الجمعة، 20 نوفمبر 2009

مواقف عزة: عمر بن عبدالعزيز


رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا، فقام من نومه يردد: مَنْ هذا الأشجُّ من بني أمية، ومِنْ ولد عمر يُسَمى عمر، يسير بسيرة عمر ويملأ الأرض عدلاً.

ومرت الأيام، وتحققت رؤيا أمير المؤمنين، ففي منطقة حلوان بمصر حيث يعيش وإلى مصر عبد العزيز بن مروان وزوجته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وُلِد عمر بن عبد العزيز سنة 61هـ، وعني والده بتربيته تربية صالحة، وعلَّمه القراءة والكتابة، لكن عمر رغب أن يغادر مصر إلى المدينة ليأخذ منها العلم، فاستجاب عبد العزيز بن مروان لرغبة ولده وأرسله إلى واحد من كبار علماء المدينة وصالحيها وهو (صالح بن كيسان).

حفظ عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم، وظهرت عليه علامات الورع وأمارات التقوى، حتى قال عنه معلِّمه صالح بن كيسان: ما خَبَرْتُ أحدًا -الله أعظم في صدره- من هذا الغلام، وقد فاجأته أمه ذات يوم وهو يبكي في حجرته، فسألته: ماذا حدث لك يا عمر؟ فأجاب: لا شيء يا أماه إنما ذكرتُ الموت، فبكت أمه.

وكان معجبًا إعجابًا شديدًا بعبد الله بن عمر -رضي الله عنه- وكان دائمًا يقول لأمه: تعرفين يا أماه لأكونن مثل خالي عبد الله بن عمر، ولم تكن هذه الأشياء وحدها هي التي تُنبئ بأن هذا الطفل الصغير سيكون علمًا من أعلام الإسلام، بل كانت هناك علامات أخرى تؤكد ذلك، فقد دخل عمر بن العزيز إلى إصطبل أبيه، فضربه فرس فشجَّه (أصابه في رأسه) فجعل أبوه يمسح
الدم عنه، ويقول: إن كنتَ أشجَّ بني أمية إنك إذن لسعيد.

وكان عمر نحيف الجسم أبيض الوجه حسن اللحية، وتمضي الأيام والسنون ليصبح عمر بن عبد العزيز
شابًّا فتيًّا، يعيش عيشة هنيئة، يلبس أغلى الثياب، ويتعطر بأفضل العطور، ويركب أحسن الخيول وأمهرها، فقد ورث عمر عن أبيه الكثير من الأموال والمتاع والدواب، وبلغ إيراده السنوي ما يزيد على الأربعين ألف دينار، وزوَّجه الخليفة عبد الملك بن مروان ابنته فاطمة، وكان عمر -رضي الله عنه- وقتها في سن العشرين من عمره، فازداد غِنًى وثراءً.

ولما بلغ عمر بن عبد العزيز الخامسة والعشرين، اختاره الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ليكون واليًا على المدينة وحاكمًا لها، ثم ولاه الحجاز كله، فنشر الأمن والعدل بين الناس، وراح يعمِّر المساجد، بادئًا بالمسجد النبوي الشريف، فحفر الآبار، وشق الترع، فكانت ولايته على مدن الحجاز كلها خيرًا وبركة، شعر فيها الناس بالأمن والطمأنينة.

واتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة على رأسهم التابعي الجليل (سعيد بن المسيِّب) فلم يقطع أمرًا بدونهم، بل كان دائمًا يطلب منهم النصح والمشورة، وذات مرة جمعهم، وقال لهم:
إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل (حاكم) ظلامة فأُحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني، فشكروه ثم انصرفوا، وظل عمر بن عبد العزيز في ولاية المدينة ست سنوات إلى أن عزله الخليفة الوليد بن عبد الملك لأن الحجاج أفهمه أن عمر أصبح يشكل خطرًا على سلطان بني أمية.

ذهب عمر إلى الشام ومكـث بها إلى أن مـات الـوليد بن عبد الملك، وتولى الخلافة بدلاً منه أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان يحب عمر، ويعتبره أخًا وصديقًا ويأخذ بنصائحه، وذات يوم مرض الخليفة مرض الموت، وشعر بأن نهايته قد
اقتربت، فشغله أمر الخلافة حيث إن أولاده كلهم صغار لا يصلحون لتولي أمور الخلافة، فشاور وزيره (رجاء بن حيوة) العالم الفقيه في هذا الأمر، فقال له: إن مما يحفظك في قبرك ويشفع لك في أخراك، أن تستخلف على المسلمين رجلا صالحًا.
قال سليمان: ومن عساه يكون؟
قال رجاء: عمر بن عبد العزيز.
فقال سليمان: رضيت، والله لأعقدن لهم عقدًا، لا يكون للشيطان فيه نصيب، ثم كتب العهد، وكلف (رجاء) بتنفيذه دون أن يَعْلَمَ أحدٌ بما فيه.

مات سليمان، وأراد (رجاء بن حيوة) تنفيذ العهد لكن عمر كان لا يريد الخلافة، ولا يطمع فيها، ويعتبرها مسئولية كبيرة أمام الله، شعر عمر بن عبد العزيز بالقلق وبعظم المسئولية، فقرر أن يذهب على الفور إلى المسجد حيث يتجمع المسلمون، وبعد أن صعد المنبر قال: لقد ابتليتُ بهذا الأمر على غير رَأْي مِنِّي فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين، وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم، لكن المسلمين الذين عرفوا عدله وزهده وخشيته من الله أصرُّوا على أن يكون خليفتهم، وصاحوا في صوت واحد: بل إياك نختار يا أمير المؤمنين، فبكي عمر.

وتولى الخلافة في يوم الجمعة، العاشر من صفر سنة 99هـ، ويومها جلس حزينًا مهمومًا، وجاء إليه الشعراء يهنئونه بقصائدهم، فلم يسمح لهم، وقال لابنه: قل لهم {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15].
دخلت عليه زوجته فاطمة وهو يبكي، فسألته عن سرِّ بكائه، فقال: إني تَقَلَّدْتُ (توليت) من أمر أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أسودها وأحمرها، فتفكرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمجهود، والمظلوم المقهور، والغريب
الأسير، والشيخ الكبير، وذوي العيال الكثيرة، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمتُ أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حجة فبكيتُ.

وترك عمر زينة الحياة الدنيا، ورفض كل مظاهر الملك التي كانت لمن قبله من الخلفاء، وأقام في بيت متواضع بدون حـرس ولا حجاب، ومنع نفسه التمتع بأمواله، وجعلها لفقراء المسلمين، وتنازل عن أملاكه التي ورثها عن أبيه، ورفض أن يأخذ راتبًا من بيت المال، كما جرَّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها وجواهرها الثمينة، وطلب منها أن تعطيها لبيت المال، فقال لها: اختاري..إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد، فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر، فقالت: بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي، فأمر عمر بتلك الجواهر فوضعت في بيت المال. وبلغه أن أحد أولاده اشترى خاتمًا له فصٌّ بألف درهم، فكتب إليه يلومه، ويقول له: بِعه وأشبع بثمنه ألف جائع، واشترِ بدلاً منه خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.

ويحكى أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- كان يقسم تفاحًا للمسلمين، وبينما هو يفرقه ويقسمه على من يستحقه إذ أخذ ابن صغير له تفاحة، فقام عمر وأخذ التفاحة من فمه، فذهب الولد إلى أمه وهو يبكي، فلما علمت السبب، اشترت له تفاحًا، فلما رجع عمر شم رائحة التفاح، فقال لزوجته: يا فاطمة، هل أخذت شيئًا من تفاح المسلمين؟ فأخبرته بما حدث، فقال لها: والله لقد انتزعتها من ابني فكأنما انتزعتُها من قلبي، لكني كرهتُ أن أضيِّع نفسي بسبب تفاحة من تفاح المسلمين!!

وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي تحت تصرفه وطوع أمره أموال الدولة وكنوزها، يقول لزوجته يومًا: تشتهي نفسي عسل لبنان، فأرسلت فاطمة إلى ابن معد يكرب، عامل (أمير) لبنان، وذكرت له أن أمير المؤمنين يشتهي عسل
لبنان، فأرسل إليها بعسل كثير، فلما رآه عمر غضب، وقال لها: كأني بك يا فاطمة قد بعثتِ إلى ابن معد يكرب، فأرسل لك هذا العسل؟ ثم أخرج عمر العسل إلى السوق، فباعه، وأدخل ثمنه بيت المال، وبعث إلى عامله على لبنان يلومه، ويقول له: لو عُدْتَ لمثلها فلن تلي لي عملا أبدًا، ولا أنظر إلى وجهك.

وكان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلاً، خرج ذات ليلة إلى المسجد ومعه رجل من الحراس، فلما دخل عمر المسجد مرَّ في الظلام برجل نائم، فأخطأ عمر وداس عليه، فرفع الرجل رأسه إليه وقال أمجنون أنت؟ فقال: لا، فتضايق الحارس وهَمَّ أن يضرب الرجل النائم فمنعه عمر، وقال له: إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- رقيق المشاعر، رحيمًا بالإنسان والحيوان، كتب ذات يوم إلى واليه في مصر قائلاً له: بلغني أن الحمالين في مصر يحملون فوق ظهور الإبل فوق ما تطيق، فإذا جاءك كتابي هذا، فامنع أن يحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل.

وقد حرص عمر الزاهد العادل التقي على ألا يقرب أموال المسلمين ولا يمد يده إليها، فهي أمانة في عنقه، سيحاسبه الله عليها يوم القيامة، فكان له مصباح يكتب عليه الأشياء التي تخصه، ومصباح لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفًا..وذات مرة سخنوا له الماء في المطبخ العام، فدفع درهمًا ثمنًا للحطب!!

لقد كان همه الأول والأخير أن يعيش المسلمون في عزة وكرامة، ينعمون بالخير والأمن والأمان، كتب إلى أحد أمرائه يقول: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، وكان يأمر عماله بسداد الديون عن المحتاجين، وتزويج من لا يقدر على الزواج، بل إن مناديه كان ينادي في كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى استطاع بفضل من الله أن يغنيهم جميعًا.

خرج عمر راكبًا ليعرف أخبار البلاد، فقابله رجل من المدينة المنورة فسأله عن حال المدينة، فقال: إن الظالم فيها مهزوم، والمظلوم فيها ينصره الجميع، وإن الأغنياء كثيرون، والفقراء يأخذون حقوقهم من الأغنياء، ففرح عمر فرحًا شديدًا وحمد الله، وهكذا رجـل مـن ولـد (زيـد بن الخطــاب) يقول: (إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفًا، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يبحث عمن يعطيه فما يجد، فيرجع بماله، قد أغنى الله الناس على يد عمر).

طُلب منه أن يأمر بكسوة الكعبة،كما جرت العادة بذلك كل عام، فقال: إني رأيت أن أجعل ذلك (ثمن كسوة الكعبة) في أكباد جائعة،فإنه أولى بذلك من البيت، وبعد فترة حكمه التي دامت تسعة وعشرين شهرًا، اشتد عليه المرض، فجاءه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا توصي لأولادك، فإنهم كثيرون، وقد أفقرتهم، ولم تترك لهم شيئًا؟!
فقال عمر: وهل أملك شيئًا أوصي لهم به، أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين؟ والله لا أعطيهم حق أحد، وهم بين رجلين: إما أن يكونوا صالحين فالله يتولاهم، وإما غير صالحين فلا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله، وجمع أولاده، وأخذ ينظر إليهم، ويتحسس بيده ثيابهم الممزقة؛ حتى ملئت عيناه بالدموع، ثم قال: يا بَنِي، إن أباكم خُيِّر بين أمرين: بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل أبوكم النار، وبين أن تفتقروا، ويدخل أبوكم الجنة، فاختار الجنة.. يا بَنِي، حفظكم الله ورزقكم، وقد تركتُ أمركم إلى الله وهو يتولى الصالحين. ثم قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا، وجلس على الباب مَسْلَمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعاه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان، ثم قرأ: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين} [القصص: 83].

ومات عمر بعد أن ضرب المثل الأعلى في العدل والزهد والورع... مات أمير المؤمنين خامس الخلفاء الراشدين!!


الخميس، 19 نوفمبر 2009

لماذا ألف المسلمون المنكر؟!



بسم الله الرحمن الرحيم

عندما ننظرُ إلى المجتمعاتِ التي يعيشُ فيها المسلمونَ, نرى الفسادَ قدْ عمَّ وطمَّ, وظهرَ بشكلٍ جلي علني, ونرى المعاصي تنتشرُ علانية ً في حياةِ المسلمين الخاصةِ والعامة, فهذا المسلمُ يَقترفُ المعصيةَ على مرأى ومسمع ِ أبناءِ مجتمعهِ, وذاكَ المسلمُ تُقترفُ المعصية ُ أمامَ ناظريْهِ , فيمرُ عليها دونَ أنْ يُحركَ ساكناً, أو ينبسَ ببنتِ شفةٍ, ولا ينكرُ حتى في قلبهِ, فهذا حالٌ من أحوالِ أمةِ الإسلامِ في غيابِ راعيَتِها, دولةِ الخلافةِ.

وإذا تفكرَ المسلمُ في حال ِ المسلمينَ هذا: لماذا يُقدمُ المسلمونَ على المعصيةِ مجاهرينَ بها وأحياناً مفاخرينَ بها؟؟ ولماذا يَرمونَ بحرمانيةِ أعمالِهم عَرضَ الحائطِ, ويَقترفونَ المعصيةَ؟ ولماذا إن ساءلتهم أنفسهم ألجَموها بتبريراتٍ عقليةٍ هزيلةٍ لا تسمنُ ولا تغني من جوعٍ؟؟ ولماذا كفَّ جمعٌ مِنَ المسلمينَ عن إنكارِ المنكرِ حتى ولوْ بالقلبِ, فحببتْ تلكَ المعاصي إلى قلوبِهم فلا ينكرونها, معَ علمهم بحكم ربِهم فيها, فيتجاهلونَ غضبَ اللهِ ولا يلقونَ إليهِ بالاً؟

تساؤلاتٌ يفكرُ فيها المسلمُ الغيورُ على دينهِ وشرعِ ربهِ, لماذا آلَ المسلمونَ إلى هذا الحال ِ مِنْ إلفة المعاصي واعتيادِها؟
يمكنُ إجمالُ أسبابِ إلفةِ المسلمينَ للمنكراتِ واعتيادِهمْ عليها وعدم ِ الغضبِ الذي يدفعُ لإنكارِها, بما يلي:

1- غيابُ الحكم ِ بما أنزلَ اللهُ, بغيابِ سلطان الإسلامِ, وعدمِ تطبيقِ أنظمتهِ, وبالأخصِ نظامُ العقوبات من حدودٍ وقصاصٍ وتعزيرٍ, وبالتالي تلاشي ما يوجدهُ هذا النظامُ من ردعٍ وزجرٍ عن ارتكابِ المعاصي عند تابعي الدولةِ، وما يوجده في المجتمع من أجواء تحافظ على الجو الإسلامي العام.

2- عدمُ عيشِ المسلمينَ في مجتمعاتٍ إسلاميةٍ, وبالتالي عدمُ سيادةِ أفكارِ الإسلامِ ومفاهيمهِ جوَ المجتمعِ بشكلٍ كاملٍ, فالمجتمعاتُ التي يحيا فيها المسلمونَ اليوم فيها خليطٌ مِنْ أفكارٍ إسلاميةٍ وغيرها, وفي معظمِ الأحيانِ, تكونُ الغلبةُ لأفكارِ الكفرِ بينما تنـزوي أفكارُ الإسلامِ ومفاهيمُهُ في زاويةِ الغربةِ عنْ أهلِها.

3- إنَّ إلفةَ َمجتمعاتِ المسلمينَ المعاصي والمنكراتِ واعتيادها, من أهدافِ الغربِ الحاقدِ في حملتِه للقضاءِ على الإسلامِ وحضارتهِ, مسخراً أدواتِه منْ إعلامٍ وعملاءٍ و جهلةٍ مضبوعين بثقافتِه لتحقيقِ سعيهِ هذا.
4- عدم قيام العلماء بدورهم من محاسبة الحكام ومعارضة الأحكام غير الإسلامية التي يطبقونها، بل إن بعض علماء السوء يقومون بشرعنة الأحكام الغربية ويفتون بجوازها بل وبوجوب تطبيقها.

هذه أسبابٌ ٌلانتشار ِالمعاصي في بلادِ المسلمينَ وكفهِم عنْ إزالَتِهَا وإنكارِها, ومِنْ ثُمَّ إلفتِهمُ لمظاهرِ المنكراتِ والمعاصي التي باتَتْ تخيمُ على جميعِ نواحي حياتِهم.

إننا نرى كثيراً مِنْ فتياتِ المسلمينَ مَنْ تَجُبْنَ الحياة َالعامة َخاضعاتٍ في القولِ سافرات مبدياتٍ للزينةِ لكلِ عابرِ طريقٍ. وها هيَ الخمورُ والمسكراتُ تباعُ في كبرى متاجرِ وفنادقِ البلدان ِالإسلاميةِ في القاهرةِ وعمّانَ وبيروتَ ودبي وغيرها. وها هي البنوكُ الربويةُ, تجاورُ المساجدَ في بنائِها, وتعمُ البلدانَ الإسلاميةَ قاطبةً, فيهرعُ المسلمُ إلى المعاملاتِ الربويةِ المحرمةِ وكأنَ اللهَ سبحانه وتعالى لمْ يعلنْ الحربَ على أهلِها... أينَما التفتْنَا وجدْنَا المنكراتِ وأمهاتِها, فالاختلاط ُاجتاحَ حياة َالمسلمينَ, والسرقة ُوالنصبُ والاحتيالُ أصبحتْ وكأنها من العلامات الظاهرة للتعامل الدنيوي بين المسلمين, وانتشر اهتمام الرجال بمظهرهم أسوة بالنساء، وامتلأتْ بيوتُ العجزةِ والمسنينَ بكبارِ السنِ, وغيرِها الكثيرَ الكثيرَ من ترك الصلاةِ كسلاً وتقاعساً, والإفطار في رمضانَ عند البعض, والإعراض عن حملِ الدعوةِ إنكاراً وتجاهلاً, فإن ذُكِّرَ أهلُ المنكراتِ أعرضوا واستخفوا وأصروا واستكبروا وأخذهم طولُ الأمل.

وبنظرةِ تمعنٍ لاعتيادِ الإنسانِ على أمرٍ ما, نجدُ أن الإنسانَ لا يألفُ جديدَ الأمورِ وغريبِها, وبالأخص ِإنْ كانَ الأمرُ يتنافى ومفاهيمَ هذا الإنسانِ, فعندَ حدوثِ الأمرِ كمرةٍ أولى نجدُ الامتعاضَ وعدمَ التقبلِ الذي يتجلى بصورٍ مختلفةٍ, فإنْ تكررَ الأمرُ مراتٍ عدةٍ أصبحَ روتيناً يُشاهدُ ويُسمعُ, وقلَّ عدمُ التقبلِ أو كادَ يتلاشى وحلَّ التعودُ مكانَه, وإنْ كانَ الأصلُ أن يبقى رفضُ هذا الأمرِ الذي يتنافى ومفاهيمَ المسلمِ وعدمَ تقبلهِ ومحاربتهِ بإزالتهِ وإنكارِهِ مستمراً, وإنْ أصبحَ أهلُ الأرض ِجميعاً يعتادونَهُ.
ولكنْ هناكَ عوامل عدةٌ تعملُ على تغييبِ عقلِ المسلمِ وتفكيرِهِ, وإبعادهِ عنْ طريقتهِ في الإدراكِ والحكمِ على الوقائعِ, وبالتالي عدمَ إخضاعهِ الوقائعَ والظواهرَ السلوكيةَ في مجتمعِه للتفكيرِ والعقلِ وإنما يساقُ لقبولِها أو رفضِها من دونِ إدراكٍ لها. ومِنْ هذه العواملَ:

1- حضارةُ الغربِ ومفاهيمهِ التي تحاربُ مفاهيمَ الإسلامِ, بإلباسِها الثوبَ الإسلاميَّ, ودسِها في الحياةِ الإسلاميةِ على أنها منَ الإسلامِ, وفي كثيرٍ منَ الأحيانِ يأخذُ بها المسلمونَ, فأخذَ المسلمونَ بمشاركةِ أهلِ الكتابِ منْ يهودٍ ونصارى أعيادَهم, وقبلوا الديمقراطيةَ والحرياتِ, ورضوا بتقسيمِ البلادِ وباصطناعِ الحدودِ ورفعوا الأعلامَ التي لا دلالةَ لها سوى التفرقةِ والتمزقِ...

2- تقصّدُ أعداء اللهِ ممنْ يسعونَ إلى ترويجِ المنكراتِ في بلادِ المسلمينَ بشكلٍ تدريجي إلى وضعِ ما هوَ حلالٌ في حلةٍ غربيةٍ, كتغيير ِالمسمياتِ والأشكالِ مثلاً, فانتشرتْ البيرةُ الحلالُ, ومشروباتُ ماءِ الشعير ِالتي تباعُ في زجاجاتٍ تشبهُ زجاجاتِ الخمرِ...

الإعلام ودوره الأكثر خطراً في الترويج للمنكرات:
لا شك أن للإعلام دوره الخطير في جعل المسلمين يعتادون المنكر ويألفونه ومن ذلك:

1- يحببُ الإعلامُ صاحبَ المنكرِ للمشاهدينَ بإظهارِ السارقِ والراقصةِ والزاني ولاعبِ القمارِ ومدمنِ الخمرِ والمخدراتِ وغيرهم بمظهرِالضحيةِ أحياناً أوالبطلِ ِالمغامرِ أحياناً أخرى, أو بإظهارِهم بصورةِ الصديقِ الوفي أو الوطنيِ المقاومِ أو المتفاني في خدمةِ ومساعدةِ أبناءِ حيهِ أو المحبوبِ صاحبِ الشخصيةِ الفكاهيةِ المسليةِ...

2- يحاولُ الإعلامُ التركيزَ على جريمةٍ ما ويعملُ على الترويجِ لها بالإكثارِ من طرْحِها في برامجَ حواريةٍ عدةٍ أو في مسلسلاتٍ وأفلامٍ. ولا يفوتُ هذا الإعلامُ الخبيثُ أن يكثرَ من الآراءِ التي تؤيدُ و تزينُ هذه الجريمةَ, فيستضيفُ من يبررُ هذهِ السلوكياتِ المحرمةِ بنسبتهِ لما يسمونهُ بعلمِ النفسِ, أو تأييدِ هذه السلوكياتِ بدعوى الحريةِ والانفتاحِ, حتى إنهُ أحياناً يُكثرُ من طرحِ موضوعٍ ذا وجودٍ ضئيلٍ جداً في بلادِ المسلمينَ فنراهُ يركزُ على الزواجِ العرفيِّ, والمخدراتِ, والشذوذِ الجنسيِّ, والفرق ِبينَ جيلينِ لدفعِ وتحريضِ الشبابِ على التمردِ على والديهم...

3- يلجأ ُالإعلامُ إلى تنفيرِ المسلمينَ من دينِهم وحضارتِهم بتصويرِ الملتزمِ بأحكامِ الشرعِ الإسلاميِّ بصورةِ المتخلفِ الرجعيِّ الذي يعيشُ في زمن ٍغيرِ زمانِه, ويصورُهُ أحياناً بصورةِ المتزمتِ الذي يظلمُ ابنتَه أو أختَه بتزويجِها رغماً عنها, أو بإلزامِها باللباسِ الشرعيِّ الذي يعتبرُ إعلامياً مظهراً للتخلفِ, وما أكثر َالمشاهدَ السينمائيةَ والتلفزيونيةَ التي تظهرُ الشيخَ الملتحيَ المرتديَ للعمامةِ, بصورةِ الأضحوكةِ المغفلِ, أو إظهارِه بصورةِ الإرهابي.
هذه بعضُ أدوارِ الإعلامِ في الترويجِ للمنكراتِ وتحبيبِ المسلمين بها.

وعلى صعيدٍ آخرَ, كفَّ العديدُ من المسلمينَ عن واجبِهم الشرعيِّ تجاهَ اقترافِ هذه المنكراتِ, صحيحٌ أنَّ ضمانَ أمنِ المجتمعِ وخلوهِ من الجرائمِ والفسادِ وبأنْ تعمَهُ السكينةُ, من رعايةِ الشؤونِ, أيْ منْ واجباتِ الدولةِ, ولكنْ على المسلمينَ واجبَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنْ المنكرِ في وجودِ الدولةِ وفي غيابِها, وفي حالِ غيابِها يعظمُ أثرُ هذا الواجبِ حيثُ لا دولةَ ترعى الشؤونَ بما أنزلَ اللهُ, وقدْ جعلَ الإسلامُ هذا الواجبَ من تكاليفِ التكتلاتِ السياسيةِ التي تسعى إلى التغيير ِإلى جانبِ كونِه واجباً على الأفرادِ . يقولُ عز وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104].

ولكنَّ المسلمينَ تقاعسوا عنْ أداءِ هذا الواجبِ, صحيحٌ أنَّ هذا الواجبَ مرتبطٌ بالاستطاعةِ, عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ (رضي الله عنه) قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ: «مَنْ رأى منكمْ منكراً فليغيرهُ بيدِهِ، فإنْ لمْ يستطعْ فبلسانِهِ، فإنْ لمْ يستطعْ فبقلبِهِ، وذلكَ أضعفُ الإيمانِ» (رواهُ مسلم).

فعليهِ أنْ ينكرَ المنكرَ بقلبِهِ, وذلكَ بالغضبِ والسخطِ لحدوثِهِ وعدمِ استحسانِهِ ووجوبِ النفور ِمنهُ, لا أنْ يرضى بالمنكراتِ ويستحسن بعضَها, ويعجَبُ بأصحابِها, على الرغم ِمنْ استطاعتِهِ إنكارها وإزالتها باليدِ أو اللسانِ كأنْ يستحسنَ اقتراضَ صاحبِهِ مالا ًمنَ البنكِ لبناءِ بيتٍ أوْ لشراءِ سيارةٍ ويؤيدُهُ ويشجعُهُ على ذلكَ, ويعتبرُهُ مدبراً لأمورِهِ.
فاللهُ عز وجل قرنَ بينَ صفاتِ العبادِ الصالحينَ والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ, يقولُ سبحانه وتعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة112].

وما أكثرَ آياتِ القرآنِ الكريمِ التي تنصُ على هذا الواجبِ العظيمِ ومنها قولهُ سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج 41]، وقوله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران 110].

وعلى المسلم ِأنْ يعيَ أنَّ الناسَ فئاتٌ: فئة ٌتلتزمُ بحكم ِاللهِ, فتُنـزلُ الأحكامَ الشرعيةَ على الواقعِ, وتُخْضِعُ سلوكَها أعمالاً وأقوالاً لهذهِ الأحكامِ, فتجتنبُ نواهيَ ربِها وتلتزمُ بأوامرِهِ بدافع ِالتقوى, فهي آمنتْ بجنةٍ عرضُها السماواتِ والأرضِ, وبنارٍ وَقودُهَا الناسُ والحجارةُ, فطمعتْ بجنةِ ربِها, وخشيتْ غضبَهُ ونارَهُ.

وفئة ٌترتكبُ المنكراتِ اتباعاً للهوى وتقاعساً عن الحلالِ, ولكنَّها قدْ تستجيبُ إذا أُمرَتْ بمعروفٍ أو نهيَتْ عنْ منكرٍ, فتتحركُ التقوى في نفوسها إذا ما دعيت ِوتتغلبُ على مكائدِ الشيطانِ.

وفئة ٌتعصي اللهَ تكبراً على الحقِ وإعراضاً عنه, فلا تحتاجُ لآمرٍ بمعروفٍ أو ناهٍ عن منكرٍ, لعدم ِاستجابَتِهَا واستكبارِها وإصرارِها على المعصيةِ, وعدم ِمبالاتِها بحكمِ اللهِ, بل تحتاجُ إلى سلطانٍ يقيمُ الحدودَ ويطبقُ نظامَ العقوباتِ, ويحفظُ الأمنَ في مجتمعٍ إسلامي بأفكاره ومشاعره وبأنظمته, فتؤمنُ عقولُ المؤمنين بهِ ديناً وترضاهُ شريعةً, وتخضعُ لهُ رقابُ الغافلينَ عنه قانوناً يطبقُ, ففي المجتمع الإسلامي لا عصيانَ ولا فسوقَ يجاهرُ بهِ أصحابُهُ في وضحِ النهارِ, ولا منكراتٍ ترتكبُ وتُقبلُ, بلْ إسلامٌ يطبقُ, ويدبُ على الأرضِ, فأمنُ المجتمع الإسلامي يعمُ الحياةَ وسكينته تهنأُ بها البشرية.

أم عبد الله/ فلسطين

المصدر : مجلة الوعي

معاذ بن جبل (رضي الله عنه)



«أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل»

لما أشرقت جزيرة العرب بنور الهدى والحق، كان الغلام اليثربي معاذ بن جبل فتًى يافعاً. وكان يمتاز عن أترابه بحدة الذكاء، وقوة العارضة، وروعة البيان، وعلو الهمة. وكان إلى ذلك، قسيماً وسيماً أكحل العين جعد الشعر براق الثنايا، يملأ عين مجتليه ويملك عليه فؤاده. أسلم الفتى معاذ بن جبل على يدي الداعية المكي مصعب بن عمير. وفي ليلة العقبة امتدت يده الفتية فصافحت يد النبي الكريم وبايعته... فقد كان معاذ مع الرهط الاثنين والسبعين الذين قصدوا مكة، ليسعدوا بلقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويشرفوا ببيعته، وليخطوا في سفر التاريخ أروع صفحة وأزهاها... وما إن عاد الفتى من مكة إلى المدينة حتى كوّن هو ونفر صغير من لداته جماعة لكسر الأوثان، وانتزاعها من بيوت المشركين في يثرب في السر أو في العلن. وكان من أثر حركة هؤلاء الفتيان الصغار أن أسلم رجل كبير من رجالات يثرب، وهو عمرو بن الجموح.

كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة، وشريفاً من أشرافهم. وكان قد اتخذ لنفسه صنماً من نفيس الخشب كما كان يصنع الأشراف. وكان شيخ بني سلمة يعنى بصنمه هذا أشد العناية فيجلله بالحرير، ويضمخه كل صباح بالطيب. فقام الفتيان الصغار إلى صنمه تحت جنح الظلام وحملوه من مكانه، وخرجوا به إلى خلف منازل بني سلمة، وألقوه في حفرة كانت تجمع فيها الأقذار... فلما أصبح الشيخ افتقد صنمه فلم يجده، وبحث عنه في كل مكان حتى ألفاه مكباً على وجهه في الحفرة غارقاً في الأقذار فقال: ويلكم من عدا على إلهنا في هذه الليلة؟! ثم أخرجه وغسله وطهره وطيبه وأعاده إلى مكانه وقال له: أي "مناة"، والله لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزيته... فلما أمسى الشيخ ونام تسلل الفتية إلى صنمه وفعلوا به ما فعلوه في الليلة السابقة... فمازال يبحث عنه حتى وجده في حفرة أخرى من تلك الحفر... فأخرجه وغسله وطهره وعطره وتوعد من عدوا عليه أشد الوعيد... فلما تكرر ذلك منهم استخرجه من حيث ألقوه، وغسله... ثم جاء بسيفه فعلقه عليه وقال يخاطبه: والله إني ما أعلم من يفعل بك هذا الذي تراه... فإن كان فيك خير -يا مناة- فادفع عن نفسك... وهذا السيف معك... فلما أمسى الشيخ ونام، عدا الفتية على الصنم وأخذوا السيف المعلق في رقبته وربطوه بعنق كلب ميت وألقوهما في حفرة من تلك الحفر، فلما أصبح الشيخ جد في طلب صنمه حتى وجده ملقًى بين الأقذار مقروناً بكلب ميت منكساً على وجهه. عند ذلك نظر إليه وقال:
تالله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قَرَن [في قرن: مربوطاً في حبل واحد]. ثم أسلم شيخ بني سلمة وحسن إسلامه.

ولما قدم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة مهاجراً، لزمه الفتى معاذ بن جبل ملازمة الظل لصاحبه، فأخذ عنه القرآن، وتلقى عليه شرائع الإسلام، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله، وأعلمهم بشرعه... حدث يزيد بن قُطَيْب قال: دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى جعد الشعر قد اجتمع الناس حوله. فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ. فقلتُ: مِنْ هذا؟! فقالوا: معاذ بن جبل. وروى أبو مسلم الخولاني (أحد كبار التابعين) قال: أتيت مسجد دمشق؛ فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وإذا شاب فيهم أكحل العين براق الثنايا، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى، فقلت لجليس لي: من هذا؟! فقال: معاذ بن جبل.

ولا عجب فمعاذ رُبِّيَ في مدرسة الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ نعومة الأظفار وتخرج على يديه، فنهل العلم من ينابيعه الغزيرة وأخذ المعرفة من معينها الأصيل، فكان خير تلميذ لخير معلم. وحسب معاذ شهادة أن يقول عنه الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل»، وحسبه فضلاً على أمة محمد أنه كان أحد النفر الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ولذا كان أصحاب الرسول إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبةً له وتعظيماً لعلمه.

وقد وضع الرسول الكريم وصاحباه من بعده هذه الطاقة العلمية الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين. فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام يرى جموع قريش تدخل في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة. ويشعر بحاجة المسلمين الجدد إلى معلم كبير يعلمهم الإسلام، ويفقههم بشرائعه، فيعهد بخلافته على مكة لعَتَّابِ بنِ أُسَيْدٍ، ويستبقي معه معاذ بن جبل ليعلم الناس القرآن ويفقههم في دين الله.

ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله صلوات الله عليه، تعلن إسلامها وإسلام من ورائها، وتسأله أن يبعث معها من يعلم الناس دينهم انتدب لهذه المهمة نفراً من الدعاة الهداة من أصحابه وأمر عليهم معاذ بن جبل (رضي الله عنه).
وقد خرج النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يودع بعثة الهدى والنور هذه... وطفق يمشي تحت راحلة معاذ... ومعاذ راكب... وأطال الرسول الكريم مشيه معه، حتى لكأنه كان يريد أن يتملى من معاذ... ثم أوصاه وقال له: «يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا... ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري...». فبكى معاذ جزعاً لفراق نبيه وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليه، وبكى معه المسلمون. وصدقت نبوءة الرسول الكريم فما اكتحلت عينا معاذ (رضي الله عنه) برؤية النبي عليه الصلاة والسلام بعد تلك الساعة... فقد فارق الرسول الكريم الحياة قبل أن يعود معاذ من اليمن. ولا ريب في أن معاذاً بكى لما عاد إلى يثرب فألفاها قد أقفرت من أنس حبيبه رسول الله.

ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرسل معاذاً إلى بني كلاب ليقسم فيهم أعطياتهم، ويوزع على فقرائهم صدقات أغنيائهم، فقام بما عهد إليه من أمر، وعاد إلى زوجه بحِلسِه (ما يوضع على ظهر الدابة تحت السرج) الذي خرج به يلفه على رقبته، فقالت له امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به الولاة من هدية لأهليهم؟! فقال: لقد كان معي رقيب يقظ يحصي علي، فقالت: قد كنتَ أميناً عند رسول الله، وأبي بكر، ثم جاء عمر فبعث معك رقيباً يحصي عليك؟! وأشاعت ذلك في نسوة عمر، واشتكته لهن... فبلغ ذلك عمر؛ فدعا معاذاً وقال: أأنا بعثت معك رقيباً يحصي عليك؟! فقال: لا يا أمير المؤمنين، ولكنني

لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك... فضحك عمر رضوان الله عليه، وأعطاه شيئاً وقال له: أرضها به.
وفي أيام الفاروق أرسل إليه واليه على الشام يزيدُ بن أبي سفيان يقول: يا أمير المؤمنين، إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم بالدين فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام. وهم: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وأبو الدرداء وقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني -رحمكم الله- بثلاثة منكم، فإن أحببتم فاقترعوا وإلا انتدبت ثلاثة منكم. فقالوا: ولم نقترع؟ فأبو أيوب شيخ كبير، وأبي رجل مريض، وبقينا نحن الثلاثة، فقال عمر: ابدؤوا بحمص فإذا رضيتم حال أهلها فخلفوا أحدكم فيها وليخرج واحد منكم إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين. فقام أصحاب رسول الله الثلاثة بما أمرهم به الفاروق في حمص... ثم تركوا فيها عبادة بن الصامت، وذهب أبو الدرداء إلى دمشق ومضى معاذ بن جبل إلى فلسطين.

وهناك أصيب معاذ بالوباء، فلما حضرته الوفاة استقبل القبلة وجعل يردد هذا النشيد: مرحباً بالموت مرحباً... زائر جاء بعد غياب... وحبيب وفد على شوق... ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول: اللهم إنك كنت تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لغرس الأشجار وجري الأنهار... ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر... اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنة. ثم فاضت روحه الطاهرة بعيداً عن الأهل والعشير داعياً إلى الله مهاجراً في سبيله...

وعن عبد الله بن رافع قال: لما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف على الناس معاذ بن جبل، واشتد الوجع فقال الناس لمعاذ: ادعُ الله أن يرفع عنا هذا الرجز، فقال: إنه ليس برجز ولكنه دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يختص الله بها من يشاء من عباده منكم، أيها الناس، أربع خلال من استطاع منكم أن لا يدركه شيء منها فلا يدركه شيء منها، قالوا: وما هنّ، قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل والله لا أدري علام أنا؟ لا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة، ويعطى الرجل من المال مال الله على أن يتكلم بكلام الزور الذي يسخط الله، اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة، فطعن ابناه فقال: كيف تجدانكما؟ قالا: يا أبانا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة] قال: وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين، ثم طعنت امرأتاه فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه ويقول: اللهم إنها صغيرة فبارك فيها، فإنك تبارك في الصغيرة، حتى هلك.

واتفق أهل التاريخ أن معاذًا (رضي الله عنه) مات في طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة، واختلفوا في عمره على قولين: أحدهما: ثمان وثلاثون سنة، والثاني: ثلاث وثلاثون.
ومن جميل مواعظه ما ذكره أبو إدريس الخولاني أن معاذ بن جبل قال: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والصغير والكبير والأحمر والأسود فيوشك قائل أن يقول: مالي أقرأ على الناس القرآن فلا
يتبعوني عليه؟ فما أظنهم يتبعوني عليه حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة.

وعن زهده ذكر مالك الداري أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة فقال للغلام اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ ساعةً في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه، قال: يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا (فدفع) بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم
إخوة بعضهم من بعض.

المصدر : مجلة الوعي

اللغة العربية والقوة الكامنة فيها



بسم الله الرحمن الرحيم

قليلة هي الأبحاث الجادة التي تناولت عظيم اللغة العربية وأثرها في بناء الدولة الإسلامية، ذلك البناء الفكري القائم على ما في هذه اللغة من كنوز لا بد من بعثها والاعتماد عليها في التأصيل الفقهي والفكري، لتحتل قضية التفكير باللغة مكانتها اللائقة بها.

ولعل هذا المقال القصير يندرج ضمن هذا الهدف، وهو لفت الأنظار – ونحن في حمأة الصراع الفكري والكفاح السياسي – إلى أن الاهتمام باللغة العربية قضية مهمة توازي في أهميتها الحديث عن أية قضية سياسية أو فكرية، فلم تعد اللغة تلك القوانين الجامدة والقوالب اللفظية الجاهزة الخاوية من أية أبعاد سياسية وثقافية عامة.

تعد اللغة - أي لغة- وعاء الفكر والثقافة لكل من يتحدث بها، فاللغة لم تكن مجرد وسيلة تخاطب وحسب، بل هي في كل عصر الجامع والهوية والسمة المميزة، وتقف جنباً إلى جنب في هذا الأمر مع الدين الذي يقدم معتقداته وتشريعاته بهذه اللغة، وهذا الأمر ليس خاصاً بلغة دون لغة، بل إنه يشبه القانون المستقر في وعي كل جماعة لغوية وثقافية تمارس طقوس حياتها من خلال لغتها، ولكنها مع اللغة العربية أشد وضوحاً، وذلك لاعتبارات كثيرة.

لقد تشكلت اللغة العربية عبر أجيال كثيرة، وأخذ منها وزيد عليها، وعدل في قوالبها ومفرداتها وهذبت ألفاظها واتسعت معانيها فيما يشبه القانون الداخلي الذي يحكمها، وهي في هذا تشترك مع كل اللغات الأخرى على اعتبار أن اللغة كائن حي يواكب مسيرة البشر الحضارية ويتطور معها ليستطيع حمل ما أنتجه العقل البشري من أفكار، وما ولدته القريحة من أفاويق الخيال.

فاللغة العربية، قد مرت في مراحل يسردها من يتحدث عن فقهها وتاريخيتها، ولكن الذي يعنينا في هذا المقال ذلك القانون التطوري الداخلي الذي يستكنّ فيها، ولعل من أهم مظاهر وضوحه كثرةَ المعاجم اللغوية العربية وتشعب موادها اللغوية، وتكاثر صيغها الصرفية، واعتماد قانون الزيادة الذي يحمل في تبعاته المعاني المختلفة التي قد تصل إلى حد النقيض مع المادة الأصلية، ومن هنا يمكن أن نفهم قول أحد أئمة اللغة العربية، وهو ابن جني في كتابه "الخصائص" معلقاً على التغيرات التي تصيب معنى اللفظ بما يصيبه من تغير صوتي بعبارة: "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، معبرا كذلك عن هذه الظاهرة بقوله: "هذا غَوْر من العربية لا يُنتصَف منه ولا يكاد يُحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غُفْلاً مسهوّا عنه" ، وأكد هذا القانون اللغوي بعض المعاصرين بقولهم: "فالزائد في اللغة -سواء في الصرف أم في النحو- ليس وجوده كعدمه، وإنما هو (الزائد) مجرد اصطلاح صرفي أو نحوي، له وظيفة صرفية أو نحوية، وتلك حقيقة في الدرس اللغوي".

ومن جهة أخرى فإن اللغة العربية تمتاز بظاهرة اختلاف المعنى حسب التراكيب السياقية النحوية، كل ذلك متضافراً أنتج موسوعة لفظية وثقافة لغوية ضخمة تشكل دائرة معارف، ومع كل ذلك ستجد أن هناك نقصاً في كل معجم، ذلك النقص الذي لن يعوضه اجتماع كل المعاجم، وذلك لأن المجهود البشري مهما عظم لن يستطيع أن يستوعب اللغة كل اللغة، وقد كشف عن جوانب من هذا النقص بعض المحققين للمخطوطات القديمة، فقد أشاروا إلى أن كثيراً من ألفاظ لغوية واردة في هذه المخطوطات لا يوجد في أي من المعاجم المؤلفة، فيضطرون إلى إلحاق الكتاب المحقق بمسرد الألفاظ الجديدة مع معانيها التي يفهمونها من سياق الكلام، وهذا من شأنه أن يجعل المعاني نسبية، ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: "كلامُ العرب لا يحيطُ به إلاّ نبيٌّ"، وينسب السيوطي في كتابه المزهر لابن فارس قوله حول هذه العبارة: "وهذا كلام حَريٌّ أن يكوَن صحيحاً وما بَلَغَنا أن أحداً ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلّها" .
هذا جانب من لغتنا يجب أن يدرك جيداً، لأنه ذو دلالة بالغة الأهمية في حركة الفكر العربية الإسلامية ، ونستطيع إدراك بعض خفاياه من تتبع مصادر اللغة العربية، الذي يقف الشعر العربي الجاهلي على رأسها، وذلك لأنه كان يشكل ديوان العرب بحق؛ فهذا الشعر عدا كونه حامل ألفاظ العرب ومعانيها، حاملٌ أيضاً فكرهم ونمط عيشهم وأساليب لغتهم وقوانينهم في التركيب اللغوي السياقي، كل ذلك جعل الشعر العربي في الجاهلية مصدراً مهماً من مصادر تفسير القرآن الكريم، هذا التركيب اللغوي المعجز الذي نزل بلغة عهدها العرب وخبروها وكانوا جهابذتها، يعرفون مداخل بلاغتها ومواطن حسنها ومساقط عيبها، حيث إنه لا يوجد لفظ أو معنى في القرآن الكريم إلا وعرفه العرب أو بعض العرب، فليس في القرآن جديد على لغة العرب سواء في ذلك الألفاظ أم المعاني أم التراكيب، فكلها من جنس اللغة وتراكيبها، ولو كان الأمر غير ذلك لبطُل الإعجاز وانعدم التحدي، فما دام أن اللغة هي اللغة، والأسلوب هو الأسلوب، والمعاني هي المعاني، ومع ذلك لم تستطع العرب الإتيان بمثل هذا القرآن، هنا يكمن الإعجاز اللغوي البياني، والمتمثل كما يذكر البيانيون العرب بمجيء القرآن الكريم على نسق خاص يستوعب المعنى بلا زيادة ولا نقصان، فتنـزل الكلمات في أماكنها بحيث لا يمكن استبدالها بأخرى، وهذا سر، وإن عرف، فمن يستطيع إدراك اللفظ ومساويه تماماً غير الذي أنزل القرآن بعلمه؟!

وهذا ما عبر عنه قديماً الخطابي في معرض حديثه عن الإعجاز اللغوي للقرآن وعجز البشر عن الإتيان بمثله، وذلك في قوله: "إنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور ثلاثة: إن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها، وما تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله" إذن ما زال الإعجاز قائماً وسيظل قائماً، وهذا جانب مهم من جوانب قوة اللغة العربية الذي لا يضمحل ولا يتلاشى مهما حدث.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن اللغة العربية لغة مقدسة أو أنها ذات هالة دينية بمعنى أنه لا إبداع أو ابتداع في صيغها وقوالبها اللفظية، أو أنها جامدة على حال لا تستطيع معها أن تساير كل تقدم وتعبر عن كل مستجدات العصور المتلاحقة، ولو كان الأمر كذلك لأثر القرآن سلبياً على اللغة وبذر فيها بذور الموت من أول ما عبر بها عن الأفكار والمعاني، ولكن القرآن مد اللغة بروح متجدد دائم، على اعتبار أن اللغة القرآنية بمعانيها الثرة القراءة لا تنتهي عند حد، ولا تخلق من كثرة الرد، ففي ألفاظ القرآن ما هو بعيد الأثر في مستقبل المعاني إلى ما بعد تفكيرك فيه في اللحظة التاريخية التي تقرأه فيها، وستظل تكشف عن المعاني كلما تقدم الزمن وترى عجباً، فإنه الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه.

وقد أدرك علماء الأصول هذه الأهمية للغة فجعلوا شرط إتقان اللغة العربية أحد أهم مرتكزات الاجتهاد التي لا يستغني عنها المجتهد مهما بلغ من معرفته بالنصوص، لأنها لغة النص الديني ولغة الفكر والتاريخ المدون، ومعروف أن الاختلافات اللغوية بين علماء اللغة حادة وجادة تغني وتثري وتقنع وتشفع في الاختلافات الفقهية والأفهام التشريعية محل الخلاف بين العلماء في كل زمان وفي كل مكان، وهذا بدوره عامل قوة مستتر ومحرك قوي للغة العربية لا بد من الاستفادة منه على أكمل وجه.
وتكتسب لغتنا العربية باعتبارها وعاء فكر الإسلام أهمية خاصة، وهذه الأهمية أهمية سياسية بالدرجة الأولى على الصعيدين الداخلي والخارجي، فقد كانت هذه اللغة منذ تشكل الكيان الإسلامي السياسي الأول في المدينة المنورة وحتى آخر دولة إسلامية - دولة العثمانيين - اللغة الرسمية للدولة، ولم تتراجع عن مكانتها تلك إلا في أواخر الحكم التركي لدعاوى قومية مشبوهة، عندما انتشرت بدعة التتريك بين العرب وحوربت العربية والعلماء العرب، وقد شكل هذا الأمر بداية حرب لا تخمد وهجوم شرس على هذه اللغة في ظل حركة تركيا الفتاة، هذه الحركة العنصرية التي قسمت الأمة إلى شعوب متصارعة على قوميات ولغويات أدت إلى التشرذم والخواء والخراب في جسد الأمة فتقطعت أوصالها لغوياً وجغرافياً.

وقد أخذت الحرب على اللغة أشكالاً متعددة بعد ذلك، ولم تكن هذه الحرب ليشتعل أوارها لولا أولئك الحكام المنتمون إلى فكر غير فكر الأمة الذين جاءوا من رحم غير شريفة من بوتقة أفكار الغرب وابتداعاته الضالة، وكان أغلبها في سياق بعث القومية ونسبة كل شيء إليها، حتى إن بعض المفكرين الذين دافعوا عن اللغة العربية كان دفاعهم من منطلق قومي، وليس من منطلق إسلامي ديني.
ولم يكن هذا بطبيعة الحال أول الخلل، ولكن ما عانته اللغة من إهمال كان قبل ذلك، عندما تولى الحكم من لا يعرف العربية فأهمل أمرها، وذلك منذ القرن السادس الهجري، وخسر المسلمون جراء ذلك خسارتين على أقل تقدير: الأولى في تجميد حركة اللغة والقضاء على تطورها، وجعلها تحيا في سبات، والثانية: الخسارة التشريعية والفقهية الجديدة التي تبث الحياة في الأمة وتجعلها تواكب مسيرتها الحضارية كما بدأتها بقوة.

ويمكن القول: إن سبب الانحطاط الذي تحياه الأمة يرجع إلى شيء واحد، هو الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام. وسبب هذا الضعف هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية حين أهمل أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه، فما لم تمزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية بأن تجعل اللغة العربية -التي هي لغة الإسلام- جزءاً جوهرياً لا ينفصل عنه فسيبقى الانحطاط يهوي بالمسلمين، لأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها، بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملاً إلاّ بها، ولأن بإهمالها سيبقى الاجتهاد في الشرع مفقوداً، ولا يمكن الاجتهاد في الشرع إلاّ باللغة العربية، لأنّها شرط أساسي فيه، والاجتهاد ضروري للأمّة، لأنّه لا تقدم للأمّة إلاّ بوجود الاجتهاد.

ويبدو أن الضعف في اللغة وفهمها وإدراك مرامي أحوالها أدى إلى عجز الحل التشريعي لأمور حدثت كثيرة، فاضطرب على الدولة فهم الأحكام، وبالطبع اضطرب عليها تطبيقها، مما أدى إلى حلها بطريقة أقرب إلى الارتجالية؛ فكان لذلك أثر كبير في الدولة أضعفها وأضعف فهم الحوادث المتجددة، مما جعل المشاكل التي تحدث لا تعالج أو تعالج معالجة غير صحيحة، فجعل هذا أمام الدولة مشاكل تتراكم إلى أن سببت لها الهزال والاضمحلال، فولد إشاعة الفوضى والإحساس بعدم الاكتراث، ومع شيوع هذا الأمر أدى إلى زعزعة داخلية بين صفوف الناس، فكان له الآثار السلبية على الحكم المبني على الشريعة الإسلامية، الذي وصل إلى أقصى مدى في اعتماد قوانين أجنبية بحجة عدم مخالفتها للإسلام، فدخل في الإسلام ما ليس منه، وبذلك حدث الانكسار الفكري الداخلي، الذي يعد الأساس المتين في انكسار الدول، فإذا ما التقى انكسار داخلي وانكسار عسكري وسياسي انحطت الدولة وذهب سلطانها.

وهذا كان للأسف مكمن الداء في الدولة العثمانية، فلم تكن هذه الدولة دولة فكرية تشريعية اجتهادية، بل كانت دولة ذات توجهات صوفية لدى الحكام وعلية القوم يشيعونها في الداخل ويشبعونها بمشاعر دينية وجدانية عامة، وسيطرة عسكرية وجبروت سياسي في الخارج، فعندما ضعفت الجيوش سرعان ما تراجعت الدولة وانحسر ظلها، لتتقوقع في نهاية المطاف في دولة تركيا (الحديثة).

وتبقى قضية مهمة في هذا الحديث وهو أن العلاقة بين اللغة وأصحابها تكاد تكون تبادلية وجدلية؛ فاللغة الحية تحيا في ظل قوم أحياء، فتعطيهم ما لديها من مكنونات وطاقات، على أن يعطوها ما لديهم من قوة وبأس في التفكير، ولعله ليس غريباً أن نقول: إن أول تدهور في حال المسلمين كان نتيجة إهمال اللغة، ولن تكون الدولة الإسلامية دولة قوية فكراً وواقعاً إلا إذا كان الاهتمام باللغة العربية في المقام الأول، فتزدهر بذلك الناحية الفكرية والاجتهادية، وعلى الدولة أن تعد لهذا الأمر عدته من توفير علماء ومجتهدين لغويين في النحو والصرف والبلاغة وعلم الأسلوب وتستفيد من الفكر اللغوي التركيبي والبنيوي الذي يفتح آفاقاً لمعرفة العلاقات اللغوية بين الألفاظ وتراكيبها ومعانيها، مما يسهل عملية الوصول إلى لب اللباب ومعرفة أدق الصواب في مسائل بالغة التعقيد وتحتاج إلى عمق نظرة في التسديد.

إن الحزب العامل للتغيير، وقد وضع يده على مكمن الداء وذلك بالسير في طريق النهضة الفكرية الصحيحة، قد أخذ بعين الاعتبار هذا الجانب المهم في لغة القرآن الكريم والنصوص التشريعية الأخرى، فكانت الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية وإحيائها، وبث الوعي اللغوي بين الأفراد العاملين، وهي دعوة ذات مغزى كبير ومهم على طريق التقدم في تحقيق الأهداف الموضوعة، فاعتماد طريق النهضة لا بد له من فهم النصوص التشريعية القرآنية والنبوية بوصفها مصدراً تشريعياً، وكان لازماً أن تفهم من جهة لغتها وأساليبها ومرامي معانيها والغوص في مكنوناتها حتى تتمكن من فهم صحيح تشريعي للإسلام في ظل تطورات جديدة بحاجة ملحة إلى حل.

فراس حج محمد/ فلسطين

المصدر : مجلة الوعي