الأربعاء، 23 يونيو 2010

بئس الاهتمام هذا !!!



الجمعة, 18 حزيران 2010 09:17

الكاتب: عاهد ناصرالدين

مئات الملايين يحدقون أبصارهم وينظرون إلى كرة تتقاذفها الأقدام هنا وهناك فيتبعها شباب في طول الملعب وعرضه .

لا أريد في هذا المقال بيان الحكم الفقهي في هذه الألعاب - وإن كان يلزم – بل أتساءل والقارئ الكريم

وماذا بعد ؟ ماذا بعد انتهاء المباراة ؟ ماذا بعد انتهاء الموسم وكأس العالم ؟

هل هو نصر حقيقي مظفر أم هو تمتع آني لحظي يزول بزوال المباراة أو الموسم ؟

إن القلب يذوبُ كَمدا والعينُ تبكي حُزناً وهي ترى الكثيرَ الكثير لاهين مثل هذا اللهو المنظم والمقصود من قِبل أعدائنا.

وهل يصح لأمة وهي تعاني من أعداء الله ؛ ففلسطين, وكشمير, وقبرص, وتيمور الشرقية ما زالت محتلة ،والعراق وأفغانستان مقطعة الأوصال ،وجنوب السودان (دارفور) , ينحدر وضعه من سيئ إلى أسوأ ؟.

وهل يصح من أمة أصيبت بالذل وحل بها الضعف والهوان ؟

هل يُقبل من أمة سقطت خلافتها وغاضت أحكام الإسلام من الأرض أن تهتم بالمباريات التي يرافقها السب والشتم والإقتتال والتعصب الأعمى ؟

أيصح لأمة انبعث الصراخ من جسدها في كل الآفاق ،من الثكالى ، من الأرامل، من الأوجاع ، من الآلام ،من المُغتصبات

أيصح أن تهتف لتشجيع الفريق الفلاني أو العلاني بدل الإستجابة لصرخات الإستغاثة ؟

أيهما أغلى كرات تتناثر هنا وهناك أم أشلاء الشهداء التي تناثرت وتتناثر في فلسطين والعراق والباكستان ؟،

هل يصح لأمة سالت دماء أبنائها الزكية من الشباب والشيوخ والرضع كالشلالات وذُبحت من الوريد إلى الوريد أن تلتفَّ حول كأس العالم ؟

أيهما أصح أن تلتهي أمة الإسلام بكأس العالم أم تتجه لإخراج أسراها وأسيراتها من السجون والمعتقلات ، وقد كثُرت رسائل ذويهم التي تقطع نياط القلب .

ثم نتساءل ألا نرى أقدام الساسة الغربيين ،وممن أساءوا للعقيدة الإسلامية ؛ يصولون ويجولون في بلاد المسلمين ، ولا يغادر هذه البلاد زائر إلا ويأتي غيره بفكرة شيطانية خبيثة هي أسّ الداء ومكمن البلاء .

فهل يكون الإهتمام بأقدام اللاعبين أم بأقدام الساسة الغربيين الذين يعيثون في الأرض فسادا وينشرون الأفكار المناقضة للإسلام ؛ فتعمل الأمة على إبعادهم عن عقول أبنائها ونفطها ومقدراتها .

لهوٌ بكأس العالم وكأن قضايا الأمة قد حُلت .

فهل تم حل قضية فلسطين وأفغانستان والعراق والباكستان والسودان؟

كل ذلك يجري ، والأمة ليس لها كيان سياسي ولا إرادة سياسية ولا قرار سياسي نابع من كتاب الله وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم - .

كل ذلك يجري وبلاد المسلمين مستعمَرة ومجزأة إلى عدة دويلات حتى وصلت إلى نحو خمس وخمسين دويلةً .

بل إننا نرى التعصب بعينه من خلال إجراء المباريات وكأس العالم ،ونرى ما يُجسد مفهوم الإنفصال ويبعد مفهوم الوحدة التي أمرنا الله بها ؛ فهذا يشجع الفريق كذا التابع لدولة كذا من الدول العربية كذا ،وذاك يشجع فريقا آخر مع التعصب والإستعداد لسفك الدماء إن خسر هذا الفريق أو ذاك حتى لو كان الفريق أجنبيا .

لقد عاث الكفر في أرض المسلمين الفساد ، وسام المسلمين سوء العذاب ،وبالغ في إظهار عداوته لله ولرسوله وللمؤمنين .

لأن المسلمين قعدوا عن نصرة دينهم والقضاء على أعدائهم ، فأمعن الكفار فيهم ، إذ لم يروا أن المؤمنين لبعضهم كالجسد الواحد، وليس لهم قائد له الإرادة السياسية يملك بها اتخاذ القرار المناسب؛ فأتبعوا فلسطين بالشيشان وبأفغانستان ، وبالبوسنة وبكسوفا وبالسودان وبالجزائر ومن ثم بالعراق ولبنان .

دنسوا كتاب الله سبحانه على مرآى ومسمع الأمة عيانا ، وأهانوا شخص رسول الله في أكثر من موضع ، وهانت الأمة في عيون أعدائها من أراذل الخلق حتى أصبح حديث رسول الله منطبقا بحرفيته : {يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة الى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : وما الوهن يا رسول الله : قال حب الدنيا وكراهية الموت} .

وفي الختام :-

الرياضة إما أن تكون ضمن أمر الله بالإعداد لإرهاب أعداء الله

وإما ضمن الألهيات الخبيثة المُنظمَة التي زُرعت وتُزرع في عقول بل أعماق أبناء الأمة المجاهدة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والمسؤولة عن إخراج البشرية من الظلمات إلى النور.

{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ }{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ }{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }الأنبياء [1-3]

مشكلة البيئة من إفرازات الرأسمالية الجشعة أسبابها وكيفية معالجتها في نظر الإسلام



بسم الله الرحمن الرحيم

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41].

الواقع والمشكلة

إن البيئة أو البيئة الطبيعية بمفهومها الواسع مصطلح يشمل جميع الكائنات الحية والأشياء غير الحية التي توجد أو تحدث بشكل طبيعي على الأرض أو على جزء منها. ولقد شهدنا ولمدة طويلة كوارث بيئية متتالية، فالدول والشركات الغربية أتلفت مباشرة أو بطريق غير مباشر الغابات والأنهار وقضت على الكثير من الحيوانات حتى أصبح بعضها مهدداً بالانقراض، الأمر الذي دعا منظمات حماية الحيوان إلى جمع التواقيع المستنكرة لهذه الأعمال. وفي هذه الأيام يتم إرسال ملايين من أطنان النفايات من الدول الغربية الصناعية إلى ما يسمى دول العالم الثالث وقد أصبحت هذه الأعمال تجارة ضخمة رابحة. وكان من نتيجة ذلك تلوث الأراضي والأنهار في تلك البلدان لأن جزءاً كبيراً من هذه النفايات هو نفايات سامة من مثل البطاريات، والرصاص الثقيل وهي ذات تأثير مباشر على الجهاز العصبي للإنسان. وقد أدى ذلك إلى وفاة كثير من العمال وإلحاق الضرر بآلاف آخرين.

لكن نقاش موضوع البيئة والمناخ الذي دار بين الإعلاميين والسياسيين الغربيين أدى إلى إيجاد سوء فهم هيأ لإهمال قضايا حقيقية متعلقة بالبيئة بأكملها، فالبعد الواسع الذي أخذه النقاش حول المناخ قد صرف الأنظار عن التركيز على بقية المشاكل البيئية التي يواجهها العالم الآن! ولذلك فإن النقاش لا ينبغي أن يقتصر على التغيير المناخي والحد من انبعاث أوكسيد الكربون، بل يجب أن يركز على السلوك المتهور، الذي تقوم به الدول والشركات الغربية إلى جانب النقاش حول البيئة، بما في ذلك تغير المناخ، وكيفية تأثيره على البشر. فالحد من انبعاث أوكسيد الكربون وحده، في الوقت الذي يلوث فيه العالم بكل وسيلة، لن يزيل الكوارث البيئية التي كان للعالم الثالث النصيب الأكبر منها. ولذا فإن المجادلات والمناظرات العلمية الجارية حول تأثير سلوك الإنسان البيسط في تسغيير المناخ هي في واقع الأمر نقاشات مضللة. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأمور العلمية التجريبية، غير أنه ينبغي لفت النظر إلى أن الجامعات والمؤسسات العلمية في الغرب تعتمد في تمويل كثير من أبحاثها على المساهمات المقدمة من الشركات، الأمر الذي يجعل طبيعة هذه الأبحاث والنتائج التي تصل إليها محل شك ونظر، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمصالح الشركات الكبرى.

إن ما يجب أن يناقش هو: كيف يمكن تجنب المخاطر البيئية كلها؟ وما هو سبب الكوارث البيئية التي شهدها العالم؟ ومن الذي يتحمل المسؤولية عن ذلك؟ وهل السعي لتحقيق التقدم الاقتصادي لابد أن يكون على حساب البيئة؟
الحل الرأسمالي للقضية
من اتفاقية كيوتر إلى مؤتمر كوبنهاغن 15 (Cap and trade system Kyoto to COP15).

الجزء الأول
جعل القضية قضية عرض وطلب.
إن نظام الحصص المتعلق بثاني اوكسيد الكربون (كاب أند تريد سيستم Cap and trade system) هو جزء لا يتجزأ من بروتوكول كيوتو واتفاقية الاتحاد الأوروبي (EU-ETS)، وسيكون أيضاً جزءاً من الاتفاقية الجديدة التي سيخلص إليها مؤتمر القمة في كوبنهاغن (COP15). إذا ما توصل المجتمعون إلى اتفاق.

وحسب هذا النظام فإن الدول المشتركة هي التي تخبر عن كمية ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من صناعاتها، وتلتزم هذه الدول بتخفيض الكمية المخبر عنها بنسبة لم يتفق عليها حتى الآن هل هي عشرون بالمئة أو أكثر. وطريقة ذلك أن الشركات الموجودة في هذه الدول تكون لها نسبة محددة من الكمية المعطاة للدولة وعلى هذه الشركات تحفيض نسبة الانبعاثات على مر الزمن وبذلك تنخفض الانباثات إلى الحد الذي ألزمت به الدولة نفسها. ويحق للشركات التابعة للدول الموقعة أن تستخدم كل الكمية المخصصة لها من الانبعاثات أو تكتفي بكمية أقل من ذلك، ولهذه الشركات الحق في بيع ما يفيض عن الكمية المحددة لها في السوق العالمية لشركات أخرى تود أن تزيد من كمية ثاني أوكسيد الكربون المنبعث نتيجة لزيادة صناعتها. وبذلك أصبح ثاني أوكسيد الكربون سلعة تحدد أسعارها حسب قاعدة العرض والطلب. يقول نيكولاس ستيرن (كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي) معلقاً على (Cap and trade system) "إنه أعظم فشل للسوق شهده العالم". ففي هذه الاتفاقيات المتعلقة بالمناخ قد تُرِك لنظام السوق أن يقرر حل مشكلة المناخ كما برز جلياً من خلال كيوتو وEU-ETS حيث يوجد حق الملكية للتلويث.

لقد كفل نظام الحصص المخصصة لثاني أوكسيد الكربون حق الملكية في التلويث وجعلها تتركز بأيدي الشركات الغربية الأكثر قوة والأكبر ثروة. وبهذا فقد نظم النظام الرأسمالي حقوق التلويث بنفس الطريقة التي نظم بها حقوق استخراج النفط، وحقوق التعدين وغيرها من ثروات الأرض مما أدى إلى تراكمها في أيدي أولئك الذين لديهم السلطة والثروة، وبناء على هذا التنظيم يؤدي نظام حق التلويث إلى الاحتكار، وهو لا يخدم إلا الشركات الغربية الكبرى صاحبة اليد الطولى في الإضرار بالبيئة.

وبالنتيجة فإن الحلول الغربية والاتفاقيات المطروحة لحل مشكلة المناخ ما هي إلا ضمان بأن لا يكون المناخ واليبئة عائقين أمام الشركات الغربية في زيادة التلويث إذا ما كان ذلك ضرورياً للنمو الاقتصادي وتحقيق الربح، وهذه الحلول المستندة إلى سياسة السوق تجعل البيئة فريسة لجشع أولئك الذين سببوا هذه الأزمات البيئية.
الرأسمالية هي التي تسبب أزمات بيئية. إن مشكلة البيئة ليست الفشل الوحيد للنظام الرأسمالي الذي يسبب أزمة تليها أخرى، وليس آخرها ما شهدناه في الأعوام القليلة الماضية من أزمات غذائية، ومالية واقتصادية عالمية جعلت مئات الملايين من البشر في فقر مدقع في حين أتاحت لقلة قليلة من الناس أن تملك ما لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله.

ويكمن السبب في عجز الرأسمالية عن تقديم الحلول الصحيحة للمشاكل التي يواجهها البشر في عقيدتها القائمة على فكرة الحل الوسط التي تجعل عقل الإنسان العاجز مشرعاً. ففكرة فصل الدين عن الحياة تركت الناس تحت سيطرة المشرعين الرأسماليين الذين يرون أن الغاية من الحياة هي الحصول على أكبر قدر ممكن من المتع المادية وأن المقياس لأي عمل هو المنفعة دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار. كما يكمن في نظرتها إلى المشكلة الاقتصادية بأنها قلة الموارد مقابل الاستهلاك المتجدد والتعدد (الندرة النسبية) مما جعلها تصرف الهم كله إلى الإنتاج على حساب التوزيع وعلى حساب سد الحاجات الأساسية لأفراد الناس من مسكن ومأكل وملبس، فصرنا نرى مثلاً في معقل النظام الرأسمالي، الولايات المتحدة، زيادة في حجم الإنتاج عام 2003م بينما ارتفع عدد الفقراء هناك بزيادة 1.3 مليون شخص عما كان عليه من قبل.

ثم إنه لا أخلاق في الأعمال الاقتصادية في النظام الرأسمالي، فهو اقتصاد يبحث فقط عن القيم المادية، ويرى في تعاظم ثروة الفرد مفتاح النجاح بغض النظر عن العواقب التي تترتب على ذلك فيما يتعلق بالمجتمع والطبيعة، وهذا ما عبر عنه أبو النظام الرأسمالي آدم سميث حين قال بأن الجشع هو الأخلاق للفرد وهذا الجشع هو الذي يسير الاقتصاد.

إن النتائج المترتبة على مثل هذه الفلسفة مدمرة للبشرية والبيئة وقد شهدنا تدمير الأنهار والغابات والأراضي الزراعية وتلويثها بسبب تصرفات الشركات الغربية في جميع أنحاء العالم.

فقد قامت هذه الشركات بإزالة الغابات الكبرى في العالم، سواء كان ذلك في إندونيسيا أم أميركا الجنوبية، لتصبح هذه الغابات -التي تسهم مباشرة في خفض كمية ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي- قريباً أثراً بعد عين، والمضحك أن هذه الشركات هي نفسها التي تتحدث عن حماية البيئة والمناخ.

وشاهد الناس في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا وحتى أوروبا الأرض التي اعتادوا العيش عليها قد تم تلويثها، حتى إن أطفالهم أصبحوا يولدون مشوهين خَلقياً، وصار الناس بفعل النفايات السامة التي تُرمى في البحار والأنهار والبحيرات يصابون بأمراض غريبة. وفي الوقت الذي يُتحدث فيه عن الحد من ثاني أوكسيد الكربون لإنقاذ المناخ، ترسل النفايات السامة إلى بلدان العالم الثالث حيث تلوث هذه النفايات الأرض وتقتل الناس وتتلف الأراضي الزراعية وتقضي على الأسماك. فنهر النيل مثلاً قد تلوث إلى درجة أن الناس الذين يشربون منه يعانون من مشاكل صحية كبيرة، فقد صرح طارق سمير أحد العاملين في مصلحة إدارة المياه التابعة للمركز الوطني للبحوث قائلاً: «هناك مناطق من نهر النيل وفروعه ملوثة بسبب مياه الصرف الصناعية غير المعالجة والتي تصب مباشرة في النهر» وأضاف: «إن المركبات العضوية المذابة، والتي تنتج عن التصنيع والزراعة ومياه الصرف الصحي التي تصب في نهر النيل، تبقى حتى بعد علاج الماء بالكلور في محطات معالجة المياه الصالحة للشرب».

إن حماية البيئة ذات تكاليف كبيرة، وعندما يكون الربح هو الهدف الوحيد فإن أي شركة ستسعى لخفض التكاليف لديها، وهذا يعني أنه وفق المنطق الرأسمالي فهناك تناسب عكسي بين حماية البيئة وزيادة حجم الأرباح كما هو الحال بين حماية كرامة الإنسان وزيادة حجم الأرباح. وإذا كان تطبيق الرأسمالية هو الذي أدى إلى هذا الدمار المشاهد الذي يعاني منه الإنسان والبيئة، فللعاقل أن يتساءل عن الدافع الذي يمكن أن يجعل الرأسماليين يهتمون بحياة البشر المستقبلية وبالحفاظ على البيئة وحمايتها!

وجهة النظر الإسلامية

وجهة النظر الإسلامية في الحياة تقوم على الاقتناع المطلق بأن الإنسان والحياة والكون لها خالق خلقها هو الله سبحانه وتعالى، وأن الإسلام هو الرسالة التي أنزلها الخالق القدير إلى البشرية ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. والإنسان إذا ما اقتنع قناعة عقلية جازمة بهذه العقيدة واطمأن بها قلبه، فإنه يجعلها الأساس لأفكاره والمقياس لأعماله كلها. لذا، يعتقد المسلم أن الله الخالق سبحانه وتعالى أنزل الرسالة الخاتمة التي تقرر ما هو الخير وما هو الشر وما هو الحق وما هو الباطل، وهو يرجع في كل شؤون حياته وحل مشاكله إلى العقيدة الإسلامية التي ينبثق عنها نظام شامل للحياة ينظم جميع احتياجات الإنسان بغض النظر عن الزمان والمكان ودون تأثر بالبيئة أو الظروف أو المصالح الفردية.

ثم إن العقيدة الإسلامية تعالج مشاكل الإنسان آخذة بعين الاعتبار جميع القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية والمادية مراعية إياها على نحو منتناسق محقق جميع القيم، فلا تقدم القيمة المادية على باقي القيم أو تتجاهل إحداها على حساب الأخرى، بل يتم التنسيق بينها جميعها. والحكم على المجتمعات يكون على أساس التناسق بين هذه القيم الأربع وليس فقط على أساس التقدم المادي حيث المقياس هو الناتج المحلي الإجمالي أو غيره من المؤشرات الاقتصادية. إن التقدم المادي والنمو الذي يكون على حساب بقية شعوب العالم أو الطبيعة، لا يمكن أبداً أن يكون المقياس الصحيح للمجتمع الصالح.

غير أن التوازن بين هذه القيم الأربع لن يحدث أبداً إذا ترك التشريع للإنسان استناداً إلى حقيقة أن الإنسان غير قادر على التجرد من مصالحه الخاصة ورغباته حين وضعه للتشريع، ففهم الإنسان للتنظيم عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها مما ينتج النظام المتناقض المؤدي إلى شقاء الإنسان. وحال العالم اليوم بما يطغى فيه من الفساد والظلم والضرر بالإنسان والطبيعة خير دليل على عجز الإنسان عن تشريع نظام صالح يبين ما هو الخير وما هو الشر.

والإسلام لا يمنع الناس من الاستمتاع بنعم الله ولا يمنع العمل والكسب والغنى، بل يجعل العمل لازماً لتقدم حياة الإنسان ولقيامه بواجباته، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف 32]. لكن الذي لا يرتضيه هو تخمة البعض بينما يوجد من لا يشبع حاجاته الأساسية، ولذا فإن الإسلام يرى أن المشكلة الاقتصادية هي توزيع الثروة لا الندرة النسبية، فلا يجعل همه منصرفاً إلى زيادة الإنتاج، بل إلى مكافحة فقر الأفراد، وهو يضمن التوازن بين رعاية الجماعة والفرد فلا يلغي احتياجات الأفراد لصالح الجماعة ولا يقدم احتياجات الفرد على حساب الجماعة. والإسلام لا يقبل الظروف غير الإنسانية التي تعيشها الغالبية العظمى من سكان الأرض تحت حكم النظام الرأسمالي بسبب قلة قليلة تطارد الثروات دون شبع. إن الإسلام بنظرته هذه يوجد الفرد الذي يستشعر رقابة الله تعالى في كل أموره ويلتزم أوامر الله ويجتنب نواهيه طواعية حتى لو ترتب على ذلك خسائر مادية، ويكون بعيداً كل البعد عن الجشع والاستهلاك المفرط، ويحكم النشاط الاقتصادي بأحكام شرعية، وقيم أخلاقية وروحية تحول بينه وبين تحوله إلى نشاط اقتصادي مادي صرف لا يعمل حساباً لغير الربح. وهو بذلك يقضي على جذور السلوك الإنساني المفضي إلى خلل في التوازن البيئي. إن الإسلام يقوم على توجه واحد هو (ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ما يجب أن تكون عليه الحياة، ما يجب أن يكون عليه الناس) وهذا لا يحدده تماماً ولا يعرف طريقه إلا خالق الإنسان ومشرعه.

نظرة الإسلام للبيئة

إن الإسلام لم ينظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة على أنها علاقة صراع وتضاد، بل جعلها علاقة تكامل، لأن الكون والحياة هي من خلق الله تعالى مثل الإنسان، وقد سخر الله سبحانه الكون لصالح الإنسان، وأناط بالإنسان عمارة الأرض، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم 32-33] وقال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة 30]. وعمارة الأرض تقتضي الحفاظ عليها وعدم الإفساد فيها لا مادياً ولا معنوياً، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف 56]. وقد جعل الإسلام الإفساد في الأرض جريمة منكرة، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة 204-205]. كما بين الإسلام أن في الكون وفي الأرض توازناً وتقديراً دقيقاً مقصوداً، قال تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر 19]. وقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر 49]. إن هذه النصوص القرآنية وأمثالها تكفي وحدها لبيان نظرة الإسلام إلى الطبيعة والبيئة، وتدل على ضرورة الحفاظ على البيئة وحرمة الإخلال بتوازنها، وتجعل المسلم يحرص كل الحرص على عمارة الأرض وحسن القيام عليها وعلى مصالحه فيها. غير أنه وردت نصوص شرعية كثيرة في القرآن والسنة تتعلق بتفاصيل الحفاظ على البيئة، وهي تدل على أن الإسلام لم يكتفِ بالخطوط العريضة في ذلك بل تعداها إلى التفاصيل بحيث يحول بين الناس وإفساد البيئة وتلويثها، ولا يترك تقدير تعامل المسلم مع الطبيعة لأهوائه الفردية يتصرف حسب مصالحه دون مراعاة لها ولحياة الناس فيها، ونحن نذكر طرفاً من الأحاديث النبوية كأمثلة على غيرها.

- ففي التعامل مع الماء:
ما جاء من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» (البخاري ومسلم).
وما رواه معاذ بن جبل (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» (أبو داود وابن ماجه).
وما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» (ابن ماجه).

- وفي أمر الزرع والنبات:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (البخاري).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» (أبو داود وأحمد).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» (أحمد). وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي أصحابه حينما يبعثهم للجاهد فيقول: «انطلقوا باسم الله، وفيه: ولا تعقرن شجرة إلا شجرة يمنعكم قتالاً، أو يحجز بينكم وبين المشركين» البيهقي.

- وفي أمر الحيوان والطير:
ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (البخاري).
وما جاء عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (البخاري). وما جاء عن أنس قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» (مسلم)، ومعنى تُصْبر: تُوثَقُ ثُمَّ تُقْتَلُ رَمْياً وضَرْباً. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا».

فهذا غيض من فيض النصوص الشرعية المتعلقة بالبيئة وهي تظهر في مشهد فريد مدى اهتمام الإسلام بالطبيعة وتري أن الله خلق الطبيعة وسخرها للإنسان وجعله حارساً لها يستمتع بها لا مدمراً لها.

المصدر: مجلة الوعي

سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) طريقتنا العملية إلى الخلاص



بسم الله الرحمن الرحيم

معتز بدين الله الشامي
إن الدين الإسلامي متميز عن سائر الأديان بأنه يملك معالجات لجميع أمور الحياة، فنرى الأديان الأخرى متفقة على أمور عامّة كحرمة الزنا والسرقة والتعدّي على الآخرين والكذب وغيرها، ولكنها لا تملك معالجات لحل هذه المشكلات، هذا بخلاف الدين الإسلامي الذي لا يقول فقط: لا تزنِ ولا تسرق، بل قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور 2]، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة 38]، بالإضافة إلى أنه ربى الإنسان تربية تردعه عن الحرام؛ وذلك لأن الله لم يخلق الإنسان عبثاً، فهو سبحانه خلق الإنسان بغرائزه وحاجاته العضوية ونظم إشباعها تنظيماً دقيقاً في القرآن والسنة، فلا يحق للإنسان أن يضع نظاماً يعالج أموره من دون هذا القرآن والسنة.

إن علينا فهم الإسلام كاملاً، فلا نفهمه مجرد صلاة وصوم وأحكام فردية، ولا نرى في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط أنه الأب المثالي أو الزوج المثالي، ثم ننسى أن علينا إقامة الصلاة، أي كيفية جعلها مطبقة بمعاقبة تاركها، أو ننسى الغزوات التسع والعشرين التي غزاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، بل نتذكر دائماً قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء 65] وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به»، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على تأخير دفن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلتين حتى بايعوا أبا بكر على الخلافة (وكما نعلم دفن الميت فرض)، ومن ثم مبايعة عمر وعثمان وعلي، وقول ابن عباس (رضي الله عنهما): «ليس الإسلام بحفظ حروفه، بل بتطبيق حدوده»، وغيرها الكثير.

عندما نعلم تماماً أن علينا إقامة هذا الدين بإقامة دولته التي تطبقه وتحافظ عليه وتنشره إلى العالم أجمع، وأن لا عزة للمسلمين إلا بالإسلام، وأنه لا تحل مشكلات الأمة إلا به وحده، ندرك عندها حجم العمل الذي يتوجب أن نقوم به ومدى المسؤولية المترتبة علينا، فعندها يصبح الرجل بألف وألفين من الناس، وتراه يعيش حياة مبدئية همه هذا المبدأ فلا يكلّ ولا يملّ حتى يرى المبدأ مطبقاً على الأرض، وتراه يفرح لأمورٍ الناس يحزنون منها، ويحزن لأمورٍ الناس يفرحون لها، ولذلك فإن القعود عن هذا الفرض الذي يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة هو جريمة كبرى.

بناءً على هذا، فعندما يقول الإسلام إن الصلاة فرض يجب علينا القيام به أعطانا الكيفية للقيام به، وعندما يقول إن العمل لإقامة الدين فرض أعطانا كيفية العمل لإقامته، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21]. فطريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي مجموعة الأفعال والأقوال والتقريرات، وكلها أحكام شرعية علينا أن نعمل بها، فالآن نرى واقعنا مشابهاً لواقع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان في مكة من حيث واقع المجتمع الذي كان يعيش فيه والدار التي كان يحيا فيها، فالمجتمع غير إسلامي تسيطر على المسلمين فيه أفكار ومشاعر غير إسلامية ويحكم بنظام غير إسلامي وعلينا تغييره كما غيّره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وكذلك الدار فإنها دار كفر، ودار الكفر عرفها الفقهاء "تكون الديار ديار كفر بظهور أحكام الكفر فيها ولو كان جلّ أهلها من المسلمين، وتكون الديار ديار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ولو كان جل أهلها من الكفار". وعلينا أن نغير دار الكفر هذه كما غيرّ الرسول عليه الصلاة والسلام دار الكفر وأقام دار الإسلام في المدينة، فالأعمال التي قام بها الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه المسلمون الأولون في مكة هي الأعمال التي يجب أن نقوم بها في أيامنا من باب التأسي بأفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل تحويل الدار إلى دار إسلام وتغيير المجتمع إلى مجتمع إسلامي...

والآن سنستعرض الأعمال التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، لندرك ما يجب علينا أن نقوم به في عملنا لتغيير الواقع. والمدقق في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أنه قام بثلاث مراحل أساسية:
ابتداء قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوة كل من يأنس بهم خيراً، فدعا خديجة فآمنت به ومن ثم علياً ومولاه زيداً وأبا بكر، واتصل بالناس يدعوهم إلى الإسلام، يريد إقامة الدين، وكان كل من يستجيب لهذه الدعوة يثقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) الثقافة الإسلامية ويضمه إلى كتلة الصحابة. ولم يكتفِ بهذا بل جعل لهذه الدعوة داراً وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكانوا يجتمعون فيها يصلي بهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرئهم القرآن ويبيّنه لهم ويثقف عقولهم بمعانيه ويروضهم على الطاعة والانقياد، فهنا أصبحت عقليتهم عقلية إسلامية ونفسيتهم نفسية إسلامية، ونضج هؤلاء في ثقافتهم فاطمأن (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الكتلة إذ صارت كتلة قوية، نضج أفرادها على الثقافة الإسلامية نضجاً يمكنهم من مجابهة المجتمع ويملكهم القدرة على تغييره. وهذا ما علينا فعل مثله وذلك بإيجاد ثقافة مركزة تتناول ما تحتاج إليه الكتلة في عملها لإقامة المجتمع الإسلامي وتحويله الدار إلى دار إسلام وإنضاج الشباب عليها.

وبهذا التأسيس استطاع (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينتقل إلى المرحلة الثانية مرحلة التفاعل مع الأمة، وهنا بدأ الكفاح السياسي والصراع الفكري، وهنا نزلت الآية: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر 94] فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يواجه المجتمع المكي بعدة أمور: بدأ يواجه أركان الكفر، قال تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد 1]، فهنا واجه أبا لهب ليس بوصفه رجلاً من الرجال، بل بوصفه ركناً من أركان الكفر، وقال تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) [العلق 15] وهذا في حق أبي جهل، وهذا أمية بن خلف الذي جاء يحمل عظماً بالياً إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد أن رمّ؟ فيقول له: وإنه سيحييك بعد أن ترم، ثم يرمي بك في النار. وواجه العقائد، قال تعالى: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء 66-67]، يردهم إلى التفكير الصحيح، وتوعدهم بالعذاب قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء 98]، وواجه العادات: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير 8-9]، وواجه نظمهم الفاسدة كإحلال الربا فقال تعالى: (وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) [الروم 39]، فمن هذه الآيات نرى قوة التحدي بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقريش وكيف أنه يواجه كل الفئات من حكّام ومحكومين، ورأينا أيضاً هذا التحدي عندما جاء إليه عتبة بن ربيعة ليفاوضه فقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم... أيها الرجل اسمع منّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل بعضها... إن كنت تريد بما جئت به من الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا...» فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلا عليه سورة فصلت.

واستخدمت قريش عدة وسائل لمقاومة هذه الدعوة، منها التعذيب والتكذيب والإشاعة والمقاطعة والدعاوة الداخلية والخارجية، وعانت هذه الكتلة من هذه الوسائل الكثير الكثير، ولكن ما زادتها إلا ثباتاً وإقداماً، فمنهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه، ومنهم من مات تحت التعذيب، وصار العرب يقفون موقف المتفرج، لأنهم يسعون لعدم إغضاب قريش، وهذه طبيعة الناس يقفون مع القوي (أو من يظهر لهم أنه قوي). وتجمد المجتمع المكي أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوفي أبو طالب، فضعفت بالتالي حماية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان لا بد من القوة التي تكمل هدف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتطبيق الإسلام وحمايته ونشره إلى العالم أجمع. وهذا ما يجب علينا فعل مثله وذلك بخوض الصراع الفكري والكفاح السياسي واستعمال الخطاب الجماهيري وتبني مصالح الأمة وكشف خطط الاستعمار ضدها حتى نصل كما وصل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احتضان الأمة للفكرة والقائم عليها وذلك بإيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام على الفكرة والهدف وحاملهما.

ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرض نفسه على قبائل العرب ليطلب حمايتها ونصرتها له، فخرج إلى الطائف يلتمس النصرة والمنعة له من قومه، فردوه شر رد، ثم ذهب إلى بني عامر بن صعصعة فاشترطوا عليه أن يكون الحكم لهم من بعده، فيقول: الأمر لله يضعه الله حيث يشاء. وهكذا تقصد القبائل في مواطنها وفي سوق عكاظ وفي أيام الحج، إلى أن التقى بوفد المدينة فاستجابوا له وآمنوا به وكان التمكين على أيديهم، وبالتالي حقق طلب النصرة غرضين اثنين: الأول طلب الحماية والثاني الوصول إلى الحكم.

وهكذا سار الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أقام الدولة الإسلامية، وهي المرحلة الثالثة، يريد بها إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكان ينظر إلى العالم أجمع يريد إخضاعه إلى شرعة الإسلام، أي يريد تعبيد الناس (جميع الناس) إلى الله سبحانه وتعالى القائل في كتابه (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة 193]، وليس غريباً في أصعب المواقف أن يعد سراقة بسواري كسرى وأن يقول «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها»، نعم أقام (صلى الله عليه وآله وسلم) دولة الإسلام دولة منبثقة من عقيدة الإسلام التي اعتنقها المجتمع، فاستطاعت هذه الدولة أن تطبق العقيدة وتحميها وتنشرها.

كم نحتاج هذه الدولة اليوم، وكم اشتاقت قلوبنا إليها، وكم دعونا ربنا أن يعيدها لنا، نعم قلوبنا اشتاقت، ولكن هل جوارحنا اشتاقت؟ قرأنا الكلام بأعيننا ودخل قلوبنا، ولكن هل عملت به أيدينا وسارت نحوه أقدامنا ودعت إليه أفواهنا؟ ليس الكلام بمستحيل وليس التطبيق بمعجز، فالله عز وجل وعدنا فقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور 55] والرسول عليه الصلاة والسلام بشرنا فقال: «... ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، فماذا ننتظر؟! هل أمهل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشاً يوم نقضت عهدها معه أم جاءها بفتح مكة العظيم؟ هل انتظر المسلمون الأوائل عندما سمعوا حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لَتُفْتَحَنَّ القُسْطَنْطِينِيَّة، فَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَنِعْمَ الْجَيْشُ جَيْشُهَا»؟ أم رأيناهم تنافسوا على هذا اللقب، فحدثت عشرة محاولات لفتح القسطنطينية؟ هل انتظر الخليفة المعتصم بالله عندما سمع «وامعتصماه» من تلك المرأة؟ أم جيّش الجيوش لنصرتها، وذاد عن عرض المسلمين؟!

ماذا تنتظر أيها المسلم؟! ألم ترَ فساد المجتمع؟! وهل رأيت واقعاً أسوأ من هذا الواقع؟! ماذا تنتظر؟ هل تنتظر مزيداً من انتهاك الأعراض؟! أم مزيداً من المعتقلين في السجون؟! أم تنتظر مزيداً من الهجمات على الإسلام؟ أم تكفك الإساءة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! ألم يستفزك تدنيس القرآن؟! أم تنتظر المزيد من الخيانة من الحكام؟! قل لي إذاً ماذا تنتظر؟ ألم يدفعك هذا إلى التغيير؟! إذا كان الأمر كذلك، وهو فرض ربنا، فهذه هي طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام أمامك، فالأمة، بل العالم أجمع، ينتظرك.

المصدر : مجلة الوعي

عش القبرة في درب الفيلة



بسم الله الرحمن الرحيم

كل من يدقق في أوضاع العالم الإسلامي جغرافياً يلاحظ أن الصراع الدولي القائم فيه بدأ منذ حقبة الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والبرتغالي ولا يزال حتى هذه الأيام، وإن وضع أبناء الأمة في هذه المنطقة يشبه وضع القبرة- ذلك العصفور الصغير- والتي تكاد تكون العصفور الوحيد الذي يبني عشه على الأرض وبين المحاصيل الزراعية في حقول القمح، بينما تبني باقي العصافير أعشاشها في أعالي الشجر وبين الصخور العالية.
وحينما تنتشر الحيوانات في الحقول بحثاً عن الغذاء تدوس الأعشاش بأقدامها، ولا تملك العصفورة المستضعفة الدفاع عن عشها ولا تملك سوى إرسال زقزقات الاستغاثة ولا من مغيث، أما إذا صادف مرور الفيلة في منطقة الأعشاش فإن المصيبة تصبح أكبر فتدفن الأعشاش في التراب وتنتظر القبرة للعام القادم لتبني عشها من جديد على درب الفيلة.

هل يُعقل أن تستمر أمة بكاملها عشرات السنين في درب الفيلة الكبيرة ولا تحرك ساكناً؟ هل يعقل أن تبقى تتفرج وتولول وتعدُّ الضربات والمجازر؟ هل يعقل أن تبقى لقمة الخبز هي الشغل الشاغل للعديد منهم بينما تتسابق الأمم الأخرى في كل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية وهم ينظرون وينتظرون؟

أما آن لهذه الأمة أن تدرك أن الانتظار يطيل مشاكلها ويعقدها ويؤخر حلها؟ ألم تتعلم من الأمم الأخرى ومن أخطائها السابقة؟ وهل ينتظر هؤلاء أن تتنازل الدول المتصارعة عن أطماعها في بلادهم طوعاً وإحساناً؟

إن الصراع الدولي بدأ منذ زمان بعيد ولن ينتهي إلا بطرد الدول المتصارعة من بلادهم الطاهرة براً وبحراً، ولن يتحقق هذا الهدف إلا إذا غابت الأنظمة العميلة التي تشكل غطاءً للمستعمر، ولن تغيب هذه الوجوه الممقوتة إلا بتحرك المخلصين الأمناء الأوفياء لأمتهم، ولا شك أن ذلك سيحصل بإذن الله، لكن الدول المتغطرسة لا تستسلم إلا إذا واجهتها دولة قوية تملك السلاح والرجال وكل مكونات القوة، أما المناوشات التي تحصل بين الفينة والأخرى من بضعة أفراد فهي لا تزيل الصراع الدولي الدائر، ولا تنهي الأطماع المزمنة التي تسكن الدول الكبرى وتستوطن في عقول زعمائها.

المصدر: مجلة الوعي

يوم مولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويوم إقامة الدولة الإسلامية الأولى زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)



بسم الله الرحمن الرحيم

في الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل، كانت مكة، بل البشرية جمعاء، على موعد مع أسعد حدث لها على الإطلاق، على موعد مع مولد خير الناس وأحبهم إلى الله سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهر المطهر الذي قال عن نفسه: «لا يزال الله يُخرج بي من أصلاب الطاهرين إلى فروج الطاهرات، فقد خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح»، «أنا خيار من خيار من خيار، إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ومن إسماعيل كنانة، ومن كنانة قريش، ومن قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»، وفي حديث يوحي إلى وجوب اجتماع البشرية على اتباعه فيما جاء به من الله تعالى، روى البيهقي (رحمه الله) عن أبي أمامة (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله، متى بدأ أمرك؟ فقال: «أنا دعوة إبراهيم، ونبوءة موسى، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي آمنة».

فهذا الدين، وهذه الدعوة التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت الحلقة الأخيرة من سلسلة الدعوات الحقة التي جاء بها الأنبياء والرسل عليهم السلام من قبل. وهي الدين الخاتم. وإذا كان الله سبحانه وتعالى يرسل النور ويؤيد بالحق كل رسول ونبي يرسله فيضيء به جنبات ما يرسل إليه، فإن سيدنا محمد مما فضل عليهم به أن نور رسالته يضيء جنبات الكون كله إذ أرسله الله سبحانه للناس كافةً بشيراً ونذيراً، ولن ينفك أحد من البشر من الحساب عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الدعوة محفوظة فما جاء به سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من دين حفظه الله بنصوصه ولا يمكن أن تمتد إليه يد التحريف والتبديل وذلك تحدياً من الله تعالى.

في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة من البعثة، وكان يوم جمعة، كان يوم وصول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه صاحبه أبو بكر (رضي الله عنه) إلى المدينة من هجرته، وكان يوماً تاريخياً أعز الله فيه الإسلام بإقامة دولته الأولى على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه (رضي الله عنهم)، ولشدة أهمية هذا اليوم اتخذ المسلمون من السنة التي تمت فيها الهجرة بداية التأريخ الإسلامي والتقويم الهجري، وقد لخص سيدنا عمر (رضي الله عنه) هذا الموقف بقوله: «ذاك يوم نصر الله فيه الحق وأزهق الباطل. ويومها خرجت المدينة تستقبل وافد الخير ليدخلها وسط أصوات التحميد والتقديس والارتجاز من بنات الأنصار بكلمات لله درها من كلمات:

طلع البدر علينا
وجب الشكر علينا
أيها المبعوث فينا
جئت شرفت المدينة
من ثنيات الوداع
ما دعا لله داع
جئت بالأمر المطاع
مرحباً يا خير داع

في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر من الهجرة كان يوم وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضحاه، فقد فارق الحياة مختاراً الرفيق الأعلى، ولكم كان يوماً ثقيلاً على الصحابة الكرام، ولكن أصحاب الفهم المشرق هؤلاء، والالتزام الحق بالإسلام لم يشاؤوا أن يمر هذا اليوم من غير أن يختاروا خليفة يخلف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحكم، فتركوا أشرف الخلق وأحبهم إلى نفوسهم مسجّى في فراشه الشريف ليختاروا خليفة لهم في نفس اليوم حيث بويع أبو بكر (رضي الله عنه) بيعة انعقاد ليبايعه المسلمون في اليوم التالي بيعة طاعة. وهكذا جعل المسلمون من هذا اليوم الثقيل، لوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه، يوم إقامة الخلافة الراشدة الأولى أفضل عهد مر به المسلمون بعد عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحكم والتطبيق ونشرالإسلام بالجهاد والدعوة.

وهكذا نجد أنه في مثل هذا اليوم شهد المسلمون مولد الإسلام بمولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولد الدولة الإسلامية الأولى على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولد الخلافة الراشدة الأولى باستخلاف أبي بكر (رضي الله عنه). ذكر البخاري عن أنس «إن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين [وهو الثاني عشر من ربيع الأول أي يوم الوفاة] وأبو بكر يصلي بهم لم يفجأهم إلا رسول الله كَشفَ ستر حجر عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يخرج إلى الصلاة فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأشار إليهم بيده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، ثم لم يأتِ على رسول الله وقت صلاة أخرى» وهكذا قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مطمئن إلى اجتماع المسلمين على أمر الله في الصلاة بإمامة أبي بكر (رضي الله عنه). واستمر أمر الدين وحمل الدعوة على نفس ما كان عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد أنفذ أبو بكر بعث أسامة الذي جهزه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مرض وفاته في صفر من السنة الحادية عشرة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين لإرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب القبائل العربية الضاربة على الحدود...

إن الصحابة (رضي الله عنهم) لم يتخذوا من مولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم عيد وفرح يكرمون ذكراه في كل عام، ولم يجعلوا من يوم وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم عزاء سنوي، بل مضى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى ليشق المسلمون بعده الطريق التي رسمها لهم في إقامة الدين ونشره بالجهاد والدعوة. ولما كان الدين من عند رب العالمين ويقوم على ما يحكم به الله تعالى وحده، فعلى المسلمين أن لا يحدثوا في ذلك حدثاً، بل يجب أن يتعاملوا مع هذا الدين كما تعامل معه الصحابة الكرام. يجب أن ينظر إليه كما ذكرت الآية (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران 144] يجب أن ينظر إليه المسلمون كما قال أنس بن النضر في غزوة أحد وقد أشيع حينها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مات: «اذهبوا وموتوا على ما مات عليه».

هكذا يجب أن ينظر المسلمون إلى مثل هذا اليوم، ويجعلوا منه يوماً لإقامة الدين، إن الله سبحانه لا يرضيه من المسلمين أن يفصلوا الأحداث الإسلامية عن غاياتها، لا يرضيه أن نتذكر مولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن نتذكر لم جاء له؟ وما الذي أمر به، وما الذي قام به؟ وما الذي جاهد عليه؟ إن أجمل هدية يقدمها المسلمون لنبيهم الكريم هو أن يجعلوا هذه الذكرى هو يوم تعاهد على جعل يوم مولده يوم مولد للخلافة الراشدة الثانية التي وعد بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه بها. اجعلوا الرسول يبتسم ثم يضحك في قبره كما تبسم وضحك يوم رأى المسلمين مجتمعين على إمامة أبي بكر (رضي الله عنه) في الصلاة.

لقد سجل المسلمون لرسولهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماء عديدة وهي أسماء مشتقة من صفات قائمة به (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تذكروا بعضها وتنسوا بعضها. فهو نبي الرحمة ونبي الملحمة الذي بعث بجهاد الأعداء، وهو الماحي الذي محا الله به الكفر، وهو الفاتح الذي فتح الله سبحانه وتعالى به أمصار الكفار كما فتح به القلوب والأبصار، وهو الكامل المكمل المؤيد بشريعة هي أمانة في رقاب المؤمنين على أن يؤدوها للعالم كافة.

إن إكرام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون باتباعه، ومن سار على دربه فاز بقربه، روى البيهقي أن رجلاً من أهل بغداد سأل أبا عثمان الواعظ: متى يكون الرجل صادقاً في حب مولاه؟ فقال: إذا خلا من خلافه كان صادقاً في حبه، فوضع الرجل التراب على رأسه، وصاح وقال: كيف أدعي حبه ولم أخلُ طرفة عين من خلافه، فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وصار أبو عثمان يقول في بكائه: «صادق في حبه، مقصر في حبه» هذا هو واقع المسلمين اليوم يحبون رسولهم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يسيرون سيرته. إن إكرام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون باتباعه تماماً على الذي أنزل الله تعالى.

فليعنَ المسلمون اليوم، إكراماً لمولد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتداءً بسيرته وسيرة السلف الصالح، بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية التي أظل زمانها، وآن أوانها. إنه المشروع المستقبلي الكبير للعالم، يجب أن يعمل المسلمون له عن إدراك أن دينهم هو المخلّص لهم وللعالم أجمعين، وليعلموا أن الكفار ينتظرونه من غير معرفة وإدراك من هو الدين الصحيح ولكنهم يشعرون بالحاجة الماسة إليه بعد طول عناء ومكابدة جراء تطبيق الفكر الرأسمالي المتوحش عليهم... إن من يعمل كما عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى طريقته يستحق هذه البشرى.

اللهم اجعلنا أهلها والعاملين المقبولين لها والأحق بها، إنك سميع قريب مجيب، وعلى الله قصد السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: مجلة الوعي