الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 23-24


مجتمعنا

إن المجتمع الذي نعيش فيه هو مجتمع كأي مجتمع, ومكوناته هي مكونات أي مجتمع, ومقوّماته هي مقوّمات أي مجتمع, وما يصلح أي مجتمع يصلحه ، وما يقوم أي مجتمع يقومه . إلا أنه كما اشترطنا وجوب معرفة الواقع الذي نريد أن نحكم عليه ونعالجه ، لا بد من معرفة كل شيء عنه ، ومعرفة ظروفه وأحواله وما يتعلق به . ولذلك كان لابد من تطبيق هذه القاعدة على هذا الواقع ، أي على مجتمعنا نحن ، الذ نريد معالجته . فلا يكفي فيه معرفة مكوناته أو مقوماته حتى يصار إلى معالجتها فوراً. بل لابد من معرفة مجتمعنا معرفة تجلو كل غموض ، وتزيل كل إبهام ، وتلقي الضوء الكاشف على كل جانب فيه ، فهل مازال يقوم على وحدة الأفكار والمشاعر؟ وهل الأعراف والتقاليد مازالت موجودة ، أم تلاشت وهل حل بدلها أعراف وعادات وتقاليد جديدة؟ وهل النظام المطبق عليه ، والحافظ لوحدته السياسية منبثق من عقيدة الناس أم يخالفها ويناقضها ؟ وهل الهيئة التنفيذية فيه أنابتها الأمة لتطبيق هذا النظام عليها ؟ أم أنها فئة باغية متسلطة؟ وهل هي مرتبطة بغيرها؟ –عميلة – أم أنها مخلصة لذاتها ولمجتمعها ؟ أم أن كل شيء قد تلاشى وأصبح مجتمعنا ليس له صفة تميزه ؟ أو وحدة تجمعه ؟ فكره غير شعوره ، ونظامه لا يلتقي مع عقيدته ، هذا من حيث معرفة الواقع من كافة جوانبه ، أما معرفة ظروفه وأحواله وما يتعلق به ، فإن ما يمر به مجتمعنا من ظروف وأحوال لابد من وقفة معها تبينها وتجلو غوامضها حتى نستطيع معرفة وإزالة كافة العقبات التي تمنع إعطاء العلاج أو توقف تقدمه .

إن مجتمعنا – وأعني بكلمة مجتمعنا أي مجتمع قائم في العالم الإسلامي – هو كأي مجتمع فهو يقوم على مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمة ، يرعاها ويحافظ على وحدتها نظام . إلا أن الملاحظ في هذا المجتمع بالذات أن وحدة الأفكار فيه قد تلاشت بالرغم من وحدة العقيدة التي يفترض أن تكون هي القاعدة الفكرية التي ينبثق عنها وتبني عليها كافة المفاهيم والأفكار . إلا أن هذه العقيدة لم تتخذ كقاعدة فكرية ، فتكون أساساً للتفكير جمهرة الناس ومثقفيهم ومفكريهم ، فهي عقيدة توارثها الناس ، ولم تكن حصيلة أعمال فكر ونظر ولم تكون نتيجة تفكير وقناعة عقلية ، بالإضافة إلى ذلك فقد أماتوها كعقيدة سياسية ، وأبقوها حية كعقيدة روحية .

وأنها مازالت في أسسها صافية نقية بالرغم مما علق في بعض أجزائها من غشاوات وما لحق بعض أفرادها من تشويه ، خصوصاً بعد أن أبعدت كلياً عن واقع الحياة ، أعني علاقات الناس وأنظمة المجتمع ، واقتصر عملها على الجانب الروحي ، وأبعدت كلياً عن المجال السياسي . ولذلك فقد بقيت في النفوس عقيدة روحية وبقيت أساساً لمعتقداتهم الدينية وما يتعلق بعلاقات الأفراد بخالقهم من حيث العبادات ، أو من حيث علاقات الناس بأنفسهم من الأخلاق والمطعومات والملبوسات لذلك ظل أثرها فرديا ً ولا علاقة له بحياة الناس وعلاقاتهم ولا بأنظمة المجتمع ورعايتها لشؤون الناس . اللهم إلا في النظام الاجتماعي في أمور الزواج والطلاق والميراث والنفقة أو ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية فقد بقية العقيدة الإسلامية مصدر هذا القانون . وانتهى أثرها في تفكير الناس بما هو من شؤونهم كمجتمع .

ومع خلو المجتمع من هذه القاعدة الفكرية – العقيدة – لم يحمل المجتمع بعد عقيدة سياسية وغيرها ، يبني عليها أفكاره ، وتنبثق عنها أنظمته ، بالرغم من تسرب بعض الآراء الفلسفية ، والأفكار الرأسمالية أو الاشتراكية ، وبالرغم من وجود فئة من المثقفين مضبوعة بمثل هذه الأفكار والآراء ولذلك لم يبقى في المجتمع وحدة أفكار، وعدمت في الناس طريقة التفكير المنتجة ، وتسممت الأجواء ببعض الأفكار الداخلية ، كفكرة الحرية والديمقراطية والاشتراكية ، وغير ذلك من الآراء والأحكام والتشريعات التي لا تمت إلى عقيدة الناس بصلة ، ولذلك نجزم أن وحدة الأفكار قد تمزقت وتلاشت.

وأما وحدة المشاعر التي هي الأساس الثالث من مكونات المجتمع ، فقد بينا أن المشاعر إنما هي حصيلة طبيعية لما يحمل الناس من أفكار وما تركز في أعماقهم من مفاهيم، يغضبون لمخالفة هذه المفاهيم ، ويسرون بوجودها ويرضون بما يوافقها ، هذا هو واقع المشاعر عند الناس ، وبناء على انتفاء وحدة الفكر واختلاف المفاهيم انتفت وحدة الشعور ، وباختلاف الأفكار وتناقضها اختلفت المشاعر والأحاسيس ، ولم يعد هناك ما يجمع مشاعر الناس إلا بالأمور التي ما زالت ترتبط مباشرة بعقيدتهم ، مثل كونهم مسلمين في بعض الأحيان . أما ما سوى ذلك فلا تثور مشاعرهم ولا يهيج غضبهم وهم يرون انتهاك حرمات الله ، أو الحكم بغير ما أنزل الله ، أو الدعوات الإلحادية والإباحية وغيرها الكثير . بل وصل الحال في بعض المدن أنه يجتمع الفرح والحزن في البناية الواحدة في وقت واحد . ولم يراع الجار مشاعر جاره.

وبانتفاء وحدة الفكر والشعور ينتفي وجود العرف العام إلا في بعض الجزئيات ، ذلك لأن العرف العام إنما يبدأ بفكرة إنما يؤمن الناس بها ويصدقونها، وتلتزمها جمهرتهم كمفاهيم تسير سلوكهم. حتى إذا تركزت في النفوس ، وحركت مشاعر الغضب والرضى حيالها ، وأصبحت قناعة مطلقة صارت عادة متعارف عليها . وقد ينسى أصل الفكرة أو الدليل الذي أخذت منه ، أو القاعدة التي بنيت عليها ، إلا أن تسيير الناس سلوكهم بحسبها أصبح قانوناً يرفض الناس بمجموعهم مخالفته ويغضبون لما يخالفه ، تكون هذه العادة قد أخذت دور العراقة والتركيز ، فأصبحت عرفاً عاماً لجمهرة الناس. فمثلاً:
قال رسول الله ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))(1). هذا القول فكرة مصدرها الوحي آمن بها قائلها وتبعه في ذلك من آمن به. لأنها فكر أدرك واقعه وجرى التصديق به فصارت مفهوماً يسير سلوك من آمن به ، ولما تقدم عليها الزمن أصبح إكرام الضيف أمراً عادياً ، يسير مع الناس ويسير الناس أي أصبح عادة . إلا أن هذه العادة شملت القطاع العام من الناس ، وتعارفوا على هذا الأمر حتى جرى في عروقهم وصار لا يجرؤ أحد على مخالفته ، وإلا تعرض إلى غضب ومقت الناس ونقمتهم ، ونعتوه بشتى التهم التي تنقص من قدره وكرامته .

مع أنه لو سألنا جمهرة هؤلاء الناس عن دليل هذا العرف ، والفكرة التي بني عليها ، ومصدر هذه الفكرة ، لما وجدنا إلا القلة القليلة التي يمكن أن ترده لدليله وتعرف أصله وتستشهد بحديث رسول الله . وبالتالي فإن مجتمعنا اليوم لا يحكمه عرف ولا تسوده أفكار ولا تهتز مشاعره لأمر. هذه حقيقة واضحة لا بد من معرفتها قبل وضع العلاج.

أما موضوع النظام وهو الأساس الرابع من مكونات المجتمع ، والركن الأساسي في الحفاظ على وحدته ورعاية شؤونه. فالنظام في مجتمعنا مهمته الأولى المحافظة على تمزيق الأمة مع المحافظة على بقاء هذه الأجزاء معبرة عن كيانات سياسية مبعثرة. هذا من حيث القول إنه هو الركن الحامي والحفاظ لوحدة المجتمع فهو على النقيض من ذلك . أما من حيث حقيقته وارتباطه بعقيدة الناس فهو نظام دخيل عليهم لا يمت إلى عقيدة الناس بصلة ، ولا هو منبثق عن أعرافهم ومفاهيمهم وأفكارهم . ولكنه نظام رأسمالي فرض عليهم، وليس لهم إلا الطاعة والالتزام بهذا النظام . وارتبطت مصالحهم به ، ورعت شؤونهم بموجبه ، وبه وبالرقعة من الأرض المقام عليها حدد للناس هويتهم وإقامتهم . فهم ملزمون به وملتزمون بأحكامه بغض النظر عن موافقته لما عندهم من أفكار،أو ما يعتقدونه من عقائد . ولذلك تجد الغالبية العظمى من الناس تشير بإصبع الاتهام إلى النظام القائم وتعتبره مصدر كل مفسدة وأساس كل بلوى . وتتمنى تغييره، بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يغيره ويزيله عن أعناقهم ، مع أنهم لا يملكون البديل ، بل ولم يفكروا جدياً بالبديل حتى الداعون لذلك . ذلك لأنهم كما أسلفنا ، ليس لديهم قاعدة فكرية ينطلقون منها ، ويأخذون منها أفكارهم ، ونظمهم وليس لديهم طريقة تفكير منتجة يسلكون بها السبل لمعرفة أسباب الفساد وتحديد الأهداف ووضع البديل . ولهذا نجد الكثير بل الكثير جداً من الحركات والأحزاب التي تسعى لتغيير النظام القائم ولكنها للآن لم تضع في برامجها أو مناهجها بديلاً لما تريد تغيره ، وقد جرت في عالمنا الإسلامي انتفاضات أو انقلابات أو ثورات استهدفت تغيير النظم القائمة فيه، وقد وصل الكثير من هؤلاء الثوار والانقلابين إلى الحكم ، ولكنهم لم يستطيعوا تغيير النظام لأنه ليس لديهم البديل. وإنه وإن جرى بعض التبديل فإنما كان لمعالجة مشكلة آنية ، أو وضع شيء جديد مقتبس عن بعض المجتمعات ، أو تنفيذاً لما ارتفع من شعارات . وبطل إحدى الانقلابات والذي صار رئيساً لدولة ، كان يفاخر حين غير دستور الدولة التي حكمها ، كان يفاخر بأن الدستور الذي اختاره للناس ، وفرضه عليهم، هو مستخلص من دساتير واحدة وخمسين دولة.

هذه مقومات مجتمعنا الأساسية الثلاث ، الأفكار والمشاعر والنظام وما آلت إليه حتى أصبح مجتمعنا مثل الماء لا لون له . ولا رائحة ولا طعم. هذه هي أمراضه الأساسية التي شلت عافيته ، وأسقمت جسمه، وحطمت أضلاعه وليت الأمر وقف عند هذا الحد ، حيث إن الأمراض الجانبية التي نشأت عن هذه الأمراض الأساسية لا تقل خطورة عنها.


ــــــــــــ
(1) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي شريح وعن أبي هريرة وقد صححه السيوطي في الجامع الصغير. ونص الحديث (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليسكت)).

ليست هناك تعليقات: