الخميس، 18 ديسمبر 2008

مع القرآن الكريم: من مقدّمات الاستخلاف والتمكين



بسم الله الرحمن الرحيم

(تهيؤ الأجواء)
إن النصر والتمكين هو ابتداءً منّةٌ من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وهو جائزة عظيمة لأهل الصبر والثبات، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [القصص 5-6 ].
وهو مقدمةٌ لحمل الأمانةِ الربانيةِ -أمانةِ وحي السماء- قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء 73] قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: «أئمة أي قادةً في الخير ودعاةً إليه، وولاةً على الناس».
ولا بد من مقدّماتٍ اشترطها الحق تبارك وتعالى لحملِ هذه الأمانةِ الغاليةِ العظيمةِ الجليلة؛ (وحي السماء أمانة) وهي نفسُ المقدماتِ التي اشترَطها الحقُّ تعالى على أتباعِ الأنبياءِ والرسلِ قبلَ النصرِ والتمكينِ والاستخلاف، فما هي هذه المقدّماتُ التي تسبقُ حمل الأمانة؟!
وقبل الإجابةِ عن هذا السؤالِ، أقولُ إن الأمانةَ اليومَ ليستْ نبوّةً ولا رسالةً جديدة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد ختمَ النبوّةَ والرسالةَ بسيدِ المرسلينَ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، (إنها الاستخلافُ في الأرض)، وهي ميراثُ النبوّة، ووظيفةُ الأنبياءِ الأصفياء، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور 55] وقال: (يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص 26]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كانتْ بنو إسرائيلَ تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هَلك نبيٌّ خلفه نبيّ، ألا وإنّه لا نبيَّ بعدي، وستكون خلفاء... » الحديث، وقال: «العلماء ورثةُ الأنبياء... ».
وإن مقدّماتِ الاستخلافِ في الأرض لحملِ أمانةِ وحي السماءِ بعد الأنبياء قد بيّنها الحق تبارك وتعالى ورسولُه عليه الصلاة والسلام وهي:
أولاً: الإيمانُ الصادقُ الخالصُ لله تعالى. قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر 51] وقال: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم 47].
ثانياً: العملُ الصالح المنبثقُ من هذا الإيمان الراسخ . والعمل الصالح هو علامةُ صدقِ الإيمانِ في العقلِ والقلب، فهو أمارةٌ على صدقِ الإيمان، فهو من مقتضياتِ هذا الإيمانِ ولوازِمه التي تظهرُ على عبادِ الله المؤمنين. قال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال72].
ثالثاً: الاختبارُ والتمحيصْ: قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة 214]. وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة».
وعلامةُ النجاح في هذا الامتحانِ هو الصبرُ والثباتُ على الحقّ دون تغييرٍ ولا تبديل، ولا اتباعٍ للهوى والشهوات، ولا نظر إلى متعِ الحياة الدنيا، فإذا ثبتَ المسلم على البلاءِ والعذاب والمضايقةِ بسبب الإيمان والعملِ الصالح، فإن الله تعالى ينظرُ إليه بعينِ الرحمةِ والقبولِ في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا بالتمـكـينِ والاســتخلافْ، وفي الآخرة بالجــزاء الأوفى في جـنات الخُــلد. قـــال تعـالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام 34].
رابعاً: تهيؤُ الأجواءِ لاحتضانِ أهل الإيمان والصبرِ والصدق والإخلاص . فلا بدّ من وجود حاضنةٍ تحتضنُ أهل الإيمان والتقوى، وهذه هي بدايةُ الجائزةِ من الله تعالى في الدنيا، حيث يُكرم الحقّ تعالى أولياءَه بأنصارٍ مخلصين يحبّون أهل الإيمان ويناصرونَهم على هذا الإيمان ويسيرون في ركابه. ويصبح الإسلام والاستخلاف في بلادهم رأياً عاماً نابعاً من وعي عام على الإسلام والاستخلاف على أساسه. فقد هيأ الله تعالى لرسوله وللمؤمنين معه بعد رحلةِ اختبار وابتلاء وامتحان وصدقٍ وصبرٍ وثبات، هيأ لهم حاضنةً طيبةً في أرض(طيبة)، احتضنتْ الرسولَ والمؤمنينَ، وناصرتهمْ وسارتْ معهم في طريق الحق.
قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر 8-9].
ولا بدّ من وقفةٍ قصيرةٍ عند مسألةِ التهيؤِ والاحتضان. فالدعوةُ لا بدّ لها من هذه المرحلةِ لتحصلَ النصرةُ والتمكينُ، وهي مرحلةٌ تسبقُ مرحلة النصرةِ لاستلامِ الحكم، ونقصدُ بالتهيؤِ والاحتضانِ وجودُ جمهرةٍ وحشدٍ من شبابِ الدعوةِ بحيثُ تبرزُ في المجتمع، ويكونُ لها وجودٌ ملحوظٌ بين الناس، ووجودُ رأيٍ عامٍ لفكرةِ الدعوةِ وعلى رأسها تطبيقُ الإسلام تطبيقاً انقلابياً شاملاً في كافّةِ مناحي الحياةِ عن طريق دولة الإسلام، وهذا الرأيُ العامُ يُشترطُ أن يكونَ نابعاً من معرفةٍ وفهمٍ، أيّ عن وعيٍ عامّ على أفكارِ الدعوةِ الرئيسيّةِ، وليسَ مجرّدَ مشاعرَ جيّاشةٍ تبرزُ وتنتهي بسرعة.
وكذلك بروزُ الاستعدادِ لدى الناس للوقوفِ بجانبِ حملةِ الدعوةِ. وقد طبق ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبلَ طلبِ النصرة لإقامةِ الدولة؛ أي قبلَ البيعةِ الثانية، بإرساله مُصعبَ (رضي الله عنه)، لمدّةِ عامٍ كامل إلى المدينة فعملَ على تهيئةِ الأجواء وإيجاد الرأيِ العام والاستعدادِ للوقوفِ بجانبِ الدعوة.
خامساً: النصرة والتمكين. وهذه هي المرحلةُ الأخيرةُ بعد تهيؤ الحاضنةِ في أرض الله، حيثُ يمنُّ الله تعالى على المؤمنينَ بأهلِ القوّةِ والمنعةِ من أبناء هذه الحاضنةِ، فينصرونَ دينَه، ويمكّنونَ لأهل الإيمان المخلصين، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال 26].
إن الناظرَ في أحوال حمل الدعوة يرى انطباقَ المقدّماتِ التي تسبقُ نصرَ الله وتمكينَه انطباقاً تاماً على المؤمنين بها، حيث آمنوا بالله رباً وبمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً ورسولاً، ووقفوا وسْطَ الشركِ والصّدِ عن سبيل الله صامدين ثابتين رغْمَ كلّ ألوانِ القهر والجبروتِ والتسلط والتعذيبِ الذي يعجزُ اللسان عن وصفِه؛ وقفُوا لا تلينُ لهم قناةٌ، ولا تفترُ لهم همّةٌ، ولا ينحني لهم رأسٌ ولا جذعْ، وسطّروا بصبرِهم سيرة أتباعِ الأنبياءِ السابقين من أنصار عيسى عليه السلام عندما نُشّروا بالمناشير وحمّلوا على الخشبْ، وسيرة أنصارِ موسى عليه السلام عندما ذبّحَ فرعونُ أبناءَهم واستحيا نساءَهم، وسيرة أصحابِ الأُخدودِ الذين أُحرقوا في النيرانِ ذات الوقود، وسيرةَ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كبلالَ وخبابَ وعمارَ وياسرَ وغيرِهم.
نعم، لقد آمنت هذه الثلّةُ الطيّبةُ إيماناً طيباً، وعملت عملاً صالحاً بحملها لهذه الأمانةَ لتمكينِها في الأرض بالاستخلاف.... وثبتوا وصبروا على ذلك، وها هي المكرمةُ الربانيّةُ قد بدأتْ تتنزلُ عليهم بامتدادِ الدعوةِ وقوّتها وكثرةِ أنصارها لتتهيأ الحاضنةُ الكبيرةُ في أي أرض الله شاء.
لقد بدأتْ الدعوةُ تقوّى وترسّخُ أركانُها في هذه الأرضِ، ولن يطولَ الزمانُ حتى تتهيأ هذه الحاضنةُ تهيؤاً يقدّمُ للنصرةِ والتمكينِ بإذنه تعالى. تماماً كما تهيأتْ أرض المدينةِ لرسولنا عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الغرّ الميامين.
وفي الختام نسألُه تعالى أن يعجّلَ بالفرجِ القريبِ في كلّ أرجاء الأرضِ بقيامِ خلافةٍ راشدةٍ على منهاجِ النبّوةِ يرضى عنها ساكنُ الأرضِ وخالقُ السماوات والأرض، ويفرح بها المؤمنون.
(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم 4-7].

أبو المعتصم - بيت المقدس

المصدر: مجلة الوعي

السلطان محمد الفاتح «نعم الأمير أميرها»


بسم الله الرحمن الرحيم


في تاريخ الأمم العظيمة ملاحم وبطولات تبقى على مر الدهور علامات بارزة ونقاط تحول في حياتها، لها ما بعدها. هذه الملاحم والبطولات صنعها قادة أفذاذ ورجال عظام، ولكنها لم تكن صنع فرد بعينه، وإن كان دور القائد هو الأول دائماً، وتخطيطه وعبقريته لهما شأنهما في الملحمة أو الحدث، فالملاحم والبطولات هي صناعة أمة عظيمة، وصناعة قادة عظام من أبناء هذه الأمة.

لقد كان فتح القسطنطينية نموذج لما نقول، فهو ملحمة خالدة للخلافة الإسلامية العثمانية، وملحمة خالدة لجيش الخلافة الإسلامية بعامة، وللسلطان محمد بن مراد "الفاتح" بخاصة؛ ومن هنا نفهم ثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفاتحين قائداً وجيشاً.
القسطنطينية هي عاصمة هرقل التي بشر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بفتحها، بناها قسطنطين الأول، أحد أباطرة بيزنطة سنة 330م، وسماها باسمه، وجعلها عاصمة للإمبراطورية البيزنطية، إحدى أعظم دولتين من الدول النصرانية. اعتنقت المذهب الأرثوذكسي، وآلت إليها زعامة الكنيسة الأرثوذكسية أو الكنيسة الشرقية كما كانت تسمى. وروما هي عاصمة الدولة الرومانية -الغربية- اعتنقت المذهب الكاثوليكي، وآلت إليها زعامة الكنيسة الكاثوليكية أو الغريبة.


لقد جمعت القسطنطينية إلى جانب الأهمية الدينية عند النصارى أهية استراتيجية عظيمة، فهي إحدى البوابات التي عبرت منها جيوش الخلافة الإسلامية، وكانت ممراً لها لفتح البلقان، والتقدم حتى أسوار "فينا" عاصمة الإمبراطورية النمساوية، وهي مدينة حصينة تحيط بها البحار من ثلاث جهات: مضيق البوسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي، وكان هذا الأخير يشكل أحد مداخلها، ولكنه كان محاطاً بسلاسل حديدية ضخمة، وكان البيزنطيون يقفلون مدخل القرن الذهبي بهذه السلاسل، كلما اشتموا رائحة خطر على عاصمتهم.
إضافة إلى هذه الحماية الطبيعية من البحر، أمام البيزنطيين حول المدينة خطين من الأسوار، السور الخارجي وبيلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدماً، وعليه أبراج مملوءة بالجند، ويعد هذا السور هو خط الدفاع الأول عن المدينة، وبعد هذا السور أرض فضاء عرضها ستون قدماً، جعلت على شكل خندق، وبعد هذا الخندق سور ثان أعلى من الأول ارتفاعه أربعون قدماً، وعليه أبراج مليئة بالجنود، يصل ارتفاعها إلى ستين قدماً، ويشكل هذا السور خط الدفاع الثاني عن المدينة. إضافة لكل هذا فقد جمع فيها البيزنطيون كل مظاهر الأبهة والعظمة التي تليق بها كعاصمة، وفيها على سبيل المثال كنيسة آيا صوفيا الشهيرة.
وباختصار فقد جمعت القسطنطينية كل مظاهر العظمة، من الأهمية الدينية إلى الأهمية الاستراتيجية، إلى الأهمية الفنية والمعمارية، حتى قال عنها بعض المؤرخين: «لو كانت الدنيا مملكة واحدة، لكانت القسطنطينية وحدها عاصمة لها». إن فتح القسطنطينية، وفتح روما من بعده كما بشر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، يعني أن تستظل أوروبا كلها بظل الإسلام وعدل الإسلام، بعد أن عاشت حقبة طويلة في ظل الوثنية، وحقبة في ظل هرطقة الكنيسة، وأخيراً في ظل ظلم الرأسمالية العفنة وعدوانيتها على البشرية كلها. روى الإمام أحمد أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نكتب، إذ سئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مدينة هرقل تفتح أولاً» يعني القسطنطينية (وورد الحديث في مسند الدارمي).
وروى الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» قال فدعاني مسملة بن عبد الملك، فسأله فحدثته، فغزا القسطنطينية.
لقد حاول كثير من قادة المسلمين فتح القسطنطينية، ليحوزوا شرف ثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفاتحين، وكانت أول محاولة لهم قد جرت في زمن معاوية بن أبي سفيان سنة 44هـ، وكان أبو أيوب الأنصاري الصحابي الجليل (رضي الله عنه) أحد الذين شاركوا في تلك المحاولة، وقد مات (رضي الله عنه) في حصارها وقبره معروف هناك، ويزوره الناس حتى اليوم. لقد تكررت محاولات المسلمين فتح القسطنطينية، حتى بلغت إحدى عشرة محاولة، حتى مكن الله تعالى السلطان الغازي في سبيل الله محمد الفاتح من ذلك، وتشرف بهذا الفتح العظيم. فمن هو هذا الخليفة الذي حاز شرف ثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟


محمد الفاتح، نشأته وشخصيته:
هو محمد الثاني بن السلطان مراد، لقب بالفاتح، لفتح القسطنطينية، وهو سابع السلاطين الفاتحين من بني عثمان، وكان يلقب بأبي الخيرات، لكثرة أعماله الخيرية. تولى الحكم بعد وفاة والده مراد الثاني في 16 من شهر محرم سنة 855هـ الموافق 18/2/1451م، وكان عمره اثنان وعشرون عاماً. كان والده يعده للحكم من بعده، ويتوسم فيه الخير، لنبوغه وقوة شخصيته، فأدخله مدرسة الأمراء، التي أنشئت لتدريس وتخريج القادة، فبز أقرانه في كثير من العلوم، ثم أرسله والده والياً على مغنيسيا، وأرسل معه أحد العلماء الربانيين، هو العالم الجليل أحمد بن إسماعيل الكوراني، وكان عالماً مشهوداً له بالفضيلة التامة، والالتزام بالأحكام الشرعية دون خوف أو محاباة، وكان له من المهابة والوقار ما يجعل السلطان أو الأمير يقبل يده حين يلتقيه، وقد تولى بنفسه إعداد محمد الفاتح، فنشأ مؤمناً ملتزماً أحكام الشريعة، متقيداً بالأوامر والنواهي، معظماً لحرمات الله، يقدر العلماء، ويقدر مسؤوليته التي طوق الله بها عنقه، فلما آل إليه الحكم بعد وفاة والده، نهض بالمسؤولية، وقام بها خير قيام، فأعاد تنظيم إدارات الدولة، واهتم بالأمور المالية، وضبط النفقات، ومنع كل أشكال البذخ والترف والإسراف، وأولى الجيش جل اهتمامه، فنظمه في كتائب، ووضع سجلات خاصة بالجند وأرزاقهم، وزاد من مرتباتهم، وزود الجيش بأحدث الأسلحة المتوفرة في عصره، واستقدم أحد أعظم صناع المدافع من المجر واسمه "أوربان" فصنع له مدفعاً عملاقاً كانت تجره مئات الثيران لضخامته، كما أمر الجيش بخيرة العلماء والفقهاء، الذين بثهم بين صفوفه لحث الجنود على الجهاد وإلهاب مشاعرهم وحماسهم، كما عمل على تطوير إدارة الولايات، فعزل المقصر أو المتهاون من الولاة وطور البلاط السلطاني، وأحاط نفسه بعدد من الخبراء وأهل التقوى والورع، وافتتح عدداً كبيراً من المدارس، منها ثمان بجوار مسجده المعروف في إسلامبول اليوم، وكان يتفقدها بنفسه أحياناً ويجلس مع الطلاب والمعلمين ويناقشهم، وافتتح المشافي وعيَّن فيها أحدق الأطباء، وكان في كل مشفى جرّاح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين، وكان يشترط على الطبيب أن يزور مرضاه مرتين على الأقل في اليوم الواحد، ويشترط على الطباخ أن يكون ملماً بالطعام المناسب لكل مريض. وبإيجاز فإن محمد الفاتح قد جمع التقوى والصلاح، وحسن سياسة الرعية، فكان إماماً وراعياً للأمة، فاستحق ثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنال شرف الفتح، فلنعم الأمير ذلك الأمير.


الإعداد لفتح القسطنطينية:
قلنا إن السلطان محمد الفاتح كان يقرِّب إليه العلماء الربانيين، ويثق بهم ويستشيرهم، ومن هؤلاء العلماء الأجلاء "محمد بن حمزة الدمشقي" وكان يلقب "آق شمس الدين" وكان أحد العلماء الذين أشرفوا على إعداد السلطان عندما كان أميراً على مغنيسيا، وكان دائم التشجيع والإغراء له قبل توليه الحكم وبعده، ليفتح القسطنطينية، فأوقد في صدره نار العزيمة، حتى قيل إن الشيخ آق شمس الدين هو فاتح القسطنطينية المعنوي.
وعندما عزم السلطان على الفتح، قام بسلسلة من الأعمال السياسية والعسكرية تمهيداً لملحمة الفتح، فقد عقد معاهدة مع كل من المجر والبندقية، وهما من الإمارات النصرانية المجاورة، وفي المجال العسكري، بذل السلطان محمد جهوداً جبارة في إعداد الجيش تدريباً وتسليحاً، وقد بلغ تعداد جيشه ربع مليون مقاتل، زودهم بأحدث الأسلحة في أيامه، وحرص على تدريبهم وتجهيزهم مادياً ومعنوياً، فكان يلتقيهم باستمرار، ويخطب فيهم ويذكرهم بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وثنائه على الجيش الذي سيفتح القسطنطينية، فألهب مشاعرهم، وأصبحوا ينتظرون أمره بالهجوم بفارغ الصبر، سيما والعلماء الأجلاء مبثوثون بينهم، يبشرونهم بنصر الله في الدنيا، وعظيم ثوابه في الآخرة، فأصبح جيشه كالآساد الضارية، تغلي في صدورهم عزيمة كعزيمة أسلافهم الصحابة الأجلاء.
وفي الجانب المادي، قام السلطان ببناء قلعة "رومللي حصار" في الجانب الأوروبي من مضيق البوسفور، وفي أضيق نقطة منه، كانت تقابل القلعة التي بناها جده السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وكانت قلعة محصنة عظيمة بلغ ارتفاعها 82 متراً، فأصبحت القلعتان تتحكمان في عبور السفن من شرق البوسفور إلى غربه، وقد حاول الإمبراطور قسطنطين ثني السلطان عن بناء القلعة، مقابل التزامات مالية تعهد بدفعها له ولم يفلح، حيث رفض السلطان ذلك رفضاً قاطعاً.
كذلك وجه السلطان الفاتح عناية خاصة للأسطول، فعمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة، حتى أهله ليكمل به حصار القسطنطينية تمهيداً للجوم النهائي عليها.
عندما أكمل السلطان هذه الاستعدادات، أمر بتمهيد طريق أدرنة والقسطنطينية حتى تكون صالحة لجر المدافع العملاقة من أدرنة حيث تصنع، إلى القسطنطينية، حيث ستكون الملحمة التاريخية، وكان بعض هذه المدافع يزن مئات الأطنان، وقد استغرق جرها وإيصالها إلى المواقع التي اختارها لها السلطان بنفسه قرابة شهرين.
وفي يوم الخميس 26 من ربيع الأول سنة 857هـ، الموافق 6/4/1453م، وصلت الفيالق العثمانية بقيادة السلطان الفاتح إلى مشارف القسطنطينية، فخطب فيهم السلطان خطبة قوية، حثهم فيها على الجهاد في سبيل الله، وإخلاص النية بطلب النصر أو الشهادة، وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم تحث على الجهاد والصبر، وتلا عليهم حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وذكرهم بما في ذلك الفتح من إعزاز للإسلام والمسلمين، فرد عليه عساكره مهللين مكبرين، سائلين الله تعالى النصر والتمكين. ومما يجدر ذكره هنا، أن السلطان محمد الفاتح، كان يتقن اللغة العربية واللغة الفارسية تماماً كما كان يتقن اللغة التركية.
في اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه حول المدينة، فأحكم حصارها من جهة البر، ونصب مدافعه العملاقة في مواجهة الأسوار، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، ونشر سفنه في المياه المحيطة بها، واستطاع أسطوله أن يحتل جزر الأمراء في بحر مرمرة. وفي الوقت نفسه بذل البيزنطيون قصارى جهدهم للدفاع عن المدينة، ووزعوا جنودهم على الأسوار، وأحكموا التحصينات، وقد بدأ القتال فعلياً بين الجيشين منذ اليوم الأول للحصار، وفاز عدد كبير من الجنود المسلمين بالشهادة. وكانت مدافع السلطان لا تنقطع عن دك الأسوار ليلاً ونهاراً، وكان البيزنطيون يسارعون في نفس الوقت لترميم ما يتهدم، وكان القساوسة والرهبان النصارى يطوفون بشوارع المدينة، ويحرضون أتباعهم على الثبات حتى النصر، ويطلبون من الناس الذهاب إلى الكنائس للدعاء والطلب من المسيح والسيدة العذراء إنقاذ المدينة، حتى إن الإمبراطور قسطنطين نفسه أصبح يتردد على كنيسته آيا صوفيا للغاية نفسها.
استبسل الجيش الإسلامي في الهجوم، واستبسل البيزنطيون في الدفاع، وقد حاول الإمبراطور قسطنطين ثني السلطان عما عزم عليه فعرض عليه الأموال الطائلة والدخول في طاعته وتلبية كل طلباته إن هو عاد عن حصاره للمدينة، فرد عليه السلطان رداً حاسماً «ليسلم لي الإمبراطور المدينة، وأقسم أن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه أو ماله أو عرضه، ومن شاء بقي في المدينة، وعاش في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنا في أمن وسلام» استمرت المعارك في الليل والنهار، وفي البر البحر، وكانت نقطة الضعف في الحصار آتية من عدم تمكن المسلمين من الوصول بسفنهم إلى القرن الذهبي، فكانت تنفذ منه بعض السفن النصرانية، القادمة من الإمارات النصرانية كجنوى والبندقية، ومعها الإمدادات للمحاصرين، فترتفع روحهم المعنوية.
حاول الأسطول العثماني اقتحام القرن الذهبي، ودارت معركة بحرية ضارية بينه وبين المدافعين، ولم يستطع الأسطول العثماني الدخول إلى القرن الذهبي، وبعد يومين من هذه المعركة دفعت بعض الإمارات النصرانية بعدد من سفنها لدخول القرن الذهبي، لتزويد المحاصرين بالمؤن والسلاح، فدارت معركة بحرية أخرى أقوى من سابقتها، وكان السلطان يشرف من على ظهر جواده على المعركة، وأصدر أمره لقائد الأسطول "بالطة أوغلي" إما أن تستولي على هذه السفن أو تغرقها، وإلا فلا ترجع إلينا حياً. بذل قائد الأسطول جهده لمنع السفن النصرانية من إمداد المحاصرين، إلا أن بعضها تمكن من الإفلات، ونجح في الوصول إلى المدينة المحاصرة، غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً، واستدعى قائد الأسطول، وأنّبه تأنيباً شديداً واتهمه بالجبن، فرد عليه قائد الأسطول قائلاً: «إني أستقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أواجه الموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة، لقد قاتلت أنا ورجالي بكل ما كان في وسعنا من حيلة وقوة» ورفع طرف عمامته، فإذا عينه قد أصيبت في المعركة، فأعذره السلطان واكتفى بعزله وتعيين قائد جديد للأسطول.
كان الحصار يتحول يوماً بعد يوم إلى صراع إرادتين، إرادة المسلمين بقيادة محمد الفاتح، يحدوهم الأمل بالفوز بثناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإرادة البيزنطيين بقيادة الإمبراطور قسطنطين، الدفاع عن المدينة حتى الرمق الأخير.
تفنن المسلمون في خططهم، وازدادت عزائمهم قوةً وإصراراً، فقاموا بعمل جديد وتدبير عسكري غير مسبوق، قاموا بحفر الأنفاق تحت الأرض، واستمروا في ذلك دون كلل، حتى تجاوزوا الأسوار، لكن البيزنطيين أحسوا بذلك، فقاموا من طرفهم بحفر أنفاق مقابلة، ولما وصلها المسلمون ظنوها سراديب سرية توصل إلى داخل المدينة، ففاجأهم البيزنطيون، فقامت معركة طاحنة تحت الأرض، فاستشهد من المسلمين من كتبت له الشهادة، وعاد من كتبت له النجاة ينتظر جولة أخرى عله يكتب له النصر أو الشهادة، لم ييأس المسلمون وكرروا حفر الأنفاق في أماكن مختلفة حتى صار يخيل للبيزنطيين أن الأرض ستنشق من تحت أقدامهم ليخرج منها جنود المسلمين. فأوهن ذلك من عزائمهم، وبدأ اليأس يتطرق إلى قلوبهم.
لم ييأس السلطان محمد الفاتح وفاجأهم مفاجأة أخرى، حيث أمر ببناء قلعة خشبية هائلة يزيد ارتفاعها عن ارتفاع أسوار القسطنطينية، وكساها بالجلود، وبللها بالماء حتى تقاوم النيران، وملأها بالجنود، وزحف بها إلى السور الأمامي حتى التصقت به، ذهل البيزنطيون من منظر القلعة، فسقطت على السور الأمامي فانهار جزء منه، ولما علم السلطان بذلك، قال غداً سنبني أربعاً مثلها، يا لها من عزيمة تستحق ثناء الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)!
استمرت مدافع السلطان العملاقة تدك أسوار القسطنطينية ليلاً ونهاراً، فانهار جزء منها، وبعث السلطان الفاتح برسالة إلى قسطنطين يطلب منه تسليم المدينة، مقابل ضمان سلامة أهلها وممتلكاتهم، فرد عليه قسطنطين قائلا: «إنني على استعداد لدفع الجزية، ولكن لن أسلم المدينة أو أموت تحت أسوارها». ولما قرأ السلطان رد قسطنطين أجاب بعزيمة المؤمنين التي لا تعرف الوهن: «غداً سيكون لي فيها مقر، أو يكون لي فيها قبر».
كانت المدافع تعمل عملها ليلاً ونهاراً، وكانت تكبيرات المسلمين المدوية، تحدث في نفوس البيزنطيين من الرعب أكثر مما تحدثه المدافع، إلا أن هناك ثغرة بقيت في الحصار، كانت تأتي منها الإمدادات، وهي القرن الذهبي، الذي حاول الأسطول العثماني الدخول إليه مرات عدة، ولكن السلاسل الحديدية الضخمة التي كانت تقفل مدخله حالت دون ذلك.
وضع السلطان الفاتح نصب عينيه دخول القرن الذهبي بأسطوله مهما كلف الأمر، لأن ذلك يعني أن تصبح القسطنطينية في حصار خانق، فتفتق ذهنه وعبقريته عن معجزة عسكرية لم يسبق إليها أحد قبله، كانت خطته أن يرفع عدداً من سفنه من مرساها في "بشكطاش" في البوسفور إلى البر، ثم ينـزلها إلى القرن الذهبي بعيداً عن مدخله المغلق بالسلاسل، والمحمي بالأسطول البيزنطي، وكان يعلم أن أضعف نقطة في الأسوار، هي تلك الواقعة على القرن الذهبي.
كانت المسافة البرية المراد قطعها تبلغ ثلاثة أميال، ولم تكن أرضاً ممهدة، بل كانت وهاداً وتلالاً، فأمر الفاتح بتسويتها، وأمر بإحضار الألواح الخشبية فرصفت على الأرض، ودهنت بالزيت حتى يسهل انزلاق السفن عليها، وقام الجيش الإسلامي ورجاله الأشداء، يرفع السفن من البوسفور، وجرها هذه المسافة الطويلة، وثم إنزالها في نقطة آمنة في القرن الذهبي، وقد تم ذلك كله في ليلة واحدة، وما إن بزغ نور الفجر حتى كانت أعلام السلطان ترفرف على اثنتين وسبعين سفينة في القرن الذهبي، يملؤها الجند مدججين بالسلاح، مكبرين مستبشرين بنصر الله، ولما رأى البيزنطيون ذلك صعقوا، وانحطت روحهم المعنوية، وحاولوا مهاجمة الأسطول العثماني فارتدوا خاسرين مدحورين. يروي أحد الشهود النصارى واسمه "نيقولو باربارو" وكان يعمل طبيباً على ظهر إحدى سفن البندقية المشاركة في الدفاع عن المدينة، أن المسلمين تصدوا للهجوم البيزنطي ببسالة منقطعة النظير، وقصدوا الهجوم وأغرقوا عدداً من السفن البيزنطية، فأصبحت لهم السيادة في القرن الذهبي.
ويروي مؤرخ بيزنطي آخر عن نقل الأسطول عن طريق البر فيقول «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار، وتعبر سفنه قمم الجبال، بدلاً من الأمواج، لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر».
أحكم الفاتح الحصار على المدينة براً وبحراً، وكانت مدافعه تدكها ليلاً ونهاراً، وصيحات الجنود (الله أكبر، الله أكبر) تحطم روحهم المعنوية، وفي يوم الأحد 27 أيار/ مايو خطب السلطان في الجيش، وأمر جنوده بالتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والصلاة والدعاء وإخلاص النية، وحثهم على الصبر والتضحية، وقام هو بنفسه باستطلاع الأسوار، وحدد مواقع معينة لتركيز القصف عليها. وفي اليوم التالي 28 أيار، اشتد القصف المدفعي، وارتفعت التكبيرات مدوية من حناجر المجاهدين، وكان السلطان يمر على الجنود بنفسه، ويحثهم على الجهاد، ويبشرهم بقرب النصر، وكان العلماء لا يفترون عن التجوال بين الجنود، يقرؤون عليهم الآيات التي تحث على القتال في سبيل الله، ويذكرونهم بفضل الشهداء، وعظيم ثوابهم عند الله.
التقى السلطان كبار قادته ليلة الثلاثاء، وخطب فيهم خطبة مؤثرة، وذكرهم فيها حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فتح القسطنطينية، ودعا فيه مخلصاً أن يكون هو وجنوده أهل هذا الشرف، ومن ضمن ما قاله في خطبته: «أبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن النصر العظيم سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، فيجب على كل جندي أن يجعل تعاليم الشريعة الغراء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يخالف ذلك، وليتجنبوا الكنائس والأديرة، ولا يقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأةً ولا راهباً في صومعته، وليحسنوا معاملة القيصر إن أسروه».
وفي صبيحة يوم الثلاثاء 29 أيار/ مايو أمر السلطان جنوده فصلوا الصبح ودعوا الله مخلصين، وبدأ الهجوم مع صيحات التكبير عقب الانتهاء من الصلاة مباشرة، وبدأ الهجوم موجة تلو أخرى، حتى أرهق المدافعين، وتمكن جند الإسلام من اعتلاء الأسوار، والاستيلاء على الأبراج المدافعة في منطقة "باب أدرنة" ورفعت عليها رايات السلطان، وقتل الإمبراطور قسطنطين، ونزل خبر مصرعه على البيزنطيين كالصاعقة، فانهارت معنوياتهم، وبدأوا يهربون إلى بيوتهم يتبعهم جند الإسلام مكبرين، وما حان وقت الظهر إلا والسلطان الفاتح يتجول وسط عاصمة بيزنطة على ظهر جواده، يحف به جيشه الظاهر مكبرين مهللين، يهنئون السلطان ويهنئهم، وهو يقول «الحمد لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولأمتنا الإسلامية العظيمة الشرف والشكر» ثم ترجل عن جواده وسجد شاكراً لله تعالى على هذا النصر العظيم.
أمر السلطان بعد ذلك بنـزع الصلبان من كنيسة آيا صوفيا وتجصيص الصور، وصلى فيها صلاة الجمعة يوم 1 حزيران 1453م، وحولها بعد ذلك إلى مسجد تقام فيه الصلوات الخمس، وقد بعث إليه بابا روما يتهدده على تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فرد عليه الفاتح بقوله: «لقد شرفت آيا صوفيا بأن حولتها إلى مسجد، أما إن مكنني الله تعالى، فسأحول مكانك الذي تقف فيه، إلى مربط لخيولي.
بعد هذا الفتح العظيم، أرسل الفاتح رسائل البشرى إلى أقطار العالم الإسلامي في آسيا وأفريقيا، فأرسل برسائل إلى فارس، والهند، ومصر، والحجاز، فعمت الفرحة هذه الأقطار، فقد تحققت بشرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصبح الحلم حقيقة، فنودي بالزينة في مدائن المسلمين، ورفعت أعلام الفاتح، ودعي له على المنابر، ونظم فيه الشعراء شعراً، ومن أحسن ما قيل في هذه المناسبة:
الله أكبر هذا النصر والظفر هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر
إن مما يجدر ذكره في هذا المقام، أن السلطان الفاتح، كان شاعراً باللغة التركية، ويقول في قصيدة له:
«حماسي: بذل الجهد لخدمة ديني دين الله.
عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي جند الله.
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر، على الفوز بلطف الله.
وجهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.
وأشواقي: الغزو مئات الآلاف من المرات في سبيل الله.
ورجائي: في نصر الله، وسمو الدولة على أعداء الله».
كان السلطان الفاتح (رحمه الله) يتمنى الغزو مئات الآلاف من المرات في سبيل الله؛ لذلك لم يكتفِ بهذا الفتح العظيم، فأمر بتجهيز جيش آخر في "أسكي دار" في آسيا الصغرى، وتوجه إلى هناك ليقود الجيش بنفسه، وكان رحمه الله يستنير بهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، فكان لا يفصح عن مكنون نفسه، ولا عن خططه، بل يباغت العدو مباغتة تفقده صوابه، وتبقيه في خوف لا ينقطع، فكان لا يطلع أحداً على نيته، ولا عن وجهته التي يريد أن يتوجه إليها بهذا الجيش، فعاجله أجله رحمه الله، قبل أن يكشف عن نيته، والجهة التي كان يريد أن يغزوها، ويرجح بعض المؤرخين من ضخامة الجيش وتجهيزه، وتوجيهه بنفسه لقيادته، أنه كان يفكر لغزو روما وفتحها، ليحوز الشرف من جانبيه، إلا أن هذا الشرف العظيم وهو قادم لا محالة، مدخر لفاتح آخر، عسى الله تعالى أن يظهره قريباً، وما ذلك على الله بعزيز.


ونود في ختام مقالنا هذا أن نعطره بوصية هذا الأمير العظيم لولده عندما أحس بدنو أجله، وقبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى، ومما جاء فيه:
يا بني، ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفاً مثلك، كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الإسلام على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، لا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، جانب البدع المفسدة، وسع رقعة الدولة بالجهاد، واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم.
العلماء الصالحون هم قوة الدولة، فعظِّم جانبهم وأكرمهم، وإذا سمعت بعالم في أي بلد فاستقدمه إليك وأكرمه.
يا بني، خذ مني هذه العبرة، لقد حضرت إلى هذه البلاد كنملة صغيرة فأعطاني الله هذه النعم الجزيلة، فالزم مسلكي واحذُ حذوي، فاعمل على إعزاز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تنفق المال في ترف أو لهو، واقتصد قدر اللزوم، فإن الإسراف والبطر من أعظم أسباب الهلاك.
رحم الله السلطان محمد الفاتح، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً، اللهم امنن على المسلمين بخليفة راشد، يقود الجيوش ويحمي الثغور، ويفتح الفتوح ومنها فتح روما، ويحرس الشريعة، يعز الله به الإسلام والمسلمين، ويذل به الكفار والمنافقين، جعل الله ذلك في العاجل القريب، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.

عبد الله اليماني

المصدر: مجلة الوعي

قاعدة أهون الشرين



يستدل بعض المشايخ المعاصرين وغيرهم من المتصدّرين لبعض نواحي العمل الإسلامي بهذه الأقوال: أهون الشرين، أو أقل الضررين، أو أخف المفسدتين، أو درء المفسدة الأكبر بالمفسدة الأصغر، أو بما في هذا المعنى؛ لتبرير بعض المواقف والأعمال المحرَّمة سواء لأنفسهم أم لغيرهم من أولياء مصالحهم. وسنبين، بحول الله تعالى، في هذه المقالة حقيقة المعنى الشرعي لهذه الأقوال.
وقد كان الدافع لهذه المقالة الجهل الواقع في فهم هذه الأقوال، وتحريف الأحكام الشرعية من خلال تطبيقها في غير مواضعها؛ لذلك ينبغي قبل البداية الإشارة إلى بلاءٍ تعاني منه الأمة، وينبغي العمل على معافاتها منه، ونسأل الله تعالى العون.

إن هذا البلاء هو أن الأمة ابتليت بأشخاص حظهم من العلم قليل، وزادهم من التقوى ضئيل، يُـنَـصَّـبون على منابرها، ويتصدرون مجالس التعليم الفقهي، ويتسلمون مراكز البيان والتوجيه الشرعي، في ظل واقع يروَّج فيه للفكر الغربي ونُـظُـمه، وتوضع فيه مناهج التعليم الشرعي على أساس التوفيق بين أحكام الإسلام والقوانين الغربية بما يُرضي الحكام وأسيادهم، وفي ظل أوضاع يُـستبعد فيها العلماء الحقيقيون الورِعون، ويُـغَـيَّـبون؛ لأن مواقفهم لا ترضي الحكام ولا تناسب أنظمتهم وسياساتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وإذا كان من هم مفترضٌ فيهم أن يكونوا قادةً للأمة يدلونها على الخير لتقدم عليه، وينبهونها على مواطن الخطر لتحذره، والحرام لتحجم عنه، قد غلبَ على الكثير فيهم المقياس المادي النفعي، فبمنحةٍ ماديةٍ، أو بوظيفة أو منصب يخرجون الفتوى والبيان (الشرعي) بأن يشارك الناس في الانتخابات ولو كان إثماً، أو بأن ينتخبوا فلاناً ولو كان لا يقيم للشرع وزناً، أو بأن يؤيدوا ويساندوا هذه الفئة أو تلك ولو كانت ترى الإسلام إرهاباً أو تعدُّه تخلُّـفاً، أو بأن يشاركوا في هذا العمل أو ذاك ولو كانت شعاراته فسقاً وكفراً وراياته صليبيةً، بل صلبانَ مخنجرةً تقطر دماً، أو يدعون إلى التقارب بين الإسلام والكفر تحت عناوين الحوار بين الأديان، أو يطلقون على أصحاب القلوب الفاسدة والأيادي السوداء بأنهم أصحاب الأيادي البيضاء في خدمة الإسلام والمسلمين، ولو كانوا عملاء للكافر، ويفتحون البلاد قواعد عسكرية له؛ ليسيطر على البلاد والعباد، وينهب ثرواتها، ويأكل خيراتها، ويحارب الإسلام والدعاة إليه، تحت اسم الحرب على الإرهاب. إذا كانت هذه حال من يفترض فيهم أن يكونوا رواداً وفي طليعة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكم يكون إذ ذاك خطرهم عظيماً؟! وهل هم بهذه الحال دعاةٌ إلى الله أو عقبةٌ في طريق الدعوة؟ ! وهل هم عاملون لإنهاض الأمة أو هم معاول هدم في أيدي الحكام والسياسيين العلمانيين وأصحاب المال، يخدعون بذلك الأمة، ويفرغون جهودها، ويوهنون طاقاتها، في سياسات ومشاريع تخدم أعداء الأمة، بل قَـتَـلَـتَـهَـا؟!
وليعذرنا الشيخ الشهيد عبد القادر عودة وقد عنون لرسالته بـ(المسلمون بين جهل أبنائهم وعجز علمائهم)، فقد آل الأمر أيها الأخ الشهيد إلى العكس، فالمسلمون يعانون اليوم من عجز أبنائهم وجهل علمائهم.
نعم، جهل بالشرع، بل جهل بمعنى عقيدته، يُـنبئُ عنه ضعف حاد في الإيمان، نراه واضحاً في أقوال، ومواقف، وفتاوى، مخالفة للشرع. وقد صارت الشهادة في العلم الشرعي أداة استرزاق، وصارت المشيخة مهنة يؤكل بها، وصار موقف الحق عند أمثال هؤلاء المشايخ جهلاً وعدم فهم أو سوء تقدير لصعوبة الواقع، ومواقف غير عقلانية. وصار المحدِّد للحكم الشرعي وللموقف الشرعي -عندهم- هو مقدار ما يرجع على هذا الموجِّه، أو المعتلي للمنبر، من منفعة، أو مقدار ما يدرأ عن نفسه من ضرر. وانتشر لديهم مفهوم خاطئ وهو أننا ضعفاء وعاجزون، وعلينا أن نقبل بهذا الواقع؛ لأن الزمان ليس زماننا! وعلينا أن نحافظ على ما تبقى لنا ونرضى بما أُلقيَ إلينا من فتاتٍ أو يُـلقى، وإلا فالبديل أسوأ وأخطر!
لقد جمعوا بين الجهل واليأس فصاروا دعاة هلاك ومروجي فتنة، لقد صاروا تجربةً فاشلةً، ومثالاً فاسداً، وسبَّةً على الداعين إلى الإسلام، وحجةً عليهم، فما أعظمها فتنةً!
علماء بغير علم، يتعلمون الفقه من الواقع، ويستدلون عليه بهوى النفس، وربما بحكمة الزعيم، وليس بالقرآن والسنة، فما أعظمها فتنةً! يفتون بحسب ظروفهم وأوضاعهم، وبحسب مصلحة الجهة التي يوالونها، ويعلِّمون العقيدة علمَ كلامٍ، خاليةً من الإيمان، فما أعظمها فتنةً!
غلبت عليهم النفس الأمارة بالسوء، فنفوسهم يائسة، وخوفهم من العبد أكبر من خوفهم من رب العبد، ومقياسهم كمْ، فما أعظمها فتنة!
إن من كانت هذه أحوالهم، وأصرُّوا عليها، فالأمة -بصحوتها الصاعدة- ستلفظهم وتتعافى من الثقة بهم وتأنف الرجوع إليهم، كما تعافت قبل ذلك من الثقة بأسيادهم، وأخرجت من قلبها كلَّ أثر لولاء لهم أو انتظار خير منهم.
أيها العلماء: إن الدور الذي ينبغي أن يكون منوطاً بكم كبير، والمسؤولية التي ينبغي أن تكون على عواتقكم كبيرة، وقد حُمِّلتموها فاحملوها، ولا تكونوا كالذين حمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها، وإن تتولوا يستبدل الله بكم قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وستقفون يوم القيامة بين يدي الجبار، وستُسألون، فبماذا ستجيبون؟ إنه لأمر عظيم لا يهوِّن من شأنه أن تحسبوه هيناً، أو أن تمروا عليه بسرعة. فارجعوا إلى كتابكم وتدبروا فيه معنى الإيمان، وبادروا إلى قول الحق وموقف الحق. وإن الصحوة قد نالت من الأمة ونالت الأمة منها، والأمة تبحث عن روّادها لتنقاد لهم في مسيرة إعزاز دينها وإعزازها، وفي مسيرة الشهادة على البشرية. فاحذروا أن تكونوا عقبةً في طريق دولة الأمة، أو أن تكونوا أدواتٍ ومروجين لسياسيين علمانيين وفسقة أو لآخرين بائسين، ولا تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم:  أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ  [الجاثية 23].
إن الله تعالى هو النافع وحده، وهو المعز والمذل، وهو الرافع والخافض، فتدبروا معنى الإيمان ومعنى التوكل على الله في المواقف، كل المواقف، وأفتوا الناس حينئذٍ بحكم الشرع وعلِّموهم كما يعلمكم الشرع، حينئذٍ تكونون علماء حقيقيين ورواداً صادقين للأمة، والفظوا من بين صفوفكم الجواسيس، والدجالين، والمنحرفين، والمرتزقة.

أما فيما يتعلق بالقواعد المذكورة آنفاً، الأخذ بأهون الشرين وما في معناها، فإن العلماء الذين يأخذون بها، يدركون ضوابطها ومواضع إعمالها، فلا يصح أن يؤخذ نص القاعدة وكأنه شرعي مطلق، أو يأخذ مبتوراً عن شروط تطبيق القاعدة، ثم تعطى بناءً عليه فتاوى تُـبَـرَّرُ بها الأعمال المحرمة ويخدع بها الناس.
والقاعدة الشرعية ليست نصاً شرعياً، وإنما هي حكم شرعي؛ لأن نصها صياغة بشرية، صاغه فقيه أو مجتهد. والنصوص الشرعية هي نصوص القرآن والسنة فقط. ولكن كان من الأدق أن يطلق عليها اسم قاعدة شرعية، وليس حكماً شرعياً؛ لأنها في واقعها قاعدة إضافةًً إلى كونها حكماً، أي أنها تتسم بالعموم أو بالكلية؛ لأنها تنطبق على أفراد كثيرة بناءً على لفظ عام، أو على جزئياتٍ كثيرة بناء على علة؛ وعلى ذلك فإذا حصل خلاف في القاعدة أو في تطبيقها فيجب الرجوع إلى المصادر، أي النصوص الشرعية التي استنبطت منها القاعدة، فهي التي تبيِّـن معنى القاعدة، وحدود تطبيقها ومواضعه، وحالات الاستثناء منها أو تخصيصها.
وهذه القاعدة المذكورة أعلاه بنصوصها المختلفة، عند العلماء الذين يأخذون بها، ترجع إلى معنى واحد، وهو جواز الإقدام على أحد الفعلين المحرّمين، وهو الفعل الأقل حرمة منهما، وهي ليست مطلقةً بهذا المعنى، وإنما مقيدة فيما إذا كان المكلَّف لا يسعه إلا القيام بأحد الحرامين، ولا يمكنه أن يترك الاثنين معاً؛ لأن ذلك متعذر أي خارج عن الوسع، أو في حالة يسعه فيها ألا يقدم على أيٍّ من الحرامين، ولكنه إذا فعل ذلك فسيقع الحرامان معاً، أو سيقع أشدهما حرمةً، أو سيقع حرامٌ أشد من الاثنين، فهذه من شروط أو ضوابط إعمال هذه القاعدة. ولإعمالها ضوابط أخرى تختلف بحسب اختلاف المسائل أو الأوضاع، ويتحدد الفقه فيها في كل مسألةٍ على حدة.
أما مستند هذه القاعدة فهو المعلوم ضرورة من الدين أن الحرام يُـترك والواجب يُـفعل، فإذا كثرت الأفعال المحرمة فيجب تركها كلها سواء كانت اثنتين أم أكثر، وإن كثرت الواجبات فيجب فعلها كلها سواء كانت واجبين أم أكثر، وكذلك يقال في المكروهات والمندوبات مع فارق أن المكروه يُـكره ولا يحرم، والمندوب يُـستحب ولا يجب.
وإنما يقولون بجواز الإقدام على أقل الحرامين مع أنه حرام، وبأفضلية الإقدام على أقل المكروهين مع أنه مكروه شرعاً، وبتعبير آخر أخف المفسدتين أو الشرين أو الضررين، أو يقال بدرء المفسدة الأعظم بالمفسدة الأخف، فيما لو كان لا يمكن درء المفسدتين معاً أو كان درؤهما معاً يؤدي إلى مفسدة أعظم. قال تعالى:  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  [التغابن 16] وقال:  لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  [البقرة 286]. ومن هذه النصوص يتبين معنى هذه القاعدة وكيفية تطبيقها؛ وبناءً عليها -أيضاً- يقال بفعل الأوجب ولو عن طريق ترك الأقل وجوباً إذا تعذر إيقاع الواجبين معاً، أو يقال جلب المصلحة الأكبر بترك المصلحة الأصغر. وينبغي أن يلاحظ أن لفظ المصلحة والمفسدة هنا لا يطلق بمعنى المنافع والمضار بحسب الأهواء وحظوظ النفس، وإنما بحسب ما طلبه الشرع أو نهى عنه. قال الغزالي: «أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم»1.

وبناء على ما سبق، فإن استخدام هذه القواعد للإفتاء بفعل المنهي عنه في غير هذه الحالات هو فتوى بغير ما أنزل الله، ولا يقول بذلك أحد من العلماء الصادقين، قال : «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض» أخرجه السيوطي في (الجامع الصغير) وقال حسن؛ وعلى ذلك فإن قول من يقول انتخبوا فلاناً وإن كان علمانياً كافراً أو فاسقاً، أو أيدوا فلاناً ولا تؤيدوا الآخر؛ لأن الأول يساعدنا والثاني لا يساعدنا، أو ما شاكل ذلك، وسواء أكان القائل شيخاً، أم عالماً، أم لم يكن، هو قولٌ مردودٌ شرعاً، ولا يصح الاستناد فيه أو في مثله إلى هذه القواعد، وإنما الذي يقال هنا: إن الأمرين المعروضين أمامنا محرَّمان، فلا يجوز انتخاب العلماني ولا يجوز توكيله أو إنابته لتمثيل المسلم في الرأي؛ لأنه لا يلتزم بالإسلام، ولأنه يقوم بأعمال محرَّمة لا يجوز للموكِّـل أن يقوم بها كالتشريع والمصادقة على مشاريع محرَّمة، وكالمطالبة بالمحرمات والقبول بها والسير فيها، وبالجملة فهو ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر؛ ولذلك فلا يجوز انتخاب أي منهما؛ لأن انتخاب هذا أو ذاك حرام. وترك انتخاب هذا أو انتخاب ذاك داخل في الوسع. ولا يقال مثلاً: إن لم ننتخب ونساعد في إنجاح فلان فسينتخب غيرنا شخصاً أكثر ضرراً. لا يقال ذلك مثلما أنه لا يقال: إن لم نفتح الخمَّـارة نحن ونتقوَّى بمكاسبها فسيفتحها غيرنا (سيفتحونها هم) ويكسبون هم. وإنما السبيل هنا أن يُـترك الحرامان، وأن يُـدعى الآخـرون إلى أن يلتزموا أيضاً بترك المحرمات، فإن فعلوا كان خيراً لهم وإن لم يفعلوا كان شراً لهم. قال تعالى:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ  [المائدة]. وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، عن قيس بن أبي حازم قال: «قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله  يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيِّروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب». وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة عن أبي أمية الشعثاني قال: «أتيتُ أبا ثعلبة الخُـشَـني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ  قال: أما واللهِ، لقد سألت عنها خبيراً. سألتُ عنها رسول الله  فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوْا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شحاً مطاعاً، وهوًى متبعاً، ودنيا مؤثرةً، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوامِّ، فإن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم»، وفي لفظ: «قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلاً منكم».
فمن هذه النصوص يتبين أن الحرامين يتركان، ويؤمر الناس بترك الحرام. ولا تنطبق هنا قاعدة أهون الشرين.
وإنه لمن المهازل أن يعترض هنا، ومن قِـبَـل مشايخ، بقولٍ سخيف: «يعني نقعد، لا نعمل شيئاً!» والجواب: إذا كنت بين أمرين إما أن تعمل حراماً وإما أن لا تعمل شيئاً ولا ثالث لهما، أي لا تستطيع أن تعمل خيراً، فالواجب أن تقعد وتكف أذى نفسك عن الناس، ولسانك عن تحريف الدين. قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» رواه الشيخان. والأصل أن تقوم ولا تقعد، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسعى لوجود من يستحق أن يُـنتخَـب، أو أن تسعى لتغيير الأوضاع كلياً؛ لأن الواجب هو أن لا تَحكُـمَ أو تُـحكَم إلا بالإسلام، وأن لا تحتكم إلا إلى الإسلام. فقم لرفع شأن أمتك:  إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ  [الرعد 11].
إن هذا الموضع وأمثاله لا تنطبق عليه هذه القواعد، والذين يطبقونها في مثل هذه المواضع ينطبق عليهم قوله تعالى:  فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ  [المائدة 52].
وإن مثال ما يطبق فيه هؤلاء المخطئون هذه القواعد هو كأن يُـعرضَ على المكلَّف طعامان أحدهما فيه ميتة والآخر فيه لحم خنـزير، فهل معنى القاعدة هو أن يبحث المكلف عن أقلهما حرمةً ثم يأكله، أو أن كليهما طعام حرام وعليه تركهما؟ نعم، كلاهما حرام، وعليه أن يجد طعاماً مما أحل الله أو فليصبر.
وأما العلماء الذين يأخذون بهذه القواعد، المدركون لحقيقتها، فهذه أمثلة من تطبيقاتهم لها:
1- إذا ما وصل الإنسان إلى حد الاضطرار الذي يخشى معه فوت الروح، وعند ذاك فإذا وجد حرامين فعله بالأقل حرمةً وإذا وجد حلالاً فلا.
إن هذه القواعد ليست معقدة ولا غامضة، وإنما هو البلاء المذكور، بلاء الجهل واليأس وقلة الدين. وسأذكر فيما يلي مثالين لتطبيق هذه القواعد لأجل مزيد من الوضوح، ثم أذكر أمثلةً مما ذكره بعض الأئمة ليكون القارئ على بيِّـنة من الأمر وطمأنينة.
2- إذا تعسَّـرت ولادة الأم ووقع العجز عن إنقاذ الأم والجنين معاً، واحتاج الأمر إلى قرار سريع: إما إنقاذ الأم وهذا يقتضي موت الجنين، وإما إنقاذ الجنين وهذا يقتضي موت الأم. وإذا تُـرك الأمر ولم يُـعمل على موت أحدهما لإنقاذ الآخر، أو إحياء أحدهما بموت الآخر، فقد يؤدي إلى موت الاثنين. ففي مثل هذه الحالة يُـقال بأهون الشرين، أو أقل الحرامين، أو أخف المفسدتين، وهو أن يقدم على الفعل الذي ينقذ المطلوب إنقاذه وهو الأم، ولو كان هذا الفعل نفسه قتلاً للآخر.
وينبغي أن يلاحظ هنا أن تعيين الفعل الأقل حرمةً لا يرجع إلى هوى أو مشيئة وليِّ أمر الأم والطفل، وإنما يرجع إلى الشرع، فكما أن الشرع هو الذي يبين ما هو حلال وما هو حرام، فهو أيضاً الذي يبين أيهما آكد في الشرع.
3- أن يتعرض شخص للهلاك غرقاً أو قتلاً من قِـبَـلِ شخص آخر، أو للإصابة بأذىً بليغٍ في بدنه وأعضائه، أو أن يُـعتدى على امرأة بالزنا، بحضور مكلَّـف يستطيع منع هذه المنكرات وعليه صلاة مفروضة قد يفوت وقتها، فإما أن يمنع ذلك الحرام فيفوته أداء الواجب، وإما أن يؤدي الواجب في وقته فيقع ذلك الحرام، والوقت لا يتسع لفعل الأمرين معاً. فهنا يأتي تطبيق القاعدة، وتكون الموازنة أيضاً من قِـبَـلِ الشرع الذي جعل رفع تلك المحرمات المذكورة آكد من أداء الواجب المذكور، ولو أمكن فعل الواجبين معاً لوجبا. ولا يقال: نفعل الأوجب ويجوز القعود عن الأقل وجوباً.
وكما مَرَّ آنفاً فإن الموازنات بين الأحكام ترجع إلى الشرع. وللفقهاء فيها قواعد للقياس، والمشابهة، والتقدير، والمقارنة. ولا يسعنا الدخول فيها وإنما أشير إلى ذلك بما يلفت النظر، وتفاصيل ذلك في الفقه، وربما كانت صعبة المورد ولكنها عذبة المذاق.
فحفظ نفسين أولى من حفظ نفسٍ واحدة والثلاثة أولى وهكذا، وحفظ النفس مقدم على حفظ المال، وحفظ دار الإسلام داخل في حفظ الدين وهو أَوْلى من حفظ النفس والمال، وكذلك الجهاد والإمامة العظمى فهما داخلان في حفظ الدين من أوَّل وأَوْلى الضرورات، وفي الموازنة بين الإكراه على الزنا والقتل اختلاف والله أعلم. قال الشاطبي في الموافقات: «إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال، كان إحياؤها أَوْلى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أَوْلى، وإن أدى إلى إماتتها، كما جاء في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك، وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة»2. وقال الغزالي في المستصفى: «ونحن نعلم أن الشرع يؤْثِـر الكليَّ على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد... فإن قيل: فتوظيف الخراج (الضرائب) من المصالح، فهل إليه من سبيل أو لا؟ قلنا: لا سبيلَ إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات (رواتب) العسكر، ولو تفرّق العسكر واشتغلوا بالكسب، لخيفَ دخول الكفار بلاد المسلمين، أو خيفَ ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد المسلمين، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج؛ لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصدَ الشرعُ دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي من الأغنياء الذين فرضت الضريبة في أموالهم) قليل بالنسبة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكةٍ يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور»3.
وهذه أمثلة أخرى ذكرها الإمامان الغزالي وعز الدين بن عبد السلام، رحمهما الله، يظهر فيها كيفية إعمال قاعدة أهون الشرين عندهما، ويظهر فيها أيضاً موازنات بين الأحكام. قال العز في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام: «إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، فإن تساوت يُـتَـوَقَّـف، وقد يُـتَـخَـيَّـر، وقد يُـخْـتَـلَـف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات»4. ثم ذكر أمثلة فقال: «أن يُـكرَهَ على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قُـتِـلَ، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل؛ لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه، وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك؛ لقدرته على درء المفسدة؛ وإنما قُـدِّم درء القتل بالصبر على القتل لإجماع العلماء على تحريم القتل واختلافهم في الاستسلام للقتل»5. فهذا مثال واضح في أنه اختيار لأخف المفسدتين أو الحرامين لأنه لا فكاك له من أحدهما، ولو أمكنه منع المفسدتين لوجب عليه ذلك.
وقال في مثال آخر: «وكذلك لو أكره بالقتل على شهادة زور أو على حكم بباطل، فإن كان المكره على الشهادة به أو الحكم به قتلاً، أو قطع عضو، أو إحلال بضع محرم، لم تجز الشهادة ولا الحكم؛ لأن الاستسلام للقتل أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب، أو قطع عضو بغير جرم، أو إتيان بضع محرَّمٍ. وإن كانت الشهادة أو الحكم بمالٍ، لزمه إتلافه بالشهادة أو بالحكم حفظاً لمهجته كما يلزمه حفظها بأكل مال الغير. وكذلك من أكره على شرب الخمر أو غَـصّ ولم يجد ما يسيغ به الغصة سوى الخمر، فإنه يلزمه ذلك؛ لأن حفظ الحياة أعظم في نظر الشرع من رعاية المحرمات المذكورات»6. وقال في مثال آخر: «إذا اضطر إلى أكل مال الغير أكله؛ لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل، وهذا من قاعدة الجمع بين المصلحتين وبذل المصلحة الأخرى»7.
ومن أمثلته أيضاً: «إذا وجد المضطر إنساناً ميتاً أكل لحمه؛ لأن المفسدة في أكل لحم ميت الانسان أقل من المفسدة في فوت حياة الإنسان»8. ومنها: «إذا وقع رجل على طفل بين الأطفال إن قام على أحدهم قتله وإن انفتل إلى آخر من جيرانه قتله، فقد قيل: ليس في هذه المسألة حكم شرعي، وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، ولم ترد الشريعة بالتخيير بين هاتين المفسدتين. فلو كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فهل يلزمه الانتفال إلى الكافر لأن قتله أخفُّ مفسدةً من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟ فالأظهر عندي أنها تلزمه؛ لأنا نجوِّز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز مثل ذلك في أطفال المسلمين»9. أما قوله إن المسألة باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها، فهو لجهة أن الأطفال جميعاً متساوون نظرياً، فإذا وقعت الحادثة فسيكون فيها من الحيثيات ما يُـرجعَ مناط الحكم فيها إلى أوصاف أخص من مجرد عموم كونهم أطفال أو أي عموم آخر فيها. وهذه المسألة أول من أوردها -والله أعلم- هو إمام الحرمين الجويني في كتابه غياث الأمم عند التياث الظلم، وذكر أنها ليست لها في الشريعة حكم، مع أنه أكد في كتابه نفسه أنه ما من واقعة إلا ولها في الشريعة حكم.
ومن أمثلة العز بن عبد السلام أيضاً: «إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان؛ لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة؛ لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم لوجب إلقاء المال، ثم الحيوان؛ لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس»10. ومن أمثلته: «لو أكره بالقتل على إتلاف حيوان محترم من حيوانين يَـتَـخَـيَّـر بينهما». «ولو أكره على شرب قدح خمر من قدحين يتخير بينهما». «ولو وجد حربيَّـين في المخمصة فإن تساويا تخير في أكل أيهما شاء، وإن تفاوتا بأن كان أحدهما أجنبياً والآخر أباً، أو ابناً، أو أماً، أو جدةً، كره أن يأكل قريبه ويدع الأجنبي، كما يكره أن يقتله في الجهاد. ولو وجد صبياً أو مجنوناً مع بالغ كافر أكل الكافر بعد ذبحه وكف عن الصبي والمجنون، لما في أكلهما من إضاعة مالِـيَّـتِـهما على المسلمين، ولأن الكافر الحقيقي أقبح من الكافر الحكمي»11. ومن أمثلته أيضاً: «قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم». «قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة إلا إذا تترس بهم الكفار وخيفَ من ذلك اصطلام المسلمين ففي جواز قتلهم خلاف؛ لأن قتل عشرة من المسلمين أقل من مفسدة قتل جميع المسلمين»12. وللغزالي تفصيل في هذا المثال الأخير حيث يقول: «إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً، فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع؛ لأنا نعلم قطعاً أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل»13.
فهذا المثال واضح في أن الوضع الذي يُـلجأ فيه إلى العمل بأخف الحرامين أو المفسدتين هو وضع العجز عن تجنب الحرامين جميعاً أو منعهما جميعاً، انظر قوله: «فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً» وقوله «فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على القليل».
ثم يقول الغزالي: «وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة، فبنا غِـنْـيَـةٌ عن القلعة»14.
بهذه الأمثلة التي ذكرها بعض الأئمة على إعمال قاعدة أهون الشرين يتبين معنى القاعدة ومواضع إعمالها، ويتبين أيضاً كيفية الموازنة بين المصالح والمفاسد، كما ويتبين مقدار البلاء الذي ترزح تحته الأمة في ظل أقوال وتوجيهات تصدر باسم العلم والفقه، وما هي إلا دلالة على الانحطاط الذي أصاب الأمة بسبب هيمنة عدوها وزبانيته عليها؛ ولذلك وجب التنبيه إلى الخطأ في إعمال هذه القاعدة وإلى خطأ الموازنات غير الشرعية التي تقلب أحكام الشريعة رأساً على عقب. ولعل من هؤلاء المخلصين من يتنبه إلى مقدار خطئه وخطره على أمته، فيسعى إلى التوبة مما باء به، ويقرر التخلص مما يحوك في صدره، والله من وراء القصد.

محمود عبد الكريم حسن

المصدر: مجلة الوعي

الصبر... الزاد في خضم المرحلة (2)


الدين يقوم على أكتاف أولي العزمات:


اعلموا أن الدين يقوم على أكتاف أولي العزمات من الرجال، ولا يقوم أبداً على أكتاف المترخصين والمترفين، وحاشاه أن يقوم على أكتافهم، فالدين العظيم لا يقوم إلا على أكتاف العظماء من الرجال. والمسؤولية الجسيمة، التي ناءت بحملها السموات والأرض، لا يمكن أن يقوم بها إلا أهلها، ورجالها. كيف يقوم الإسلام دون عزمة كعزمة "أنس بن النضر" الذي قال فيها: «لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع»، فشهد أحداً، وقاتل، حتى وجد بجسده -وهو ميت- بضع وثمانون طعنة وضربة، حتى إن جسده قد مزق تمزيقاً فلم يعرفه أحد سوى أخته، عرفته ببنانه. إن العزمة التي نريدها منك أخي المسلم عزمة شاملة، عزمة في العلم والعمل، عزمة في الدعوة والجهاد، عزمة في الإيمان واليقين والصبر والرضى، عزمة في الحسبة والصدع بالحق، عزمة في إصلاح النفس وهداية الخلق. إننا لا نريدها عزمة تقتصر على مجال واحد، بل نريد ذلك الذي سمت همته في شتى مجالات العمل الإسلامي، وليس في مجال دون مجال، أو في ناحية على حساب أخرى، وإنما نريدها عزمة كاملة شاملة تامة، وإنني لم أجد في ذلك المعنى أبلغ مما قاله "ابن القيم"، رحمه الله، في كتابه القيم طريق الهجرتين وباب السعادتين «ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل وادٍ، والواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قِبْلَةَ قلبه ونصب عينيه، يؤمها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك، إن كان علمٌ وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها. لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي، حيث كانت، وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس لي مراد إلا تنفيذها، والقيام بأدائها، مراقباً له فيها، عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن السر، قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].


قولوا للمنافقين:


سيقول لك المنافقون والذين في قلوبهم مرض: أتطنون أن شيئاً مما تريدونه سيتحقق؟ وهل تظنون أن الخلافة الإسلامية، أو حتى الدولة الإسلامية، ستقوم؟ إن ذلك لا يمكن أن يحدث، وهو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وهل ستسمح أميركا وروسيا وأوروبا و(إسرائيل) بذلك، وهم الأعداء الألداء للإسلام ودولته! وسيقولون لكم: إنما تسعون إلى سراب، وأنتم مغرورون قد غركم دينكم، فإذا قالوا ذلك فتذكروا قول الله عز وجل: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 49]. قولوا لهم: إن الخلافة الإسلامية ستعود، مهما كانت الصعوبات والتحديات، قولوا لهم: إن قيام الدولة الإسلامية أمر لا شك فيه، ولو بعد حين، وإن نصر الله آت لا محالة، وقولوا لهم: بل إن الله سيفتح على المسلمين روما كما وعد رسول الله ، في صحيح الحديث، وكما فتحت القسطنطينية من قبل. قولوا لهم: إننا نأمل من نصر الله بما هو أبعد من ذلك، إنما نرجو من الله أن يفتح الكرملين والبيت الأبيض، ومعنا وعد الله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]. أما متى يكون ذلك؟ فهذه ليست مهمتنا، ولم يكلفنا الله بها، وإنما كلفنا بالعمل للدين، والذود عن الشريعة، واستفراغ الوسع في ذلك، وبذل أقصى الجهد، أما النتائج فهي إلى الله عز وجل. فعليك بذر الحب لا قطف الجنى، والله للساعين خير معين. قولوا لهؤلاء كما قال يعقوب، عليه السلام، لبنيه، بعد أن فقد ولديه معاً: ﴿إِنِّي لأََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف: 94]. قولوا لهم: رغم كل هذه الابتلاءات والشدائد، فإننا نجد ريح الفرح والنصر والتمكين، وعودة الخـلافة الإسلامية، لولا أن تفندون.
لقد قال المنافقون للصحابة بعد غزوة أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم. وهذه الكلمات سيقولها المنافقون لأهل الإيمان، في كل زمان ومكان، إذا أصابت للعاملين للإسلام مصيبة، أو وقع لهم مكروه، أو تعرضوا للسجن والتعذيب، أو القتل والجراح، سيقولون عندها: دعوكم مما أنتم عليه وارجعوا عنه، فإن هذا الدين هو الذي سبب لكم كل هذه المصائب، وهو الذي أضاع مستقبلكم وألقاكم في غياهب السجون، وشردكم في البلاد، فاتركوا هذا الذي سبب لكم كل هذه المصائب تسلموا وتغنموا، فإذا قالوا ذلك قولوا لهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[إبراهيم: 12]، وقولوا لهم: ﴿قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 89].
وسيقول لكم المنافقون والذين في قلوبهم مرض، مثلما قالوا عن أصحاب الرجيع، الذين غَدَرَ بهم المشركون وقتلوهم جميعاً، لقد قال المنافقون يومها: ياويح هؤلاء المفتونين، الذين هلكوا هكذا! لا هم أقاموا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم -يقصدون رسول الله -. وهذه الكلمات ستقال لكم هذه الأيام كلما قتل بعض الإخوة، أو سجنوا، أو شردت أسرهم، عندها سيقول الذين في قلوبهم مرض: لا هم قعدوا وسلموا، ولا هم استطاعوا أن يزيلوا المنكرات والموبقات، وسيقولون: لا هم قعدوا واهتموا بمستقبلهم ومصالحهم، ولا هم أقاموا دولة الإسلام. فإذا سمعتم ذلك فتذكروا أن القرآن قد قال عن قائل هذه العبارة: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ [البقرة: 204]، وهذا الوصف لا ينطبق عليه بعينه فحسب، بل ينسحب منه إلى كل أتباعه، وأشباهه، ومن يقول بقوله في كل زمان ومكان، وإذا سمعتم ذلك، فقولوا لهم: إن هدفنا إقامة الدين، أما إقامة الدولة فهي طريقة إقامة الدين.
وقولوا لهم قول الصديقة العظيمة "خديجة ابنة خويلد" لرسول الله : «أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً»، ونحن نقول لكل من يعمل للإسلام، مخلصاً للّه في عمله: ما دمتم على الحق فأبشروا، فوالله لا يخزيكم الله أبداً. إنكم لتصلون أرحامكم وتذودون عن الشريعة، وتدافعون عن الفضيلة، وتحاربون الرذيلة، وتدعون إلى الله على بصيرة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتقومون الليل وتصومون النهار، و، وإذا سمعتم ذلك فتذكروا قول أجداد هؤلاء المنافقين ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 168 - 169] وقولوا لهم: إن "ورقة بن نوفل" ذلك الشيخ الكبير كان يمر على "بلال بن رباح" وهم يعذبونه، وهو يردد مراراً وتكراراً - في ثبات أعظم من الجبال-: «أحدٌ أحد» فيقول لهم "ورقة": «أحدٌ أحدٌ والله يا بلال، أحلف بالله فإن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً». فتأملوا هذا الفهم العميق للإسلام من ذلك الشيخ الذي لم يدرك من القرآن الكريم وأحاديث الرسول ، قبل أن يموت، إلا الشيء اليسير! ولكنه نقاء القلوب وإخلاصها وتجردها عن الهوى وخلوها من النفاق.
ننتظر منكم نصر الإسلام، إننا ننتظر الآن ممن يعملون للإسلام -وخاصة الشباب منهم- يوماً ينصرون فيه الإسلام وأهله، إننا ننتظر منهم يوماً كيوم "أبي بكر" في الردة، و"خالد بن الوليد" في اليرموك، و"سعد" في القادسية، و"صلاح الدين" في حطين، و"قطز" في عين جالوت، و"محمد الفاتح" في القسطنطينية، و"سليمان الحلبي" مع كليبر، إننا نريد أن تقر أعيننا -ولو للحظات قبل أن نموت- برؤية الخلافة الإسلامية، ونرى أعلامها ترفرف على المشارق والمغارب، ونرى ظلالها الوارفة تملأ الدنيا عدلاً وحقاً ونوراً وهدىً، نريد ذلك اليوم الذي كان ينظر فيه خليفة المسلمين إلى السحابة ويخاطبها بقوله: أيتها السحابة، شرّقي أو غرّبي فسوف يأتيني خراجك، ولقد صدق في مقولته وقد امتد ملك الإسلام شرقاً وغرباً حتى بلغ أقصى المشارق والمغارب وقتها، ووصل سلطان الخلافة إلى كل هذه الأصقاع، فملأها بالخير والهدى والنور.
إننا لفي شوق عظيم لذلك اليوم الذي يفتح الله فيه على المسلمين رومية «روما»، معقل النصرانية في العالم، والتي بشر رسول الله بفتحها، بعد فتح القسطنينية، وقد فتح الله القسطنطينية، (أستانبول) على يد الأمير والسلطان العظيم "محمد الفاتح" الذي مُدِح في الحديث المعروف: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»، وقد كان السلطان الفاتح يتجهز لفتح رومية بعد فتح القسطنطينية، مما جعل أوروبا كلها تعيش في قلق ورعب وفزع دائم، ولم يهدأ لها بال إلا بعد أن وافته المنية قبل أن يتم مشروعه العظيم، وأبلغ دليل على هذا الرعب والهلع، أن كنائس أوروبا عامة وروما خاصة ظلت تدق أجراسها ثلاثة أيام متصلة، فرحاً بموت ذلك السلطان المسلم العظيم، إننا ننتظر مثل هذه الأيام على أحر من الجمر، إن انتصار الإسلام هو أغلى ما يتمنى المرء أن تقر به عينه في الدنيا، إننا نستشعر الآن أن حسنة الدنيا التي ذكرت في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾[البقرة 201] ليست هي الزوجة الصالحة، إنما هي نصرة الإسلام والدين -كما قال بعض العلماء- وأكرم بها من حسنة. إن هذه الحسنة تزيل كل هم، وتذهب كل غم وحزن، ولو فقد الواحد في سبيلها أهله وولده وماله وجاهه، إننا في شوق عظيم ليوم ينصر الله فيه دينه، فيعز أولياءه وحزبه، أكثر من شوقنا لزوجاتنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا. إننا في شوق عظيم لكي تقر أعيننا ليوم مثل ذلك اليوم الذي اقتحم فيه "عقبة بن نافع" المحيط الأطلسي بقوائم فرسه قائلاً: والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لغزوتها في سبيل الله، وقال وهو ينظر نحو السماء: يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، إننا ننتظر منكم يوماً من هذه الأيام، فهل تلبون هذا الرجاء؟ وتستجيبون لهذا النداء؟


وآلمني وآلم كل حرٍّ

سؤال الدَّهر: أين المسلمونا؟
ترى هل يرجع الماضي؟ فإني --- أتوق لذلك الماضي حنينا

أبو إبراهيم - غزة

انتهى

المصدر: مجلة الوعي

الصبر... الزاد في خضم المرحلة (1)



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد...
الله سبحانه الحكيم، يضع الشيء في موضعه، فلا يعطي منحة الاجتباء، والحفظ، والنصر، إلا لمن يستحقها. أما من ليسوا أهلاً لها، فليس لهم إلا الخذلان.
نعوذ بالله من الهوان على الله. لكن النفس تعاند، والشيطان يوسوس، والدنيا تزخرف، والهوى كثيراً ما يغلب. وهذه كلها قد أقبلت تريد أن تحول بين العبد، وبين ما فيه نجاته، وفلاحه، وفوزه في الدنيا والآخرة. وهذه الأربعة هي حقاً أعدى أعدائنا، فمتى قهرنا: النفس، والشيطان، والدنيا، والهوى، كنا على قهر أعدائنا من الإنس أقدر، وإن قهرتنا هذه الأربعة، فقد استوينا وأعداءنا في المعصية، وبقي لهم فضل قوتهم، فانهزمنا. وكلماتنا التي نسطرها إنما هي نصائح تعين على التغلب على النفس، والشيطان، والدنيا، والهوى. فانظر فيها أخي الداعية، فما أردناها إلا دلالة على الخير، سداً لثغرة قد رأيناها، أو تصحيحاً لخللٍ، أو دلالة على معروف. ودورنا أن نقول وننصح، لكن الثغرة لن تسد، والخلل لن ينصلح، والمعروف لن يتحقق، إلا بالعمل، وهذا دورك أخي الكريم، ودورنا جميعاً. فالكلمات لا تراد لذاتها، وإنما لفهمها، والعمل بها ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 105].

سيزول الألم ويبقى الأجر إن شاء الله

اعلم أخي -رحمك الله- أنه ستواجهك مصاعب جمة، ومتاعب كثيرة، وابتلاءات عديدة، وأنت تسير في طريق الحق، وتنشغل بالعمل للإسلام.
فإذا ما ثبتّ على الحق، وصبرت على الابتلاء، فإن الألم سيزول، والتعب سيذهب، ويبقى لك الأجر والثواب إن شاء الله. ألا ترى أن الصائم الذي يصوم في حر القيظ، يذهب ألم جوعه وعطشه، مع أول رشفة ماء يرتشفها، وهو يردد قول النبي الكريم : «ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله..». فمع دخول أول قدم لك في الجنة سيزول عنك كل تعب لاقيته، وكل هم أصابك، وكل جرح جُرِحْتَه، أو كلم كُلِمْتَه في سبيل الله، ويقال لك: هل رأيت بؤساً قط؟ فتقول -بعد أن تغمس في الجنة غمسة-: لا والله يا رب! ما رأيت بؤساً قط.
سئل الإمام أحمد: متى يجد المؤمن طعم الراحة، قال: عندما يضع أول قدم له في الجنة.
لقد تبدد تعبك وألمك، بل تحول إلى فرحة وسعادة وهناءة، فقد ثبت لك الأجر والثواب، وزادك الله من فضله، وأكرمك كرماً يليق بوجهه سبحانه، فحينئذ تتمنى أن لو كنت بذلت أكثر، وتعبت أكثر وأكثر في سبيل دينك، وسهرت أكثر وأكثر من أجل ربك، وسافرت وتركت من الدنيا أكثر، وضحيت في سبيل الله أكثر وأكثر مما ضحيت، بل تتمنى -كما يتمنى الشهيد- أن لو عدت إلى الدنيا لتقتل في سبيل الله، ثم تحيا ثم تقتل، ثم تحيا ثم تقتل، لما رأيت من فضل الله، وإكرام الله للشهداء.

كيف تثبت في الابتلاء

سيقول لي البعض: إنني حديث العهد بالالتزام بالإسلام، وأخاف أن لا أثْبُتَ أمام الابتلاءات الكثيرة، أو أن لا أصبر عليها، فأقول لمثل هذا الأخ قول النبي : «ومن يتصبر يصبره الله»، وقوله : «ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ، ومن يتق الشر يوقَه» فمن تعاطى أسباب الصبر رزقه الله الصبر، ومن تعاطى أسباب الوهن، والجزع، والخذلان، أصيب بما تعاطى أسبابه، ﴿وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[آل عمران: 117].
فعليك أخي المسلم بالمصابرة، فصابر نفسك فترة من الزمان، ستجد أنها أصبحت بعد ذلك من النفوس الصابرة، بل الراضية إن شاء الله... أما إذا اشتدت عليك المتاعب، وازداد عليك البلاء، وكثرت عليك المصائب، وحدثتك نفسك الأمارة بالسوء أن تركن إلى الدنيا -ولو لفترة- أو وجدت نفسك الأمارة بالسوء تمردت عليك، فعليك أن تسوس هذه النفس حتى تسلم قيادها لك، ويسلس أمرها معك، وتستجيب لأمر الله وهي راضية بعد أن كانت كارهة. إذا أردت ذلك فقل لها: يا نفس قد قطعت جزءاً كبيراً من مشوارك وسيرك إلى الله، فلم يبق إلا اليسير، فاصبري عليه يا نفس، لا تضيعي سابق عملك الصالح، وسهر الليالي والأيام، وتعب السنوات في سبيل الله، في لحظة طيش. إنها لصبر ساعة، فلتصبريها، فمقام البلاء كمقام الضيف، فيا سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدحه وثنائه في المحافل على المضيف الكريم، ويا أقدام الصبر اعملي، فما بقي إلا القليل. وعليه أن يفعل مع نفسه كما فعل "بشر الحافي" مع أحد تلامذته الذين سافروا معه، فعطش الرجل في الطريق، فقال له نشرب من هذا البئر، قال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها قال: البئر الأخرى، فما زال يعلل، كلما جاء إلى بئر قال له: البئر الأخرى، ثم التفت إليه فقال له: هكذا تنقطع الدنيا.
وقد أعجبتني كلمة عظيمة للإمام أحمد، رحمه الله، فقد كان يردد: إنما هو طعام دون طعام، وشراب دون شراب، وإنها لأيام قليلة. وهذه الكلمات تحتاج إلى كثير من التدبر والتفكر، ثم يقف مع نفسه وقفة أخرى ليقول لها: أما ترين أهل الدنيا يصابون بمصائب وبلايا أكثر من مصابك بمرات، ثم هم لا يؤجرون على ذلك، ولا يرزقهم الله الصبر عليها، وهم عادة في هم، وغم، وضيق، واكتئاب، بل وجنون، من تلك المصائب؟ أما سمعت مرة بسيارة غرقت بأسرة كاملة، ماتوا جميعاً؟! فأين مصيبتك من مصيبة هؤلاء؟! إن أكثر ما تصابين به، أن يقتلك الأعداء وهذا شرف لك وليست مصيبة، بل هي حياة، وما أغلاها من حياة، ثم يقول لنفسه: ماذا يمكن أن يصيبك من عدوك؟! أن يسجنك شهراً، أو شهرين، أو عاماً، أو عدة أعوام، أو حتى العمر كله، فيكفيك شرفاً أنك قضيت عمرك في سبيل الله، ويكفيك شرفاً أن تكوني على درب يوسف، عليه السلام، وقد ارتمى في السجن بضع سنين! ولتقل لنفسك الأمارة بالسوء: يانفس، ألا ترين تلك الآلاف من الناس الذين يملأون السجون من أجل معصية الله؟! فكفاك شرفاً أنك ابتليت من أجل طاعتك لله عز وجل، فترين هذا وقد حكم عليه بالإعدام من أجل لحظة شهوة تافهة حقيرة، وهو يغتصب فتاة، وهذا من أجل أنس بالشيطان والمخدرات حكم عليه بالسجن المؤبد، وغيرهم كثير وكثير.
ولعل ذلك يكون سبباً في وصولك إلى درجات العابدين، فكم من أخ لم يعرف القيام حق معرفته إلا في الشدة. وكم من أخ لم يفقه القرآن، ويفهم مراميه، ويدرك حكمه الباهرة حق الإدراك، إلا في الشدة. وذلك فضلاً عن حفظه ودراسة تفسيره، وكل ذلك مضافاً إليه نيل درجات في علوم لا يتعلمها المرء من الكتب والصحف، وإدراك معان ما كان ليدركها، أو يتذوق حلاوتها، مهما قرأ عنها، أو درسها، أو حفظها، وذلك مثل معاني التوكل، والإنابة، والخشية، والتوبة، واليقين، والرضى.
ورحم الله شيخ الإسلام "ابن تيمية" الذي كان يقول: أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى رحت فهي معي لا تفارقني. إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة

من ترفَّهَ وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة

ولتتذكر أخي قول "ابن الجوزي": «قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمَل في الطين أن يلبس نظيف الثياب، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ تنظف، ولبس أجود ثيابه، فمن ترفّه وقت العمل، ندم وقت تفريق الأجرة، وعوقب على التواني فيما كلف.
فالدنيا كلها متاع زائل، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، وعليه أن يردد بقلبه ولسانه قول سحرة فرعون -الذين غمر الإيمان قلوبهم- لفرعون العصر، وفرعون كل عصر: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: 72].
وعليه أن يذكر نفسه أن هؤلاء الطواغيت، وإن ملأوا الدنيا ضجيجاً، وصياحاً، وتهديداً، ووعيداً للمؤمنين، فإن ذل المعصية، ونكدها، وغمها، لا يفارقهم أبداً، كما قال "الحسن البصري" فإنهم «وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية في وجوههم. أبى الله إلا أن يذل من عصاه».
وكل هذه المعاني لا يستشعرها ولا يعرفها حق المعرفة إلا أهل الإيمان، والصلاح، والمعرفة الحقة بربهم ومولاهم الحق، فهؤلاء يعلمون أن زمانهم وزمان الطواغيت ينقضي عن قريب، والمراحل تطوى، وللركبان في السعي الحثيث شرف الامتثال لمدرسة الابتلاء.
أخي الداعية، يا من شرفك الله بحمل دعوته:
يكفيك شرفاً إذا صبرت عند الشدائد والأهوال، وثبتَّ على الحق بعد الابتلاء تلو الابتلاء، (ونسأل الله العافية) أن تكون ضمن خريجي مدرسة الابتلاء العظيمة التي يتربى فيها الرجال تربية خاصة، ويصقلون فيها صقلا خاصاً، ويتخرجون منها وهم كالذهب الخالص لا تشوبه شائبة، قد صفت نفوسهم، وراقت قلوبهم، وحطت ذنوبهم، وقبلت توبتهم، وخشعوا، وخضعوا، واستسلموا لربهم، وتوكلوا عليه حق التوكل، ونفضوا أيديهم من سواه. فمن تخرج من مدرسة الابتلاء بنجاح أصبح إماماً من أئمة الدين، وقائداً من قادة الرشاد ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السجدة: 24]. فمن مدرسة الابتلاء تخرج "عمار بن ياسر" و"بلال بن رباح" و"صهيب" و"سلمان" و"خباب ابن الأرت" و"خبيب بن عدي" وغيرهم من الصحابة. ومن تلك المدرسة تخرج: "سعيد بن جبير" و"مالك ابن أنس" و"أبو حنيفة" كما تخرج منها أعظم تلامذتها في زمنه -والذي أضحى بعد ذلك من كبار أساتذتها- وهو الإمام "أحمد بن حنبل"، كما تخرج منها: "ابن تيمية" و"ابن القيم" و"السرخسي" وتكون من خريجي تلك المدرسة العظيمة، التي رائدها ومعلمها الأول: الرسول الكريم الذي كان يقول: «أوذيت في الله وما يؤذى أحد».
أترى لولا أن مشركي قريش استولوا على أموال "صهيب الرومي" أكان يحظى بدرجة: «أبا يحيى، ربح البيع». أترى لولا العذاب الذي ذاقه "آل ياسر" على يدي مشركي قريش أكانوا ينالون شرف: «صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة». ولولا تقطيع "أنس بن النضر" إرباً في غزوة أحد، أكان ينال شرف: «لو أقسم على الله لأبره». ولولا ذلك لما انبسط وجهه، وتحقق له ما أراد يوم حلف: واللهِ لا تكسر ثنية الرُبَيِّع. ولولا العذاب الذي ذاقه "بلال بن رباح" على يدي أمية ابن خلف وزبانيته، ما نال درجة: «بلال سيدنا». ولولا صبر "يوسف عليه السلام" في السجن، ما نال درجة: ﴿أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ [يوسف: 46]. ولولا صبر "أصحاب الرجيع" على ما لاقوه في سبيل الله، ما كانوا من أهل﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 207]. ولولا صبر "معاذ بن جبل"، وبذله في سبيل الله، وإراقة دمه يوم الخندق، وحكمه العادل في بني قريظة، ما نال درجة: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد». ولولا بذل وعطاء وصبر "عبد الله بن حرام" في أحد، وقبل أحد، ما نال درجة قول الله: «ياعبدي! تمنَّ علي أعطك الحق». ولولا صبر وثبات "سيد قطب" في محنته وعند قتله، ما أصبح لكلماته أثر يذكر.
هناك ذنوب كبيرة لا تكفرها إلا الحسنات الكبيرة، أو الإبتلاءات الشديدة، فيقدر الله عز وجل على أوليائه الإبتلاء، ليكفر عنهم ذنوبهم صغيرها وكبيرها، دقها وجلها، أولها وآخرها، حتى لا تبقى لهم خطيئة، فيقبلون على ربهم وقد حطت عنهم خطاياهم. وأكرم بذلك من فضل, وأنعم بها من درجة عالية، ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «وما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة». وهذا "خبيب بن عدي" يقول عند قتله:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وهذا الصحابي "عبد الله بن جحش" يتنحى جانباً مع "سعد بن أبي وقاص" قبل غزوة أحد، ويتفقان على أن يدعو كل واحد منهما ويؤمن الآخر، فكان دعاء عبد الله بن جحش: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده، شديداً بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فيقول: صدقت. ما أعظم هذا الدعاء وما أروعه! إنها نفوس باعت كل شيء لربها، وتحول المرّ عندها حلواً. إنه لا يصدر إلا من رجل استعذب الطريق، وذاق حلاوته، فلا شيء يهمه سوى مرضاة ربه، ولا يهمه سوى أن يلقى الله وهو طائع له، مقتول في سبيله. إن هؤلاء وأمثالهم جديرون حقاً بتمكين الله لهم، ونصر الله لهم، واصطفائه لهم سبحانه.
وقد تحقق لعبد الله بن جحش ما أراد، فمات شهيداً في أحد، وجدع المشركون أنفه، ولعل البعض لا يعرف أن الصحابي الجليل عبد الله بن جحش، من أعظم بيوتات قريش، وهو ابن عمة الرسول ، إنهم قوم أحسوا أن سعادتهم لا تكون إلا في سيرهم في هذا الطريق، ولو مزقوا إرباً، ولو حاربوا الأبيض والأسود، ولو رماهم الناس جميعاً عن قوس واحدة، وإن فارقوا أوطانهم وأهليهم. وتشعر وكأنهم يرددون قول القائل: نحن في نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، لا يهمهم من أمر الدنيا شيء، ولا يشغلهم إلا هم العمل للإسلام، وتمكينه في الأرض، فتهتف قلوبهم: في سبيل الله ما أحلى المنون. وهؤلاء الذين ذكرناهم، استعذبوا الطريق، ووجدوا له حلاوة أذهبت ألم الطريق، ووعورته، وصعوبته، وعذابه، بل حولت العذاب عذباً، والمر حلواً، والصعب سهلاً، والغالي رخيصاً، فرضاهم في رضا مولاهم الحق، ومحبتهم للشيء هي من محبته سبحانه له .

... يتبع

أبو إبراهيم - غزة

المصدر : مجلة الوعي