الجمعة، 15 يناير 2010

النهضة صفحة 8- 13


الفكر المستنير

أما الفكر المستنير فهو الأرقى ، وهو الفكر المؤدي إلى النهضة الحقيقية ، وهو الفكر الذي يجلي غوامض الأمور ، ولم يكتف بمعرفة أصول الأشياء وفروعها ، أو الوقائع ومسبباتها أو النصوص ومعانيها كما هي الحال في الفكر العميق إلا أنه يتعدى ذلك لمعرفة ما يحيط بهذه الأشياء وما حولها وما يتعلق بها.

فهو حين يبحث في الشيء فإنه لا يكتفي بالوصول به إلى معرفة وزنه النوعي أو تركيبه الذري بل لا بد من معرفة ظروفه وأحوله أي معرفة القوانين التي تتحكم به . والخواص التي يمتاز بها ، والتي يسير بموجبها سيراً جبرياً لا يستطيع الانفلات منها ولا التخلف عنها إلا إذا تغيرت حاله ، وتبدلت ظروفه إلى أحوال وظروف أخرى ، فتتحكم به القوانين والخواص الأخرى فحين يصل إلى هذا العمق في البحث لا بد أن يسأل عما يتعلق به أي من الذي أخضع هذا الشيء لهذه القوانين وسيره حسب هذه الظروف والأحوال وهذا يعني تسليط الأنوار على أجزاء الشيء والقوانين التي تتحكم فيه ،ومعرفة من أخضعه لتلك القوانين ولذلك سمي فكراً مستنيراً أي أنه لم يترك شيئاً إلا سلط عليه الأضواء وبين ما وراءه غير مكتف بالعمق ورافضاً للسطحية التافهة .هذه هي طبيعة الفكر المستنير وما يمتاز به عن الفكر العميق .

هذه هي الأفكار التي تتحكم في تصرفات الإنسان وسلوكه ،وعلى أساسها تتكون مفاهيمه وميوله ، وبها يحدد وجهة نظره في الحياة ويعرف معنى وجوده في الحياة . فهو الذي يختار مكانه ومكانته بين الناس . فهل يرتضي أن يكون منحط التفكير منخفض الإدراك ؟ هل يرتضي أن يكون سطحي التفكير قصير النظر ؟ هل يغوص في العمق ويترك ألف سؤال وسؤال من حوله هل يتهرب من الإجابة عن ربط الأسباب بالمسببات بقوله صدفة أو طفرة حين يعجز عن التعليل ؟ أم أنه يبتغي المكانة التي كرمه الله بها والنعمة التي حباه الله إياها نعمة العقل وكرامة الإنسان . يفكر كإنسان ويستعمل عقله لإدراك الأشياء وجلاء غوامض الأمور ومعرفة الحقائق . فلا بد له من تتبع الأحداث وربط الأسباب بالمسببات ومعرفة ظروفها وأحوالها وتسليط الأنوار الكاشفة لمعرفة ما يتعلق بها ، حتى يستطيع السير في طريق النهوض والارتقاء في مدارج الكمال عن عقل وبينة . لهذا ؛ فإننا نقول " ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان ، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها بما بعدها " وهذا يعني أن طريق النهضة هو نظرة الإنسان للإنسان نفسه وللحياة من حوله ، في هذا الكون الواسع الذي يعيش فيه ، حتى يتمكن من معرفة هذه المرحلة الزمنية التي يحياها الإنسان في هذا الوجود ، أي معرفة معنى وجوده في الحياة ولا يتأتى له ذلك إلا إذا تكونت لديه فكرة كلية عن الكون والحياة والإنسان ، ليقرر حقيقة ثابتة أهي أزلية خالدة أم أنها مخلوقه ؟ فإن تقرر لديه أنها مخلوقه فما الذي قبلها؟ أي لا بد من تكوين فكرة عن هذا الخالق الذي يستند الوجود إليه ، كما لا بد من تكوين فكرة كلية عما بعد الحياة الدنيا ، فما دام أن لهذه الحياة الدنيا بداية فلا بد أن يكون لها نهاية فما هي ؟ وما هي العلاقة بين هذه الأشياء جميعها وبين ما قبلها – أي خالقها – ؟ وما العلاقة بينها وبين ما بعدها ؟ أي هل أن هناك علاقة بين الحياة الدنيا وما قبلها؟ وهل هناك علاقة بين الحياة الدنيا وما بعدها ؟ وبالإجابة عن كل هذه التساؤلات يمكنه معرفة الحياة الدنيا ، أي معرفة المرحلة الزمنية التي يحياها . وبذلك يستطيع أن يعرف معنى وجوده في الحياة ، ومعنى هذه الحياة .

أما لماذا حتمية هذه التساؤلات وحتمية الإجابة عليها لتكوين فكرة كلية عنها ، ذلك لأن الإنسان مجبر على التعامل معها ، ولا يستطيع مطلقاً أن يعيش بمعزل عنها ، فهو فرد من بني الإنسان تربطه مع غيره من البشر علاقات حتمية لابد من تصريفها ، كما أنه يرى من حوله كائنات حية هو فرد منها ، ولا بد له من التعامل معها ، وتشاركه العيش على هذه الأرض ، في هذا الكون الواسع . وفي هذه الأرض أشياء وأشياء لابد له من استعمالها ، ففيها قضاء حاجته ، ومنها إشباع جوعته وتحقيق رغبته . خصوصاً وأن الله سخر له ما في الأرض جميعاً ، وباختصار إن هذا الإنسان صورة عن الكون بما فيه ، فهو يشارك الكون بتركيبه المادي ، ويشارك الكائنات الحية بالروح التي تسري فيه ، وينفرد هو بالطاقة العاقلة المسخرة لغيرها ، والتي هي مناط التكليف . من هنا كان لابد من تكوين فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة . فليعرف نفسه أولاً وليعرف الحياة التي تدب به وبغيره . وليعرف الكون الذي يعيش فيه لعله يستطيع معرفة الحياة الدنيا ، وما يترتب عليه في هذه المرحلة الزمنية التي سيقضيها . أي يعرف معنى وجوده في الحياة .

وبدون الإجابة على هذه التساؤلات وتكوين فكرة كلية عن الوجود ، بغض النظر عن صحة الإجابة أو خطئها ، فإنه يعجز عن تحديد معنى وجوده في الحياة ، فيهيم فيها على وجهه ، همه إشباع أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية لا يختلف عن أي حيوان آخر ، إن لم يكن أسوأ حالاً .{لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل}الأعراف (179) {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}الجاثية (24) .
إن هذه الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة لمعرفة معنى الحياة الدنيا الناشئة عن تلك النظرة الفاحصة الشاملة للكون والإنسان والحياة هي ما يطلق عليه العقيدة ، حيث عرفت العقيدة بأنها " الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة ، وعما بعد الحياة وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة وعلاقتها بما بعد الحياة " ولهذا كانت العقيدة هي الطريق الوحيد لإيجاد المفاهيم الصحيحة عن الحياة الدنيا ، ومعرفة هذه المرحلة الزمنية التي يقضيها الإنسان في الحياة ويعرف معنى وجوده وماذا عليه أن يفعل ، أي هي التي تحدد له وجهة نظره في الحياة ، ومنها تنبثق نظم حياته وضوابط سلوكه وتصرفاته ، ولذلك كانت هي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها جميع أفكارهم ، لأنها لم تترك شيئاً يمكن أن يقع عليه الحس إلا شملته بالفكرة الكلية الناشئة عن النظرة الفاحصة الباحثة ، وأعطت الإجابة الكافية عنه سواء ما يتعلق بسلوكه أم بأفكاره ، فهي قاعدة أساسية لها لأن الأفكار كما قلنا هي الحكم على الأشياء أو الوقائع أو الأحداث . وهذه هي الفكرة الكلية قد اشتملت على كل ما يمكن أن يقع عليه الحس ، فهي إذن قاعدة أساسية للحكم على أي شيء في الوجود باعتبار أنها أجزاء من تلك النظرة الشاملة لكل شيء في الوجود وأما أفعاله وتصرفاته التي يحتم أن تكون تابعة لوجهة نظره التي كونها عن الحياة ، ومعنى وجوده فيها ، فهي فرع من معرفة علاقته بما قبل الحياة والمتعلق بمصيره بعد الحياة ، فلا بد أن تكون جميع الأفعال والتصرفات – والحالة هذه – فروع انبثقت عن معرفة علاقته من حيث هو إنسان بما قبل الحياة الدنيا – أي علاقة الإنسان بما قبل الحياة ، أي بمن أوجده في الحياة ، على هذا الكون .

بقيت مسألة :
هل كل عقيدة تصلح للنهضة ؟ وهل كل عقيدة صحيحة ؟
إن كل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعد الحياة ، وعن علاقتها بما قبل الحياة ،و عن علاقتها بما بعد الحياة ، أي كل عقيدة تصلح أساساً للنهضة لأنها اشتملت على قاعدة أساسية للأشياء وقاعدة أساسية للعلاقات ، ومعرفة لوجهة النظر في الحياة ومعرفة لمعنى الحياة ، وبالتالي فإنها ترسم الطريق لحاملها للسير في طريق النهوض ، أي الارتقاء من حال إلى حال أفضل فرداً كان أم مجتمعاً . ومن هنا كانت العقيدة الشاملة لهذه الأسس جميعها هي أساس النهضة ، بل إن النهضة لا تتم إلا بها وعليها . أما إن كانت العقيدة قاصرة أي مقتصرة على جانب دون آخر ، وأهملت شيئاً مما يجب أن تشتمل عليه . فإنها لا تصلح بل ولا يصح أن نسميها عقيدة بناءاً على هذا التعريف وإن سميت فالتسمية مجازية ليس غير .

أما إنها فكرة صحيحة ، أو قاعدة صحيحة وتؤدي إلى نهضة صحيحة وانتقال بالفرد أو المجتمع إلى حال أفضل . فهذا يتطلب إقامة الدليل على صحة الفكرة أو القاعدة وإقامة البرهان على ذلك ، وبما أن العقيدة فكرة ، والمبحوث عنه "فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة " فكونها فكرة فإنها تخضع لما يخضع إليه أي فكر يراد معرفة صحته من بطلانه ، أي يراد محاكمته ومعرفة انطباقه على واقعه أم مغايرته له . إذ كل فكر هو حكم على واقع ، ومن صحة الفكر أن يكون منطبقاً على الواقع الذي أطلق عليه . كما أننا حين نحاكم الأفكار لمعرفة صحتها فلا بد لنا من مقاييس ثابتة ومعايير حقيقية تقرر حقيقة تلك الفكرة على أساسها . ولهذا كان لا بد من معرفة تلك المقاييس والمعايير حتى يكون الحكم واضحاً جلياً.

إن الفكرة حكم عقلي على واقع معين ، وحين نقول إنها حكم عقلي فلا بد إذا من الاحتكام إلى العقل أي إلى القواعد العقلية الصحيحة ، أي جعل العقل هو الحكم عليها ، وأن تكون مبنية عليه أي على ما يقطع العقل السوي بصحته . فالعقل يقضي مثلاً أن وراء كل أثر مؤثر ؛ وراء كل نظام منظم ؛ وأن كل منتظم بنظام احتاج إلى من نظمه وأن العاجز عن الكمال محتاج ، وأن المحتاج لا يستغني بذاته وأن من يعجز عن سد حاجته هو ، فهو عن سد حاجة الآخرين لنفس الحاجة أحوج ، وأن فاقد الشيء لا يعطيه ، كما يقضي العقل السلم بعدم اجتماع النقيضين ، كما يقضي للشيء بأحد أمرين الوجود أو العدم . هذه بعض القواعد التي هي مسلمات عقلية ، ولا بد منها ليبني عليها العقل أحكامه ويقيس عليها الآراء والأفكار ويستند إليه حين إصدار الأحكام ولكنه حين يتجاهل هذه القواعد وأمثالها أو يحكم بخلافها ، نقول إنه حكم عقلي ولكنه ليس مبنياً على العقل ، أي ليس مبنياً على هذه القواعد أو مستنداً إلى هذه المقاييس . تلك المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان من العقلاء .

إذا فالمقياس الأول في صحة تلك الفكرة – العقيدة – أن تكون مبنية على العقل حتى يقتنع بها كل صاحب عقل ، لا أن تترك الإجابة ويتساوى عندها الوجود والعدم ، أو تقنع بالحل الأوسط ، أو أن تجعل المادة مصدر التفكير ، أو أن تترك ما يتنافى معها للصدفة أو الطفرة . فالشرط الأول فيها أن تكون عقلية ومبنية على العقل .

أما المقياس الثاني فإنه مقياس من نوع آخر .
فالبحث متعلق بالإنسان ، ومعنى وجوده في الحياة ، ليعرف كيف يسير في الحياة ، ويسير أعماله وتصرفاته بحسب فهمه لمعنى الحياة . لذلك كان لا بد أن يكون واقع هذا الإنسان وفهم حقيقته هي مناط البحث . لأنها الواقع الذي نريد تطبيق الفكر عليه حتى يصح أن يصبح الفكر صحيحاً بانطباقه على هذا الواقع . لأن الفكر الصحيح هو من انطبق على واقعه . فما حقيقة هذا الإنسان ؟ أي ما الفطرة التي فطر عليها؟.

هذان المقياسان لا بد من محاكمة الفكر الكلية – العقيدة – بهما . المقياس الأول أن تكون عقلية مبنية على العقل ، والمقياس الثاني ، مطابقتها لواقع هذا الإنسان .أي موافقتها للفطرة التي فطر الإنسان عليها.

المقياس الأول:-وأعني به القناعة العقلية – والبناء على العقل فلا يظن ظان أن كل بحث عقلي هو بحث مبني على العقل ، أو أ، كل فكر حكم به العقل على واقع معين أن حكمه صحيح ، ومبني على العقل بل البحث العقلي وإصدار الحكم على الأشياء والوقائع والأحداث يحتاج إلى عناصر متعددة وقواعد مختلفة ومقاييس متنوعة لا بد له من استعمالها حين مباشرته العملية الفكرية لإصداره حكماً على شيء ، أو واقعة أو حدث ، وتتوقف صحة حكمه على صحة هذه العناصر والقواعد والمقاييس ، لأن العملية الفكرية لا بد فيها من عقل سليم يتولى عملية ربط ما عنده من معلومات بما نقله إليه الحس عن واقع معين أو حدث .

فالعناصر الأساسية للعملية الفكرية أربع: عقل سليم ، وحس صالح ؟ وواقع محسوس أو مشخص في الذهن ومعلومات مختزنة أو مكتسبة تفسر هذا الواقع أو الحدث . فيقوم العقل بعملية الربط بين هذه العناصر ويصدر حكمه على هذا الشيء أو الحدث.؟وهذه العملية الفكرية العقلية تتوقف صحة نتائجها على الدقة في فهم الواقع والتفقه فيه والحذر من انخداع الحس ، ثم الدقة في المعلومات المفسرة لهذا الواقع ، والتأكد من صحتها ، ثم الدقة في الربط بين المعلومات والواقع ، إلا أن ذلك لا يعني الصحة في الحكم ، إلا إذا كانت القواعد الأساسية والوحدات القياسية التي تحاكم على أساسها الأفكار والوقائع صحيحة يقينية .

فإذا كانت المعلومات المفسرة للواقع صحيحة ، والوقائع والمقاييس التي جرى قياس الواقع والمعلومات عليها صحيحة أيضاً وكانت عملية الربط بين هذه العناصر صحيحة كان الحكم صحيحاً ويعتبر حكماً عقلياً مبنياً على العقل ، أما إذا كانت المعلومات خاطئة أو كانت القواعد والمقاييس ليست من المسلمات العقلية ، أو لم يحسن الربط بين هذه العناصر فإن النتيجة تكون خاطئة ، أما إذا كانت المعلومات صحيحة والواقع صحيحاً وعملية الربط صحيحة إلا أن القواعد والوحدات القياسية المستعملة والتي جرى محاكمة الواقع عليها أثناء الربط ، ومحاكمة المعلومات عليها أثناء الربط بين المعلومات والواقع إذا كان غير صحيحة . كانت العملية الفكرية عملية فكرية عقلية ، ولكنها ليست مبنية على العقل لأن القواعد والمقاييس المستعملة لم تكن من المسلمات العقلية ، ولا مما قطع العقل السليم بصحتها ، ولذلك نقول أن النتيجة عقلية ، ولكنها ليست مبنية على العقل .
ولذلك كان الإحساس بالواقع لا يكفي ، بل لا بد من معرفة هذا الواقع معرفة مبنية على إحساس صادق ولذلك قبل الحكم ، فلا بد من قياس الواقع على قواعد الحس الصادق كي لا نخدع بمظهر من مظاهر الشيء ، أو نتصور السراب ماء ، كما لا بد من التفقه بهذا الواقع ، أي معرفة كافة جوانبه وظروفه وأحواله وما يتعلق به ، أي ما هي القوانين التي تتحكم به وما هي الأسباب والمسببات له ، كل ذلك لا بد منه قبل القيام بالعملية الفكرية أي ربط الواقع بالمعلومات ، أو المعلومات بالواقع ، كما لا بد من محاكمة هذا الواقع والمعلومات عنه وظروفه وأحواله ، وذلك بقياسها إلى قواعد معينة ، ومسلمات عقلية بحيث يجلى عنها كل غموض ويزول عنها كل إبهام .

بعد هذا الإحساس الصادق ، والتأكد من صحة هذا الإحساس ينتقل هذا الإحساس إلى الدماغ ليرى رأيه فيه ، فيقرر حقيقته ، إلا أن الدماغ لا يمكنه ذلك إلا أن الدماغ لا يمكنه ذلك إلا إذا حصل على معلومات تفسر له هذا الواقع ، سواء أكانت هذه المعلومات مختزنة ، أم مكتسبة ، وكما حاكم إحساسه على قاعدة أو قواعد معينة لا بد من محاكمة هذه المعلومات المفسرة لهذا الواقع كذلك على نفس القاعدة أو القواعد التي جرى محاكمة الإحساس عليها أي قياس هذه المعلومات على قواعد ثابتة ومسلمات عقلية تؤكد صحة المعلومات ، وعدم مخالفتها للمسلمات العقلية ، وما يقضي به العقل السليم ، ومن ثم يقوم الدماغ بعملية الربط بين الواقع والمعلومات ، وتكون النتيجة إذا صح الربط نتيجة عقلية مبنية على العقل ، إذاً فالعبرة في الأحكام العقلية حتى تكون مبنية على العقل يعود لمجموعة القواعد والمسلمات العقلية التي يجري قياس الواقع عليها ، أو قياس المعلومات بها أثناء عملية الربط وليس فقط لما يحكم به العقل ، وكما أن المسائل الرياضية لا تحل إلا بما وضع لها من قوانين وجداول واستعمال أي قانون خطأ يؤدي إلى أن كل حل يستعمل فيه هذا القانون أو الجدول خطأ وسيؤدي حتماً إلى نتيجة خاطئة ، ولو سار في حل المسألة سيراً صحيحاً . أما ما هي هذه القواعد والمسلمات العقلية ؟ إنها أفكار عامة وقواعد فكرية وضعها العقل السليم في فهم الأفكار الجزئية ، وإصدار الأحكام العقلية ، أي إيجاد الأفكار . مثلها مثل القوانين الطبيعية الفيزيائية والكيميائية والرياضية واللوغاريتم والجذر التربيعي وغير ذلك فقد وضع في كل مجالات المعرفة مسلمات عقلية يستعان بها في الفهم من مثل عدم اجتماع النقيضين ، والاثنين أكثر من الواحد والخط المستقيم أقصر الخطوط بين نقطتين ، ووراء كل أثر مؤثر ووراء كل نظام منظم ، وآلاف من مثل هذه القواعد وفي كل المجالات ، فاستعمال هذه القواعد والمسلمات العقلية أثناء العملية الفكرية يجعل النتيجة عقلية ، ومبنية على العقل ، أما محاولة التوفيق بين الوجود والعدم ، أو التوقف عن البحث في منتصف الطريق ، أو الاعتماد على الحدوث على الصدفة ، أو الطفرة أو أن الجماد مصدر التفكير ، وغير ذلك فإنه بالإضافة إلى بطلانها ، فإنها لا تصلح أن تكون قواعد أساسية يقاس عليها ، ولا يصح أن يقال لما بني عليها من أفكار أنها من أفكار مبنية على العقل ، فالابتناء على العقل يقضي بأن يكون الأساس الذي بني عليه أساساً عقلياً ، أي أن تكون القاعدة أو القواعد التي بني عليها أثناء الربط قواعد ومقاييس من المسلمات العقلية ، بل البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان من العقلاء .

ولذلك حين نريد أن نضع قاعدة أساسية لتفكيرنا ، وذلك بإعطاء فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، من حيث إنها هي الواقع الذي يمكن أن يقع عليه الحس ، وهي الشاملة لكل شيء . فلا بد من تقرير حقيقتها أولاً لنعرف أنها أزلية أم أنها مخلوقة لخالق ، فهذا الواقع المحسوس أي الكون والإنسان والحياة ، لا بد من التعمق فيه لمعرفته ومعرفة ظروفه وأحواله وما يتعلق به ، ومن هنا كان لابد من الرجوع إلى ما لدينا من معلومات عنها جميعها ، وما هي القوانين أو النواميس الطبيعية المسيرة لها . ومن ثم محاكمة هذا الواقع ومحاكمة المعلومات المتوفرة لدينا ، بقياسها جميعها إلى مجموعة القواعد والمقاييس العقلية المسلمة بها ، فحين نجد أن كل ما فيها محدود وأن كل ما فيها محتاج ، وأنها جميعها تخضع إلى نظام ينظمها ، وحين نعلم أن كل جزء من جزئياتها تخضع إلى قوانين ويحتوي على خواص لا يستطيع التخلف عنها ، حين نجد كل هذا في هذا الواقع ، وهذه المعلومات المفسرة له. ونردها إلى المقاييس والقواعد العقلية ، بل البدهيات العقلية والتي تقرر حقيقة واحدة ، وهي أن وراء كل نظام منظم ، ,ان كل منتظم بنظام لا يملك الخروج عنه ، وحين نشاهد ضمن هذا الواقع أن حرارة الشمس تختلف عن حرارة الأجواء المحيطة بها ، وحين نعلم أن هناك كثيراً من الشموس وكذلك فهي تختلف عن الأجواء المحيطة بها ، وأنها سراج منير يشع من حرارته ، ولكنه لا يستطيع أن يعادل الحرارة أو يتعادل مع ما حوله من أجواء ، حين نربط هذا الواقع بما عندنا من قواعد ومقاييس عقلية تقضي بأن كل جسم حار يفقد من حرارته تدريجياً حتى يتساوى مع محيطه ، فإننا نقضي يقيناً بأن لها نقطة بداية أي أنها ليست أزلية ، فيكون هذا الحكم حكماً عقلياً ومبنياً على العقل أي مبنياً على المسلمات العقلية أو البديهيات ، وحين نصل إلى أن لها نقطة ابتداء ، وأنها ليست أزلية فإن العقل يقصي بأن هناك من أوجدها ، وأن هناك من وهبها هذه الحرارة ، وأن هناك من أخضعها للنظم التي تنتظمها . هذا هو والحكم العقلي المبني على العقل وهذا هو الشرط الأول في الحكم على الفكرة الكلية بأنها صحيحة ، وأن هذا الحكم منطبق على واقعه تمام الانطباق فهو فكر صحيح .

مثال : إن كل شيء فيه حرارة يستمر في الإشعاع من حرارته إذا كان الجو من حوله دون مستوى حرارته ، فيستمر في الإشعاع حتى يتساوى من الجو المحيط به وتصبح حرارته مثل حرارة الجو المحيط به مثل كوب الشاي ، فلو صببنا الشاي في كوب وكانت درجة حرارة الشاي 90ْ فإنه يبدأ بالإشعاع من حرارته ، ويفقدها تدريجياً حتى يصل إلى درجة حرارة المكان الموجود فيه ، ونستطيع لو دخلنا غرفة ما ووجدنا فيها كأس من الشاي مازال ساخناً أن نحسب المدة التي سكب فيها ، وأما بعد أن يتساوى مع محيطه فإننا لا نستطيع تحديد المدة . إلا أننا نقول أنه قد مضت مدة طويلة على سكبه في هذا الكوب . هذا من حيث فقدان الحرارة ، وهناك مقياس آخر للإشعاع ، فالمواد المشعة تفقد من كتلتها بواسطة الإشعاع أجزاء وقد تتحول إلى عنصر آخر بسبب فقدان تلك الأشعة ، فاليورانيوم يتحول إلى رصاص بعد إشعاعه . وبناءاً على ذلك فقد حسبوا كتلة الرصاص المتخلف عن عنصر اليورانيوم بواسطة الإشعاع وأطلقوا على تلك الكتلة اسم كتلة نصف عمر حيث أن عنصر اليورانيوم عنصر مشع ويخلف بعد فقدانه ما يشعه كتلة من الرصاص . ولهذا سموا هذه الكتلة كتلة نصف العمر.

وبناء على قانون الحرارة كذلك فإنهم يحسبون للشمس متى تنتهي وذلك بحساب كمية ما تشعه من حرارة ، ويقولون إنها بعد كذا من السنين ستفقد حرارتها ، وذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إن هناك نجوماً كثيرة فقدت حرارتها وطفئت ، ,أصبحت تشكل بقعاً سوداء وقد حسبوا أيضاً ما ينتج عن ذلك الإشعاع من زيادة كثافة الجسم المشع ، وبالتالي فإنهم يقولون أن الشمس حين تفقد الكثير من حرارتها ، فإن هذا سيزيد من كثافتها وبالتالي من قوة جاذبيتها !!! وستجذب إليها مجموعتها ، وبهذا نهاية العالم . هذا ما ذهبوا إليه ولا يهمنا ما ذهبوا إليه في بحوثهم إلا أن المسلم به عقلاً ، أن كل جسم حار يستمر بفقدان حرارته حتى يتساوى مع محيطه ، وهذا يعني أن هذه الأجرام السماوية المشعة للحرارة لم تمض عليها المدة الكافية لتتساوى مع محيطها ، وهذا يعني أن لها نقطة بداية ، بدأت منها ، أي أنها ليست أزلية وهذا ما يقطع به العقل السليم وهذا ما نعني به أن تكون عقلية ، ومبنية على العقل .

وأما المقياس الثاني ، وهو مطابقة الفكرة لواقع الإنسان { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }الروم (30) فإنه مثلما عرفنا واقع الأشياء معرفة حقيقية وتفقهنا فيها حتى استطعنا أن نحكم عليها ويكون حكمنا مطابقاً للواقع . أي بعد أن قسنا واقع الأشياء والمعلومات المفسرة لها على القواعد العقلية المسلم بها ، ولذلك كانت النتيجة مطابقة للواقع تماماً . كذلك الأمر لا بد من معرفة واقع الإنسان معرفة حقيقية وقياس هذه المعرفة على القواعد العقلية المسلم بها .
ولهذا كان لابد من معرفة واقع الإنسان معرفة حقيقية ، والحصول على معلومات عن هذا الكون والإنسان تكفي لتفسيره ومعرفة حقيقته ، ثم يجري قياس هذه المعلومات ، وقياس واقع الإنسان على القواعد العقلية المسلم بها أثناء الحكم على هذا 1لإنسان . ليكون الحكم مطابقاً للواقع .

نعم لا بد من معرفة واقع الإنسان لأنه هو مناط التكليف ، وهو موضوع البحث ، وهو الباحث وهو الذي يبحث عن معنى وجوده في الحياة ليحدد سيره فيها وهو الباحث عن سعادته لذلك كان لا بد أن يكون ما حكمنا به على الأشياء بالإضافة إلى كونها عقلية ومبنية على العقل لا بد أن تكون مطابقة لواقع هذا الإنسان أي موافقة للفطرة التي فطر الناس عليها ولا يمكننا معرفة موافقة هذا الحل للفطرة أو مخالفته لها إلا إذا عرفنا مكونات هذا الإنسان ومقوماته ، وبواعث الطمأنينة في نفسه حتى يقضي هذه الفترة الزمنية على خط مستقيم وطمأنينة دائمة وليتخلص من الشقاء الذي يعانيه وحالات القلق والإضراب التي تنتابه ولعلنا نرتقي به إلى المستوى الإنساني الذي كرمه الله به لهذا كان لابد من التفقه في واقع هذا الإنسان .

قلنا منذ البداية أن الإنسان يسير سلوكه وينظم تصرفاته تبعاً لمفاهيمه عن الحياة وهذه المفاهيم هي مجموعة الأفكار التي صدق بها الإنسان وأدرك واقعها وأن هذه الأفكار هي مجموعة أحكام أصدرها العقل عن وقائع وأحداث وأشياء محدداً موقفه منها وبناءاً على هذا يتبين أن المسير لسلوك الإنسان هو هذه القوى العاقلة التي حباه الله بها ولهذا كان لابد أن تكون هذه الأحكام الصادرة عن القوة العاقلة في الإنسان مطابقة ومتفقة مع مكونات هذا الإنسان ، مقرة بها عاملة على استقرارها وطمأنينتها وبعبارة أخرى أن تكون الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة متفقة مع فطرة الإنسان وما جبل عليه أي متفقة مع ما يتكون منه جسم هذا الإنسان فما هي هذه المكونات .

أولاً : المكونات العضوية – التركيب العضوي :
من المعروف بداهة أن التركيب العضوي للإنسان يتطلب عناصر أساسية لابد من توفيرها حتى يحفظ جسم الإنسان من الهلاك ويحافظ على نموه وقدرته على الحركة وتتمثل هذه العناصر بكافة ما يحتاجه الإنسان من طعام وشراب وما يحويه الطعام والشراب من عناصر يحتاجها الجسم . بالإضافة إلى ما يأخذه مباشرة من الهواء من الأكسجين وغيره من العناصر وكما احتاج هذه القوة والبناء فإنه يحتاج إلى طرح النفايات والفضلات فأي فكرة أساسية لا تراعي هذا التركيب العضوي ولا تتوافق مع هذه الحاجات ولا تعمل على إشباع هذه الجوعات فإنها فكرة هدامة تعمل على فناء الجنس البشري وتحطيم حياته .

ثانياً : التركيب الغريزي ( النفسي ) :
إن من المعروف بداهة كذلك ، أن هذا الإنسان حريص على بقاء حياته كل الحرص وأن هذا بالنسبة إليه قضية مصيرية يقاتل عليها حتى الموت كذلك فإن حرصه على بقاء النوع الإنساني لا يقل عن حرصه على بقاء جسمه فحرصه على والديه وحرصه على بنيه واستعداده لأن يفدي أياً منهم بنفسه وماله ، يظهر لنا بوضوح أن قضية حرصه على بقاء النوع الإنساني قضية مصيرية يتخذ حيالها الحياة أو الموت وأحب أن ألفت النظر إلى جزئية هامة من المحافظة على بقاء النوع ، وأقول جزئية منها من حيث نقائها فقط . وأعني بذلك مسألة العرض ، فقضية العرض موضوع واضح للعيان ومعروف أنه من القضايا المصيرية التي يتخذ الإنسان حيالها الحياة أو الموت فبقاء النوع والنوعية الإنسانية أمر حتمي ، وقضية مصيرية . كما أنه حريص جداً على ملجأ يلوذ إليه عند الشدة ويهرع إليه عند الحاجة حين يقل الناصر ويفتقد المعين … أي حين لا يستطيع أحد أن يسد حاجته أو يؤمن روعته وقد أطلق على هذه الأحاسيس النفسية ، والمشاعر الذاتية الدافعة اسم الغرائز . وهي طاقة كامنة وبواعث على الحركة والاندفاع دائماً .

وإنه وإن ذهب بعض الناس في تقسم الغرائز وتعدادها حتى زادت على المائة إلا أننا نرد كل تلك المظاهر التي حسبوها غرائزه إلى الأصل الذي انطلقت منه فيه لا تعدو ثلاثة أصول تشمل كل نواح الحياة عند الإنسان : حبه للبقاء وحرصه عليه ، وحبه للنوع أي لنوع الإنسان واستمرارية تناسله وحرصه عليه ، وحبه للأمن والطمأنينة وحرصه عليه . ولكل أصل من هذه الأصول مظاهر متعددة تظهر كل ما وجد الباعث على ظهورها فهو يخاف حين يوجد الباعث على الخوف إما من واقع مشخص أمامه يبعث على الخوف وإما من تداعي أفكار الخوف من واقع مشخص في الذهن على أنه موجود في الخارج حرص منه على بقائه وسلامة نفسه واستمرار حياته ، وهو يميل إلى الفتاة حين وجود الفتاة أو التفكير بفتاة مشخصة بالذهن ، وذلك حرصاً منه نفسياً على استمرار النوع الإنساني ، وهو يلهج بالدعاء والتوسل إلى الله حين يكون في مأزق لا يجد من يخلصه منه أو حين يفكر في الحصول على أمر بعيد المنال .

ولكل واحدة من هذه الغرائز الثلاث مظاهر متعددة تنبعث منها مشاعر ضاغطة على نفس الإنسان كلما حدثت في النفس جوعة غريزية لأحد هذه الغرائز أو لمظهر من مظاهرها . حتى يندفع الإنسان في إشباع هذه الجوعة ، أو البحث عن وسيلة لإشباعها ويبقى عامل الضغط على النفس البشرية قائم مسبب القلق والاضطراب له حتى تزول أسباب تلك الجوعة أو يشبع تلك الجوعة أو يتهيأ لها وسيلة لإشباعها . ولا يقال : إن هذه أمور ليست أصيلة في النفس وإنما هي صفات مكتسبة ، وأشياء أملتها على الإنسان ظروف عيشة وطبيعة حياته ، ولا يقال ذلك ، لأن الملاحظ أن الطفل منذ لحظة ولادته توجد معه هذه الأمور مشاهدة بالحس ، قبل أن يستطيع التقليد أو الاكتساب ، فحنينه إلى أمه وصراخه من الألم وحبه لامتلاك كل شيء ممن حوله ، كل هذا يؤكد فطرة هذه الأمور معه وليست صفات مكتسبة من مجتمعه ، ولا ينكر وجودها إلا مكابر والعياذ بالله . وهل هناك مكابر أكبر من الذين يقولون أن غريزة التملك تنشأ من المجتمع الرأسمالي والمفاهيم التي تعطى عنها وليس في الإنسان غريزة تملك ، وإنما هي صفات مكتسبة لقنها الطفل من صغره . فمن علم الطفل الرضاعة وحرصه على ثديّ أمه ، ومن علمه الحرص على لعبته ، ومحاولة امتلاك لعبة غيره إن وجدت.

كانت هذه لمحة موجزة عن تركيب هذا الإنسان ذلك التركيب الفطري الذي لا مجال لتجاهله أو إهماله أو تغييره (( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله )) وإلا أدى ذلك إلى فناء الإنسان وانقراضه ، بتجاهل الحاجات العضوية ، أو تجاهل غريزة النوع أو أدى إلى ترك الإنسان حبيس الهواجس والقلق والاضطراب لعدم تمكنه من إشباع جوعاته الغريزية والأحاسيس الفطرية التي تضغط على أعصابه حتى تسبب له الشقاء والتعاسة .

كانت هذه اللمحة السريعة لمعرفة مدى أثر الفكرة الكلية وما ينبثق عنها من نظم على هذا الإنسان الذي هو موضع البحث ، والمشكلة التي يراد لها حل . فأية فكرة كلية -عقيدة- وما ينبثق عنها من معالجات لم تأخذ بعين الاعتبار هذه المكونات للنفس البشرية ، تعتبر فكرة خاطئة ، ولا تصلح للنهضة الصحيحة ، لهذا الإنسان أو للمجتمع البشري .ومن هنا كان المقياس الأول وهو أ، تكون تلك الفكرة عقلية ومبنية على العقل ، مقياساً حقاً ، وكان المقياس الثاني وهو موافقة تلك الفكرة الكلية لفطرة الإنسان مقياساً حقاً كذلك وأية فكرة كلية -عقيدة – تخالف هذين المقياسين أو أحدهما فهي فكرة خاطئة ولا تصلح للنهضة الصحيحة .

فحين تقرر فكرة ما مثلاً كبت غريزة النوع أو نشر فكرة الرهبنة والعزوف عن الزواج وتحريمه ، فإنها فكرة خاطئة لأنها لم تراعي غريزة النوع الموجود فطرياً في الإنسان فلو التزم كل إنسان بهذه الفكرة إذا لانتهى الجنس البشري بعد سنوات معدودة من اعتناق مثل هذه الفكرة .

" ذهب جماعة من الصحابة إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته ولما أجيبوا فكأنهم تقالّوها فقالوا : إن رسول الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ثم قال أحدهم : أما أنا فسأقوم الليل ولا أنام أبداً ، وقال الثاني : أما أنا فسأصوم ولا أفطر أبداً وقال الثالث : أما أنا فسأعتزل النساء ، ولما بلغ ذلك رسول الله خطب الناس في المسجد وقال ( ما بال أناس يقولون كذا وكذا . أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فهذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ) " .

هذا من حيث مخالفة الفكرة لفطرة الله التي فطر الناس عليها ، كما أنه حين تقرر فكرة كلية ما كبت غريزية البقاء أو كبت أحد مظاهرها مثل مظهر حب التملك أي ما يسمونه غريزة التملك باعتبارها عادة مكتسبة فانه بالرغم من عجزهم عن ذلك ، فظاهرة التملك موجودة عند الطفل الذي لم يكتسب بعد ممن حوله أي شيء ، إن محاولة كبت هذه الظاهرة هي محاولة فاشلة ، وإنها تسبب حتماً شقاء الإنسان وتعاسته لمخالفتها لفطرته ولذلك نقول : إنها فكرة كلية خاطئة ولا تصلح لنهضة الإنسان نهضة صحيحة ، أو جلب الهناءة و السعادة له . ولا يمكن تحقيقها إلا بالقوة والإجبار .

وكذلك فإن أي فكرة كلية تحاول منع الإنسان من الإحساس بالحاجة إلى قوة يلجأ إليها كلما وقع في شدة أو مسه ضرر فإنها فاشلة لأنها لن تستطيع إزالة هذا الشعور فكل ما تستطيع فعله أنها تصرف هذا الشعور بالتقديس والاحترام إلى جهة أخرى . أما أن تزيل ذلك الشعور فهذا ضرب من الخيال . فتصرفها إلى تقديس واحترام الدولة أو شخص أو زعيم أو غير ذلك فيهي تماما مثل محاولة إقناع بالعزوف عن الزواج ليشبع نفسه بالزنى أو اللواط فهي محاولة لإشباع جوعة النوع إشباع خاطئ أو إشباع شاذ لأحد المظاهر .

أما الفكرة الكلية الصحيحة – العقيدة – فهي الفكرة التي لم تهمل ما فطر عليه الإنسان من حاجات عضوية أو جوعات غريزية بل عمدت إلى تنظيم هذه الجوعات جميعا ولم تكبتها ، ونسقت فيما بينها تنسيقاً دقيقاً ولم تطلقها ، بحيث إنها لم تسمح بإشباع واحدة على حساب الأخرى . مثل هذه الفكرة ، التي حكم المقياس الثاني بصحتها أي بموافقتها لفطرة الإنسان ، نقول أن مثل هذه الفكرة الكلية صحيحة ، ما دام قد توفر فيها الشرطان :

أ – أنها عقلية مبنية على العقل
ب – أنها موافقة لفطرة الإنسان

ومن هنا نجزم أن الفكرة الكلية – العقيدة – أي القاعدة الفكرية التي يبني الإنسان عليها أفكاره ، وتنبثق عنها أنظمة حياته هي التي يجب أن يتوفر فيها شرطان ، أن تكون عقلية ومبنية على العقل حتى تحصل القناعة العقلية وأن تكون موافقة لفطرة الإنسان وبذلك تحصل الطمأنينة للقلب . وهذا ما يؤدي إلى سعادة الإنسان ، وهي القاعدة التي ينطلق منها لتحقيق النهضة لبني الإنسان .
فقناعة العقل هي التي ينطلق منها الإنسان في تصريف شؤونه وموافقة الفطرة هي الباعث على طمأنينة قلبه .

ليست هناك تعليقات: