الخميس، 6 أكتوبر 2011

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (7)


بسم الله الرحمن الرحيم

الصيدلة والصناعة الطبية
الصَّيْدَلَةُ لَفْظٌ فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ يَدُلُّ في الأصلِ على بيعِ العِطْرِ، واصطلاحًا يَدُلُّ على العلمِ الذي يختصُّ بتركيبِ وصرفِ الأدويةِ العلاجيةِ، والصَّيْدَلَةُ تربطُ علومَ الصحةِ بعلومِ الكيمياءِ، وهيَ تُعْنَى بسلامةِ ونجاعةِ الأدويةِ.
والصيدلةُ كالتطبيبِ خدمةٌ صحيةٌ يجوزُ للفردِ أنْ يَعْرِضَها للناسِ بشكلٍ خاصٍّ، كأنْ يقومَ بفتحِ صيدليةٍ ويصرفَ الدواءَ، أوْ يُنْشِئَ مصنعًا للدواءِ بقصدِ الربحِ. إلا أَنَّ كَوْنَ الصيدلةِ قدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ إنْ لمْ يَكُنِ المتعاطي لها منْ أهلِ العلمِ بفنونِها يجعلُها كالتطبيبِ بحاجةٍ إلى ترخيصٍ مِنَ الدولةِ لممارسَتِها، وذلكَ مَنْعًا للضررِ المترتبِ على مباشرةِ الجاهلِ لصُنْعِ الدواءِ وَصَرْفِهِ، وَفْقَ القاعدةِ «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وَمَنْ باشَرَ أعمالَ الصيدلةِ أوْ صَرَفَ دواءً دونَ إذنٍ وترخيصٍ فَأَضَرَّ بمريضٍ ضَمِنَ مقدارَ ضررِهِ وجنايتِهِ، وعوقِبَ تَعْزِيرًا مِنْ قِبَلِ الدولةِ سواءَ أَوَقَعَ الضررُ بالمريضِ أمْ لمْ يَقَعْ.

وفوقَ ذلكَ فإنَّ على الدولةِ أنْ تُشْرِفَ على صُنْعِ الدواءِ وإنتاجِهِ مباشرَةً، لِما أخرجَهُ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ: «صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ»، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّوَاءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ»، وَأَخرجَ البيهقيُّ وأَبو داودَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِى دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهَا»، صحَّحَهُ الألبانيُّ. ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يَدُّلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النَّهْيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تمنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ.

وعملاً بالأدلَّةِ القاضيَةِ بأنَّ التطبيبَ واجبٌ على الدولةِ مجانًا لرعيتِها، وكَوْنَ الإمامِ راعيًا وهوَ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ، فإنَّ الدولةَ تُوَفِّرُ الدواءَ للمرضى، إما بشرائِهِ مِنْ مصانِعِ الدواءِ وشركاتِهِ في الدولةِ أوْ في الخارِجِ، وإمَّا بإنشاءِ مصانعَ للدواءِ تملِكُها الدولةُ وتنتجُ الأدويةَ المطلوبةَ. وتُشَكَّلُ لجنةٌ مِنَ الأطباءِ والصيادلةِ تُحَدِّدُ الأدويةَ التي على الدولةِ أنْ تُوَفِّرَهَا مجانًا، وهيَ الأدويةُ التي يُسَبِّبُ عدمُ توفيرِها للمريضِ ضررًا بصحتِهِ، دونَ الأدويةِ والمستحضراتِ الكماليةِ. كمَا تُحدِّدُ هذهِ اللجنةُ الأدويةَ التي لا تُصْرَفُ إلا بِوصفَةٍ منَ الطبيبِ، والأدويةَ التي يستطيعُ الصيدليُّ صَرْفَها دونَ وصفةٍ منَ الطبيبِ، وكلُّ هذا منْ رعايَةِ الإمامِ لرعيتِهِ وهيَ واجبةٌ عليهِ.

ولأنَّ الدواءَ حاجةٌ حيويةٌ قدْ يُؤَدِّي نقصُها أوْ فقدانُها إلى ضررٍ على الفردِ والجماعةِ، فإنَّ الدولةَ تبذلُ قُصارَى جهدِها في تحقيقِ الاكتفاءِ الذاتيِّ في صُنْعِ الدواءِ، حتى لا تحتاجَ إلى استيرادِ الدواءِ وبالتالي تتعرضُ لابتزازِ الدولِ الكافرةِ أوْ ضغوطِها السياسيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. وإذا استوردَ الأفرادُ أوِ الدولةُ الدواءَ منْ دولٍ أخرى فلا بُدَّ أنْ يُخْضَعَ الدواءُ المستوردُ للفحوصِ والتحليلِ على يَدِ الصيادلةِ والكيميائيينَ في الدولةِ الإسلاميةِ قَبْلَ أنْ يُصْدَرَ ترخيصٌ منْ مصلحةِ الصحةِ بجوازِ استيرادِهِ، خصوصًا وأنَّ شركاتِ الأدويةِ العالميةِ لمْ تتورعْ في السابقِ عنْ بيعِ شحناتٍ منَ الدواءِ الفاسدِ للمسلمينَ، كشحناتِ الدمِ المُلَوَّثِ بالإيدز، الذي ارسلتهُ شركاتُ الأدويةِ الفرنسيةِ مطلعَ ثمانيناتِ القرنِ الماضي إلى العراقِ وليبيا وتونسَ والجزائرِ. وصحيحٌ أنَّ دليلَ البيعِ والتجارةِ عامٌّ لقولِهِ سبحانه وتعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة 275]، إلا أنَّ القاعدةَ الشرعيةَ تقضِي بأنَّ الشيءَ المباحَ إذا كانَ فردٌ منْ أفرادِهِ يُؤَدِّي إلى ضررٍ، يُمْنَعُ ذلكَ الفردُ ويبقى ذلكَ الشيءُ مباحًا، وهذهِ القاعدةُ اسْتُنْبِطَتْ منْ منعِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجيشَ أنْ يشربَ منْ بئرِ ثمودَ وهوَ في طريقهِ إلى تبوكَ، ذَكَرَهُ ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ وَقالَ عنهُ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ إِنَّهُ مُرْسَلٌ صحيحُ الإسنادِ.

ونشيرُ هنا إلى أَنَّ المصانعَ في الدولةِ الإسلاميةِ ومنْها مصانعُ الدواءِ تقومُ على أساسِ الصناعةِ الحربيةِ، ولذلكَ تكونُ مصانعُ الدواءِ (سواءً التابعةُ للأفرادِ أمْ الدولةِ) مُعَدَّةً وقابلةً دائمًا لمتطلبات الصناعة الحربية والمُضَادَاتِ الحيويةِ والتطعيماتِ ضِدَّ الأسلحةِ البيولوجيةِ على أوسعِ نطاقٍ مُمْكِنٍ وفي أسرعِ وقتٍ.
الْكَوَارِثُ وَالْحَالاَتُ الاسْتِثْنَائِيَّةُ

تعتبرُ الكوارثُ الطبيعيةُ مِنْ براكينَ وزلازلَ وأعاصيرَ وفيضاناتٍ، والكوارثُ الحربيةُ مِنَ الهجومِ بأسلحةِ الدَّمَارِ الشاملِ مِنْ أسلحةٍ بيولوجيةٍ وكيماويةٍ ونوويةٍ، حالاتٍ استثنائيةٍ تَتَطَلَّبُ التحضيرَ والتهيئةَ المُسْبَقَةَ لمحاولةِ منعِها والتقليلِ منْ تأثيرِها أوِ للتعامُلِ معَ آثارِها بسُرعةٍ وفعاليَّةٍ.

ومنْ مُنطلقِ رعايةِ الشؤونِ الواجبةِ على الخليفةِ تجاهَ رعيتهِ كما روى الإمامُ مسلمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ: "الأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، ومنعًا أوْ إِزالةً للضررِ المُتَرَتِّبِ على مثلِ هذهِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ، لما رواهُ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ بسندٍ صحيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ (رضي الله عنه): "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَضَى أَنْ لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وإغاثَةً للمنكوبينَ والملهوفينَ ممنِ ابْتُلُوا بهذهِ الكوارثِ منَ الرعيةِ حيثُ روى الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ بإسنادٍ جيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، فَإِنَّ الدولةَ الإسلاميةَ مسؤولةٌ عَنِ الإعدادِ الوقائيِّ ضِدَّ هذهِ الكوارثِ، وعنِ التهيئةِ المسبقةِ لمواجهةِ هذهِ الكوارثِ حالَ وقوعِها، وعنْ إعادةِ بناءِ ودعمِ المناطِقِ المنكوبةِ بعدَ الكوارثِ.

غيرَ أنَّ كَوْنَ الدولةِ الإسلاميةِ هيَ المسؤولُ الأولُ عنْ علاجِ آثارِ مثلِ هذهِ الكوارثِ لا يعني أنَّ المسلمينَ كأفرادٍ مُعْفَوْنَ مِنَ المساعدةِ والمساهمةِ في جهودِ التَّصَدِّي للكوارثِ، لأنَّ أدلةَ إزالةِ الضَّرَرِ وأدلَةَ وجوبِ إغاثَةِ الملهوفِ والمُصَابِ أدلةٌ عامَّةٌ، تشملُ الدولةَ والأفرادِ، كقولِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»، رواهُ أبو داودَ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، أَخْرَجَهُ الطبرانيُّ في الكبيرِ وقالَ الهيثميُّ: «إسنادُهُ جَيِّدٌ». وقولِهِ عليهِ وآلهِ الصلاةُ والسلامُ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رواهُ البخاريُّ. كلُّ هذهِ الأدلةِ عامةٌ توجِبُ إغاثَةَ الملهوفِ على أفرادِ المسلمينَ كما توجِبُها على الدولةِ، ولذلكَ فإنَّ الدولةَ تُجنِّدُ وتستعينُ بكلِّ منْ يلزَمُ مِنَ الرعيةِ المسلمينَ في مجهودِ الإغاثَةِ حالَ وقوعِها، وتهتمُّ بتنظيمِهِمْ للاستفادَةِ القصوى مِنْ مجهودِهِمْ وحمايَتِهِمْ حالَ عَمَلِهِمُ الإغاثِيِّ والتنسيقِ بينَهُمْ وبينَ الكوادِرِ الرسميةِ المختصَّةِ، كما وأنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تفرِضَ الضريبةَ على أغنياءِ المسلمينَ بما يَفْضُلُ عَنْ حاجاتهمْ بالمعروفِ للإنفاقِ على المجهودِ الإغاثيِّ إذا لمْ تكفِ الأموالُ في بيتِ المالِ لذلكَ.

ولأنَّ الكوارثَ قدْ تختلفُ تبعًا للمناطقِ المختلفةِ في الدولةِ الإسلاميةِ، فبعضُ المناطقِ يكونُ مُعَرَّضًا للزلازلِ بينَما يُعاني البعضُ الآخرُ منَ الفيضاناتِ أوِ الأعاصيرِ، فإنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تُعَيِّنُ لجنةً مِنَ المختصينَ في كلِّ ولايةٍ وظيفتُها الإعدادُ لمواجهةِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ في الولايةِ، ويكونُ عملُها على أربعةِ أصعدَةٍ:
1) العملُ المُسْبَقُ للحدِّ منْ وقعِ الكوارثِ ونتائِجِها: تحاولُ هذِهِ اللجانُ منعَ تفاقُمِ المخاطِرِ وَتَحَوُّلِها إلى كوارثَ، أوْ تخفيفِ تأثيرِ الكوارثِ حالَ حدوثِها، عنْ طريقِ إجراءاتٍ ووسائلَ استباقيةٍ هيكليةٍ كإنشاءِ السُّدُودِ وشبكاتِ الصرفِ لمنعِ الفيضاناتِ، وبناءِ المساكِنِ مُرْتَفِعَةً على أعمدةٍ في المناطقِ المعرضةِ للفيضاناتِ، أوْ إنشاءِ أقْبِيَةٍ وملاجِئَ تحتَ الأرضِ في المناطِقِ المعرضةِ للأعاصيرِ والعواصفِ أوِ القصفِ. وكذلكَ عنْ طريقِ إجراءاتٍ استباقيةٍ غيرِ هيكليةٍ كبعضِ القوانينِ التي يَتَبَنَّاهَا الخليفةُ وَيُلْزِمُ الرعيةَ بِها، مثلَ وَضْعِ صَمَّامَاتِ أمانٍ لأنابيبِ الغازِ والنفطِ لإغلاقِها في حالِ حُصولِ الزلازلِ، أوْ حمايَةِ بعضِ الأراضي لاستعمالِها كحاجِزٍ وفاصِلٍ في وجْهِ الفيضاناتِ أوِ انبعاثاتِ البراكينِ، أوْ برامجِ إرشادِ الرعيةِ لكيفيةِ التصرُّفِ الصحيحِ حالَ حُصولِ الكوارثِ. هذهِ الإجراءاتُ (الهيكليةُ وغيرُ الهيكليةِ) تُعْتَبَرُ مِنَ الوقايةِ، وَهِيَ منْ أنجعِ الوسائلِ لمنعِ الكوارثِ أوِ التخفيفِ منْ حِدَّتِها.

2) وَضْعُ خُطَطِ العَمَلِ للكَوارِثِ: تضعُ لجانُ مواجهةِ الكوارثِ خُطَطًا مُسْبَقَةً لمواجهةِ الكوارثِ، ومنْ هذهِ الخططِ تدريبُ وتهيئةُ طواقمِ الإغاثةِ المختلفةِ منْ قواتٍ خاصةٍ وقواتِ الشرطةِ والجيشِ لمواجهةِ آثارِ الكوارِثِ، وَمِنْهَا وَضْعُ وسائلِ اتصالٍ ولُغَةٍ مشتركةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ لطواقمِ الإغاثةِ لمنعِ البَلْبَلَةِ، وَمِنْهَا تطويرُ وسائلِ إنذارٍ مُبَكِّرٍ وخُطَطِ إخلاءٍ مُبَكِّرٍ وَمَآوٍ بديلةٍ لساعاتِ الكوارثِ، وَمِنْهَا خُطَطٌ لتأمينِ وتوصيلِ المؤَنِ والموادِّ الغذائيةِ والمعداتِ للمنكوبينَ، وَمِنْهَا أَيْضًا برامجُ تدريبٍ لطواقمٍ منَ الرعيةِ لمساعدةِ قواتِ الإغاثةِ التي لا تكونُ كافيةً وقتَ الكارثةِ عادَةً. وهذهِ الخططُ تُعدُّ لمعالجةِ آثارِ الكارثةِ الطبيعيةِ أوِ الحربيةِ حالَ حصولهِا على عكسِ الإجراءاتِ الوقائيةِ في البندِ السابقِ.

3) التعاملُ مَعَ الكارثَةِ: لمواجهةِ الكارثةِ حالَ حصولِها تقومُ هذِهِ اللجانُ بإدارَةِ المجهودِ الإغاثيِّ بتوجيهِ ونقلِ طواقمِ ومعدَّاتِ الإغاثةِ الأوليَّةِ إلى المناطقِ المنكوبةِ، ومنْ ثمَّ مواصلةِ دعمِ هذهِ الطواقمِ الأوليةِ وتزويدها بالطواقمِ الثانويةِ والمتطوعينَ. وتوضَعُ قواتُ الشرطةِ وقواتٌ منَ الجيشِ تحتَ تصرُّفِ اللجانِ في حالةِ كَوْنِ الكارثةِ طبيعيةً أو حربيةً لكنَّ الحربَ انتهتْ أوْ تَوَقَفَتْ ولا خوفَ مِنَ الهجومِ على الدولةِ، أما إنْ كانتِ الكارثةُ حربيةً والحربُ ما زالتْ جاريةً فالأولويةُ لقواتِ الجيشِ هيَ في صدِّ العدوِّ والمجهودِ الحربيِّ لا الإغاثِيِّ.
ومنَ المهمِّ أنْ تهتَمَّ اللجانُ خلالَ المجهودِ الأوليِّ المتمثلِ بالبحثِ عنِ الضحايا وإنقاذِهِمْ، بتزويدِ المناطِقِ المنكوبَةِ بالاحتياجاتِ الإنسانيَّةِ الأساسيَّةِ بعدَ زوالِ إعصارٍ مَثَلاً، أوْ نقلِ السُّكانِ إلى مناطِقَ آمنَةٍ أخرى بعدَ تفجُّرِ بركانٍ وبقائِهِ نَشِطًا، ولذلكَ تتحدَّدُ خُطَةُ العملِ بالتزويدِ أوِ الإخلاءِ وَفْقَ طبيعةِ الكارثةِ ومدى الخطرِ المُتَمَثِّلِ في بقاءِ السُّكانِ في المناطقِ المنكوبةِ.

4) إصلاحُ نتائِجِ الكارثَةِ: تقومُ اللجانُ بعدَ الكوارثِ بوضْعِ خُططٍ للتعامُلِ معَ نتائِجِ الكارثَةِ بعدَ جُهودِ الإغاثَةِ الأوليَّةِ لإعادَةِ وضعِ المناطقِ المنكوبَةِ إلى ما كانتْ عليْهِ قبلَ الكارثَةِ معَ الاستفادةِ منَ الأخطاءِ السابقَةِ في الإجراءاتِ الهيكليَّةِ وغيرِ الهيكليَّةِ والتَحَرُّزِ مِنْها. وتشملُ الجهودُ في هذهِ المرحلةِ إعادَةَ إصلاحِ البُنى التحتيةِ والمباني المتضرِّرَةِ، وإعادَةَ تأهيلِ المناطقِ المنكوبةِ وتعميرَها.

ولا يَعْني إنشاءُ لجنةٍ لمواجهةِ الكوارثِ في كلِّ ولايةٍ أنَّ باقي الولاياتِ لا تُشارِكُ في المجهودِ الإغاثيِّ، بلْ إنَّ كلَّ هذِهِ اللجانِ تكونُ مرتبطةً وتعملُ معًا بالتنسيقِ لمواجهةِ الكارثةِ أينَمَا كانتْ، على أَنَّ إدارةَ العملياتِ الإغاثيةِ تكونُ منْ قِبَلِ اللجنةِ في الولايةِ المنكوبةِ، وتكونُ مواردُ باقي اللجانِ تحتَ تَصَرُّفِهَا. ورسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، رواهُ البخاريُّ. ويقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضًا: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رَوَاهُ البخاريُّ. كَما أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَمَدَّ الأَعْرَابَ في عامِ الرَّمَادَةِ بالإبلِ والقمحِ والزيتِ مِنْ كُلِّ أَرْيَافِ المسلمينَ، حَتى بَلَحَتِ الأَرْيافُ كُلُّها (أَيْ أَجْهَدَتْ وَتَعِبَتْ وَلَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا) مِمَا جَهَدَهَا ذلكَ، رَوَى ذلِكَ البُخارِيُّ في الأدبِ المفردِ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ. وكانَ عامُ الرَّمَادَةِ عامَ قَحْطٍ وَجُوعٍ، سُمِّيَ بذلكَ لأَنَّ الأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ المطرِ حتى عادَ لَوْنُها شَبِيهًا بِالرَّمادِ، أَو لأنَّ الريحَ كانَتْ تَسْفِي تُرَابًا كَالرَّمَادِ، حتى بَلَغَ عَدَدُ الأَعْرَابِ الذينَ وَفَدُوا إلى المدينةِ طَلَبًا للقوتِ أكثَرَ منْ خمسينَ ألفًا، وَذَكَرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ: "كَتَبَ عُمَرُ (رضي الله عنه) إلى أَبي مُوسى (رضي الله عنه) بالبصرةِ أَنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، وكتبَ إلى عمرو بنِ العاصِ (رضي الله عنه) بمصرَ أنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، فبعثَ إليهِ كلُّ واحدٍ منهُما بقافلةٍ عظيمةٍ تحملُ البُرَّ وسائرَ الأُطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ ميرةُ عمرو (رضي الله عنه) في البحرِ إلى جدَّةَ ومنْ جدَّةَ إلى مكَّةَ". وقالَ ابنُ كثيرٍ إِنَّ هذا الأَثَرَ جيدُ الإسنادِ، وَكَذلِكَ فَعَلَ عُمَرُ (رضي الله عنه) مَعَ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ (رضي الله عنه) في العِرَاقِ وَمُعاوِيَةَ في الشَّامِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ.

أما فِرَقُ المنظماتِ الدوليةِ وفرقُ الإنقاذِ والإغاثةِ التابعةِ للدولِ الكافرةِ فتُمْنَعُ منْ دُخولِ البلادِ بِحُجَّةِ المساعدةِ في المجهودِ الإغاثيِّ، لأنَّ مثلَ هذهِ المنظماتِ المُسْتَتِرَةِ تحتَ شعاراتِ الإنسانيَّةِ وإغاثَةِ المنكوبينَ عادَةً ما تستغلُّ الكوارثَ لدخولِ البلادِ والعملِ التبشيريِّ كمحاولاتِ التَنْصِيرِ التي حَصَلَتْ بعدَ التسُونَامِي الذي ضَرَبَ إندونِيسْيَا، أوْ لِخَطْفِ الأطفالِ كما حَصَلَ معَ المنظمةِ الفرنسيةِ التي حاولَتْ اختِطافَ الأطفالِ التشادِيِينَ، أوْ للعملِ السياسيِّ أوْ الاستخباراتيِّ ودعمِ جماعاتِ المتمردينَ وإثارةِ الفِتَنِ كما حصلَ في دارفورَ في السودانِ. فَضَرَرُ هذهِ المنظماتِ قَطْعًا أعظمُ منْ نَفْعِهَا، بلْ إنَّ دخولَها لدارِ الإسلامِ ولوْ بِحُجَّةِ الإغاثَةِ يُمَهِّدُ لِزَرْعِ الفتنِ وَجَعْلِ سُلْطَانٍ لدولِ الكفرِ على الدولةِ الإسلاميةِ، واللهُ سبحانه وتعالى يأمرُنا بألاَّ نجعلَ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. والمساعداتُ الخارجيةُ منْ أموالٍ ومواردَ تُمْنَعُ كذلكَ منْ دُخولِ الدولةِ لأنَّها عادةً ما تكونُ وسيلةً لتهريبِ السلاحِ أوْ لتمهيدِ الطريقِ نحوَ إنشاءِ مصالِحَ لدولِ الكفرِ داخلَ البلادِ.

وفي المقابلِ، إذا كانتْ الكارثةُ في دولةٍ منْ دولِ الكفرِ، فإنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تساعدَ في الأعمالِ الإغاثيَّةِ بإرسالِ الطواقمِ المُخْتَصَّةِ أوِ المساعداتِ، وَفْقَ ما يراهُ الخليفةُ منْ مصلحةٍ للدولةِ وللدعوةِ إلى الإسلامِ، على أنْ لا تُؤَدِّي هذهِ المساعداتُ إلى تقويةِ الدولةِ المنكوبةِ عسكريًّا.

وقدِ استجابَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستغاثَةِ قريشٍ، وَكَتَبَ إلى ثُمَامَةَ بْن أُثَالٍ الْحَنَفِيّ بأنْ يَسْمَحَ للميرةِ بالوصولِ إلى قريشٍ وهيَ على الكفرِ وَعداءِ الإسلامِ آنذاكَ، وَذَكَرَ ابنُ هشامٍ ذلكَ في سيرَتِهِ فقالَ: "خَرَجَ (أي ثُمَامَةَ) إلَى الْيَمَامَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا، وَقَدْ قَتَلْت الآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ".

الخَاتِمَةُ
تَناوَلْنا في هذهِ الصفحاتِ أُسُسَ وأهدافَ وبعضَ نواحي الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ مُنْبَثِقَةً أَحْكامُها وَمَبْنِيَةً أفكارُها على أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ. وتبرزُ أهميةُ مثلِ هذهِ الرعايةِ الصحيةِ وَأَثَرُها حينَ نتذكرُ أَنَّهُ في هذا الزَّمانِ الذي يُدَّعَى أَنَّهُ يَشْهَدُ تَقَدُّمًا علميًّا وطبيًّا لا مثيلَ لهُ، نتذكرُ أَنَّ حوالي 2.6 مليارَ شخصٍ في العالمِ هُمْ أكثرُ منْ ثُلْثِ سكانِهِ ومنهمْ 980 مليونَ طفلٍ، يفتقرونَ إلى أبسطِ مرافقِ المياهِ والصرفِ الصحيِّ، ويموتُ يوميًّا 35 ألفَ طفلٍ بسببِ الجوعِ والمرضِ، ويقضِي خُمْسُ سكانِ البلدانِ الناميةِ بقيةَ اليومِ وهمْ يَتَضَوَّرُونَ جوعًا.

نتذكرُ أنَّ 100 مليونَ شخصٍ حولَ العالمِ لا مأوى لهمْ، ومليارَ شخصٍ (ما يقربُ منْ 17% منْ سكانِ الأرضِ) يعيشونَ في بيوتٍ مؤقتةٍ غيرِ آمنةٍ تفتقدُ الخدماتِ الأساسيَّةِ. نتذكرُ أنَّ ما يقربُ منْ ثلاثة آلاف مليونَ شخصٍ يعيشونَ تحتَ ما يُسَمَّى بخطِّ الفقرِ وهوَ دولارانِ أميركيانِ في اليومِ، ومنْ بينِ هؤلاءِ هنالكَ 1.2 مليارَ إنسانٍ يحصلونَ على أقلِ منْ دولارٍ واحدٍ يوميًّا. نتذكرُ أنَّ خُمْسَ سكانِ العالمِ يفتقرونَ لأبسطِ الخدماتِ الصحيةِ الاعتياديةِ. نتذكرُ كُلَّ هذا ونتذكرُ أَنَّنَا نتحدثُ عنْ أَدْنَى مقوماتِ الحياةِ، سَلَبَتْها الرأسماليةُ منْ أكثرِ البشرِ على الأرضِ، وأَبدلتْهُمْ بِها البؤسَ والشقاءَ بمفاهيمِها.

إِنَّ مفهومَ الرعايةِ أوسعُ منْ أَنْ يُحْصَرَ بالصحةِ، والإسلامُ حَدَّدَ حاجاتِ الإنسانِ الأساسيةَ، وَضَمِنَ إِشباعَها إشباعًا كاملاً بنظامٍ رَبَّانِيٍّ منْ لَدُنِ حَكيمٍ خبيرٍ، رؤوفٍ رحيمٍ. فَقَدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ عنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ وَجِلْفِ الْخُبْزِ وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ»، صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر وأخرجهُ الحاكمُ في المستدركِ وصَحَّحَهُ ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وروى الإمامُ أحمدُ عَنْ أَبِي عَسِيبٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَيْلاً فَمَرَّ بِي، فَدَعَانِي إِلَيْهِ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا بُسْرًا». فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَصْحَابُهُ (رضي الله عنهم)، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ (رضي الله عنه) الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَئِنَّا لَمَسْؤُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟"، قَالَ: "نَعَمْ، إِلا مِنْ ثَلاثٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقُرِّ»، صَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ. والحديثانِ نصٌّ شَرْعِيٌّ في أَنَّ الحاجاتِ الأساسيةَ هيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، ولا يستطيعُ أيُّ إنسانٍ الاستغناءَ عنْ واحدةٍ مِنْها، ولذلكَ كانَ إِشباعُها حقًّا لِكُلِّ إنسانٍ يأخذُهُ بوصفِهِ حقاً منْ حقوقِهِ التي يجبُ أنْ يَصِلَ إليْها.

وكما أن هناك حاجات أساسية للأفراد، فإن هناك حاجات أساسية للرعية، يجب على الدولة توفيرها:
الأمن والصحة والتعليم.
أما الأمن فهو من واجبات الدولة الرئيسة، فعليها أن توفر الأمن والأمان للرعية، حتى إن الدولة تفقد كينونتها إذا لم تستطع حفظ أمنها، ولذلك فإنه شرط في دار الإسلام أن تكون الدولة الإسلامية قادرة على حفظ أمنها بقواتها، ولهذا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أخبر المسلمين بدار هجرتهم ذكر الأمن أول ما ذكر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه في مكة فيما رواه ابن اسحق في سيرته: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَاناً وَدَاراً تَأْمَنُونَ بِهَا»، كما أن الأنصار عندما استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه أبا بكر، قالوا لهما أول ما قالوا، كما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمائةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حتى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا. فقالت الأنصارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ»، فتوفير الدولة الأمان للرعية هو من واجباتها الرئيسة.

أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون، في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة. وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب:
أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه».
وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مرضت في زمان عمر بن الخطاب مرضاً شديداً، فدعا لي عمر طبيباً فحماني حتى كنت أمص النواة من شدة الحمية».
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه حاكماً بعث طبيباً إلى أبيّ، وعمر (رضي الله عنه) الخليفة الراشد الثاني دعا بطبيب إلى أسلم ليداويه، وهما دليلان على أن الصحة والتطبيب من الحاجات الأساسية للرعية التي يجب على الدولة توفيرها مجاناً لمن يحتاجها من الرعية.

وأما التعليم، فلأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل فداء الأسير من الكفّار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم، وهي ملك لجميع المسلمين... ولإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم.

وعليه فإنه يجب على الدولة أن توفر الأمن والطب والتعليم للرعية جميعهم، وأن يضمنها بيت المال، لا فرق بين مسلم وذمي، ولا بين غني وفقير...
ولأهمية الحاجات الأساسية للفرد وللأمة فقد بيَّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن توفير هذه الحاجات يكون كحيازة الدنيا بأكملها كناية عن أهمية هذه الحاجات، فقد أخرج الترمذي وابن ماجة من طريق سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ وكانت له صحبة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وفي الختام نقول إننا قدْ طَرَقْنا هذا البابَ فقط مِنْ زاويةِ الحاجاتِ الأساسيةِ للأفراد، والحاجات الأساسية للأمة التي ضَمِنَ الإسلامُ إِشْباعَها، دونَ الحديثِ عنْ إِحسانِ الرعايةِ والقيامِ على مصالحِ الناسِ بما يُصْلِحُها، الأَمْرُ الذي أَوْجَبَهُ الإسلامُ على الإمامِ، والشافعيُّ: يقولُ: «منزلةُ الإمامِ مِنَ الرعيةِ منزلةُ الوَلِيِّ مِنَ اليتيمِ».

أَمَّا الرأسماليةُ، فقدْ حَرَمَتِ الناسَ الخرقةَ والكسرةَ وهدمتِ الحجرَ، وَأَوْرَثَتْهُم السقمَ والجهلَ والخوفَ، وَمَحَتْ مفهومَ رعايةِ الشؤونِ منَ الأذهانِ. إِنَّ ذِكْرَ الرأسماليةِ يورثُ المرضَ، ويُسقمُ النفوسَ الزكيةَ المتطلعةَ إلى رضى الرحمنِ، وما لمْ يُجْتَثَّ هذا المرضُ منْ جَسَدِ الإنسانيةِ، بقيتْ تَصْطَلِي بنارِهِ وَشَقْواهُ.
فإلى عفوٍ منَ اللهِ وعافيةٍ ندعوكُمْ أيُّها المسلمونَ، إلى علاجِ النفوسِ والقلوبِ وإخراجِ الناسِ منَ الظلماتِ إلى النورِ ندعوكُمْ، إِلى العملِ لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ، على منهاجِ النُّبوةِ الخاتمةِ، إلى الرُّشدِ والصلاحِ ندعوكمْ، فَهَلْ تُلَبُّونَ؟
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال 24]. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[انتهى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات].

المصدر: مجلة الوعي

الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (6)


بسم الله الرحمن الرحيم

القطاع العام والقطاع الخاص

تكونُ الرعايةُ الصحيةُ في الدولةِ الإسلاميةِ مجانيةً وشاملةً منْ قِبَلِ الدولةِ، وعلى الدولةِ أنْ تُوَفِّرَ كلَّ ما يلزمُ منْ معدَّاتٍ وخدماتٍ صحيةٍ للمرضى، مما يُشَكِّلُ عَدَمُ توفيرِهِ لهمْ ضررًا عليهِمْ. ولكنْ لا يُمْنَعُ الأفرادُ أوِ الشركاتُ في الدولةِ الإسلاميةِ منْ تقديمِ الخدماتِ الصحيةِ الخاصةِ، أوْ فَتْحِ العياداتِ والمستشفياتِ الخاصةِ، ولا يُمنعُ أَحَدٌ مِنَ الرعيةِ منَ التداوي في القطاعِ الخاصِّ، والدليلُ على ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قال: «دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ». فالغلامُ هنا قامَ بالحجامةِ وقبضَ أجرهُ منَ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويُشْتَرَطُ في مَنْ يُقَدِّمُ الرعايةَ الصحيةَ منَ القطاعِ الخاصِّ، سواءَ أكانَ فردًا أم شركةً، أَنْ يلتزمَ بقوانينِ الدولةِ ورقابَتِها، وَيُشترطُ أيضًا أنْ يكونَ مَنْ يُقَدِّمُ أيًّا مِنَ الخدماتِ الصحيةِ مُؤَهَلاً لذلكَ، سواءَ أَعَمِلَ في القطاعِ الخاصِّ أوِ العامِّ، ومنْ يُقَدِّمُ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ دونَ أنْ يكونَ مؤهلاً لتقديمِها يُمْنَعُ منْ قِبَلِ الدولةِ وَيُعاقَبُ، وأما إذا أدَّى إلى ضررٍ بِعَمَلِهِ هذا فهوَ ضامِنٌ لِمَا سَبَّبَ منْ ضررٍ بإقدامِهِ على ما ليسَ مِنَ اختصاصهِ.

والدليلُ على هذا عامٌّ وخاصٌّ، فأما الدليلُ العامُّ فهوَ قاعدَةُ لا ضررَ ولا ضرارَ، حيثُ إنَّ ممارسةَ العلاجِ أوِ الرعايةِ الصحيةِ منْ قِبَلِ مَنْ لا عِلْمَ لهُ بها قَدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ بالمريضِ. يقولُ الماورديُّ في الأحكامِ السُّلطانِيَّةِ عندَ حديثِهِ عَمَّنْ يُؤْخَذُ وُلاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ: "فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ: فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ؛ لأَنَّ للطَّبِيبِ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا. فَيُقَرُّ مِنْهُمْ (أيِ الأطباءُ والمعلمونَ) مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الآدَابُ." وَيَنْقُلُ القرافيُّ في الذَخيرَةِ عنِ الإمامِ مالكٍ قولَهُ: “يَنْهَى الإمَامُ الأَطِبَّاءَ عَنْ الدَّوَاءِ إِلاَ طَبِيبًا مَعْرُوفًا، وَلاَ يُشْرَبُ مِنْ دَوَائِهِمْ إِلاَ مَا يُعْرَفُ”. أمَّا الدليلُ الخاصُّ، فقدْ روى أبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجَةَ وغيرُهُمْ عنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَوْلَهُ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإسْنادِ، ووافقهُ الذهبيُّ، وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «لا أَعْلَم خِلافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِج إِذَا تَعَدَّى فَتَلِفَ الْمَرِيض كَانَ ضَامِنًا، وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلاً لا يَعْرِفهُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا تَوَلَّدَ مِنْ فِعْله التَّلَف ضَمِنَ الدِّيَة وَسَقَطَ الْقَوَد عَنْهُ لأَنَّهُ لا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ دُون إِذْن الْمَرِيض»، انتهى.

وكانَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُشْرِفُ عَلى إنتاجِ الأدويةِ أيضًا، أخرجَ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّواءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ». ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يدلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النهيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تَمْنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ. وهذهِ الأدلةُ تُبَيِّنُ أنَّ للدولةِ أنْ تُشْرِفَ على القطاعِ الصحيِّ الخاصِّ، بلْ إنَّ ذلكَ واجبٌ عليها.

نظام الصحة الإداري
يقومُ النظامُ الإداريُّ للرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ على البساطةِ والإسراعِ في تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ والعلاجِ، كما يقومُ على الكفايةِ فيمنْ يَتَوَلَّوْنَ الإدارَةَ. وهذا مأخوذٌ منْ واقعِ إنجازِ المصالحِ بشكلٍ عامٍّ، فصاحبُ أيِّ مصلحةٍ إنما يَبْغِي سرعةَ إنجازِها وَإنجازَها على الوجهِ الأكملِ، والرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ فيما رواهُ الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». فالإحسانُ في قضاءِ الأعمالِ مأمورٌ بهِ مِنَ الشرعِ. وللوُصولِ إلى هذا الإحسانِ في قضاءِ المصالحِ لا بُدَّ أنْ تتوفرَ في الإدارةِ ثلاثُ صفاتٍ، إِحداها البساطةُ في النظامِ لأنَّها تُؤَدِّي إلى السهولةِ واليُسْرِ، والتعقيدُ يوجِدُ الصعوبةَ. وثانِيَتُها الإسراعُ في إِنْجَازِ المعاملاتِ لأنهُ يُؤَدِّي إلى التسهيلِ على صاحبِ المصلحةِ. وثالِثَتُها القدرةُ والكفايةُ فيمنْ يُسْنَدُ إليهِ العملُ، وهذا يوجِبُهُ إحسانُ العملِ كما يَقْتَضِيهِ القيامُ بالعملِ نَفْسِهِ.

وبالنسبةِ للمصالحِ الصحيةِ بشكلٍ خاصٍّ، فالسرعةُ والبساطةُ والبُعدُ عنِ التعقيدِ في المعاملاتِ الإداريةِ أَوْلى وَأَهَمُّ، إذْ إنَّ المرضَ حاجةٌ مُلِحَّةٌ قدْ يُؤَدِّي تأخيرُ علاجِهِ إلى تَفَاقُمِهِ وزيادةِ الضررِ الناتجِ عنْهُ، ثمَّ إنَّ المريضَ لا تُطِيقُ نفسُهُ المماطلةَ والانتظارَ وتعقيداتِ المعاملاتِ. ومما يُقَلِّلُ منَ التعقيداتِ والمعاملاتِ الإداريةِ في إدارةِ الرعايةِ الصحيةِ توحيدُ كافةِ الخدماتِ والمنشآتِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ في جهازٍ واحدٍ، على رأسِهِ مديرُ عامِّ مصلحةِ الصحةِ، ويليهِ في السُّلَّمِ الإداريِّ مدراءُ الدوائرِ المقسمَةِ حسبَ الولاياتِ، ثمَّ مدراءُ الإداراتِ المقسمةِ حسبَ العمالاتِ، بحيثُ تَتَوَلَّى مصلحةُ الصحةَ شؤونَ المصلحةِ ذاتِها وما يتبعُها منْ دوائرَ وإداراتٍ فرعيةٍ، وتتولى الدائرةُ شؤونَ الدائرةِ نفسِها وما يتبعُها منْ إداراتٍ متفرعةٍ عنها في عمالاتِ الولايةِ. ويكونُ أطباءُ العائلةِ وممرضاتُ المدارسِ ومراكزُ رعايةِ الأمِّ والطفلِ والمراكزُ الصحيةُ والمستشفياتُ والصيدلياتُ وكلُّ مرافِقِ وعُمَّالِ الصحةِ الأخرينَ مسؤولينَ أمامَ مُديرِ الإدارةِ في العمالةِ التي يَتْبَعونَ لها.

أما منْ حيثُ تمكينُ كلِّ الرعيةِ منَ الحصولِ على الخدمةِ الصحيةِ اللازمةِ فيتمُّ على النحوِ التالي:
يكونُ في كلِّ عمالةٍ عددٌ منَ المراكزِ الصحيةِ التي تَحوي أطباءَ عائلةٍ وممرضاتٍ وصيدليةً وطاقمَ طوارئٍ وسياراتِ إسعافٍ، حسبَ عددِ سكانِ العمالةِ وبُعْدِ المناطقِ السكنيةِ عنْ بعضِها، بحيثُ لا يكونُ لكلِّ طبيبِ عائلةٍ عددٌ كبيرٌ منَ المرضى يَعْجَزُ معهُ عنْ تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ لهمْ بسرعةٍ وبإحسانٍ، وبحيثُ لا يكونُ المركزُ الصحيُّ بعيدًا جدًّا عنِ المريضِ. وإذا حصلَ وكانَ سَكَنُ أَحَدِ الرعيةِ معزولاً وبعيدًا عنْ أقربِ تَجَمُّعٍ سكنيٍّ، وُضِعَتْ تَحْتَ تَصَرُّفِ أقربِ مركزٍ صحيٍّ إليهِ وسائلُ نقلٍ تضمنُ نقلَ المريضِ إلى المركزِ في أيِّ وقتٍ لِتَلَقِّي أيِّ خدمةٍ طبيةٍ سواءَ أكانتْ طارئةً أمْ لا، أوْ نقلِ الدواءِ إلى المريضِ.

مَنْ أرادَ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ غيرِ طارئةٍ يتوجهُ إلى طبيبِ العائلةِ، ويقومُ الأخيرُ بتقديمِ هذهِ الخدمةِ إِنْ كانتْ في مجالِ تخصُّصِهِ وعِلْمِهِ، وإلا أحالَ المريضَ إلى مُخْتَصٍّ آخرَ أوْ إلى المُستشفى بحسبِ المشكلةِ الصحيةِ وَضَرورةِ تقديمِ العلاجِ دونَ تأخيرٍ.
مَنْ كانَ لديهِ مشكلةٌ صحيةٌ مُزْمِنَةٌ كالسُّكَرِي أوْ ضغطِ الدَّمِ أوْ مرضِ القلبِ أوْ المفاصلِ أوْ غيرِ ذلكَ، يقومُ بزياراتٍ دوريةٍ ومتابعةِ المرضِ والعلاجِ عندَ طبيبٍ مختصٍّ في هذا المرضِ المُزْمِنِ، وعلى طبيبِ العائلةِ أنْ يُتابِعَ المريضَ أيضًا عنْ طريقِ الإطِّلاعِ على تقريراتِ الطبيبِ المختصِّ الدوريةِ.

مَنْ أرادَ خِدْمَةً صحيةً طارئةً يتصلُ بالإسعافِ، ويقومُ أقربُ طاقمِ إسعافٍ بتقديمِ العلاجِ الأوليِّ ونقلِ المريضِ إلى المُستشفى فورًا.على الدولةِ أَنْ تُنْشِئَ في كلِّ عمالةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ، يحوي التخصصاتِ الأساسيةِ كالباطنيةِ والجراحةِ والأطفالِ وما إلى ذلكَ، ويحوي أيضًا قسمًا للطوارئِ. وعلى الدولةِ أنْ تهتمَّ أنْ يكونَ في كلِّ ولايةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ يحوي بالإضافةِ إلى التخصصاتِ الأساسيةِ تخصصاتٍ فرعيةً وأقسامًا للأمراضِ النادِرَةِ، وتتحدَّدُ هذهِ الأقسامُ حسبَ الأمراضِ الموجودةِ في تلكَ الولايةِ، إذْ قدْ توجدُ أمراضٌ في مناطقِ الشرقِ الأقصَى ولا تُعرفُ في أفريقْيَا.

بَنْكُ الْمَعْلُومَاتِ وَالدَّوَاوِينِ وَالْمَلَفَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ الإلِكترونِيَّةِ: على مصلحةِ الصحةِ في الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تُنشِئَ سجلَ معلوماتٍ إلكترونيًّا لكلِّ فردٍ منْ أفرادِ الرعيةِ يحوي كلَّ التفاصيلِ الصحيةِ المتعلقةِ بِهِ، ويحوي كلَّ المشاكِلِ الصحيةِ التي عَانَى منها والخدماتِ أوِ الأدويةِ التي تَلَقَّاهَا، وتُسْتَقَى هذهِ المعلوماتُ منْ مراكزِ رعايةِ الأمِّ والطفلِ وممرضاتِ المدارسِ والمستشفياتِ وأطباءِ العائلةِ وكلِّ جهازٍ إداريٍّ صحيٍّ آخرَ في الدولةِ، بحيثُ تُدَوَّنُ في سِجِلٍّ إلكترونيٍّ واحدٍ. والهدفُ مِنْ مثلِ هذا التدوينِ هُوَ إطلاعُ كلِّ منْ يريدُ تقديمَ خدمةٍ صحيةٍ لهذا المريضِ على ماضيهِ الصحيِّ لِيَسْهُلَ عليهِ تشخيصَ المشاكلِ الصحيةِ ووصفَ العلاجِ الملائِمِ.

ولأنَّ الطبيبَ مُسْتَشَارٌ، وَ«المستشارُ مُؤْتَمَنٌ» كما روى أبو داودَ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ، وَجَبَ أَنْ تكونَ هذهِ المعلوماتُ عنِ المريضِ سريةً لا يَطَّلِعُ عليها إلا المريضُ نفسُهُ أوْ مَنْ أَذِنَ لهُ المريضُ بذلكَ، لأنَّ المرضَ مما يُكتَمُ عادَةً ولا يُرْغَبُ بِاطِّلاَعِ الناسِ عليهِ. وَفَضْلاً عنْ ذلكَ، فإنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ في الحديثِ الذي حَسَّنَهُ الألبانيُّ مِنْ رِوايةِ الترمذيِّ وأبي داودَ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»، والتفت هنا تعني أن صاحب الحديث ينظر حوله خشية إن يتسمع على حديثه أحد، وهو كناية عن أن ما يتحدث به هو خاص بمن يُحدثه، ولهذا كان حديثه أمانة عند من يتحدث إليه، وحديث المريض للطبيب هو من هذا القبيل، أي هو أمانه لأن المريض يخص به الطبيب ولا يحب أن يطلع عليه أحد غير مأذون له. وأيضا فقد روى مسلمٌ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والتحدثُ بأسرارِ المريضِ مِنَ الغيبةِ لأنهُ ذِكْرٌ للمريضِ بما يَكْرَهُ، والغيبةُ محرمةٌ لقولِهِ تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات:12).

وَتُسْتَثْنَى منْ وُجوبِ الكتمانِ المعلوماتُ الصحيةُ التي قدْ يُسَبِّبُ كتمانُها ضررًا على الجماعةِ، كإخفاءِ مَرَضٍ مُعْدٍ أوْ عَدَمِ التبليغِ عنْ مريضٍ يُسَبِّبُ عَمَلُهُ خَطَرًا على الجماعةِ، كسائِقِ طائرةٍ أوْ شاحنةٍ مُصَابٍ بالصَّرَعِ، وهذا منْ بابِ منعِ الضررِ وإزالَتِهِ الذي هوَ واجبٌ شرعًا. والاستثناءُ هنا محصورٌ بتبليغِ الجهاتِ التي تُعالِجُ هذا الضررَ المُحْتَمَلَ وتمنَعُهُ، لا بتبليغِ أيِّ شخصٍ آخرَ.

تعليم الطب والتأهيل المهني والبحث العلمي
نهى الإسلامُ عنْ ممارسةِ التطبيبِ ممنْ لمْ يُعْرَفْ منهُ الطِّبُّ، فقدْ جاءَ في الحديثِ المرفوعِ الذي رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجةَ عنْ عُمَرَ بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقدْ صَحَّحَ الحاكمُ إسنادَ هذا الحديثِ ووافقهُ الذهبيُّ. ولفظُ تَطَبَّبَ في الحديث من التَّطَبُّبِ على وزنِ تَفَعُّل، وهوَ يدلُّ على تَكَلُّفِ الشيءِ والدخولِ فيهِ بِكُلْفَةٍ، كَكَوْنِهِ ليسَ مِنْ أهلِهِ، أوْ كَوْنِهِ مِنْ أهلِ عِلْمِهِ النَّظَرِي لكنَّهُ لا يُحْسِنُ تَطْبِيقَهُ.

ولذلكَ كانَ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تَضَعَ معاييرَ يُعْلَمُ منْ خِلالها منْ هوَ الطبيبُ منْ غيرِهِ، وأنْ تمنعَ مَنْ لمْ تنطبقْ عليهِ هذهِ المعاييرُ منْ مزاولةِ الطِّبِّ. فإنْ تَكَلَّفَ ما لمْ يكُنْ منْ مجالِ عِلْمِهِ أوْ تَخَصُّصِهِ فَأَضَرَّ بالمريضِ فإنهُ يكونُ مسؤولاً عنْ جِنَايَتِهِ، وضامنًا بِقَدْرِ ما أحدثَ منْ ضررٍ، لأنهُ يُعتبرُ بعملهِ هذا مُتَعَدِّيًا، ويكونُ الضمانُ في مالِهِ. ويُشْمَلُ مُساعدو الأطباءِ منْ مُمَرِّضينَ وأَخِصَّائِيِّي أَشِعَّةٍ أو صَيادلةٍ وَغَيْرِهمْ في الحكمِ بالضمانِ أيضًا على منْ مارسَ منهُمْ المهنةَ دونَ أهليةٍ مُعتبرةٍ للقيامِ بها وأضرَّ بالمريضِ.

ولذلكَ تُقيمُ الدولةُ لجنةً مِنَ الأطباءِ المُتَخَصِّصِينَ ورجالِ التدريسِ مُهِمَّتُهُمْ وَضْعُ برنامجٍ لتدريسِ الطبِّ في الجامعاتِ، ووضعِ الحدِّ الأدنَى منَ الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبِ مِنَ الطبيبِ أَنْ يُلِمَّ بها وَيُتْقِنَها حتى يُمْنَحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ. وتوضَعُ أيضًا برامجُ لِكُلِّ تخصصٍ طبيٍّ مِنْ قِبَلِ المتخصصينَ في ذلكَ المجالِ لمنحِ ترخيصٍ بمزاولةِ تخصصاتِ معينةٍ مِنَ الطبِّ لمنْ يُتْقِنُها، وذلكَ كالجراحةِ والباطنيةِ وطبِّ الأطفالِ وما إلى ذلكَ، وَتُؤَسَّسُ لجانٌ مشابهةٌ لمهنِ التمريضِ والصيدلةِ وباقي المواضيعِ المتعلقةِ بالطبِّ.

أما الأطباءُ الذينَ درسُوا الطبَّ في جامعاتٍ خارجَ الدولةِ الإسلاميةِ فَيُنْظَرُ، فإنْ كانَ قدْ عَمِلَ في الطبِّ مُدَّةً كافيةً في تلكَ الدولةِ بحيثُ اكْتَسَبَ خبرةً ودِرَايَةً في مجالِهِ، مُنِحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ، وإنْ لمْ يَكُنْ قدْ عَمِلَ مدةً كافيةً أُخْتُبِرَ في الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبةِ ممنْ دَرَسَ الطبَّ في الدولةِ الإسلاميةِ، فإنْ اجتازَ الاختبارَ مُنِحَ ترخيصًا، وإلا فإنَّهُ يُدَرَّسُ ما يَنْقُصُهُ مِنْ الموادِّ والمهاراتِ حسبَ نتيجةِ الاختبارِ ثُمَّ يُمْنَحُ الترخيصَ.

ويتولى جهازُ الحسبةِ منعَ أيِّ شخصٍ لمْ يحصلْ على الترخيصِ الملائمِ مِنْ تقديمِ الخدمةِ الصِّحِيَّةِ، ولا يُكْتَفَى بمجردِ تضمينِهِ الضررَ الناتجَ عنْ فعلِهِ، بلْ يُعَزَّرُ بمقدارِ ما ادَّعَى منْ علمٍ ومارسَ منْ مهنةٍ لمْ يَكُنْ أهلاً لها، ويُعاقبُ ويُشَهَّرُ بِهِ، لأنَّ إدعاءَ الأهليةِ والعلمِ مِنَ الجاهلِ غِشٌّ نهى عنْهُ الشَّرْعُ، فقدْ روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وفي حديثٍ آخرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عندَ مسلمٍ أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».

كما وتهتمُّ الدولةُ بتدريسِ المهاراتِ الطبيةِ الأساسيةِ كالإسعافاتِ الأوليةِ والإنعاشِ القلبيِّ في دوراتٍ خاصةٍ ومجانيةٍ، وتكونُ هذهِ الدوراتُ إلزاميةً لأفرادِ الشُّرْطَةِ والجيشِ والمعلمينَ في المدارسِ، واختياريةً لباقي الرعيةِ. وَيُقَامُ جهازٌ خاصٌّ بالإرشادِ الصحيِّ يكونُ تابعًا لمصلحةِ الصحةِ ومُرْتَبِطًا بمصلحةِ الإعلامِ وظيفتُهُ تقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ العامةِ للرعيةِ عَنْ طريقِ الإعلامِ، وتقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ الخاصةِ لِكُلِّ قطاعٍ وَفْقَ ما يلزمُهُ، كالإرشاداتِ الخاصةِ لِعُمَّالِ المناجِمِ، والقواتِ المُسَلَّحَةِ، والسائقينَ وغيرِهمْ.

وَكَوْنُ علمِ الطبِّ اليومَ يتقدمُ بخطواتٍ واسعةٍ، فإنَّ على الدولةِ أيضًا أنْ تَحُثَّ الأطباءَ على مواصلةِ التَّتَبُّعِ ودراسةِ كُلِّ ما يجدُّ مِنْ اكتشافاتٍ أوْ اختراعاتٍ، حتى يَتَمَكَّنُوا منْ تقديمِ خيرِ الخدماتِ الصحيةِ وأكثرِها تقدُّمًا وتطورًا. ويكونُ ذلكَ عَنْ طريقِ دعمِ وتشجيعِ النشراتِ العلميةِ الدَّوْرِيَّةِ وتوزيعِها على الأطباءِ، وعنْ طريقِ المؤتمراتِ والدوراتِ المكثفةِ الدوريةِ للأطباءِ، كُلٌّ في مجالِ تَخَصُّصِهِ. وقدْ سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجهلَ داءً، وجعلَ شفاءَهُ السؤالَ والتعلُّمَ، ففي روايةِ أبي داودَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ، شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ»، والحديثُ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وَالْعِيُّ معناهُ الجهلُ، وأَلْحَقَ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِهِمُ الْوَعِيدَ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي الإِثْم قَتَلَةً لَهُ، ولهذا كانَ على الأطباءِ أنْ يَتَعَلَّمُوا ما هُوَ جديدٌ؛ لأنَّ الجهلَ ببعضِ المستجداتِ الطبيةِ قدْ يترتبُ عليهِ إلحاقُ أذًى وضررٍ بالمريضِ.

ولا يُكْتَفَى بمجردِ تَتَبُّعِ ما هوَ جديدٌ، بلْ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تكونَ في طليعةِ الدولِ في البحثِ والابتكارِ العلميِّ ومنهُ الطبيُّ. وبالرغمِ مِنْ أنَّهُ لجميعِ أفرادِ الرعيةِ الحقُّ في إنشاءِ المختبراتِ العلميةِ المتعلقةِ بكافةِ شؤونِ الحياةِ ومنها الطبُّ، إلا أنَّهُ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تقومَ هِيَ بإنشاءِ هذِهِ المختبراتِ. وتُهَيِئُ الدولةُ المكتباتِ وسائرَ وسائلِ المعرفةِ في غيرِ المدارسِ والجامعاتِ لتمكينِ الذينَ يرغبونَ منْ مواصلةِ الأبحاثِ في الطبِّ وسائرِ العلومِ والمعارفِ، ومنْ مواصلةِ الاختراعِ والاكتشافِ وغيرِ ذلِكَ، حتى يوجَدَ في الأمةِ حشدٌ مِنَ المجتهدينَ والمبدعينَ والمخترعينَ، وحتى تُشَجِّعَ العلماءَ والأطباءَ على بذلِ الوسعِ في الإبداعِ والابتكارِ لتحقيقِ السَّبْقِ في المجالِ العلميِّ.

إلا أنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تَخُصُّ بعضَ الأمراضِ والمجالاتِ الطبيةِ بمزيدِ دَعْمٍ للبحثِ العلميِّ فيها، كالأمراضِ الوبائيةِ المنتشرةِ أوْ الأمراضِ المُسْتَعْصِيَةِ، دونَ نظرٍ إلى المردودِ المادِّيِّ مِنْ الاكتشافاتِ أوِ الابتكاراتِ العلميةِ في هذهِ المجالاتِ.
وتُنْشِئُ الدولةُ صندوقَ جوائزٍ طِبِّيَّةٍ منْ بيتِ المالِ يُكافئُ العلماءَ والأطباءَ الذينَ يكتشفونَ العلاجاتِ واللقاحاتِ، ويُقَدِّمُ هذا الصندوقُ أكبرَ الجوائِزِ لمُنْتِجِي العلاجاتِ أوْ سُبُلِ الوقايةِ مِنَ الأمراضِ الأخطرِ والأكثرِ انتشارًا في العالمِ.
وَقَدْ حَثَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوِي، والبحثِ عنِ الدواءِ، فقالَ عليهِ وآلهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ حينَ سَأَلَهُ الأعرابُ عنِ التداوِي: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أَوْ قَالَ دَوَاءً- إِلا دَاءً وَاحِدًا» قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «الْهَرَمُ»، وهَذَا حَدِيثٌ صَحَّحَهُ الألبانيُّ وأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.

وعندَ الحاكمِ في المستدركِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِمْ يُنْزِلْ داءً إِلا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»، وَقالَ الحاكِمُ: «هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». وقولُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فيهِ حَثٌّ عَلَى عَدَمِ اليَأْسِ مِنْ اكتشافِ الدواءِ أوِ العلاجِ الأمثلِ لأيِّ مرضٍ.
وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الشِّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ أَنْ تُعَلِّمَ حَفْصَةَ زَوْجَهُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو داودَ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: "أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ"، والنَّمْلَةُ هِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مِنَ الْجَنْبِ أَوْ الْجَنْبَيْنِ. وَفِي هذا الأَمْرِ مِنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِشَارَةٌ إِلى تَدْرِيسِ عُلُومِ الطِّبِّ وَأَسالِيبِ العِلاجِ.

وفي هذا المقامِ منَ المهمِّ أنْ نَذكُرَ أنَّ ما يُسمَّى بحقوقِ الطبعِ وبراءةِ الاختراعِ المتَّبَعَةِ في الأنظمةِ الرأسماليةِ، هيَ شروطٌ غيرُ شرعيةٍ، لا يجبُ الالتزامُ بها، لأنَّ مُقتضى عقدِ البيعِ في الإسلامِ، كما يُعطي للمشتري حقَّ الملكيةِ يُعطيهِ أيضًا حقَّ التصرفِ بما يملكُ، وكلُّ شرطٍ مخالفٍ لمقتضى عقدِ البيعِ باطلٌ يكونُ المشتري في حِلٍّ منهُ، ولو كانَ مائةَ شرطٍ، فعنْ عائشةَ (رضي الله عنها): "أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال:َ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاء لِمَنْ أَعْتَقَ»، متفقٌ عليهِ. فالحديثُ يدلُّ بمنطوقهِ على أنَّ الشرطَ المخالفَ لِما في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ لا يجوزُ الالتزامُ بهِ، ولأنَّ شروطَ حمايةِ الملكيةِ الفكريةِ تجعلُ الانتفاعَ بالعينِ المباعةِ مَقْصُورًا على انتفاعٍ دونَ انتفاعٍ آخرَ، فَهِيَ شروطٌ باطِلَةٌ ومُخالِفَةٌ لما في كتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رسولِهِ، لكوْنها مُخَالِفَةً لمقتضى عقدِ البيعِ الشرعيِّ الذي يُمَكِّنُ المُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُفِ والانتفاعِ بالعينِ بأيِّ وجهٍ مِنَ الوجوهِ الشرعيةِ كالبيعِ والتجارةِ والتصنيعِ والهِبَةِ. وإنَّ الشروطَ التي تُحَرِّمُ الحلالَ شُروطٌ باطلةٌ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، رواهُ الترمذيُّ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ. وعليهِ فإنَّهُ لا يجوزُ شَرْعاً أنْ تكونَ حقوقُ الطَّبْعِ أوِ النَّسْخِ أوْ براءَةِ الاختراعِ محفوظةً، بلْ هيَ حقوقٌ مُبَاحَةٌ.

ولا تُحاسِبُ الدولةُ ولا تَمْنَعُ أيًّا مِنَ الشركاتِ أوِ الأفرادِ تحتَ حُكْمِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ والانتفاعِ بما استَوْرَدُوهُ أوْ نَقَلُوهُ مِنْ دُوَلٍ أُخْرَى، وذلكَ ضِمْنَ حُدُودِ الشرعِ، مثلَ تحليلِ الأدويةِ المَحْمِيَّةِ دوليًّا ببراءةِ إختراعٍ ثمَّ إعادَةِ تصنيعِها وفق الأسس الطبية الصحيحة وبَيْعِها، أوْ إعادَةِ طبعِ المقالاتِ العلميةِ وَنَشَرْها دونَ إِذْنٍ مِنْ كاتِبِها أوْ ناشِرِها.

ولا يُنْظَرُ إلى ما يُسمَّى باتفاقيةِ حقوقِ الملكيةِ الفكريةِ (TRIPS)، أوْ الاتفاقيةِ العامةِ للتعريفاتِ والتجارةِ (GATT)، حيثُ إنَّ هذهِ الاتفاقياتِ مُحَرَّمَةٌ شرعًا وشروطُها لا تُلْزِمُ المسلمينَ، أما العقوباتُ الدوليةُ أوِ المقاطعةُ التجاريةُ التي قدْ تَسْتَخْدِمها الدولُ الأخرى أوِ الأمَمِ المتحدةِ ضدَّ الدولةِ الإسلاميةِ في حالِ خَرْقِ هذِهِ الاتفاقياتِ فهيَ مسألةٌ سياسيةٌ ينبغي للدولةِ التعاملُ مَعَها دونَ التنازلِ أوْ مخالفَةِ الشرعِ، ويمكنُ أنْ يستخدمَ الإعلامُ لمحاولةِ كَشْفِ الجَشَعِ الرأسماليِّ واستغلالِهِ لهذهِ الاتفاقياتِ لحرمانِ الدولِ والشعوبِ الفقيرةِ منَ الانتفاعِ بخيراتِ الْعِلْمِ، ومحاولةِ استمالةِ الرأيِ العالميِّ منْ أجلِ كَسْرِ هذهِ الاتفاقياتِ والتخلصِ منْ تَبِعَاتِهَا.

المصدر:
مجلة الوعي