي فلم أكن على ميعاد ضيف منتظر ، ولا محبوب مؤمل ،, فعدت إلى فراشي فإذا هو يطرق مرة أخرى .. فتحت الباب فإذا بالمفاجأة الكبرى في حياتي .. صديقي الراحل من عمري عاد .. صديقي الذي بكيت في فراقه منذ عام .. حبيبي الذي ما استجمع قلبي فرحاً لمثله ، ولا دمعت عيني للقاء حبيب كدمعها في فراقه ولقائه .. صديقي الغائب ماثل أمامي بعد فرقة عام ، ماثل أمامي ضعيف الحال بالِ الثياب, عجوزاً شاب ( أي شاب شعر رأسه), وفي يده سراج يضيء به ليله ، ويحمل في قلبه روحاً تملأ لياليه فرحاً وحبوراً .. رأيته هو بذاته, فتعانقنا عناق المحبين .. بكيت, ولي زمن من البكاء .. بكيت وأنا أشعر أن قلبي يكاد يطير من السرور ، وروحي تكاد تفارق جسدي من الأفراح ..

وطال عناقنا كثيراً ... ثم سآلته :
ما هذا السراج في يدك صديقي ولا تحتاج إلى ضوء ؟! فحدثني حديث المحبين قائلاً :

هذه ذكرياتي .. ! هذه أيامي! فلقد كنت أزور أجدادك وآتيهم بمثل ما أتيتك به الآن لكن بحال غير حالكم! .. جئت هذا العام أذكركم مجداً تليداً بأيديكم أضعتموه ، أذكركم رجالاً أضاءوا بهذا السراج بعض ليلي ! فرشوا العدل والأمان والخير على ربوع البسيطة بخلافتهم الإسلامية.

إن كنت لا تدري فأنا ذكريات عريضة في زمن الدنيا ..
لقد كنت في سلفكم قرآنا وصياما وصلاة, وبرا وكرما وصدقة, وتوبة ومغفرة وطاعة. وكنت أخوّة ووحدة ومودة, وصلة رحم وقرابة. وكنت مجلس علم ودرس وأدب وأخلاق, وكنت جهادا وفتحا ونصرا.

فكيف صرت اليوم فيكم؟ وأي حال ألقاكم؟ بل إني ما عاد لي دور كما افترضه ربي لي أن أكون عليه!

تذكرت ليالي عشت بعض دقائقها مع أجدادكم ، كنت أزورهم لأسمع ذكرياتهم بل أعيشها معهم .. وأزورهم لأجد بعض حياتهم في عنائهم وجهدهم وفتوحاتهم وخلافتهم ..

فمن أزور الأيام وقد رحلوا ؟ ومن أزور اليوم وقد ذهبوا ؟ هاهي بيوتهم كما كانت ! وآثارهم لازالت؟!

فأين وحدتكم وأين رايتكم وأين قائدكم؟ أين الذي يعزر من انتهك حرمتي، وجاهر بمعصية ربه في شهري هذا؟ أين الذي يسلسل شياطين الإنس الذين يغتنمون شهري ليكثروا فيه الفساد، بعدما كفاكم الله شر شياطين الجن فأصفدهم ؟ أين الذي يحي فيكم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويحي فيكم تقوى القلوب؟ أين الذي يقوي علاقتكم بربكم، ويرفع كرامتكم، ويرد إليكم عزتكم ومكانتكم, أين الذي يجهز جيوشكم، ويرفع رايتكم، ويعقد ألويتكم، لتفتحوا البلاد، وتهدوا العباد، وتنشروا الإسلام في شهري هذا؟ أين كل ذلك ؟

يا عباد الرحمن، إنني الشهر الذي اصطفاني ربي من بين الشهور، ففي أنزل القرآن, وفي فرض عليكم الصيام. ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:2/185]. فإني لكم شهر عظيم، وشهر كريم. فكيف حالكم في؟. لقد أتيتكم وأنتم ممزقون ومتفرقون, وحتى عن هلالي مختلفون. ولأهواء طواغيتكم متبعون. فكيّفتم مطالعي حسب أقطاركم. نزولا عند رغبة أعدائكم الذين قسموا بلادكم. فلم تتوحدوا لا في صوم ولا في عيد. أو لم يأمركم الله بصيامي عند رؤية هلالي، إذ قال جل من قائل ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:2/185]. أولم يبين لكم رسولكم- صلى الله عليه وسلم - متى تصومون، ومتى تفطرون في الحديث الذي رواه البخاري " عن عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ " [رواه البخاري]. فلم لا تتعبدون ربكم بهذه المواقيت التي أخبر بها في قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ), وتتعبدونه برزنامة " سايكس بيكو" التي فرقت بين أقطاركم.

يا عباد الرحمن: إني شهر عظيم, شهر البركات. ففي تصفد الشياطين, وفي تتنزل عليكم رحمة رب العالمين. " عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ" [رواه البخاري].

فمالي أرى شياطينكم ترتع وتمرح على أرضكم, فتكثر الفساد والإفساد، وتخرب الأخلاق وتدمر القيم, وأنتم عنهم ساكتون؟ أتستبدلون الرحمة بالنقمة في هذا الشهر. ألا ترون أن صفوتي من بين الأشهر قد دنست, وأن حرمتي قد انتهكت. فهذا عاص يتبجح بمعصيته, فلا تجدون له قاضيا يعزره, وذاك صخّاب بالأسواق وغاش للناس وباخس في المكيال, فلا تجدون له الحسبة ولا المحتسب. وهذا إعلام فاسد وماجن يفرغ عليكم قاذوراته في بيوتكم، ليفسد عليكم نسائكم وأبناؤكم, ويشغلكم عن طاعاتكم, فلا تجدون له الأمير الذي يطهره. وهذه موائد قمار قد انتصبت, وهناك سمر ولهو وترف, وهنا رقص وخمرة وفاحشة. فانقلبت ليالي إلى ليال رمضانية حمراء تؤزكم فيها شياطين الإنس أزّا. أو ليست لي حرمة بينكم, يا خير أمة أخرجت للناس, وقد شرفني الله بكم وشرفكم بي من دون الناس, فأين الذي يأخذ على أيدي هؤلاء إذا أفسدوا, وأين الذي يغير على المجرمين إذا أجرموا.

يا عباد الرحمن: إني كنت لكم شهر الفتوحات والإنتصارات. ففي شهري العظيم نقشت بطولات أمجادكم, وانتصارات أسلافكم. أولا تسمعون صدى وقع سنابك خيولهم وصهيلها, وقعقعة سيوفهم وتكبيراتهم تتردد عليكم من قاع التاريخ, أفلا تتشوقون إلى مجد كمجدهم وعز كعزهم. أولا تذكرون يوم الفرقان, يوم فرق الله بين الكفر والإيمان, في معركة بدر الكبرى, أولا تذكرون فتح مكة وكسر الأوثان وسقوط الطواغيت, أولا تذكرون فتح الأندلس وفتح القسطنطينية. أولا تذكرون معركة حطين وعين جالوت. كل هذه الإنتصارات والفتوحات حققها أسلافكم في مثل هذا الشهر, فأين أنتم من هذا؟. ولكن يا خيبتي فيكم أراكم اليوم منتكسين ومنكسرين. وأرى بلادكم بأيدي أعدائكم. فهذا بيت المقدس أسير في أيدي يهود, وهذا عراق الرشيد ملتهب بأيدي الصليبيين, وتلك أفغانستان والشيشان وكشمير. فأين الخليفة الذي يحرر بلادكم ويلحم أجزائكم, ويمسح عاركم, ويضمد جراحكم؟.

يا عباد الرحمن: إني شهر التوبة والغفران, فلماذا تحزن بعدي المساجد، وتطفأ فيها المصابيح، وتشكوا لربها قلة الراكعين والساجدين والعابدين. أين ذهب التائبون, أين راح الراكعون, أين اختفى الذين رأيتهم في شهري لربهم ساجدين؟. فهل بعدي تموت القلوب, وتغور الدموع في العيون, فإني على حالي فيكم لحزين.

عدت لأعانق صاحبي مطأطأ الرأس خجلا على شكواه منا, وما إن أقبلت على صاحبي إلا وجموع غفيرة تعانق صاحبي ، فالمكان مزدحم ، والرؤية تكاد تنحجب ، وذهب صاحبي في اجتماع القوم ..

تُرى متى يعود صاحبي يوماً شاباً فتيّاً متقلداً سيفه ليعود كما كان أيام أجدادي , شهر فتوحات وانتصارات, شهر عبادة وطاعات, شهر خليفة وخلافة ليُصفّد شياطين الأنس بعد أن كفانا الله شياطين الجن؟!!

(( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا )) الإسراء51

أخوكم تراب

الاثنين، 3 أغسطس 2009

صلاحية الإسلام لكل زمان و مكان (1)



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

تمهيد
لم يكن يخطر ببال الصحابة رضوان الله عليهم أنّ أحكام الإسلام خاضعة للزمان والمكان. فلم يرد عنهم أنهم فهموا أنّ ما آتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما نهاهم عنه هو لهم وليس لمن بعدهم.

نعم، هناك من النصوص ما يفهم منها ربط بعض الأحكام بالمكان أو الزمان:


من ذلك ما أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة". فذكر تأبيد التحريم هنا جاء لرفع إشكال حل مكة لساعة من النهار.

ومن ذلك ما أخرج مسلم عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة". فذكر تأبيد التحريم هنا جاء لرفع إشكال الإذن بالاستمتاع لحين.

ومن ذلك أيضا ما روي عن سراقة بن مالك بن جعشم أنه قال في الاعتمار: "يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد" (رواه مسلم). فالسؤال عن الاعتمار هل هو لهذا العام فقط أم للأبد، سببه ما كان سائدا في الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، فجاء الجواب ليرفع هذا الإشكال.



وإذا تجاوزنا بعض الإشكالات التي كانت تحتم النظر في عموم الخطاب أو خصوصه، فإنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يقيّدوا أحكام الإسلام بمكان أو زمان، بل كانوا يأخذون الإسلام كلّه ويدعون إليه باعتباره الدّين الذي ارتضاه رب العالمين سبحانه وتعالى للناس كافة مهما اختلفت أمكنتهم وأزمنتهم، وكان شعارهم: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم". وهكذا تلقى التابعون ومن جاء بعدهم من القرون الخيرة الأولى هذا الدّين عن الصحابة وكلهم يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها".

وأما اليوم، فقد ظهر فينا من يزعم أن الإسلام لا يناسب عصرنا، وأن تغير الزمان والمكان يقتضي تغير القوانين والأحكام؛ فما كان قابلا للتطبيق في زمن النبوة والخلافة الراشدة، أصبح مستحيل التطبيق في زمننا. وهكذا أصبح شعار هذا العصر عند بعض الناس: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بغير ما صلح به أوّلها".

ولا شكّ أنّ هذه الدعوة خطيرة قد ينتج عنها ترك الإسلام كليا أو جزئيا، الأمر الذي يتطلب منا التصدي لها ببيان بطلانها، وإقامة الحجة على صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.



جوهر البحث

البحث في صلاحية الشيء يعني البحث في مناسبته وأهليته. وعليه، فالبحث في صلاحية الإسلام يعني البحث في مناسبته من خلال إثبات كونه يلائم الزمان والمكان، ويعني أيضا البحث في أهليته أي في قدرته على أن يلائم الزمان والمكان بما فيه من خصائص ومقومات.

وجوهر بحثنا يقوم على سؤال كثر طرحه في عصرنا هذا، وهو: هل يصلح الإسلام لعصرنا هذا؟

والجواب على هذا السؤال لا يتأتى إلا ببيان حقيقة الإسلام: فما هو الإسلام؟



الإسلام دين، "والدّين – كما قال الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره- حقيقته في الأصل الجزاء ثم صار حقيقة عرفية يطلق على مجموع عقائد وأعمال يلقنها رسول من عند الله ويعد العاملين بها بالنعيم والمعرضين عنها بالعقاب". فالدّين إذن يشمل العقائد والأعمال. فأما العقائد فأصلها الذي هو التوحيد واحد عند كل الأديان، قال تعالى: {شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "والأنبياء أخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (رواه الشيخان عن أبي هريرة) والمراد به أصل التوحيد وأصل طاعة الله تعالى. وأما الأعمال والشرائع الحاكمة لسلوك الناس والأنظمة المنظمة لحياتهم فمختلفة بين الأديان، ودليل ذلك قوله تعالى: {لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.



وقد كانت الأديان مختصة بقوم دون سواهم، فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة. قال تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحا}، وقال: {وإلى عاد أخاهم هودا}، وقال: {وإلى مدين أخاهم شعيبا}. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة" (رواه البخاري عن جابر). وأما دين الإسلام فقد جعله الله سبحانه وتعالى للناس كافة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم للأحمر والأسود. قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وقال: {وما أرسلناك إلا كافّة للناس بشيرا ونذيرا}. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة" (رواه البخاري عن جابر)، وقال: "أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود..." (رواه مسلم عن جابر). كما جعل الله سبحانه وتعالى الإسلام خاتمة الأديان. قال عز وجلّ: {إنّ الدّين عند الله الإسلام} وقال: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} وقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.

ومن هنا نعلم، أن الإسلام لم يرتبط بالمكان والزمان؛ فكونه للناس عامة يعني أنه غير مقيّد بحدّ المكان، وكونه خاتمة الأديان يعني أنه غير مقيّد بحدّ الزّمان.

ولما كان الإسلام غير مقيّد بحدّ المكان والزّمان، كان لا بدّ له أن يحوي في طيّاته من المقوّمات والخصائص ما يمكنّه من تجاوز مفهوم المكان والزّمان. فما هي هذه المقومات والخصائص؟

الكاتب: ياسين بن علي

يتبع إن شاء الله تعالى...

16 جمادى الأولى 1429هـ

صلاحية الإسلام لكل زمان و مكان (2)



العقيدة الإسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
تقوم العقيدة الإسلامية على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو ما عبّرت عنه الشهادة التي هي أول ركن من أركان الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وفي هذه العقيدة من الخصائص ما يجعلها مطلقة غير خاضعة لمعايير الزمان والمكان. والخصائص التي تجعل من هذه العقيدة غير محددة بالزمان والمكان هي:

1. موافقة الفطرة

التديّن بمعنى الإيمان بالخالق المدبّر غريزة في الإنسان. فشعور الإنسان بالعجز والنقصان والمحدودية يولّد لديه الشعور بالحاجة إلى الخالق المدبّر، لذلك فإن ميل الإنسان إلى التديّن جزء من تكوينه لا يستطيع دفعه وإنكاره.

والناظر في واقع البشر يجد أنّ التدين ظاهرة عرفتها كلّ الجماعات بغض النظر عن لونها وعرقها ولغتها، وبغض النظر أيضا عن طبيعة تدينها؛ فمنها من عبد الشمس، ومنها من عبد البقر، ومنها من عبد الأصنام، ومنها من عبد الإنسان. وعليه، فإنّ إقرار العقيدة الإسلامية بوجود الإله الخالق المدبّر يوافق فطرة الإنسان. قال الله تعالى: {فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}.

وقد يقال هنا: إذا كان المراد بالفطرة هنا الإقرار بالحاجة إلى الخالق المدبّر، فإن النصرانية مثلا تقرّ بذلك، ثمّ إن جعل موافقة الفطرة خاصية العقيدة الإسلامية يعني تفردها بذلك وتميّزها، فالأصل إذن عدم مشاركة الغير فيها؟ وهو عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" (رواه الشيخان عن أبي هريرة).

والجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأوّل، أنّ أصل الدّين من حيث هو توحيد الإله وإفراده بالعبودية واحد عند كل الأديان السماوية، فلا فرق في هذا الأصل بين الأديان. والإسلام كدين يوافق الأديان الأخرى في هذا الأصل، أي فيه الخاصية التي هي في بقية الأديان الأخرى. وبعبارة أخرى، فإنّ خاصية موافقة الفطرة أي الإيمان بالخالق المدبّر هي خاصية الأديان الربانية كلّها ومنها الإسلام.

الوجه الثاني، أنّ الأديان طرأ عليها التحريف من قبل أتباعها، لذلك فقد شوّهت الفطرة ولم تعدّ بواقعها الحالي معبّرة عن الفطرة السليمة التي لم تشبها شائبة التحريف بالزيادة والنقصان. وقول النبي صلى الله عليه وسلم يفيد هذا المعنى أي أن الإسلام هو الدّين الذي يوافق الفطرة السليمة التي لم يطرأ عليها التحريف والتشويه. ومثال ذلك فإن النصرانية وإن أقرت بوجود الخالق، إلا أنّها جعلت أمر تدبير شؤون المخلوق للمخلوق نفسه، وذلك بأن جعلت النظام الذي يرعى بها الشؤون وتنظم به حياة الإنسان بيد الإنسان من باب: "أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله". فالنصرانية كما هي عليه الآن موافقة للفطرة من وجه ومخالفة لها من وجه آخر؛ فمن حيث اعترافها بخالق الكون والإنسان والحياة فهي موافقة للفطرة، ولكنها من حيث فصل الدين عن الحياة مخالفة لها؛ لأنّ فطرة التدّين مثلما تظهر في التقديس تظهر في تدبير الإنسان لشؤونه في الحياة. فالإنسان يظهر عليه التفاوت والاختلاف في وضع النظام الذي ينظم شؤونه، وهذا من علامات عجزه وحاجته للخالق المدبّر لأعماله، لذلك كان فصل الدين عن الحياة مخالفا للفطرة، وكان جعل الدّين الذي ارتضاه ربّ العالمين هو المدبّر لأعمال الإنسان موافقا للفطرة، فالإسلام إذن هو الدين الموافق للفطرة السليمة.

2. إقناع العقل

قلنا إن العقيدة الإسلامية تعبّر عنها الشهادة. والشهادة تتضمّن الإيمان بالله والرسول صلى الله عليه وسلم، وبعبارة أخرى فإن مقتضى الشهادة الإيمان بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى، وبالرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبالرسالة وهي القرآن الكريم بما تضمّنه من عقائد وأحكام.

والإيمان بهذه الركائز العقدية في متناول كل إنسان مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة. ذلك أنّ الأسئلة المصيرية التي يسألها كل إنسان لا ترتبط بالزمان والمكان. فالإنسان من حيث هو إنسان يسعى إلى حلّ لغز وجوده من خلال سؤاله لنفسه أو لغيره: من أين ولماذا وإلى أين؟ من أين أتيت، ولماذا أتيت، وإلى أين المصير؟ فكان جواب العقيدة الإسلامية: من الله، لله، إلى الله. قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}، وقال: {وهو خلقكم أوّل مرّة وإليه ترجعون}.

"وكلّ من كان له عقل يدرك من مجرّد وجود الأشياء التي يقع عليها حسّه، أنّ لها خالقا خلقها. ذلك أن الأصل في الأشياء المدركة أن تكون ممكنة لذاتها، أو مستحيلة لذاتها، أو واجبة لذاتها. فالممكن لذاته، حكم على شيء يوصف بمقتضى العقل بأنه ممكن وجوده أو عدمه لذاته. وهذا الحكم أي حكم إمكان الوجود يقابله حكم وجوب الوجود واستحالته. من ذلك وقوع حسّ الإنسان على طاولة، يثبت أحكاما عقلية بديهية متعلّقة بوجود الطاولة، إذ هي بالنسبة لذاتها ممكنة الوجود؛ لأنّ وجودها مرتبط بصانعها. وأمّا الصانع بالنسبة للطاولة، فحكمه وجوب الوجود؛ لأنّ وجوده سبب لوجود الطاولة. وهكذا، فإنّ الكون والإنسان والحياة من قبيل الممكن وجوده، ووجودها يدلّ على وجوب وجود من أوجدها. وواجب الوجود هو الخالق، وهو الله سبحانه وتعالى.

وإيمان الإنسان المخلوق بوجود خالق، يقتضي البحث في وجود علاقة للخالق بالمخلوق. ولمّا كان الإنسان عاجزا عن تحديد طبيعة علاقته بالخالق، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقف الإنسان عن تحديدها، وأن يترك أمر تحديدها إلى الخالق ذاته. وقد عيّن الخالق سبحانه وتعالى كيفية ربطه لعلاقة بالمخلوق، فبعث الرسل إلى البشرية، ومنهم موسى إلى قومه، وعيسى إلى قومه، ومحمد إلى الناس كافة.

وللتّأكد من صدق رسالة الرّسول ونبوّته، فإنّ العقل يقتضي إقامة البرهان من الرسل على رسالتهم، فتطلب ذلك إظهار المعجزات التي ليس للبشر القدرة على الإتيان بها عادة. فكانت معجزات من موسى، ومن عيسى ومن غيرهما من الأنبياء، إلاّ إنّها معجزات نقلية خبرية لا واقع لها الآن، والمعجزة الوحيدة التي يقع عليها حسّ الإنسان، ولا زال التّحدي قائما بها، هي المعجزة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم من الله وهي القرآن.

والتثبت من المعجزة يكون بطريقتين: بالإدراك المباشر أو الاستدلال. من ذلك لما انقلبت عصا موسى عليه السلام إلى حية تسعى، أدرك السحرة أنّ هذا معجزة وليس بسحر، فوقفوا على المعجزة بأنفسهم، وتيقنوا من صدق موسى. وأمّا غير السحرة، فوقفوا على المعجزة من عجز السحرة على الإتيان بمثلها وتسليمهم لموسى بها، فكان طريق الاستدلال سبيلهم إلى الإيمان. وكذلك الشأن بالنسبة للقرآن، إمّا أن يقف المرء مباشرة على كونه معجزا لا يمكن الإتيان بمثله، أو يستدلّ بعجز العرب جميعهم، مؤمنهم وكافرهم، على الإتيان بمثله مع تحدّيه لهم.

ثمّ إنّ القرآن إمّا أن يكون من العرب، أو من محمد، أو من الله تعالى. وقد بطل أن يكون من العرب؛ لأنّهم لم ينسبوه إلى أنفسهم، وعجزوا عن الإتيان بمثله مع تحدّيه لهم. وبطل أن يكون من محمد؛ لأنّه عربي فيصدق عليه ما يصدق على العرب كلّهم. ثمّ إنّ محمدا تكلّم بكلام كثير، ومن كلامه ما روي من أحاديث متواترة، ولو كان القرآن من كلامه لأدّعى الإعجاز في كلامه كلّه، لا في بعضه، إذ لا معنى أن يدّعي الإعجاز في جزء مع قدرته عليه في الكلّ. وبما أنّه بطل أن يكون القرآن من العرب، أو من محمد، فيكون قطعا من الله تعالى، ويكون معجزة لمن أتى به".

وعليه، فإنّ الإيمان بالله سبحانه وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم أي الإيمان بالعقيدة الإسلامية ثابت بأدلة تقنع العقل في كل مكان وزمان.

3. شمولية العقيدة
تتصف العقيدة الإسلامية بالشمولية من وجهين:

الوجه الأول، أنها عقيدة موجهة لكل البشر، وليست محصورة في قوم دون سواهم كالعقيدة اليهودية مثلا. قال تعالى: {قل يا أيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعا}.

والوجه الثاني، أنها عقيدة تتعلّق بشؤون الآخرة كما تتعلّق بشؤون الدنيا، أي عقيدة ترعى شؤون الدنيا والآخرة معا، وهذا بخلاف العقيدة النصرانية مثلا التي ترعى شؤون الآخرة دون شؤون الدنيا. فالعقيدة الإسلامية لا تتضمّن أحكاما أخروية فقط من مثل الجنة والنار ويوم القيامة، بل تتضمّن أيضا أحكاما دنيوية منبثقة عنها تتعلّق بشتى شؤون الحياة مثل الحكم والاقتصاد والسياسة والعقوبات وغبر ذلك. قال الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين}، وقال: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون}. وعليه، فإن العقيدة الإسلامية من هذه الجهة أيضا عقيدة صالحة لكل زمان ومكان.

الكاتب: ياسين بن علي
يتبع إن شاء الله تعالى...
18 جمادى الأولى 1429هـ

صلاحية الإسلام لكل زمان و مكان (3)



نظام الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
النّظام, من ناحية هيكلية بنائية, هو مجموعة الأفكار المنظّمة لشؤون الناس, أو هو جملة القواعد والأحكام الضابطة للعلاقات. ومن ناحية عملية تنفيذية, فهو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ.
ويتميّز نظام الإسلام بجملة من الخصائص التي تضمن صلاحيته للتطبيق في كلّ زمان ومكان، منها:

أولا: إنسانية المعالجات

المعالجات, هي أحكام منظمة لعملية إشباع الإنسان حاجاته العضوية وغرائزه, كإباحة شرب الماء وحرمة شرب الكحول, وإباحة الزواج وحرمة الزنا, وإباحة البيع وحرمة الربا وغير ذلك من الأحكام المنصبّة على تنظيم عملية الإشباع ذاتها.

والمراد بإنسانية المعالجات هو أنّ الشريعة الإسلامية عندما تعالج مشاكل الإنسان إنما تعالجها له بوصفه إنسانا لا غير. فالشريعة الإسلامية لا تعالج مشاكل الإنسان بوصفه الفردي أو بوصفه يعيش في عصر ما وفي مكان ما، إنما تعالج مشاكله بالنظر إليه كإنسان هو الذكر والأنثى، وهو العربي والأعجمي، وهو الأبيض والأسود، وهو إنسان الماضي والحاضر والمستقبل.

فلا فرق في نظر الشريعة الإسلامية بين إنسان هذا العصر وبين إنسان العصور السابقة؛ فإنسان هذا العصر شأنه شأن إنسان العصر السابق, يحسّ بالجوع والعطش, ويشعر بالخوف والشبق؛ لأنّ الحاجات العضوية والغرائز واحدة في الإنسان لا تختلف من فرد إلى آخر أو من عصر إلى عصر آخر. وما يرى من تغيّر في حياة الإنسان, هو في واقعه ليس تغيرا في ذات الإنسان, إنما في أشكال الحياة. فالإنسان الأول سكن الكهوف وركب الحصان, وإنسان اليوم يسكن ناطحات السحاب ويركب الطائرة. ولو دققنا النظر, لوجدنا الدافع لسكنى الكهف وركوب الحصان عند الإنسان الأول هو نفس الدافع لسكنى العمارة وركوب الطائرة عند إنسان هذا العصر. ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية وضعت معالجات لمشاكل تنطبق على كل إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ومكانه وزمنه.

فالميل الجنسي مثلا غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم الزنا والحثّ على الزواج. قال تعالى: {ولا تقربوا الزّنى إنّه كان فاحشة وساء سبيلا}. وحبّ البقاء والمحافظة على النوع غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم القتل. قال تعالى: {ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ}. وهكذا فإنّ كل المعالجات التي شرعها الإسلام غير مرتبطة ببيئة أو مكان أو زمان، فهي معالجة للإنسان من حيث هو إنسان.

ثانيا: طريقة التنفيذ

كما سبق ذكره، فإنّ النظام هو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ. وعليه، فالشريعة الإسلامية لم تكتف ببيان المعالجات اللازمة للإنسان، بل بيّنت له طريقة تنفيذها لضمان تطبيقها في الواقع. فليس الإسلام كالنصرانية مجرد معالجات إجمالية وتوصيات أخلاقية للفرد أن يأخذها أو يردّها، بل الإسلام منظومة علمية وعملية متكاملة، فهو يبيّن المعالجة ويبيّن معها سبيل تطبيقها وتنفيذها فيما يتعلّق بالفرد والمجتمع.

فالشريعة الإسلامية "حين توصي بالمحافظة على النفس الإنسانية جعلت طريقة تنفيذ ذلك قتل القاتل، وحين أمرت بالمحافظة على العقل جعلت طريقة تنفيذ ذلك جلد السكران، وحين قالت بالمحافظة على كرامة الإنسان جعلت كيفية تنفيذ ذلك جلد القاذف، وحين أوجبت حفظ النسل أي حفظ النوع الإنساني جعلت عقوبة الدية على الجب والتعقيم والإخصاء، وحين قررت عدم اختلاط الأنساب جعلت عقوبة القتل الشنيع – الرجم – على الزاني المحصن للحفاظ على نوع الإنسان ونسبه، وحين أمرت بالمحافظة على أموال الناس وممتلكاتهم جعلت طريقة تنفيذ ذلك قطع يد السارق، وحين أرادت بعث الطمأنينة في النفوس وإشاعة الأمن والاستقرار في المجتمع جعلت عقوبة من يعبثون بأمن الناس وحياتهم القتل أو الصلب أو تقطيع الأطراف من خلاف، وحين قررت المحافظة على العقيدة جعلت القتل عقوبة المرتد، وحين أوجبت تنفيذ هذه الأحكام جميعها وإيجاد فكرتها في واقع الحياة أوجبت على الناس إنابة فرد منهم ليقوم بالتنفيذ أي أوجبت مبايعة خليفة لتنفيذ ذلك وجعلت عقوبة الخارج على الخليفة أي على الدولة القتل. وهكذا فإنها لم تترك معالجة إلا وجعلت كيفية معينة لتنفيذها تباشرها الدولة. وباختصار، فإنها لم تكتف بوضع معالجات للناس تبين فيها للإنسان كيف يصرف أفعاله ويشبع حاجاته وجوعاته، بل وضعت كيفيات معينة لتنفيذ كل معالجة من هذه المعالجات".(1)


ثالثا: الاجتهاد

لقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة شاملة كاملة، فما من شيء إلا وبيّنت حكمه. قال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (رواه ابن ماجه عن العرباض).

قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تَعَبَّدَهم به لما مضى من حكمه جلّ ثناؤه من وجوه:

فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثل جمُل فرائضه في أنّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بيّن نصاً.

ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.

ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم".(2)

فالاجتهاد يبقي أحكام الإسلام متجدّدة مواكبة لكل عصر؛ لأنه طريق معرفة حكم الشرع فيما استجدّ من حوادث ومشكلات. ولهذا حثّ الشرع على الاجتهاد ورغّب فيه وجعله فريضة شرعية. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر" (رواه الشيخان عن عمرو بن العاص). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (رواه أبو داود عن أبي هريرة). وأخرج النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثروا على عبد الله ذات يوم فقال عبد الله : "إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول إني أخاف وإني أخاف..." وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. وقد روي مثله عن جمع من الصحابة منهم عمر وابن عباس.


رابعا: سعة الشريعة الإسلامية

لا تعني سعة الشريعة أنها تتكيّف مع كل واقع ولو خالفها، أو أنها قادرة على التطور بحيث تتغيّر أحكامها الثابتة لتوافق هوى بعض الناس أو بدع بعض المجتمعات، إنما تعني السعة أنّ الشريعة الإسلامية قادرة على معالجة كلّ المشاكل المستجدّة بما فيها من خصائص ذاتية تضمن لها مواكبة العصر. فما من شيء إلا وقد بيّنت الشريعة الإسلامية حكمه، فإن لم يكن بنص عليه، فبأمارة تهدي من تطلبها.

ومثال ذلك: قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، فإن ما يستنبط من هذه الآية هو وجوب إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، فإذا كان الإعداد في الماضي يكون بالرماح والسيوف والخيل، فيجب أن يكون اليوم بالطائرات والدبابات والقنابل النووية وغير ذلك من قوة حديثة. فقوله تعالى: {ما استطعتم من قوة}، عام يدخل فيه كل أمكن تجهيزه واتخاذه من عدّة. وقوله تعالى: {من رباط الخيل}، خاص عطف على العام. وقوله تعالى: {ترهبون}، علة للإعداد. فيكون المطلوب هو إعداد القوة التي ترهب العدو، وهذه القوة تختلف أشكالها ومظاهرها باختلاف العصر. فيكون الإسلام قد طلب منا بدلالة الآية أن نجهّز الأسلحة الحديثة المواكبة لزمننا.

ومثال ذلك أيضا، يقول بعض الناس: قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتمّوا الصيام إلى الليل}، إذا طبق حرفيا فسيؤدي إلى هلاك بعض الناس؛ لأننا كما نعلم فإن النهار والليل عند سكان "الأسكيمو" يدوم فترة طويلة. وهذا يدلّ على أن النص القرآني راعى محيط الجزيرة العربية ولم يراع بقية المناطق. وبناء عليه لنا أن نخرج بنتيجة مفادها استحالة تطبيق الشرع الحنيف اعتمادا على القراءة الحرفية للنص التي لا تأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان.

والجواب على هذا، أنّ حكم الشرع في هذه المسألة يمكن استنباطه من جهتين:

الجهة الأولى، أنّ الشرع قد ربط الصيام بسبب وهو شهود هلال رمضان. قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (رواه البخاري عن أبي هريرة). وبما أنّ السبب هو ما يترتب عن وجوده وجود الحكم، وما يترتب عن عدمه عدم الحكم، فلك أن تقول من هذه الجهة لا صيام عليهم ما لم يوجد هلال رمضان.

وأما الجهة الثانية، فهي أنّ الشرع قد احتاط لهذا الأمر فأمر بالتقدير. ففي حديث الدجال عن النواس بن سمعان عند مسلم: "... قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا أقدروا له قدره". فلك أن تقول، وهو الراجح، عليهم التقدير والصلاة والصيام.

وهكذا فإن الشرع قد بيّن حكم المسألة سواء قلنا بوجوب الصوم أو عدمه.


خاتمة

قد "أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك دينا عاما لجميع البشر، وباقيا على امتداد الدهر، إرادة دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواتر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا يترك مجالا للشك في نفس المتأمل".(3) ولأنّ إرادة الله سبحانه قد قدّرت لهذا الدّين التأبيد، فقد دعمته بالتأييد والتجديد؛ فالتأييد بتكفّل المولى سبحانه بحفظه ونصره، والتجديد بتكفّل أولياء المولى بالدفاع عنه وتنقيته من كل شائبة واستنباط ما يلزم من الأحكام لكل حادثة مستجدة.

ففي الشريعة الإسلامية من السعة ما يسع مشكلات أي عصر، ولكنها ليست سعة تميّع الإسلام وتهدم أحكامه الثابتة، وليست سعة تكيّف الدّين حسب الأهواء والرغبات. فلا يجب أن ننسى أن الواجب تغيير الواقع ليناسب الإسلام، وليس تغيير الإسلام ليناسب الواقع. قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.

الكاتب: ياسين بن علي
21 جمادى الأولى 1429هـ

_______________________

(1) عن (النهضة)، للأستاذ حافظ صالح، ص36

(2) عن (الرسالة)، للإمام الشافعي، ص21-22

(3) عن (تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة)، للشيخ الطاهر بن عاشور، ص112

هوية الأمة الإسلامية



لكل أمة من الأمم (ثوابت) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة. وفي طليعة هذه الثوابت تأتي (الهوية)؛ باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة. ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتى تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم. وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول (هوية) ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكيّف ردود أفعالهم تجاه الأحداث، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.


كما أنه من البديهي أيضًا، أن الأمة إذا فقدت (هويتها)، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء؛ لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله، مع أنها كانت في حياته تمتلئ رعبًا من منظره !!

وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهوية.. حيث السقوط الحضاري.. وتداعي الأمم. فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة)، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هوية هذه الأمة، ويُجلِّي أبعاد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في الدفع النفسي والشعوري إلى إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعالة في السبق الحضاري من جديد .

هوية الأمة الإسلامية:


ليس تحديد (الهوية) ترفًا فكريًّا، أو جدلاً فلسفيًّا بل هو أمر جاد يتعلق - بل يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها «إذ إن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا يريد؟ وبدون هذا الحسم (للهوية) الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعَّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة». (1)

ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟.. فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا على ضوء ذلك إلى تحديد ماذا نريد؟ .. ومن ثم كيف السبيل؟ وإذن فتحديد الهوية يُعرِّفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف..

فما هي هويتنا؟

لا شك أن هويتنا الأصيلة هي الإسلام، وأن «الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى، ولا شيء غيره... وإذا ما نَحَّيْنَا الإسلام جانبًا، فمن المستحيل أن نجد قاسمًا مشتركًا آخر نتفق عليه، وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتدادًا للإسلام»(2) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .

.. وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية؟ !

فأمّا إنها عبرة التاريخ: «فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية، وإنما يحمل شعارًا إسلاميًّا هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضًا وجد فيها له إخوة في الإيمان، وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية»(3) .. ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من «شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ، ولم يُعْتَبر في قُطْر مر به أجنبيًّا، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضيًا أو وزيرًا أو سفيرًا، ولم يُرَاقب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه»(4) فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج؛ لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية، ومنحهم (الجنسية) الإيمانية، وزودهم بروح الأخوة والمودة .


لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سببًا للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن له قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه، بل ويحكمه (مسلم) من بلد آخر.. فصفة الإسلام تَجُبُّ ما عداها، ورابطة الدين تُغْنِي عما سواها.

ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه «كانت نظرة المصريين دومًا إلى المماليك - وهم ليسوا أولي جذور مصرية - نظرة المسلمين إلى المسلمين، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على الوطن»(5) .

ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالم من حوله، نظرة إسلامية محددة، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الإسلام) .. وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الحرب) .

.. وبقي الدين عنصرًا بارزًا في وعي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكِّل لهوية الأمة الإسلامية.. فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم.. وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..

«وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين، وهم يعدون العُدّة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين.. الذي استغله نابليون منافقًا، بصورة ساذجة وسطحية. فهذا هو المنشور الذي وجهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول : (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، ثم يقول : يا أيها المصريون، قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأحترم نبيه والقرآن الكريم.. ثم يضيف كاذبًا : أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرنلجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين) !!

ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول - عنده، قدمهم (كمسلمين مخلصين) أو على أقل تقدير (محبين للمسلمين المخلصين)!!

لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل - رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل - سمتًا غالبًا في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة»(6). ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوها بوصفهم (مصريين) إزاء (فرنسيين) .. وإنما بوصفهم (مسلمين) يقاتلون (الكفار) الذين يحتلون أرضهم، والدليل على أنها كانت حربًا جهادية إسلامية ضد (الصليبيين) أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان (الحلبي) الذي قتل كليبر لم يكن (مصريًّا)، إنما كان (مسلمًا) دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية .

وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام (كهوية) للأمة، كان دائمًا يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.. وذلك المثال هو ثورة 1919 م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيرًا عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال.. واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد.. وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء الأزهر الذين يشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله: إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة(7) .

وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(8) ثورة (إسلامية) .. وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد (الكفار) المغتصبين..وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة (الخلافة).. وكان الناس يرون أن (الأزهر) هو الجدير - في حسهم - أن يقود الثورة الإسلامية.

وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ.. وكانت (الهوية الإسلامية) هي الحافز الرئيس الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حروب الفرنجة، أو غيرها.. حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين.. هذه هي عبرة التاريخ..

وأما درس الواقع.. فقد «أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها،... وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستغلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها»(9)، ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلى أهدافها الحضارية..

وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله. بالفكر والسلوك.. الساعية إلى إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة وقيادة البشرية .

إن الإسلام وحده هو (هوية الأمة الإسلامية) وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة، وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.

وبكلمة: لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية)، ومنح أفرادها (الجنسية) الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.. ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية.. حيث تلغى إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته!!

... واليوم يبقى الإسلام هو (وحده) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية).


الهوامش :
1- ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص 139 .
2- فقه الدعوة - ملامح وآفاق : عمر عبيد حسنة ص 72.
3- الولاء والبراء - محمد سعيد القحطاني ص 415 .
4- الإسلام والمدنية الحديثة - أبو الأعلى المودوي ص 44 .
5- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 45 .
6- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 46-47 .
7- مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب .
8- قبل أن يحولها سعد ورفاته من ثورة إسلامية إلى ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.
9- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، د. محسن عبد الحميد ص 41 .

عن لواء الشريعة
محمد محمد بدري

السبت، 1 أغسطس 2009

الرأسمالية و حقوق الإنسان



هل الرأسمالية أعادت للإنسان مكانته وتكريمه الذي كرمه الله على سائر المخلوقات ؟! أم أنها دفعته للإنحدار الى أسفل سافلين ؟! وهل كفلت الرأسمالية للإنسان حقوقه ووفرت له أسباب العيش الكريمة ؟! أم انتهكت حقوقه وكرامته وأوردته موارد الهلاك وحرمته من أدنى أسباب العيش ؟! وهل سعت الدول الرأسمالية إلى تطبيق إعلان حقوق الإنسان طوال 60 عاماً أم كان لها من ورائه مآرب وغايات أخرى ؟!


في عام 1948 أطلت علينا الدول الكبرى آنذاك ببدعة جديدة اسمتها بإعلان حقوق الإنسان وهو إعلان منبثق عن عقيدة فصل الدين عن الحياة ويرتكز الى النظرة الرأسمالية لهذه الحقوق المبنية على فكرة الحقوق الطبيعية التي نادى بها الفيلسوف (( لوك )) و المستمدة من فكرة (( القانون الطبيعي )) وهو القانون الذي يستمد من طبيعة الإنسان والأشياء ، حيث يتوصل الإنسان بعقله ، بعد دراسة خاصيات الإنسان ، إلى وضع التشريعات الكفيلة بصيانة حقه الفردي وإسعاده في هذه الدنيا ، فإعلان حقوق الإنسان من حيث أساس نشأته يفترض به أن يكون خاصاً بمن يحمل وجهة النظر الغربية وما إلباسه لباس العالمية إلا لأجل فرض وجهة النظر هذه على بقية البشر على إختلاف عقائدهم وأفكارهم .

دعا هذا الإعلان بزعم واضعيه-في بعض بنوده الثلاثين- الى (حماية كرامة الإنسان وعدم الإعتداء عليه وعدم تعريضه للتعذيب و عدم تعرضه للإعتقال التعسفي والتكفل بتوفير أسباب الحياة الكريمة له وضمان الحريات للإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عرقه كما نص الإعلان على أن إرادة الشعب هي أساس السلطة...ألخ) ، فهل وفرت الدول الرأسمالية للبشر أياً من هذه المزاعم ام أنها انتهكتها جميعاً بلا استثناء ؟! وهل وفرت هذه الدول الأمن والاستقرار للشعوب المنكوبة ام أنها كانت دوماً صاحبة لواء الحرب والتخريب والدمار ؟! وهل وفرت هذه الدول للبشر أسباب الحياة الكريمة أم كانت صاحبة السبق في سرقة ثروات الشعوب وأموالها ؟! وهل حافظت هذه الدول على حرية الشعوب أم أنها استعبدتها وسخرتها لخدمة مصالحها ولإشباع نهمها الحيواني -الذي لا يشبع- بإسم العولمة وغيرها؟!

تساؤلات كثيرة لكنها ليست برسم الإجابة لأن الإجابة عليها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ولا تكاد تخفى إلا على أعمى البصيرة أو مكابر معاند رضي لنفسه التبعية وناضل لأجلها بل سخر حياته لها .

إن المبدأ الرأسمالي ، المتحكم في العالم اليوم عبر دوله مجسدة في أمريكا وأوروبا ، لا يقيم وزناً لغير القيمة المادية ولا يعتبر القيم الإنسانية والخلقية والروحية قيماً حتى يهتم بها ، ولقد كان إعلان حقوق الإنسان منذ لحظة ولادته مطية من المطايا التي تركبها الدول الكبرى لتحقيق مآربها ومخططاتها السياسية ، فهي تعمد الى تسليط اتهام خرق هذا الإعلان لكل من يغرد خارج سربها فتنفذ من خلاله الى التدخل في شؤون البلد المعني وتقوم بشراء الذمم والكيد والمكر وفي كثير من الأحوال الى قلب الأنظمة السياسية والتدخل في الطبقة السياسية فتبرز من تشاء وتقصي من تشاء ، فهذا الإعلان وإدعاء خرقه ليس سوى ذريعة للإستيلاء على مواطن القرار وأداة إستعمارية صرفة ، وإلا فهذه الدول هي صاحبة أكبر رقم قياسي في خرق هذه الحقوق ، فهي التي ارتكبت اعظم الجرائم الإنسانية بحق البشرية بأسرها ، فمن ذا الذي خاض حروباً عالمية أودت بحياة الملايين من البشر جرياً وراء مصالحهاً سوى الدول الرأسمالية الكبرى ؟! ومن ذا الذي تآمر وشارك في مجازر زائير التي أودت بحياة ما يقارب المليون إنسان وسبرينتسا في البوسنة والهرسك ومدن إقليم كوسوفا ، ومن ذا الذي سكت وأقر بمجازر صبرا وشاتيلا ومن قبلها تهجير أهل فلسطين عام 48 و67 وها هو يؤازر من يحاصر أهل غزة الثكالى والجوعى والنساء والشيوخ والرضع ، ومن ذا الذي قتل أسرى سجن بلغرام وهم مقيدون بلا رحمة ولا شفقة ومن ذا الذي مارس أقبح التصرفات بحق السجناء في سجن أبو غريب ومن ذا الذي ابتكر وانفرد بأسوء سجن على وجه البسيطة (غوانتاناموا) ومن ذا الذي ... والقائمة تطول ...سوى الدول الرأسمالية الكبرى صاحبة إعلان حقوق الإنسان ؟!

هذا هو إعلان حقوق الإنسان على الحقيقة بعيداً عن الكذب والخداع والشعارات البراقة ، وهذا هو واقع الرأسمالية التي ما انفكت تورث البشر البلايا والكوارث على مختلف صعد الحياة الاقتصادية والانسانية والإجتماعية والبيئية .


وفي مقابل هذا الإعلان (المطية) نجد الإسلام الذي يمثل المشروع الوحيد البديل للبشر ليخلصهم مما هم فيه ، نجد انه وفر للإنسان-على الحقيقة بعيدا عن الكذب والخداع- حقوقاً تكفل له العيش الكريم العزيز في ظل دولة تطبق أنظمته على رعاياها بغض النظر عن دينهم أو جنسهم او لونهم وتحمل عقيدته لبقية البشر لتنقذهم من الجور الذي يعيشون فيه الى عدل ونور الإسلام.

فقد كفل الإسلام للإنسان حقوقاً شرعية نصت عليها النصوص والادلة الشرعية وجعلت تطبيقها وتوفيرها مرهوناً بالدولة التي تعمل على صيانتها وحمايتها من عبث العابثين وفساد المفسدين ، ومن استعراض الأدلة الشرعية واستقرائها نجد أن الإسلام قد قسم هذه الحقوق-وفق ما يفهمها الكثير من فقهاء الأمة القدامى والمعاصرين- الى ضروريات وحاجيات وتحسينات .

فالضروريات ويقصد بها تلك المصالح التي تتوقف عليها حياة الفرد الكريمة ، وقيام المجتمع الصالح المستقر ، بحيث إذا لم تتحقق اختل نظام حياة الإنسان ، وساد الناس الفوضى والفساد ، ولحق بهم الشقاء والتعاسة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، وهذه الضروريات ثمانية ، وهي -بعيداً عن الشرح والتفصيل فيها وسرد أدلتها الشرعية والنصوص التي دلت عليها - : حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل ، وحفظ المال ، وحفظ الكرامة ، وحفظ الأمن ، وحفظ الدولة.

وأما الحاجيات : فهي الأمور التي يحتاجها الناس لرفع الحرج عنهم ، ولتخفيف أعباء التكاليف عليهم ، ففي العبادات كلفهم بما يستطيعون ، وشرع لهم الرخص تخفيفاً عليهم إذا كان تنفيذ الحكم في ظرف من الظروف ، أو في حالة من الحالات مشقة لهم ، ففي العبادات أباح للمسافر أو المريض أن يفطر في رمضان ، وأباح للعاجز عن القيام أن يصلي قاعداً وهكذا .وفي المطعومات أحل لهم الطيبات ، وحرم عليهم الخبائث ورخص للمضطر أن يأكل ما حرم عليه حفظاً لحياته من الهلاك، قال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .وفي العقوبات وضع لهم قواعد : ( تدرأ الحدود بالشبهات ) وشرع الدية على العاقلة في القتل الخطأ تخفيفاً عن القاتل ، وغير ذلك من الأحكام التي تشمل المسلم وغيره ، وما ذكر من الأمثلة كانت على سبيل تقريب الصورة والمثال لا الحصر.

وأما التحسينات : فهي الأمور التي تحسن حال الناس ، وتجعلها على وفاق ما تقتضيه الحياة الكريمة ، من مروءة ومكارم أخلاق . ففي العبادات شرع الطهارة للبدن والثوب والمكان وندب أخذ الزينة عند كل مسجد أي كل صلاة.

وفي المعاملات حرم الغش والتدليس والخداع ، وحث على السماحة والأمانة.

وفي الحرب حرم قتل الرهبان والصبيان والنساء غير المحاربات ، ونهى عن المثلة والغدر وقتل الرسل ، وقتل غير المحاربين كالمزارعين والأجراء.

وفي العقوبات حرم التعذيب لإثبات التهمة ، وأمر بإحسان تطبيق العقوبة.

وفي الأخلاق طلب الاتصاف بالصدق والعفة والأمانة ، ونهى عن الكذب والفحش والخيانة ، مما يوجد الود والاحترام والثقة بين أفراد المجتمع.

والجاجيات والتحسينات تكمل الضروريات وتعززها ، مما يساعد رعايا الدولة أن يعيشوا حياة آمنة كريمة عزيزة.

وهكذا نجد ان الرأسمالية التي زعمت وأدعت حقوق الإنسان قد أوردت الإنسان المهالك وأورثته النكبات والمصائب وحطمت الأرقام القياسية في إلحاق الأذى والضرر بالإنسان بل كان إعلان حقوق الإنسان مجرد أداة رأسمالية استعمارية تستخدمها الدول الكبرى متى شاءت لتحقيق مخططاتها ومآربها المصلحية التي لا تقيم وزناً للحياة والكرامة البشرية ، بينما نجد الإسلام قد كفل للإنسان-على الحقيقة- حقوقاً توفر له العيش الكريم والحياة الآمنة المستقرة .

وعليه فلا بد للمسلمين إذا أرادوا النهوض والرقي ، والعيش بطمأنينة وكرامة أن يعودوا إلى دينهم الحق ، يستنطقون مصادره ونصوصه ، في كل ما يعترضهم من مشكلات ، وفي كل ما يستجد من أحداث ومصطلحات ، ليجدوا فيه العلاج الشافي لها ، والقول الفصل فيها ، وعليهم أن لا يخدعوا بالشعارات الزائفة ، وبالمصطلحات الغربية البراقة ، فالفكر الإسلامي ، فكر سامٍ ، منبعه الوحي الإلهي ، بينما الفكر الغربي الرأسمالي ، فكر وضعي بناه البشر على عقيدة فصل الدين عن الحياة ، وشتان ما بين الفكرين ، قال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ * وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

وعلى البشر إن أرادوا الخلاص مما هم فيه أن ينبذوا الفكر الرأسمالي ويزيحوا عن كاهلهم هذه النظم المتحكمة فيهم وأن يلجأوا الى حيث العدل والنور والحياة الكريمة ولن يطول الزمن حتى تتجسد هذه الحياة في أرض الواقع فتبزغ الشمس على أرض عمتها الظلمة ويسود العدل بعد أن طغى الظلم وعلا.

بقلم: علاء أبو صالح



المرأة في العالم قبل الإسلام و بعده



في بلاد الشرق ظهرت حضارة الصين والهند والفرس واليابان والأتراك والعرب (قبل الإسلام)، ونشأت في الغرب حضارات أهمها حضارة اليونان وحضارة الرومان، وتبعاً لاختلاف هذه الحضارات اختلفت نظرة أصحابها إلى المرأة، فتنوعت مكانتها عندهم، وتباينت معاملتهم لها من حضارة إلى حضارة، ومن مجتمع إلى مجتمع، إلا أنّها كانت في الإجمال لا تحظى بالرعاية اللائقة بها ولا تنال من الحقوق إلا النـزر اليسير، ينظر إليها أكثرهم نظرة دونية.

ففي الحضارة اليونانية كانت الفكرة السائدة عن المرأة في المجتمع اليوناني قائمة على الدونية وعلى انحطاط قواها العقلية، وسيطرة انفعالاتها وشهواتها عليها، وقد أطلق عليها أرسطو (العنصر اللاعقلي في النفس البشرية)، فكان يرى وجوب خضوع المرأة للرجل الذي يملك العنصر العقلي. وكانت المرأة تمثل الجانب السلبي في الحياة، وعليها السمع والطاعة للرجل، فهي في مرتبة وسط بين الرجل اليوناني الحُرّ، وبين العبد الرقيق. ولم يكن مسموحاً لها اختيار زوجها حال بلوغها سن الزواج، فأهلها يفرضون عليها الزواج ممن يشاؤون. وكانت تعيش معزولة عن ميدان السياسة والحكم، فما هي بالنسبة للرجل الأثيني إلا رئيسة للخدم وموضعاً للإنجاب، ووسيلةً لتحقيق متعة الرجل وإسعاده.

وفي الحضارة الرومانية كانت المرأة تعتبر ناقصة العقل، لا أهلية لها في التملك أو إمضاء العقد أو عمل الوصية أو أداء الشهادة أو شغل الوظيفة، وقد نصَّ القانون الروماني على ذلك. فالأنوثة عندهم تعني انعدام الأهلية، والوصاية عليها قانونياً في ظل هذه النظرة للأقرب فالأقرب من الأعصاب، ثم لأعضاء العشيرة. وللرجل وحده حق السيطرة والنفوذ والتصرف فيما عنده من نساء، وله أن يبيع النساء اللاتي في حوزته أو تعذيبهن أو قتلهن.

وفي الحضارة الصينية سُميت المرأة (بالمياه المؤلمة التي تغسل المجتمع وتكنسه من السعادة والمال) وقد اعتبرها الرجل شرّا يستبقيه على إرادته، ويتخلص منه بالطريقة التي يرتضيها.

وفي الحضارة الهندية كانت المرأة تعتبر لعنة ووباء فتاكاً، وهي أفظع من الجحيم وأنقع من السم وأشد خطراً من الأفاعي.. وكان للرجل الحق أن يخسر زوجته في القمار. وكان للزوج أن يتزوج إذا ماتت زوجته، أما المرأة فلا يحق لها ذلك بل تبقى أرملة بقية حياتها، وتُمدح إن هي أُحرقت بالنار لتلحق بزوجها المتوفى إظهاراً للوفاءِ وفراراً من الشقاء، وظلت هذه العادة سائدة لعدة قرون إلى أن قضى عليها المسلمون ثم المستعمرون الإنكليز.

وفي الحضارة الفارسية كان الفرس يعتبرون المرأة مساعدة لأهريمان (أي الشيطان) وأنها تمثل الشر المجسم، وهي حقّ من حقوق الرجل، وله قتلها والحكم عليها بالموت إذا أراد ذلك. وهي عنده سلعة أيضا يتصرف فيها كيف يشاء كما يتصرف بسائر ممتلكاته، ولا يجوز لها أن تتعلم ولا تخرج من البيت، وإنما تحيا فيه وتحجب كباقي الأمتعة الخاصة بصاحب البيت.

وعند اليهود الذين حرَّفوا دينهم تجد في التوراة المُحرَّفة أحكاماً غريبة. ومن هذه الأحكام اعتبار المرأة الحائض نجسة، لا يلمسها الرجل ولا تنام في مضجعه، ولا تصلي ولا تدخل المعبد ولا يؤكل من طعام تصنعه، وبسبب ذلك جار عليها الرجال اليهود، وعدّوها رجساً من عمل الشيطان، فظلموها وقهروها وجعلوها مغلوبة على أمرها، وحمَّلوها مسؤولية إغواء الرجل، كما قالوا إنَّ حواء مسؤولة عن إغواء آدم وإخراجه من الجنة بأكله من الشجرة المحرمة، ثم انتقلت مسؤولية الإغواء إلى النساء فيما بعد، وقد ورد في أحد مزاميرهم على لسان المرأة: «ها أنذا بالإثم صُوِّرت وبالخطيئة حُمِّلت من أُمِّي»

أما النصارى فقد قاموا بتحريف ديانتهم. وأخذوا كثيراً من تشريعاتهم من التوراة المحرَّفة، فهي في حقيقتها من وضع أحبار اليهود وقساوسة النصارى. ولذا فإن الإنجيل لا تجد فيه عن المرأة إلا الشيء القليل، وحتى هذا القليل فإنه خاضع لتفسيرات قساوستهم وقديسيهم. وقد جاء في موعظة للمسيح عليه السلام -حسب قولهم- «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن، وأمّا أنا فأقول لكم إنّ كل من ينظر إلى المرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه، وقيل من طلق زوجته فليعطها كتاب الطلاق، وأمّا أنا فأقول لكم من طلق زوجته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن تزوج مطلقة فإنّه يزني».

وقد تمادى بعض رجالات النصرانية بعد سيدنا عيسى عليه السلام في سوء ظنهم بالمرأة عندما شككوا في إنسانيتها، وتساءلوا حتى في مجامعهم الكنسية إذا ما كان لها روح كروح الرجل، وعما إذا كان يجب أن توضع بين الوحوش أم بين الكائنات المفكرة. وقد صرح بعض القساوسة الكبار في مجمع باكون «بأنّ المرأة لا تتعلق ولا ترتبط بالنوع البشري»، وكما ورد في مجمع عقد في روما سنة 582 م إذ قرر رجاله «بأنّ المرأة كائن لا نفس لها، وأنها لهذا السبب لن ترث الفردوس، ولن تدخل ملكوت السماوات، وأنها رجس من عمل الشيطان، وليس لها أن تتكلم، ولا تضحك، ولا أن تأكل اللحم، بل غاية وقتها أن تقضيه في خدمة الرجل سيدها وفي عبادة ربها».

وفي العصور الوسطى في ظلّ سلطان الكنيسة كانوا ينظرون إلى المرأة بأنها سلعة مملوكة للرجل، له أن يتصرف بها كيف شاء، يملكها أبوها ثم زوجها ثم بنوها، يتصرف بها كل واحد منهم كما يتصرف بحيوانه أو متاعه أو تجارته. وكانت التقاليد السائدة في أوروبا عنيفة متزمتة، تنظر إلى الجنس على أنه قذارة ودنس، لا يعتني به الرجل الطيب النظيف، وكانوا يحتقرون من يهتم به أو حتى من يتحدث عنه، لأنّ هذا لا يليق بمن يريد التطهر والارتفاع عن الدنية، وما المرأة إلا وعاء للأطفال تلدهم وتربيهم ليستمر النوع، وهي شيطانة بصورة إنسان، يتشككون في إنسانيتها ويتمارون في آدميتها، إذ قرر أحد المجامع الكنسية في روما «أنّ المرأة بلا روح لها ولا خلود، ولكن يتحتم عليها العبادة، وتُلزم بالخدمة ويُكَمُّ فمها كالبعير». كما أنه ساد سوء الظن بخُلقها، وقد عرفت في تلك العصور أَقفال العفة الحديدية، التي كانت تُركَّب في أحزمة تلبسها النساء حول خصورهن، ويحتفظ الأزواج بمفاتيحها.

وعند العرب في الجاهلية كانت المرأة أدنى مكانة من الرجل، وكانت النظرة إليها نظرة دونية، وكان الرجل من العرب على الرغم من أنه يركب الخيل ويحمي القبيلة ويحمي الأعراض والذمار إلا إنّ احتقاره للمرأة وصل به إلى أن يئد ابنته، أي يدفنها في التراب وهي حية، إما خوفاً من العار أو من الفقر أو خوفاً من السبي، وقد ندد القرآن الكريم بذلك قال تعالى: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } [التكوير 8-9].

وكان العربي يشعر بالحزن والأسى والغضب إذا بشر بالأنثى كما بين ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [النحل 58-59].

ولم يكن للمرأة حق في الإرث سواء أكانت أماً أم أختاً أم زوجة أم بنتاً أو غير ذلك، كما أنّه لم يكن لها حقٌّ في الكسب أو التصرف بما تملك. فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: «كنا في الجاهلية لا نَعُدُّ النساء شيئاً، فلما جاء الإسلام وذكرهنَّ الله، رأينا لهنَّ علينا حقّاً»، (رواه البخاري)، وعن ابن عباس قال: «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهـم أحـقّ بهــا من أهـلـها، فنــزلت هـذه الآيــة: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }»، (رواه البخاري)

أما النكاح عند العرب يتم بأساليب مشهورة منها:

نكاح الاستبضاع: وفيه يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها حتى يبين حملها، فإذا تبين أصابها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.

وكانت المرأة في الجاهلية إذا مات عنها زوجها حبست نفسها سنة كاملة لا تلبس الجديد، ولا تغتسل، ولا تتطيب، ولا تعرض نفسها للزواج، ولا يتعرض لها الغير، كما كان ورثة الزوج لا يرون أنفسهم مكلفين بإسكانها وإطعامها مدة الحداد على زوجها.

وكان العرب في جاهليتهم يغالون في المهور وفي شروط الكفاءة، فلا تتزوج حرة من عبد، ولا امرأة رفيعة النسب بمن هو أقل منها نسباً، ما أدى إلى كثرة الأيامى والعوانس عند العرب.

ووردت روايات كثيرة وصحيحة تبين رفعة مكانة بعض النساء، وما خديجة بنت خويلد وبنات حاتم الطائي، وجليلة بنت مرة، وهند بنت عتبة، والخنساء إلا أمثلة على ذلك، ولكنها أمثلة قليلة جداً إذا قورنت بنساء العرب جميعاً.

وقد بقيت الحال هكذا إلى أن جاءت الرأسمالية وحل عصر الثورة الصناعية، فبدأ الرأسماليون يطالبون بحقوق المرأة.


المرأة في العصر الحديث

الحركات النسوية المعاصرة

إنقسمت الحركات النسوية المعاصرة إلى عدة أقسام منها الحركات النسوية الليبرالية وأخرى ذات الجذور الماركسية، وثالثة متعصبة للأنثى والأنوثة، معادية للذكور.نادت معظم هذه الحركات بضرورة إعطاء المرأة حريتها الشخصية مثلها مثل الرجل فكانت وراء خروج النساء الغربيات إلي العمل لكسب العيش وممارسة كل الأعمال, وبالتالي صارت رعاية البيت وتربية الأولاد ليست من مسؤولية المرأة, كما أصبح لها مطلق الحرية في معاشرة من تريد من الرجال او النساء بزواج أو دون زواج ولها أن تحمل ممن تريد وأن تجهض حملها إذا أرادت, وأن تنسب الاولاد لنفسها, وأن تلبس ما تشاء من الثياب, ولها أن تتملك ما تريد بأي طريقة و كيفما شاءت دون ضوابط, كل ذلك تحت مسمى الحريات. لكن في الحقيقة تخضع المرأة الغربية لقيود إقتصادية محكومة من مجتمع رأسمالي لكي تصبح مصدركسب وربح آخرللدخل الإجمالي للدولة.فوجدت المرأة أن حريتها تتصاحب مع حرية الملايين من رجال الاعمال الذين يروجون لشكل المرأة العصري الذي يجب أن تكون عليه, وحيث أن المجتمع الغربي يسيطر عليه الثقافة الجنسية, إستغل الرأسماليون جسد المرأة أبشع إستغلال.ففي أمريكا وحدها تنتج صناعة الصورالإباحية الداعرة 8 بلايين دولار سنويا, وفي بريطانيا تقدرمبيعات المجلات الداعرة وحدها بنسبة 5 ملايين دولارسنويا. وشركات الأزياء والتجميل التي تحدد للمرأة مظهرها حسب المواسم حقيقة أصبحت تقيد المرأة بمظهر تحدده هي بغرض الكسب فتراها تنفق الكثير من دخلها لمواكبة أخر موضة. في بريطانيا تكسب صناعة التجميل سنويا 8,9 بليون باوند وفي أمريكا تضاعف دخل هذه الصناعة 10% سنويا. مما سبب إنحرافات عديدة في المجتمعات ففي أمريكا تغتصب إمرأة كل دقيقتين وفي مصر تغتصب إمرأة كل ساعة.

وقد عمد النظام الرأسمالي في ظل العولمة أن ينشر أفكار تحرير المرأة والحصول علي حقوقها في كل العالم. متناسيا ما جلبته افكاره العقيمة من مشاكل عجزوا عن حلها بدلا عن حل مشاكلهم قالوا نفسد باقي العالم.ولعل ما يعنينا هنا العالم الإسلامي وبلاده الذي يراها الغرب متخلفة وظالمة وصراحة يرمي الإسلام بهذه التهمة.

إن حركة تحريرالمرأة نشأت في مصروإنتشرت من هناك إلى باقي البلاد الإسلامية تدعي الدعوة إلى إزالة الظلم و تحرير المرأة من التبعية للرجل والتعاسة والشقاء التي تعاني منهما ، و في الحقيقة هي دعوة للتخلي عن الاحكام الشرعية.أول مرحلة عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي يحضرن خطبه أن يزحن النقاب عن وجههن وهو الذي نزع الحجاب عن وجه هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري و في عام 1919م قادت هدى شعرواي مع زوجة سعد زغلول المظاهرة النسائية التي طافت فيها شوارع القاهرة هاتفة بالحرية «وتجمعت النساء وهتفن ضد الاحتلال... ثم بتدبير سابق, ودون مقدمات ظاهرة, خلعن الحجاب, وألقين به في الأرض, وسكبن عليه البترول, وأشعلن فيه النار... وتحررت المرأة!!!»1.


ومن أبرز النساء اللاتي قدن حركة السفور مع هدى شعراوي:

أمينة السعيد: وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر.. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت الحجاب وسخرت مجلتها حواء للهجوم على الآداب الإسلامية.

د. نوال السعداوي: زعيمة الاتحاد المصري حالياً, والتي وجدت لها منبراً في العديد من الصحف والمحطات الفضائية تبث من خلاله هذرها الفارغ, وشذوذها الفكري, بصورة غريبة وشاذة, مما يشير إلى أن الإعلام في بلاد المسلمين يساهم في تنفيذ مخططات الكفر في ضرب الإسلام والمسلمين. فتظهر علينا هذه العجوز التي تنعت الزي الشرعي الذي بات غالبا وظاهرا في شوارع بلادنا الإسلامية، تنعته بحجاب الموضة أوإنه إنتشر بسبب الحركات السياسية أوهو مرض يعدي من إمراة لإمرأة! وتنفي تماما أن الله فرض على المؤمنات من النساء.

وأصبحت من تنادي بما تقوله الحركات النسوية عدوة لله ورسوله ،غير راضية بالأحكام الشرعية ،منها الزي الشرعي وحكم تعدد الزوجات، وأحكام الإرث في الإسلام، وتحريم الإسلام لتولي النساء الحكم،وتقف ضد الزواج المبكر،وتطالب بالسفور والإختلاط والحرية حتى فلت منها زمام الأمور.وأصبحت في حيرة لا تدري من تكون،أهى الأم والإبنة والزوجة المصونة أم هى التي تلهث طوال الوقت وراء الظهور كإمرأة "عصرية" "غربية" تعيش الحياة بطولها وعرضها.
وحدِّث ولاحرج عن نتائج هذه الحرية المشبوهة نساء كاسيات عاريات ونساء عاريات لا كاسيات وأسرٌ مضطربة وبيوت كبيوت العنكبوت واشباه رجال واطفال غير شرعيين من امهات غير متزوجات أو من ثمار زواج عرفي والذين وصل عددهم في مصر حسبما ذكرت جريدة الاهرام الى 12 ألف طفل لايعرفون آباءهم وحضانات وخادمات كافرات وشكوك واضطرابات وطلاق تصل نسبته في بعض المجتمعات الاسلامية والعربية الى ما يتجاوز ال 70% من حالات الزواج ومسلسلات وأفلام ومجلات وفضائيات.


اين الإسلام من كل هذا؟

بعد الإطلاع على هذا التاريخ القاسي للمرأة في العالم كان من الطبيعي أن تصرخ مطالبة بحقوقها يوما ما. وهذا ما جعل المرأة الغربية تحسد المرأة المسلمة وتحقد عليها حقد شديد عندما رأت كيف يعامل الإسلام العظيم المرأة المسلمة وغير المسلمة، في ظل الدولة الإسلامية. جاء الإسلام فارتقى بالمرأة، وكرمّها بأحكامه الشرعية الحقّة، وانتشلها من المستنقع الآسن الذي كانت غارقةً فيه عبر العصور في معظم الحضارات، وجعل لها من الحقوق وعليها من الواجبات كالرجل من الناحية الإنسانية.

لم يكن ذلك بسبب دعوات أرضية أو ثورات ومطالب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بل كان منشأ ذلك هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى، خالق الذكر والأنثى. فالإسلام منح المرأة الحقوق الشرعية ابتداءً، دون طلب منها ودون جمعيات نسوية أو منظمات حقوق الإنسان، فالإسلام يستهدف تحقيق منهجه الكامل بكل حذافيره، لا لحساب الرجال ولا لحساب النساء، ولكن لحساب الإنسان والمجتمع المسلم، ولحساب العدل الذي أمر به الخالق.

فتكريم الأنثى تكريم للإنسانية، فلا تفاضل بين الناس إلا بالتقوى، { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات 13].

وشاءت إرادة الله أن يتشابه الذكر والأنثى في صفات كثيرة، وأن يختلفا في بعض الصفات، وجعل لكل منهما وظيفة حيوية خاصة به تناسب خَلقه وتكوينه، وطلب منهما أن يتعاونا في خلافة الأرض وعمارتها، يعملان ويتكاثران، فجعل الذكر يسكن إلى الأنثى، والأنثى تسكن إلى الذكر، ومَنَّ الله علينا بأن جعل لنا من أنفسنا أزواجاً، وجعل لنا من أزواجنا بنين وحفدة قال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل 72].فالمساوة ليست هى الحل بل الحل أن نحتكم إلى الله سبحانه وتعالى الذي خلق الذكر والأنثى وحدد لكل منهما الدور المطلوب منه تأديته في هذه الحياة. فالإسلام أعطى المرأة والرجل حقوقهما الإنسانية منذ أكثر من 1400عام،ولكن أعداء الإسلام هم من يكيدون للمسلمين ويضربون الإسلام من خلال المرأة. وعندما هدمت دولة الإسلام ضاعت حقوق العباد،وإنقلبت الموازين ولم يعد الإسلام مطبقا في الحياة كعقيدة ونظام ولذلك إنتشر الظلم والفساد من جراء إقصاء الأحكام الشرعية عن حياة المسلمين والمسلمات، فالحل هو أن يعود الإسلام مطبقا على العالم كله وأن تسود الأحكام الشرعية ، وعندها فقط يطمئن الناس جميعأ.


أم أبوبكر

حتمية الإسلام و نهاية الحضارة الغربية


لقد فقدت البشرية أهم مقومات حياتها يوم رضيت و قبلت مختارة تنحى الإسلام عن واقع الحياة، فسقوط الخلافة الإسلامية ( خلافة بني عثمان ) لم يكن مجرد إزالة سلطان - قد بدأ الضعف و الوهن يصيبه قبل ذلك باكثرمن 150 عاماً -، إنما كان لإزالة حضارة استمرت أكثر من ثلاثة عشر قرناً كانت فيه الحضارة الإسلامية هي النور الذي أضاء للبشرية حياتها، في وقت كانت أوروبا تعيش ظلام الجهل و التخلف الحضاري و الفكري، و ماكانت نهضتها الأخيرة إلا على أكتاف الحضارة الإسلامية التي عبرت إلى الساحل الغربي عن طريق الأندلس و صقلية.

إن تنازل البشرية عن الإسلام لم يكن هو التنازل العابر عن قضية هامشية أو عابرة في مسيرة الحياة الإنسانية، و لكنه كان تنازل عن أهم مقومات حياة البشر و العيش في ظل شريعة السماء، و ذلك بتطبيق أحكام الإسلام و قوانينه المنبثقة عن عقيدته، و التي توافق فطرته و عقله، و بإلغاء الخلافة بدأ تطبيق أحكام البشر على العالم من شيوعية و ديمقراطية و بعثية و قومية و وطنية و التي ردت الإنسانية إلى الاحتكام إلى قوانين الغابة، والتي تطبق فيها قوانين البشر الحمقاء مثل البقاء للاقوي و الغلبة للمادة، و إن الحياة ليست إلا ميلاد و موت لا يوجد بعث و حساب؛ وجنة أو نار، و لذلك يتساوي الخير و الشر و يصبح الخير في الجانب الأضعف لأنه لايستطيع الحياة على الأرض بقوانينها التي لا تعترف بوجود إله للكون.

و هكذا نشأت مرة أخرى أفكار مضادة للدين و لاتريد أن تحيل هذا الإنسان إلى قوانين خالقه. فمن ظهور الشيوعية و سقوطها، إلى الليبرالية العفنة و التي لا تريد أن تلتزم بأي قيد في الحياة سواء في الجانب التشريعي أو الخلقي، فالحرية قد و صلت في السنوات الأخيرة داخل العقل الليبرالي إلى رفض كل ماهو يستند إلى السماء، و اعتبرت إن الحقوق الشخصية و الفكرية للإنسان يكتسبها بمجرد ميلاده لا حق من حقوق التشريع الإلهي منحها الله له بحكم عبوديته له، و على هذا يكون هناك عقد بين الحاكم و المحكوم يطبق فيه الحاكم قانون السماء، و ينظر الليبراليون إلى هذه القوانين على أنها مقيدة للحرية الشخصية و لذلك يحاول التفلت منها بشتى الطرق، و خاصة إن كانت هذه القوانين نابعة من الدين المعتنق داخل الدولة فإنه يتصدى - لا لقوانين – بل للدين باعتباره معوق أمام الحرية الشخصية و الفكرية، و يبدأ في تدعيم أي أفكار أو مذاهب بشرية تقف ضد الدين و تعيق انتشاره و تحاول الحد من سلطانه سواء على مستوى السلوكيات الشخصية للأفراد أو على مستوى التشريع الداخلي للدولة، مما أوجد حالة من الإلحادية أو اللادينية تسيطر على مستوى كبير من العقل الجماعي للشعوب التي من المفترض أنها وصفت بوصف ديني مثل العالم الإسلامي، و أصبح الحديث عن أفكار و مذاهب من نتاج العقل البشري القاصر هو المسيطر على الفكر الليبرالي و الذي يتخفى تحت شعارات الحرية و المساواة و حقوق الإنسان، والذي يختفي مباشرة إذا كان هذا الحديث عن انتهاك للحريات أو لحقوق الإنسان من أجل دينه و معتقده باعتبار إن هذا الدين في أصله من مقيدات الحرية.

و ماكان ظهور أفكار مثل البهائية أو القاديانية و الدعم القوي في الشرق و الغرب لها إلا انتصار مؤقت لهذا الفكر الليبرالي الذي أوشك على السقوط، فدائماً ما يرتبط ظهور الفكر الإلحادي و الهرطقيات البشرية، و التمادي في الحريات الشخصية، وصولا ً إلى الإباحية في القول و السلوك داخل المجتمعات، بالبداية الحقيقية لسقوط الحضارات والأفكار البشرية و التي لا تستند إلى الوحي السماوي من بعيد أو قريب، و لذلك فإن قيادة الغرب للبشرية قد أوشكت على الزوال.. لأن النظام الغربي قد انتهى دوره، لأنه لن يستطيع أن يقدم للبشرية أي نوع من القيم، يمكن الإنسان المعاصر أن يحيا بها وسط الصراع المادي للحياة، و لايملك إلا التفوق المادي و العسكري الغير مغلف بأي نوع من القيم يستطيع الإنسان أن يحيا بها حياة تضمن له الاستقرار النفسي و المصالحة العقلية بداخله.

لا بد إذن من مؤهل آخر لقيادة البشرية - غير الإبداع المادي - ولن يكون هذا المؤهل سوى " العقيدة " و " المنهج " الذي يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج العبقرية المادية، تحت إشراف تصور آخر يلبِّي حاجة الفطرة كما يلبيِّها الإبداع المادي، وأن تتمثل العقيدة والمنهج في تجمع إنساني.
إذا لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية، عن طريق الإبداع المادي في الغرب، وتستطيع إمداد البشرية بقيم جديدة - بالقياس إلى ما عرفته البشرية – وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته. والإسلام - وحده - هو الذي يملك تلك القيم، وهذا المنهج.

لقد أدَّت النهضة العلمية دورها.. هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي، ووصلت إلى ذروتها خلال القرن العشرين. ولم تعد تملك رصيدًا جديدًا.
كذلك أدَّت " الوطنية " و " القومية " التي برزت في تلك الفترة، والتجمعات الإقليمية عامة دورها خلال هذه القـرون.. ولم تعد تمـلك هي الأخرى رصيدًا جديدًا. ثم فشلت الأنظمة الفردية والأنظمة الجماعية في نهاية المطاف.

و مثلما جاء الإسلام في وقت كان العالم كله مستسلم للوثنية المنتشرة في جهاته الأربعة لدرجة أنها أصابت الأديان السماوية الموجودة على الأرض سواء كانت المسيحية أو اليهودية، و جاءت البعثة النبوية بالإسلام لكي يخرج البشرية من عبودية الوثنية إلى عبادة الله الواحد و الامتثال لشرائعه و تطبيق المفروضات و اجتناب المحرمات و رفع شعار تحرير الإنسان من كل العبوديات الأرضية المفروضة على الإنسان بالجهاد كوسيلة محدودة لإزالة الحواجز المادية من أمام الإسلام لكي يصل إلى القلوب و العقول و بعد ذلك من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.

و هكذا يأتي الدور على الإسلام ثانية في أشد الساعات حرجاً وحيرة واضطرابًا لكي يعيد اتجاه البوصلة البشرية إلى وضعها الصحيح بعد أن فقدته البشرية منذ أن تنحى الإسلام عن قيادة البشر: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }... [ آل عمران: 110 ]
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }... [ البقرة : 143 ]

ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في دولة، أي أن يتمثل في أمة.. أي أن عودة الإسلام إلى معترك الحياة من خلال دولة إسلامية ضرورة تفرضها البشرية على المسلمين لإنقاذهم من الحضارة الراسمألية المادية المدمرة للكون. و ليس أدل على ذلك من إن قيادة الغرب للعالم أنتج حربيين عالميتين أزهقت فيها ملايين الأرواح غير عشرات الحروب التي اصطنعاها الغرب لكي يستولي على الأرض و ما فوق الأرض من بشر و ثروات و كنوز.و لكن العالم الآن لن ينظر إلى الإسلام و لن يستجيب لندائه وبخاصة في هذا الزمان - إلى عقيدة مجردة - إلا إذا رأى مصدقها الواقعي في حياة مشهودة..تتطبق فيها أحكام الإسلام و شرائعه المنبثقة من العقيدة الإسلامية و التي تعطى تصور كامل عن حياة الإنسان حسب ما أراد الله لها أن تعيش و فق المنهج الالهى الذي نزل في الشريعة الخاتمة الإسلام. فلابد من إستنئاف الحياة الإسلامية مرة أخرى من خلال دولة لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى.
أي لابد من إحياء لتلك الدولة التي واراها ركام الأجيال وغياب التصورات، وعلمانية الأنظمـة، التي لا صلة لها بالإسلام، ولا بالمنهج الإسلامي.. وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم الإسلامي " !!!

وأنـا أعلم أن المسافة بين بداية المحاولة لإحياء هذه الدولة وبين إعلان قيامها مسافة شاسعة.. فقد غابت الخلافة الإسلامية عن الوجود وعن الحياة دهرًا طويلاً. و تولت قيادة البشرية أفكار أخرى وأمم أخرى، وتصورات أخرى وأوضاع أخرى فترة طويلة. وقد أبدعت العقلية الغربية في هذه الفترة رصيدًا ضخمًا من الأفكار و التصورات و الأنظمة الفاسدة و الإنتاج المادي وهو رصيد ضخم تنهل البشرية منه، ولا تفرِّط فيه ولا فيمن يمثله بسهولة ! وبخاصة أن ما يسمى " العالم الإسلامي " يقتله الفقر في التصدي لهذه الأفكار و التصورات رغم أن الإسلام على مرمى يديه و لكنه يرفضه بحجة التطور و المدنية و أن الإسلام من مخلفات الماضي.

ولكن لا بد - مع هذه الاعتبارات كلها - من البداية مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البداية وبين تسلم القيادة. فمحاولة إيجاد الإسلام بدون العمل لإيجاد دولته هو نوع الكفاح الرخيص الذي لا طائل منه إلا تغيب الأذهان و المفاهيم عن العمل الرئيس لأمة الإسلام. هذا ما يريده الله لهذا الدين.. ولن يكون إلا ما يريده الله، مهما كانت رغبات الناس !

إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء. فالإسلام ليس نظرية بشرية، ولا منظومة وطن، ولكنه عقيدة و نظام، عقيدة إلهية، ونظام للبشرية.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تستعبد الإنسان و لا تمنحه حتى الحرية في الاختيار. وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع الفاسدة لكي يصل إلى تحرير الإنسان، و يكون كمال حرية الإنسان هي في عبوديته لله هذه العبودية هي التي يتساوي أمامها كل البشر.

و لكن لابد من تجمع فكري تستطيع الأمة من خلاله تطبيق الإسلام على نفسها بداية و من ثم وصولا إلى الهدف الأكبر المتمثل في إقامة دولته. إذا لابد من وجود جماعة تتبنى الإسلام فكرة و طريقة، تتمثل فيها مواصفات الجيل الأول خاصة في فهمه لقضية الإسلام، و الاستعلاء عن جميع النظريات البشرية المستمدة من الواقع و التي يريد أصحابها إلصاقها بالإسلام و هو منها براء. و عدم الانصياع إلى أي حلول مطروحة تخالف طريقة النبي في إقامة دولته، سواء كانت الانتخابات أو العمل المسلح أو الدعوات الإصلاحية التي انتشرت في العالم الاسلامى تحت مسميات مختلفة و الذي تذكر فيه الخلافة على استحياء،و يوضع فيها الإسلام في قفص الاتهام، فعلى الجماعة التي تعمل للإسلام الحذر في الوقوع من ما وقعت فيها باقي الحركات السياسية، و إن التنازل الأول هو أول خطوة في طريق التنازلات الطويل الذي لن ينتهي إلا برفع الصليب أو وضع القلنسوة اليهودية على الرأس.
فهنينأ لمن يعمل لإقامة الخلافة الإسلامية، مهتدياً فيها بطريق النبي الكريم، متمثلاً فيها بخطواته من دار الأرقم إلى وصوله إلى المدينة معلناً إقامة دولة المسلمين على الأرض، فلنعمل و نحن على يقين أن البيان الأول قد اقترب موعده. ( و يقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً )


محمود طرشوبي
مسئول فى مشروع الامة - مصر