‏إظهار الرسائل ذات التسميات الدعوة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الدعوة. إظهار كافة الرسائل

السبت، 17 يناير 2015

كـذبـــــة اسمـــــــها «الإرهــــــــــــاب» (1)


بسم الله الرحمن الرحيم 
 
تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل وخطط الغرب الخبيثة (الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) في حربه على الإسلام ودعاته، وهو يستميت في ذلك ليحول دون عودة الإسلام ودولته دولة الخلافة الراشدة الثانية التي أظلَّ زمانها بإذن الله تعالى. فها نحن نراه يطلق سمومه ممثلة بمصطلحات ومفاهيم يصنعها صناعة في الغرف المعتمة والمشبوهة من وراء الكواليس كفكرة حقوق الإنسان، وسياسات السوق، والحوار بين الأديان، والأصولية، والعولمة، والوسطية، وأخيراً وليس آخراً: الإرهاب. نعم إنه المصطلح والفكرة والواقع الجديد الذي صنع منه صانعوه وأعد له معدوه وأخرج له مخرجوه لأن يلعب في فيلم الكاوبوي الأميركي دور الشبح والجن الذي يؤرق ويقضُّ مضاجع العالم، فتكون النتيجة احتلال مزيد من بلاد المسلمين، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والشباب، وهدم وتدمير للشجر والحجر، ويكون هذا (الإرهاب) حجة وذريعة لاستعباد العباد واحتلال البلاد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وفكرياً. لقد بات الإرهاب الواقع الجديد القديم، والذي مازال حتى الساعة يقطف الغرب ثمرته ويضرب به البلاد والعباد، هذا وقد تناولت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المحلية والدولية مصطلح الإرهاب لترسخ هذا المصطلح خدمة للأنظمة ومن ورائها الغرب الحاقد. وفي هذا المقال لن نسلط المجهر سوى على مصطلح الإرهاب الذي بات سرطاناً وجب على الأمة استئصاله واستئصال أمه المبدأ الرأسمالي واجتثاثه من جذوره واستبداله بمبدأ الإسلام؛ لتتعافى الأمة وتصبح خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ولكن كيف يتسنى لنا ذلك؟
وعلى ذلك، فسنبحر في هذا البحث ونتعمق في عدة محاور فيه تتمثل بـ: 1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً. 2- نشأة الإرهاب والغاية منه. 3- ماذا استفاد الغرب من فكرة الإرهاب؟. 4- صور من الإرهاب الغربي. 5- أسباب إخفاق الثورات. 6 - عوامل نجاحه 

ودعمه. 7- كيفية مواجهة الإرهاب ( فكراً وواقعاً) وعلاجه .

1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً:
الإرهاب لغةً: رَهِبَ بالكسر يَرهَبُ رهْبَةً ورُهباً بالضم ورَهَبَا بالتحريك أي خاف. ورهب الشيء رهباً ورهباً ورهبة: خافه. ويقال: رهبوت خير من رحموت، أي لأن تُرهب وتُخف خير من أن تُرحم.
والرهبة: الخوف والفزع، ترهب الرجل إذا صار راهباً يخشى الله، والراهب: المتعبد في الصومعة.
والإرهاب شرعاً: لا يوجد معنى في الشرع في الآيات والأحاديث يصرفه عن معناه في اللغة، وبالتالي يكون لغة وشرعاً بنفس المعنى، قال تعالى:((وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُون)) . أي فإياي فخافون. وقال تعالى: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)). أي يدعوننا قربة إلى الله وخوفاً من الله تعالى من الآخرة. وفي الحديث: «عليكم بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي» يريد أن الرهبان وإن تركوا الدنيا وزهدوا فيها وتخلوا عنها فلا ترك وزهد ولا تخلٍّ أكثر من بذل النفس في سبيل الله، وكما أنه ليس عند النصارى عمل أفضل من الترهب، ففي الإسلام لا عمل أفضل من الجهاد؛ ولهذا ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.
والإرهاب اصطلاحاً: هناك اصطلاح للإرهاب اصطلح عليه الغرب وأخفى غايته من هذا المصطلح الخبيث، والذي أصبح واقعاً 

 متجسداً في حياتنا ويعني به: قتل المدنيين وتخويفهم وإفزاعهم بدافع وغرض سياسي.

2- نشأته والغاية منه:
نشأ الإرهاب كمصطلح أسوة بأخواته فيما تقدم كالوسطية والعولمة والأصولية في الغرب، وبحسب الحاجة إليه وضعت الغاية له. أما مصطلح الإرهاب فقد نشأ في عام 1979م بعد مداولات ونقاشات بدأت منذ ما قبل عقد أو عقدين من ذلك التاريخ حتى توصلت إليه الاستخبارات الأميركية والبريطانية في ندوة عقدت لهذا الغرض، وقد سنت تشريعات وقوانين لتحديد الأعمال التي يمكن أن توصف بالإرهاب، وأنواع الحركات التي يطولها المصطلح بعيداً طبعاً عن إرهاب الدول الكبرى؛ لأنه حينها لا تكون له جدوى وفائدة، لأن واضعيه يريدون أن يخدم توجهات ومصالح هذه الدول الكبرى والمستعمرة للوصول إلى المزيد من خنوع وخضوع المسلمين للغرب، وهذا ما أدى بهم إلى جعل (الإرهاب) كلمة ضبابية يسهل اللعب بها هي وأخواتها بحيث يكون كل منها له مأربه ومقصده الاستعماري. فالإرهاب هو الكلمة التي لم يكن لها واقع، فأوجد لها الغرب واقعاً لتخدم مصالحه. وكذلك سواء أكانت الغاية من المصطلح الاستعمار الفكري أم الثقافي أم الاقتصادي أم السياسي... فهي تحقق له غاية، فما هي غايته؟
إن الغاية من أي فكرة أو أي عمل يعرف إما من الخبرة السياسية والمعلومات السابقة المربوطتين بالواقع المعاش، وهي أفضل من معرفتها عن طريق النتائج التي تتلو تنفيذ وتطبيق هذه الفكرة والعمل؛ لأنه حينها تكون قد وقعت الفأس بالرأس؛ لذلك كانت الطريق الأول أفضل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإفشال ما يمكن إفشاله من مشاريع قد تؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، فيا ترى: ما المصلحة والفائدة المرجوة لدى الغرب من استخدام هذه الفكرة؟ وأليست دول الغرب هي المستفيد الأول، وعلى وجه الخصوص أميركا. فماذا استفاد الغرب من شبح ما سماه بـ«الإرهاب»؟


3- ماذا استفاد الغرب من مصطلح «الإرهاب» فكراً وواقعاً:
لقد استفاد الغرب، وعلى رأسه أميركا، من استخدام مصطلح «الإرهاب» وتجلت هذه الاستفادات بـ:
1- احتلال أميركا للعراق ومن قبل أفغانستان، ونهب وسلب ثرواتهما، وفرض سيطرتها على ما حولها من بلاد وعباد.
2- هجوم أميركا على بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان واليمن بطائرات بدون طيار، وهو انتهاك للبلاد والعباد والبشر والشجر والحجر، وفرض إرهابها على هذه البلاد وقاطنيها بإذلالهم بهذه الضربات، وكذلك على جيران هذه البلاد على طريقة المثل القائل: «اضرب المربوط يخاف السائر».
3-فرض ضغوط سياسية واقتصادية على البلاد التي يوجد فيها ما يسمى بالإرهاب، وربطها باتفاقيات ومعاهدات تزيد من سيطرتها على هذه الدول؛ وذلك بإرسال قوات لتلك البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها، وإرسال جيشها إليها بحجة التدريب ومكافحة الإرهاب والمساعدة في ذلك (وهو في ذلك احتلال عسكري ) وكذلك شراء وكسب قواد الجيوش لصالحها، وبيع هذه البلاد أسلحة بمبالغ هائلة وفي كثير من الأحيان أسلحة فاسدة لتكدس وتصدأ دون استخدام سوى على شعوبها، فمنذ متى لم تُحارِب هذه البلاد أعداءها؟؟ مرت عقود وعقود دون حروب، فما فائدة هذه الأسلحة سوى انتفاع الغرب منها، وقمع الشعوب بها، وإرسال خبراء (جواسيس) لتشتري الذمم وتحول الولاءات والعمالات لصالحها.
4-الضغط على هذه البلاد وإخافة دعاتها ومفكريها وأحزابها وإجبارهم على السير معها في فكرة ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي يعترف بأجندة الغرب من الديمقراطية وحوار الأديان والحريات العامة، ويرضى بالغرب ويوجد له مبررات مفتراة من القرآن والسنة، والتلبيس على الناس بهذه الدلائل التي لا محل لها في الإسلام، وربط إقامة الخلافة الراشدة ورفع راية العقاب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإرهاب رغم أن المطلبين شرعيان وليسا مرتبطين بالحركات التي تتخذ العنف طريقة للتغيير بل بحزب التحرير الذي يدعو لهذا الهدف العظيم منذ أن نشأ في الخمسينات في عام 1953م، ولكن الإعلام المأجور للغرب لا يظهر هذا بل يكتمه، ويعتم على هذه الحركة الصافية النقية التي تدعو للإسلام النقي الصافي ولا تستخدم العنف تأسياً بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذا الهدف العظيم، والذي يتوجب على كل مسلم أن يسعى لإيجاده في الواقع، فهو فرض، وفيه إنقاذ للأمة والعالم مما يعانيه من شقاء الرأسمالية. نعم إن الإعلام الفاسد يظهر الحركات الفاسدة ابتغاء تشويه الإسلام النقي وحملته مما يدل على أن هذه الحركات أعدت وجهزت لتقوم بدور مرسوم لها، سواء أكان ذلك بعلم أم بجهل منها، فتجد أميركا والغرب من ورائها ضالتها وذريعتها لاحتلال البلاد الإسلامية.
5- العمل على ضرب الإسلام النقي الصافي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بما تقوم به بعض الحركات من تفجير وأعمال عنف حيث ترفع شعارات حقة مثل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله (راية العقاب)، ومن المناداة بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة رغم أنها حق؛ إلا أن من يرفعها هم من يقومون بهذه الأعمال (العنف) فيشوهون هذه الراية وهذه الأعمال العظيمة التي يدعو لها دعاة الخلافة فيخلط الحابل بالنابل، والزبد بما ينفع الناس، وفكر الحق بفكر الباطل.
6- ربط أشخاص عملاء للغرب وللاستخبارات الأميركية ليقوموا بأعمال العنف هذه في بلاد المسلمين لتمتلك أميركا حجتها لضرب هذه الجهة في أي بلد وفي أي مكان وأي زمان بحجة الإرهاب؛ فيكون العالم كله قرية خاضعة لها بحجة هذا المصطلح الخبيث، فيفرض الغرب أوامره على البلد، فإذا كان تابعاً لها سكتت عنه، وإذا لم يكن كذلك ضغطت عليه بهدف أن يصبح موالياً لها، أو يحقق بعض مطالبها.
7- العزوف من قبل المسلمين عن أن يعملوا للتغيير مع الحركات الإسلامية عامة، لاعتبارهم أنها شوهت الإسلام، فتلك تقوم بالعنف، وتلك تجامل وتداهن وتعترف بالديمقراطية، وتلك ترفع شعارات الموت للأعداء وتقتل المسلمين، وتلك تهتم بالسنن وتترك الفروض وتسمي الحاكم ببلاد المسلمين بولي الأمر... وجل هذه الحركات لا تفهم الإسلام فهماً صحيحاً، ولا تطرح مشروعاً لحل المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية والعالم؛ وهذا ما أدى إلى نفور الناس والأمة من هذه الحركات وخاصة تلك التي ترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ثم تقوم بالعنف فتشوه صورة وفكرة كل من يحمل هذا الراية العظيمة، سواء أكانت طريقته حقاً أم باطلاً.
8- محاولة إيجاد ما يسمى بالإرهاب الفكري وإلصاقه بدعاة الإسلام السياسي (الخلافة الراشدة) الذي يدعو إلى إيصال الإسلام لسدة الحكم، وتطبيقه في مناحي الحياة، وإيقاف التبعية للغرب وجعل الأمة مستقلة عنه، بل قائدة للأمم الأخرى...
يحارب هذا المشروع ويتهم ليُحْمَل المسلمون على نبذ الجهاد وجعله جهاد دفع وإلغاء جهاد الطلب (الفتوحات الإسلامية) الذي لولاه لما كنا مسلمين، وقبول العلمنة والديمقراطية والانتخابات وحصر الإسلام فقط في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وما يؤكد هذا هو ما دعت إليه السعودية مؤخراً من سن قانون يجيز اعتقال وتجريم كل من يدعو إلى الإسلام السياسي ليصبح في لائحة الإرهاب حسب قانونها امتثالاً لأوامر أميركا، وهذا قد أتى بعد الزيارات المتبادلة للمسؤولين الأميركان والسعوديين كزيارة أوباما للسعودية مؤخراً قبل شهر؛ ويمكن القول إن جهود الغرب وعملائهم من حكام المسلمين تنصب الآن على محاربة الإسلام السياسي الذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة، وهم في سبيل ذلك يطورون قوانينهم باستمرار حتى تلاحق هؤلاء أولاً بأول، ومن أساليب تطويرها المستحدثة إيجاد تلك الحالة الشاذة من الدعوة إلى الخلافة...
9-ضرب الإسلام السياسي الذي ينافس الرأسمالية ويهدد زوالها رغم أنه لا توجد له دولة. فبالدعوة إلى «محاربة الإرهاب» تستبق دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، الأحداث وتضع معوقات ومزالق لتحول دون عودة الخلافة أو تأخير عودتها؛ فتشوهه من خلال الـ C.I.A وشركة البلاك ووتر الأمنية التابعة لأميركا؛ فتقوم بأعمال العنف هي وعملاؤها ومرتزقتها من جنسيات مختلفة من تفجير وقتل، وإظهار أن من يقوم بهذه الأعمال هم مسلمون ليلصق بالإسلام؛ فيكون رد الفعل عند الغرب ضرب البلاد الإسلامية محل إقامة هؤلاء الذين قاموا بالعنف.
10- إيجاد حالة من التوتر والبغض بين الجيش والأمة من جراء قيام الجيش بحملات تفتيش وقصف وقتل بالأسلحة والطائرات بطيار وبدون طيار ضد من يقوم بالتفجيرات والعنف؛ فيوقع فيها ضحايا وأبرياء ومدنيين ما يؤدي إلى أن ينقم أهالي الضحايا على هذه الحركات وعلى الجيش ليقوم أهالي الضحايا بالانتقام من الجيش، وكذلك تنشأ فتنة بين الناس على أساس العرق والطوائف والديانات والقوميات كما حدث في العراق بسبب هذه العمليات التي يجريها الجيش.
11- إنشاء منظمات والإيعاز إلى مراكز أبحاث، وتقديم ندوات وبرامج ثقافية وإخراج أفلام بعدة لغات تركز على خدمة أميركا وتعريفها لـ»لإرهاب» ويحدث هذا بدعم مالي منها.


4-صور من الإرهـــــاب الغـــربي :
عرَّف الغرب الإرهاب كما يريد وكما يشاء وفق مصالحه التي تعكس مبدأه القائم على فصل الدين عن الحياة. فبحسب تعريفه، الإرهاب هو القيام بقتل وإفزاع مدنيين بدافع سياسي. فلماذا عُرِّف بهذا التعريف؟ أليس لمصلحتهم؟ وهل يطبَّق هذا التعريف على الناس جميعاً سواء وافق مصالح الغرب أو تعارض معه، أو هناك ازدواجية في التعريف فينطبق على جهات ولا ينطبق على غيرها؟!.
نعم، إن الغرب عرَّف الإرهاب بهذا التعريف ليوافق مصلحته، ومصلحته هي القضاء على الإسلام العدو اللدود له بعد الاشتراكية، رغم أنه ليس له دولة، فما بالنا لو كان لنا دولة خلافة؟! لذلك كان المقصود بهذا الإرهاب الإسلامَ. وهو قد أوجد جماعات لتقوم بأعمال تشوِّه الإسلام، وتقوم بأعمال عدوانية يجد الغرب فيها ذريعة ليضرب الإسلام وبلاده ويحتلها. فبدون هذه الذرائع لا يتسنى له ذلك، وتأكيد هذا الكلام ما خرج من أفواه الغرب نفسه، فقد صرّح ريتشارد مايرز رئيس أركان القوات المسلحة الأميركية من خلال شهادته أمام لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ: «إن الإرهابيين في العراق يريدون إقامة خلافة إسلامية والعودة للقرن السابق» وكذلك تصريح جورج بوش في 8/10/2005م حيث قال» «يعتقد المقاومون المسلمون أنهم باستيلائهم على بلد واحد سيقودون الشعوب الإسلامية ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة، ومن ثم إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من أسبانيا إلى إندونيسيا». وفي مؤتمر صحفي مطوَّل عقده بوش يوضح كيف أنه متابع لما وصل إليه ملف الخلافة عند دعاتها ما أكده في مؤتمره الذي عقده في 11/10/2006م حيث قال: «إن وجود أميركا في العراق هو لمنع إقامة الخلافة الإسلامية التي ستمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد مصالح أميركا في عقر داره. إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية والحريات؛ ولهذا يريدوننا أن نرحل؛ ولكننا باقون حتى لا نندم. وليعلم الشعب الأميركي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان. هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم وإقامة دولة الخلافة. إن مغامرة الرحيل من العراق خطرة جداً إنها تعني التخلي عن جزء من المنطقة للمتطرفين الراديكاليين الذين سيمجدون النصر على الولايات المتحدة، وستمنحهم هذه المنطقة التي نخليها الفرصة للتآمر والتخطيط بمهاجمة أميركا، واستغلال الموارد التي ستمكنهم من توسيع رقعة دولة الخلافة» الله أكبر، الله أكبر، ماذا بعد هذا التصريح من عداء؟! ألد أعداء الإسلام بوش يصرح بهذا التصريح، فماذا بعد هذا التصريح من حقد على الإسلام، يا أمة الإسلام؟! فأين عقول المسلمين؟ وأين التدبر لخطورة هذا الكلام؟ أليس بوش هو الذي حدَّد أن عدوه الإسلام عندما قال إنها «حرب صليبية» قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. نعم هناك رجال يعملون لهذه الخلافة، وهي لن تأتي من الله إلا بعد الإخلاص والوعي والسعي والتضحية والصبر... ولكن المدقق والممعن للنظر والمتدبر لهذا التصريح من بوش يجد أنه يؤكد على أن إحلال الواقع الذي يحاول أن ينكره ويرفضه، وهو الخلافة، قادم، وما هي إلا مسألة وقت. ألم يذكر أنها دولة قوية تهدد أميركا في عقر دارها؟ الله أكبر على الظالمين  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . ومن هنا كان من الطبيعي أن يبقى بوش في العراق خشية إقامة الخلافة لأنه بإقامتها سيكون زوال استعماره وزوال حضارته. وستكون نتيجته كما صرح «حتى لا نندم». ثم ألم يمدح حكام البلاد العربية بقوله: «ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة» وبقوله: «هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم»؟ وهل يمدح هذا العدو اللدود للإسلام إلا من يحمل عقيدته وسياسته وفكرته وينفذ أوامره؟ وهل يمجد الكافر إلا عميله المنافق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. لقد وصف بوش هذه الدول، دول الضرار، بالاعتدال فأي اعتدال هذا؟ إنه السير وفق نهجه وعكس أحكام الإسلام؛ إذ التطرف والأصولية والراديكالية حسب وصف بوش هي بالسير وفق أحكام الإسلام؟ وإذا لم يكن بوش وأشباهه هم أعداء الله والإسلام فمن هم هؤلاء إذن؟! ألم يذم بوش الراديكاليين والمتطرفين ويتخذهم أعداء عندما قال إنهم سينتصرون على أميركا من خلال زيادة مواردهم والتي ستمكنهم من اتساع رقعتهم حسب وصفه؟ فأين أنتم أيها المسلمون من هذا العداء الصريح؟.


إن هذا يذكرنا بتكذيب وتشويه وحرب كفار قريش لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عندما كانوا يقولون إن محمداً يزعم أنه يكلَّم من السماء. فلمَ لا يحوِّل الصفا والمروة ذهباً؟. وكذلك عندما كان يجادل أُبَيّ بن خلف بعدما جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا أَرَمَّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا وَيُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ». وكذلك الحال مع بوش، فهو يستهزئ ويشوِّه ويشنُّ حربه على الإسلام ويعمل على الصد عن الخلافة؛ لكن وعد الله وعد نافذ وأمره غالب... إن الله أنطق بوش بما أنطقه ليكون دافعاً لحمَلة الحق ودعاة الإسلام والخلافة لأن يجدُّوا من أجل السير من أجل تحقيق الغاية العظمى إرضاءً لله سبحانه وتعالى بإقامة الدين والخلافة الراشدة بعونه وحده.
إن «الإرهاب» الذي يقصده الغرب هو عينه الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لمن الطبيعي أن يحارب بهذه الشراسة والحقد لأنه المنافس الحضاري الجدي لحضارته المتهاوية، وهو بعد أن قضى على الشيوعية فلا يريد دولة خلافة جامعة للمسلمين مستقلة عنه بل دولاً تابعة ضعيفة يسهل السيطرة عليها في كل مواردها السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية ليحركها كيفما شاء ومتى شاء كما يفعل الآن حيث يسخرها لأهدافه في حربه على «الإرهاب» حسب التعريف المطاطي له، والذي لا يعد إرهاب الدول نحو المسلمين إرهاباً، بل دفاعاً عن النفس تجاه اعتداء الإرهابيين. ومن الجرائم الجسام العظام التي ارتكبتها الدول بحق الإسلام والمسلمين ولم تعدّ إرهاباً، بل اتهم الإسلام والمسلمون فيها بأنهم هم الإرهابيون نذكر:
1-قتلُ دكتاتور عصره الهالك ستالين لـ (11) مليون مسلم في روسيا وحدها.
2- احتلالُ يهود لفلسطين وارتكاب أبشع المجازر بحق أبنائها داخل فلسطين وخارجها من مثل مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها 3500 ضحية.
3- مذابحُ أهل البوسنة في يوغسلافيا كمذبحة مسجد فوجا (12) ألف شهيد. و6 آلاف مسلم في جسر فورا.
4-قتلُ المسلمين الإيغور في الصين منذ عام 1945م، وقتل العلماء وإتلاف المساجد وتعطيلها.
5-قتلُ المسلمين بالحبشة على يد الطاغية هيلاسيلاسي حتى أحرق الشيوخ والأطفال والنساء بالنار والبنزين في قرية جرسم. وقتل 1000مصلٍّ في رمضان بالرصاص من قبل اللعين منغستو مريام بمدينة رايرادار بإقليم أوجادين.
6- مذابح المسلمين في الفلبين وقتل وحرق وبقر البطون، والذبح بالخناجر وقطع الرؤوس وانتهاك الأعراض.
7-مذابح المسلمين في الهند في أحمد آباد في عام 1970م التي راح ضحيتها 15 ألف مسلم باعتراف إنديرا غاندي وحرق 300 مسلمة، ومذبحة آسام الشهيرة التي راح ضحيتها 50 ألف مسلم على يد ا لهندوس.
8- حرق المسلمين في تايلاند حيث أحرق 100 مسلم شاب.
9-مأساة قتل المسلمين في كشمير حيث تم تقريباً قتل 44000 مسلم، وجرح ،67000، واعتقال 40000 وهدم قرابة 129000 منزل ومسجد، واغتصاب آلاف النساء.
10-مأساة المسلمين في تايلاند وبورما وليبيريا وسريلينكا وكوسوفا والشيشان وإندونيسيا وأفريقيا الوسطى... حيث قتل مئات الآلاف وأحرق الآلاف و تم فصل الرؤوس عن الأجساد واغتصاب النساء...
11- مجازر عدو الله بشار في سوريا التي وصلت إلى أكثر من 250 ألف مسلم، والسكوت العالمي على هذه المجازر لأنها ترتكب بحق المسلمين. ألا يعد هذا كله إرهاباً وإجراماً؟!. نعم، إن الغرب الحاقد يغمض عينيه ويغفل عن هذا كله ولا يصفه إرهاباً، إنها مآسٍ تدمي القلوب وتفطر الأكباد. إلا أنه لا يكفي أن يتألم القلب وتدمع العيون ونملأ الدنيا عويلاً وصراخاً إن لم نحرك ساكن النفوس، ونجعل من كل ذلك ناراً تحرق كل باطل، ونوراً يعيننا على التغيير فتبرأ ذمتنا أمام الله، عسى أن يطفئ ذلك غضب الله علينا بعد أن قصرنا طوال هذه السنين.
إن أميركا وحدها قامت باعتقال رئيس دولة بنما وحاكمته وسجنته، وقاتلت في فيتنام (15) سنة وارتكبت هناك أبشع الجرائم، وقصفت ليبيا مرتين، وضربت أفغانستان واحتلتها، وضربت ملجأ العامرية الذي استشهد فيه أكثر من (300) فرد حينها معظمهم أطفال، وضربت هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية حيث قتل فيها 200 ألف شخص، وغزت كوبا في خليج الخنازير، وقتلت أكثر من مليوني عراقي، ألا يُعدُّ هذا كله إرهاباً في حق الإنسان الذي تدعي، زوراً وبهتاناً، المحافظة على حقوقه!
وهكذا نرى أن أميركا والغرب أصحاب غرض في حربهم على الإرهاب بحيث ينصب جله على الإسلام الحق وعلى أصحاب المشروع الإسلامي، ويتغاضى عن إرهاب الدول التي تسير وفق مفهومها للإرهاب. وإلا فلماذا اعتبرت أميركا تفجير مبنى مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوكلاهوما إرهاباً عندما حسبته من فعل المسلمين، ولكن عندما تبين لها أن وراءه منظمات أميركية غيرت رأيها وأصبح عملاً إجرامياً، وليس بإرهابي. وكذلك اعتبار أميركا لحركة ثوار نيكاراغوا حركة مقاومة، وكذلك جيش التحرير الأيرلندي، بينما تعتبر على النقيض من ذلك الحركات الجهادية الإسلامية حركات إرهابية... هذه هي الازدواجية في المعايير، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل دلالة واضحة على حربها الضروس على الإسلام، وعلى استخدام الإرهاب تارة وتعطيله تارة أخرى وفق مصالحها. أي إن «الإرهاب» هو الذي لا يتماشى مع مصالحها. والـ «لا إرهاب» هو الذي يسير وفق مصالحها. نعم هذه هي عدالة أميركا التي تقود العالم بمبدئها الرأسمالي الكافر الظالم!


بقلم: أ.ع  
المصدر: مجلة الوعي

الاثنين، 29 يوليو 2013

فبهداهم اقتده : رجل من أهل الجنة «عبدالله بن سلام»



بسم الله الرحمن الرحيم
كان الحُصينُ بنُ سَلامٍ حَبراً (رئيس الكهنة عند اليهود، والحبر: العالم المتبحر في العلم أيضاً) من أحبَارِ اليهودِ في يثربَ، وكان أَهلُ المدينَةِ على اختِلافِ مِللِهم ونِحلِهم (أديانهم) يُجلُّونَه ويعظِّمونه، فقد كان معروفاً بينَ النَّاسِ بالتُّقَى والصلاحِ وموصوفاً بالاستِقامَةِ والصِّدْقِ.

كان الحُصَينُ يحيا حياةً هادِئةً وادِعةً؛ ولكنَّها كانَت في الوقت نَفسه جادَّة نافِعة، فقد قسَّم وقتَه أقساماً ثلاثة: فَشَطرٌ في الكَنِيسِ (معبد اليهود) للوَعظِ والعبادَة، وشَطرٌ في بُستَانٍ له يَتَعهَّدُ نَخلَه بالتَّشذيبِ والتأْبير (تلقيح النخل وإصلاحه)، وشطرٌ مع التَّوراةِ (الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام) للتَّفَقُّهِ في الدين...
وكان الحصين كُلمَا قَرَأ التوراةَ وقَفَ طويلاً عِند الأخبَارِ التي تُبشرُ بظهورِ نبيٍّ في مَكَّة يُتَمِّمُ رِسالاتِ الأنبِياءِ السابقين ويَختِمُها، وكان يَستقَصي أوصافَ هذا النبيِّ المُرتَقبِ وعلاماتِه، ويَهتزُّ فَرحاً لأنهُ سَيهجُرُ بلَدَهُ الذي بُعثً فيه، وسَيتَّخذُ من يَثرِبَ مهَاجراً له (بفتح الجيم مكاناً لهجرته) ومُقاماً، وكان كُلمَا قَرأَ هذه الأَخبَارَ أو مَرّت بخاطِره يَتمَنّى على الله أن يَفسحَ له في عُمره حتى يَشهدَ ظهورَ هذا النبي المرتقب، ويسعَدَ بلقائه، ويكون أولَ المؤمنين به، وقد استَجابَ الله عزَّ وجلَّ دُعاء الحُصين بنِ سلامٍ، فأطال الله عمره حتى بُعِث نبيُّ الهدى والرحمةِ، وكُتبَ له أن يَحظى بِلقائِه وصُحبتِه، وأن يُؤمنَ بالحقِّ الذي أنزِلَ عليه...
فلنترُك للحُصينِ الكلامَ ليسوقَ لنا قصةَ إسلامِه فهو لها أروَى (أجود رواية)، وعلى حسن عَرضها أقدَر.
قال الحُصين بنُ سَلام: لَمَّا سمِعتُ بظهورِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخَذتُ أتحَرَى عن اسمِه ونسبهِ وصِفاتهِ وزماِنه ومكانِه وأطابِقُ بينها وبَينَ ما هو مَسطورٌ (مكتوب) عِندَنا في الكتب حتى استيقنتُ من نُبُوَّتهِ، وتثَبتُّ من صِدقِ دَعوتِه ثم كَتَمتُ ذلك عن اليهودِ، وعَقَلتُ (ربطت ومنعت) لِساني عن التكلُّم فيه، إلى أن كانَ اليَومُ الذي خَرجَ فيه الرسولُ عليه السلامُ من مكة قاصداً المدينةَ، فلما بَلغَ يثربَ ونَزَل بقُباءَ (قرية على بعد ميلين من المدينة) أقبَلَ رجُلٌ علينا وجَعلَ ينادِي في النَّاس مُعلِناً قدومَه، وكنتُ ساعتئذٍ في رأسِ نخلةٍ لي أعملُ فيها، وكانت عَمتِي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ جالِسةً تحتَ الشجَرَةِ، فما إن سَمعتُ الخَبرَ حتى هتَفتُ: الله أكبَرُ..... اللهُ أكبَرُ، فقالت لي عَمَّتي حينَ سَمِعتْ تَكبيري: خَيبكَ اللهُ، واللهِ لو كُنتَ سَمعتَ بموسَى بنِ عِمرانَ قادِماً ما فَعلتَ شيئاً فَوق ذلك، فقلت لها: أي عَمَّة، إنه واللهِ أخو موسى بنِ عمرانَ، وعلى دينه، وقد بُعثَ بما بُعِثَ به، فَسكَتَتْ وقالت: أهو النبيُّ الذي كنتم تُخبروننا أنه يُبعثُ مُصدِّقاً لمن قبله ومُتمماً لرسالات ربه؟! فقلت: نعم، قالت: فذلك إذن، ثم مَضيتُ من تَوِّي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فرأيتُ الناسَ يزدَحِمُون بِبابِه، فزاحَمْتُهُم حتى صِرتُ قريباُ منه؛ فكان أول ما سَمعتُه منه قوله: “أيها النَّاسُ أفشُوا السَّلامَ، وأطعموا الطعام، وصَلوا بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ، تَدخُلوا الجَنة بِسَلامٍ”، فجعلتُ أتَفَرَّسُ فيه، وأتَمَلى منه، فَأيقَنتُ أنَّ وَجههُ ليسَ بِوجهِ كذابٍ، ثم دَنَوتُ منه، وشَهدتُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فالتَفَتَ إليَّ وقال: «ما اسمُك؟».فقلت: الحُصينُ بنُ سلامٍ.فقال: «بل عبدُ الله بنُ سلام». فقلت: نعم، عبد الله بن سلام... والذي بَعَثكَ بالحَقِّ ما أحِبُّ أنَّ لي به اسماً آخر بعد اليومِ. ثم انصرَفتُ من عندِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ودعوتُ زَوجتي وأولادِي وأهلي إلى الإسلامِ، فأسلموا جميعاً وأسلمتْ معهم عمتي خالِدةُ، وكانت شيخَةً كبيرة،ثم إني قُلتُ لهم: اكتُموا إسلامي وإسلامكُم عن اليَهودِ حتى آذَنَ لكم !!فقالوا: نعم .ثم رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَلتَ له: يا رسول الله، إنَّ اليهودَ قومُ بُهتانٍ وباطِلٍ، وإني أحبُّ أن تَدعُو وجُوههم (سادتهم) إليكَ، وأن تستُرني عَنهُم في حُجرةٍ من حُجُراتك، ثم تسألهم من مَنزِلتِي عِندهم قبل أن يَعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، فإنهم إن عَلِموا أنَّنِي أسْلَمتُ عابوني، ورَمَوني بِكل ناقِصةٍ وبَهتُوني. فأدخلني رسول صلى الله عليه وسلم في بعض حُجُراتهِ، ثم دعاهم إليه وأخذَ يَحضُّهم على الإسلام، ويُحَبِّبُ إليهم الإيمانَ، ويُذَكرُهُم بِما عَرَفوه في كُتُبهم من أمرِهِ. فجعلوا يجادلونه بالباطل ويمارونه في الَحقِّ وأنا أسمَعُ، فلما يَئِسَ من إيمانِهم قال لهم: «ما مَنزلةُ الحصينِ بن سلامٍ فيكم؟» فقالوا: سيدُنا وابنُ سيدنا، وحَبرُنا وعالِمُنا وابنُ حبرِنا وعالمِنا.فقال: «أَفَرأيتُمْ إنْ أسلمَ أفَتُسلمون؟». قالوا: حاشا للَه، ما كان لِيُسلمَ... أعاذهُ اللهُ من أن يُسلمَ. فخرجتُ إليهم وقلت: يا معشرَ اليهودِ، اتَّقُوا الله واقبلُوا ما جاءَكم بهِ محمدٌ. فواللهِ إنكمْ لتعلمُون إنه لرسولُ الله، وتجدونه مكتوباً عندكمْ في التوراةِ باسمِهِ وصفتِهِ. وإني أشهَدُ أنَّه رسولُ الله وأؤمن به، وأصدِّقه، وأعرفُه، فقالوا: كذبت. والله إنَّك لشَرُّنا وابن شَرِّنا، وجاهِلنا وابنُ جاهِلنا، ولم يتركوا عَيباً إلا عابُوني به. فقلت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لك: إنَّ اليهودَ قومُ بُهتانٍ وباطلٍ، وإنهُم أهلُ غَدرٍ وفجورٍ؟؟
أَقبَلَ عبدُ الله بنُ سلامٍ على الإسلامِ إقبالَ الظامئ الذي شاقَه المَوردُ (لذَّ له المورد وطاب)، وأولِعَ بالقُرآنِ؛ فكان لسانُه لا يفتأ رطباً بآياتِه البينات، وتعلقَ بالنبيِّ صلواتُ الله وسلامُه عليه حتى غدا ألزمَ له من ظِلِّه، ونَذرَ نفسَه للعَملِ للجنَّةِ حتى بَشَّره بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بِشارةً ذاعَت بين الصَّحابةِ الكرامِ وشاعت، وكان لهذه البِشارة قِصةٌ رواها قَيسُ بنُ عُبادةَ وغيرُه.
قال الراوي: كنت جالساً في حلقةٍ من حَلقاتِ العِلمِ في مسجِدِ رسولِ الله في المدينة، وكان في الحَلقةِ شَيخٌ تَأنَسُ به النَّفسُ ويستروحُ به القلب، فجَعلَ يحدثُ الناسَ حديثاً حُلواً مؤثراً، فلما قامَ قال القوم: من سَرَّه أن ينظرَ إلى رَجُلٍ من أهلِ الجنةِ فلينظر إلى هذا .فقلت: من هذا؟ فقال: عبدُ الله بنُ سلامٍ، فقلتُ في نفسي: والله لأتَبَعنَّهُ ؛ فَتَبِعَهُ ؛ فانطلق حتى كاد أن يخرُج من المدينةِ، ثم دَخلَ منزلَه، فاستَأذَنتُ عليه ؛ فأذِنَ لي، فقال: ما حاجتُك يا بن أخي؟ فقلت: سمعتُ القومَ يقولون عَنكَ لما خرجتَ من المسجد: من سَرَّه أن ينظرَ إلى رَجُلٍ من أهلِ الجنةِ فلينظر إلى هذا .فمضَيتُ في إثرِكَ، لأقف على خبركَ، ولأعلَمَ كَيف عَرفَ الناسُ أنكَ من أهلِ الجنَّة. فقال: الله أعلمُ بأهل الجنَّة يا بُنيَّ .فقلت: نعم... ولكن لا بُد لما قالوه من سبب. فقال: هاتِ، وجَزاكَ الله خيراً. فقال: بينما أنا نائِمٌ ذات ليلةٍ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجُلٌ فقال لي: قم، فَقمتُ، فأخَذَ بيَدِي، فإذا أنا بطرِيقٍ عن شمالي فهمَمتُ أن أسلكَ فيها.
فقال لي: دَعها فإنَّها ليست لك. فنظرتُ، فإذا أنا بِطرقٍ واضحةٍ عن يميني، فقال لي: اسلُكها فسلكتُها حتى أتيتُ رَوضَةً غناءَ واسعةَ الأرجاءِ كثيرةَ الخضرةِ رائعة النُّضرة، وفي وسَطِهَا عمودٌ من حديدٍ أصلُه في الأرضِ ونهايَتُه في السماء، وفي أعلاهُ حلقةٌ من ذهبٍ. فقال لي: ارقَ عليه. فقلت: لا أستطيع. فجاءني وصِيفٌ (الخادم) فَرفَعنِي، فرقيت (فصعدت) حتى صِرتُ في أعْلَى العمودِ، وأخذتُ بالحلقةِ بيدي كلتيهما. وبقيتُ مُتعَلقاً بها حتى أصَبحتُ.
فلما كانت الغداةُ أتَيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَصَصتُ عليه رؤيايَ فقال: « أما الطريقُ التي رأيتَها عن شِمالكَ فهي طريقُ أصحَابِ الشِّمالِ من أهل النارِ. وأما الطريقُ التي رأيتها عن يمينك فهي طريقُ أصحابِ اليمينِ من أهْل الجنَّة. وأما الروضةُ التي شاقَتْكَ بخُضرتِها ونُضرتِها فهي الإسلام. وأما العمودُ الذي في وسَطِها فَهو عمودُ الدين. وأما الحَلقةُ فهي العُروةُ الوُثقى، ولن تَزَالَ مُستَمسِكاً بها حتى تموت»

جلنار زوجة قطز


بسم الله الرحمن الرحيم 


جلنار زوجة قطز

لا تقل واحبيبتاه.. ولكن قل: وا إسلاماه.. فصة العظيمة جلنار...زوجة العظيم السلطان محمود قطز 
..............
تحدثنا عن السلطان المسلم محمود المشهور بلقب قطز -بطل المعركة الحاسمة- عين جالوت التي انقذت امة الاسلام من خطر الابادة على يد التتار اشرس من عرفت تلك العصور مرارا.. ...وقلنا مرارا ان انه ليس صحيحا قول بعض المهزومين- او غير الواعين- فكريا، بان من المستحيل ظهور امثال عمر ين الخطاب من جديد...فالصواب هو ان عمر بن الخطاب ، ليس سوى ثمرة من ثمار شجرة الاسلام، التي تؤتي اكلها كل حين باذن ربها!!!!!ا
فمن اراد ان يصنع ابن خطاب اويكون كابن الخطاب فعليه الالتزام بفكرالاسلام كما التزم به العظيم عمر بن الخطاب،فعمر وخالد وابو عبيدة، والاف غيرهم لم يكونوا شيئا قبل الاسلام ، وعندما التزموا بالاسلام صاروا من اعظم العظماء، فالاسلام الذي صنع ابن الخطاب،هو نفسه من صنع العظماء من بعده كصلاح الدين ويوسف بن تاشفين، وكما صنع محمود بن سبكستين والسلطان محمود قطز ....وسيصنع من جديد آخرين.
وما قلناه عن شجرة الاسلام واثمارها لعظماء الرجال في كل حين، نقوله ايضا عن النساء، فسمية ام عمار ونسيبة ام عمارة والخنساء وكل العظيمات من الصحابيات هن ثمرات لشجرة الاسلام ، ولولا ايمانهن بعقيدة الاسلام والتزامهن بفكر الاسلام، لما كنّ اكثر من اعرابيات كملايين الاعرابيات اللواتي دخلن من باب الحياة ،وخرجن من الباب الاخر دون ان يشعر بهن احد، او يتركن اي بصمة من البصمات على صفحات التاريخ!!!!ا
ومن عظيمات النساء اللواتي صنعهن الاسلام-اي اثمرتهن شجرةالاسلام- بعد مئات السنين من زمن الصحابيات : العظيمة المشهورة بلقب جلنار-حب الرمان- زوجة السلطان قطز!!ا
وجلنار -واسمها الحقيقي جهاد- هي ابنة جلال الدين بن خوارزم شاه، وزوجة بطل معركة عين جالوت سيف الدين قطز وابنة عمه..

وقد عاشت جلنار حياةً عصيبة مليئةً بالأخطار والمواقف الحرجة، وتجاوزت كل مراحلها بصبر وعزة وثبات وإباء، لتواصل حتى النهاية الخالدة المؤثرة التي تركت بصمتها على صفحات التاريخ... ليحدثنا عنها باعظم فخار.
فقد فتحت جلنارعيناها على الحياة ،وحال الامة مزري كحالها هذه الايام او اسوا،فقد كان العالم الاسلامي انذاك يتعرض لحملات ابادة من قبل الصليبين والتتار ، وتحكمه طغمة حكام طغاة انذال اشبه ما يكونون بحكام بلاد الاسلام هذه الايام فهم اساد على الامة فئران امام الاعداء وعبيد لهم ومطايا وعملاء.

 وقد ترعرعت جلنار في جو الحرب والقتال، وعانت التشرد والأسفار هرباً من المغول، وطلباً للنجاة من اجرامهم الذي لم يكن يوفر امراة او طفلا او شيا كبيرا بل ان كالجراد او كالنار يلتهم كل ما يصادقه او يقف في طريقه.
وكان من اسوا ما تعرضت له انها تحولت من ابنة ملوك الى مجرد رقيقة اي جارية، حيث بيعت في سوق الرقيق كالمتاع مع أنها ابنة ملك كبير كُتبت عليه الهزيمة أمام التتار ليعاني هو وعائلته أشد المعاناة ..
وقد فرقت الأيام بينها وبين ابن عمها حيث عاش كل منهما في بيت أحد التجار أعواماً طويلة..ثم شاء الله تعالى أن يلتقيا في قصر الصالح نجم الدين أيوب عند زوجته شجرة الدر.

وفي قصر شجرة الدر عانت جلنار من العيش قي اجواءالفتن والمؤامرات ، لكن كل هذا لم يزدها الا صبرا وايمانا بقضاء الله وقدره،وأن الله لا بد ان يجعل لها من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا .
وسارت الايام وشاء الله ان تلتقي بابن عمها في ذلك القصر، ويهيئ الله تعالى لهما الزواج، ثم يهيئ لمحمود (قطز) مُلك مصر ومحاربة التتار..

وحصلت موقعة عين جالوت الشهيرة الحاسمة ، واوشك النصر ان يكون لامة الاسلام على امة الوحوش، وعندها حاولت مجموعة من التتار اغتيال قطز لعلهم يغرون من نتيجة المعركة في الوقت الضائع او في اخر اللحظات كما في مباريات كرة القدم .لكن البطل قطز نجح في قتل ثلاثة من مهاجميه ،وكاد فارس تتري رابع ان ينجح في طعن قطز من الخلف، فاذا به يفاجأ بفارس ملثم يضربه بالسيف فيرديه صريعاً، بعد أن تلقى منه ضربة قاتلة.. وما كان ذلك الفارس الملثم إلا جلنار زوجة القائد العظيم قطز.. جاءت إلى المعركة لتفديه بنفسها وتنقذه من القتل ليظل قائداً للمسلمين يقودهم نحو النصر النهائي على التتار الذين ارتكبوا بحق المسلمين من الفظائع ما لا يحيط به الوصف .

ومن شدة تاثره على زوجته الحبيبة انكب القائد على زوجته وهي تجود بروحها في سبيل الله صارخا : واحبيبتاه.. فتقول له: مه.. لا تقل واحبيبتاه.. ولكن قل: وا إسلاماه.. 
الله أكبر ..والله كلا قرات هذه العبارة الخالدة اقشعر لها بدني !!!ا

ما اعظمها من كلمة ينهي بها المرء حياته ..اي وهو في آخر رمق .. نعم .. وا إسلاماه .. فمن أجل نشره وإعلاء رايته نقاتل.. لا من أجل دنيا أو امرأة أو متاع زائل.. قل: وا إسلاماه .. وارفع بها صوتك عالياً ..
ونهض قطز-بعد سماع الامر- وجعل يصرخ في المسلمين.. وا إسلاماه.. صرخة مدوية زلزلت المكان، وجعلت المسلمين يهتزون ويشعرون بالقوة والعزة فينهضون لقتال أعدائهم بهمة ونشاط..
وينهزم التتار شر هزيمة، ويتبع المسلمون فلولهم حتى تتم إبادتهم والقضاء على شرورهم وأخطارهم إلى الأبد..
وتظل ذكرى جلنار عالقة في الأذهان، في صفحة تاريخية ناصعة مشرقة... تُبرز عظمة الفداء والوفاء، وتُظهر أروع صور التضحية النسائية المجيدة في تاريخ أمتنا الحافل بالصور العظيمة المشرقة ..
هكذا فلتكن النساء.. صبر على المعاناة، ورضا بالقضاء والقدر، واستعلاء على الألم، وتضحية في سبيل الله، ورعاية لحقوق الزوج الصالح، وافتداؤه بالنفس والروح..

صورةٌ نضعها بين يدي اخواتنا وبناتنا لعل البعض ممن فيهن الخير يجعلن من جلنار المثل الاعلى وليس من ليس والهام وشاهين وما شابه .. فبامثال ام عمارة وسمية ام عمار والخنساء وصلت الامة عنان السماء وبامثال لميس واردوغان الخسيس، انحطت الامة لى الدرك الاسفل !!!فهل من ذات عقل دين تؤثر فيها قصة جلنار ..فلعل وعسى ان يكتب لامتنا 
النهوض من جديد ...واستعادة الكرامة و العزة لامة الاسلام بعد ان افتقدناها منذ امد بعيد ؟؟؟!!

المصدر: مدونة قانتات

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

أثر الروح عند المسلمين وأثر فقدانها في الحضارات الأخرى


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله الذي أنزل إلينا هذه الحضارة صافية نقية من فوق سبع سماوات فتعرضت لجميع مناحي الحياة فعالجتها، وإلى الإنسان وحاجاته فأشبعتها. الحمد لله الذي عرفنا إلى نفسه من خلال عقيدة عقلية. حكم العقل بصحتها، فبعد أن تتالت النصوص النقلية لتحديد علاقة الخــالق بالمخــلوق، وذلك أن الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوق لخالق واجب الوجود، واستطاع العقل أن يقف على هذه الحقيقة ويقرها، فكانت الناحية الروحية عند المسلمين جلية واضحة في أبهى صورها، وهي حقيقة راسخة لا ريب فيها، وهي أن الكون وما عليه من إنسان وحياة مخلوق لخالق. فكانت هذه الصلة بين الإنسان وخالقه هي الناحية الروحية عند المسلمين، وكانت هي الأساس الراسخ لإدراك الصلة بالله أنها صلة عبد بمعبود، فكان إيماناً نابعاً عن إدراك، لا إيماناً شعورياً في مهب الريح. 


فإدراك هذه الصلة، أي إدراك كون الأشياء مخلوقة لخالق هو الروح. وأن هذه الروح ليست من الإنسان و لا جزءاً من تركيبه، وإنما من الإدراك نفسه، ومن خلال هذا الإدراك يتقيد المؤمن بكل ما جاء به الوحي من عند الله من أفكار وأحكام طائعاً لله عز وجل وحده لأنه أدرك أنه عبد له وحده. فوجود هذه الروح عند المؤمن يشكل الضابط الأساسي في تقيده بالأحكام الشرعية بشكل ثابت و مستمر، فتجعل سلوكه الدؤوب في إشباع جوعاته سلوكاً منضبطاً بالوازع الداخلي، ومنطلقاً من إيمانه بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1] وذلك رغبةً في نيل رضوان الله ودخول جنته وهروباً من عذابه.

فما أعظم هذه الروح عند المؤمنين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن التابعين وغيرهم ممن تربوا في ظل خلافة تنمي عندهم هذه الروح وتحرسها من الضعف والضياع! فقد كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيات عظيمة متميزة وبناء مجتمعات راقية يشار لها بالبنان.

وقد أثبت التاريخ الإسلامي على مر العصور أثر هذه الروح في بناء الشخصية الإسلامية المتميزة ذات اللون الواحد والطابع المحدد، وذلك من خلال التزامهم بأوامر الله التزاماً ثابتاً مبنياً على إدراك الصلة بالله عزّ وجل طمعاً بنيل رضوانه سبحانه لا لتحقيق مصلحة دنيوية أو منفعة زائلة، وإنما طاعة لله دون الالتفات إن كان في ذلك ضرر أو نفع، فكان الخير ما أرضى الله والشر ما أسخطه. 

فقد التزم المسلمون بأوامر الله جميعها ولو خالفت أهواءهم، وأقلعوا عن عادات أحبوها وأسرت قلوبهم طوال جاهليتهم؛ فلم يكن ذلك إلا بفضل هذه الروح، فلم يكن الامتناع عن شرب الخمرة مثلاً إلا طاعة لله واستجابة لأوامره، فلم يكن ذلك لمذاق سيئ أو لغلاء سعر أو غيره، وكانت هذه الطاعة مبنية على إدراك الصلة بالله عز وجل، فما أن حرم شربها حتى جرت الخمرة في شوارع المدينة، هكذا كان التزام المسلمين بأوامر الله، وخاصة في زمن الصحابة الكرام وزمن من جاء بعدهم من التابعين، وهكذا يجب أن يكون (إن شاء الله تعالى) التزام الأمة في ظل الخلافة الراشدة القادمة، فتجعل أبناءها متصلين متواصلين مع ربهم، وتكون هذه الروح سبباً أساسياً في بناء شخصياتهم، وقوية حاضرة في كل لحظة من حياتهم، فيتمثل فيهم قوله عز وجل: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام 162].
إن غياب هذه الروح و ضعف الإدراك للصلة بالله عز وجل ولو لفترات بسيطة، تضعف المسلم في تقيده بأوامر الله وتجعله عرضة لحبائل الشيطان وعرضة للزلل؛ لأن هذه الروح ليست جزءاً من تركيب الإنسان أو المسلم وإنما هي طارئة عليه آتية من الإدراك ذاته، ولكن المؤمن الحق سرعان ما يفيء إلى أمر ربه فيجدد هذا الإدراك ويستحضر هذه الروح من جديد، فيرجع إلى إيمانه وتقواه، فها هي الغامدية في لحظة غياب هذه الروح وضعف هذا الإدراك فعلت ما فعلت من معصية، و لكنها عند تفعيل هذا الإدراك، أي تجديد هذه الروح أصرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطهرها بإقامة حد الرجم عليها، خوفاً من عذاب الله، وقد أصرت على ذلك طيلة ثلاث سنوات، ولم يستطع الشيطان أن يردها عن ذلك، فما أعظم هذه الروح! وما أعظم هذه التقوى! عندما تكون مبنية على إدراك الصلة بالله (عز وجل)، أي مسيرة بهذه الروح!

ولا يغيب عن أذهاننا أثر هذه الروح على ترابط وتراحم المجتمع المسلم، و ذلك من خلال تقيد أبناء هذا المجتمع بالتراحم و التكافل والإيثار وغيره تقيداً دائمياً غير منقطع، ذا وتيرة واحدة طاعة لله وطمعاً بالأجر والثواب من عنده، وذلك أثراً لوجود هذه الروح، فيتسابقون على كفالة اليتيم طمعاً بالأجر والثواب من الله عز وجل لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» (رواه أحمد وأبو داود) وأشار بالسبابة والوسطى، كما ويؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذلك كما آثر الجرحى في جيش المسلمين كلٌ أخاه على نفسه في شرب الماء، رغم عطشهم حتى استشهدوا جميعاً دون أن يشرب أحد منهم . فكان ذلك أيضاً بفضل وجود هذه الروح العظيمة عندهم، كما أن حرص المسلمين على أن لا يبات جار أو قريب جوعان لأثر لهذه الروح تقيداً منهم بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد)، وإن وجود هذه الروح يجعل المسلمين في جد واجتهاد وطاعة وانضباط وإخلاص، في كل مجال من مجالات حياتهم ومن ضمنها طاعة الحاكم الذي يحكم بالإسلام حيث طاعته من طاعة الله، فيثمر ذلك في تقدم وازدهار وتطور الدولة والمجتمع؛ ليكون مجتمعاً ربانياً متميزاً يتمثل فيه وصف الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم)؟ فكيف ينطبق هذا الوصف على واقعه إن لم تكن هذه الروح موجودة وحاضرة عند أبناء المجتمع المسلم حيث يتقيدون بأحكام الله سراً وعلانية، رغبة في ما عند الله ورجاء رضوانه؟ فكان عزوف المسلمين عن الغيبة والنميمة هو عزوف متصل بهذه الروح، استجابة لأمر الله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات 12]، وكان انصراف المسلمون عن النميمة لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ»، وكان الالتزام بصلة الرحم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يدخل الجنة قاطع رحم»، وانتهوا أيضاً عن قذف المحصنات الغافلات خوفاً من الله تعالى لقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور 23]، فكل ذلك وغيره كان بفعل هذه الروح التي تجعلهم متصلين مع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، ولهذا كانت العلاقات التي تربط أفراد المجتمع المسلم علاقات متينة مبنية على أساس واحد وهو خشية الله عز وجل، فكان مجتمعاً راقياً مصطلحاً مع نفسه، صادقاً مع ربه، يحكمه الوازع الداخلي، ويقوم على تقوى الله عز وجل النابعة بشكل مستمر من وجود هذه الروح أي هذا الإدراك القوي المتين. 

لقد كان السواد الأعظم من هذه الأمة يتمتعون بهذه الروح، وعلى هذه الدرجة من التقوى، فقصة بنت بائعة اللبن لأعظم دليل على ذلك، فما أعظم هذه الروح عند هذه المؤمنة البسيطة، فهي من عامة الأمة، ولعلها فقيرة أو يتيمة لكنها كانت بهذه التقوى النابعة من الإدراك المتواصل بخالقها. 

أليس هذا طبيعياً لمن تربى على مائدة الخلافة الراشدة! خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فشاء الله أن يَسمعها سيدنا عمر، عندما قالت مقولتها، فشاع صيتها ووصلنا خبرها، ولكن هناك الكثير الكثير من أبناء ذلك المجتمع الذين هم بنفس الروح والإدراك، ولكن لم يسمعهم ابن الخطاب أو غيره، فلم يصلنا خبرهم، ولكن المقطوع به أن السواد الأعظم من أبناء تلك الأمة كان لديهم نفس الروح، وسيعود ذلك إن شاء الله في ظل الخلافة الإسلامية الراشدة التي تقوي هذه الروح وتحرسها، وتربي أجيالاً على مائدة التقوى، فيظهر عندها رجال أمثال الخلفاء الراشدين وغيرهم، ويكون أفراد المجتمع بسواده الأعظم كبنت بائعة اللبن، مجتمعاً متميزاً يعيش لله ويموت لله.

وقد فرضت الشريعة الإسلامية الكثير من التشريعات بهذا الخصوص، فالتزم بها المسلمون بشكل ثابت بفضل وجود هذه الروح، فكان مجتمعاً متميزاً بعلاقاته وأفراده وحكامه، حيث كان تمثل هذه الروح عند ولاة الأمر كالخلفاء الراشدين واضحاً متميزاً، فلم يكن هناك فرق بين حاكم ومحكوم أمام شرع الله، فهذا سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يرى الفاحشة بأم عينه فيثور ويغضب لله ولكنه لا يستطيع البوح باسم الفاعل أو عقابه لغياب شهوده الأربع، فكان ذلك التقيد بالحكم الشرعي من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أثراً لوجود هذه الروح، فلم يتجاوز أوامر الله رغم كونه رأس الهرم، كما تجلت هذه الروح العظيمة عند الصحابة بمن فيهم سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهم يشكلون الوسط السياسي آنذاك، فلم يكونوا أقل التزاماً بأوامر الله من أمير المؤمنين حيث قال له سيدنا علي (رضي الله عنه): «والله لو كشفت الفاعل دون شهود لأقمنا عليك حد القذف يا أمير المؤمنين»، علماً أن الصحابة وعلي بن أبي طالب يعرفون قدر عمر بن الخطاب ويصدقونه، فهو الإمام التقي العادل الورع، ولكن وجود هذه الروح كان سبباً في تقيدهم جميعاً وحرصهم على أوامر الله عز وجل.

فما أروع هذا التقيد بأحكام الله كأثر كبير لوجود هذه الروح عند الحاكم والمحكوم في مجتمع متجانس يُحكم بنفس النظام الذي يؤمن به! فكان هذا التقيد بأحكام الله حامياً للمجتمع من كل سوء، وموفراً للأمة الأمن والأمان بشكل دائم، وما كان ذلك إلا أثراً وثمرة لوجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وبهذه الروح تتحقق جميع القيم بالمجتمع الإسلامي بشكل متوازن، فتتحقق القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية وكذلك القيمة المادية.
و تتجلى هذه الروح عند المسلمين حتى في حملهم لدعوة الإسلام، فعندما خرجوا من الجزيرة العربية فاتحين البلاد وحاملين عقيدة الإسلام كانوا مسلحين بهذه الروح متقيدين بأحكام الله، فلم يخرجوا لاستعمار البلاد والعباد أو لنهب خيرات الأمم، وإنما خرجوا حاملين لواء الهداية طاعة لله وأملاً بنيل الشهادة أو النصر. فهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح (رضي الله عنه) يرجع الجزية لأهل حمص وهم نصارى، وذلك عندما اضطر للانسحاب من المدينة تطبيقاً لأحكام الله وبفضل هذه الروح، وقد اعتنق أهل إندونيسيا الإسلام بفضل أخلاق التجار المسلمين، الذين كانوا يرتادون بلادهم، وذلك بسبب تطبيقهم لأحكام الله في تجارتهم بفضل وجود هذه الروح لديهم، فكانت هذه الأخلاق ناتجة من ربط كل سلوك لديهم بعقيدتهم فكان هذا الربط هو الإدراك ذاته والروح عينها.

كما كان وجود هذه الروح عند أبناء الأمة الإسلامية في ظل دولة الإسلام سبباً في بروز العديد من العلماء المسلمين في شتى أنواع العلوم. شرعية كانت أو دنيوية، فلم تكن جهودهم إلا تقرباً من الله عز و جل لا تقرباً من أمراء أو حكام طمعاً بمال أو جاه، بل كان معظمهم يحرص على بعده من الأمراء والمناصب الهامة بالدولة حتى لا يشوب عمله وجهده أي شائبة من عرض الدنيا، بل يريدونها خالصة لوجه الله؛ وذلك لإدراكهم الصلة المستمرة بالله عز وجل. فقد رُوي عن أحد علماء الأمة أن والدته كانت تؤكله بيدها أثناء عمله الدؤوب حرصاً منه على عدم ضياع الوقت، فلو كان عمله من أجل دنيا يصيبها لما كان ذلك الحرص، ولكنهم كانوا لا يرجون في أعمالهم وعلمهم إلا وجه الله، فدل ذلك دون أدنى شك على إدراكهم العظيم الصلة بالله عز وجل، فلم تكن هذه النهضة العلمية في العصور الإسلامية السابقة إلا ثمرة لقوة هذه الروح لدى أبناء الأمة، حيث خاضوا شتى الميادين رابطين علمهم وعملهم بعقيدتهم تقرباً إلى الله، فبرعوا وأنجزوا، و سيعود ذلك قريباً بإذن الله في ظل خلافة راشدة ترعى شؤون الأمة بأوامر الله، وتهيئ كل الظروف للأجيال القادمة التي تنشأ وتتربى على مائدة الولاء والطاعة لله وحده، ويكون إدراكهم للصلة بالله عز وجل، قوياً متواصلاً، فيرهنون حياتهم للإسلام والمسلمين طاعة لله عز وجل، فيعيدون أمجاد أسلافهم في شتى الميادين، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.

كما ساهم وجود هذه الروح لدى المسلمين من حيث التزامهم بأوامر الله عز وجل مساهمة كبيرة في نمو الاقتصاد في الدولة الإسلامية، فشكل ذلك جانباً روحياً فريداً من نوعه في الاقتصاد الإسلامي حيث تفتقر إلى ذلك كافة الأنظمة الاقتصادية في العالم على مر التاريخ، فقد كان لتحريم كنز المال وتقيد المسلمين بذلك دون رقيب سوى الله عز وجل الأثر الكبير في اقتصاد الدولة الإسلامية، حيث كانت أموال الأمة في استثمار مستمر؛ فساعد ذلك كثيراً في عدم ظهور البطالة لتوفر فرص العمل في الدولة، كما حد ذلك من الحاجة والعوز، فما كان ذلك الالتزام إلا طاعة لله عز وجل وخوفاً من معصيته كأثر واضح لقوة هذه الروح لديهم. كما كان لالتزام المسلمين بالعبادات المالية الواجبة منها والمندوبة، سراً وعلانية، طاعة لله وتقرباً منه، أثر عظيم لتواصل إدراكهم لصلتهم بالله عز وجل، فتنافس المسلمون في ذلك للحصول على الأجر والثواب أضعافاً مضاعفة، إيماناً بقوله عز وجل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 261]، ولم يكن هذا إلا للتقيد بشرع الله ولم يكن هذا الإنفاق نفاقاً أو رغبة في سمعة أو جاه، ولكن كان أكيداً بفضل هذه الروح، فتمثل قوله عز وجل في نفوسهم وسلوكهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [البقرة 264]، ألم ينفق سيدنا عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) قافلة ضخمة طاعة لله وتقرباً من الله عز وجل ورغبة بدخول الجنة رغم أنه من المبشرين بالجنة، فلم تكن هذه البشرى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدعاة للتقاعس، فمن أدرك هذه الصلة بالله عز وجل ووجدت عنده هذه الروح لا يسعه إلا أن يبذل الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاة الله، فلم يكن هذا الصحابي الجليل ليطمع في سمعة أو جاه، و إنما كانت تجارة مع الله، وما أجملها، وما أسماها من روح! فكيف يكون هناك فقر أو عوز وأبناء هذه الأمة يتحلون بهذه الروح العظيمة وهذا الإيمان الراسخ! يتقون الله ولو بشق تمرة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (البخاري ومسلم)، حتى أصبح الإنفاق في سبيل الله عند أبناء هذه الأمة سجية لا حدود لها.

وهذا سيدنا عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة على نفقته الخاصة، ويشتري بئر رومة من يهود المدينة المنورة بعشرين ألف درهم، و يسبلها ليشرب المسلمون منها بلا مقابل طلباً للأجر والثواب من الله عز وجل، ورغبة في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. فما كان ذلك ليكون لولا هذه الروح. ويضع سيدنا أبو بكر الصديق ماله كله في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبإيمان راسخ مبني على إدراك وثقة بالله عز وجل يقول رداً على سؤال الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَاذَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فيقول أبقيت لهم اللهَ ورسولَه، فلم يكن وجود هذه الروح لديهم لتجعلهم يخشون فقراً أو فاقة إيماناً بقوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 268] فكانوا بفضل هذه الروح كالريح المرسلة، هكذا كان وسيكون أبناء هذه الأمة بسبب هذا الإدراك، أي بسبب هذه الروح العظيمة.

إن هذه الأمة غنية ليس فقط لوفرة مواردها الطبيعية، وإنما أيضاً بتوفر هذه النفسيات العظيمة الملتزمة بشرع الله، كثمرة لوجود هذه الروح التي تجعل تقيدهم بشرع الله تقيداً ثابتاً دون حاجة لأي رقابة بشرية، وإنما بالوازع الداخلي المتمثل برقابة الله؛ فكان ذلك المحرك والمسير لهذا الالتزام.

ولا شك أن الشريعة الإسلامية زاخرة بالتشريعات التي يشكل التزام المسلمين بها إيماناً واحتساباً هذا الجانب الروحي في اقتصاد المسلمين، فنبذ المسلمون على سبيل المثال التعامل بالربا خوفاً من غضب الله وسخطه وتعاملوا بالقرض الحسن، وابتعدوا عن الاحتكار وغيرها من التشريعات، كما شكل هذا الالتزام بهذه التشريعات مع وجود هذه الروح الجانب الروحي في كل مجالات حياتهم. 

نعم؛ إن التشريعات الإسلامية تشريعات سماوية من لدن عليم خبير، ولكن لو طبقت هذه التشريعات نفاقاً دون وجود هذه الروح لما أثمرت في الفرد ولا في المجتمع، لأنه لن يربط عندها السلوك بالعقيدة. وكذلك لو طبقت هذه التشريعات في أنظمة أخرى منفصلة عن عقيدتها لما أثمرت ولما تشكل هذا الجانب الروحي لغياب الروح عند تطبيقها. ولذلك فإن العبرة ليست في نوع التشريع فحسب، وإنما أيضاً بوجود الروح عند الالتزام بها حيث يكون هذا الالتزام طاعة لأوامر الله، ورغبة بنوال رضوانه لا نفاقاً أو جرياً وراء منفعة، وعندها يكون لهذا الالتزام ثمرة في جميع مناحي الحياة بفضل هذه الروح.

إنه لشرف عظيم لأبناء هذه الأمة المخلصين أن يهبوا لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام استجابة لأوامر الله، فتعيد الأمة الإسلامية لسابق عهدها لتنهض بها وتكون قدوة لباقي الأمم، فتخلصهم من الكفر والضلال، لاسيما وأن بني الإنسان يعيشون في هذا الزمان في ظل فكرة فاسدة ألقت بظلال فسادها على البشرية كلها، فطال ذلك كل شيء في حياتها حتى الحجر والشجر، فلم تُبقِ ولم تذرْ، إنها الرأسمالية الكافرة الفاجرة، التي أفسدت حياة البشر، وأفسدت فطرة الإنسان وانحرفت بها عن جادة الصواب، حيث تحمل فسادها في ثنايا عقيدتها ونظامها ومقياس أعمالها، فكان من فساد عقيدتها بأنها لم تحدد علاقة الإنسان بخالقه، ولم تقف من هذه المسألة موقفاً جاداً لتقرر أن لهذا الإنسان خالقاً واجب الوجود، بل كان موقفاً هامشياً. فكانت الناحية الروحية عندهم، أي كون الإنسان وما حوله في هذا الوجود مخلوقاً لخالق، قضية فردية يعتقدها من يشاء وينكرها من يشاء، فبقيت الناحية الروحية قائمة على إحساس غريزي وليس على أساس فكري قائم على إدراك العقل لها والتدليل عليها والوقوف على حقيقتها، فكان التقديس عند أفرادهم ناتجاً عن إحساس غريزي بحت، فلا يوجد للعقل أي وجود، بل يستبعد العقل والإدراك، فكان هذا التقديس ليس إيماناً ولا ناتجاً عن إيمان، وإنما هو ضلال وكفر، وهو ليس عبادة لله، و إن توجه فيه صاحبه لله أو لفكرة الألوهية.

وبهذا يكون هذا النظام قد فقد إدراك الصلة بالله، أي فقد أفراده الروح في أعمالهم، لاسيما وأنهم استبعدوا حق الله في التشريع، وسيَّروا حياتهم حسب تشريع البشر؛ فكان العقل هو المشرع الوحيد عندهم، فلم يعد هناك أي روح في أفعالهم، ولم يعد هناك أي اعتبار لمرضاة الله، وانطلقوا في إشباع جوعاتهم من إملاءات غرائزهم دون أي وازع داخلي، فلم يعد هناك روح لربط سلوكياتهم بها حتى يكون لها أثر في بناء أفرادهم ومجتمعاتهم، بل أصبحت أعمالهم تربط بالمصالح والمنافع التي تحقق لهم إشباع جوعاتهم كيفما شاءوا، فأصبحت المنفعة مقياس أعمالهم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية هي السعادة بأعينهم، فأصبحوا كالأنعام يعيشون لشهواتهم بلا قيود، فسيطرت على مجتمعاتهم القيمة المادية وما نتج عنها من أنانية وجشع، فانعكس ذلك كله على نفسياتهم الخالية من الروحانية؛ فأحسوا بالشقاء وعدم الطمأنينة؛ فكثرت عندهم حالات اليأس والانتحار والأمراض النفسية، وضعفت عندهم مظاهر الأبوة والأمومة، فلم يعد تكوين الأسرة أمراً هاماً في حياتهم، وإن وجدت فهي أسر متفككة، كما انعكس ذلك أيضاً على المجتمع و أفراده، حيث أصبحت مجتمعاتهم متفككة لا ترابط بين أفرادها، و لا يلمس بها أي تراحم أو تكافل، فتلاشت منها القيمة الروحية والإنسانية حتى إن القيمة الخلقية أصبحت تحكمها المنفعة والمصلحة. ونتيجة لغياب هذه الروح وإشباعهم لغرائزهم البهيمية دون أية ضوابط انتشرت في مجتمعاتهم العلاقات غير الشرعية، فاختلطت الأنساب وامتلأت ملاجئهم باللقطاء، وتفشت بينهم الأمراض المعضلة، فكان ذلك عبئاً كبيراً على الدولة واقتصادها.

كما أن جشع هذه الدول واضح للعيان، ودليل على غياب الروح في علاقاتهم مع الأمم الأخرى، فهي قائمة على الاستعمار والاستغلال ونهب الثروات لتوفر لشعوبها رغد العيش على حساب الآخرين دون أي رادع. فأين هذا من الروح التي تمثلت في المسلمين عند فتوحهم للبلاد الأخرى، حيث لم يكن ذلك طمعاً بسيادة أو نهباً لثروة وإنما طاعة لله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور؟!

هذا هو حال الأنظمة الرأسمالية ومجتمعاتهما، ولا يسمح المقام للإسهاب في وصف شقائهم. ويكفي ما قال رب العزة عنهم وعن أمثالهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه 124]، فبئست العقيدة تلك، التي جرت الشقاء والويلات لمجتمعاتهم ومجتمعات الأرض كافة.

ولكن المحزن المؤسف أن نرى هذا الداء قد انتقلت عدواه إلى مجتمعاتنا؛ فغابت هذه الروح عند أبناء هذه الأمة وهم لا يزالون يعتقدون العقيدة الإسلامية، فضعف أو حتى انعدم إدراك الصلة بالله عز وجل، في معاملاتهم اليومية وفي مواقفهم تجاه قضاياهم، فلم تعد هذه الروح سمة واضحة في سلوكهم وتصرفاتهم، ولم يعد لها دور في العلاقات الاجتماعية. فقد نرى كثيراً من أبناء هذه الأمة يطبقون بعض الأحكام الشرعية دون ربط مع هذه الروح، أي دون إدراك الصلة بالله، وإنما عادة اعتادوها أو جرياً وراء مصلحة أو منفعة أو لاعتبارات أخرى، وقد غاب عن أذهانهم أن الأصل في التقيد والالتزام أن يكون طاعة لله أولاً وأخيراً، ورغبة في نوال رضوانه. ألا يعلم المسلمون أنه لا بد من التقيد بأحكام الله كأحكام شرعية منبثقة عن عقيدتهم! وأن يكون هذا التقيد طاعة لله دون أي اعتبار آخر، لقد غاب عنهم للأسف هذا الربط بالأساس الذي يأمر به الإسلام والذي بني كل من الفرد والأمة عليه. فمن لهذه الأمة سوى حملة دعوة تحمل ثقافة راقية خالصة من كل شائبة، وتنشر عقيدة عقلية وتدرك الصلة بالله، وتسير بفكر مستنير؟!

ولهذا، لا بد من وجود هذه الروح في حلنا وترحالنا، ليلنا و نهارنا، سرنا وعلانيتنا، ألسنا الأجدر والأولى أن تتمثل فينا هذه الروح وهذا الإدراك بعد كل هذه الثقافة الإسلامية النقية؟ فمن كان مسلماً فعليه أن يكون حامل دعوة بطبيعته مدركاً للصلة بالله عز وجل، فهذه أمور متلازمة وبها تقوم حجته على غيره. فلا بد أن تكون الهمم على هذا المستوى حتى نكون أهلاً لنصر الله، ونكون قادة لهذه الأمة، فإن الله لا ينصر أصحاب الهمم و النفسيات الضعيفة، فلا بد من ملازمة هذه الروح، وعندها يكون المسلمون وبخاصة حملة الدعوة منهم كبائع المسك، لا تفوح منهم إلا هذه الأفكار وتلك المفاهيم قولاً وسلوكاً، بناء على إدراك الصلة بالله عز وجل، فيكونون بذلك شامة بين الناس، ويكسبون ثقتهم، ولا يحق لهم النفخ في الكير ولو نفخة واحدة، فإنها لا تحرق الثياب فحسب وإنما تؤذي المحيطين بها أيضاً، وليعلم المسلمون أنهم ليسوا أحراراً ولا ملكاً لأنفسهم لأنهم أقروا بالعبودية لله عز وجل، كما أنهم قد خلعوا عباءة الحرية بالمفهوم الغربي على أعتاب هذا الدين بمجرد إدلاء شهادة أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فحذار أن يصدر منا، نحن حملة الدعوة، أي تحكم للمنفعة، أو العلاقات المصلحية في تصرفاتنا أو دعوتنا، أو أن تثور فينا مفاهيم الأعماق المهجورة المرفوضة لأي سبب من الأسباب، بل يحرص على التقيد بالحكم الشرعي ويحرص على عدم التجاوز له، فإن أحسنّا كان ذلك رصيداً مطلوباً لتحقيق الغاية، وإن أسأنا أسأنا لأنفسنا وللإسلام وعصينا الله عز وجل وحملنا وزراً عظيماً، فإن وزر من يعلم ليس كوزر من لا يعلم.

إننا قد خلقنا في زمن غاب فيه حكم الله في الأرض، لغياب الخلافة الإسلامية، وإننا لا شك نعاني الكثير من جراء ذلك، ولكن أيضاً فرصتنا لنعمل في صفوف هذه الدعوة بجد واجتهاد، دون ملل أو كلل، لتحكيم شرع الله في الأرض، فنفوز برضوان الله ومغفرته وجنة عرضها السماوات والأرض، فلا نضيع هذه الفرصة.
ألا نرضى أن يتمثل فينا قوله تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد 10]، ولذلك لا عذر لنا في تقاعس أو فتور همة، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يَا حَارِثَه، عَرَفْتَ فَالْزَمْ» إننا والله قد عرفنا فهل التزمنا؟
 
فلنتق الله في أنفسنا وفي هذه الدعوة، وليراجع كل منا نفسه، فيجدد الهمم ويفعِّل إدراك الصلة بالله عز وجل، ويعقد العزم على نصرة هذا الدين.
ثبتنا الله وإياكم، وتقبل جهودكم، وسدد خطاكم، وجعل النصر قريباً على أيدي العاملين الواعين المخلصين بإقامة الخلافة الراشدة، إنه على كل شيء قدير 
وبالإجابة جدير.

المصدر: مجلة الوعي

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

دوحة الإسلام عائدة


بسم الله الرحمن الرحيم

لقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى بجعل الجزيرة العربية، وتحديداً مكة المكرمة، سكنى إبراهيم عليه السلام، بأن تكون منبتاً لشجرة الإسلام العظيم ودوحته العظيمة. كما شاءت إرادته عز وجل بأن تنبت تلك البذرة على يدي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

فما إن اصطفاه الله سبحانه وتعالى وجعله من المرسلين حتى عمل بدون كلل ولا ملل، مع نفر ممن آمن برسالته السمحاء، على نمو تلك الشجرة العظيمة لتكون دوحة تظلل البشرية، وتنقل الناس من حر ورمضاء الجاهلية والعبودية إلى أن تفيء بظل عدل ورحمة شجرة الإسلام، والتي في ظلها السعادة والطمأنينة والعيش الكريم.

لقد عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أولئك النفر المؤمن على رعاية تلك النبتة حتى تظلل الأرض، وصبروا وثبتوا على رعاية نبتة الإسلام هذه، رغم كل ما لاقوا من مشقة وعذاب ومقاطعة ممن آثروا بقاء أشجار الزقوم على هذه الشجرة المباركة، والتي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي أكلها، ثمراً وشراباً بارداً هنيئاً للآكلين، وقد كلل الله سبحانه وتعالى عمل الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الميامين وثباتهم وصبرهم، بنجاح نمو هذه النبتة وتفرع أغصانها حتى أعطت، وبغزارة، أشهى الثمرات، والتي توِّجت بإقامة حكم وسلطان الله في الأرض، ناشراً الرحمة بين الناس.
وبعد أن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى برفع منهج النبوة من الأرض بموت آخر الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قيّـض الله سبحانه وتعالى لهذه الشجرة الضخمة من يرعاها ويحرث أرضها، فبقيت هذه الشجرة قوية الفروع خضراء الأغصان، تفيض حيويةً ونضارةً وجمالاً، وتعطي بغزارة أطيب وأشهى الثمرات، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، عندما حصل الخلل في ميزان القوى الدولي فسقطت الدولة الإسلامية من مركزها، وأخذت بالانحدار سريعاً حتى تفككت الأمة الإسلامية، وحطت في الحضيض بين الأمم مهدورة الكرامة، مسفوكة الدم، منهوبة الخيرات، مقطعة الأوصال. وقد تزامن هذا السقوط مع حصول الانقلاب الصناعي في أوروبا، والتي شهدت تطوراً كبيراً في الاختراعات والصناعات، وقفزت بعض دولها إلى المراكز الأولى في السلم الدولي، فأحدثت هذه العوامل صدمةً في عقول وأذهان المسلمين، فاندفع بعضهم يعيد النظر في فهم الإسلام، بل إن بعضهم صار يعيد النظر في بعض أفكار وأحكام الإسلام، وقد نتج عن ذلك أن ذبلت أغصان تلك الشجرة العظيمة، وضعفت فروعها، وقلت ثمارها؛ ففقدت لذتها وطيبها. إلا أن جذع هذه الشجرة بقي، ولكن اعتراه الضعف ودب فيه الجفاف. بيد أن الكفار أبوا بقاء حتى الجذع فضربوا ضربتهم باقتلاعه، وذلك بإلغاء نظام الحكم الإسلامي نظام (الخلافة) فبعد ذلك لم يبقَ من دوحة الإسلام العظيمة إلا الجذور والتي دب فيها الجفاف أيضاً. فلما نجح العدو في حكم بلاد المسلمين حكماً مباشراً، بعد أن قطعها إرباً، أخذ يعمل على قلع جذور الإسلام فنجح بذلك إلى حد كبير، ولم يبقَ من شجرة الإسلام إلا البذرة وبعض خيوط الجذور الرفيعة.

هذه هي حال شجرة الإسلام، فبذرتها لم ولن تموت؛ لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها وإعادة إنباتها مرة أخرى، فأدرك المسلمون في هذا الزمان أن لا عزة ولا نصر لهم إلا بأن تعود شجرة الإسلام شامخةً قويةً كما كانت في السابق، ويجب أن يعمل لإعادة إنشاء جذع أقوى، وفروع وأغصان أكثر نضارةً، وذلك بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. فعند النظر إلى حالة بذرة هذه الشجرة ووضعها الحالي يظهر أنه من الاستحالة أن تنبت هذه البذرة جذعاً، إلا بعلاج الجذور من نقطة انبثاقها عن البذرة، وذلك بوصل الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية بالعقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل أي فكر أو أي حكم شرعي إلا أن يكون منبثقاً من تلك البذرة، أي العقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل إلا بما هو مأخوذ من الكتاب والسنة، وبعد ذلك تسقى هذه الجذور، وتحرث الأرض من حولها، ويكسر ما جف منها، ويقلع كل جذر نبت من غير تلك الشجرة في هذه الأرض، كل ذلك من أجل إنشاء جذع قوي وأغصان ناضرة، كتلك التي نبتت في الجزيرة العربية على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته الذين رعوا تلك الدوحة العظيمة الشامخة.

وعند النظر في حال الأمة الإسلامية اليوم، قياساً بالفترة التي تلت اقتلاع جذع شجرتها وذلك بهدم كيانها، يلاحظ أن شجرة الإسلام اليوم أحسن حالاً من تلك الفترة، وقد تحقق ذلك بوجود أبناء خيِّـرين من تلك الأمة الكريمة يتصفون بتلك الصفات التي اتصف بها من زرعوا شجرة الإسلام الأولى وأنبتت على أيديهم، ألا وهم صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فعند وضع ميزان القياس للمقارنة بين تلك الفترتين (هذا الزمان، وفترة اقتلاع الجذع) يلاحظ أن الكثير من جذور الشجرة بدأت تنبت، وبدأت الحيوية تدب في بعضها، وذهب الجفاف عن قسم منها، واخضر القسم الآخر، وبذلك برزت جذور للشجرة مرة أخرى مخضرةً مبشرةً بتكوّن جذع صحيح من جديد، تنبثق منه أغصان وفروع مورقة تنبت براعم مثمرة، أي تبشر من جديد بإنبات شجرة الإسلام الطيبة التي تؤتي أكلها بإرادة ربها كما كات في سابق عهدها وذلك بإقامة حكم الله في الأرض، أي بإقامته على الفكرة الإسلامية الخالصة، أي خلافة راشدة ثابتة تكون على منهاج النبوة.
فالهدف ليس إيجاد جذع لتلك الشجرة بأي شكل كان، بل إيجاد الجذع المنبثق عن الجذور الأصلية والمنبثقة عن البذرة الأولى، ألا وهي العقيدة الإسلامية، أي بمعالجة الجذور من نقطة انبثاقها من البذرة، والاستمرار بهذه المعالجة بصبر وثبات حتى تَـنبتَ تلك الشجرة باسقةً بشكل طبيعي.

وعملية رعاية شجرة الإسلام لتعود كما كانت في إنباتها الأول، لابد من أن يكون العمل في الأمة الإسلامية ومعها، لتقوم هذه الأمة بتسليم حكمها ورعايتها لمن يرعى هذه الشجرة بالطريقة الصحيحة، فمن الخطأ والخطر بل العبث الاشتغال في غير معالجة الجذور لانبات الجذع، فلا بد من أن يكون العمل محصوراً في معالجة الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة وحرث ما حولها باستمرار، فمن هنا يجب أن يحصر العمل في إعادة دوحة الإسلام إلى القرون الأولى في أربعة أمور هي:
1- كسر الجذور اليابسة أي تحطيم المفاهيم المغلوطة في المجتمع، كقاعدة «حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» ونسف فكرة أن الديمقراطية من الإسلام وفكرة القومية والعصبية.. فيهاجم كل فكر يدّعى أنه من الإسلام وهو ليس منه، وكل فكر يناقض الإسلام.
2- إزالة الأتربة والغبار عن الجذور، أي ربط الأفكار والأحكام بالعقيدة الإسلامية، وبيان انبثاقها عن الكتاب والسنة. فربطها يكون ببيان علاقتها بالإيمان، وعلاقة طاعة الله ومعصيته بالعقيدة، وأن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرمه، وأما بيان انبثاقها عن الكتاب والسنة فإنما يكون بالإتيان بالدليل الشرعي، واستنباط الحكم الشرعي منه بحسب الأصول المنضبطة شرعاً.
3- سقي الشجرة، أي تنـزيل الأفكار على الوقائع والأحداث والمشاكل اليومية الجارية، وهذا هو الذي يحيي الأفكار والأحكام، وبغير ذلك تبقى أفكاراً ميتةً لا حياة فيها، فسقيها هو جعل الوقائع الحية تعالج بأفكار الإسلام وأحكامه فيكون هذا هو الماء الذي يحييها.
4- عزق الأرض وحرثها حول الشجرة، فيكون ذلك بالعيش مع الأمة وبينها وتوصيلها وتعليمها أفكار الإسلام؛ لهدم الأفكار والأعراف المخالفة للإسلام وبناء الأفكار والأعراف الإسلامية بدلاً منها.
بهذه الأمور الأربعة تعود دوحة الإسلام قوية شامخة، فهذه هي قصة الإسلام كشجرة ودوحة عظيمة، فكانت العقيدة الإسلامية هي البذرة التي أنبتت هذه الشجرة العظيمة، وأفكار الإسلام عن الحياة والأحكام التي تعالج مشاكل الحياة هي جذور هذه الشجرة، والجذع الباسق من الجذور هو الحكم أي السلطان وكانت فروعها القوية وأغصانها النضرة وهي خوض الأمة معترك الحياة الإسلامية وحملها الدعوة الإسلامية إلى العالم. ففي النظرة إلى تلك الشجرة في هذا الزمان يكون من الجهل أن يقال إن الإسلام كشجرة موجود في الحياة، ومن اليأس أن يقال إنه لا يمكن إعادته للحياة، ومن الظلم والإجحاف أن يقال إن الجهود التي تبذل لإعادة تلك الشجرة ذهبت هباءً منثوراً.

وعند تقييم شجرة الإسلام يرى أن الأمل بانبثاق الجذع صار أقوى من أي وقت مضى، وبدأت ملامح الشجرة بالتكوين، فأدركت الأمة الإسلامية ان لا عزة ولا نصر لها إلا بعودة شجرة الإسلام كما كانت نضرة خضراء قوية، وأصبح الإسلام مطلباً عند الأمة الإسلامية، تتشوق إلى أن تتفيأ ظلال دوحته العظيمة الشامخة الحامية من برد الشتاء ورمضاء الصيف.

فمسألة عودة الإسلام إلى واقع الحياة أصبحت أمراً واقعاً منوطاً بالمداومة على كسر الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة والغبار عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة كلها، وعزق ما حولها وحرثه، فبالاستمرار والدأب على هذه العملية، والمنهجية الربانية، تقوم الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور 55].

عطية الجبارين ـ فلسطين

الاثنين، 5 سبتمبر 2011

استئناف الحياة الإسلامية



بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العرش العظيم و أصلي و أسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا و حبيبنا محمد و على آله و صحابته و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

بعد أن كسر جدار الخوف ورأينا بأم أعيننا كيف أن الأمة التي عانات سنينا طوال تحت الذل و القهر والهوان تطالب اليوم و بكل جرأة بحل يعيد مجدها و يعيدها إلى سيرتها الأولى. ورأينا أن البضاعة التي تباع بثمن بخس و تستعرض في التلفاز ليل نهار من ديمقراطية وحرية ووطنية ووسطية وتدرج ودولة مدنية علمانية، أنها خيوط وضعية ووهمية تعاني منها البشرية . وبعد التدقيق في البحث استنتجنا معا أن السبب الرئيسي لكل هذه المشكلات الإجتماعية، والاقتصادية، و التعليمية، و الصحية و حتى السياسية ، هي غياب الإسلام من و اقع الحياة... فالحل إذاً يكمن في إستئنافه وإرجاعه ولكن كيف ... و ما السبيل ؟ وماهي الطريقة الصحيحة لإيجاده؟

قبل الحديث عن الطريقة كان لزاماً أن نعي جيداً أن إيجاد الإسلام هو عمل و فعل....و القاعدة الشرعية تقول الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي و الحكم الشرعي له أربعة مصادر لا غير:القرءان، السنة، إجماع الصحابة و القياس أي الاجتهاد المستنبط من القرءان و السنة و إجماع الصحابة. فإذا الكيفية في إيجاد الإسلام في واقع الحياة يجب أن تكون مستنبطة من هذه المصادر و مقيدة بها...لا أن تكون من العقل و لا الهوى ولا الواقع .

يقول الله سبحانه:
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر و ذكر الله كثيراً }
سورة الأحزاب آية ٢١

و معنى أسوة: أي مثال نقتدي به و نحتذي به خطوة خطوة
إذا فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في كل شيء ليس في الملبوسات والأخلاق و العبادات فحسب بل في كل نواحي حياتنا. وهذا يقتضي أن ندرس سيرة المصطفى صلى الله عليه و سلم لا على أنه درس تاريخ كما أخذناه في المدارس مجرد حفظ كالببغاء لسلسلة الأحداث و التواريخ دون فهم أو ربط، ولا على أنها قصص جميلة مستحيلة التطبيق على أرض الواقع. لا و ألف لا ... فالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك التسلسل الدقيق لم تكن مجرد صدفة أو من هواه بل هو من وحي الله.

{ و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }
سورة النجم آية ٣ و ٤

و على هذا فينبغي لنا أن نتيقن أن الكيفية و الطريقة هي نفسها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. و ماأشبه الأمس باليوم كيف أننا نعيش في انحطاط وتخبط في دياجير الظلام و أننا بحاجة ماسة إلى ذاك السبيل الذي ارتقى بالبشرية و أخرجها من الظلمات إلى النور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


طريقة استئناف الحياة الإسلامية

و طريقة التغييرثابتة في الإسلام دليلها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بعثه الله في مجتمع مكة الجاهلي فعمل على تغييره بالطريقة التي رسمها الله، وقد سار في ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى: مرحلة التثقيف و تكوين الجماعة

بعد أن أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة، بدأ بتبليغه سراً، إلى أقرب الناس إليه كزوجته خديجة، وصاحبه أبي بكر، وابن عمه علي بن أبي طالب، وغيرهم ما بين رجل و امرأة من مختلف البيئات والأعمار، أكثرهم من صغار الشباب و كان فيهم الضعيف و القوي والغني و الفقير. و قد بلغ عددهم في هذه المرحلة ما يقارب الأربعين شخصاً. وكان حريصاً على التثقيف الجماعي في دار الأرقم ينقل إليهم ما ينزل عليه من الوحي، فيتلقونه تلقياً فكرياً، يضبط سلوكهم، ويقوي صلتهم بالله، ويزيد ثباتهم على الدين الجديد.
وكان الأثر الجماعي في الدعوة واضحاً و قد أحست قريش بهذا الدين الجديد بالرغم أنها لم تكن تعلم مكان تجمعها.و يذكر حرص الصحابة على تبليغ الدعوة فور اعتناقهم للإسلام فهاهو أبا بكر يدعو ستة من الصحابة للدخول في هذا الدين و لم ينتظر حتى يتعلم كل أمور الدين . و بهذه العزيمة وطدوا دعائم الدولة وحملوا لواء الدعوة خارج الجزيرة العربية .

المرحلة الثانية : مرحلة التفاعل

عندما نزلت الآية وأنذر عشيرتك الأقربين جمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على طعام في بيته يدعوهم إلى الإسلام و أن يؤازروه. و في حديث طويل يرويه علي بن أبي طالب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه رضي الله عنه خشيته من ردة فعل قومه و أنهم لن يقبلوا هذه الدعوة. فلما سكت نزل جبريل و أخبره أنه إن لم يفعل ما يؤمر سينزل به عقاب. و على إثر هذا جمعهم مرتين في منزله، المرة الأولى لم يتركه أبو لهب لأن يتحدث و المرة الثانية تمكن من دعوتهم. فهذه دلالة على أن الرسول لم يتدرج في أي أمر من أوامر الله بل كان يعمل لتنفيذه بالفور مهما كان صعبا. حتى أنه أعاد الكرة وجمعهم على الصفا فكان سب أبو لهب وكان رد القرآن يهاجم أبا لهب و يذكره باسمه :تبت يدا أبي لهب وتب، بالرغم من شرفه و مكانته في بني هاشم.

وعندما نزلت فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين خرج المسلمين علنا في صفين كان على رأس أحدهما حمزة بن عبد المطلب و على رأس الثاني عمر بن الخطاب و ذهب بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في نظام دقيق لم تعهده العرب من قبل فطاف بهم الكعبة ، وانتقل الرسول بذلك في أصحابه من دور الاستخفاء إلى دور الإعلان. و هنا بدأ الصراع بين الحق و الباطل و المفاصلة في الدعوة للكفر و أفكاره و عدم الرضا بالقواسم المشتركة. فقد عاب آلهة قريش ، و سفه عقولهم ،و كشف أعمالهم السيئة، وواجه المجتمع متحديا طريقة عيشهم. و صارت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم في الدعوة في إنكار الشرك، و النعي على تقليد الآباء و الأجداد من غير نظر، و هاجمت الربا و التجارة الفاسدة ، و الغش في الكيل و الميزان ، ووأد البنات و هن أحياء.

فجاء زعماء قريش يشكونه لعمه أبي طالب، وعندما فاتحه أبو طالب بالأمر، قال عليه السلام : (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته) وهذا الموقف الحازم حمل أبا طالب لأن يقول لابن أخيه : (اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً) . و عندما عرضوا على الرسول الشرف و الملك و المال رفض رفضا تاما. بعدها عرضوا عليه أن يشتركوا معه في العبادة، فنزل فيهم قوله تعالى : (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون ... إلى قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين) .
فهذه كلها دلائل واضحة أنه لم يلجأ إلى الحل الوسط أو إلى إرضاء الطرفين بل و قف وقفة حاسمة لأن هذا أمر الله و مسألة عظيمة لا هوادة فيها.

وحاولت قريش بشتى الوسائل والأساليب أن تقف في وجه هذه الدعوة الجديدة، فجربوا الأساليب السياسية، حيث أشاع الوليد بن المغيرة بأن محمداً ساحر، يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته، وجعلوا يجلسون بالطرقات يتحدثون بذلك، للقادمين إلى موسم الحج(و هذا تماما مثل الإعلام الحالي الذي ينشر الكذب والخداع لأنه مبني على أساس باطل ،مثلا ينقل دائما تلك الصورة المشرقة للغرب وأن الأمة لا تريد الإسلام حلا لمشاكلها و في الحقيقة أن معظم الاستفتاءات تؤكد أن الإسلام مطلب الأمة و أعداد هائلة من المظاهارات تنادي و تندد بتطبيق الشريعة تحت ظل دولة الإسلام ) .و بذلك انتشر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب كلها.

فهددوه، وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر، وبالكهانة والجنون وأحاطوا به مرة يقولون : أأنت الذي تقول كذا وكذا في آلهتنا وديننا، فيقول لهم : نعم، أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) . و عانى المسلمين المستضعفين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء. ومنهم من يثبت على دينه حتى الموت.

ولما رأت قريش أن الإسلام يفشو في القبائل، اجتمع زعماؤها، واتفقوا على أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم وبني عبد المطلب حماة محمد عليه السلام، وأن لا ينكحوهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم، وذلك من أجل أن يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت المقاطعة لمدة ثلاث سنوات.
إلا أن هذه الأساليب جميعها وهذه المغريات، وهذه الصعاب لم تثن الرسول عليه السلام ولا الصحابة عن عزمهم. و استمر الرسول دون ركون في هدم العقائد الفاسدة و الأراء الخاطئة و المجاهدة في سبيل الدعوة بالقرءان دون أن يلين أو يستكين أو أن يبدل.

وهنا نقطة مهمة:معاملة قريش للموحدين الذين كانوا يدعون إلى الرجوع إلى الدين الإبراهمي تختلف تماما عن معاملتهم مع رسول الله الذي كان يدعو إلى الإسلام. الفرق و اضح بينما كان الأول يكتفي بالفرد و ممارسة الفرد لدينه من الناحية التعبدية فحسب كان الثاني دينا كاملا أي أن كل الأنظمة يجب أن تكون نابعة من الإسلام. فبالتالي شعرت قريش بالتهديد من الإسلام مالم تشعره من الموحدين. و هذا تماما ما يحصل اليوم، كيف أن الغرب والحكومات الحالية لا ترى بأسا بأن نمارس الإسلام بالطريقة التعبدية أو أن نبني المساجد أو أن نتصدق إلى الفقراء لأن هذا لا يضرها بشيء. أما أن يدعو أحد برجوع الإسلام كنظام حياة عن طريق الحكم فلا يسمح أبدا. و لذلك حوربت أفغانستان و العراق والآن باكستان خوفا من هذا الكابوس الذي يراودهم .

المرحلة الثالثة: طلب النصرة و إقامة الدولة واستلام الحكم

تجمد مجتمع مكة على أفكار الكفر، بسبب عناد زعمائه واستكبارهم، و لم تبلغ الدعوة المدى الذي يمكن من التطبيق العملي حتى أمره ربه بطلب النصرة لحماية الدعوة وإقامة الدولة من القبائل المحيطة بمكة .فذهب إلى الطائف يلتمس النصرة و المنعة و عمد إلى نفر من سادة بني ثقيف و أشرافهم ولكن كما نعلم عومل بأسوء معاملة و رفضوا عرضه . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل و يقول (يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذا الأنداد، و أن تؤمنوا بي و تصدقوا بي و تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به) و جاء في سيرة ابن هشام: ( و حدث الزهري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى كندة في منازلهم و عرض عليهم نفسه فأبوا عليه، و أنه أتى كلبا في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم ، وأنه أتى بني حنيفة في منازلهم و طلب منهم النصرة و المنعة فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم، و أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:” الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء “.فقال بيحرة : أفنهدف نحورنا للعرب دونك. فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك) .و هنا و قفة نرى كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلب النصرة لنفسه بل طلبها لتطبيق شرع الله على الأرض . كان يمكن أن يتماشى مع الواقع الذي لديه و يرضى بهذا العرض أو أن يداهن و يأتي بالحل الوسط يرضي بها الطرفين بالمشاركة مثلا حتى يحصل النصرة التي عانى كثيرا من أجلها. و لكن كما رأينا كان ثابتا على الحق لا يخاف في الله لومة لائم.

وهكذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو القبائل إلى الله و يعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة و عكاظ و منى أن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه و لهم الجنة. يقال أن عدد القبائل التي باشرها تقارب الأربعين.والناظر يرى أن الرسول قد طلب النصرة من الزعماء الذين يملكون القوة . وأنه بالرغم من الرد القبيح الذي تتالى عليه من قبيلة إلى قبيلة فإنه بقي مصراً على الطلب وكرره ولم يهدأ بطلبه . فهذا الإصرار إنْ دل على شيء فإنه ليدل بشكل واضح على أنّ طلب النصرة كان أمراً من الله له بفعله .

فليست قبيلة من العرب تستجيب له ويؤذى ويُشتَم حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده ،فهيأ هذه الدعوة المدينة المنورة، وتجاوب أهلها مع الإسلام، وأعطوا النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر هو وأصحابه إليها، وأقام الدولة الإسلامية . و من خلالها طبق الإسلام عملياً في كل نواحيها و ماعلينا إلا أن نبحث في السيرة لنتعلم جهاز الحكم و كيف أنه صلى عليه و سلم كحاكم دولة راعى الشؤون الداخلية و كذلك الخارجية. و هل توقف الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كلا، استمر الصحابة على نهجه و الخلفاء من بعدهم حتى كانت الضربة المميتة عندما هدمت الخلافة في عام ١٩٢٤ م التي من جرائها تعيش الأمة في الظلمات ولكنها لم تفقد الأمل لإرجاع أمها الحنون التي سترعاها خير رعاية و لن تسمح لأي أحد كائناً من كان أن يمسها بسوء.

هذه المراحل الثلاث التي مرت بها الدعوة الإسلامية لإيجاد الإسلام و تطبيقه في المجتمع و هي الطريقة الشرعية لاستئناف الحياة الإسلامية، ولا يجوز مخالفتها، فعلى العاملين للتغيير على أساس الإسلام أن يلتزموا بها بحذافيرها.

{ وماآتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا }
سورة الحشر آية ٧

{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني و سبحان الله و ماأنا من المشركين }
سورة يوسف آية ١.٨

و ختاما إن الأمة الإسلامية بأحوج ما تكون إلى الدواء الشافي و العلاج الصحيح المجرب و الثابت نجاحه. ذلك أن الأمة المسكينة لم يبق فيها- لكثرة ماأجري فيها من التجارب - وريد و لا شريان ولا عضل أو أي مكان آخر يصلح للتجارب و غرز الإبر ، و كفى هذه الأمة آلاماً و تعذيباً، مما يوجب على الأمة رفض أي علاج لم تثبت جدواه بطريقة قطعية تدلل على أنه العلاج الذي ليس بعده علاج . و لا سبيل لها إلا باتباع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في إيجاد الإسلام في واقع الحياة.

{ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه وأنه إليه تحشرون }
سورة الأنفال آية ٢٤

بقلم: أم أمين- أرض الحجاز

الثلاثاء، 8 فبراير 2011

خواطر أخت مسلمة



بسم الله الرحمن الرحيم


قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء 32].

أيتها الأخوات الكريمات: يقول جل جلاله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا)، والتمني فعل متعلق بالحاضر والمستقبل، التمني أن تتمنى شيئًا لا يقع، بينما الترقب أن تنتظر شيئًا يقع، فإذا قلت: ألا ليت الشباب يعود يومًا، فهذا تمنٍّ، والتمني كما يقول بعض الحكماء بضائع الحمقى، يعيش في خيالات وفي أوهام لا تقع، فالله سبحانه وتعالى تطييباً لقلوبنا، وإراحة لنفوسنا نهانا أن نتمنى ما فضل به بعضنا على بعض... فالله سبحانه وتعالى خلق جنس البشر من ذكر وأنثى، وجعل في كل منهما فروقاً في أصل خلقتهما وخصائص عقلية ونفسية وجسمية واجتماعية ينفرد بها كل طرف عن الآخر... وجمع بينهما بأن جعلهما كائنين مكرمين عند الله، مخيرين، مسؤولين، مشرفين، فحينما نقول الجنس البشري ذكر وأنثى فهناك قواسم مشتركة بينهما، وهناك فوارق. فالقواسم المشتركة أكدتها آيات كثيرة. جعلتهما في التكليف سواء، قال تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب 35].

فكلاهما في التكليف وفي التشريف وفي المسؤولية سواء، المرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة من الرجل عن رعايته، والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، فنقاط الاشتراك كثيرة جداً، فهي من بني البشر، وهي إنسان، لها فكرها، ولها مشاعرها، ولها عواطفها، يؤذيها ما يؤذي الرجل، ويفرحها ما يفرحه، ترقى إلى الله كما يرقى الرجل إلى الله، تسمو كما يسمو، وتسقط كما يسقط ، وتنحط كما ينحط، هناك قواسم مشتركة بين الذكر والأنثى، وما أكثرها، لأنهما من جنس واحد، من جنس البشر. قال تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) [الروم 21]، أي خلق من جنسكم، من جنس بشريتكم، إنساناً.

ولكن قال تعالى: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) [آل عمران 36] وهذا هو الواقع حقيقة، ولكن، فحينما يتجاهل الرجل ما تتميز به الأنثى فإنه يقع في خطأ كبير، وحينما تتجاهل الأنثى ما يتميز به الرجل فإنها تقع في خطأ كبير، فلذلك ورد في أسباب نزول هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى حينما فرض الفرائض، وفرض للذكر مثل حظ الأنثيين تمنت النساء أن يكون لهن في الإرث نصيب كنصيب الرجل، وحينما فرض للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى الرجال أن يكون أجرهم في الآخرة مثلي أجر المرأة، فجاءت الآية الكريمة، (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، فالحق أن الله سبحانه وتعالى أعطى لكل نوع خصائص تعينه على أداء مهمته، ففي أصل التصميم صممت المرأة لتكون زوجة ولتكون أماً، فأعطيت من الخصائص الجسمية والخصائص النفسية، وهو شدة عاطفتها، ومن الخصائص الاجتماعية تعلقها بزوجها، ومن الخصائص الفكرية اعتناؤها بالجزئيات... ما يؤهلها لتكون زوجة ناجحةً، وأماً ناجحةً، فهذه الخصائص التي اختص بها الله سبحانه وتعالى النساء كجنس بنيت على حكمة بالغة وكانت من لدن عليم خبير، قال تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر 14].
وفي المقابل خص الله سبحانه الذكور بخصائص جسمية ونفسية واجتماعية وعقلية ومن اهتمام بالكليات لا بالجزئيات تتناسب مع كسب الرزق ومع الحركة خارج البيت ومع قوامتهم على النساء.

هناك إشارة لطيفة إلى أن عمل الرجل خارج البيت هو كسب الرزق، وأن المرأة مهمتها الأولى تربية الأولاد، وهي سكن لزوجها، وهو قائد لمؤسسة البيت، فهناك تناغم وتكامل بينهما، هناك صفات إنسانية مشتركة بين الذكور والإناث، كلاهما مكرم عند الله، وكلاهما مشرّف عند الله، وكلاهما مكلف من الله، وكلاهما مسؤول أمام الله، ولحكمة أرادها الله جعل امرأة الطاغية فرعون آسية صدّيقة، وبكل ثقله وكل جبروته وكل قوته وكل ألوهيته المزعومة، ما استطاع أن يقنعها أن تعبده، ولا أن تقر بألوهيته المزعومة، قالت ما يوضح أن المرأة صاحبة قرارها ومكلفة به، ومسؤولة عنه، ومحاسبة عليه... فهي كالرجل، ولا يتحمل عنها شيئاً من التكليف مهما كانت درجة قرابته منها... قالت ما قاله الله تعالى عنها: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم 11].

فمما أراد الله سبحانه من هذه القصة أن يعلم النساء جميعاً أن المرأة مستقلة في دينها عن زوجها، تحاسب عن دينها، ولتعلم أيضاً أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلذلك معظم النساء حينما يقلن: هكذا يريد أزواجنا وهو في رقبتهم... هذا كلام مرفوض، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهي مكرّمة كما هو مكرّم، وهي مشرّفة كما هو مشرّف، وهي مكلّفة كما هو مكلّف، وهي مسؤولة كما هو مسؤول، هذه من نقاط الالتقاء.

أما نقاط الاختلاف فإذا تجاهلناها وقعنا في فساد عريض حيث قال الله عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب 33]. فالأصل أن المرأة تقوم بأخطر عمل أناطه الله بها حينما تقر في بيتها لتربية الأولاد. فالمرأة التي تربي أولادها، وتدفعهم إلى المجتمع عناصر ملتزمة مخلصة واعية هي امرأة عظيمة؛ لأن شهاداتها الحقيقية ليست تلك الأوراق التي تعلق على الجدران، إن شهاداتها الحقيقية أولادها الذين ربتهم ودفعتهم إلى المجتمع، وكثيراً ما نعثر على شباب يلفتون النظر بأخلاقهم، ويلفتون النظر برحمتهم، ويلفتون النظر بتعاونهم، ويلفتون النظر بحبهم للخير، ولو دققنا وبحثنا لوجدنا أنهم تلقوا تربية عالية من أمهاتهم، إنك إن علَّمتِ فتاة علَّمتِ أسرة.

أيتها الأخوات الكريمات، المرأة والرجل كلاهما مكلف، وكلاهما مشرف، وكلاهما مسؤول، ولكن هناك فروقاً دقيقة وكثيرة بين الذكور والإناث. وخصائص الذكور العقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية تتناسب مع المهمة التي أنيطت بهم، وخصائص الإناث العقلية والجسمية والاجتماعية والنفسية كذلك تتناسب مع المهمات التي أنيطت بهن.

قال تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)، فإن الله أناط بالذكور مهمات ومسؤوليات، من أجل أن يحققوا أهدافهم بخصائص متعلقة بهم، أو أن لكل واحد بحسب استقامته، وبحسب إقباله، وبحسب انضباطه وبحسب علاقته بربه، هيأ الله له الشيء الذي يعد بحقه حكمة بالغة. وكذلك المرأة أناط الله بها مهمات ومسؤوليات عظيمة وهيأها عقلياً ونفسياً وجسدياً واجتماعياً للقيام بها، وتنال درجتها عند الله بمقدار استقامتها وبمقدار إقبالها، وبمقدار انضباطها...

فلو تشبه الرجل بالمرأة بأن يلبس لباس النساء، ويتبرج تبرجهن، ويتمايل تمايلهن، ويرقق في صوته... فهذا كله محرم.
وكذلك المتشبهة من النساء بالرجال التي تتمنى أن تكون رجلاً، بل إن المرأة المسترجلة، فعلها من الكبائر لأنها رفضت اختيار الله لها أن تكون أنثى، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» (أخرجه البخاري).

فالمرأة المؤمنة ترضى عن الله أنه اختارها أنثى، مع أن الأنثى لا تقل ولا شعرة واحدة في مكانتها عند الله عن الذكر إن هي قامت بحق الله عليها.

إن الاختلاف بين الذكر والأنثى هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والحضارة الغربية الفاسدة المفسدة تعاملت مع واقع كل من الذكر والأنثى على درجة واحدة، وأرادت أن تزيل الفوارق فكان في ذلك فساد عظيم.

بقلم: حاملة دعوة – فلسطين

الأحد، 30 يناير 2011

تأملات




بسم الله الزحمن الرحيم

تأملت في أحوال أمة الإسلام، فوجدتها كما وصفها الشاعر:

شعوبك في شرق البلاد وعرضها كأصحاب كهف في عميق سبات

ثم نظرت أخرى، فرأيتها على رغم عقود طويلة من التخلف والتخبط، والانحطاط والضياع، والتمزق والتشرذم، قد أخذت تتململ من سباتها العميق وتستيقظ من إغفاءتها الطويلة، وبدأ يسري في عروقها نبض الحياة، وتدب في أوصالها نسمات الروح والحرية.

إن ما شهدته أمتنا بالأمس، وما تشهده اليوم من سعي الغرب الحثيث للقضاء على كينونتها، ومحاولة بلبلة أفكارها، وحرف عقيدتها، وضرب مفاهيمها، وطمس هويتها، وتشويه تاريخها، والاستيلاء على خيراتها ومقدراتها، وما سبق ذلك وما تلاه من مصائب وويلات، وكوارث وهزات بمثابة المنخس الذي ينخس جوانبها ليل نهار عشية وابكار كيما تستفيق من غفلتها، وتنتبه من ذهولها، وتتحرر من كسلها وشرودها، فتقوم لتنفض عنها غبار الهزيمة واليأس والقنوط، وتطرح عنها ما اعتراها من تيه وشرود، وما علق بها من مذلة لازمتها لعقود، فتشمر عن ساعد الجد، وتعمل لإعادة عزتها والمجد.

لقد نظرت بالأمس، فوجدت الأمة قد وقعت بعدما فقدت وحدتها وسيادتها فريسة للاستعمار، بل الاستخراب إن شئت، ثم تاهت بعد ذلك في دوامة من الأفكار القومية حينا، والوطنية حينا آخر، ثم غرقت في أوحال الاشتراكية لتجرفها بعد ذلك الرأسمالية بعولمتها وعلمانيتها وحرياتها وديمقراطيتها، فمكثت الأمة ردحا من الزمن تائهة تتغنى بشعارات جوفاء ثبت طوال قرن أو يزيد عدم صلاحيتها، بل إن بعضها قد تخلى أربابها عنها من مثل الأمة العربية والقومية العربية والاشتراكية العربية والبعث العربي والصراع الطبقي، ثم بعد ذلك تغنت بالديمقراطية والعلمانية والليبرالية والحريات ، لقد أتى على الإنسان العربي حين من الدهر كانت هذه الأفكار ملء سمعه وبصره، بل غذاؤه اليومي وقوته الفكري.

لقد تبدلت أفكار الأمة وحق لها أن تتبدل، وهي اليوم في انتظار التغيير، ولو لم تفعل ذلك لحق عليها قانون الاستبدال الإلهي، وليس ذلك على الله بعزيز، فالناظر إلى واقع الأمة اليوم، وواقعها قبل عقود خلت، يلحظ أن ثمة تيارا واعيا قد بدأ يحرف بوصلة الأمة نحو وجهتها الصحيحة، فلم تعد تنطلي عليها ألاعيب الحكام، ولا مكايد المستعمرين، ولا دسائس المستشرقين، ولا مؤامرات المغرضين، ولا أراجيف المثبطين، يشهد على ذلك شواهد كثيرة في شتى المجالات، فلقد شهدنا في السنوات الخمس الأخيرة نماذج فريدة للتضحية واستعدادا كبيرا لبذل المهج والنفوس في سبيل نصرة قضايا الأمة وخياراتها، خذوا صمود غزة مثالا، وانتصارات المقاومة في لبنان، وهبات المسلمين دفاعا عن الحجاب وذبا عن حياض رسول البشرية الأكرم (r) بعدما تجرأت على حضرته الشريفة أيدي العابثين، ولا ننسى مؤخرا هبة أبطال الحرية -وما أصابهم في عرض البحر- نصرة لإخوانهم المحصورين في القطاع المنكوب.

يمكن القول إذن أن الأمة قد بدأت تصحو من رقدتها، وتفيق من ذهولها، ولكن ما جدوى صحوة لا تتجسد في دولة قادرة على رد الصفعة صفعات، وكيل اللطمة لطمات، وما فائدة إفاقة لا تترجم إلى أفعال بدلا من ردود أفعال هزيلة من دول تسمي نفسها ذات سيادة.

إن المدقق في مظاهر صحوة هذا العملاق الإسلامي الذي يتمطى بين الشرق والغرب متوسدا أرخبيل الجزر الاندونيسية وغاسلا أخمصيه عند شواطئ الأطلسي ليجد أنها صحوة تؤذن بانبلاج فجر جديد، وإفاقة تنبي عن خير مديد، وإن من يزعم أن الأمة قد عقمت عن إنجاب الرجال، وعدمت إلا عن حلوم الأطفال و عقول ربات الحجال، أو أنهالم تعد قادرة على النهوض مرة أخرى من كبوتها لتقتعد مكانها من جديد بين الأمم لهو امرؤ واهم وذاهل عن حقيقة هذه الأمة، وعن قدراتها وإمكاناتها، فقد آن الأوان لأمة الإسلام بعد أن مكثت تغلي أكثر من نصف قرن أن تفور لتسكب ما يسري في عروقها من أفكار الإسلام العظيم، وما يغلي في شرايينها من مشاعر العزة والأنفة ، ولتعلم هذه الأمة أنها على أبواب تغيير جذري شامل متجسد مع وعده تعالى وبشاراته (r) بالنصر والتمكين.

وإن من لم يدرك من أبناء هذه الأمة حتى الآن أن المستقبل للإسلام، وأن الدين ينتصر، وأن الغرب الكافر ينحدر وينحسر، ورأسماليته العفنة تترنح وتندثر، وأن أميركا ما هي إلا ورق على صورة نمر، وأن أبواقها من أرباب الأقلام العلمانية المأجورة والمأفونة سوف تؤول إلى مزابل التاريخ، لهو امرؤ جاهل، وعن إرهاصات وبشائر التمكين ذاهل.

وأخيرا لتعلم الأمة أنها تمرض لكن لا تموت، وتضعف لكن لا تنتهي، وتحزن لكن لا تقنط ولا تيأس، وأن الطرقات التي تهشم الزجاج تصقل الحديد، وأن الضربات التي لا تميتنا تزيدنا قوة وصحوة، وأنه سوف يأتي اليوم الذي سيسود فيه الإسلام مرة أخرى، وتزحف جيوشه إلى ميادينها تترى، وتتعلو راياته خفاقة فوق الذرى، حتى ينقذ البشرية مما تتخبط فيه من شقاء وظلم، ومهما اشتد الكرب وعمت الظلمة، فإن الله سيخرج من رحم الظلام فجرا تشرق به الوجوه، وتبسم له الشفاه، وتفرح القلوب، وتسر النفوس، وتقر الأعين، وتثلج الصدور، وتبتهج الأفئدة، وتهنأ به البشرية جمعاء، نصرا تتضعضع به أركان الكفار، وتتزلزل أقدامهم، وتطيش سهامهم، وتطير قلوبهم، وترتعد منه فرائصهم، فيولون مدبرين، حينئذ يفرح المسلمون بنصر الله (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا)، (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).

بقلم: منير عدوان