السبت، 17 يناير 2015

كـذبـــــة اسمـــــــها «الإرهــــــــــــاب» (1)


بسم الله الرحمن الرحيم 
 
تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل وخطط الغرب الخبيثة (الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) في حربه على الإسلام ودعاته، وهو يستميت في ذلك ليحول دون عودة الإسلام ودولته دولة الخلافة الراشدة الثانية التي أظلَّ زمانها بإذن الله تعالى. فها نحن نراه يطلق سمومه ممثلة بمصطلحات ومفاهيم يصنعها صناعة في الغرف المعتمة والمشبوهة من وراء الكواليس كفكرة حقوق الإنسان، وسياسات السوق، والحوار بين الأديان، والأصولية، والعولمة، والوسطية، وأخيراً وليس آخراً: الإرهاب. نعم إنه المصطلح والفكرة والواقع الجديد الذي صنع منه صانعوه وأعد له معدوه وأخرج له مخرجوه لأن يلعب في فيلم الكاوبوي الأميركي دور الشبح والجن الذي يؤرق ويقضُّ مضاجع العالم، فتكون النتيجة احتلال مزيد من بلاد المسلمين، وقتل النساء والأطفال والشيوخ والشباب، وهدم وتدمير للشجر والحجر، ويكون هذا (الإرهاب) حجة وذريعة لاستعباد العباد واحتلال البلاد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وفكرياً. لقد بات الإرهاب الواقع الجديد القديم، والذي مازال حتى الساعة يقطف الغرب ثمرته ويضرب به البلاد والعباد، هذا وقد تناولت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة المحلية والدولية مصطلح الإرهاب لترسخ هذا المصطلح خدمة للأنظمة ومن ورائها الغرب الحاقد. وفي هذا المقال لن نسلط المجهر سوى على مصطلح الإرهاب الذي بات سرطاناً وجب على الأمة استئصاله واستئصال أمه المبدأ الرأسمالي واجتثاثه من جذوره واستبداله بمبدأ الإسلام؛ لتتعافى الأمة وتصبح خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ولكن كيف يتسنى لنا ذلك؟
وعلى ذلك، فسنبحر في هذا البحث ونتعمق في عدة محاور فيه تتمثل بـ: 1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً. 2- نشأة الإرهاب والغاية منه. 3- ماذا استفاد الغرب من فكرة الإرهاب؟. 4- صور من الإرهاب الغربي. 5- أسباب إخفاق الثورات. 6 - عوامل نجاحه 

ودعمه. 7- كيفية مواجهة الإرهاب ( فكراً وواقعاً) وعلاجه .

1- تعريف الإرهاب لغة وشرعاً:
الإرهاب لغةً: رَهِبَ بالكسر يَرهَبُ رهْبَةً ورُهباً بالضم ورَهَبَا بالتحريك أي خاف. ورهب الشيء رهباً ورهباً ورهبة: خافه. ويقال: رهبوت خير من رحموت، أي لأن تُرهب وتُخف خير من أن تُرحم.
والرهبة: الخوف والفزع، ترهب الرجل إذا صار راهباً يخشى الله، والراهب: المتعبد في الصومعة.
والإرهاب شرعاً: لا يوجد معنى في الشرع في الآيات والأحاديث يصرفه عن معناه في اللغة، وبالتالي يكون لغة وشرعاً بنفس المعنى، قال تعالى:((وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُون)) . أي فإياي فخافون. وقال تعالى: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)). أي يدعوننا قربة إلى الله وخوفاً من الله تعالى من الآخرة. وفي الحديث: «عليكم بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي» يريد أن الرهبان وإن تركوا الدنيا وزهدوا فيها وتخلوا عنها فلا ترك وزهد ولا تخلٍّ أكثر من بذل النفس في سبيل الله، وكما أنه ليس عند النصارى عمل أفضل من الترهب، ففي الإسلام لا عمل أفضل من الجهاد؛ ولهذا ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.
والإرهاب اصطلاحاً: هناك اصطلاح للإرهاب اصطلح عليه الغرب وأخفى غايته من هذا المصطلح الخبيث، والذي أصبح واقعاً 

 متجسداً في حياتنا ويعني به: قتل المدنيين وتخويفهم وإفزاعهم بدافع وغرض سياسي.

2- نشأته والغاية منه:
نشأ الإرهاب كمصطلح أسوة بأخواته فيما تقدم كالوسطية والعولمة والأصولية في الغرب، وبحسب الحاجة إليه وضعت الغاية له. أما مصطلح الإرهاب فقد نشأ في عام 1979م بعد مداولات ونقاشات بدأت منذ ما قبل عقد أو عقدين من ذلك التاريخ حتى توصلت إليه الاستخبارات الأميركية والبريطانية في ندوة عقدت لهذا الغرض، وقد سنت تشريعات وقوانين لتحديد الأعمال التي يمكن أن توصف بالإرهاب، وأنواع الحركات التي يطولها المصطلح بعيداً طبعاً عن إرهاب الدول الكبرى؛ لأنه حينها لا تكون له جدوى وفائدة، لأن واضعيه يريدون أن يخدم توجهات ومصالح هذه الدول الكبرى والمستعمرة للوصول إلى المزيد من خنوع وخضوع المسلمين للغرب، وهذا ما أدى بهم إلى جعل (الإرهاب) كلمة ضبابية يسهل اللعب بها هي وأخواتها بحيث يكون كل منها له مأربه ومقصده الاستعماري. فالإرهاب هو الكلمة التي لم يكن لها واقع، فأوجد لها الغرب واقعاً لتخدم مصالحه. وكذلك سواء أكانت الغاية من المصطلح الاستعمار الفكري أم الثقافي أم الاقتصادي أم السياسي... فهي تحقق له غاية، فما هي غايته؟
إن الغاية من أي فكرة أو أي عمل يعرف إما من الخبرة السياسية والمعلومات السابقة المربوطتين بالواقع المعاش، وهي أفضل من معرفتها عن طريق النتائج التي تتلو تنفيذ وتطبيق هذه الفكرة والعمل؛ لأنه حينها تكون قد وقعت الفأس بالرأس؛ لذلك كانت الطريق الأول أفضل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإفشال ما يمكن إفشاله من مشاريع قد تؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، فيا ترى: ما المصلحة والفائدة المرجوة لدى الغرب من استخدام هذه الفكرة؟ وأليست دول الغرب هي المستفيد الأول، وعلى وجه الخصوص أميركا. فماذا استفاد الغرب من شبح ما سماه بـ«الإرهاب»؟


3- ماذا استفاد الغرب من مصطلح «الإرهاب» فكراً وواقعاً:
لقد استفاد الغرب، وعلى رأسه أميركا، من استخدام مصطلح «الإرهاب» وتجلت هذه الاستفادات بـ:
1- احتلال أميركا للعراق ومن قبل أفغانستان، ونهب وسلب ثرواتهما، وفرض سيطرتها على ما حولها من بلاد وعباد.
2- هجوم أميركا على بعض البلاد الإسلامية مثل باكستان واليمن بطائرات بدون طيار، وهو انتهاك للبلاد والعباد والبشر والشجر والحجر، وفرض إرهابها على هذه البلاد وقاطنيها بإذلالهم بهذه الضربات، وكذلك على جيران هذه البلاد على طريقة المثل القائل: «اضرب المربوط يخاف السائر».
3-فرض ضغوط سياسية واقتصادية على البلاد التي يوجد فيها ما يسمى بالإرهاب، وربطها باتفاقيات ومعاهدات تزيد من سيطرتها على هذه الدول؛ وذلك بإرسال قوات لتلك البلاد، وإقامة قواعد عسكرية فيها، وإرسال جيشها إليها بحجة التدريب ومكافحة الإرهاب والمساعدة في ذلك (وهو في ذلك احتلال عسكري ) وكذلك شراء وكسب قواد الجيوش لصالحها، وبيع هذه البلاد أسلحة بمبالغ هائلة وفي كثير من الأحيان أسلحة فاسدة لتكدس وتصدأ دون استخدام سوى على شعوبها، فمنذ متى لم تُحارِب هذه البلاد أعداءها؟؟ مرت عقود وعقود دون حروب، فما فائدة هذه الأسلحة سوى انتفاع الغرب منها، وقمع الشعوب بها، وإرسال خبراء (جواسيس) لتشتري الذمم وتحول الولاءات والعمالات لصالحها.
4-الضغط على هذه البلاد وإخافة دعاتها ومفكريها وأحزابها وإجبارهم على السير معها في فكرة ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي يعترف بأجندة الغرب من الديمقراطية وحوار الأديان والحريات العامة، ويرضى بالغرب ويوجد له مبررات مفتراة من القرآن والسنة، والتلبيس على الناس بهذه الدلائل التي لا محل لها في الإسلام، وربط إقامة الخلافة الراشدة ورفع راية العقاب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإرهاب رغم أن المطلبين شرعيان وليسا مرتبطين بالحركات التي تتخذ العنف طريقة للتغيير بل بحزب التحرير الذي يدعو لهذا الهدف العظيم منذ أن نشأ في الخمسينات في عام 1953م، ولكن الإعلام المأجور للغرب لا يظهر هذا بل يكتمه، ويعتم على هذه الحركة الصافية النقية التي تدعو للإسلام النقي الصافي ولا تستخدم العنف تأسياً بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذا الهدف العظيم، والذي يتوجب على كل مسلم أن يسعى لإيجاده في الواقع، فهو فرض، وفيه إنقاذ للأمة والعالم مما يعانيه من شقاء الرأسمالية. نعم إن الإعلام الفاسد يظهر الحركات الفاسدة ابتغاء تشويه الإسلام النقي وحملته مما يدل على أن هذه الحركات أعدت وجهزت لتقوم بدور مرسوم لها، سواء أكان ذلك بعلم أم بجهل منها، فتجد أميركا والغرب من ورائها ضالتها وذريعتها لاحتلال البلاد الإسلامية.
5- العمل على ضرب الإسلام النقي الصافي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بما تقوم به بعض الحركات من تفجير وأعمال عنف حيث ترفع شعارات حقة مثل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله (راية العقاب)، ومن المناداة بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة رغم أنها حق؛ إلا أن من يرفعها هم من يقومون بهذه الأعمال (العنف) فيشوهون هذه الراية وهذه الأعمال العظيمة التي يدعو لها دعاة الخلافة فيخلط الحابل بالنابل، والزبد بما ينفع الناس، وفكر الحق بفكر الباطل.
6- ربط أشخاص عملاء للغرب وللاستخبارات الأميركية ليقوموا بأعمال العنف هذه في بلاد المسلمين لتمتلك أميركا حجتها لضرب هذه الجهة في أي بلد وفي أي مكان وأي زمان بحجة الإرهاب؛ فيكون العالم كله قرية خاضعة لها بحجة هذا المصطلح الخبيث، فيفرض الغرب أوامره على البلد، فإذا كان تابعاً لها سكتت عنه، وإذا لم يكن كذلك ضغطت عليه بهدف أن يصبح موالياً لها، أو يحقق بعض مطالبها.
7- العزوف من قبل المسلمين عن أن يعملوا للتغيير مع الحركات الإسلامية عامة، لاعتبارهم أنها شوهت الإسلام، فتلك تقوم بالعنف، وتلك تجامل وتداهن وتعترف بالديمقراطية، وتلك ترفع شعارات الموت للأعداء وتقتل المسلمين، وتلك تهتم بالسنن وتترك الفروض وتسمي الحاكم ببلاد المسلمين بولي الأمر... وجل هذه الحركات لا تفهم الإسلام فهماً صحيحاً، ولا تطرح مشروعاً لحل المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية والعالم؛ وهذا ما أدى إلى نفور الناس والأمة من هذه الحركات وخاصة تلك التي ترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ومن ثم تقوم بالعنف فتشوه صورة وفكرة كل من يحمل هذا الراية العظيمة، سواء أكانت طريقته حقاً أم باطلاً.
8- محاولة إيجاد ما يسمى بالإرهاب الفكري وإلصاقه بدعاة الإسلام السياسي (الخلافة الراشدة) الذي يدعو إلى إيصال الإسلام لسدة الحكم، وتطبيقه في مناحي الحياة، وإيقاف التبعية للغرب وجعل الأمة مستقلة عنه، بل قائدة للأمم الأخرى...
يحارب هذا المشروع ويتهم ليُحْمَل المسلمون على نبذ الجهاد وجعله جهاد دفع وإلغاء جهاد الطلب (الفتوحات الإسلامية) الذي لولاه لما كنا مسلمين، وقبول العلمنة والديمقراطية والانتخابات وحصر الإسلام فقط في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وما يؤكد هذا هو ما دعت إليه السعودية مؤخراً من سن قانون يجيز اعتقال وتجريم كل من يدعو إلى الإسلام السياسي ليصبح في لائحة الإرهاب حسب قانونها امتثالاً لأوامر أميركا، وهذا قد أتى بعد الزيارات المتبادلة للمسؤولين الأميركان والسعوديين كزيارة أوباما للسعودية مؤخراً قبل شهر؛ ويمكن القول إن جهود الغرب وعملائهم من حكام المسلمين تنصب الآن على محاربة الإسلام السياسي الذي يعمل لإقامة الخلافة الراشدة، وهم في سبيل ذلك يطورون قوانينهم باستمرار حتى تلاحق هؤلاء أولاً بأول، ومن أساليب تطويرها المستحدثة إيجاد تلك الحالة الشاذة من الدعوة إلى الخلافة...
9-ضرب الإسلام السياسي الذي ينافس الرأسمالية ويهدد زوالها رغم أنه لا توجد له دولة. فبالدعوة إلى «محاربة الإرهاب» تستبق دول الغرب، وعلى رأسها أميركا، الأحداث وتضع معوقات ومزالق لتحول دون عودة الخلافة أو تأخير عودتها؛ فتشوهه من خلال الـ C.I.A وشركة البلاك ووتر الأمنية التابعة لأميركا؛ فتقوم بأعمال العنف هي وعملاؤها ومرتزقتها من جنسيات مختلفة من تفجير وقتل، وإظهار أن من يقوم بهذه الأعمال هم مسلمون ليلصق بالإسلام؛ فيكون رد الفعل عند الغرب ضرب البلاد الإسلامية محل إقامة هؤلاء الذين قاموا بالعنف.
10- إيجاد حالة من التوتر والبغض بين الجيش والأمة من جراء قيام الجيش بحملات تفتيش وقصف وقتل بالأسلحة والطائرات بطيار وبدون طيار ضد من يقوم بالتفجيرات والعنف؛ فيوقع فيها ضحايا وأبرياء ومدنيين ما يؤدي إلى أن ينقم أهالي الضحايا على هذه الحركات وعلى الجيش ليقوم أهالي الضحايا بالانتقام من الجيش، وكذلك تنشأ فتنة بين الناس على أساس العرق والطوائف والديانات والقوميات كما حدث في العراق بسبب هذه العمليات التي يجريها الجيش.
11- إنشاء منظمات والإيعاز إلى مراكز أبحاث، وتقديم ندوات وبرامج ثقافية وإخراج أفلام بعدة لغات تركز على خدمة أميركا وتعريفها لـ»لإرهاب» ويحدث هذا بدعم مالي منها.


4-صور من الإرهـــــاب الغـــربي :
عرَّف الغرب الإرهاب كما يريد وكما يشاء وفق مصالحه التي تعكس مبدأه القائم على فصل الدين عن الحياة. فبحسب تعريفه، الإرهاب هو القيام بقتل وإفزاع مدنيين بدافع سياسي. فلماذا عُرِّف بهذا التعريف؟ أليس لمصلحتهم؟ وهل يطبَّق هذا التعريف على الناس جميعاً سواء وافق مصالح الغرب أو تعارض معه، أو هناك ازدواجية في التعريف فينطبق على جهات ولا ينطبق على غيرها؟!.
نعم، إن الغرب عرَّف الإرهاب بهذا التعريف ليوافق مصلحته، ومصلحته هي القضاء على الإسلام العدو اللدود له بعد الاشتراكية، رغم أنه ليس له دولة، فما بالنا لو كان لنا دولة خلافة؟! لذلك كان المقصود بهذا الإرهاب الإسلامَ. وهو قد أوجد جماعات لتقوم بأعمال تشوِّه الإسلام، وتقوم بأعمال عدوانية يجد الغرب فيها ذريعة ليضرب الإسلام وبلاده ويحتلها. فبدون هذه الذرائع لا يتسنى له ذلك، وتأكيد هذا الكلام ما خرج من أفواه الغرب نفسه، فقد صرّح ريتشارد مايرز رئيس أركان القوات المسلحة الأميركية من خلال شهادته أمام لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس الشيوخ: «إن الإرهابيين في العراق يريدون إقامة خلافة إسلامية والعودة للقرن السابق» وكذلك تصريح جورج بوش في 8/10/2005م حيث قال» «يعتقد المقاومون المسلمون أنهم باستيلائهم على بلد واحد سيقودون الشعوب الإسلامية ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة، ومن ثم إقامة إمبراطورية إسلامية متطرفة تمتد من أسبانيا إلى إندونيسيا». وفي مؤتمر صحفي مطوَّل عقده بوش يوضح كيف أنه متابع لما وصل إليه ملف الخلافة عند دعاتها ما أكده في مؤتمره الذي عقده في 11/10/2006م حيث قال: «إن وجود أميركا في العراق هو لمنع إقامة الخلافة الإسلامية التي ستمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد مصالح أميركا في عقر داره. إن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية والحريات؛ ولهذا يريدوننا أن نرحل؛ ولكننا باقون حتى لا نندم. وليعلم الشعب الأميركي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان. هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم وإقامة دولة الخلافة. إن مغامرة الرحيل من العراق خطرة جداً إنها تعني التخلي عن جزء من المنطقة للمتطرفين الراديكاليين الذين سيمجدون النصر على الولايات المتحدة، وستمنحهم هذه المنطقة التي نخليها الفرصة للتآمر والتخطيط بمهاجمة أميركا، واستغلال الموارد التي ستمكنهم من توسيع رقعة دولة الخلافة» الله أكبر، الله أكبر، ماذا بعد هذا التصريح من عداء؟! ألد أعداء الإسلام بوش يصرح بهذا التصريح، فماذا بعد هذا التصريح من حقد على الإسلام، يا أمة الإسلام؟! فأين عقول المسلمين؟ وأين التدبر لخطورة هذا الكلام؟ أليس بوش هو الذي حدَّد أن عدوه الإسلام عندما قال إنها «حرب صليبية» قال تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. نعم هناك رجال يعملون لهذه الخلافة، وهي لن تأتي من الله إلا بعد الإخلاص والوعي والسعي والتضحية والصبر... ولكن المدقق والممعن للنظر والمتدبر لهذا التصريح من بوش يجد أنه يؤكد على أن إحلال الواقع الذي يحاول أن ينكره ويرفضه، وهو الخلافة، قادم، وما هي إلا مسألة وقت. ألم يذكر أنها دولة قوية تهدد أميركا في عقر دارها؟ الله أكبر على الظالمين  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ . ومن هنا كان من الطبيعي أن يبقى بوش في العراق خشية إقامة الخلافة لأنه بإقامتها سيكون زوال استعماره وزوال حضارته. وستكون نتيجته كما صرح «حتى لا نندم». ثم ألم يمدح حكام البلاد العربية بقوله: «ويمكنونهم من الإطاحة بكافة الحكومات المعتدلة في المنطقة» وبقوله: «هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم»؟ وهل يمدح هذا العدو اللدود للإسلام إلا من يحمل عقيدته وسياسته وفكرته وينفذ أوامره؟ وهل يمجد الكافر إلا عميله المنافق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ. لقد وصف بوش هذه الدول، دول الضرار، بالاعتدال فأي اعتدال هذا؟ إنه السير وفق نهجه وعكس أحكام الإسلام؛ إذ التطرف والأصولية والراديكالية حسب وصف بوش هي بالسير وفق أحكام الإسلام؟ وإذا لم يكن بوش وأشباهه هم أعداء الله والإسلام فمن هم هؤلاء إذن؟! ألم يذم بوش الراديكاليين والمتطرفين ويتخذهم أعداء عندما قال إنهم سينتصرون على أميركا من خلال زيادة مواردهم والتي ستمكنهم من اتساع رقعتهم حسب وصفه؟ فأين أنتم أيها المسلمون من هذا العداء الصريح؟.


إن هذا يذكرنا بتكذيب وتشويه وحرب كفار قريش لسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عندما كانوا يقولون إن محمداً يزعم أنه يكلَّم من السماء. فلمَ لا يحوِّل الصفا والمروة ذهباً؟. وكذلك عندما كان يجادل أُبَيّ بن خلف بعدما جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَظْمٍ حَائِلٍ فَفَتَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا أَرَمَّ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا وَيُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ». وكذلك الحال مع بوش، فهو يستهزئ ويشوِّه ويشنُّ حربه على الإسلام ويعمل على الصد عن الخلافة؛ لكن وعد الله وعد نافذ وأمره غالب... إن الله أنطق بوش بما أنطقه ليكون دافعاً لحمَلة الحق ودعاة الإسلام والخلافة لأن يجدُّوا من أجل السير من أجل تحقيق الغاية العظمى إرضاءً لله سبحانه وتعالى بإقامة الدين والخلافة الراشدة بعونه وحده.
إن «الإرهاب» الذي يقصده الغرب هو عينه الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لمن الطبيعي أن يحارب بهذه الشراسة والحقد لأنه المنافس الحضاري الجدي لحضارته المتهاوية، وهو بعد أن قضى على الشيوعية فلا يريد دولة خلافة جامعة للمسلمين مستقلة عنه بل دولاً تابعة ضعيفة يسهل السيطرة عليها في كل مواردها السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية ليحركها كيفما شاء ومتى شاء كما يفعل الآن حيث يسخرها لأهدافه في حربه على «الإرهاب» حسب التعريف المطاطي له، والذي لا يعد إرهاب الدول نحو المسلمين إرهاباً، بل دفاعاً عن النفس تجاه اعتداء الإرهابيين. ومن الجرائم الجسام العظام التي ارتكبتها الدول بحق الإسلام والمسلمين ولم تعدّ إرهاباً، بل اتهم الإسلام والمسلمون فيها بأنهم هم الإرهابيون نذكر:
1-قتلُ دكتاتور عصره الهالك ستالين لـ (11) مليون مسلم في روسيا وحدها.
2- احتلالُ يهود لفلسطين وارتكاب أبشع المجازر بحق أبنائها داخل فلسطين وخارجها من مثل مجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها 3500 ضحية.
3- مذابحُ أهل البوسنة في يوغسلافيا كمذبحة مسجد فوجا (12) ألف شهيد. و6 آلاف مسلم في جسر فورا.
4-قتلُ المسلمين الإيغور في الصين منذ عام 1945م، وقتل العلماء وإتلاف المساجد وتعطيلها.
5-قتلُ المسلمين بالحبشة على يد الطاغية هيلاسيلاسي حتى أحرق الشيوخ والأطفال والنساء بالنار والبنزين في قرية جرسم. وقتل 1000مصلٍّ في رمضان بالرصاص من قبل اللعين منغستو مريام بمدينة رايرادار بإقليم أوجادين.
6- مذابح المسلمين في الفلبين وقتل وحرق وبقر البطون، والذبح بالخناجر وقطع الرؤوس وانتهاك الأعراض.
7-مذابح المسلمين في الهند في أحمد آباد في عام 1970م التي راح ضحيتها 15 ألف مسلم باعتراف إنديرا غاندي وحرق 300 مسلمة، ومذبحة آسام الشهيرة التي راح ضحيتها 50 ألف مسلم على يد ا لهندوس.
8- حرق المسلمين في تايلاند حيث أحرق 100 مسلم شاب.
9-مأساة قتل المسلمين في كشمير حيث تم تقريباً قتل 44000 مسلم، وجرح ،67000، واعتقال 40000 وهدم قرابة 129000 منزل ومسجد، واغتصاب آلاف النساء.
10-مأساة المسلمين في تايلاند وبورما وليبيريا وسريلينكا وكوسوفا والشيشان وإندونيسيا وأفريقيا الوسطى... حيث قتل مئات الآلاف وأحرق الآلاف و تم فصل الرؤوس عن الأجساد واغتصاب النساء...
11- مجازر عدو الله بشار في سوريا التي وصلت إلى أكثر من 250 ألف مسلم، والسكوت العالمي على هذه المجازر لأنها ترتكب بحق المسلمين. ألا يعد هذا كله إرهاباً وإجراماً؟!. نعم، إن الغرب الحاقد يغمض عينيه ويغفل عن هذا كله ولا يصفه إرهاباً، إنها مآسٍ تدمي القلوب وتفطر الأكباد. إلا أنه لا يكفي أن يتألم القلب وتدمع العيون ونملأ الدنيا عويلاً وصراخاً إن لم نحرك ساكن النفوس، ونجعل من كل ذلك ناراً تحرق كل باطل، ونوراً يعيننا على التغيير فتبرأ ذمتنا أمام الله، عسى أن يطفئ ذلك غضب الله علينا بعد أن قصرنا طوال هذه السنين.
إن أميركا وحدها قامت باعتقال رئيس دولة بنما وحاكمته وسجنته، وقاتلت في فيتنام (15) سنة وارتكبت هناك أبشع الجرائم، وقصفت ليبيا مرتين، وضربت أفغانستان واحتلتها، وضربت ملجأ العامرية الذي استشهد فيه أكثر من (300) فرد حينها معظمهم أطفال، وضربت هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية حيث قتل فيها 200 ألف شخص، وغزت كوبا في خليج الخنازير، وقتلت أكثر من مليوني عراقي، ألا يُعدُّ هذا كله إرهاباً في حق الإنسان الذي تدعي، زوراً وبهتاناً، المحافظة على حقوقه!
وهكذا نرى أن أميركا والغرب أصحاب غرض في حربهم على الإرهاب بحيث ينصب جله على الإسلام الحق وعلى أصحاب المشروع الإسلامي، ويتغاضى عن إرهاب الدول التي تسير وفق مفهومها للإرهاب. وإلا فلماذا اعتبرت أميركا تفجير مبنى مكتب التحقيقات الفيدرالي في أوكلاهوما إرهاباً عندما حسبته من فعل المسلمين، ولكن عندما تبين لها أن وراءه منظمات أميركية غيرت رأيها وأصبح عملاً إجرامياً، وليس بإرهابي. وكذلك اعتبار أميركا لحركة ثوار نيكاراغوا حركة مقاومة، وكذلك جيش التحرير الأيرلندي، بينما تعتبر على النقيض من ذلك الحركات الجهادية الإسلامية حركات إرهابية... هذه هي الازدواجية في المعايير، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل دلالة واضحة على حربها الضروس على الإسلام، وعلى استخدام الإرهاب تارة وتعطيله تارة أخرى وفق مصالحها. أي إن «الإرهاب» هو الذي لا يتماشى مع مصالحها. والـ «لا إرهاب» هو الذي يسير وفق مصالحها. نعم هذه هي عدالة أميركا التي تقود العالم بمبدئها الرأسمالي الكافر الظالم!


بقلم: أ.ع  
المصدر: مجلة الوعي

القدس بين تاريخين


 بسم الله الرحمن الرحيم




 إن الكثير من الكتاب والمؤلفين والمحاضرين والمفكرين المعاصرين ، يتناولون القدس من جانبها المادي والواقعي ، دون أن يربطوها بجانبها الروحي الذي قرر لها مكانتها وقدسيتها . وهم بذلك إنما ينهجون نهج المفكرين الغربيين ، وينطلقون من وجهة نظرهم عن الحياة ، وهي عقيدة فصل الدين عن الحياة . يتناولون القدس تاريخيا من البدايات الأولى عبر حقب متناهية في القدم ، مرورا بمسيرة الأقوام والشعوب والدول التي تعاقبت على تواجدها في القدس ، ابتداء باليبوسيين حيث كانوا هم البناة الأول لهذه المدينة ، وكانت تسمى (يبوس) نسبة لهم ، وذلك قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد . 

 ويقتضينا البحث أن نأتي إلى نبذة تسلسل تاريخية مختصرة توضيحا لتبيين الحقائق ، وتثبيت الثوابت ، وإزالة الغموض . لقد استنجد أحد رجال السلطة اليبوسيين بالفرعوني تحتمس الأول سنة 1550 قبل الميلاد ، فدخلها الفراعنة آنذاك . وفي زمن رعمسيس الثاني وابنه مرن بتاح سنة 1350 قبل الميلاد ، دخل اليهود فلسطين من جانبها الجنوبي ، حيث انفلق أمامهم البحر بقيادة سيدنا موسى عليه السلام ، ولكنهم تاهوا في الصحراء حيث إنهم رفضوا الدخول كما أمرهم ، وتذرعوا بأن فيها قوما جبارين . فتاهوا في صحراء سينا مدة أربعين سنة . وبعد انقضاء مدة التيه هذه ذهبوا إلى جبال آدوم ومؤاب في شرقي الأردن ، ثم دخلوا أريحا وأحرقوها ، ثم احتلوا الجلجال وشيلوه وشكيم ، وكلها جعلوها طعمة للنيران . كل ذلك من هذه الأقوال يعتمد المؤرخون في توثيقه على أسفار التوراة وبعض النقوش والكتابات الحجرية . 

 ثم بعد ذلك جاء الأشوريون على ما كان يسمى مملكة إسرائيل وتغلبوا عليهم زمن سخاريب الأشوري . وبعد مضي فترة من الزمن دب الضعف في صفوف الأشوريين فجاء البابليون واحتلوا فلسطين ، وأخذوا القدس ، ثم نفاهم نبوخذ نصر إلى بابل واستعبدهم هناك وانقرضت مملكة يهوذا سنة 586 قبل الميلاد . وأما الحقبة التي تلي ذلك فهي مجيء الفرس ، وتغلب كورش الكبير الفارسي على البابليين سنة 538 قبل الميلاد ، وظلت تدفع الضرائب إلى الفرس ؛ بعدها جاء الإسكندر المقدوني اليوناني سنة 332 قبل الميلاد ، أخذها من الفرس ، وكان ملك الفرس يومئذ (دارا) . أما في عهد الرومان : فقد هاجمها القائد الروماني (بومبي) سنة 603 قبل الميلاد واحتلها . وفي زمن خليفته هيرودس وُلد السيد المسيح عليه السلام . ثم جاء بيلاطس (يوينتوس) وكان واليا على إدارة القدس على عهد الرومان ، وفي زمنه قام بمطاردة السيد المسيح وادعوا صلبه . وكذبهم القرآن الكريم في دعواهم هذه ، حيث رفعه الله إليه ، ونجاه من كيدهم . أما في العهد البيزنطي : فعندما تبوأ العرش الإمبراطور هرقل سنة 610 – 640م زحفت جيوش كسرى ملك الفرس غربا وبعد استيلائها على سوريا ، زحفت إلى فلسطين ، وفي سنة 614م احتلت القدس ، وذبحت (90) ألفا من المسيحيين . ولكن هرقل عاد واستجمع قواه وانتصر على الفرس سنة 627 للميلاد ، ودخل هرقل مدينة القدس سنة 629م . وفي هذه الفترة ظهر الإسلام . ووصل كتاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان في مدينة حمص آنذاك .

 وإلى هنا انقضى تاريخ وجاء تاريخ :

 أما التاريخ في حقبه الأولى ، وحتى مجيء الإسلام ، فإنه يعتمد على مصادر غير موثقة ، واستنتاجات عن أساطير كما يعتمد المؤرخون في توثيق الكثير من هذه الحقب على أسفار التوراة . ولكن لا ننسى أن أسفار التوراة ذاتها تحتاج إلى توثيق . لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنهم حرفوها وزادوا عليها وحذفوا منها ، ما يجعل منها مصدرا غير موثق . يأتي المؤرخون على سرد هذه المسيرة التاريخية ليثبتوا أن العرب كانوا سابقين إلى تواجدهم في القدس وفي فلسطين بفترة طويلة . حيث إن اليبوسيين هم كنعانيون ، وهم من أصل سامي أي ساميون . والعرب هم شعب من الشعوب المتعددة التي اعتنقت الإسلام ، وانصهروا في بوتقة العقيدة الإسلامية ، لتتكون منهم ومن غيرهم الأمة الإسلامية .

 وتعريف الأمة : هي مجموعة من الناس تعتنق عقيدة واحدة ينبثق عنها نظام يعالج شؤون الحياة . وهذا التعريف لا ينطبق على الشعب العربي ، لأنهم لا يملكون عقيدة خاصة بهم . فالعرب قوم ، والقومية ليست بعقيدة ، وإنما هي أحاسيس وعواطف تتحرك فطريا ، فلا تعطي فكرا ولا ينبثق عنها نظام . أما توثيق التاريخ ، وما هو التاريخ الذي يعتد به ، وما هو التاريخ الذي يرد ولا يعتمد ، أي لا يكون محل ثقة فإن هذا يعتمد على المصادر التاريخية التي يمكن أن تتخذ مصدرا للتاريخ .

 للتاريخ ثلاثة مصادر هي : الآثار ، والكتابات الشخصية أو ما يسمى المذكرات الشخصية ، والرواية . 

 أما المصدر الأول وهو الآثار – وهذا هو المرجع اليوم لكل الكتابات التي كتبت عن العصور السالفة أي ما قبل الإسلام – فإن الآثار في حد ذاتها إنما تعطي فكرة مجزوءة عن حقبة محددة ، وأكثر ما يظهر فيها هو إبراز الناحية الوثنية ، أو ملامح عن بعض المعتقدات المحرفة . فهذا المصدر التاريخي لا يكون موثقا في دلالته ، ودلالته تكون استنتاجية وحسب ميل المؤرخ الذي اعتمد عليها . وما نراه اليوم من هجمة فيها المغالاة إلى حد بعيد على التنقيب عن الآثار وإبرازها ، ووضع التفسيرات التي يريدونها لها سواء في الأردن أو سوريا أو العراق أو مصر أو اليمن ، أي في بلاد المسلمين بالذات . فهنا تكتشف آثار كنيسة أو دير ، وهناك تكتشف بعض الرسوم أو الكتابات على أوراق البرديّ أو النقوشات التي لها علاقة بمعتقد من المعتقدات المحرفة أو المعتقدات البائدة التي لم يبق لها وجود إلا في الآثار فقط كالفرعونية . فإنها وإن كان يظهر أن المراد من إبرازها هو من أجل السياحة أو بعض الدراسات العلمية ؛ ولكن الحقيقة التي لا بد من تأكيدها أن المراد من ذلك كله هو إبراز الناحية الوثنية ، وبالأخص ما له علاقة بالعقيدتين اليهودية والنصرانية . وهذا كله يشير إلى أن هناك خلفيات سياسية مقصودة ، لا محل لذكرها الآن . 

 أما المصدر الثاني للتاريخ وهو الكتابات الشخصية والمذكرات الشخصية ؛ فإنها في غالب الأمر تكون خاضعة لسنة المدح أو القدح . فلا يخلو الكاتب من أن يكون إما مادحا وإما قادحا . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : فإن الكاتب ينتابه الغلو في تفسيره لبعض الأحداث السياسية ، والمعارك القتالية ، فيفرغ ما وسعه من جهد لتزيين الأمر أو تقبيحه ، ومن رفع مقام الأشخاص الذين يكتب عنهم ، أو يحط من شأنهم . وقد تجلى هذا عند الكتابة عن الدولة العثمانية ، وحكم الأتراك (أي دولة الخلافة) فإنهم يبرزونها في أبشع صورها من الظلم والفساد والتأخر . كما ظهر تزويرهم للتاريخ في كتابتهم عن جمال باشا ووصفه بالسفاح ، لماذا ؟ لأنه أعدم من أسموهم بالأحرار العرب . وذلك لأنهم أغمضوا بصائرهم عن السبب الذي دعا جمال باشا لإعدامهم . وقد سموهم أحرارا لأنهم ناهضوا دولة الخلافة ، ودعوا إلى اللامركزية وإلى الاستقلال أي الانفصال عن جسم الدولة ، لأنها تركية وهم عرب . أي كانت هذه النظرة من زاوية قومية والدعوة إلى القومية محرمة في الإسلام . فهم بذلك خالفوا أحكاما شرعية كثيرة . كما تغاضى المؤرخون عن السبب المباشر الذي حمل جمال باشا على إعدامهم وهو اتصالهم بالدولتين البريطانية والفرنسية للمجيء لإنقاذ العرب من ظلم الأتراك (كما يقولون) أي كانوا يدعون إلى مجيء حملات صليبية جديدة . وقد اكتشفت أسماؤهم في القنصلية الفرنسية في بيروت ، وتواقيعهم على العرائض التي يطلبون فيها المجيء من بريطانيا وفرنسا . وهذا أمر موثق لا مرية فيه . ويظهر ذلك واضحا أيضا عند كتاب القصة ، حيث يطلقون لمخيلاتهم العنان في الوصف والربط والبناء والصياغة والسبك . 

وبهذا الصدد فإنني أتوجه بكلمة فيها لفتة إلى كتاب القصة والرواية أنهم وإن كانوا يبدعون في ذلك : فإن الأمة الآن في حاجة ماسة إلى العمل للنهضة والتغيير ، ولا يكون هذا إلا بالعمل الفكري الجاد الذي يتناول واقع الأمة الإسلامية ، وطراز العيش الذي تعيشه اليوم والتبعية المطلقة التي تقوم عليها اليوم من حيث هي جماعات أو أنظمة وحتى الأفراد . تبعية تظهر في كل أمورها وشؤونها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وأنظمة الحكم القائمة فيها على صعيد أكثر من خمسين كيانا . فالأمة الإسلامية اليوم ، لم تتسلم من الجيل السابق أفكارا تتعلق بالنهضة لتقيلها من كبوتها ، وتعيدها إلى مصاف الدول التي تمتلك الإرادة في إصدار القرارات الذاتية . ولا تتمتع بالسيادة التي تخولها تنفيذ القرارات السياسية . كما أنها لم تنتج هي الآن أفكارا من ذلك النوع الذي يتعلق بنهضتها وسيادتها ؛ وإنما هي تعيش عالة وتندفع تقليدا للغرب سواء في ثقافته عامة أو في معالجته لشؤون حياته أفرادا وجماعات . والمحصلة النهائية أنها لا تمتلك طريقة تفكير منتجة يشع تأثيرها ، ويتسع مداها حتى تدخل كل بيت ، وتطال كل شرائح المجتمع ، ويتركز وجودها في الأجهزة التنفيذية .. فصحة الفكر من صحة مصدره ، وصدق التشريع من صدق مشرعه . لا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر عنه التشريع ، ولا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر له التشريع ، حتى يتم التساوق بين حكمة المشرع وفطرة المشرع له . ووجهة النظر في الحياة وما ينبثق عنها من تشريعات ومفاهيم وما ينبني عليها من أفكار هي التي تشكل لون المجتمع ، وطراز العيش ، ونوعية النظام ، ووجهة النظر في الحياة هي التي تفسر معنى السعادة ، وتصور الحياة الدنيا على حقيقتها وهذه كلها في مجموعها هي الحضارة .  فلا بد أن ننفض عنا غبار التقليد للغرب ، ونريح عن كواهلنا نير التبعية التي نتلذذ بها . وأن ننبذ كل ما له علاقة بوجهة النظر الغربية ، وهي فصل الدين عن الحياة ، ونعود إلى النبع الصافي الذي ينبثق عنه وجهة النظر الصحيحة عن الحياة وهي العقيدة الإسلامية . هذا ما أردت أن ألفت نظر الكتاب والمفكرين اليوم إليه . هذه الناحية جديرة بالاهتمام والاهتمام بها والعمل لها فرض على كل مسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) . 

 وأما المصدر الثالث للتاريخ فهو : الرواية . وعلى هذا قام تاريخ الأمة الإسلامية … ابتداء بنقل اللغة العربية وتدوينها رواية يتحرى فيها الدقة في صياغة النص المروي وهو ما يسمى المتن ، كما يتحرى فيها أمور الرواة وحياتهم وصدقهم كما هو معروف في علم الجرح والتعديل . وكان هذا واضحا تمام الوضوح في رواية السنة المشرفة وتدوينها . وسار على هذا النهج كثير من المؤرخين الكبار مثل : الطبري وابن كثير وابن الأثير والذهبي والبغدادي وابن عساكر .

 جاء الإسلام رسالة من عند الله لينسخ ما سبقه من عقائد وأفكار وتشريعات

 1- يبدأ تاريخ القدس أولا من حيث قدسيتها ، فقد أثبت القرآن قدسية القدس أي ربطها بالعقيدة من حين نزول قوله تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" هذا قبل أن يظهر أن هناك مسجدا ثالثا وهو مسجد المدينة المنورة ، مسجد هجرته صلى الله عليه وسلم . وزاده الله قدسية أن بارك حوله ، فكان موضع الإسراء المذكور في الآية الكريمة ، وكان هو منطلق العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء . وجرت الأمور على طبيعتها ، واستقر الأمر لرسول الله في الجزيرة بأسرها ، وسارت الفتوحات سيرها الطبيعي ، وتسلم عمر بن الخطاب رضي الله مفاتيح القدس من البطريرك صفرونيوس في حين كانت محاصرة بالجيوش بقيادة أبي عبيدة رضي الله عنه سنة 15 للهجرة سنة 636 للميلاد . ومن قدسية القدس أنها ظلت ستة عشر شهرا قبلة للمسلمين في صلاتهم حتى تحولت القبلة إلى الكعبة . رب سائل أو معترض يقول : إن قدسية القدس قديمة قبل مجيء الإسلام بقرون … ودليل ذلك قول الله تعالى : "وإذ قال موسى لقومه … يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين" نقول : إن الله أثبت هذا ثم نسخه ، ينسخه لجميع الشرائع السابقة ، فاليهود والنصارى مأمورون ومخاطبون باعتناق الإسلام .

 2- الأمر الثاني من تاريخ القدس : طبيعة الأمر الذي استقر عليه وضع القدس عندما تسلم مفاتيحها عمر رضي الله عنه ، أن أعطاهم وثيقة استقر عليها وضع القدس من حيث الأمان ، وصيانة معابدهم وأن أخذ عليهم عهدا أن لا يساكنهم فيها أحد من يهود ، على أن يدفعوا الجزية ومارس النصارى فيها حياتهم اليومية على هذا الوضع المنصوص عليه في العهد العمرية ، بهدوء وأمان واطمئنان ، وهذه العهدة موجودة حتى الآن يحتفظ بها البطاركة عندهم إلى يومنا هذا . ومنذ تلك الساعات أصبحت القدس أرضا إسلامية جرت عليها أحكام الإسلام وخضعت لسلطان الإسلام ، وأمانها بأمان المسلمين ، وسكانها يحملون التابعية الإسلامية وغدت دار إسلام ، ينافح دونها . وحمايتها والدفاع عنها واسترجاعها فيما لو طرأ عيها عارض أو تغلب عليها مغتصب إنما يكون فرضا على جميع المسلمين ، وإلى يوم الدين .

 3- قلنا إن ما قبل نزول آية : "سبحان الذي أسرى بعبده …" ومن قبل تسلم عمر مفاتيحها ، ما قبل هذا التاريخ لا يؤبه له ، ولا قيمة له عمليا ، سواء كانت مكانا للهيكل الذي يزعم اليهود ، أو مكانا للنصارى بوجود كنيسة القيامة ، أو ما أسموه القبر المقدس كنيسة نصف الدنيا . كل هذا أصبح الآن منسوخا لا اعتبار له ، ولا قيمة له ، وليس لهم إلا ما أعطاهم الإسلام من ممارسة عباداتهم وطقوسهم الدينية ، ولهم الأمان ما حافظوا على العهود والمواثيق ، لأن صاحب الحق في الإثبات والنسخ وهو الله تعالى قد نسخ كل ما مضى من تاريخ وما تعلق به من حقوق قد نسخها كلها وأثبت الحقائق التي ابتدأت من حين نزول الآية المذكورة زمنا وعملا . فأحكام أهل الذمة ، وأحكام الجزية ، وأحكام حقوق المعاهدين والمستأمنين ، كلها منصوص عليها بنصوص قطعية ، وطبقت عمليا من قبل الخلفاء والولاة والعمال والقضاة . مع التمكين التام للنصارى من مزاولة شعائرهم الدينية واحترام حقوقهم ، ورعاية شؤونهم ، والنظر في مظالمهم كالمسلمين سواء بسواء مع المحافظة وعدم العبث أو التعدي على أماكنهم الدينية .

 4- فترة ما قبل الحروب الصليبية : من طبيعة الأنظمة والقوانين التي تطبق وتنفذ على بني البشر ، يكون التطبيق لها وتنفيذها من قبل بشر أيضا ، فيخطئون ويصيبون ، وتمر فترات فيها إساءة في التطبيق ، وهذا تابع لاستقرار الفكر ونموه وازدهاره ، فإن كان القائمون على أمر الرعاية والتنفيذ لديهم الوعي والتقوى والإخلاص ، ووضوح الرؤية والرقي الفكري ، مع وجود الفكرة وطريقتها واضحة ومستقرة في المجتمع ، يكون هناك إحسان في التطبيق . والعكس بالعكس . لقد مرت فترات كان الصراع الداخلي فيها محتدما بين كثير من الفئات والجماعات المتعددة هنا وهناك مما أوجد التفسخ والاضطراب في المجتمع الإسلامي ، أي كان وقتئذ إساءة في التطبيق ورعاية الشؤون . 

 5- فترة الحروب الصليبية ومجيء صلاح الدين : تلك فترة عصيبة ، وأحداثها دامية ، لأنها خرجت في مجرياتها عن طور الإنسانية ، سواء من حيث دوافعها أو الحيز الذي أشغلته تاريخيا ، أو الظاهرة الوحشية والإجرامية التي جرت ممارستها من قبل الغزاة الغاشمين الحاقدين . بعد مقاومة عنيفة استمرت أشهر من قبل حامية القدس دخلها الإفرنج ، وأفرغوا سموم حقدهم وغيظهم ، فأبادوا كل من كان فيها من المسلمين قتلا وذبحا وتقطيعا وحرقا بالنيران ، وقد جمعوا من كان فيها من اليهود ووضعوهم في كنيس وأضرموا فيهم النيران . وجاء صلاح الدين ، ودخل القدس من الثغرة التي دخل منها غودفري . ولكنه لم يعمل السيف فيهم ، وإنما أخرجهم منها عن بكرة أبيهم ، دون أن تمس امرأة أو طفل أو شيخ بأذى . وساعد على الخروج من لم تمكنه أحواله . والمؤرخون النصارى والمسلمون جميعا ينددون بالغزو الصليبي ويصفونه بأنه نشاز في تاريخ الإنسانية ، كما يثنون على صلاح الدين وإنسانيته ، ورعايته للمغلوبين .

6- أما فترة الحكم العثماني أو ما يسمونه الحكم التركي ، فإن سليم الأول دخل هذه البلاد سنة 1517 ، ودخل مصر وبويع بالخلافة كما دخل المدينة المقدسة . إن المنشآت المقامة والماثلة الآن ، والأسوار والعمارات معظمها من فعل العثمانيين ، فكان اهتمامهم زائدا بها وفي هذا رد على من يتهمون العثمانيين الأتراك بأنهم غزاة محتلون . والحقيقة أن الخلافة العثمانية حمت بيضة الإسلام مدة أربعة قرون كاملة من سنة 1517 – سنة 1917 كما لا ننسى الفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوربا لنشر الإسلام ، حتى طرقوا أبواب فينا ، واقتربوا من روما . وهذه منطقة البلقان تعج بالمسلمين الذين يضطهدهم الآن نصارى أوربا ، وأحداث البوسنة والهرسك وكوسوفا شاهدة على ذلك . في سنة 1882 أصدرت الحكومة التركية قانونا حرمت فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وشراء الأراضي . إلا أنها عادت فعدلته لتدخل ستراوس الوزير الأمريكي المفوض في استامبول ، ومنحت اليهود حق الدخول إلى فلسطين والبقاء فيها ثلاثة أشهر بقصد العبادة ، ثم بعد ذلك عدلت هذا القانون وحددت الإقامة بشهر واحد ، ومن تأخر يلاحق ويبحث عنه حتى يخرج . ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 راح الأتراك يطاردون الصهيونيين . وأصدر جمال باشا بوصفه القائد للجيش الرابع المرابط في فلسطين أمرا منع فيه رفع العلم الصهيوني في أي أرض تقع تحت حكمه ، كما منع أي لافتة تكتب باللغة العبرية ، وصادر جميع الطوابع والأوراق المالية التي تخص الحركة الصهيونية ، وألغى جميع المؤسسات اليهودية التي تكونت في فلسطين ، بعد أن دخلتها خفية . وجاء في البيان الذي صدر يومئذ 25 كانون الثاني سنة 1915 أن الحكومة فعلت ذلك بناء على ما لديها من معلومات تثبت أن بعض العناصر تتآمر باسم الصهيونية لإقامة مملكة يهودية في فلسطين . 

 ومن مواقف السلطان عبد الحميد :

 يقول : إن الصهيونية لا تريد أراض زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب . ولكنها تريد أن تقيم حكومة ، ويصبح لها ممثلون في الخارج . إنني أعلم أطماعهم جيدا ، وإنني أعارض هذه السفالة ، لأنهم يظنونني أنني لا أعرف نواياهم أو سأقبل بمحاولاتهم . وليعلموا أن كل فرد في إمبراطوريتنا كم يكن لليهود من الكراهية طالما هذه نواياهم . وإن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة . وإنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين ، لأنني لا زلت أكبر أعدائهم .

 ويقول الخليفة عبد الحميد رحمه الله في كتابه للشيخ أبي الشامات يبين له فيه سبب خلعه فيقول : … بعد هذه المقدمة .. أعرض هذه المسألة المهمة كأمانة في ذمة التاريخ : إنني لم أتخلّ عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى إنني – بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديداتهم ، اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة ، الإسلامية ؛ إن هؤلاء الاتحاديين أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين . ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف …

 ويقول هرتسل : بعث إلي السلطان وساما عالي الدرجة ، ومع الوسام جواب مفرغ في هذه العبارات : (بلغوا الدكتور هرتسل ألاّ يبذل بعد اليوم شيئا من المحاولة في هذا الأمر ، فإني لست مستعدا أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير . فالبلاد ليست ملكي ، بل هي ملك شعبي ، وشعبي روّى تربتها بدمائه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب) .

 7- القدس والاحتلال البريطاني : وجاء اليوم الذي عمل له من كانوا يسمون أحرار العرب بمناشدتهم لبريطانيا ، والتعاون معها للحضور سريعا لنجدتهم وتخليصهم مما يسمى ظلم الأتراك . وبدون متابعة ولا مقدمة أن تمهيد ، دخل اللورد اللبني القدس في 11/12/1917 ؛ دخلها ماشيا من باب الخليل ، وأعلن الأحكام العرفية ؛ وكان رئيس بلدية القدس هو موسى كاظم باشا الحسيني ، دخل اللبني الحرم ومعه كامل أفندي الحسيني مفتي فلسطين أخو الحاج أمين الحسيني . وعند دخول اللبني القدس ، أقيمت له منصة ووقف خطيبا وقال قولته المشهورة … (الآن فقط انتهت حلقة الحروب الصليبية) .

 وكانت بريطانيا قبل هذا التاريخ قد أعطت اليهود وعدا بإعطائهم فلسطين وطنا قوميا لهم ، وهو وعد بلفور . لقد أعلن الحسين بن علي ثورته على الأتراك بتاريخ 10/حزيران سنة 1916م هذه الثورة التي قال عنها اللبني في تقريره الذي رفعه إلى وزارة الحرب فور انتهاء القتال : (إن ثورة العرب ضد الترك قد ساعدت الحلفاء مساعدة كبيرة في الحصول على نتائج فاصلة في الحرب) . عندما وقعت اتفاقية (سايكس – بيكو) بين فرنسا وبريطانيا وتم تنفيذها ، واقتسام منطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام بينهما ، كانت فلسطين مستثناة ، إذ جعل لها وضع خاص لتكون فيما بعد وطنا لليهود ، وجعلت بريطانيا من نفسها منتدبة على فلسطين لمدة خمسة وعشرين عاما من قبل عصبة الأمم ، من أجل تهيئتها وطنا لليهود ، أي لتنفيذ وعد بلفور ، فعينت عليها أول مندوب سام ، وهو هربرت صمويل يهودي صهيوني متعصب من سنة 1920 – سنة 1925 .

 بريطانيا هي رأس الأفعى ، وهي أم الخبائث ، وهي جالبة المصائب والكوارث للمسلمين جميعا ، وهي التي مزقت الأمة الإسلامية إلى أكثر من خمسين مزقة . بريطانيا هي التي تضع العراقيل للحيلولة دون عودة الخلافة . 

بريطانيا هي التي دفعت الدول الموقعة على اتفاقية الهدنة في رودس لتوقيعها . بريطانيا هي التي حاكت مؤامرة حرب حزيران سنة 1967 وتسليم الضفة الغربية لإسرائيل . 

 بريطانيا هي التي وضعت قانونا يسمى (قانون الحكر) سمحت بموجبه باستئجار أراضي الوقف الإسلامي لمدة (99) سنة ، والمباني التي يمتلكها الكثير من اليهود والنصارى أخذت أراضيها وأقيمت بموجب هذا القانون .

 بريطانيا هي التي سهلت هجرة اليهود إلى فلسطين ، وهي التي سمحت وساعدت وعملت على بيع الأراضي لليهود .

 بريطانيا هي التي طرحت بالقضية الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة ، وتولتها معها أمريكا ليصدر قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 ثم يعلن قيام دولة لليهود سنة 1948 . وعندئذ غدت القضية تبحث دوليا . 

بريطانيا هي التي أبقت ما لديها من دبابات وسلاح لليهود عندما أنهت انتدابها وخرجت من فلسطين . بريطانيا (الصديقة) هي التي أسلمت الأمور لصنائعها وعملائها مطمئنة ليكملوا المسيرة التي يسمونها مسيرة السلام . ولكن لما كانت أمريكا تريد أن تخرج بريطانيا من مستعمراتها لتحل محلها ، أصبحت الآن تعمل جاهدة لتكون منطقة العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) منطقة نفوذ خالصة لها ، وأدخلت قضية فلسطين داخل هذه الدائرة ، فهي تتطلع إلى الاستئثار بمنابع البترول ، كما تريد أن تستأثر بالمكاسب التي تنتج عن حل قضية فلسطين بإقامة قاعدة عسكرية لها في الجولان وغير ذلك .

 وهذه الأحداث الدامية تتتابع متسارعة لنكون نحن المسلمين وقودا لها . قضية فلسطين الآن قضية سياسية ، وهي بين طرفين : 
- الطرف الأول : هم المسلمون جميعا . 
- الطرف الثاني : النصارى ومعهم اليهود أو اليهود ومعهم النصارى.

 فهي إذا قضية المسلمين ؛ والمسلمون اليوم لا دولة لهم تمثلهم واليهود جراء المؤامرات الخيانية أصبحوا لهم دولة قوية . فعلى المسلمين وجوبا أن يعملوا على إقامة دولة لهم لتطبيق شرع الله ، ورفع راية الجهاد ، واسترجاع فلسطين ، ولن تكون هذه إلا دولة الخلافة الراشدة ، ولتكون عاصمتها القدس كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( … ثم تأوي الخلافة إلى القدس ، ويكون ثم عقر دارها ، ولن يخرجها منها أحد بعد ذلك أبدا . )

((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .))

بقلم: ف.س