الجمعة، 21 مايو 2010

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (5)



بسم الله الرحمن الرحيم

الصحة الفردية:

2- العِلاجُ

أَمَرَ الرَّسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمينَ بالتَّداوي على وجهِ النَّدْبِ، وأَعْلَمَهُمْ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى ما أنزلَ داءً إلا وأنزلَ لهُ شفاءً وعلاجًا، سواءَ توصَّلَ الإنسانُ إلى هذا العلاجِ أمْ لمْ يَصِلْ بعدُ إليهِ، وإذا لاءَمَ الدواءُ الداءَ بَرِئَ المريضُ بإذْنِ اللهِ، وفي هذا حَثٌّ للإنسانِ على السَّعْيِ للتداوي وتحصيلِ البُرْءِ بإذنهِ سبحانه وتعالى الذي خلقَ في الدواءِ خاصيةَ الشفاءِ. قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"، وفي حديثِ أسامةَ بنِ شريكٍ رَفَعَهُ: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ مَعَهُ شِفَاءً، إِلا الْمَوْتَ وَالْهَرَمَ"، أخرجهُ أحمدُ والبخاريُّ في "الأدبِ المفردِ" والأربعةُ وصحَّحَهُ الترمذيُّ وابنُ خزيمةَ والحاكمُ. ولذلكَ فإنَّ في الطبِّ خيرًا وإنْ كانَ المرضُ منهُ سبحانه وتعالى، لأنَّ العلاجَ منهُ سبحانه وتعالى كذلكَ، فقدْ روى الإمامُ مالكٌ في المُوَطَإِ حديثًا مُرْسلاً عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلاً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارٍ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ، فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ لَهُمَا: "أَيُّكُمَا أَطَبُّ؟" فَقَالا: "أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الأَدْوَاءَ".

كما أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) تَلَقَّى العلاجَ في مرضِهِ آخِرَ حياتِهِ، روى الإمامُ أحمدُ في مسندِهِ عنْ عائشةَ (رضي الله عنها) أنها قَالَتْ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَنْعَتُ لَهُ الأَنْعَاتَ وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ"، وَالحَدِيثُ حَسَّنَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ.

أما لماذا كانَ أمرُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتداوي في الأحاديثِ على وجهِ النَّدْبِ وليسَ الوجوبِ، فلأنهُ لمْ تَرِدْ في الأحاديثِ قرينةٌ تَدُلُّ على الجزمِ في الأمرِ وأنهُ للوجوبِ، ومجردُ الأمرِ بالتداوي في الأحاديثِ لا يفيدُ الوجوبَ إلا بقرينةٍ، وهوَ هُنا لا يفيدُ إلا الندبَ لأنَّ هذهِ الأحاديثِ ليستْ إلا مجردَ إخبارٍ بأنَّ لكُلِ داءٍ دواءً، وإرشادٌ إلى التماسِ الدواءِ لتحصيلِ الشفاءِ. كما أنهُ وردتْ أحاديثُ أخرى دَلَّتْ على جوازِ تركِ التداوي، كقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "‏يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ"، قَالُوا: "وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "هُمْ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ وَلا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"، رواهُ مسلمٌ. وَتَرْكُ الرُّقْيَةِ وَالكَيِّ هوَ تركٌ للتداوي، لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ"، رواهُ البخاريُّ. ومعَ ذلكَ أخبرَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهمْ يدخلونَ الجنةَ بغيرِ حسابٍ، لتركهِمْ الأمرَ لربهمْ وَتَوَّكُلِهِمْ عليهِ في كلِّ أمورِهِمْ. وفي حديثٍ آخرَ عندَ البخاريِّ أنَّ ابنَ عباسٍ (رضي الله عنه) قالَ لعطاءٍ بنِ أَبي رَبَاحٍ: "أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟"، قالَ عطاءٌ: "بَلَى"، قَالَ (رضي الله عنه): "هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي. قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا". ويدُلُّ تخييرُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) للمرأةِ بينَ الصبرِ على الصرعِ مقابلَ الجنةِ، وأنْ يدعوَ اللهَ لها أنْ يعافِيَها منَ الصرعِ، على جوازِ تركِ التداوي. ولشدةِ حَثِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوي كانَ الأمرُ بالتداوي في الأحاديثِ السابقَةِ مُفيدًا للنَّدْبِ وليسَ مُجَرَدَ الإباحَةِ.

هذا بالنسبةِ للتداوي وطلبِ العلاجِ، أما بالنسبةِ لتوفيرِ العلاجِ للرعيةِ فهوَ فرضٌ على الدولةِ للأدلةِ التي سُقْناها سابقًا على فرضيةِ الرعايةِ الصحيةِ، حيثُ إنَّ العلاجَ جُزْءٌ منَ الرعايةِ الصحيةِ.

ويشملُ ما على الدولةِ توفيرهُ لرعيتِها منْ علاجٍ وتوابِعِهِ، الأمورَ التاليةَ:

أ) التَّطْبِيبُ وَالتَّمْرِيضُ وَالدَّوَاءُ: الطِّبُّ علاجُ الجسمِ والنفسِ، والطَّبيبُ في الأَصلِ: الحاذقُ بالأُمورِ، العارفُ بها، وبهِ سُمِّيَ الطبيبُ الذي يُعالجُ المَرْضى. جاءَ في مسندِ الإمامِ أحمدَ عنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ قالَ: "انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي وَأَنَا غُلامٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَقَالَ لَهُ أَبِي: إِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ، فَأَرِنِي هَذِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي بِظَهْرِكَ (ويقصدُ خاتمَ النُبُوَّةِ)، قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): وَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟، قَالَ: أَقْطَعُهَا. قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): لَسْتَ بِطَبِيبٍ، وَلَكِنَّكَ رَفِيقٌ، طَبِيبُهَا الَّذِي وَضَعَهَا (وَقَالَ غَيْرُهُ الَّذِي خَلَقَهَا)". والحديثُ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر، ومعنى قولهِ لستَ بطبيبٍ ولكنكَ رفيقٌ أيْ أنتَ ترفقُ بالمريضِ وتتلطفُهُ واللهُ هوَ يبرئُهُ ويعافيهِ.

وقدْ أَمَرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سعدَ بنَ أبي رَافِعٍ (رضي الله عنه) حينَ مَرِضَ أنْ يأْتِيَ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ الثقفيِّ المُلَقَّبِ بطبيبِ العربِ ليعالجَهُ. روى الطبرانيُّ في المُعْجَمِ الكَبِيرِ عنْ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي رَافِعٍ (رضي الله عنه) قالَ: "دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَعُودُنِي، فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي، فَقَالَ: إِنَّكَ رَجُلٌ مَفْؤُودٌ، فَائْتِ الْحَارِثَ بنَ كَلَدَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَتَطَبَّبُ، فَلْيَأْخُذْ خَمْسَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ، فَلْيَجَأْهُنَّ بنوَاهُنَّ، ثُمَّ لِيَدْلُكَ بِهِنَّ"، وَقالَ الهَيْثَمِيُّ في مجمعِ الزوائدِ عنْ هذا الحديثِ: "فيهِ يونُسُ بنُ الحَجَّاجِ الثَّقَفِيُّ وَلَمْ أَعْرِفْهُ، وَبَقِيَّةُ رِجالِهِ ثِقاتٌ"، وَيونسُ هذا قالَ عَنْهُ ابنُ حَجَرٍ في تَهْذيبِ التَّهْذِيبِ إِنَّهُ ثِقَةٌ، وَعَلَيْهِ فَجَميعُ رِجالِ الحَديثِ ثِقاتٌ. وَرَوَى أحمدُ في مُسْنَدِهِ وَصَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ، أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَادَ رَجُلاً بِهِ جُرْحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلانٍ"، فَدَعَوْهُ فَجَاءَ، فَقَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟"، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الأَرْضِ إِلا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً؟".

ومنَ العلاجِ أيضًا الحِمْيَةُ، فعنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبِ الْكِنْدِيِّ عندَ أحمدَ والترمذيِّ مرفوعًا: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثُ طَعَامٍ، وَثُلُثُ شَرَابٍ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ"، صَحَّحَهُ الألبانيُّ وَالحاكِمُ ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وَرَوَى أَبو داودَ وَابنُ ماجةَ وَأَحمدُ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أُمِّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رضي الله عنه)، وَعَلِيٌّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ، وَلَنَا دَوَالِي مُعَلَّقَةٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَأْكُلُ مِنْهَا، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ (رضي الله عنه) لِيَأْكُلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَهْ يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ نَاقِهٌ!"، قَالَتْ: فَصَنَعْتُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) سِلْقًا وَشَعِيرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "يَا عَلِيُّ، مِنْ هَذَا فَأَصِبْ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لَكَ"، والحديثُ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقدْ حَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) مَرِيضًا فَقَالَ المريضُ: "حَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَى مِنْ الْجُوعِ"، ذَكَرَهُ الإمامُ مالكٌ في الموطإِ.

وَمِنَ العلاجِ أيضًا الجراحةُ والكيُّ، روى الإمامُ مسلمٌ عنْ جَابِر بْنَ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قَالَ: "رُمِيَ أُبَيٌّ يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)"، وأُبَيٌّ هذا هوَ أُبَيٌّ بنُ كعبٍ (رضي الله عنه)، والأَكْحَلُ عِرْقٌ فِي وَسَطِ الذِّرَاعِ.

ومنَ العلاجِ أيضًا الحجامةُ، لما روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "الشِّفَاءُ فِي ثَلاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنْ الْكَيِّ". وروى البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قالَ: "دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ". أما الجمعُ بينَ الأحاديثِ التي نهتْ عنِ الكيِّ كحديث ابنِ عباسٍ وسعيدٍ بنِ جُبَيْرٍ (رضي الله عنهما) السابقِ وحديثِ جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ عنْ كَيِّ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُبَيًّا يومَ الأحزابِ، فيكونُ بأنَّ النهيَ عنِ الكَيِّ يدلُّ على كراهَتِهِ، وأحاديثُ فعلِهِ تدُلُّ على جوازِهِ إذا احتاجَ إليهِ.

أما علاجُ الأمراضِ العقليةِ، فقدْ عَرَفَهُ العربُ قبلَ الإسلامِ، وكانَ هنالكَ منْ يمارسُ علاجَ الجنونِ، كضِمَادِ الأَزْدِيِّ. ولما جاءَ الإسلامُ أَقَرَّ علاجَ الأمراضِ العقليةِ، وأَقَرَّ منْ تقاضَى أجْرًا على ذلكَ ما لمْ يستخدمِ (الرُّقَى والعِلاجاتِ) المحتويةِ على شِرْكٍ.
وأما إقرارُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ عالجَ الجنونَ ومنْ تقاضَى أجرًا على مُداواةِ أمراضِ العقولِ، فقدْ رَوى أبو داودَ بسندٍ صَحَّحَهُ الحاكِمُ والألبانِيُّ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ التَّمِيمِيِّ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا مِنْ عِنْدِهِ فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ مُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، فَقَالَ أَهْلُهُ: "إِنَّا حُدِّثْنَا أَنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ جَاءَ بِخَيْرٍ، فَهَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ تُدَاوِيهِ؟"، فَرَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ فَأَعْطَوْنِي مِائَةَ شَاةٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: "هَلْ إِلا هَذَا؟" وَقَالَ مُسَدَّدٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: "هَلْ قُلْتَ غَيْرَ هَذَا؟" قُلْتُ: "لا"، قَالَ: "خُذْهَا فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةِ حَقٍّ". وروى الترمذيُّ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: "شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ"، قَالَ: "فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ السَّيْفَ فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِ رُقْيَةً كُنْتُ أَرْقِي بِهَا الْمَجَانِينَ، فَأَمَرَنِي بِطَرْحِ بَعْضِهَا وَحَبْسِ بَعْضِهَا". أَيْ أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمَرَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ كَلِمَاتِ الرقية الَّتِي تُخَالِفُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ: وَإِبْقَاءِ بَعْضِهَا الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
ولا يعني ذكرُ هذهِ الأصنافِ منْ علاجِ الأمراضِ البدنيةِ والعقليةِ في السُّنَّةِ والآثارِ حَصْرَ العلاجِ والتداوي بها، لأنَّ الأمرَ بالتداوي في الحديثِ الشريفِ جاءَ عامًّا لِكُلِّ ما ينطبقُ عليهِ لفظُ التداوي، ومنهُ العلاجُ بالأشعةِ أوِ الدُّهونِ والعقاقيرِ وغيرِها مما توصَّلَ إليهِ العلمُ الحديثُ أوْ سَيَتَوَصَّلُ إليهِ مُستقبلاً، وما ذَكَرَتْهُ السُّنةُ والآثارُ هوَ بعضُ العلاجِ الذي كانَ معروفًا في عَهْدِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعَهْدِ صحابَتِهِ (رضي الله عنهم). وليسَ بالضرورةِ أنْ يكونَ العلاجُ الذي وصفَهُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديثِ هوَ العلاجُ الأَمْثَلُ لِمَرَضٍ مُعَيَّنٍ، بلْ قَدْ لا يُصيبُ الدَّواءُ الموصوفُ في الحديثِ الشريفِ الداءَ ويصيبُهُ دواءٌ آخرُ توصَّلَ إليهِ العلمُ الحديثُ مثلاً. وذلكَ لأنَّ العلاجَ والأدويةَ هيَ منْ أمورُ الدُّنْيا التي أخبرنَا الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أننا أخْبَرُ بها، فقدْ روى الإمامُ مسلمٌ عنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: "قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ (يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ) فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟، قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ". وفي روايةٍ أخرى عند الإمامِ مسلمٍ أنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ لهمْ: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". كما أنَّ الحُبابَ بنَ المُنْذِرِ قالَ في سياقِ غزوةِ بدرٍ: "يَا رَسُولَ اللّهِ: أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟". قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ". فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللّهِ، فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ"، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ".

فهذهِ الأحاديثُ تُخَصِّصُ الوحيَ فيما يُبَلِّغُهُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنِ اللهِ منْ تشريعٍ وغيرِهِ منَ الأحكامِ والعقائدِ والأفكارِ والقصصِ، ولا يشملُ الوحيُ الأساليبَ والوسائلَ وأمورَ الدنيا، منْ أعمالِ الزراعةِ والصناعةِ والعلومِ وَمِنْها الطِّبُّ والعلاجُ والأدويةُ. ثمَّ إِنَّ الوحيَ موضوعهُ الإنذارُ، أيِ التشريعِ والأحكامِ، قالَ سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء 45]، وقالَ سبحانه وتعالى: (إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [ص 70]، وهذهِ الآياتُ الكريمةُ تُبَيِّنُ أنَّ المرادَ هوَ ما أتى بهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) منَ العقائدِ والأحكامِ وَكُلِّ ما أُمِرَ بتبليغهِ والإنذارِ بهِ، دونَ الوسائلِ والأساليبِ وما شابهها منَ العلومِ الطبيةِ.

يَقُولُ الخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِهِ "أَعْلامُ الحَدِيثِ في شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ": "إِذَا تَأَمَّلْتَ أَكْثَرَ مَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنَ الدَّوَاءِ، فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ العَرَبِ، إِلاَّ مَا خُصَّ بِهِ مِنَ العِلْمِ النَّبَوِيِّ الذِي طَرِيقُهُ الوَحْيُ، فَإِنَّ ذلِكَ فَوْقَ مَا يُدْرِكُهُ الأَطِبَّاءُ أَوْ يُحِيطُ بِحُكْمِهِ الحُكَمَاءُ وَالأَلِبَّاءُ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ تِلْكَ الأَشْفِيَةِ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ وَتَعْوِيذِهِ وَنَفْثِهِ، وَكُلُّ مَا قَالَهُ مِنْ ذلِكَ وَفِعْلُهُ صَوَابٌ وَحَسَنٌ جَمِيلٌ بِعِصْمَةِ اللهِ إِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ إِلاَّ صِدْقًا وَأَنْ يَفْعَلَ إِلاَّ حَقًّا". انْتَهَى.

أما التَّمْرِيضُ فهوَ حُسْنُ القِيامِ على المريضِ، ويشملُ التمريضُ تعزيزَ الصحةِ والوقايةَ منَ المرضِ، ورعايةَ المرضى والمُعَوَّقينَ والمُحْتَضَرينَ أوِ الجَرْحَى في ساحاتِ الجهادِ.
وكانتِ النِّساءُ في زمَنِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُمْنَ بوظيفةِ التمريضِ في المعاركِ وساحاتِ الجهادِ، فقدْ ذكرَ الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ عنِ ابنِ عباسٍ (رضي الله عنه) أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يَغْزُو بِالنساءِ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى، وفي صحيحِ البخاريِّ عنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ"، وفي الطبقاتِ الكُبرى لابنِ سَعْدٍ وَالمَغازِي لِلْواقِدِيِّ عَنْ أُمِّ سِنَانٍ الأسْلَمِيَّةِ قالتْ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الخروجَ إلى خيبرَ جئتُهُ فقُلْتُ: "يا رسولَ اللهِ، أَخْرُجُ مَعَكَ في وَجْهِكَ هذا أَخْرِزُ السِّقَاءَ، وَأُداوي المَريضَ وَالجَريحَ إنْ كانتْ جِراحٌ، ولا تَكونُ، وَأَنْظُرُ الرَّحْلَ." فقالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "اخْرُجي على بركةِ اللهِ، فإنَّ لكِ صواحبُ قدْ كَلَّمْنَنِي وَأَذِنْتُ لَهُنَّ مِنْ قَوْمِكِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ شِئْتِ فَمَعَ قَوْمِكِ وَإِنْ شِئْتِ فَمَعَنَا." قُلْتُ: "مَعَكَ". قالَ: "فَكُونِي مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَتِي." قالَتْ: "فَكُنْتُ مَعَهَا"، والواقديُّ في المغازي مقبولٌ وإنْ ضَعَّفُوهُ في الحديثِ.

ويُفْهَمُ مِنَ الأحاديثِ السَّابِقَةِ جَوازُ مُدَاوَاةِ المرأةِ للرَّجُلِ الأجنبيِّ أوْ تمريضِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَتُقَدَّرُ هذهِ الضرورةُ بِقَدْرِهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ وَالْحسِّ بِالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ويُقاسُ على ذلكَ جَوازُ مُدَاوَاةِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ الأجنبيةَ أوْ تمريضِها.

ب) المساعدةُ خلالَ فترةِ التَّعافِي: منْ حُسْنِ رِعايَةِ المريضِ أنْ لا يُجهدَ نفسَهُ في فترةِ تعافيهِ حتى يستردَّ عافيتَهُ كاملةً، فلا يُكلَّفُ في هذهِ الفترةِ مشقَةً ولا جُهْدًا يُضْعِفُهُ. ولذلكَ تُوَّفِرُ الدولةُ للنَّاقِهِ ما يلزمُهُ منْ مالٍ، إن لم يكن لديه مال، خلالَ فترةِ نقاهتِهِ التي يُحَدِّدُ الأطباءُ طولهَا حتى لا يُجهدَ نفسَهُ في السَّعْيِ طلبًا للرزقِ.

ج) توفيرُ الخدمةِ والمساعدةِ للمعاقينَ والعجَزَةِ والمُصابينَ (المجانينِ): يَتَوَلَّى أقاربُ المعاقينَ والعجزَةِ والمُصابينَ منْ ذوي الرحمِ المحرَّمِ في الدولةِ الإسلاميةِ نفقةَ هؤلاءِ المحتاجينَ، والمقصودُ بالنفقةِ تحديدًا هيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ. وتُحَصِّلُ الدولةُ الإسلاميةُ هذهِ النفقةَ جَبْرًا ممنْ فُرِضَتْ عليهِ.

أما العجزةُ والمعاقونَ والمُصابونَ الذينَ لا رَحِمَ مُحَرَّمَةَ لهمْ، أوْ كانَتْ رحمُهُمْ المحرمةُ عاجزةً عنْ الإنفاقِ، فقدْ أوجبَ الشرعُ النفقةَ عليهمْ منْ بيتِ المالِ أيْ أوجبَها على الدولَةِ، روى الإمامُ مسلمٌ عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِلْوَرَثَةِ وَمَنْ تَرَكَ كَلاً فَإِلَيْنَا"، وَالكَلُّ الضعيفُ الذي لا وَلَدَ لَهُ وَلا والِدَ. وعنْ أبي هريرةَ عندَ الإمامِ مسلمٍ أيضًا عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنٍ إِلا أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا مَوْلاهُ، وَأَيُّكُمْ تَرَكَ مَالاً فَإِلَى الْعَصَبَةِ مَنْ كَانَ"، وقالَ الخطابيُّ في شرحِ هذا الحديثِ عنِ الضَّيَاعِ: "وهوَ وَصْفٌ لمنْ خلفهُ الميتُ بلفظِ المَصْدَرِ، أيْ تركَ ذوي ضَيَاعٍ، أيْ لا شيءَ لهمْ". فهذا دليلٌ على أنَّ النفقةَ لهؤلاءِ واجبةٌ على الدولةِ.

أما ما يحتاجُهُ المُعاقونَ والعجزةُ منْ مُعَدَّاتٍ أَوْ أجهزةٍ أوْ خدماتٍ تُعينُهُمْ في عَجْزِهِمْ وتُخَفِّفُ منْ إِعاقَتِهِمْ كَكَرَاسِي العجلاتِ أوِ العكازاتِ أوْ أجهزةِ السَّمْعِ، فَعَلى الدولةِ أنْ تُوَفِّرَهَا لهمْ، لأنَّها تدخلُ في الضروراتِ التي يُسَبِّبُ نقصُها ضررًا بمنْ يحتاجُها، والضَّررُ حرامٌ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ"، رواهُ الدارقطنيُّ وهوَ عندَ الحاكمِ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ. كما أنَّ هذهِ المعدَّاتِ والخدماتِ تدخلُ ضمنَ التطبيبِ لأنَّ الهدفَ منْهَا هوَ علاجُ العجزِ الناتِجِ عنْ فُقْدانِ عُضْوٍ مَنَ الجسمِ أوِ اختلالِ وظيفَتِهِ، والتطبيبُ كما ذَكَرْنَا سابقًا واجبٌ على الدولةِ تجاهَ رَعِيَّتِهَا.

كمَا وتُنْشِئُ الدولةُ الإسلاميةُ ما يلزمُ منْ دُورِ رعايةٍ للمعاقينَ عقليًا أوْ بدنيًا ممنْ لا يستطيعُ ذَوُوهُمْ القيامَ برعايتِهِمْ بسببِ شدةِ إعاقتهِمْ واحتياجهِمْ إلى رعايةٍ خاصَّةٍ، أوْ ممنْ قدْ يَتَسَبَّبُونَ بالضررِ لذويهمْ أوْ الجماعةِ إذا لمْ يتمَّ عزلهُمْ ومراقبتُهُمْ. وعلى الدولةِ أنْ تهتمَّ بأنْ تكونَ دُورُ الرعايةِ هذهِ مُجَهَّزَةً بما يحتاجُهُ هؤلاءِ المعاقونَ وأنْ تكونَ معاملتهمْ ورعايتهمْ فيها رعايةً حَسَنَةً.
وقدْ خَفَّفَ الشَّرْعُ عنْ ذوي العاهاتِ والإعاقاتِ، ولمْ يُكَلِّفِ الشَّارعُ نَفْسًا إلا وُسْعَها، فقالَ سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة 286]، وقالَ سبحانه وتعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) [الطلاق 7]. ومنْ رحمةِ اللهِ سبحانه وتعالى بِذَوِي الاحتياجاتِ الخاصةِ مُراعاةُ الشريعةِ لهمْ في كثيرٍ منَ الأحكامِ التكليفيةِ، والتيسيرِ عليهمْ وَرَفْعِ الحَرَجِ عنهمْ، فقدْ روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ زيدٍ بنِ ثابتَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمْلَى عَلَيْهِ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قَالَ: فَجَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ. وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ). وقالَ سبحانه وتعالى مُخَفِّفًا عنْ ذوي الاحتياجاتِ الخاصةِ: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح 17]. ومنْ ذلكَ ما رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ عنِ امْرَأَةٍ مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "فَحُجِّي عَنْهُ". كما أَعْفَى الإسلامُ المُصابينَ وذوي الإعاقةِ العقليةِ منَ التكاليفِ الشَّرْعِيَّةِ، وجعلَ العقلَ مناطَ التكليفِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) مَرْفُوعًا: "رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل"، والحديثُ أخرجهُ أبو داودَ والحاكمُ وقالَ: حديثٌ صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ.

وحثَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمينَ على إعانةِ الضعفاءِ وعدمِ الاستهتارِ بهمْ، فقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟" رواهُ البخاريُّ. وروى أبو داودَ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ"، حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وحذَّرَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أشدَّ التحذيرِ منْ إيذاءِ المُعاقينَ وأصحابِ العَجْزِ واستغلالِ ضَعْفِهِمْ، فقدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر أَنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "مَلْعُونٌ مَنْ كَمَهَ أَعْمَى عَنْ طَرِيقٍ"، وروى الترمذيُّ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرَ كَبِيرَنَا". وَقدْ عَنَّفَ (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذَ بنَ جبلٍ (رضي الله عنه) لَمَّا صَلَّى إِمامًا فأطالَ فَشَقَّ على المأمومينَ، قائلاً كما روى البخاريُّ: "يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟ (أَوْ أَفَاتِنٌ) ثَلاثَ مِرَارٍ، فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ".

واهتمَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاؤهُ منْ بعدِهِ بالمُعاقينَ والعجزَةِ والمُصابينَ، حتى إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقف مع هؤلاء وأمثالهم ويقضي حاجتهم ويشفق عليهم، فقدْ روى مسلمٌ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً"، فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ".
وقالَ صاحبُ عونِ المعبودِ في شرحِ الحديثِ: "(كَانَ فِي عَقْلهَا شَيْء) أَيْ مِنْ الْفُتُورِ وَالنُّقْصَانِ، بَيَانًا لِلْوَاقِعِ وَإِشَارَة إِلَى سَبَب شَفَقَتِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَرِعَايَةِ جَانِبِهَا".

ومنْ ذلكَ ما أخرجهُ ابنُ عساكرَ عنْ أبي صالحٍ الغفاريِّ: أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) كانَ يَتَعَهَدُ عجوزاً كبيرةًً عمياءَ في بعضِ حواشي المدينةِ منَ الليلِ فيسقي لها وَيَقُومُ بأمرِها، فكانَ إذا جاءَها وَجَدَ غيرَهُ قدْ سبقَهُ إليها فأصلَحَ ما أرادَتْ، فجاءَها غيرَ مرةٍ كيلا يُسْبَقَ إليْها، فَرَصَدَهُ عمرُ فإذا هوَ بأبي بكرٍ (رضي الله عنه) الذي يأتيها وهوَ يومئذٍ خليفةٌ، فقالَ عمرُ (رضي الله عنه) أنتَ هوَ لعمري. ولمْ يُنكرْ عمرُ (رضي الله عنه) على أبي بكرٍ (رضي الله عنه) انشغالَهُ بشأنِ العجوزِ العمياءِ رغمَ أنهُ الخليفةُ والأصلُ أنْ يكونَ شغلُهُ الشاغلُ هوَ مصالحُ المسلمينَ، لأنَّ رعايةَ شؤونِ العجزةِ وذوي الاحتياجاتِ الخاصةِ منْ واجباتِ الدولةِ والخليفةِ. بينما نرى أَنَّ عمرَ (رضي الله عنه) لمْ يرضَ أَنْ يبيعَ أبو بكرٍ (رضي الله عنه) الثيابَ ليُعيلَ عيالَهُ لِئَلا ينشغلَ عنْ مصالحَ المسلمينَ، فقدْ رَوَى اِبْن سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ مُرْسَلٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ قَالَ: "لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْر (رضي الله عنه) أَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى السُّوق عَلَى رَأْسه أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا، فَلَقِيَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْن الْجَرَّاحِ (رضي الله عنهما) فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ وُلِّيت أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ قَالُوا: نَفْرِض لَك، فَفَرَضُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ شَطْرَ شَاةٍ". كما أنَّ أبا بكرٍ نفسَهُ (رضي الله عنه) وافقَ على تركِ عملِهِ في بيعِ الثيابِ حتى لا ينشغلَ عنْ رعايةِ شؤونِ الناسِ، بينما لزِمَ القيامَ على أمرِ العجوزِ رغمَ ما يَتَطَلَّبُهُ ذلكَ منْ وقتٍ وجُهْدٍ، كما روى البخاريُّ في صحيحِهِ عنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ: "لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (رضي الله عنه) قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَئُونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ". وفي هذا دلالةٌ على أنَّ رعايةَ شؤونِ العجزةِ والمعاقينَ واجبٌ على الخليفةِ والدولةِ.

وذكرَ ابنُ الجوزيِّ في كتابِهِ "سيرةُ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ" منْ خَبَرِ الحَكَمِ بنِ عُمَرَ الرُّعَيْنِيُّ أنَّ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ (رضي الله عنه) كَتَبَ إلى أمصارِ الشامِ أَنْ ارفعوا إليَّ كلَّ أعمى في الديوانِ أوْ مُقْعَدٍ أوْ منْ بهِ فالجٌ أو منْ بهِ زِمانَةٌ تحولُ بينَهُ وبينَ القيامِ إلى الصلاةِ، فَرَفَعُوا إليهِ، فأمرَ لكُلِّ أعمى بقائدٍ وأمرَ لكُلِّ اثنينِ منَ الزَّمْنَى بخادِمٍ. وكذلكَ الخليفةُ الأمويُّ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ، فقدْ ذكرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ عنْ ابنِ جريرٍ: "حَدَّثَني عمرُ ثنا عليٌّ - يعني ابنُ محمدٍ المدائنيِّ - قالَ: كانَ الوليدُ بنُ عبدِ الملكِ عندَ أهلِ الشامِ أفضلَ خلائِفَهُمْ، بنى المساجدَ بدمشقَ، ووضعَ المنائِرَ، وأعطى الناسَ، وأعطى المجذومينَ، وقالَ لهمْ: لا تَسْأَلُوا الناسَ، وأعطى كلَّ مُقْعَدٍ خادمًا، وكلَّ ضريرٍ قائدًا" انتهى.

وأما بيمارستاناتُ (مستشفياتُ) الأمراضِ العقليةِ، فقدْ تأسستْ في زمنِ الأمويينَ للعنايةِ بالذينَ أصابَهُمْ جنون أو اعتراهُمْ ضَعْفٌ عقليٌّ، وكانَ المسلمونَ يعتبرونَ المعتوهينَ مُعْدَمِينَ وعالَةً على إحسانِ الدولةِ، لأنَّ إصابَتَهُمْ بقضاءٍ منَ اللهِ وقَدَرِهِ. وقدْ جاءَ في صَكِّ الأوقافِ التي حُبِسَ ريعُها لصالحِ المستشفى النُّورِيِّ أوِ العتيقِ بِحَلَبٍ أنَّ كلَّ مجنونٍ يُخَصُّ بخادمينِ فينـزعانِ عنهُ ثيابَهُ كلَّ صباحٍ، وَيُحَمِّمَانِهِ بالماءِ الباردِ، ثُمَّ يُلْبِسانِهِ ثيابًا نظيفةً ويحملانِهِ على أَداءِ الصلاةِ، ويُسْمِعانِهِ قراءَةَ القرآنِ يَقْرَؤُهُ رَجُلٌ حسنُ الصوتِ، ثمَّ يُفَسِّحَانِهِ في الهواءِ الطَّلْقِ.

المصدر: مجلة الوعي

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (4)



بسم الله الرحمن الرحيم

الصِّحَّةُ الْفَرْدِيَّةُ:

1ـ الوقاية

الوقايةُ لغةً الحفظُ والصَّوْنُ، نَقولُ: وَقاهُ اللهُ وَقْياً وَوِقايةً وواقِيةً: صانَهُ، ووَقَيْتُ الشيءَ أَقِيهِ إِذا صُنْتُهُ وسَتَرْتُهُ عنِ الأَذى، ووقاهُ ما يَكْرَهُ ووقَّاهُ: حَماهُ منهُ. وفي التَّنْزِيلِ العزيزِ: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ) [الإنسان 11]. والوِقاءُ والوَقاءُ والوِقايةُ والوَقايةُ والوُقايةُ والواقِيةُ: كلُّ ما وَقَيْتَ بهِ شيئاً.

وعليهِ فإنَّ الوقايةَ الصحيةَ هيَ مجموعُ الأعمالِ التي تهدفُ إلى تقليلِ الإصابةِ بالأمراضِ والتأثُّرِ بها والوفاةِ مِنْها. وتكونُ الوقايةُ على ثلاثِ مُستوياتٍ هيَ:

أ) الوقايةُ الأوليَّةُ: وهيَ الأعمالُ التي تمنعُ الإصابةَ بالمرضِ إبتداءً، ومعظمُ إجراءاتِ الصِّحةِ العامةِ هيَ إجراءاتُ وقايةٍ أوليةٍ.

ب) الوقايةُ الثانويَّةُ: وهيَ الأعمالُ التي تهدفُ إلى تشخيصِ المرضِ مُبكرًا، لزيادَةِ فُرَصِ العلاجِ في مَنْعِ تفاقُمِ المرضِ وظُهورِ أعراضِهِ.

ج) الوقايةُ الثالثيَّةُ: وهيَ الأعمالُ التي تُقَلِّلُ الآثارَ السلبيةَ للمرضِ الواقعِ عن طريقِ إعادةِ التأهيلِ والتَكَيُّفِ للحالةِ المرَضِيَّةِ، وتقليلِ مُضاعفاتِ المرضِ.

والوقايةُ منِ الأمراضِ خيرٌ منْ علاجِها، وحفظُ الصحةِ ابتداءً خيرٌ منْ محاولةِ استعادَتِها بعدَ زَوالِها، ولذلكَ تُرَكِّزُ الدولةُ الإسلاميةُ على الوقايةِ الصحيةِ، وَتُقَدِّمُ المشاريعَ التي منْ شأنها صَوْنُ الصحةِ على غيرِها منَ المشاريعِ العِلاجِيَّةِ.
وقدْ أمَرَ الإسلامُ بالوقايةِ، وأرشدَ إلى بعضِ جوانِبِها، بما يُغْني عنْ ذكرِ جميعها، وتَرَكَ لِوَلِيِّ الأمرِ أنْ يجتهدَ ويسعى لاستخدامِ كُلِّ الأساليبِ والوسائلِ لحفظِ صحةِ الرعيَّةِ ووقايَتِهِمُ المرضَ والأسقامَ، لأنهُ مأمورٌ برعايةِ شؤونهِمْ وهذِهِ مِنْها، ومأمورٌ بإزالَةِ الضَّرَرِ عنهم، والمَرَضُ منَ الضَّرَرِ.

ومنْ جوانبِ الوقايةِ التي وردتْ في هَدْيِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما وَرَدَ عنْهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ عندَ مُسْلِمٍ في صحيحِهِ أنهُ ‏قالَ: ‏"إِذَا عَرَّسْتُمْ فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِاللَّيْلِ"، وعندَ البخاريِّ أنَّ النبيَّ‏ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ". وقدِ احترقَ بيتٌ ‏بالمدينةِ‏ على أهلِهِ، فحُدِّثَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ‏بشأنهمْ، فقالَ: "إِنَّمَا هَذِهِ النَّارُ عَدُوٌّ لَكُمْ فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ"، رواهُ ابنُ ماجةَ وصحَّحَهُ الألبانِيُّ. وروى البخاريُّ ومسلمٌ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): "خَمِّرُوا الآنِيَةَ وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتْ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ". وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ لَهُ حِجَارٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ"، رواهُ أبو داودَ وصحَّحهُ الألبانِيُّ، وذلكَ اتقاءً للسُقوطِ عنْ ظهرِ البيتِ، وقدْ عَبَّرَ الرسولُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ببراءةِ الذمةِ للدلالة على الإثم الواقع فيه كل من تساهل في وقاية نفسه من الأذى والضرر، مما يدُّلُ على فَرْضِيَّةِ الوقايةِ.

ونذكرُ أيضًا في مجالِ الأَمْرِ بالوقايةِ، الحديثَ المتفقَ عليهِ، حيثُ قالَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا، لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا". وكذلكَ نَهْيُهُ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ عنِ العدوى، فَهُوَ في الواقعِ أَمْرٌ بالوقايةِ، لأنَّ العدوى مما يحصلُ بهِ المرضُ عادةً، فقدْ روى البخاريُّ عنْ أبي هريرةَ (رضي الله عنه) أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، وفي صحيحِ البخاريِّ أيضًا عنْهُ‏ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ قالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا"، وفيهِ أيضًا عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): "فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الأَسَدِ"، وروَى مسلمٌ ‏ عَنْ عَمْرو بن الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قالَ: "كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ!".

أَما نَفْيُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) للعَدْوى فيما رواهُ البخاريُّ أنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ"، فليسَ نفيًا لحقيقةِ العدوى، بلْ هوَ نفيٌ لاسْتِقْلالِها بغيرِ تدبيرِ اللهِ وتقديرِهِ للأسبابِ، والدليلُ على ذلكَ أنَّ الحديثَ بتمامِهِ في صحيحِ البخاريِّ هوَ: قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لاَ عَدْوَى وَلا صَفَرَ وَلا هَامَةَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟"، فالأعرابيُّ فَهِمَ أنَّ النفيَ في الحديثِ هُوَ نفيٌ لحقيقةِ العدوى، ولذلكَ سأَلَ مُسْتَغْرِبًا لأنَّهُ رأى واقعًا أنَّ العَدْوى تحصلُ مِنَ المريضِ للصحيحِ، فَنَبَّهَهُ الرسولُ إلى أَنَّ العدوى قدْ تَتَخَلَّفُ ويحصلُ المرضُ، أيْ أنَّ سببَ المرضِ هوَ تقديرُ اللهِ سبحانه وتعالى فقطْ، سواءٌ أَحَصَلَ بطريقِ العدوى التي جعلَها اللهُ حالَةً منْ حالاتِ حُصولِ المرضِ أمْ بِحالَةٍ أُخرى. فموضوعُ الحديثِ هوَ العقيدةُ، وهدفُهُ إبطالُ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدهُ أَنَّ الأَمْرَاضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، فَأَبْطَلَ النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اِعْتِقَادهمْ ذَلِكَ وبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي يُمْرِض وَيَشْفِي، وأشَارَ إِلَى أَنَّ العدوى لاَ تَسْتَقِلُّ بِذاتِهَا بِغَيْرِ تقديرِ اللهِ.

وعليهِ فَإِنَّ الحديثَ لا يَدُّلُ على نَفْيِ حقيقةِ العدوى وبالتالي نفيِ الوقايةِ لمنعِ المرضِ. وهذا ما فهمَهُ الصحابَةُ الكرامُ منْ واقِعِ العدوى وعلاقَتِها بالمرضِ والقَدَرِ، فقدْ رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عباسٍ (رضي الله عنهما) أن‏َّ عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) خرجَ إلى الشَّامِ حتى إذا كانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، ‏فقالَ عمرُ (رضي الله عنه): "‏ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ"، فَدَعَاهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ"، فَقَالَ (رضي الله عنه): "ارْتَفِعُوا عَنِّي!"، ثُمَّ قَالَ (رضي الله عنه): "ادْعُ لِي الأَنْصَارِ"، فَدَعَاهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ، فَقَالَ (رضي الله عنه): "ارْتَفِعُوا عَنِّي!"، ثُمَّ قَالَ (رضي الله عنه): "ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ"، فَدَعَاهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: "نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ"، فَنَادَى عُمَرُ (رضي الله عنه) فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ (رضي الله عنه): "أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟"، فَقَالَ عُمَرُ (رضي الله عنه): "لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ"، وَكَانَ عُمَرُ (رضي الله عنه) يَكْرَهُ خِلافَهُ، "نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟". فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ (رضي الله عنه)، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ"، قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) ثُمَّ انْصَرَفَ.

أَمَّا حديثُ جابرٍ بن عبدِ اللهِ (رضي الله عنه) أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذَ بيدِ مجذومٍ فَوَضَعَها مَعَهُ في قصعتِهِ، فقالَ: "كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ"، ففي إِسنادِهِ الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، ضَعَّفَهُ أَهْلُ الحَديثِ، فَالحَديثُ ضَعِيفٌ لِذلِكَ. وَحتى لَوْ صَحَّ الحديثُ، فَيُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «فر من المجذوم كما تفر من الأسد» الدال على الأخذ بأسباب الوقاية، وبينَ فِعْلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) حينَ أخذَ بيدِ المجذومِ ووَضَعَها مَعَهُ في القصعةِ، بِأَنَّ قولهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) "فر من المجذوم..." خطابٌ خاصٌّ بالأُمَةِ وليسَ عامًّا، وأنهُ وإنْ كانَ خطابُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمتِهِ خطابًا لهُ، لأنَّهُ يَدْخُلُ في عمومِ كلامهِ، ولكنْ إذا جاءتْ قرينةٌ تدُلُّ على أنَّ لهُ حكمًا خاصًّا بهِ، فيكونُ منْ خصوصِيَّاتِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهنا جاءَ أخذُهُ يدَ المجذومِ ووَضْعُها في القصعةِ إذا وُضعَ إلى جانبِ قولِهِ "فر من المجذوم..."، فإنهُ يكونُ قرينةً على أنَّ فِعْلَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصٌّ بهِ والقولُ خاصٌّ بالأمةِ، وعليهِ فَلا تَعَارُضَ بينَ الأخذ بأسباب الوقاية وبينَ فِعْلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِكَوْنِهِ أخذَ يدَ المجذومِ ووَضَعَها في القصعةِ الذي يُفهمُ منهُ عدمُ مراعاةِ أسبابِ الوقايةِ، فإنَّ هذا خاصٌّ بهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلكَ لأنَّ قولَهُ للأُمةِ أَمرٌ خاصٌّ بهمْ بقرينةِ فعلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهوَ أخصُّ من أدلةِ التأسِّي القاضيةِ باتباعِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقوالهِ وأفعالهِ، فبُنِيَ العامُّ على الخاصِّ، ولا يجبُ التأسِّي بهِ في هذا الفعلِ الذي وردَ الأمرُ للأُمةِ بخلافِهِ. وعليهِ فحتى لوْ كانَ حديثُ الأكلِ معَ المجذومِ صحيحًا، فهو خاصٌّ به (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبقى الوقايةُ فرضًا على أُمتِهِ. وَهذا كُلُّهُ في حَقِّ الفردِ، أما الإمامُ فإنَّ عملهُ لحفظِ صحةِ الرعيةِ ووقايتِهِم منَ الأمراضِ يَبْقَى فرضًا لأَنَّهُ كما قُلنا منْ رعايةِ الشؤونِ وإزالةِ الضررِ التي هيَ فرضٌ فرضَهُ اللهُ عليهِ وتوعَدَّهُ على التفريطِ فيهِ.

وهذه أنواع من الرعاية والوقاية التي أمر بها الإسلام:

أ) رِعَايَةُ الحَوامِلِ وَالأَطْفَالِ: لقدْ حَثَّ الإسلامُ على النكاحِ وأمرَ بهِ ورغَّبَ فيهِ، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، متفقٌ عليهِ.
ومع أن للرجل أن يختار الزوجة التي يرضاها وفق أحكام الشرع، وكذلك للمرأة أن تختار الزوج الذي ترضاه وفق تلك الأحكام، إلا أن الإسلام جعل حالات أفضلية في الزواج، فقد حث الإسلامُ على الإنجابِ وتكثيرِ النَّسْلِ، قالَ سبحانه وتعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ) [البقرة 187] أيِ الولدَ. وقد أخرج أحمد من طريق أنس بن مالك «تزوجو الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة». وهكذا فإن الإسلام يحث على الإنجاب وتكثير للنسل بالزواج من المرأة الولود التي تُعرف بهذه الصفة من معرفة أمها وعماتها وخالاتها...
ولذلكَ كانتْ الرعايةُ الصحيةُ للأمهاتِ والأطفالِ قائمةً على هذا الأساسِ لحثِّ النساءِ والأزواجِ على الإنجابِ وللاهتمامِ بصحةِ الأمِّ قبلَ فترةِ الحملِ وخِلالها وبعدَ الولادةِ، وكذلكَ الاهتمامِ بصحةِ الأطفالِ ومتابعةِ نُمُوِهِمُ الصحيِّ حتى البلوغِ،
ولتحقيقِ الرعايةِ الصحيةِ للأمهاتِ والأطفالِ يُقامُ في كلِّ حيٍّ مركزُ "رعايةِ الأمِّ والطفلِ"، يَضُمُّ طاقمًا منْ طبيبٍ وممرضةٍ وخبيرِ تغذيةٍ وَ"عامِلَةٍ اجتماعيَّةٍ"، وَكُلُّهُمْ أصحابُ تأهيلٍ إضافيٍّ في الصحةِ العامةِ، ويكونُ هذا المركزُ تابعًا إداريًا لدائرةِ الصحةِ في العمالةِ. ويقومُ كلُّ مركزٍ منْ هذهِ المراكزِ بإحصاءِ كُلِّ النساءِ والأطفالِ في الحيِّ، ويكونُ مسؤولاً مباشرةً عَنْهُمْ.
أَمَّا أهدافُ مَراكِزِ رِعايةِ الأمِّ والطفلِ فهيَ:
1- منعُ الأمراضِ المُعديةِ عنْ طريقِ التطعيمِ.
2- الاكتشافُ المُبكرِ للمشاكلِ الصحيّةِ عنْ طريقِ الفحوصاتِ الدَّوْرِيَّةِ.
3- مراقبةُ المشاكلِ الصحيةِ في المجتمعِ واتخاذِ الإجراءاتِ المطلوبةِ حسبَ اللازمِ.
4- الإرشادُ الصحيُّ لتحسينِ الصحةِ ومنعِ الأمراضِ والحثِّ على تكثيرِ النَّسْلِ.

أمَّا فيما يتعلقُ بالنساءِ المتزوجاتِ قبلَ فترةِ الحملِ، فإنَّ دائرةَ الصحةِ تقومُ بالتوعيةِ الصحيةِ على المواضيعِ المتعلقةِ بالنساءِ، وما يتعلقُ بالتحضيرِ للحَمْلِ والإنجابِ، عنْ طريقِ المحاضراتِ العامةِ والكُتَيباتِ والأفلامِ التي تُوَزَّعُ بصورةٍ دَوْرِيَّةٍ على مراكزِ رعايةِ الأُمِّ والطفلِ، ويُشْرِفُ على هذهِ الموادِّ طاقمٌ خاصٌّ منْ دائرةِ الصحةِ، يهتمُ بأنْ تكونَ المعلوماتُ سهلةً غيرَ مُعَقَّدَةٍ، ومفيدةً في ذاتِ الوقتِ، معَ مراعاةِ الفُروقِ في العاداتِ والأعرافِ في كلِّ منطقةٍ منْ مناطقِ الدولةِ وملاءَمَةِ الإرشاداتِ والتوعيةِ لهذهِ العاداتِ والأعرافِ.

كما تقومُ مراكزُ رعايةِ الأمِّ والطفلِ بفحصِ الأمراضِ المُعديةِ التي قدْ تُؤَثِّرُ على الأمِّ أوِ الجنينِ في فترةِ الحملِ، وتقديمِ العلاجِ أوِ الإرشادِ المتعلقِ بكُلِّ حالةٍ. وتهتمُّ المراكزُ كذلكَ بتقديمِ الإرشادِ للتغذيةِ الصحيةِ وما تحتاجُهُ المرأةُ منْ فيتاميناتٍ وإضافاتٍ للطعامِ قبلَ الحملِ.

أما الحواملُ، فإنَّ مراكزَ الرعايةِ تهتمُّ بمتابَعَتِهِنَّ دوريًّا للاطمئنانِ على سلامتهِنَّ وسلامةِ الجنينِ، ويُحَدَّدُ جدولٌ للفحوصاتِ اللازمةِ خلالَ الحملِ، من أجل الرعاية الصحية السليمة لهن طوال فترة الحمل.

ومنَ المهمِّ التذكيرُ بأنَّ الإجهاضَ ليس حراماً فقط بعد نفح الروح في الجنين، الذي يكون بعد مائة وعشرين يوماً كما في الحديث الصحيح المتفق عليه، واللفظ لمسلم من طريق عبد الله بن مسعود قال « إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ... » بل هو حرام قبل ذلك منذ بدء التخلق.

وقد ورد في الأحاديث أن التخلق يكون قبل نفخ الروح بشهور، فقد أخرج مسلم من طريق ابن مسعود قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا وفي رواية " أربعين ليلة ".

ثم إن الإجهاض ليس حراماً يسبب إثماً في الآخرة فحسب، بل عليه عقوبة في الدنيا تصيب كل من يقوم به، سواء أكانت المرأة أم الزوج أم الطبيب أم غيرهم، ويعدُّ تعدِّيًا على نفسٍ إنسانيةٍ معصومةِ الدَّمِ، يُوجِبُ الديةَ بمقدارِ غُرَّةِ عَبْدٍ أوْ أَمَةٍ، أيْ عُشرِ ديَّةِ الإنسانِ الكاملِ. قالَ سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ) [الإسراء 33]، وفي الحديثِ المتفقِ عليهِ عنِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهُ قَضَى في جنينِ امرأةٍ منْ بَني لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أوْ أَمَةٍ.
وتقومُ المراكزُ كذلكَ بتوعيةِ الحواملِ صحيًّا بإرشادهِنَّ إلى التغذيةِ السليمةِ والإضافاتِ اللازمةِ، وكذلكَ إرشادهنَّ لما ينبغي الحذرُ منهُ وتجنُّبُهُ وعدم تناوله خلالَ فترةِ الحملِ حتى لا يَتَأَثَّرَ الجنينُ، وأيضًا يكونُ هنالِكَ إرشادٌ وتحضيرٌ مُسْبَقٌ للمرأةِ الحاملِ لعمليةِ الولادةِ وكيفيةِ الرضاعةِ الناجحةِ والسليمةِ، ويستمرُ إرشادُ النساءِ لكيفيةِ الرضاعةِ الناجحةِ بعدَ الوَضْعِ على يدِ مُمَرِّضَاتٍ مُتَخَصِّصَاتٍ منْ خِلالِ زياراتٍ منـزليةٍ. كما تكونُ في المركزِ أيضًا إمكانيةٌ للدعمِ النفسيِّ للمرأةِ الحاملِ بإشرافِ عاملةٍ مُتَخَصِّصَةٍ في المجالِ.

وبالنسبةِ لرعايةِ الأطفالِ فإنَّ المركزَ يهتمُّ بأنْ يوفِّرَ طبيبًا يزورُ المولودَ الجديدَ في بيتِهِ حسبَ الحاجَةِ. ويتابعُ المركزُ نموَّ جميعَ الأطفالِ وتطوُّرَهُمْ منْ خلالِ فحوصاتٍ دَوْرِيَّةٍ في فتراتٍ زمنيةٍ محدَّدَةٍ، ويتمُّ في هذهِ الفحوصاتِ أيضًا فحصُ السمعِ والنظرِ والاتصالِ عندَ الطفلِ، وتشخيصُ المشاكلِ الصحيةِ لضمانِ معالجتِها ومتابعتِها مُبَكِّرًا. وخلالَ هذهِ المتابعةِ والفحوصاتِ الدوريةِ تُعطى التطعيماتُ المقرَّرَةُ للأطفالِ في أوقاتها المحدَّدَةِ وَفْقَ ما قرَّرَتْهُ دائرةُ الصحةِ. كما ويهتمُّ المركزُ أنْ يكونَ في الحيِّ أماكنُ مخصصةٌ للعبِ الأطفالِ، وأنْ تكونَ مزوَّدَةً بما يُثريهِمْ ويُسَلِّيهِمْ ويحمِلُهُمْ على التفكيرِ.

ب) ممرضاتُ المدارسِ: تكونُ في كلِّ مدرسةٍ ممرضةٌ أو ممرض أوْ أكثرُ حسبَ الحاجةِ، مهمتهم متابعةُ الطلابِ صحيًّا، وتقديمُ العلاجِ الأوليِّ في حالةِ إصابَتِهِم. وتشملُ هذه المتابعة التأكُدَّ منْ حصول الأطفال على كلِّ التطعيماتِ المقررةِ، والاتصالَ بالمعلمينِ لملاحظةِ التصرفاتِ الغريبةِ لبعضِ الطلابِ والتي قدْ تنتجُ عنْ مشاكلَ اجتماعيةٍ أو صحيةٍ عندَهُمْ، وضَمانَ فَحْصِهِمْ ومعالجةِ هذهِ المشاكلِ بالطرقِ الصحيحةِ. وتشملُ كذلكَ تقديمَ الإرشادِ الصحيِّ للطلابِ وعائِلاتهمْ وطاقمِ المدرسةِ، عنْ طريقِ المحاضراتِ منْ فترةٍ لأخرى أو النشراتِ الصحيةِ وما إلى ذلكَ.

ج) التطعيماتُ: التطعيمُ هوَ وسيلةٌ لتطويرِ المناعةِ ضدَ مسبباتِ الأمراضِ منْ فيروساتٍ وجراثيمَ، عنْ طريقِ إدخالِ أجزاءٍ غيرِ خطرةٍ منْ مسبباتِ الأمراضِ هذهِ إلى الجسمِ لتحفيزِ جهازِ المناعةِ الطبيعيِّ على إنتاجِ أجسامٍ مُضادةٍ ضدَ مسبباتِ المرضِ الأكثرِ خطرًا.

فالتطعيمُ هوَ جزءٌ منَ الوقايةِ الصحيةِ الأوليةِ، بحيثُ يُقدَّمُ للأصحاءِ لتقويةِ جهازِ المناعةِ لديهمْ وزيادةِ فعاليتِهِ في مقاومةِ مسبباتِ المرضِ. وتتعدَّى فائدةُ التطعيمِ أحيانًا الفردَ المُطعَّمَ حيثُ أنَّ عدمَ إصابتِهِ بالمرضِ تمنعُ أيضًا العدوى التي يمكنُ أنْ تنتقلَ منهُ إلى غيرِهِ ممنْ لمْ يتلقَ التطعيمَ. وإذا تَلَقَّى ما نسبَتُهُ 90% منَ الناسِ تطعيمًا ضدَّ مُسَبِّبِ مرضٍ مُعَيَّنٍ، فباقي الناسِ ممنْ لمْ يتلقوا التطعيمَ مباشرةً سيكونونَ بمأْمَنٍ منَ المرضِ لأنَّ مُسَبِّبَ المرضِ يصبحُ نادرًا في مثلِ هذهِ الجماعةِ بحيثُ يَقِلُّ احتمالُ التعرُّضِ لهُ، وهذا ما يُسمَّى بمناعةِ القطيعِ.

وقدِ اختفى بهذهِ الطريقةِ مرضُ الجُدَرِيِّ (Smallpox) منَ العالمِ في عامِ 1977 ميلاديةَ، بعدَ برنامجِ تطعيمٍ شَمِلَ معظمَ دولِ العالمِ قامتْ بهِ منظمةُ الصحةِ العالميةِ، ولمْ يَعُدْ مُسَبِّبُ المرضِ هذا موجودًا إلا في المختبراتِ.
ولأهميةِ التطعيمِ وفعاليتهِ في الوقايةِ منَ الأمراضِ، فإنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تُقَدِّمُ هذهِ الرعايةَ الصحيةَ للرعيةِ بالمجانِ، وَفْقَ برنامجٍ مُحَدَّدٍ ومُقَسَّمٍ حسبَ فئاتِ الجيلِ، يُقَرِّرُهُ أهلُ الإختصاصُ بموازنةُ مَدَى انتشارِ مُسبباتِ المرضِ المُرادِ التطعيمِ ضدَّها وخطورةِ المرضِ الناتجِ عنْها، معَ العوارضِ الجانبيةِ للتطعيمِ نفسِهِ. ويتمُّ تطعيمُ المواليدِ الجُدُدِ في المستشفياتِ ودورِ الولادةِ، والأطفالِ في مراكزِ رعايةِ الأمِّ والطفلِ، وطلابِ المدارسِ في مدارسِهِمْ، والأفرادُ الأكبرُ سنًّا في الجيشِ أو في المراكزِ الصحيَّةِ الفرعِيَّةِ.
ويكونُ التطعيمُ إلزاميًا أوْ اختياريًا، بحسبِ تَعَلُّقِهِ بإزالةِ الضررِ عنِ الجماعةِ. فإنْ كانَ المرضُ المرادُ التطعيمُ ضدَّهُ خَطِرًا ومُعديًا يُجْبَرُ الفردُ على تَلَقِي التطعيمِ، حتى لا يُعَرِّضَ غيرهُ منْ أفرادِ المجتمعِ لخطرِ الإصابةِ بالمرضِ، وحتى يتكوَّنَ ما يُسَمَّى بمناعةِ القطيعِ. ويُسْتَثْنَى منَ المُجبرينَ على تلقي التطعيمِ منْ كانَ لَدَيْهِ حساسيةٌ للتطعيمِ، أوْ كانَ مُصابًا بضعفٍ في جهازِ المناعةِ بحيثُ يكونُ التطعيمُ نَفْسُهُ خطرًا عليهِ، وهؤلاءِ تكونُ حمايتهُمْ منَ المرضِ بمناعةِ القطيعِ. أما الأمراضُ التي لا تُسَبِّبُ ضررًا للجماعةِ، كأنْ يكونَ المرضُ غيرَ مُعْدٍ أوْ غيرَ خَطِرٍ على الجماعةِ فَيُخَيَّرُ الفردُ في تَلَقِّي التطعيمِ ضدَّهُ.

وقدْ تكونُ هنالِكَ برامجُ تطعيمٍ عالميَّةٍ تقومُ بها منظماتٌ دوليةٌ كمنظمةِ الصحةِ العالميةِ أوْ دولٍ أخرى لإزالةِ مرضٍ مُعَيَّنٍ منَ العالمِ كما في حالَةِ الجُدَرِيِّ، ويُطْلَبُ منَ الدولةِ الإسلاميةِ المشاركةُ فيها. وفي مثلِ هذهِ الحالةِ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تشترطَ أنْ تَطَّلِعَ على كافةِ المعلوماتِ المتعلقةِ بالتطعيمِ وَعَوَارِضِهِ الجانبيةِ وبرنامجِهِ، وأنْ يُصَنَّعَ التطعيمُ المُرادُ تقديمُهُ لِرَعَايَا الدولةِ الإسلاميةِ في مصانِعِ الدولةِ وتحتَ إشرافِ دوائِرِها وَمُخْتَصِّيها، ويُعْطَى للرعيةِ بواسطةِ أجهزةِ الدولةِ الإسلاميةِ الصحيةِ وبإشرافِها، ولا يُقْبَلُ أنْ يَتَوَلَّى هذهِ الأعمالَ مندوبونَ منْ منظمةِ الصحةِ العالميةِ أوْ منْ دولٍ أخرى إلا بصفةِ مراقبينَ فقطْ. ويكونُ التطعيمُ في هذهِ الحالاتِ إلزاميًّا للرعيةِ بحسبِ تَعَلُّقِهِ بإزالةِ الضررِ عنِ الجماعةِ وَفْقَ التفصيلِ السابِقِ.

د) صِحَّةُ الفمِ وَالأَسْنَانِ: تُشَكِّلُ أمراضُ الفمِ واللِّثَّةِ والأسنانِ مشكلةً صحيةً واسعةَ الانتشارِ، فَتَسَوُّسُ الأسنانِ وحدهُ يُصيبُ ما بينَ 60-90% منْ طلابِ المدارسِ والأغلبيةَ الساحقةَ منَ البالغينَ في معظمِ الدولِ الصناعيةِ، وكذلكَ الأمرُ بالنسبةِ لأمراضِ اللثةِ.

وأمراضُ الأسنانِ تُسَبِّبُ المعاناةَ والألمَ، كما أنها تُؤَثِّرُ في سلامةِ النُّطْقِ والكلامِ، وتُغَيِّرُ رائحةَ الفمِ وَجَمَالَ الإنسانِ، هذا فَضْلاً عنْ مشاكلِ المضغِ والطعامِ.
وقدْ اهتمَّ الإسلامُ بصحةِ الفمِ وطهارتِهِ وحثَّ على العنايةِ بها، وَقَرَنَ بينها وبينَ نوالِ رضوانِ اللهِ سبحانه وتعالى، فقالَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ أحمدُ والنَّسائيُّ وابنُ حِبَّانِ وابنُ خزيمةَ وصحَّحَهُ النوويُّ: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ"، وقالَ عليهِ وَآلِهِ الصلاةُ والسلامُ: "لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ"، رواهُ الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ ومسلمٌ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ. والسِّواكُ هوَ استعمالُ عودٍ وَنَحْوِهِ في الأسنانِ لإزالةِ ما يعلقُ بها منْ فضلاتِ الطعامِ، وما يَعْلُوهَا منْ صُفْرَةٍ، ويُطْلَقُ أيضًا على العودِ أوِ الشيءِ الذي يُتسوَّكُ بهِ. والسواكُ مُسْتَحَبٌ في جميعِ الحالاتِ والأوقاتِ، ولكنَّهُ في خمسةِ أوقاتٍ أشدُّ استحبابًا لقيامِ الأدلةِ على ذلكَ: عندَ الاستيقاظِ منَ النومِ والوضوءِ وقراءَةِ القرآنِ والصلاةِ وعندَ تَغَيُّرِ الفمِ. وفي صحيحِ مسلمٍ عنِ المِقْدامِ بنِ شُرَيْحٍ عنْ أبيهِ قالَ: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟، قَالَتْ (رضي الله عنها): بِالسِّوَاكِ". وروى أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ وحسَّنَهُ هوَ وابنُ حجرٍ عنْ عامرِ بنِ ربيعةَ (رضي الله عنه) قالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَا لاَ أَعُدُّ وَمَا لاَ أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ".
وقدْ نهى الإسلامُ عنْ أكلِ الثومِ والبصلِ إذا ذهبَ المسلمُ لصلاةِ الجماعةِ حتى لا يَشُمَّ أخوهُ منهُ ريحًا غيرَ طيبةٍ فَيُؤْذِيَهُ، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ البخاريُّ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا". وإهمالُ العنايةِ بالفمِ والأسنانِ يُؤَدِّي إلى كراهةِ رائِحَتِهِما وَتَأَذِّي المسلمينَ منْ هذهِ الرائحةِ.

لهذا فعلى الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تهتمَّ برعايةِ صحةِ الفمِ والأسنانِ عندَ الرعيةِ، سواءَ عنْ طريقِ حملاتٍ إعلاميةٍ عامَّةٍ هدفُها توعيةُ الناسِ على أهميةِ وكيفيةِ الحفاظِ على صحةِ الفمِ والأسنانِ، أم عنْ طريقِ سياساتٍ تتخذُها الدولةُ لحمايةِ الأسنانِ منَ التسوسِ وخفضِ معدلاتِ حدوثِهِ، كإضافةِ الفلوريدِ إلى مياهِ الشربِ وإلى معاجينِ الأسنانِ ومحاليلِ غَسُولِ الفمِ، حيثُ تَدَّعِي بعضُ الدراساتُ غيرُ الموثوقَةِ أنَّ إضافةَ الفلوريدِ إلى مياهِ الشُّربِ في الولاياتِ المتحدةِ الأميركيةِ بعدَ عامِ 1945م خَفَّضَ مِنْ نِسْبَةِ تَسَوُّسِ الأسنانِ بـ 40%-70% عندَ الأطفالِ، وَخَفَّضَ ما نِسْبَتَهُ 40%-60% مِنْ فُقْدانِ الأَسْنانِ عِنْدَ الكِبارِ. فَتُدْرَسُ مَنافِعُ إضافَةِ الفلوريدِ إلى مياهِ الشربِ وَضَرَرُها المحتملِ على يدِ العلماءِ والأطباءِ في الدولةِ، وَيُتَّخَذُ الإجراءُ المناسبُ تبعًا لنتائِجِ هذهِ الدراسةِ.

كما تُوَفِّرُ الدولةُ الإسلاميةُ الفحصَ الدوريَّ المجانيَّ للفمِ والأسنانِ لجميعِ الرعيةِ، وخصوصًا للأطفالِ في مراحلِ الدراسةِ المختلفةِ لمتابعةِ نُمُوِ الأسنانِ وكشفِ الأمراضِ والتَسَوُّسِ مُبَكِّرًا وعلاجِها.

هـ) السَّلامَةُ والصِّحَّةُ المِهْنِيَّةُ: السلامةُ والصحةُ المهنيةُ هيَ مجالٌ يعنى بالحفاظِ على سلامةِ وصحةِ العاملِ أوِ الموظَّفِ في الدولةِ، وذلكَ عنْ طريقِ توفيرِ الحمايةِ المهنيةِ للعمالِ والحدِّ منْ خطرِ المُعَدَّاتِ والآلاتِ والموادِّ المستخدمةِ ونواتجِها وخطرِ مكانِ العملِ على العُمَّالِ، ومحاولةِ منعِ وقوعِ الحوادثِ وأمراضِ المهنَةِ أوِ التقليلِ منْ حدوثِها، وتوفيرِ الجوِّ المهنيِّ السليمِ الذي يساعدُ العمالَ على العملِ بأمانٍ.

وقدْ نهى النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يُكَلَّفَ العاملُ فوقَ طاقتهِ، فلا يُطْلَبُ منهُ ما يَعْجَزُ عنهُ أو يُتْعِبُهُ، روى مسلمٌ في صحيحهِ أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلاَ يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُ". بَلْ إنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَنْهَى أنْ تُكلَّفَ البهائِمُ والدوابُّ فوقَ طاقَتِها، فقدْ رَوَى أبو داودَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهُ قَالَ: "إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ دَوَابِّكُمْ مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ"، والحديثُ صَحَّحَهُ الألبانيُّ وقَالَ الْقَارِيُّ في شرحِهِ: "وَالْمَعْنَى لا تَجْلِسُوا عَلَى ظُهُورهَا فَتُوقِفُونَهَا وَتُحَدِّثُونَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاء وَغَيْر ذَلِكَ، بَلْ اِنْزِلُوا وَاقْضُوا حَاجَاتكُمْ ثُمَّ اِرْكَبُوا"، ولا يخفى أنَّ مثلَ ذلكَ يُؤْذِي الدوابَّ ويُتْعِبُها في غيرِ طائلٍ.

وكذلكَ رَوَى أبو داودَ وأحمدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) قَالَ: "أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ."، قالَ الحاكمُ عنْ هذا الحديثِ: "صحيحُ الإسنادِ" ووافَقَهُ الذهبيُّ.

وإنْ كانَ إرهاقُ الدوابِّ وتحميلُها فوقَ طاقَتِها مَنْهِيًّا عنهُ، فإنَّ فعلَ مِثْلِ ذلكَ بالبشرِ حرامٌ منْ بابِ أوْلَى، ولذلكَ يَمْنَعُ المحتسبُ في الدولةِ أربابَ العملِ والمُسْتَأْجِرينَ منَ التعدِّي على العمالِ أوِ الأُجراءِ بإرهاقِهِمْ أو تحميلِهِمْ ما منْ شأنِهِ الإضرارُ بصحتِهِمْ، كما ويُجْبِرُ المحتسبُ صاحبَ العملِ أوِ المُسْتَأْجِرَ على الالتزامِ بمعاييرِ السلامةِ وتقليلِ الخطرِ في بيئةِ العملِ، وذلكَ منْ بابِ الوقايةِ ومنعِ حصولِ الضررِ.

وَقَالَ ابنُ رُشْدٍ القُرْطُبِيِّ في "البَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ" عِنْدَ حَدِيثِهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) مِنَ التَّفَقُدِ لأَِحْوَالِ رَعِيَّتِهِ: "قَوْلُ مالِكٍ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) مَرَّ بِحِمَارٍ عَلَيْهِ لَبِنٌ فَوَضَعَ عَنْهُ طُوبَتَيْنِ، قالَ: فَأَتَتْ سَيِّدَتُهُ عُمَرَ فَقالَتْ: يا عُمَر، مالَكَ لِحِمَارِي، أَلَكَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ؟ قَالَ: فَمَا يُقْعِدُنِي فِي هذا المَوْضِعِ؟ وَسُئِلَ مالِكٌ عَنْ حَديثِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ حينَ ذَكَرَ رَقِيقَ الحَوَائِطِ إِذْ كَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَيُخَفِّفُ عَنْ ثِقَلِهِمْ وَيَزِيدُ في رِزْقِ مَنْ أَقَلَّ لَهُ، أَكَانَ ذلِكَ في رَقيقِ النَّاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَغَيْرهُمْ مِنَ الأحْرارِ مَنْ عَمِلَ ما لا يُطِيقُ، فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ الوُلاةَ عِنْدَنَا يُوَكِّلُونَ الشُّرَطَ فِيمَنْ مَرَّ بِهِ بِحِمْلٍ ثَقيلٍ مِنْ جَمَلٍ أَوْ بَغْلٍ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ، قَالَ: أَرَى أَنْ قَدْ أَصَابُوا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ: المَعْنَى في هذَا بَيِّنٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ" الحَدِيثُ (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) لِهذا الحَدِيثِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ: لَوْ مَاتَ جَمَلٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ ضَيَاعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللهُ عَنْهُ"، انْتَهَى كَلامُ ابنُ رُشْدٍ القُرْطُبِيِّ. فَها نَحْنُ نَرَى عُمَرَ (رضي الله عنه) يُخَفِّفُ مِنْ عِبْءِ العُمَّالِ وَيَزِيدُ في أَجْرِ مَنْ كُلِّفَ مِنْهُمْ بِحِمْلٍ ثَقِيلٍ وَعَمَلٍ مُضْنٍ شَدِيدٍ.

و) الفُحُوصَاتُ المَسْحِيَّةُ: الفحصُ المَسْحِيُّ هوَ فَحْصٌ يُجْرَى لمجموعةِ الرَّعِيَّةِ لِكَشْفِ المرضِ عندَ الأفرادِ الذينَ لا تظهرُ عليهمْ عوارضُ المرضِ أوْ علاماتُهُ. وبخلافِ الفحوصاتِ الطبيةِ المعهودةِ، يُجرى الفحصُ المَسْحِيُّ لأفرادٍ لا يظهرُ عليهِمْ أيُّ أَمارَةٍ للمرضِ.

أما هدفُ الفحوصاتِ المسحيةِ فهوَ كشفُ المرضِ في مجتمعِ ما مُبَكِّرًا بحيثُ يتمكنُ المُعالِجُ منْ التَّدَخُّلِ والعلاجِ المبكرِ لتقليلِ المعاناةِ منَ المرضِ ورفعِ نسبةِ نجاحِ العلاجِ.
وَتُقَرِّرُ لجنةٌ منَ الأطباءِ المختصينَ الأمراضَ التي يلزمُ أن تُوَفِّرَ الدولةُ الفحوصاتِ المسحيةِ لها لرعيتِها. ويجبُ أنْ تتوفرَ في المرضِ الذي يُرادُ إجراءُ فحصٍ مسحيٍ للكشفِ عنهُ بعضُ الأمورِ، مثلُ: أنْ يُشكِّلَ المرضُ مشكلةً صحيةً جَدِّيَّةً، وأنْ يكونَ هنالكَ علاجٌ للمرضِ، وأنْ يكونَ فحصُ كَشْفِ المرضِ ذا إمكانيةٍ تشخيصيةٍ مُرتفعةٍ، وأنْ تكونَ هنالكَ فترةٌ في مسارِ المرضِ يكونُ المرضُ خلالهَا مُسْتَتِرًا كامِنًا.

ولا يُجبرُ أفرادُ الرعيةِ على إجراءِ الفحوصاتِ المسحيَّةِ إلا إذا تَرَتَّبَ على امتناعهمْ ضررٌ يلحقُ ببقيةِ الرعيةِ، لتحريمِ الضررِ بالقاعدةِ الشرعيةِ والحديثِ: "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ".

[يتبع]

المصدر: مجلة الوعي

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (3)



بسم الله الرحمن الرحيم

2- البيطرة:

البَيْطارُ أو المُبَيْطِرُ في اللغةِ هوَ مُعالجُ الدوابِّ، وهوَ يُبَيْطِرُ الدوابَّ أَيْ يُعالجُها، ومعالجتُهُ البَيْطَرَةُ. ووظيفةُ البياطِرَةِ الأساسيةُ في الدولةِ هيَ الحفاظُ على جودةِ الإنتاجِ الحَيَوانِيِّ وتكثيرُهُ. إلا أَنَّ كَوْنَ الثروةِ الحيوانيةِ مصدرًا منْ مصادِرِ الغذاءِ، وكوْنَ بعضِ الأمراضِ الحيوانيةِ قدْ تنتقلُ إلى الإنسانِ بِطُرُقٍ مختلفةٍ وَتُؤَثِّرُ على صحتِهِ، يجعلُ وظيفةَ البيطارِ شاملةً أيضًا لمراقبَةِ صحةِ الحيواناتِ في الدولةِ، ومنعِ الأمراضِ الناتجَةِ عنِ الحيواناتِ، سواءً الداجنةَ منها أَمِ البريةِ، والتي تؤثِّرُ على الإنسانِ. ولذلكَ تهتمُ الدولةُ الإسلاميةُ بإنشاءِ جهازٍ خاصٍّ منَ البياطرَةِ يكونُ تابعًا لدائرةِ الزراعةِ باعتبارِ وظيفته الأساسِيَّةِ، ومُرْتَبِطًا بدائِرَةِ الصحةِ فيما يَخصُّ الجوانبَ التاليةَ:

أ- مراقبةُ صحةِ الحيواناتِ: يتوجبُ على جهازِ البيطرةِ في الدولةِ الإسلاميةِ أنْ يُراقِبَ جميعَ المزارعِ الحيوانيةِ التابعةِ للدولةِ أوْ للأفرادِ، بأنْ يُخَصَّصَ لكلِ مزرعةٍ أوْ مجموعةِ مزارعٍ بيطارًا يَهْتَمُّ بمراقبةِ ومتابعةِ صحةِ الحيواناتِ فيها، وينطبقُ هذا الأمرُ أيضًا على حدائقِ الحيوانِ. ويقومُ هذا البيطارُ بتطعيمِ الحيواناتِ أوِ الدواجنِ ضدَّ الأمراضِ التي قدْ تنتقلُ إلى البشرِ، فضلاً عنْ باقي الأمراضِ التي لا تُعْدِي البشرَ ولكنَّها تُؤَثِّرُ في الإنتاجِ الحيوانِيِّ. ويتوجبُ على البيطارِ إذا شَخَّصَ مرضًا مُعْدِيًا أو مُؤَثِّرًا على الإنسانِ في أَحَدِ المزارعِ أنْ يُخْبِرَ دائرةَ الصحةِ فضلاً عنْ دائرةِ الزراعةِ، حتى تقومَ بالاحتياطاتِ اللازمةِ لمنعِ انتشارِ المرضِ إلى الناسِ، أو لعلاجِ الأفرادِ الذينَ قدْ يكونُ المرضُ قدْ أصابَهُم. أما إذا شَخَّصَ البيطارُ مرضًا لا يُؤَثِّرُ على الإنسانِ لكنَّهُ يُؤَثِّرُ في الإنتاجِ الحيوانيِّ أوْ جودتِهِ فإنَّهُ يرفعُ الأمرَ إلى دائرةِ الزراعةِ فقطْ لتقومَ بالإجراءاتِ اللازمةِ.
وَيُراقِبُ البيطارُ أَساليبَ تَرْبِيَةِ وَتَنْمِيَةِ الحيواناتِ في المزارعِ، وَتَمْنَعُ الدولةُ ما يَضُرُّ مِنْ هذهِ الأساليبِ بِصِحَّةِ الرعيةِ ممنْ يتناولونَ مُنتجاتِ أوْ لحومِ هذهِ الحيواناتِ.

ب- مكافحةُ الآفاتِ الناقلةِ للأمراضِ: إنَّ بعضَ الأمراضِ تنتقلُ إلى البشرِ عنْ طريقِ الآفاتِ الحيوانيةِ كالبَعوضِ والذُّبابِ والقوارضِ والضَّواري، مثل أمراضِ المَلاَرْيَا وَالطَّاعُونِ وَدَاءِ الكَلَبِ وغيرِها مِنَ الأَوْبِئَةِ. وهذا منَ الضررِ الذي قدْ يقعُ على الرعيةِ، ولذلكَ يقومُ جهازُ البيطرةِ بعلاجِ هذهِ الآفاتِ والتخلصِ منها بِأَنْجَعِ الطُّرُقِ وَأَقَلِّهَا تأثيرًا على البيئةِ وصحةِ الرعيةِ، منْ بابِ إزالةِ الضررِ الذي أمرَ الإسلامُ بِهِ راعِيَ الشُؤُونِ.

ج- الحفاظُ على الحيواناتِ البَرِّيَّةِ: إنَّ الحفاظَ على الثروةِ الحيوانيةِ البريةِ ضروريٌّ للحفاظِ على الدورةِ الحياتيةِ وميزانِ الطبيعةِ، كما أَنَّ مُراقبةَ صحةِ الحيواناتِ البريةِ مهمٌ لِمَنْعِ انتقالِ الأمراضِ إلى الحيواناتِ الأليفةِ أوِ الإنسانِ، كداءِ الكَلَبِ أوِ السُّعَارِ وَإِنفلوانزا الطُّيورِ وغيرِها مِنَ الأمراضِ المُعْدِيَةِ. وَتُخَصِّصُ الدَّوْلَةُ لهذا الغرضِ بياطرةً يُراقِبونَ صِحَّةَ الحيواناتِ البريةِ ويُطَّعِّمُونَها ويُعالجونَ الأمراضَ التي تُصيبُها، حتى لا تَنْتَقِلَ هذهِ الأمراضُ إلى الحيواناتِ الداجنةِ في الدولةِ عنْ طريقِ الآفاتِ أو الاتصالِ المُباشرِ، وَتُهَدِّدُ بالتالي صحةَ الرعيةِ.

د- تجربةُ الأدويةِ على الحيوانِ وزراعةِ أعضاءِ الحيواناتِ وَإِنْتاجُ الأدويةِ والأَمْصالِ مِنْها: يحتاجُ البحثُ العلميُّ الطبيُّ وتطويرُ الأدويةِ والطُرُقِ العلاجيةِ في بعضِِ مراحِلِهِ إلى تجربةِ هذهِ الأدويةِ أو تطبيقِ هذهِ الطرقِ العلاجيةِ على الحيواناتِ الملائمةِ قبلَ استخدامِها لعلاجِ البشرِ، وذلكَ لفحصِ فعالِيَّتِها أو ضَرَرِها المحتملِ قبل إعطائِها للإنسانِ. واستخدامُ الحيواناتِ لهذا الغرضِ جائزٌ شَرْعًا، لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى سَخَّرَ كُلَّ ما في الكونِ للإنسانِ، ومنهُ الحيواناتُ، فقالَ سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [لقمان 20]، وقال سبحانه وتعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية 13] والتسخيرُ حقيقتُهُ التَّذْلِيلُ والتَّطْوِيعُ، وهوَ مجازٌ في جَعْلِ الشيءِ قابلاً لتصرُّفِ غيرهِ فيهِ، ومنْ هُنا اسْتُنْبِطَتِ القاعِدَةُ الشرعيةُ أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ ما لمْ يرِدْ دليلُ التحريمِ.
وقدْ نهى الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنْ تعذيبِ الحيواناتِ، ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ قَالَ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"، وعنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ (رضي الله عنه) قالَ: كُنَّا معَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا"، وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: "مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟"، قُلْنَا: "نَحْنُ"، قَالَ: "إِنَّهُ لا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ"، رواهُ أبو داودٍ بسندٍ صحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ. وَرَوَى أَبو داود بسندٍ صحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ أيضًا عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) دَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟"، فَجَاءَ فَتًى مِنْ الأَنْصَارِ فَقَالَ: "لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ"، فَقَالَ: "أَفَلا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ". كَمَا أَنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَهَى عنْ قَتْلِ الحيواناتِ عبثًا، فقدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلا سَأَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قِيلَ: "يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا حَقُّهَا؟"، قَالَ: "يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهَا"، وفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أيضًا أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَارَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً"، وقالَ الشوكانيُّ في السَّيْلِ الجَرَّارِ إنَّ هذا الحديثَ مرويٌّ منْ طُرُقٍ قدْ صَحَّحَ الأئمَةُ بَعْضَها.

إِلا أَنَّ استخدامَ الحيواناتِ للتجاربِ العلميةِ وَمِنْها الطِّبِّيَّةِ جائزٌ وإنْ أَفضى إلى قَتْلِها، لأنَّ مفهومَ المخالفةِ للحديثِ السابقِ أنَّ منْ قَتَلَ حيوانًا في منفعةٍ لمْ يرتكبْ حرامًا. ولكنْ يُسْتَثْنَى منْ هذهِ الحيواناتِ الأصنافُ التي ذُكرتْ في الحديثِ الذي رواهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (رضي الله عنه) فقالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَهَى عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالْهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ"، رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجةَ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ. ويُسْتَثْنَى كذلكَ مِنَ الحيواناتِ الجائِزِ اسْتِخْدامُها للأغراضِ الطبيةِ الضِّفْدَعُ، لما رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ ورواهُ النسائِيُّ بإسنادٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ أنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى طَبِيبًا عنْ قتلِ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ.

وَمِنَ المفضلِ أَنْ تُقَدَّمَ العَقْرَبُ والحَيَّةُ والغُرَابُ وَالحِدَأَةُ وَالفَأْرَةُ أوِ الجُرْذُ والكلبُ العَقورُ والوَزَغُ على غيرِها مِنَ الحيواناتِ لِغَرَضِ الأبحاثِ العلميةِ إِذا اسْتَوَتِ الفائدةُ العلميةُ في كُلٍّ منها، لإباحةِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَتْلَ هذِهِ الأصنافِ، فقدْ رَوَى البُخارِيُّ عنْ عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أنَّ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحَرَمِ، الْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحُدَيَّا وَالْغُرَابُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ"، وفي روايةٍ عندَ مُسلمٍ: "أنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحُدَيَّا وَالْغُرَابِ وَالْحَيَّةِ"، والجُرْذُ منْ فصيلةِ الفِئْرانِ. وَرَوَى البخاريُّ عنْ أُمِّ شَرِيكٍ (رضي الله عنها) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ: "كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ؛".

كَما أنَّ زراعةَ أعضاءِ الحيوانات، أوَ إِنْتاجَ الأدويةِ والأَمْصالِ مِنْها جائِزٌ أيضًا بالشُّروطِ المذكورةِ، وذلكَ لعمومِ أَدِلَّةِ التَّداوِي.
ويحرصُ جهازُ البيطرةِ في الدولةِ الإسلاميةِ على تطبيقِ هذهِ الأحكامِ الشرعيةِ والمساهمةِ في تطويرِ وترقيةِ البحثِ العلميِّ الطبيِّ بالتعاونِ مَعَ الأطباءِ والعلماءِ.

3- الرقابةُ الصحيةُ:

تقومُ الدولةُ الإسلاميةُ عنْ طريقِ جهازِ الحسبةِ بمراقبةِ الأمورِ التي تُؤَثِّرُ على صحةِ الجماعةِ بشكلٍ عامٍّ، بحيثُ يَمْنَعُ المحتسبُ كلَّ ضررٍ صحيٍّ يقعُ على الجماعةِ ويعاقِبُ منْ يَتَسَبَّبُ بهِ عقوبةً تزجرُهُ عنِ العودةِ إليهِ. وأما باقي القضايا التي لا تتعلقُ بصحةِ الجماعةِ ولكنَّها تضرُّ بصحةِ بعضِ الأفرادِ أوِ الفئاتِ في الدولةِ الإسلاميةِ، فيُعيَّنُ لها جهازٌ يُراقِبُها ويُتابِعُها، ويقومُ بمنْعِها إذا وَجَدَ أنها تُلْحِقُ الضررَ بهؤلاءِ الأفرادِ أو الفئاتِ. ومنَ الأمورِ التي يجبُ على المحتسبِ أنْ يُراقِبَها في الدولةِ الإسلاميةِ:

أ- جودةُ الغذاءِ في المطاعمِ والأسواقِ والمصانعِ: إنَّ الطعامَ إذا كانَ فاسِدًا أوْ لمْ تُتَوَخَّ النظافةُ أثناءَ إعدادِهِ أنتَجَ الأمراضَ المختلفةَ ونَقَلَ العَدْوَى، لذلكَ وَجَبَ عَلى مَنْ يصنعُ الطعامَ ويُقَدِّمُهُ في المحلاتِ العامَّةِ أنْ يَلْتَزِمَ بالنظافةِ الكاملةِ وبجودةِ الطعامِ المُقَدَّمِ. وعلى المحتسبِ أنْ يقومَ بإغلاقِ المطاعمِ أوْ محلاتِ الطعامِ التي يَتَبَيَّنُ أنها تُقَدِّمُ الطعامَ الفاسِدَ أوِ المغشوشَ، ومعاقبةِ أصْحابِها إنْ كانوا مُقَصِّرِينَ أو مُتَعَمِّدِينَ في بيعِ الغذاءِ الفاسِدِ. ولا يُعادُ فَتْحُها إلا بعدَ إعادَةِ فحصِ جَوْدَةِ ما تُقَدِّمُهُ للناسِ منْ غذاءٍ. روى مسلمٌ في صحيحِهِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟"، قَالَ: "أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ –أيِ المَطَرُ- يَا رَسُولَ اللَّهِ ". قَالَ: "أَفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"، وفي روايةٍ عندَ الترمذيِّ صَحَّحَها الألبانيُّ: "مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا".

ب- المواصفاتُ والمعاييرُ للمنتجاتِ والسِّلَعِ: إنَّ بعضَ السلعِ والمنتجاتِ كَمَوَادِّ البناءِ والموادِّ الكيماويةِ كمُبيداتِ الحشراتِ وموادِ
التنظيفِ يمكنُ أنْ تُسَبِّبَ ضَرَرًا على مُسْتَخْدِمِها إذا لمْ تكُنْ مُصَنَّعَةً وَفْقَ مواصفاتٍ ومعاييرَ تضمنُ السلامةَ عندَ استخدامِها، ولذلكَ كانَ لا بُدَّ مِنْ إنشاءِ جهازٍ خاصٍّ في الدولةِ يضمُّ علماءَ في مختلفِ المجالاتِ ذاتِ العلاقةِ لِوَضْعِ هذهِ المعاييرِ والمواصفاتِ وإلزامِ المصانِعِ والمُنتجينَ بها، ويقومُ المحتسبُ بمراقبةِ تطبيقِ هذهِ المعاييرِ والمواصفاتِ ومُعاقبةِ مخالِفِها ومنعِ تداوُلِ السِّلْعَةِ المُخالِفَةِ.

ج- فحصُ الموادِّ المستوردةِ: على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تقومَ بفحصِ الموادِّ المستوردةِ منَ الدولِ الأخرى، سواءَ أكانتْ موادَّ زراعيةً أم صناعيةً، لمنعِ دخولِ ما قدْ يَضُرُّ بالرعيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ أو يَنْقُلُ الأمراضَ والآفاتِ منَ الدولِ الأخرى، كاستيرادِ الحيواناتِ المصابَةِ بمرضٍ مُعْدٍ أو البضاعةِ الفاسدةِ، وتقومُ الدولةُ بإنشاءِ نقاطِ فحصٍ وتفتيشٍ في ثغورِ الدولةِ لهذا الهدفِ. وقدْ روى البخاريُّ في صحيحِهِ، أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ". والروايةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قالَ: "لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"، وَهذِهِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ مُسْلِمٍ جاءَتْ بِصيغَةِ الخَبَرِ وَلَفْظِ النَّفْيِ، لكِنَّها بِمَعْنَى النَّهْيِ بِدَليلِ رِوايَةِ البخاريِّ بِصيغَةِ النَّهْيِ، والمُمْرِضُ هوَ الذي لهُ إِبِلٌ مَرْضَى، والمصحُّ منْ لهُ إبلٌ صِحاحٌ، فيكونُ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قدْ نهى صاحبَ الإبلِ المريضةِ أنْ يورِدَها على الإبلِ الصحيحةِ.

د- مراقبةُ صحةِ القادمينَ للدولةِ: على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تقومَ بفحصِ المُسْتَأْمَنينَ والمُعاهِدينَ والرُّسُلِ القادمينَ إلى الدولةِ الإسلاميةِ منْ دُوَلٍ تنتشرُ فيها أمراضٌ معديةٌ كالطاعونِ أو السَّارْسِ أو السِّلِّ، والكشفِ عنْ حملِهِمْ للمرضِ قبلَ دُخولِهِمُ الدولةَ، فإن وُجِدَ أنَّ أحدهُمْ يحملُ المرضَ وفيهِ قابليةُ نقلِ العدوى مُنِعَ منْ دُخولِ الدولةِ.
وقد سُئِلَ أسامةُ بنُ زيدٍ (رضي الله عنه): "مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي الطَّاعُونِ؟"، فَقَالَ أُسَامَةُ (رضي الله عنه): قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ -أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ-، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ"، رواهُ البخاريُّ. وروى مسلمٌ في صحيحهِ أنهُ كانَ في وفدِ ‏ثقيفٍ‏ ‏رجلٌ‏ ‏مجذومٌ،‏ ‏فأرسلَ إليهِ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ".

هـ- قوانينُ الأمانِ في العملِ: على صاحبِ العملِ أنْ يَوَفِّرَ لعُمالِهِ البيئةَ الصحيةَ الآمنةَ للعملِ، ولا يعرِّضَهُم للخطرِ، وعلى المحتسبِ أنْ يُشْرِفَ على المصانعِ والورشاتِ، ويتأكدَّ منْ خُلُوِّ مكانِ العملِ منْ أيِّ خطرٍ على العمالِ.

4- الحَجْرُ الصحيُّ:

منَ الأمراضِ ما هُوَ مُعْدٍ وذو خطورةٍ عاليةٍ، وَلِمَنْعِ انتشارِ مثلِ هذهِ الأمراضِ يجب أحيانًا عَزْلُ المريضِ المُصَابِ تمامًا، أوِ اتخاذُ إجراءاتٍ وقائيةٍ كَلِبْسِ الكَمَّاماتِ حينَ مُخالَطَتِهِ، حتى لا يتعرضَ الأصحاءُ لما يَحْمِلُهُ المريضُ منْ كائناتٍ دقيقةٍ مُعْدِيَةٍ. وإذا قرَّرَ الأطباءُ أنَّ مريضًا مُعَيَّنًا يُشَكِّلُ خطرًا ومصدرًا لنقلِ العدوى فإنَّ على الدولةِ أنْ تقومَ بعزلِ ذلكَ المريضِ عنِ الناسِ في بيتِهِ أوْ في المُسْتَشْفَى إِنِ احتاجَ إلى علاجٍ ومُتابعةٍ، أو تُجْبِرَهُ على اتخاذِ الإجراءاتِ الوقائيةِ اللازمةِ إنْ لمْ يَتَطَلَّبِ الأمرُ عزلَهُ تمامًا عنِ الناسِ.

وإذا لمْ يلتزمِ المريضُ بقرارِ العزلِ في هذِهِ الحالةِ أَجبرتْهُ الدولةُ وعزلتْهُ بالقوةِ، لأنَّ في خروجِهِ ومخالطتِهِ للناسِ ضررًا عليهِمْ، وذلكَ لأنَّ الإمامَ راعٍ وهوَ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ، ولأنَّ القاعدةَ الشرعيةَ "لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ" توجِبُ على الإمامِ إِزالَةَ الضررِ عنْ رعيتِهِ. غيرَ أنَّ على الإمامِ أنْ يتكفَّلَ بالإنفاقِ على المريضِ المحجورِ إنْ لمْ يكنْ يملِكُ كفايتَهُ منَ المالِ لحبسِهِ عنِ العملِ والخروجِ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أحمد بإسنادٍ حسنٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تَفْنَى أُمَّتِي إِلا بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ"، قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟"، قَالَ: "غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، الْمُقِيمُ بِهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنْ الزَّحْفِ". والطاعونُ مرضٌ خطرٌ مُعْدٍ، وقدْ جعلَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمنْ يَصْبِرُ ولا يَبْرَحُ مكانَهُ منَ المَطْعُونِينَ أجرَ الشهيدِ، وَلِمَنْ خَرَجَ مِنْ دائرةِ الحجرِ والعزلِِ فخالطَ الناسَ وِزْرَ الفرارِ منَ الزحفِ وهوَ مِنَ السَّبْعِ المُوبِقاتِ، قرينةً على حُرمةِ مُخالَطَةِ المريضِ بمثلِ هذهِ الأمراضِ للأصحاءِ.

وقدْ يُعْزَلُ مريضٌ لأنَّ جهازَ المناعةِ لديهِ ضعيفٌ ولا يقوى حتى على مكافحةِ الأمراضِ البسيطةِ التي قدْ يَنْقُلُها إليهِ غيرُهُ منَ الناسِ، ومثلُ هذا المريضِ يُعْزَلُ خوفًا عليهِ منَ العَدْوى لا خوفًا على الناسِ منه، ولا تُجْبِرُهُ الدولةُ على اجتنابِ مخالطةِ الناسِ، لأنهُ لا يوجدُ ضررٌ على الجماعةِ في هذهِ الحالةِ وإنما يقتصرُ الضررُ على الفردِ، ويكونُ على الفرد أن لا يُعرِّض نفسَهُ للخَطَرِ، وأن يأخذ بالوقايةِ التي فَرَضَها اللهُ عليهِ، كما سَنُبَيِّنُ أَدِلَّةَ ذلكَ في بابِ الوقايَةِ إِنْ شاءَ اللهُ.

5- بنك الدم:

بنكُ الدمِ هوَ الجهةُ التي تقومُ بجمعِ الدمِ ومكوناتِهِ وحِفْظِها وتوصيلِها إلى مَنْ يحتاجُها، وكذلكَ تقومُ بمتابعةِ عمليةِ تَقْدِيمِهَا للمرضى وما قدْ يَنْتُجُ عنْ هذا التقديمِ منْ مضاعفاتٍ أوْ أمراضٍ. وَيُؤَسَّسُ لهذهِ الأغراضِ جِهازٌ إداريٌّ تابعٌ لدائرةِ الصحةِ، يضمُّ كادِرًا منَ الأطباءِ والمُمَرِّضَاتِ وباقي الموظفينَ والعلماءِ، بحيثُ يكونُ في كلِّ عَمَالَةٍ فرعٌ ثانويٌّ لبنكِ الدمِ فيهِ ما يكفي منَ الدمِ ومكوِّناتِهِ للعلاجِ اليوْمِيِّ في مستشفياتِ تلكَ العمالةِ، وبحيثُ يكونُ هنالكَ فرعٌ رئيسيٌّ للولايةِ كُلِّها يَضُخُّ ما يكفي منَ الدمِ ومكوِّناتِهِ إلى فروعِ العمالاتِ الثانويةِ في حالةِ النقصِ أوِ الحاجاتِ الاستثنائيةِ كالحروبِ والكوارثِ.
ومع أن الدم محرم لقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة 3]، إلا أن التداوي بالمحرم جائز، لأَنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ (رضي الله عنهما) فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا، والحديثُ رواهُ الشيخانِ، ولبسُ الحريرِ للرِجالِ حَرامٌ. كما أنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ (أَيْ مِنْ فِضَّةِ) فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ، رواهُ أبو داودَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ، ولبسُ الذَّهَبِ للرِجالِ حَرامٌ أيضًا، ومنْ هنا كانَ التداوي بالمُحَرَّمِ جائِزًا، أيْ ليسَ بحرامٍ، ويدخلُ في ذلكَ الدمُ.

وَيُجْمَعُ الدَّمُ منَ الناسِ في مراكزَ خاصةٍ وَيُحْفَظُ في بنكِ الدمِ، وتقومُ الدولةُ بحملاتٍ إعلاميةٍ دوريةٍ لحثِّ الناسِ على التبرعِ بالدمِ لما في ذلكَ منْ ضرورةٍ لعلاجِ المرضى وتطبيبِ المجاهدينَ. وَتُفْحَصُ فِئَةُ الدمِ عندَ كلِّ منْ يتبرعُ بالدمِ، وتُحْفَظُ في بياناتِ بنكِ الدمِ، حتى إذا احتاجَ يَوْمًا إلى الدمِ كانتْ فئةُ دمِهِ معلومَةً، كما أنَّهُ إذا نقصَتْ هذِهِ الفئَةُ منْ مخزونِ بنكِ الدمِ، أَمْكَنَ الاتصالُ بصاحِبِها وطَلَبِ التَّبَرُّعِ بدمِهِ. كَما تُفْحَصُ فِئَةُ دمِ كُلِّ منْ يَتَجَنَّدُ لجيشِ الدولةِ الإسلاميةِ، لتسهيلِ عمليةِ إِعْطاءِ الدمِ ذي الفِئَةِ المناسبةِ في حالةِ إصابَتِهِ في الجهادِ واحتياجِهِ إلى الدمِ. وَيُفْحَصُ كَذلِكَ خُلُوُّ الدمِ منْ مُسَبِّبَاتِ المرضِ التي قدْ تنتقِلُ عنْ طَريقِهِ.

ولأنَّ الدولةَ الإسلاميةَ دولةٌ مبدئيةٌ تُطَبِّقُ الإسلامَ في الداخلِ وتحملُ دعوتَهُ إلى الخارجِ بالجهادِ، فإنَّها تكادُ تكونُ في حالةِ حَرْبٍ دائمَةٍ لنشرِ الإسلامِ والذَّوْدِ عنِ المسلمينَ، ولذلكَ كانَ على بنكِ الدمِ أَنْ يكونَ مُسْتَعِدًّا دائِمًا لتزويدِ الخطوطِ الأماميةِ للجيشِ بما يلزَمُ منَ الدمِ ومكوِّناتِهِ لعلاجِ الجرحى، وتُقامُ لهذا الغرضِ فروعٌ خاصةٌ لبنكِ الدمِ في الثغورِ تَجْمَعُ الدمَ منَ المقاتلينَ في الخطوطِ الخلفِيَّةِ ومناطقِ الاتصالِ، لتقديمِهِ للجرحى في الخطوطِ الأماميةِ، وعلى هذهِ الفروعِ المُقامَةِ في الثغورِ أَنْ تسعى قدرَ المُستطاعِ إلى تحقيقِ الاكتفاءِ الذاتيِّ خاصةً في أوقاتِ الالتحامِ، حتى لا تكونَ متعلقةً بالإمداداتِ الخلفيةِ لإمْكانِيَّةِ حُصولِ الانقطاعِ، وإذا حَصَلَ نَقْصٌ في كميةِ الدمِ فيُطْلَبُ ما يَسُدُّ هذا النقصَ منَ الدمِ منْ فروعِ بنكِ الدمِ في الولاياتِ المُتاخِمَةِ للثَغْرِ.

وعلى جهازِ بنكِ الدمِ أنْ يهتمَّ بموازنَةِ مخزونِ الدمِ بالطَّلَبِ، بحيثُ لا يزيدُ الطلبُ على المخزونِ فيحصلَ النقصُ ويَتَأَخَّرُ أوْ يَتَعَطَّلُ العلاجُ، وكذلكَ لا يزيدُ المخزونُ على الطلبِ فيتلفَ الدمُ بعدَ انتهاءِ صلاحيَّتِهِ.
وإذا نقصَ الدَّمُ وَكَثُرَ الجرحى أوِ المرضى المحتاجونَ لهذا الدمِ عند الحوادث الطارئة كهجوم عدو أو الزلازل أو الطوفان...، ولمْ يَكْفِ المتبرعونَ بالدمِ لِسَدِّ الحاجةِ للدمِ، فللدولة أن تُجْبِرُ من رعاياها منْ لا يُسَبِّبُ أخذُ الدمِ منهمْ ضَرَرًا عليهم أوْ على مُتَلَقي الدمِ، تُجْبِرُهُمْ على إِعْطاءِ الدَّمِ حتى تَحْصُلَ الكفايةُ. لأنَّ التطبيبَ فرضٌ على الدولةِ، وعدمُ توفيرِهِ يُشَكِّلُ ضَرَرًا تجَِبُ إزالتُهُ، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا ضرر ولا ضرار». هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن للدولةِ أن تفرض ضرائِبَ وفق الأحكام الشرعية إنْ لم يوجدْ في بيتِ المالِ مالٌ للصرفِ على نفقات الحوادث الطارئة من مجاعات وزلازل وطوفان أو هجوم عدو...، وبناء عليه فإنها تجبر من رعاياها منْ لا يُسَبِّبُ أخذُ الدمِ منهمْ ضَرَرًا عليهم أوْ على مُتَلَقي الدمِ، تُجْبِرُهُمْ على إِعْطاءِ الدَّمِ حتى تَحْصُلَ الكفايةُ لسد الحاجة الضرورية لهذه الحوادث الطارئة إن لم يكن في مخزون الدم لديها ما يكفي.

[يتبع]

المصدر: مجلة الوعي

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (2)


بسم الله الرحمن الرحيم

الصحة العامة

تتعلقُ الرعايَةُ الصحيةُ العامةُ بالعواملِ التي تُؤَثِّرُ على صِحَةِ الجَماعَةِ كَكُلٍّ، كصلاحيةِ مياهِ الشربِ والغذاءِ ونَقاءِ الهواءِ ونَظافةِ البيئةِ والتطعيمِ وغيرها من المجالاتِ. وتهدفُ الرِّعايةُ الصحيةُ العامةُ إلى تَعْزيزِ الصحةِ عنْ طريقِ سياساتٍ على مُستوى الدَّوْلَةِ كُلِّها، وهذهِ السياساتُ تشملُ إِجْراءاتٍ وَمشاريعَ تَقومُ بها الدولةُ، كَمَدِّ شَبَكاتِ الصَّرْفِ الصِّحِيِّ وَإِقامَةِ المَحْمِياتِ الطَّبيعِيَّةِ، وَتَشْمَلُ أيضًا قوانينَ يَتَبَناها الخَليفَةُ وَيُلْزِمُ الرَّعِيَّةَ بها كقوانينِ السَّيْرِ وَمَنْعِ الضَّجيجِ أَوْ تَلْويثِ البيئَةِ.

وَتُرَكِّزُ الرعايةُ الصحيةُ العامةُ في الغالبِ على الوقايةِ مِنَ الأمراضِ أكثرَ مِنَ العلاجِ، ولذلكَ فالوقايةُ مِنْ أَهَمِّ أَقسامِ الرعايةِ الصحيةِ وَأَعَمِّها نَفْعًا وأَكْثَرِها إِنْتاجًا. فعلى سبيلِ المثالِ، فإنَّ إضافةَ اليودِ غيرِ المُكْلِفِ إلى ملحِ الطعامِ في كثيرٍ منْ دُوَلِ العالمِ، خَفَّضَ مِنْ نِسْبَةِ أمراضِ الغُدَّةِ الدَّرَقِيَّةِ والتَّخَلُّفِ العَقْلِيِّ الناتجِ عنْ نقصِ اليودِ بصورةٍ كبيرةٍ. وَيُقَدَّرُ اليومَ أَنَّ أَكثرَ منْ 91 مليونَ طِفْلٍ سَنَوِيًّا كانوا سَيُصابُونَ بمشاكلَ تعليميةٍ وَنَقْصٍ في القُدُراتِ الذِّهْنِيَّةِ لَوْلا هذا الإجْراءِ، وَلأَنَّ مِلحَ الطعامِ يَصِلُ الفَقيرَ وَالغَنِيَّ، كانَ نَفْعُ مِثْلِ هذا الإجراءِ عامًّا. وَكَذلِكَ الأمرُ بالنسبةِ لإضافَةِ فيتامين "دِي" إلى حليبِ البقرِ في الولاياتِ المتحدةِ، فَقَدْ أَدَّى هذا الإجراءُ العامُّ مَطْلِعَ ثلاثيناتِ القرنِ الماضي إلى تَحَوُّلِ مَرَضِ الكُساحِ إلى مَرَضٍ نادِرٍ في الولاياتِ المتحدةِ.
وَمِنْ مجالاتِ الرعايةِ الصحيةِ العامةِ في الدولةِ الإسلاميةِ: 1- حماية البيئة. 2- البيطرة. 3- الرقابة الصحية. 4- الحجر الصحي. 5- بنك الدم.

حماية البيئة

خَلَقَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ مِنَ الأرْضِ، وَاسْتَعْمَرَهُ فيها، وَسَخَّرَ لهُ كلَّ ما في الكونِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ويستفيدَ منهُ، فَقالَ سبحانه وتعالى: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود 61]، وقال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) [الأعراف10]، وقال سبحانه وتعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) [الجاثية13]، وقال سبحانه وتعالى أيضًا: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل 14].
ولا قِيَامَ للإنسانِ بِغَيْرِ الوَسَطِ وَالبيئَةِ التي خُلِقَ فيها وسُخِّرَتْ لَهُ، وصَلاحُ الإنسانِ وَصِحَّتِهِ مِنْ صَلاحِ هذِهِ البيئَةِ واستِمْرارِها على طَبيعَتِها. قالَ سبحانه وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك 30]، وقال سبحانه وتعالى أيضًا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [القصص].

وَتَشْتَمِلُ البيئةُ على عواملَ فِيزْيَائِيَّةٍ وَكِيمْيَائِيَّةٍ وَبيُولوجِيَّةٍ تُؤَثِّرُ على الصِّحَّةِ بِشَكْلٍ مُباشِرٍ، بلْ إِنَّ تَأْثيرَها على الصحةِ يَأْتي في المرتبةِ الثانيةِ مِنْ حيثُ الأهميةُ بعدَ أنماطِ الحياةِ والسلوكِ الذي يَتَّبِعْهُ الفَرْدُ. ففي سنةِ 2002م كانَ مَرَدُّ ثُلُثِ الأَمْراضِ أَلتي يُعاني منها الأَطفالُ دونَ سِنِّ الخامسةِ في العالمِ إلى عواملَ بيئيةٍ مثل المياهِ غيرِ النَّقِيَّةِ وتلوُّثِ الهواءِ، وتسبَّبَتْ هذهِ العواملُ بِشَكْلٍ مُباشرٍ بِثُلُثِ حالاتِ الوَفِياتِ والأمراضِ التي حَدَثَتْ في البُلْدانِ الأَقَلِّ نُمُواً. وَوَفْقَ منظمةِ الصحةِ العالميةِ فَإِنَّهُ منَ المُمْكِنِ إِنقاذُ أربعةِ ملايينَ منَ الأطفالِ دونَ سِنِّ الخامسةِ كلَّ عامٍ -في البُلدانِ النَّامِيَةِ بالدَّرَجَةِ الأُولى- بِتَوَقِّي المَخاطِرِ البيئِيَّةِ مثلِ المياهِ غيرِ النَّقِيَّةِ وَتَلَوُّثِ الهَواءِ.

وقدْ حرَّمَ الإسلامُ الإضْرارَ بالبيئَةِ، لأَنَّ بِها قِوامَ الإنسانِ، وتوعَّد اللهُ سبحانه وتعالى المُفسِدَ للطبيعةِ والبيئةِ بالعقابِ، فقالَ سبحانه وتعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة 205]، فَذَكَرَتِ الآيةُ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَإِهْلاكَ الْحَرْثِ، وَهُوَ مَحَلُّ نَمَاءِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالنَّسْلِ وَهُوَ نِتَاجُ الْحَيَوَانَاتِ الَّذَيْنِ لا قِوَام لِلنَّاسِ إِلا بِهِمَا، وإهلاكُ الحرثِ والنَّسْلِ كِنايَةٌ عَنِ اختلالِ ما بِهِ قِوَامُ أحوالِ الناسِ، وكانوا في السابقِ أَهْلَ حَرْثٍ وَماشِيَةٍ، فَلَيْسَ المُرادُ خُصوصَ هذَيْنِ، بلِ المُرادُ ضَياعُ ما بِهِ قِوَامُ الناسِ، وهذا جارٍ مَجْرَى العِلَّةِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ الإضرارُ بالبيئَةِ أَيْضًا. وقالَ الطَّبَرِيُّ والسُّيُوطِيُّ أَنَّ المَعْنِيَّ في الآيةِ هُوَ الأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثّقَفِيِّ فِي إِحْرَاقه الزَّرْعَ وَقَتْلِهِ الْحُمُرَ، فَقَدْ أَقْبَلَ إِلى النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينةِ وقالَ: "جِئْتُ أُرِيدُ الإِسلامَ، وَيَعْلَمُ اللهُ أَني لَصادِقٌ". فَأَعْجَبَ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلكَ مِنْهُ، ثمَّ خرجَ من عندِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَرَّ بِزَرْعٍ لِقَوْمٍ مِنَ المسلمينَ وَحُمُرٍ، فأحرق الزَّرْعَ وَعَقَرَ الحُمُرَ. غيرَ أنَّ اللفظَ في الآيَةِ عامٌّ، والقاعدةُ تَقْضِي أنَّ العِبْرَةَ بِعُمومِ اللَّفْظِ لا بِخُصوصِ السَّبَبِ، وَلذلكَ كانتِ الآيَةُ عَامَّةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِ الأَخْنَسِ اسْتَوْجَبَ اللَّعْنَةَ وَالْعُقُوبَةَ. والآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ منْ يَتَسَبَّبُ في مثلِ ذلكَ مُسْتَحِقٌّ للعقابِ في الآخرةِ، ولذلكَ جاءت خاتمة الأية: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) تحذيرًا وتوبيخًا، وَهذِهِ قَرِينَةٌ عَلى أَنَّ النَّهْيَ جَازِمٌ.

مِنْ هُنا فإِنَّ الحفاظَ على البيئةِ وحمايَتَها منَ التَّلَوُّثِ والآفاتِ يُعْتَبَرُ مِنْ أهَمِّ رَكائِزِ الرِّعايَةِ الصحيَّةِ، ويَتِمُّ ذلكَ منْ خِلالِ قيامِ الدولةِ بالأُمورِ التالِيَةِ:

1- التقليل من التلويث الصناعي:

الصِّناعةُ أساسٌ هامٌّ مِنْ أُسُسِ الحياةِ الاقتصاديَّةِ لأيَّةِ أُمَّةٍ أو أَيِّ شعبٍ في أيِّ مُجْتَمَعٍ، وفوقَ ذلكَ، فإنَّ كَوْنَ الدولةِ الإسلاميةِ دولةً صاحبةَ رسالةٍ تحملُ الإسلامَ إلى باقي الأمَمِ بالدعوةِ والجهادِ، يَقْتَضِي أنْ تكونَ الصناعَةُ في هذه الدولةِ مَبْنِيَّةً على أساسِ الصناعةِ الحربيةِ وأَنْ تكونَ على أَرْفَعِ دَرَجَةٍ مِنَ التقدُّمِ والتطوُّرِ، قال سبحانه وتعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال 60].

إلا أنَّ الصناعةَ الحديثةَ تُنْتِجُ انْبِعاثاتٍ مختلفةٍ في الهواءِ، وَتَدَفُّقَاتٍ سائِلَةٍ في الأنهارِ والبحارِ والمياهِ الجوفيَّةِ، ومُخَلَّفاتٍ صُلْبَةٍ أُخرى، وهنالكَ أيضًا الفَضَلاتُ المُشِعَّةُ الناتِجَةُ عنِ الصناعاتِ النَّوَوِيَّةِ. وكلُّ هذهِ الانبعاثاتِ والمخلفاتِ تؤثِّرُ بِصورةٍ أوْ بِأُخْرَى على صحةِ الإنسانِ وتُؤَدِّي إلى تَلَوُّثِ البيئةِ وإفسادِها. ولذلكَ كانَ فرضًا على الدولةِ أنْ تُقَلِّلَ أوْ تُعالِجَ هذهِ الفَضَلاتِ الصِّناعِيَّةِ بصورةٍ تُحافِظُ على البيئةِ وصِحَّةِ الرَّعِيَّةِ، قالَ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ الإمامُ البخاري: "الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". ورَوى مُعاذُ بنُ جَبَلٍ (رضي الله عنه)، عنِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَوْلَهُ: "اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَالظِّلِّ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ"، رواهُ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ بسَنَدٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. والحديثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ في الفضلاتِ الصِّناعيَّةِ، ولكنَّ النهْيَ وَرَدَ لِمَنْعِ الضَّرَرِ اللاّحِقِ بالمسلمينَ، فَيَكونُ عِلَّةً يُقاسُ عَلَيْها كُلُّ ما آذى المُسْلِمينَ في مَوارِدِهِم العامَّةِ وبِيئَتِهِم وَطُرُقِهِم. وقدْ جعلَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إماطَةَ الأَذى (مُطْلَقَ الأَذى) ‏عنِ الطريقِ مِنْ شُعَبِ الإيمانِ، فقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ"، رواهُ مُسْلِمٌ. وَفَوْقَ ذلكَ فَالقاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالحديثُ "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ" يُوجِبُ إِزالَةَ الضَّرَرِ الحاصِلِ مِنَ المُخَلَّفاتِ الصِّناعِيَّةِ.
ويكونُ عِلاجُ هذِهِ المُشْكِلَةِ في الدولةِ الإسلاميةِ بِتَخْصِيصِ مَناطِقَ صِناعِيَّةٍ بَعيدَةٍ عنِ المناطقِ السَّكَنِيَّةِ لِلصناعاتِ المُلَوِّثَةِ، ومُراقَبَةِ المُنْشَآتِ الصِّناعِيَّةِ والزِّراعِيَّةِ وَأَيَّةِ مَصادِرَ أُخْرى لِلتَّلَوُّثِ، وإلزامِ تلكَ المنشآتِ والمصادرِ -سواءَ ما كانَ منْها داخلاً في المُلْكِيَّةِ الخاصَّةِ أمِ العامَّةِ- باتِّباعِ أَساليبِ وَنُظُمِ الإنْتاجِ النَّظيفِ، كَوِحْداتِ مُعالَجَةِ الفضلاتِ الصناعيةِ، وَبِعَدَمِ السَّماحِ بِتَسَرُّبِ المُلَوِّثاتِ للبيئةِ المحيطةِ بِما يَتَعَدَّى الحدودَ المسموحَ بِها، وهذهِ الحدودُ يقومُ بِتَعْيينِها أَهْلُ الاخْتِصاصِ منَ العُلماءِ، بِحَيْثُ يُسمحُ فقطْ بالحدِّ الأَدْنى مِنَ الانْبِعاثاتِ والفَضَلاتِ التي لا تُؤَثِّرُ على التَّوازُنِ البيئِيِّ.

كما وتهتمُّ الدولةُ بإنشاءِ مصانعَ لإعادةِ تصنيعِ الفضلاتِ الصناعية المباحة واستِغْلالِها ثانيةً كَأَشْكالٍ جديدةٍ منَ المادةِ والطاقةِ، وهو ما يُسَمَّى بِإعادَةِ التَّدْويرِ، للتقْليلِ منْ كميَّةِ المُخَلَّفاتِ الصناعيةِ. وما يَتَبَقى بعدَ ذلكَ مِنْ هذهِ المُخَلَّفاتِ غَيْرِ القابِلَةِ لِلاسْتِغْلالِ أَوِ التَّدْوِيرِ، فَإِنَّهُ يَتِّمُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ بالدَّفْنِ في المناطِقِ النَّائِيَّةِ. وَيَتِمُّ إنْشاءُ فريقٍ مِنَ العلماءِ لدراسةِ واستحداثِ سُبُلٍ جديدةٍ للتخلُّصِ منْ هذهِ المُخَلَّفاتِ غَيْرِ القابِلَةِ لِلاسْتِغْلالِ أَوِ التَّدْوِيرِ وإزالةِ خَطَرِها وضَرَرِها عَنِ الرَّعِيَّةِ.

وبما أنَّ التلويثَ البيئِيَّ منَ المُخالفاتِ الَّتي تَضُرُّ بالجَماعَةِ، فَإِنَّ قاضيَ الحِسْبَةِ في الدَّوْلَةِ الإسلاميةِ هوَ المسؤولُ عنْ مُراقَبَةِ المصانِعِ والمُنْشَآتِ، للحدِّ منَ الانْبِعاثاتِ الضَّارَّةِ بالبيئةِ، وَيُمْكِنُهُ أنْ يستعينَ بأهلِ العلمِ والمُخْتَصينَ بالبيئةِ للقيامِ بذلكَ، بلْ يَجِبُ عليهِ الاستعانةُ بهمْ لأنَّ ما لا يتمُّ الواجِبُ إِلا بِهِ فَهُوَ واجِبٌ. وَتُحَدَّدُ عُقوباتٌ تَعْزيرِيَّةٌ رادِعَةٌ بِحَقِّ أصحابِ المصانِعِ في حالِ تَعَدِّيهِم الحدَّ المسموحَ بِهِ منَ الانْبِعاثاتِ الصناعيةِ، ويُغْلَقُ المصنعُ إِنْ لَمْ تَرْدَعْهُ العُقُوباتُ وَاسْتَمَرَ في تلويثِ البيئَةِ.

والبيئةُ الطَّبيعِيَّةُ لا تُحَدُّ بِحُدودِ الدَّوْلَةِ، والمُخَلَّفاتُ المُلَوِّثَةُ منْ دولةٍ مُعَيَّنَةٍ قَدْ تؤثِّرُ على البيئةِ في الدُّوَلِ المُجاوِرَةِ، خُصوصًا إِذا انْتَقَلَتِ المُلَوِّثاتُ عبرَ الهواءِ أوْ مجارِي المِياهِ. ولذلكِ يجبُ على الدولةِ الإسلاميةِ مَنْعُ الدُّوَلِ المجاوِرَةِ مِنْ تَلْويثِ البيئةِ ومَنْعُها مِنْ إِلْقاءِ مُخَلَّفاتِها الصناعيَّةِ في أَراضي الدولةِ الإسلاميةِ، وَيُعْتَبَرُ أيُّ تجاوزٍ لهذهِ الشُّروطِ مِنْ قِبَلِ الدُّوَلِ المجاوِرَةِ تَعَدِّيًا على الدولةِ الإسلاميةِ ورَعاياها يَسْتَوْجِبُ إِعْلانَ الجِهادِ والحَرْبِ أوْ تَراجُعَ تلكَ الدُّوَلِ عَنِ التَّلْويثِ.
أَمَّا فيما يخصُّ الاتفاقياتِ والمعاهداتِ الإقليميةِ والدوليةِ بخُصوصِ التلويثِ الصِّناعِيِّ، كبروتوكولِ كيوتو الخاصِّ بِالاحْتِباسِ الحَرَارِيِّ والمُلْحَقِ باتِّفاقِيَّةِ تَغَيُّرِ المناخِ 2003م، واتفاقيةِ استوكهولم لِلْمُلَوِّثاتِ العُضْوِيَّةِ الثَّابِتَةِ سنة 2004م وغيرِها مِنَ الاتفاقياتِ، فَيُنْظَر، فما كانَ منْ هذهِ الاتفاقياتِ والمعاهداتِ تَحْتَ مِظَلَّةِ المُنَظَّماتِ الَّتي تقومُ على غيرِ أساسِ الإسلامِ أوْ تُطَبِّقُ أَحْكامًا غيرَ أَحْكامِ الإسلامِ، كَهَيْئَةِ الأُمَمِ المُتحدةِ ومحكمةِ العدلِ الدَّوْلِيَّةِ وصُندوقِ النَّقْدِ الدَّوْلِيِّ، والبنكِ الدَّوْلِيِّ، وكالمنظماتِ الإقليميةِ مثل الجامِعَةِ العربِيَّةِ وغيرِها، فإنه لا يجوزُ للدولةِ أَنْ تَشْتَرِكَ فيها إِنِ اشْتُرِطَ عليها أَنْ تَكُونَ عُضْوًا في هذهِ المنظماتِ. وَحَتَّى لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تَنْضَمَّ إِلى هذهِ المنظماتِ، فإِنَّ عَقْدَ اتفاقياتٍ ومعاهداتٍ مَعَ هذهِ المنظماتِ يُساهِمُ في تَقْوِيَتِها مَعْنَوِيًّا.

وذلكَ لأَنَّ الموضوعَ الذي قامَتْ عَلَيْهِ مثلُ هذهِ المُنَظَماتِ الدوليةِ والمُنظماتِ المحليَّةِ يُحَرِّمُهُ الشَّرْعُ، فهيئةُ الأُمَمِ تقومُ على أساسِ النِّظامِ الرأْسمالِيِّ وهو نظامُ كُفْرٍ، علاوةً على أنَّها أداةٌ في يدِ الدولِ الكُبرى ولا سِيَّما أميركا، تُسَخِّرُها مِنْ أَجْلِ فَرْضِ سيطَرَتِها على الدولِ الصُّغْرى، ومنها الدولُ القائِمَةُ في العالمِ الإسلاميِّ. لذلكَ نرى أنَّ الدولَ الكُبرى تُوَقِّعُ على الاتفاقياتِ التي تَضْمَنُ مصالِحَها على حسابِ باقي الدولِ فَقَطْ، وعلى سبيلِ المثالِ فإِنَّ أميركا رفضَتِ التوقيعَ على بروتوكولِ كيوتو الذي يَتَضَمَّنُ تخفيضَ انبِعاثاتِ الغازاتِ السَّامَةِ مِنْ قِبَلِ الدُّوَلِ الصِّناعِيَّةِ بِنِسْبَةِ 5.2 بالمائة، خوفًا منْ أَنْ تَتَأَثَّرَ صناعاتُها، عِلْمًا أنَّ أَميركا مَسؤُولَةٌ عنْ رُبْعِ كَمِّيَّاتِ الغازاتِ الصناعيةِ المُنْبَعِثَةِ في الجَوِّ.

وَلِذلِكَ يُعْمَلُ على هَدْمِ هذِهِ المنظماتِ بَدَلَ تَقْوِيَتِها بِعَقْدِ المعاهداتِ والاتفاقياتِ مَعَها، وَعَلَى استبدالِها بِمُنَظَّمَةٍ عالميَّةٍ جديدةٍٍ، لا يكونُ للدولِ العُظْمَى عَلَيْها هَيْمَنَةٌ وَلا سُلْطانٌ، وَلا تكونُ بمثابَةِ دولَةٍ عالميَّةٍ، بَلْ تقومُ هذهِ المُنَظَّمَةُ الجديدةُ على احترام قواعد متعارف عليها من جميع المجموعات البشرية، ويقرها الإسلام، مثل انصاف المظلوم ومنع الظلم وما يسمى بحصانة السفراء... وهكذا، ومن ثم َإِشاعَةِ العَدْلِ بَيْنَ البشريَّةِ جمعاءَ، بِمَا لَهَا مِنْ قُوَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ تَتَمَتَعُ بِها، وَمِنْ قُوَّةِ رَأْيٍ عامٍّ عالميٍّ يُؤَازِرُها وَيُوَلِّيها تَأْيِيدَهُ وَيَمْنَحُها احتِرامَهُ وَثِقَتَهُ، لِكَوْنِها منظمةً لا تَعْمَلُ لحسابِ دولةٍ مِنَ الدُّوَلِ، وَإِنَّما تعملُ لمصلحةِ البشريةِ جمعاءَ، وتكونُ مِثْلَ حِلْفِ الفُضُولِ الذي قامَ قَبْلَ البِعْثَةِ، حيث تعاهدوا فيه على رفع الظلم وإنصاف المظلوم، وقد حَضَرَهُ رَسولُ اللهِ ص وَقالَ عَنْهُ بَعْدَ البِعْثَةِ: "لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ"، رَواهُ ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ. وَرَوى أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ عوفٍ (رضي الله عنه) عَنِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ"، والحديثُ صَحَّحَهُ الألبانيُّ في السلسلةِ الصحيحةِ، والمقصودُ بِحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ في الحديثِ هُوَ حِلْفُ الفُضُولِ، لأنَّ أَصْحابَهُ هُمْ في الأصْلِ مِنْ جَماعَةِ المُطَيَّبِينَ، والرَّسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمْ يَشْهَدْ حِلْفَ المُطَيَّبِينَ.

أَمَّا مُعاهداتُ واتفاقياتُ مَنْعِ التَّلَوُّثِ البيئِيِّ التي تعقِدُها دولةُ الإسلامِ معَ غَيْرِها منَ الدُّوَلِ خارِجَ مِظَلَّةِ المُنَظَّماتِ الدُّوَلِيَّةِ، فهيَ جائِزَةٌ إِنْ كانَ موضوعُ التعاقُدِ قَدْ أَجازَهُ الشَّرْعُ، وَكانَتْ هذِهِ المعاهداتُ لا تُؤَثِّرُ على كيانِ الدولةِ، ولا تُنْقِصُ مِنْ سُلْطانِها الداخلِيِّ والخارجِيِّ، ولا تجعلُ للكافرِ سُلطانًا عَليها، كأنْ تُخْرِجَ الموادَّ الخامَّ منَ البلادِ، أوْ تُسَبِّبَ إِقْفَالَ مصانعِ البلادِ أوْ ما شاكَلَ ذلكَ. وَإِنَّما تُحَدَّدُ المعاهداتُ بِما لا ضَرَرَ مِنْهُ وتُمْنَعُ مِنْ كُلِّ ما فيهِ ضَرَرٌ عملاً بالقاعِدَةِ الشرعيةِ "كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أفرادِ المُباحِ إِذا كانَ يُؤَدِّي إلى ضَرَرٍ يُمْنَعُ ذلِكَ الفَرْدُ ويَبْقى الأَمْرُ مُباحًا". وَهذِهِ القاعدةُ اسْتُنْبِطَتْ منْ مَنْعِ الرَّسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أفرادَ الجيشِ أنْ يَخْرُجُوا مُنْفَرِدِينَ لَيْلاً وَهُوَ في طَريقِهِ إلى تبوكَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّما حَرَّمَ على الجيشِ الخروجَ مُنْفَرِدينَ لِما ثَبَتَ لَهُ فيهِ مِنْ ضَرَرٍ، فَكانَ الضَّرَرُ في هذا الأَمْرِ المُعَيَّنِ هوَ سَبَبُ تحريمِهِ، فكأَنَّهُ كانَ عِلَّةً. ووجودُ الضَّرَرِ في خُروجِ الشخصِ مُنْفَرِدًا في تلكَ الليلةِ وِمِنْ ذلكَ المكانِ حَرَّمَا خُروجَ الشَّخْصِ منفرداً هناكَ في تِلْكَ الليلةِ، وَلكِنْ ظَلَّ خُروجُ الشَّخْصِ مُنْفَرِدًا مُباحًا في غيرِ ذلكَ المكانِ وفي غيرِ تلكَ الليلةِ. وَإِذَنْ، وجودُ الضررِ لمْ يُحَرِّمْ ما أَباحهُ الشرعُ، وَإِنَّما وُجودُ الضررِ في فَرْدٍ منْ أَفْرادِهِ يُحَرِّمُ ذلكَ الفردَ ولكنْ يَظَلُّ الأَمْرُ مُباحًا.

والدليلُ على جَوازِ عقدِ المعاهداتِ البيئيةِ مَعَ الدولِ، هو دليلُ جوازِ عَقْدِ المعاهداتِ العامّ، كقولِهِ سبحانه وتعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [النساء 90]، وقولِهِ سبحانه وتعالى: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [النساء92] وقَولِهِ سبحانه وتعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [الأنفال72]، والميثاقُ في هذهِ الآياتِ هوَ المعاهدةُ. كما أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَقَدَ معاهدةً مَعَ يُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ، صَاحِبِ أَيْلَةَ، وعقدَ معاهدةً معَ بَني ضَمْرَةَ.

وتُطَبَّقُ في هذهِ المعاهداتِ الشروطُ التي تَضَمَّنَتْها، ويجبُ أَنْ يتقيَّدَ المسلمونَ بهذهِ الشُّروطِ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "المسلمونَ عِنْدَ شُروطِهِم"، صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، على أنْ لا يكونَ هذا الشرطُ مُناقِضًا للإسلامِ، فإنْ كانَ مُناقِضًا للإسلامِ رُفِضَ لِقَوْلِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"، رَواهُ ابنُ ماجه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، فيقومُ المسلمونَ بتنفيذِ هذهِ الشروطِ حسبَ ما وردتْ في نُصوصِ المعاهداتِ على أَنْ لا تُخالِفَ الإسلامَ.

2- نظافة مصادر المياه وجودة ماء الشرب:

الماءُ مادةٌ ضروريَّةٌ لا تقومُ حياةٌ بدونِها، ولا يستوي أيُّ كائِنٍ إنْ لم يتوَّفَر لهُ الماءُ الصالحُ، يقولُ الله سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء30]، وقال سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل].

وكما أنَّ الماءَ ضَروريٌّ لكُلِّ كائِنٍ حيٍّ، فهوَ ضروريٌّ لوجودِ الحياةِ الجماعيَّةِ واستمرارِها، لأنهُ مَرْفِقٌ منْ مَرافِقِ الجماعةِ، إنْ لمْ يتوَّفَر تفرَّقتِ الجماعةُ في طلبِهِ، لذلكَ جاءَ الشرعُ بمجموعةٍ منَ الأحكامِ الخاصَّةِ بهذا المَوْرِدِ الحيَوِيِّ، لِضَمانِ حِفْظِهِ وتوفيرِهِ صالِحًا لكُلِّ الرَّعِيَّةِ. فقدْ عَدَّ الإسلامُ الماءَ ملكيَةً عامةً لتمكينِ جميعِ أفرادِ الرَّعِيَّةِ مِنَ الانتفاعِ بِهِ، فعنْ أَبي خِدَاشٍ عنْ بعضِ أَصحابِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثَلاثًا أَسْمَعُهُ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ، فِي الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ"، رواهُ أبو داودٍ في سُنَنِهِ وصَحَّحَهُ الألْبانِيُّ، وفي رِوايةٍ أُخْرى:"النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ". وروى ابنُ ماجةَ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "ثَلاثٌ لا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالْكَلأُ وَالنَّارُ"، ورَوى البُخارِيُّ في صَحيحِهِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" وَمِنْهُم: "رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِطَرِيقٍ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ"، وروى أحمدُ في مُسندِهِ عنْهُ عليْهِ وآلِهِ أفضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْليمِ: "لا يُمْنَعُ نَقْعُ مَاءٍ فِي بِئْرٍ"، والحديثُ صَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ وأَخرجَهُ الحاكمُ وقالَ: "صحيحُ الإسناد"، وَذَكَرَ الشَّوْكانِيُّ في نيلِ الأوطارِ بسندٍ صحيحٍ عَنْ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَضَى بينَ أَهلِ المدينةِ في النَّخْلِ أنْ لا يُمْنَعَ نَقْعُ بِئْرٍ، وَقَضَى بَيْنَ أَهْلِ البادِيَةِ أنْ لا يُمْنَعَ فَضْلُ ماءٍ لِيُمْنَعَ الكَلأُ. ونَقْعُ البئرِ- الماءُ المُجْتَمِعُ فيها قَبْلَ أَنْ يُسْتَقَى.

ونلاحظُ أنَّ المسلمينَ قدْ أدركوا أهميةَ الماءِ منذُ نشوءِ الدولةِ الإسلاميةِ في المدينةِ، فقدْ روى الأمامُ أحمد بسندٍ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر عنْ عثمانِ بنِ عفانٍ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِئْرٌ يُسْتَعْذَبُ مِنْهُ إِلا رُومَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدُلِيِّ الْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟" فَاشْتَرَاهَا عثمانُ (رضي الله عنه) مِنْ خَالِصِ مَالِهِ. وقد نزلَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) عندَ رأْيِ الحُبابِ بن المنذرِ بأَنْ يُعَسْكِرَ الجيشُ في بَدْرٍ عندَ أَدْنى ماءٍ منَ القومِ، ثمَّ يُغَوِّرُوا ما وَراءَهُ منَ الآبارِ، ويَبْنُوا عليهِ حوضًا يَمْلَؤُوهُ ماءً حتى يشربَ جيشُ المسلمينَ ولا يشربَ المشركونُ.
والماءُ كَما هوَ لازمٌ للشُّرْبِ والطَّهْيِ والتنظيفِ فهو لازمٌ لريِّ المزروعاتِ وتربيةِ الحيواناتِ ولإقامةِ الصِّناعاتِ، ولكلِ نوعٍ مواصفاتٌ تختلفُ باختلافِ استخداماتِهِ.

وقد يتلوَّثُ الماءُ بفعلِ الإنسانِ نتيجةً لمِا يستخدمهُ منْ مَواد في الصناعةِ والزراعةِ، كالمعادن الثقيلة مثل الرَّصاصِ والزِّئْبَقِ، والكيماوياتِ والمُرَكَّباتِ الخَطِرَةِ مثل المبيداتِ الحشريةِ والمُخَصِّباتِ. وقد يتلوثُ الماءُ أيضًا نتيجةً لمَوادٍ طبيعيةِ المَنْشَأ، مثل معدنِ الزِّرْنِيخِ أو الكائناتِ الدقيقةِ المُسَبِّبَةِ للأمراضِ منْ بكتيريا وفيروساتٍ وطُفَيْلِيَّاتٍ كالكائناتِ أُحادِيَّةِ الخلِيَّةِ والدِّيدانِ. وهذهِ المُلَوِّثاتُ تجعلُ الماءَ غيرَ صالحٍ للاستخدامِ. ويمكنُ تشخيصُ بعضِ الملوثاتِ بسهولةٍ بتَقْييم طَعْمِ ورائحةِ ودرجةِ تَعَكُّرِ المياهِ، غيرَ أَنَّ اكتشافَ بعضِها يَتَطَلَّبُ اختباراتٍ خاصَّةً للكشفِ عمَّا إذا كانتِ المياهُ ملوثةً أم لا. وإذا تُرِكَتْ هذهِ الملوثاتُ دونَ معالجةٍ فمنَ المُمْكِنِ أنْ تُسَبِّبَ طائفةً كامِلَةً منَ الأمراضِ المُتعلقةِ بالماءِ، والتي تُلْحِقُ ضَرَرًا كَبيرًا بصحَّةِ الإنسانِ. وَوَفْقَ منظمةِ الصحةِ العالميةِ، فإِنَّّ أكثرَ منْ مليارِ نسمةٍ على مُستوى العالمِ محرومونَ منْ مياهِ الشُّربِ النظيفةِ، ويموتُ سَنَوِيًّا ما لا يَقِلُّ عنْ أربعةِ ملايينَ شخصٍ مُعظمُهُم منَ الأطفالِ بسببِ الأمراضِ الناتجةِ عنْ تلوُّثِ مياهِ الشُّرْبِ، كأمراضِ الحُمَّى التِّيفِيَّةِ والكوليرا وداءِ المُنْشَقَّاتِ (البَلْهارِسْيا) والزُّحَارُ (الدُّوسِنْطَّارْيا) وأَمْراضِ الإِسْهالِ الأُخْرى.

وقد أمرَ الإسلامُ بالحفاظِ على جودةِ المياهِ ونَظافَتِها، وحذَّرَ أشدَّ التحذيرِ منْ تلويثِ مصادرِ المياهِ، فعنْ معاذٍ بنِ جبلٍ (رضي الله عنه) قالَ: لقد سمعتُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ‏يقولُ: "اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَالظِّلِّ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ"، رواهُ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ بسَنَدٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ"، رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ، وروَى ابنُ ماجةَ بسندٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ عنْ جابرِ بن عبدِ اللهِ (رضي الله عنه) أنَّهُ قالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنْ نُوكِيَ أَسْقِيَتَنَا وَنُغَطِّيَ آنِيَتَنَا"، وذلكَ حِفْظًا لِمَا تحويهِ هذهِ الآنيةُ منَ الماءِ.

ولذلكَ كانَ منَ الواجبِ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تهتمَّ بنظافةِ مصادرِ المياهِ ومُراقَبَةِ جَوْدةِ ماءِ الشُّرْبِ وخُلُوِّهِ منَ الملوِّثاتِ، عنْ طَريقِ إِنْشاءِ مختبراتٍ خاصةٍ لهذا الهدفِ، وإقامةِ مَحَطَّاتٍ لمُعالجَةِ المياهِ وتَطْهيرِها منَ المُلَوِّثاتِ، لأنَّ الرَّاعِيَ -وهوَ الإمامُ- مَسْؤُولٌ عنْ رَعِيَّتِهِ، وَانطِلاقًا مِنَ القاعدةِ الشرعيةِ الواسعةِ القاضيةِ بأنْ لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ، وَتَطْبيقًا للأحاديثِ السابقةِ التي تُحَرِّمُ تلويثَ المياهِ العامةِ التي هيَ مِلْكٌ لكافةِ المسلمينَ. وَيَتَوَلَّى جهازُ الحسبةِ في الدولةِ الإسلاميةِ مراقبةَ المياهِ وجودَتِها وتقريرِ عقوبةِ الأفرادِ أوِ الشركاتِ والمصانعِ التي تُلَوِّثُ مصادرَ المياهِ بحيثُ تكونُ العقوبةُ رادِعَةً ومُزيلةً للتَّلَوُّثِ الحاصلِ.

3- الحفاظ على الغابات والأحراش:

تُشَكِّلُ الغاباتُ والأحراشُ الطبيعيةُ رئَةً طبيعيةً مُكَمِّلَةً لدورةِ الحياةِ على الأرضِ، فالنباتاتُ تقومُ بالتقاطِ ثاني أكسيدِ الكربونِ منَ الجوِّ، وامتصاصِ الماءِ والموَّادِ الأساسيةِ منَ التربةِ، وتُحَوِّلُها عنْ طريقِ التمثيلِ الكلوروفيلِيِّ إلى أُكسجين تُطْلِقُهُ في الجوِّ، وإلى موادَ غذائيةٍ تختَزِنُها في الورقِ والثَّمَرِ. ولذلكَ كانتِ الغاباتُ والأحراشُ ضروريةً لبقاءِ الحياةِ واسْتِواءِ نظامِ الطبيعةِ مُتَّزِنًا، حيثُ إنَّ الإنسانَ والحيوانَ بِحاجةٍ إلى هذا الأُكسجين والموادِّ الغذائيةِ، وأَنَّ بعضَ الحيواناتِ تحتاجُ هذه الغاباتِ كأوساطٍ بيئيةٍ تعيشُ فيها. لذلكَ كانَ الحفاظُ على الغاباتِ والأحراشِ لازمًا للحفاظِ على الدورةِ الحياتِيَّةِ، وكانَ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تهتمَّ بحمايةِ هذهِ الغاباتِ والأحراشِ منَ القَطْعِ أو الإزالَةِ، وتحمِيَ الكائناتِ الحيَّةِ فيها منَ الصيدِ أوِ التهجيرِ، ما دام هذا لازماً لبقاء الدورة الحياتية الطبيعية مكتملَةً صحيحةً.
وَتُعْتَبَرُ الأحراشُ الطبيعيةُ والغاباتُ من الأَعْيانِ التي تمنعُ طبيعةُ تكوينِها اختصاصَ الأفرادِ بحيازَتِها، ولذلكَ تكونُ منَ الملكياتِ العامَّةِ، ولا يجوزُ لغيرِ الدَّولةِ أنْ يحمِيَ ما هُوَ لعُمومِ الناسِ، لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواهُ أَبو داودٍ في سُنَنِهِ وصحَّحَهُ الألبانيُّ: "لا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ"، أي لا حِمَى إلا للدولَةِ. وللدولةِ أَنْ تحمِيَ منَ الملكياتِ العامةِ ما تحتاجُهُ لمصالحِ المسلمينَ، والدليلُ على ذلكَ أَنَ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حَمَى النَّقيعَ -هوَ موضعٌ معروفٌ بالمدينةِ- لِخَيْلِ المسلمينَ، كما رَوى أَبو عُبَيْدٍ عنْ ابنِ عمر (رضي الله عنه)، وكذلكَ حَمَى أبو بكرٍ (رضي الله عنه) الرَّبَذَةَ لإبِلِ الصدقةِ، وحَمَى عمر (رضي الله عنه) الشَّرَفَ والرَّبَذَةَ.

والحفاظُ على الدورةِ الحياتيةِ وميزانِ الطبيعةِ بإنشاءِ محمياتٍ طبيعيةٍ وغاباتٍ مِنْ مصالحِ المسلمينَ، لذلكَ تحمي الدولةُ ما يكفي منْ هذهِ المحمياتِ لهذا الهدفِ، وتمنعُ قَطْعَ هذهِ الغاباتِ أوِ الصيدَ فيها. ويكونُ القرارُ بحمايةِ أَرْضٍ مُعينةٍ دونَ أُخْرى راجِعًا لتقديرِ الخليفةِ وَفْقَ ما يَراهُ منْ مصلحةِ المسلمينَ، ولا يُلْتَفَتُ إلى الضغوطِ الدوليَّةِ المُتَذَرِّعَةِ بحمايةِ البيئةِ لتحديدِ ما يُحْمى منْ أراضي الدولةِ الإسلاميَّةِ. وَتُراعى أَيْضًا في حِمايَةِ الأَراضِي وَزِراعَةِ الغاباتِ قَضِيَةُ مُقاوَمَةِ التَّصَحُّرِ، وَتُشَجِّعُ الدولةُ رَعِيَّتَها كذلكَ على زراعةِ المناطقِ التي تُعاني منْ خطرِ التَّصَحُّرِ منعًا لامتدادِهِ.

4- الصرف الصحي:

الصرفُ الصحيُّ هوَ الإدارةُ السليمةُ بيئيًّا وصحيًّا للنفاياتِ، وهوَ يَشْمَلُ تصريفَ مياهِ المجاري والأمطار... ومعالجة مُخَلَّفاتِ الصناعةِ والزراعةِ على نَحْوٍ يحمي البيئةَ وصحةَ الرعيةِ منْ تأثيراتِ هذهِ الفضلاتِ.
وتكمنُ أهميةُ الصرفِ الصحيِّ في الضررِ الجَسِيمِ الذي يمكنُ أنْ يُسَبِّبَهُ سوءُ الإدارةِ في هذا المجالِ على التوازُنِ البيئيِّ وصِحَّةِ الجماعةِ، فالتقديراتُ تُشيرُ إلى أَنَّ 88% منَ العبءِ العالميِّ للأمراضِ يُعْزَى إلى إمداداتِ المياهِ غيرِ المأْمونةِ وانعدامِ الصرفِ الصحيِّ والنظافةِ الصحيةِ. ويعيشُ 2.6 مليارِ شخصٍ في العالمِ -منهمْ مِليارُ طفلٍ على وجهِ التقريبِ- في ظلِّ انعدامِ القواعدِ الأساسيةِ للصرفِ الصحيِّ. وَتُشِيرُ التقاريرُ الغربيةُ إلى أَنَّ طفلاً واحدًا يُفارِقُ الحياةَ كلَّ عشرينَ ثانيةً نتيجةَ رَداءَةِ الصرفِ الصحيِّ، أيْ ما يقاربُ 1.5 مليونَ وفاةٍ سنوياً. وقدْ اعتبرتِ المجلةُ الطبيةُ البريطانيةُ في استطلاعٍ أجرتهُ معَ مجموعةٍ منَ المختصينَ أَنَّ الإنجازَ الصحيَّ الأهمَّ مُنْذُ سنةِ 1840م هوَ الصَّرْفُ الصحيُّ، وقدْ فاقَ في الأهميةِ اكتشافَ المُضَادَّاتِ الحيويةِ وجميعَ إِنجازاتِ القرنِ العشرين الطبيةَ.

لذلكَ كانَ منَ الواجبِ على الدولةِ أَنْ تُهَيِّئ شبكاتٍ للصرفِ الصِّحِّيِّ في التجمعاتِ السَّكَنِيَّةِ لتصريفِ مياهِ المجاري والفضلاتِ، وأنْ تقومَ أيضًا بإنشاءِ مراكزَ لعلاجِ هذهِ الفضلاتِ، بِدَفْنِها أو حرقِها أوْ إعادَةِ تدويرِ النفاياتِ غَيْرِ النجسَةِ منها واستغلالها مُجَدَّدًا، منْ بابِ رعايةِ الشؤونِ ومنعِ الضررِ. ومن هذا البابِ أيضًا ينبغي أنْ تكونَ المزابلُ ومراكزُ مُعالجةِ الفضلاتِ بعيدةً عنْ التجمعاتِ السكنيةِ ومواردِ المياهِ.

أمَّا بالنسبةِ لإعادةِ تدويرِ الفضلاتِ النجسَةِ كالبَرَازِ والبَوْلِ وغيرِها وتحويلِها إلى موادَّ نقيةٍ لاستعمالِها مُجَدَّدًا، فلا يجوزُ شرعًا، لأنَّ النجاساتِ لا يحلُّ الانتفاعُ بها مُطْلَقاً، لا بالاستعمالِ ولا بالبيعِ ولا بالإهداءِ ولا بالإرثِ، ولا تُعدُّ مالاً محترماً مُقوَّماً شرعاً، باستثناءِ جِلْدِ الميتَةِ بعدَ دباغِهِ، لورودِ النصِّ باستثنائهِ، فقدْ جاءَ في السُّنَنِ الكبرى لِلْبَيْهَقِيِّ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: "طَهُورُ كُلِّ إِهَابٍ دِبَاغُهُ"، وَقالَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رُوَاتَهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.

وعليهِ فإنَّ ما تقومُ بهِ بعضُ الدولِ منْ تَقْطِيرِ الأَبوالِ والعِذَرِ كمياهِ مجاري المُدُنِ لِتَسْتَخْرِجَ مِنْها الماءَ المُقَطَّرَ لاستعماله
والانتفاع به هو حرامٌ لا يجوزُ للمسلمينَ أنْ يفعلوهُ، بل الواجب التخلص من هذه النجاسات بدفنها أو حرقها... وإذا رأت الدولة الإسلامية أن التخلص منها بعد تحويلها إلى مواد أساسية هو أفضل للبيئة وإبعاداً للضرر عن الرعية، كتحويلها إلى مياه مقطرة ثم إعادتها للبحار أو دفنها، إذا رأت ذلك، فإنه يجوز للدولة هذا الفعل بالفضلات النجسة للتخلص منها وليس لاستغلالها أو استعمالها. وذلك لأن الحرمة واقعة على الانتفاع بالنجاسة، أما مجرد تكريرها للتخلص منها دون الانتفاع بها، بل لإزالة الضرر الناتج عنها، فلا حرمة فيه.

5- الهندسة الصحية للبيئة السكنية:

إنَّ هندسةَ المُدُنِ والتجمعاتِ السكنيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ يجبُ أَنْ تُراعي صحةَ الرعيةِ وراحَتَهُم، وذلكَ بالحدِّ منَ التَّلَوُّثِ وَالضجيجِ والضوضاءِ بأَنْ تكونَ البيوتُ بعيدةً عنِ المصانعِ وورشاتِ العملِ المختلفةِ، وأنْ تكونَ الطرقُ السريعةُ والقطاراتُ والمطاراتُ معزولةً عنِ البيوتِ والسُّكانِ بحواجزَ صَوْتِيَّةٍ.

وعلى الدولةِ أيضًا أنْ تمنعَ الأفرادَ منْ إصدارِ الضجيجِ في أوقاتِ الراحةِ كساعاتِ الليلِ، وقدْ قالَ لُقْمَانُ لابنِهِ وهوَ يَعِظُهُ: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان 19]. وتقومُ الدولةُ بهذا المنعِ إزالةً للضررِ الواقعِ بالرعيةِ جَرَّاءَ هذهِ الضوضاءِ، ويتولَّى المحتسبُ مسؤوليةَ مُراقبةِ وعلاجِ هذا الجانبِ كَوْنَهُ منَ المخالفاتِ التي تضُرُّ حَقَّ الجماعةِ.

وَقَدْ نَقَلَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في الفتحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ فِي "أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ" بِإسْنَادٍ لَهُ إِلَى أَبِي مَوْدُودٍ قَالَ: "رَأَى عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ كِيرَ حَدَّادٍ فِي السُّوقِ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ حَتَّى هَدَمَهُ"، ولا يَخْفَى أَنَّ الكيرَ -وَهُوَ الزِّقُّ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ أَوْ حانوتُ الحَدَّادِ- يُسَبِّبُ الأَذَى وَيُلَوِّثُ الهَوَاءَ بِدَخَنِهِ وَخُبْثِهِ وَضَجِيجِهِ، وَلِهذا أزالَهُ أميرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ مِنَ السوقِ لأَنَّهُ مَكَانٌ عَامٌّ يَؤُمُّهُ النَّاسُ.

وتهتمُّ الدولةُ بأنْ تُصَمَّمَ هندسةُ المُدُنِ والتجمعاتِ السكنيةِ بشكلٍ يَسْمَحُ بالتهوِئَةِ السَّليمَةِ، ويمنعُ اكتظاظَ السُّكانِ، وَيُسَهِّلُ عَمَلِيَّةَ الصرفِ الصحيِّ وتنظيفَ الشوارعِ وإزالةَ النفاياتِ.

ويجبُ على الدولةِ أنْ تُراعي المشلولينَ والعميانَ وأصحابِ الإعاقاتِ المختلفةِ بتسهيلِ المواصلاتِ والطُّرُقِ ومُلائَمَتِها لحاجاتهمُ الخاصَّةِ، وخاصةً في المؤسساتِ العامةِ كالمدارسِ وبناياتِ الدولةِ، وهذا منْ رعايةِ الشؤونِ الواجبةِ على الإمامِ. وكذلكَ على الدولةِ أَنْ تَهْتَمَّ بإنشاءِ المُتَنَزَهاتِ والملاعبِ الآمنةِ للأطفالِ وبقيةِ السكانِ بحيثُ لا يتعرضُ الأطفالُ لمخاطرِ اللعبِ في الأماكنِ غيرِ الآمنةِ.

[يتبع]

المصدر: مجلة الوعي