السبت، 27 سبتمبر 2008

رسالة إلى كل من يعمل للإسلام



بقلم : د. ناجح إبراهيم

********************************************
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه .. وبعد
الأخ الدكتور ناجح إبراهيم-فك الله أسره- 42 عاماً طبيب بشري وأحد أبرز الدعاة إلى الله عز وجل في فترة السبعينات وقد كان أميراً للجماعة الإسلامية بجامعة أسيوط.. وقد كان يتمتع بشعبية وقبول واسع في أوساط الشعب المصري وخاصة في صعيد مصر .. كان أسمه ضمن القائمة التي أصدر السادات أوامره بالتحفظ عليها في قرارات سبتمبر 1981 الشهيرة ولكنه تمكن من الهرب حتى قبض عليه وحوكم في أعقاب اغتيال السادات .. وقد حكموا عليه بالسجن 25 عاماً عام 1981 ..{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الجميد}. ورغم طول السجن وقسوة التعذيب والمعاناة فهو بفضل الله عز وجل ثابت ثبات الجبال .. وما زال على الدرب داعياً ومعلماً ومثبتاً لإخوانه..
نسأل المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يفرج كربه ويفك أسره هو وسائر إخوانه من السجناء والمعتقلين .. إنه ولي ذلك والقادر عليه..
المرابطون







بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الـــديــــن النــصيــحـــــة

هكذا قال رسولنا .. وهذا هو الذي دفعنا لكتابة هذه الصفحات، فلسنا نكتب لأنا لا نجد ما نفعله .. ولا لأنا نجد من يقرأ ما نكتبه
وإنما نكتب عندما نستشعر أن هناك نصيحة يجب علينا أن نقدمها لإخواننا .. مساهمة منا في تلك المسيرة المباركة .. مسيرة إقامة الدين وإعلاء رايته .
ونحن ـ كما قال الصحابي الجليل “ ابن رواحه ” : ( ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ) .

ومن ثم يلزمنا أن نكون أشد استمساكاً بديننا وحرصاً عليه من استمساك المقاتل بسلاحه في معمعة القتال وحرصه عليه ؛ فإنه متى فرَّط فيه ضاع كل أمل له في النصر ، بل ضاع كل أمل له في النجاة .
وكذلك أهل الدين ؛ متى فرطوا في دينهم ـ ولو قليلاً ـ تلاشى أملهم في النصر . فإن الله تعالى إنما ينصر من يطيعه ويخلص له ، ويعتصم به ويتوكل عليه . قال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره } .
فمن لم ينصر ربه لم ينصره ، ومن عصاه تركه وأعداءه . وكما قال الفاروق عمر : ( فإن لم نغلبهم بطاعتنا غلبونا بقوتهم ) .
وقد كان رضي الله عنه ـ يخاف على الجيش من ذنوبه ، أكثر من خوفه عليه من عدوه . وهذا من كمال فقهه ووفور عقله .
وكم نود لو استشعرنا جميعاً هذا المعنى ، فظل حاضراً في قلوبنا وعقولنا لا يغيب أبداً عنا .
كم نود لو علمنا علم اليقين أن الله قد تكفل بنصرة دينه وحفظه .. فمن دار مع الإسلام حيث دار ، وكان قائماً بقلبه وجوارحه في طاعة الله نُصر لا محالة .. ومن حاد عن الصراط حاد عنه النصر .
والله تعالى عليم حكيم .. عليم بأحوالنا ، لا يخفى عليه شيء من أمورنا ؛ عليم ببواطننا ونياتنا ، كما هو عليم بظواهرنا وأعمالنا . وهو سبحانه حكيم ، يضع الشيء في موضعه ، فلا يعطي منحة الحفظ والنصر إلا لمن يستحقها .. أما من ليسوا أهلاً لها فليس لهم إلا الخذلان .. نعوذ بالله من الهوان على الله .
لكن النفس تعاند ، والشيطان يوسوس ، والدنيا قد تزخرفت ، والهوى كثيراً ما يغلب .
وهذه كلها قد أقبلت ؛ تريد أن تحول بين العبد وبين ما فيه نجاته وفلاحه وفوزه في الدنيا والآخرة .
وهذه الأربعة هي حقاً أعدى أعدائنا ، فمتى قهرنا : ( النفس والشيطان والدنيا والهوى ) كنا على قهر أعدائنا من الإنس أقدر ..
وإن قهرتنا هذه الأربعة فقد استوينا وأعداؤنا في المعصية .. وبقي لهم فضل قوتهم .. فانهزمنا .
وكلماتنا التي نسطرها إنما هي نصائح تعين على التغلب على النفس والشيطان والدنيا والهوى ..
فانظر فيها أخي الكريم ؛ فما أردناها إلا دلالة على الخير .. سداً لثغرة قد رأيناها .. أو تصحيحاً لخلل .. أو دلالة على معروف .
ودورنا أن نقول وننصح ؛ لكن الثغرة لن تسد ، والخلل لن ينصلح ، والمعروف لن يتحقق ، إلا بالعمل .
وهذا دورك أخي الكريم .. ودورنا جميعاً .
فالكلمات لا تراد لذاتها ، وإنما لفهمها .. والعمل بها .
{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } .

سيزولَ الألمَ ويبقى الأجرُ إنْ شاءَ اللهُ ...

اعلم أخي ـ رحمك الله ـ أنه ستواجهك مصاعب جمة ، ومتاعب كثيرة ، وابتلاءات عديدة ، وأنت تسير في طريق الحق وتنشغل بالعمل للإسلام . فإذا ما ثبتَّ على الحق ، وصبرت على الابتلاء . فإن الألم سيزول والتعب سيذهب ، ويبقى لك الأجر والثواب إن شاء الله .
ألا ترى أن الصائم الذي يصوم في حر القيظ ، يذهب ألمُ جوعه وعطشه مع أول رشفة ماء يرتشفها . وهو يردد قول النبي الكريم : (ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله) . فمع دخول أول قدم لك في الجنة سيزول عنك كل تعب لاقيته ، وكل هم أصابك ، وكل جرح جرحته أو كلم كُلِمْتَه في سبيل الله . ويقال لك : هل رأيت بؤساً قط ؟ فتقول ـ بعد أن تغمس في الجنة غمسة ـ : ( لا والله يا رب ! ما رأيت بؤساً قط ) .
لقد تبدد تعبك وألمك ، بل تحوَّل إلى فرحة وسعادة وهناءة . فقد ثبت لك الأجر والثواب وزادك الله من فضله . وأكرمك كرماً يليق بوجهه سبحانه ، وبكرمه وجوده سبحانه ؛ فحينئذ تتمنى أن لو كنت بذلت أكثر . وتعبت أكثر وأكثر في سبيل دينك .
وسهرت أكثر وأكثر من أجل ربك ، وسافرت وتركت من الدنيا أكثر ، وضحيت في سبيل الله أكثر وأكثر مما ضحيت ؛ بل تتمنى ـ كما يتمنى الشهيد ـ أن لو عدت إلى الدنيا لتقتل في سبيل ، ثم تحيا ثم تقتل ، ثم تحيا ثم تقتل ، لما رأيت من فضل الله وإكرام الله للشهداء .





كيف تثبت في الابتلاء ؟! …

سيقول لي البعض : إنني حديث العهد بالالتزام بالإسلام ، وأخاف أن لا أثْبُتَ أمام الإبتلاءات الكثيرة ، أو لا أصبر عليها .
فأقول لمثل هذا الأخ قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن يتصبر يصبره الله ) وقوله : ( ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتق الشر يوقه )
فمن تعاطى أسباب الصبر رزقه الله الصبر ، ومن تعاطى أسباب الوهن والجزع والخذلان أصيب بما تعاطى أسبابه . { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }
فعليك أخي المسلم بالمصابرة ؛ فصابر نفسك فترة من الزمان ، ستجد أنها أصبحت بعد ذلك من النفوس الصابرة ، بل الراضية إن شاء الله ، ولقد قال أحد السلف : ( سقت نفسي إلى الله وهي تبكي ، فما زلت أسوقها حتى انساقت إلىّ وهي تضحك ) .
أما إذا اشتدت عليك المتاعب ، وازداد عليك البلاء ، وكثرت عليك المصائب ، وحدثتك نفسك الأمارة بالسوء أن تركن إلى الدنيا ـ ولو لفترة ـ أو وجدت نفسك الأمارة بالسوء تمردت عليك ؛ فعليك أن تسُوسَ هذه النفس حتى تُسْلِم قيادها لك ويسلس أمرها معك ، وتستجيب لأمر الله وهي راضيةٌ بعد أن كانت كارهةً ..
إذا أردت ذلك فقل لها : يا نَفْسُ .. لقد قطعت جزءاً كبيراً من مشوارك وسيرك إلى الله .. فلم يبق إلا اليسير .. فاصبري عليه .
يا نفس .. لا تضيعي سابقَ عملِك الصالح ، وسهر الليالي والأيام ، وتعب السنوات في سبيل الله .. في لحظة طيشٍ ؛ إنما صبر ساعةٍ .. فاصبريها ، فمقام البلاء كمقام الضيف ، فيا سرعة انقضاء مقامه .. ويالذة مدحه وثنائه في المحافل على المضيف الكريم . ويا أقدام الصبر اعملي فما بقي إلا القليل ... وعليه أن يفعل مع نفسه كما فعل “ بشر الحافي ” مع أحد تلامذته الذين سافروا معه ، فعطش الرجل في الطريق ، فقال له : نشرب من هذه البئر ، قال بشر : اصبر إلى البئر الأخرى ، فلما وصلا إليها قال : البئر الأخرى ، فما زال يعلل ؛ كلما جاء إلى بئر قال له : البئر الأخرى .. ثم التفت إليه فقال له : هكذا تنقطع الدنيا .
ويقول لنفسه : ( ها قد لاح فجر الأجر وانجاب ليل البلاء ، ومدح الساري بقطع الدجى .. فما طلت شمس الجزاء إلا وقد وصل إلى منزل السلامة ) ـ كما يقول “ ابن الجوزي ” ـ رحمه الله ..
وقد أعجبتني كلمة عظيمة للإمام أحمد ـ رحمه الله ـ فقد كان يردد : ( إنما هو طعام دون طعام ، وشراب دون شراب ، وإنها لأيام قليلة ) ، وهذه الكلمات القليلة تحتاج إلى كثير من التدبر والتفكر .
ثم يقف مع نفسه وقفة أخرى ليقول لها : أما ترين أهل الدنيا يصابون بمصائب وبلايا أكثر من مصابك بمرات ، ثم هم لا يؤجرون على ذلك ولا يرزقهم الله الصبر عليها ، وهم عادة في هم وغم وضيق واكتئاب ، بل وجنون ، من تلك المصائب .. أما سمعتِ مرةً بسيارة غرقت بأسرة كاملة ، ماتوا جميعاً ؟ فأين مصيبتك من مصيبة هؤلاء ؟ !
إن أكثر ما تصابين به .. أن يقتلكِ الأعداء ؛ وهذا شرف لكِ وليست مصيبة ، بل هي حياة وما أغلاها من حياة ! ثم إِنكِ لم تشعري بألمٍ أو وجعٍ من ذلك ، فما هي إلا رصاصةٌ أو رصـاصـات تخــترق جسدَكِ ، ولم تشعري بشيء إلا كمس القرص ـ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ـ
ثم يقول لنفسه : ( ماذا يمكن أن يصيبكِ من عدوك ؟! ) أن يسجنوك شهراً أو شهرين أو عاماً أو عدة أعوام ، أو حتى العُمُرَ كله ؛ فيكفيكِ شرفاً أنكِ قضيتِ عمركِ في سبيل الله ، ويكفيك شرفاً أن تكوني على درب يوسف عليه السلام وقد ارتمى في السجن بضع سنين !
ولتقل لنفسك الأمارة بالسوء : يا نَفْسُ .. ألا تَرَيْنَ تلك الآلاف من الناس الذين يملأون السجون من أجل معصية الله ؟! فكفاك شرفاً أنك ابْتُلِيتِ من أجل طاعتك لله عز وجل . فَتَرَيْنَ هذا وقد حكم عليه بالإعدام من أجل لحظةِ شهوةٍ تافهةٍ حقيرةٍ وهو يغتصب فتاةً ، وهذا من أجل لحظاتِ أُنسٍ بالشيطان والمخدرات حُكِمَ عليه بالسجن المؤبد ،وغيرهم كثير وكثير .
وتفكَّرْ كذلك في آلاف الناس من أهل الدنيا ، بل والكفار ، الذين أصيبوا بالشلل أو العمى ؛ فهم في بلاء أقسى من ابتلائك الذي تعيش فيه وأشد منه مئات المرات . ولعل هذه الأشهر أو السنوات تكون سبباً في إمامتكَ في الدين ، ومعرفتك بالعلم بالله والعلم بأمر الله ، ووصولِكَ إلى درجات العابدين والزاهدين والخاشعين ؛ فكم من أخٍ لم يعرف القيام حق معرفته إلا في الشدة ، وكم من أخٍ لم يفقه القرآن ويفهم مراميه ويدركْ حكمه الباهرة حق الإدراك إلا في الشدة ، ذلك فضلاً عن حفظه ودراسةِ تفسيره ، كل ذلك مضافاً إليه نيلُ درجاتٍ في علومٍ لا يتعلمها المرء من الكتب والصحف ، وإدراكُ معانٍ ما كان ليدركها أو يتذوق حلاوتها مهما قرأ عنها أو درسها أو حفظها ، وذلك مثل معاني التوكل والإنابة والخشية والتوبة واليقين والرضى ؛ ورحم الله شيخ الإسلام “ابن تيمية” الذي كان يقول : ( أنا جنتي وبستاني في صدري . أنى رحت فهي معي لا تفارقني ؛ إن حبسي خلوةٌ ، وقتلي شهادةٌ ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ ) .
وليقل الأخ كما قال “ ابن الجوزي ” مخاطباً ربه : فما أربَحني فيما سُلِبَ مني إذ كانت ثمرته الملجأ إليك ، وما أوفرَ جمعي إذ ثمرتُه إقبالي على الخلوة بك ، وما أغناني إذ أفقرتني إليك ، وما آنَسَنِي إذ أَوْحَشْتَني من خلقك . آهٍ على زمانٍ ضاع في غير خدمتك ، أسفاً لوقت مضى في غير طاعتك .
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل ! وإذا انسلخ عني النهار لا يُوجعُني ضياع ذلك اليوم ! وما علمتُ أن عدمَ الإحساسِ لقوةِ المرض ؛ فالآن قد هَبَّتْ نسائمُ العافية ، فأحسستُ بالألم ، فاستدللتُ على الصحة . فيا عظيم الإنعام .. تَمِّمْ لِيَ العافية )




سَلِّمُــوا المبيــــعَ لصَــاحبـــه ..

لقد بعتُم أنفسكم لله عز وجل ، وليس أمامَكُم إلا خيارٌ واحد هو أن تسلموا المبيع لمن اشتراه : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } . وإذا استلم المشتري المبيع فليصنع به ما شاء ، وليضعه حيث يشاء ، فإن شاء وضعه في قصر ، وإن شاء وضعه في سجن . وإن شاء ألبسه فاخر الثياب ، وإن شاء جعله شبه عارٍ إلا مما يستر عورته . وإن شاء جعله غنياً ، وإن شاء جعله فقيراً معوزاً . وإن شاء مدَّ في عمره ، وإن شاء علقه على عود مشنقة ، أو سلط عليه عدوه فقتله أو مَثَّل به .
أَفَيَحْسُنُ لمن باع شاةً أن يغضب على المشتري إذا ذبحها ، أو يتغير قلبه لذلك ؟! ألم تسمع عما حدث لأسد الله وأسد رسوله : “حمزةَ ابن عبد المطلب ” ؟ .. لقد بُقِرَت بطنه ، وأُخْرِجَت كبده ، ومُثِّل به . وكذلك أصحاب النبي الذين استشهدوا في غزوة أحد ؛ بُقِرت بطونهم ، وجُدِعت أنوفُهم وآذانُهم ، بل إن هند بنت عتبة ومن معها من نساء قريش اتَّخَذْنَ من أنوف الصحابة وآذانهم خلاخل وقلائد لهن ، وكانت هند بنت عتبة قد أعطت خلاخيلها وقلائدها وقرطها لوحشيٍ قاتلِ حمزة .. مكافأةً له على ما فعله .
بل ألم تسمع بما جرى للرسول نَفْسِه في غزوة أحد ؟! لقد وقع لِشِقِّه، وشُجَّ وجهه الشريف وكُسِرت رباعيته.. بل إن الرسول عاش يتقلب من الابتلاء إلى الابتلاء . وصدق “ ابن الجوزي ” حينما قال : ( أو ليس الرسول يحتاج أن يقول : من يؤويني ؟ من ينصرني ؟ ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر ، ويُلقى السلا على ظهره ، وتُقْـتَل أصحابهُ ، ويداري المؤلفةُ قلوبهم ، ويشتد جوعهُ ، وهو ساكن لا يتغير ... ثم يُبْتَلى بالجوع فيشد الحجر على بطنه ـ { ولله خزائن السموات والأرض } ـ وتُقْتَلُ أصحابهُ ويُشَجُّ وجهُه ، وتُكْسَرُ رباعيته ، ويُمثَّل بعمِّه ، وهو ساكت . ثم يُرْزَقُ أبناً ويُسْلَبُ منه ، فيتعلل بالحسن والحسين فيُخْبَرُ بما سيجري عليهما ، ويَسْكُنُ بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها فيُنَغَّصُ عيشُه بقذفها ، ويبالغ في إظهار المعجزات فيُقام في وجهه مسيلمةُ والعنسيُّ وابنُ صيادٍ ، ويقيمُ ناموسَ الأمانةِ والصدق فيقال : ساحرٌ كذابٌ ، ثم يَعْلَقُه المرضُ كما يُوعَكُ رجلان ، وهو ساكنٌ ساكتٌ ، فإن أَخْبَرَ بحاله فليُعَلِّمَ الصبر . ثم يشدَّد عليه الموتُ فيسلب روحه الشريفة .. وهو مضطجع في كساء مُلَبَّدٍ وإزارٍ غليظٍ .. وليس عندهم زيتٌ يُوقَد به المصباحُ لَيْلَتَئِذٍ ) .
وعليك أخي الكريم أن تتأمل الأنبياء والرسل عليهم السلام ،وهم صفوة الخلق وأكرمهم عند خالقهم وأحبهم إليه سبحانه ؛ فقد أُلْقِيَ في النار إبراهيمُ عليه السلام ، ونُشِر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحيى ، ومكث أيوب في البلاء سنوات فَقَدَ فيها ماله وولده ، وسجن في بطن الحوت يونُسُ ، وبيع يوسفُ بثمنٍ بخس وكانوا فيه من الزاهدين ، ولبث في السجن بضع سنين . كل ذلك وهم راضون بقدر الله وراضون عن ربهم ومولاهم الحق .
وقد كان بعض السلف يقول : ( لو قُرِضَ جسمي بالمقاريض أحبُّ إلى من أن أقول لشيء قضاه الله : ليته لم يكن ) ، وكان آخر يقول : ( أَذْنَبْتُ ذنباً أبكى عليه منذ ثلاثين عاماً ) وكان قد اجتهد في العبادة ، قيل له : ما هو ؟ قال : ( قلت مرة لشيء كان : ليته لم يكن ) .
فكن أخي من هؤلاء الذين لا يزاحم تدبيرُهم تدبيرَ مولاهم ، ولا يناهض اختيارُهم اختيارَه سبحانه ؛ فهؤلاء لم يتدخلوا في تدبير الله لملكه بـ ( لَوْ كان كذا لكان كذا وكذا ) ، ولا بـ ( عسى ولعل وليت) .
فاختيار الله لعبده المؤمن هو أعظمُ اختيار ، وهو أفضل اختيار مهما كان ظاهرُه صعباً أو شاقاً أو فيه هلكة للمال أو ضياعٌ للمنصب والجاهِ أو فقدٌ للأهل والولد ، أو حتى ذهاب للدنيا بأسرها .
وعليك أن تسترجع بذاكرتك قصة غزوة بدر ، وتتفكر فيها جيداً ، فلقد أحب بعض الصحابة رضي الله عنهم وقتها الظفر بالعير ، ولكن الله اختار لهم اختياراً أعظم من اختيارهم وأفضل منه .. لقد اختار لهم النفير ، وفرقٌ بين الأمرين عظيمٌ عِظَمَ ما بين الثرى والثريا ! فماذا في العير ؟! إنه طعامٌ يؤكل ثم يذهب إلى الخلاء ، وثوبٌ يَبْلى ثم يُلقى ، ودنيا زائلةٌ .
أما النفير .. فمعه الفرقان الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل ، ومعه هزيمة الشرك واندحاره وعلو التوحيد وظهوره ، ومعه قتل صناديد المشركين الذين يقفون حَجَر عَثْرَةٍ أمام الإسلام ؛ ذلك الدين الوليد في جزيرة العرب ، ومعه .. ومعه .. ومعه ..
ويكفي أن معه : ( إن الله اطَّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )
وصدق الله تعالى إذ يقول : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } .
وقبل أن أختم كلامي في هذه النقطة .. أود أن أسوق معنى كلمات جميلة للإمام الجليل “ابن القيم” ذكرها في كتاب زاد المعاد ، ولكن بشيءٍ من التصرف : ( إن الله لم يمنع عنك ما منعه بخلاً منه ، ولا نقصاناً من خزائنه ، ولا استئثاراً عليك بما هو حق لك ، ولكن منعك ليردك إليه ، وليعزك بالتذلل له ، وليغنيك بالافتقار إليه ، وليَجْبُرَك بالانكسار بين يديه ، وليذيقَك بمرارة المنع حلاوةَ الخضوع له ولذة الفقر إليه ، وليُلْبِسَكَ حِلْيَةَ العبودية ، ويُوَلِّيَك بعزلك أشرفَ الولايات ، وليشهدك حكمته في قدرته ، ورحمته في عزَّته ، وبِرَّه ولطفه في قهره ، وأن مَنْعَهُ عطاءٌ ، وعزلَه توليةٌ ، وعقوبتَه تأديبٌ ، وامتحانَه عطيةٌ ومَحَبَّةٌ ، وتسليطَ أعدائه عليك سائقٌ يسوقه إليك )
ومن لم يفهم هذه المعاني العظيمة بقلبه وعقله ويعمل بها ، فمَحَلُّه غيرُ قابل للعطاء ، وليس معه إناءٌ يوضع فيه العطاء ، فمن جاء بغير إناءٍ رجع بالحرمان . ولا يَلُومَنَّ إلا نفسَه ...



ثَبَاتُكُمْ سَيُبْطِلُ كَيْدَ العَدُو !!...

إن أعداء الإسلام قد حُرِمُوا حُجَّةً يدافعون بها عن باطلهم ، ومن أجل ذلك فإن إجابتهم على دعوة الحق هي صَبُّ صنوف البلاء والعذاب على أهل الحق . فهذه هي إجابتهم التي لا يُحْسِنون غيرها ، ويعتمدون عليها دائماً إذا أعْيَتْهم الحيل في رد الحق ..
وبهذا الجواب أجاب فرعون على موسى : { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} .
وبه أجاب فرعون على سحرته الذين آمنوا : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين } وبه أجاب قوم إبراهيم على إبراهيم عليه السلام : { حَرِّقُوه وانصروا آلهتكم } وبه أُجِيب على يوسف عليه السلام : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجُنُنَّه حتى حين } وبه أجاب أميه بن خلف على “بلال بن رباح ” وهو يهتف من قلبه : “ أحدٌ ، أحدٌ ” ، فعذبه وضربه بالسياط في حَرِّ مكة ، ووضع الحجر على بطنه ..
وبه أجيب على “عمارٍ” و “مصعبٍ” و “ خبابٍ ” و “ ابنِ مسعود ” و “الصديقِ أبي بكرٍ” بل ورسولِ الله .
وبه أجيب على “أحمد بن حنبل” ؛ حينما رد على فرية خلق القرآن ، فأجيب بالضرب وبالسياط وبالسجن والتعذيب .
وبه أُجيبَ على “ابن تيمية” و “ابن القيم” رحمهما الله .
وبه أجاب أهل الفسق والكفر والردة على الدعاة إلى الله والعاملين لنصرة دينه في زماننا هذا .
فهذا هو جواب أعداء الإسلام .. وهذا هو منتهى كيدهم ، وآخرُ سهم في جعبتهم ، وهذا الذي يحسنونه للدفاع عن باطلهم والذود عن علْمانيتهم .
فإذا ما أجابوكم بذلك ، وثَبَتُّم على الحق ، وصبرتم على البلاء .. فإن ذلك يهدم جميع خططهم ، ويرد كيدهم في نحورهم ، ويُفْشِلُ ـ بالكلية ـ تدبيرَهم ومكرَهم .
إن ثباتكم وصبركم واعتصامكم بالله عز وجل ـ في حد ذاته ـ يُعَدُّ انتصاراً للإسلام وهزيمةً لأعدائه.
فكيف يا ترى يكون حالُ الأعداء إذا شعروا أن سهمهم قد طاش ، وسعيهم قد خاب ، وأن تدبيرهم قد ذهب أدراج الرياح ، وأن مكرهم أضحى إلى زوال ؟!
كيف يكون حال هؤلاء الأعداء ؟ إذا علموا أن هذه الإبتلاءات تزيدنا قوةً إلى قوةٍ ، ونقاءً إلى نقاءٍ ، وصلابةً إلى صلابة . وأنهم كلما اشتدوا في إيذاء أهل الحق والتنكيل بهم ، خرجت أجيالٌ أقوى وأصلب وأحكم وأعقل ، وتَرَبَّتْ تلك الأجيال على الأخذ بالعزائم ، وترك الترخُّص والإقلال من المباحات ..
أجيال تُطَلِّقُ الدنيا طلقةً بائنةً لا رجعة فيها ..
وفي هذا المعنى كلام جميل لأخ كريم ، وقد أعجبني هذا الكلام جداً ؛ حيث يقول : ( تُرى ماذا يكون حال أعدائنا إذا علموا أن كيدهم لا يُضْعِفُ القلبَ ؛ بل يقويه ، ولا يَكْسِرُ العَزَمات ؛بل يشد منها ، ولا يَحُطُّ الهِمَمَ ؛ بل يرفعها ويعليها ..
ماذا يكون حالهم ؟! إذا علموا أننا نكون أقرب إلى الله عندما يشتد البلاء ، وأنه كلما اشتد البلاء واحتشدت جموع الأعداء .. كان القلب عندها ساجداً عند ربه ، عازماً على الاستمرار بلا ضعف ولا وهن ، سائلاً مولاه أن يخلصه من كل ما يكرهه وأن يتولاه ويحفظه ، وأي غيظ يغتاظونه عندما يعلمون أنهم صاروا مطية نركبها لنقطع عليهم شوطاً لابد منه .. إنه شوط التنقية والتصفية ، وماذا ينفعهم غيظهم هذا ؟!
{ قل موتوا بغيظكم } ، فإنه { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . أ.هـ .
إن ثباتكم على الحق ، وصبركم على الابتلاء كفيل بهزيمة أعداء الإسلام ـ ليس من الناحية الفكرية والنظرية فحسب ـ بل إن هذا الثبات والصبر سيهزمهم ، كياناً وبنياناً ودولة ونظاماً أيضاً .
إن صبر وثبات الثلة المؤمنة الصادقة من أهل الحق ، كفيل أن يهدم الدولة العلمانية من القواعد فيخر عليهم السقف ، وذلك بعد هزيمة فكرها ونظرياتها ومبادئها ، ألا ترى أن ثبات “ أبي بكر الصديق” وصبره يوم الردة كان هو السببَ الرئيسي في درء فتنة الردة ؟ التي كادت أن تأتي على الأخضر واليابس في جزيرة العرب ، وقد عمت الردةُ كلَّ الجزيرة العربية باستثناء ثلاث مدن فقط هي : مكة والمدينة وجواثا بالبحرين .. ولذا تسمعون كثيراً قول القائل : “ردةٌ ولا أبا بكر لها ” .
بل إن هذا الثبات العجيب الذي تحلى به الصديق رضي الله عنه في تلك الظروف العصيبة هو الذي زلزل عروش المرتدين وهزمهم ، رغم ما كان لهم من إمكانيات مادية وبشرية هائلة وما كان معهم من جيوشٍ جرارة . حتى إن “أبا هريرة” وهو مَنْ هو ؟ كان يقول ـ وهو يعي ما يقول جيداً ـ : ( والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استُخْلِفَ ما عُبِدَ الله ) قال ذلك لأصحابه ، وكرره ثلاثاً . فقالوا له: “ مه يا أبا هريرة ” .
ألا ترون أن ثبات وصبر الإمام “أحمد بن حنبل” على السجن والتعذيب وضرب السياط أمام فتنة خلق القرآن التي اجتاحت بلاد المسلمين وقتها ، وكادت أن تغير عقيدة السلف الصالح . كان سبباً في هدم تلك الفرية وزوال شرها وإبطال كيد أصحابها ، وهم مَنْ ؟ هم مِنْ أصحاب السلطة والنفوذ من الخلفاء والوزراء وأتباعهم وأشياعهم .
وقد كان لثبات ذلك الإمام الجليل بمفرده الأثر العظيم في كتابة حياة جديدة لعقيدة الأمة ، بعد أن كادت تُغتال على أيدي حفنة من الضالين المبتدعين ؛ فقد قيل للإمام حينما قدم على المعتصم لامتحانه في مسألة خلق القرآن ـ قيل له : إن أمير المؤمنين قد حلف أن لا يقتلك بالسيف ، وأن يضربك ضرباً بعد ضرب ..
وفي اليوم الثالث اختلى به المعتصم شخصياً ، وحدثه أنه شفيقٌ عليه كشفقته على هارون ابنه ؛ ولكن “الإمام أحمد” أجابه بمثل إجاباته السابقة ، ولم يتراجع عن شيء منها على الإطلاق ، فلما ضجر المعتصم قال للإمام : عليك لعنة الله لقد طَمِعْتُ فيك ! خذوه ، وأمرهم أن يخلعوا ملابسه دون الإزار ، ثم شدوا وثاقه ثم ضربوه بالسياط ، وكان عدد الجلادين الذين يضربونه كبيراً جداً ، وكانوا يتناوبون الضرب عليه ، وكان أحدهم ينخسه بقائم سيفه وهو يقول له : تريد أن تغلب هؤلاء كلَّهم ؟! وكانوا يضربونه كل يوم حتى يسقط مغشياً عليه ويكررون ذلك في اليوم التالي ؛ وقد أحدثت سياط الجلادين آثاراً عظيمة على جسد الإمام الذي كان شيخاً كبيراً وقتها ، حتى إن الرجل الذي ذهب ليعالجه من جروحه ـ بعد ذلك ـ قال : والله لقد رأيت مِنْ ضربِ ألف سوط ، ما رأيت ضرباً أشد من هذا ! حتى إن آثار السياط ظلت باقية على ظهر ذلك الإمام الجليل حتى مات .. ومن أبلغ ما حدث مع “الإمام أحمد” رحمه الله في هذا الأيام : أنه كان يخشى سقوط سراويله ، وظهور عورته ، أثناء ذلك العذاب ، أمام تلك الجموع الغفيرة التي كانت تشهد تعذيبه ، وكان يكثر الدعاء أن لا تنكشف عورته ، فاستجاب الله له في ذلك .
وهذه القصة ـ رغم بساطتها ـ كان لها أبلغ الأثر عليَّ وعلى كثير من الأخوة الذين مروا بتجارب تتشابه في بعض فصولها مع ما حدث مع “الإمام أحمد” رحمه الله رحمة واسعة ، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء .




مَنْ تَرَفَّهَ وَقْتَ الَعَمَلِ نَدِمَ وَقْتَ تَفْرِيقِ الأُجْرَةِ ...

قد يرى أحدنا كيف يتسلط الظالمون على المؤمنين في بلاد المسلمين ، ويرى شرطتهم وجنودهم وزبانيتهم وهم يعتقلون المسلمين ، فلا يكاد يمر يوم إلا ويعتقل العشرات بل والمئات ، بل إن زبانية التعذيب لم يتوقفوا ليلة واحدة عن تعذيب المسلمين منذ زمن طويل ، ولم يتركوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً ولا شاباً إلا نال قسطاً وافراً من ذلك .
فخلال تلك السنوات كلها أُجْهِضَت الأخوات ، وضُرِبْنَ ، وتُرِكن ينمن على بلاط الزنازين في برد الشتاء ، وعذب الأطفال تعذيباً شديداً ، بل وتركوا أياماً دون طعام ، وكانت الأعياد تأتي على الإخوة وهم ما بين معتقلٍ ، وسجينٍ ، وطريدٍ ، وشريدٍ ، وقتيلٍ ، وجريحٍ ، فلا يستشعر هؤلاء وأسرهم وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وزوجاتهم أي فرحة للعيد .. قد يرى أحدنا ذلك وغيره مما يحدث معه وحوله ، فيتسلل الشيطان إلى النفوس فيوسوس لها قادحاً في حكمة القدر ، قائلاً ـ لعنه الله ـ : كيف يقوى أعداء الله وزبانيتهم يوم بعد يوم ، ويمتلكون أحدث الأجهزة في مقاومة المؤمنين ؟ ويزدادون شموخاً يوماً بعد يومٍ ، ويتقلبون في البلاد ، ويتحكمون في العباد كيف شاءوا ، وتدين لهم الرقاب ، وكيف تكونون أولياء الله ، وأنتم ملقون في زنازين عبارةٍ عن ثلاجات في الشتاء وأفران في الصيف ، لا تجدون طعاماً ولا شراباً ولا كساءً ولا غطاءً ، بل ولا هواءً يكفي لتنفسكم ؟ وتلك حقيقة لا يصدقها إلا من عاش في مثل هذه الأماكن .
وكيف يتقلب أباطرة الحكم العلماني في النعيم والمتاع والظلال الوارفة وهم في منعة وقوة من أسباب الدنيا ؟
بل كيف يغدو ويروح جلادو التعذيب وهم يضحكون ويتمازحون ، في نفس الوقت الذي يعلقون فيه الأخ كالذبيحة من يديه خلف ظهره ولأعلى ، وهو يصرخ صراخاً شديداً حتى يغشى عليه ؟
تلك هي وساوس الشيطان التي يوسوس بها في تلك اللحظات العصيبة ، وذلك هو حديث النفس الأمارة بالسوء في تلك المواقف الصعبة ، وهذه وتلك تحتاج لمجاهدة عظيمة ، وما هي إلا ابتلاء فوق ابتلاء يحتاج إلى الثبات فيه .
فعلى الأخ أن يقول لنفسه :
أتُرى لو أن الله أراد اتخاذ شهداء ، فكيف لا يخلق أقواماً يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين ؟! أفيجوز أن يفتك “بعمر” إلا مثل أبي لؤلؤة ؟ و “بعلي” إلا مثل أبي ملجم ؟ () و “بسمية” إلا مثل أبي جهل ؟
وليذكر الأخ نفسه بقوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } .
وبقوله تعالى : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين }
وعليه أن يقول لنفسه كما قال “ابن الجوزي” : ( قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير ، وأن زمن التكليف كبياض نهار ، ولا ينبغي للمُسْتَعْمَلِ في الطين أن يلبس نظيف الثياب ، بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل ، فإذا فرغ تنظف ولبس أجود ثيابه ، فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الأجرة ، وعوقب على التواني فيما كُلِّفَ . فهذه النبرة تقوِّي أزر الصبر )
ثم يقول لنفسه : فليأخذوا الدنيا ـ بفرض صفوها لهم ـ ويكفي لنا الآخرة .
فالدنيا كلها متاع زائل ولا تساوي عند الله جناح بعوضة . وعليه أن يردد بقلبه ولسانه قول سحرة فرعون ـ الذين غمر الإيمان قلوبهم ـ لفرعون العصر وفرعون كل عصر : { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } .
وعليه أن يذكر نفسه أن هؤلاء الطواغيت ، وإن ملأوا الدنيا ضجيجاً وصياحاً وتهديداً ووعيداً للمؤمنين ، فإن ذل المعصية ونكدها وغمها لا يفارقهم أبداً ؛ كما قال “الحسن البصري” : ( فإنهم ، وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين ، فإن ذل المعصية في وجوههم ؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه ) .
وكل هذه المعاني لا يستشعرها ولا يعرفها حق المعرفة إلا أهلُ الإيمان والصلاح والمعرفة الحقة بربهم ومولاهم الحق . فهؤلاء يعلمون أن زمانهم وزمان الطواغيت ينقضي عن قريب ، والمراحل تطوى ، والركبان في السعي الحثيث .
شَرَفُ الامتثالِ لمدرسَة الابتلاَء ...

أخي المسلم : يكفيك شرفاً إذا صبرت عند الشدائد والأهوال ، وثَبَتَّ على الحق بعد الابتلاء تلو الابتلاء ، أن تكون ضمن خريجي مدرسة الابتلاء العظيمة التي يتربى فيها الرجال تربية خاصة ، ويصقلون فيها صقلاً خاصاً ، ويتخرجون منها وهم كالذهب الخالص لا تشوبه شائبة ، قد صفت نفوسهم وراقت قلوبهم وحُطَّت ذنوبهم وقُبِلَتْ توبتهم ، وخشعوا وخضعوا واستسلموا لربهم وتوكلوا عليه حق التوكل ، ونفضوا أيديهم من سواه .
فمن تخرج من مدرسة الابتلاء بنجاح أصبح إماماً من أئمة الدين ، وقائداً من قادة الرشاد ، {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} .
فمن مدرسة الابتلاء تخرج “عمار بن ياسر” و “بلال بن رباح” و “صهيب” و “سلمان” و “خباب بن الأرت” و “خبيب بن عدي” وغيرهم من الصحابة .
ومن تلك المدرسة تخرج : “سعيد بن جبير” و “مالك بن أنس” و “أبو حنيفة” كما تخرج منها أعظم تلامذتها في زمنه ـ والذي أضحى بعد ذلك من كبار أساتذتها ـ وهو الإمام “أحمد بن حنبل” ،كما تخرج منها “ابن تيمية” و “ابن القيم” و “السرخسي” وغيرهم من العلماء العاملين المجاهدين في سبيل الله عز وجل .
فكفاك شرفاً ـ أخي الكريم ـ أن تكون من خريجي تلك المدرسة العظيمة ، التي رائدها ومعلمها الأول : الرسول الكريم ، الذي كان يقول : ( أوذيت في الله وما يؤذى أحدٌ ) .



البلاءَ يرفعَ درجاتِك ويحط خطاياك ...

إن في الجنة درجاتٍ قد لا يبلغها العبد بعمله مهما عمل .. ولقد هيأ الله سبحانه لعباده المؤمنين منازل في الجنة ، لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة ، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه ، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هم من جملة أسباب وصولهم إليها .
وهناك درجات في الإيمان والهدى لا يصلها العبد بأعماله ، وما كان له أن يصلها إلا بالمحنة والبلاء ، ويريد الله أن يرفع عبده إليها .. فيكتب عليه الابتلاء ويعينه على الصبر والثبات عليه ، وذلك رحمةً منه سبحانه بذلك العبد .
أَتُرى لولا أن مشركي قريش استولوا على أموال “صهيب الرومي” أكان يحظى بدرجة ( أبا يحيى! ربح البيع ) .
أَتُرى لولا العذاب الذي ذاقه “آل ياسر” على يدي مشركي قريش ـ أتراهم كانوا ينالون شرف (صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة) .
ولولا تقطيع “أنس بن النضر” إِرَباً في غزوة أحد ، أكان ينال شرف ( لو أقسم على الله لأبره ) ولولا ذلك لما انبسط وجهه وتحقق له ما أراد يوم حلف ( والله لا تكسر ثنية الرُبَيِّع ) .
ولولا العذاب الذي ذاقه “بلال بن رباح” على يدي أمية بن خلف وزبانيته ، ما نال درجة “بلال سيدنا” .
لولا صبر “يوسف عليه السلام” يوم الهمة ، وفي السجن ، ما نال درجة { أيها الصديق} .
لولا صبر “عمر بن الخطاب” على مُرِّ الحق والعدل ، ما انبسطت يده تملك الدنيا بأسرها ، أو ـ كما يقولون ـ ( ما انبسطت يده يضرب الأرض بالدِّرَّة ).
ولولا صبر “عمر بن عبدالعزيز” على مر الحق والعدل ، ما نال درجة “الخليفة الخامس” .
ولولا صبر أصحاب الرجيع على ما لاقوه في سبيل الله ، ما كانوا من أهل { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } .
ولولا صبر “سعد بن معاذ” وبذله في سبيل الله ، وإراقة دمه يوم الخندق ، وحكمه العادل في بني قريظة ، ما نال درجة ( اهتز عرش الرحمن لموت سعد ) .

ولولا بذل وعطاء وصبر “عبدالله بن حرام” في أحد وقبل أحد ، ما نال درجة قول الله : ( يا عبدي ! تمن علي أعطك ) .
ولولا صبر “أحمد بن حنبل” على العذاب وثباته على الحق ، ما نال درجة “إمام أهل السنة” .
ولولا صبر وثبات “سيد قطب” في محنته وعند قتله ، ما أصبح لكلماته أثر يذكر ، ولا لكتبه الانتشار والتأثير في العالم كله .
إن الله إذا أراد اصطفاء بعض عباده ليكونوا شهداء ، سلط عليهم الأعداء ليقتلوهم ولتسيل دماؤهم في محبته ومرضاته ، وليبذلوا نفوسهم في سبيله سبحانه .
فالشهادة هي أعلى المراتب بعد مرتبة النبيين والصديقين ، فالشهداء هم المقربون لربهم ، وهم قد رضوا عنه سبحانه ، وقد اصطفاهم واختارهم واتخذهم لنفسه سبحانه .
ومن أجل ذلك قيض الله الأسباب لذلك ، وجعل عدوه ـ عدو المؤمنين ـ سبباً في نيل هؤلاء المؤمنين درجة الشهادة .. وأكرم بها من درجة ! فإذا أراد الله أن يرفع الدعاة والمجاهدين المخلصين إلى هذه الدرجات .. فلابد أن يقتلوا على أيدي الأعداء .
إن هناك ذنوباً كبيرة قد لا تكفرها إلا الحسنات الكبيرة ، أو الإبتلاءات الشديدة ؛ فيُقدر الله عز وجل على أوليائه الابتلاء ، ليكفر عنهم ذنوبهم صغيرها وكبيرها ، دِقِّها وجلها ، أولها وآخرها ، حتى لا تبقى لهم خطيئة ، فيقبلون على ربهم وقد حطت عنهم خطاياهم .
أكرم بذلك من فضل ، وأنعم بها من درجة عالية . ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( وما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) .




استعذاب طريق الحق !!...

إن طريق الحق صعب وشاق ، ومملوء بالأشواك والأشلاء والجميع الآن يعلمون ذلك علم اليقين ، وبل وعين اليقين .
وكيف لا ؟ ! وهم يشاهدون ويسمعون في كل يوم زبانية الجاهلية وهم يوجهون بنادقهم ورصاصهم في صدور المؤمنين ، وأصبح مبدأ الجاهلية الآن : ( إطلاق الرصاص في سويداء القلب مباشرة ) حتى أن عصر اطلاق الغازات المسيلة للدموع والخانقة ، وتكسير الأيدي والأرجل .. ولىَّ وذهب .
إن طريق الحق .. رغم وعورته وصعوبته ، إلا أن المؤمن يستعذب هذا الطريق ويحبه ، ويجد للسير فيه حلاوة تجل عن الوصف ! إذ لا يعرفها إلا من ذاقها . ومهما وصفت لكم هذه الحلاوة والسعادة .. فلن أوفِّيها حقها في الوصف . أسأل الله أن يرزقنيها وإياكم والمسلمين أجمعين . وهذه الحلاوة تُهوِّن عليه كل صعب ، وتُيَسِّر عليه كل عسير ، وتذلل أمامه كل عقبة ، وتجعله راضياً عن مولاه وخالقه حتى وهو يمر بأحلك ساعاته وأشد أيامه .
ألم تر إلى الصحابي الجليل “حرام بن ملحان” حينما طعن غدراً بالحربة ، فلما أنْفِذَتِ الحربةُ ورأى الدم قال : ( فزت ورب الكعبة ) .
وكذلك الصحابي الجليل “عثمان بن مظعون” الذي فقئت عينه في سبيل الله بعد أن رد جوار المشرك الذي كان في جواره ، ورضي بجوار الله ؛ فقال له الوليد بن المغيرة : أما والله يا ابن أخي ! إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، لقد كنت في ذمة منيعة . فقال له عثمان : ( بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله ، وإني لفي جوار من هو أعز منك ) .
بل ألم تسمع إلى قولة “خالد بن الوليد” التي يقول فيها : ( ما من ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام ؛ أحب إليَّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد ، في سرية أصَبِّح فيها العدو ) .
بل إن “صلاح الدين الأيوبي” من فرط حبه للجهاد ، واستعذابه الموت والجراحة والتعب في سبيل الله .. كره حياة القصور والترف ، وأحب حياة الخيام والصحراء ، حتى قال عنه المؤرخون : ( إنه ما عاد له حديثُ إلا عن الجهاد والمجاهدين ، ولا نظرٌ إلا في آلته . ورضي أن يعيش في خيمة في الصحراء).
وهذا “ عمير بن الحمام” رضي الله عنه لما سمع من رسول الله في بدر أن الله أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله ، فقام قائلاً : ( يا رسول الله ، جنة عرضها السموات والأرض ) ، قال : ( نعم ) . قال : “بخٍ بخٍ” ، فقال رسول الله : (ما يحملك على قولك “بخٍ بخٍ” ؟! ) . قال : ( لا والله يا رسول الله ، إلا رجاء أن أكون من أهلها ) قال : ( فإنك من أهلها ) فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : ( إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ) ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل .
إنه استعذب الطريق وشعر بحلاوته ، فاستبطأ هذه الدقائق التي كان سيأكل فيها عدة تمرات ، واستبطأ تلك اللحظات التي ستؤخره عن الجنة وكأنها دهر ..
وهذا “خبيب بن عدي” يقول عند قتله :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبـــارك علــى أوصــال شلو ممزع
وهذا “عمير بن أبي وقاص” شقيق سعد بن أبي وقاص الصغير ، الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره يوم بدر ، يذهب إلى حيث المعركة ويختبئ من الرسول خشية أن يَرُدَّه . فلما علم الرسول الكريم رغبته وإصراره على القتال أجازه ، وقاتل وقتل في سبيل الله.
وهذا الصحابي “عبدالله بن جحش” ينتحي جنباً مع “سعد بن أبي وقاص” قبل غزوة أحد ، واتفقا على أن يدعو كل واحد منهما دعاءً ويؤمن الآخر ؛ فكان دعاء عبدالله بن جحش : ( اللهم ارزقني رجلاً شديداً حَرْده شديداً بأسه ، أقاتله فيك ويقاتلني ، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذنيَّ . فإذا لقيتك غداً قلتَ : يا عبدالله فيم جدع أنفك وأذنك ؟ فأقول : فيك وفي رسولك ، فتقول : صدقت ) .
ما أعظم هذا الدعاء وما أروعه ! إنها نفوس باعت كل شيء لربها وتحول المُرُّ عندها حلواً . إنه لا يصدر إلا من رجل استعذب الطريق وذاق حلاوته ، فلا يهمه شيء سوى مرضاة ربه ، ولا يهمه سوى أن يلقى الله وهو طائع له مقتول في سبيله .
إن هؤلاء وأمثالهم جديرون حقاً بتمكين الله لهم ونصر الله لهم واصطفائه لهم سبحانه . وقد تحقق لعبد الله بن جحش ما أراد ؛ فمات شهيداً في أحد وجدع المشركون أنفه . ولعل البعض لا يعرف أن الصحابي الجليل عبدالله بن جحش من أعظم بيوتات قريش ، وهو ابن عمة الرسول .
إنهم قوم أحسوا أن سعادتهم لا تكون إلا في سيرهم في هذا الطريق ، ولو مزقوا إرباً ، ولو حاربوا الأبيض والأسود ، ولو رماهم الناس جميعاً عن قوس واحدة ، وإن فارقوا أوطانهم وأهليهم .
ولعلك تستشعر ذلك في تلك الرغبة الجـارفـــة في الشــهادة في سبيــل الله التي كانت تمـــلأ نفس “سعـد بن معاذ” ، فقد قال سعد بعد أن حكم في بني قريظة ـ وكان وقتها جريحاً من غزوة الخندق ـ قال : ( اللهم إنك تعلم أنه ليس أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك ، من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه ، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم ، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك . وإن كنت قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها ) ، فانفجرت من لُبَّتِه . فلم يرع الناس وهم في المسجد إلا الدم يسيل من خيمة سعد ـ وكان الرسول قد وضعه في خيمة يعالج فيها في المسجد ـ فقال الناس : يا أهل الخيمة ! ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ؟! فإذا سعد ينزف دماً ، فمات منها .
وهذا “المنذر بن عمير” ؛ كان يسمى بين الصحابة “المُعنِقَ للموت” أي : المسرع للشهادة في سبيل الله والمبادر إليها . وقد لقب بذلك لأنه أسرع للشهادة وقتل شهيداً في بئر معونة .
وهذا “خالد” ـ رحمه الله ـ ؛ حينما أُخِذَ للقتل كان سعيداً ومبتهجاً أيما ابتهاج ، ولما رأى الحزن على وجه أحد إخوانه ـ وهو يسلم عليهم مودعاً ـ قال له خالد : ( لا تحزن ، إني ذاهب إلى ربي ) ..
وهذا “أخ كريم” ؛ بعد أن أصيبت يده اليمنى في القتال إصابة بالغة ـ قطعت كفه اليمنى تماماً ـ أخذ يردد وهو بين الحياة والموت : { وعجلت إليك ربِّ لترضى } .
وهذا أخ كريم آخر ؛ يبكي بكاءً شديداً لما رُدَّ عن الجهاد ـ لنحول جسمه وضعف بنيته ـ إذ إنه كان يُمَنِّي نفسه أن يرزقه الله الشهادة . ولما علم قائده ببكائه ، قال : هذا الذي أريده ، وضمَّه إلى جنده .. وحينما أخذه الأعداء للقتل ـ بعد أسره ـ أخذ يدعو دعاءً كثيراً وطويلاً عليهم ، وكان يردد مراراً وتكراراً وقتها بصوت عال جداً : ( قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ) .
وقد رأيت بنفسي أفاضل الأخوة ، والذين يعدون قادة للرشاد وأئمة للهدى رأيتهم وهم ينامون على الأرض ، أو على بطانية واحدة ، ولا يملكون من حطام الدنيا شيئاً من طعام أو شراب أو ملبس سوى ما يستر عوراتهم ، وبعضهم يتوسد يده بالليل أو حذاءه ، أو يتوسد الطبق الذي يأكل فيه نهاراً ، أو يتوسد قالباً من الطوب . وهم مع ذلك في سعادة غامرة لطاعتهم ربَّهم وما وفقهم إليه من الثبات على الحق والعبادة والطاعة ، وما فتح عليهم من المعرفة الحقة بالله وأسمائه وصفاته ، وهم في سعادتهم تلك كأنما حيزت إليهم الدنيا بما عليها ، وتشعر وكأنهم يرددون قول القائل : ( نحن في نعمة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ) . لا يهمهم من أمر الدنيا شيء ، ولا يشغلهم إلا هَمُّ العمل للإسلام وتمكينه في الأرض ، فتهتف قلوبهم : ( في سبيل الله ما أحلى المنون ! ) .
وهؤلاء الذين ذكرناهم ، استعذبوا الطريق ووجدوا له حلاوة أذهبت ألم الطريق ووعورته وصعوبته وعذابه ، بل حولت .. العذاب عذباً .. والمر حلواً .. والصعب سهلاً .. والغالي رخيصاً .. فرضاهم في رضا مولاهم الحق ، ومحبتهم للشيء هي من محبته سبحانه له ، فهم يسارعون إلى ما يحبه ربهم ويرضاه . وإن كان في ذلك فقدُ الدنيا بأسرها .
إن كان رضاكم في سهري فسلام الله على وسني
.. وبعد .. فهذه درجة عظيمة ، من وفقه الله إليها فقد وُفِّقَ إلى خير عظيم .
وأسأل الله أن يجعلنا من أهلها ، إنه سميع مجيب .



الدين يقوم على أكتاف أولي العَزَمات ...

اعلموا أن الدين لا يقوم إلا على أولي العزمات من الرجال ، ولا يقوم أبداً على أكتاف المترخصين والمترفين ، وحاشاه أن يقوم على أكتافهم .. فالدين العظيم لا يقوم إلا على أكتاف العظماء من الرجال ، والمسئولية الجسيمة التي ناءت بحملها السموات والأرض لا يمكن أن يقوم بها إلا أهلها ورجالها .
كيف يقوم الإسلام دون عزمة كعزمة “أنس بن النضر” الذي قال فيها : ( لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ) ، فشهد أحداً وقاتل حتى وُجِد بجسده ـ وهو ميت ـ بضع وثمانون طعنة وضربة ، حتى أن جسده قد مزق تمزيقاً فلم يعرفه أحد سوى أخته ، عرفته ببنانه.
وكيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه ؟ دون عزمة كعزمة “أبي بكر الصديق” يوم الردة ، إذ أقسم ـ ذلك الشيخ الكبير الرقيق البكاء ـ في عزمة من أعظم عزماته قائلاً : ( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه ) .
وقائلاً : ( والله الذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ما رددت جيشاً وجهه رسول الله ولا حللت لواءً عقده رسول الله ) .
كيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه ؟ دون عزمة كعزمة “مصعب بن عمير” ؛ تلك العزمة التي جعلته يهجر حياة الشباب والرفاهية ونقلته إلى حياة الخشونة والفقر والأسى ، تلك العزمة التي جعلت مصعباً سبباً في إسلام أكثر أهل المدينة حتى أنك تلمس من قصة حياة مصعب بن عمير أنه صاحب عزمة حتى في مماته ! ألا ترى أنه قطعت يده اليمنى وهو يحمل اللواء بها فحمله بيده اليسرى فقطعت فحمله بعضديه كل ذلك وابن قمئة اللعين يضربه بالسيف حتى قتل ـ رحمه الله ـ بل إنك قد تشعر وكأن هذه العزمة مستمرة معه حتى بعد موته فمصعب بن عمير المترف المرفه .. لا يجدون له بعد موته سوى ثوب .. إن غطوا به رأسه بدت رجلاه وإن غطوا به رجليه بدت رأسه ! فأمرهم رسول الله : أن يغطوا رأسه بالثوب ، ويضعوا شيئاً من نبات الإذخر على رجليه .
كيف تقوم للإسلام قائمة ويعود إلى سالف مجده وعزه دون عزمة مثل عزمة “صلاح الدين الأيوبي” ، تلك العزمة التي حطم بها الصليبين في حطين ، وأعاد الأمة الإسلامية إلى عقيدتها الصحيحة .. بعد أن كادت تغرق في بحر لجي من بدع الشيعة وضلالات الباطنية .
ما أحوجنا إلى عزمة كعزمة “صلاح الدين الأيوبي” ؛ تلك العزمة التي جعلت هذا السلطان العظيم يترك حياة القصور السلاطين والأبهة والترف ويرضى بالعيش في خيمة تحركها الريح في العراء ، ويظل حياته كلها يتحمل حر الصحراء وقيظها في الصيف ، وبردها وريحها وثلجها في الشتاء .. وغيره من المجاهدين .
وما أروع ما قاله في حقه المؤرخ ابن شداد : ( لقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً ؛ بحيث ما كان له حديث إلا فيه ، ولا نظر إلا في آلاته ، ولا كان له اهتمام إلا برجاله ، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه . ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه ، وسائر بلاده ، وقنع من الدين بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة ) () ...
فلولا أن قيض الله للأمة عزمة “صلاح الدين الأيوبي” تلك ، لكان دين الأمة وأرضها على السواء قد استلب ، ولم يبقى لها شيء بعد ذلك تعيش له أو به ..
كيف يقوم الدين والإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه ، دون عزمة كعزمة “عمر بن عبد العزيز” الذي أصلح الله به الأمة في عامين ونصف فقط ؛ حتى قيل : إن الذئب قد تصالح مع الغنم في عهده ! وذلك ليس ببعيد ولا غريب إلا على من قل علمه بالله وسنته مع أولياءه .
فما أحوج الأمة الإسلامية إلى عزمة كعزمة “عمر بن عبد العزيز” والذي كتب إليه أحد عماله يوماً يقول له : إن الإصلاحات المالية التي أدخلها الخليفة ، والتي تحط الجزية عما أسلم من البربر ، سوف تؤدي إلى قلة الخراج ، فكتب إليه عمر : ( والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا ، حتى نكون أنا وأنت حَرَّاثين نأكل من كسب أيدينا ) فقال مرة أخرى : (إن الله بعث محمداً هادياً ، ولم يبعثه جابياً) .
ولأهمية هذه العزمة في دين الله ؛ كان رسول الله يدعو ربه قائلاً : ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ) وذلك تعليماً لنا ، وتربية وتأديباً للمسلمين عامة ، وللعاملين للإسلام خاصة . فلنحرص على هذا الدعاء العظيم مع تعاطي أسباب التوفيق التي تعين على تحقيقها .
إن الهمة العالية لَتَغْلي في قلوب أصحابها غليان الماء في القدر ، وإنها لتستحث صاحبها على عظائم الأمور صباحَ مساء حتى يقول كما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ : ( الراحة للرجال غفلةٌ ) ويجعل مبدأ حياته الشعر الذي كان ينشده الإمام الشافعي :
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أحرم قبراً
همتي همت الملوك ، ونفسي نفس حرٍ ترى المذلة كفراً
ما أحوج رجالات الحركة الإسلامية إلى تلك الهمة العالية ، التي لا يقف أمامها مستحيل ، ولا تمنعها من التقدم عقبات أو عوائق ، مهما كانت .. ألا ترى كيف صنعت الهمة العالية بشقيقين من أصحاب رسول الله ، أصيبا في غزوة أحد إصابات شديدة ، ولندع أحدهما يروي القصة .. فليس هناك أبلغ من روايته في التعبير عن همتهما العظيمة قال : ( شهدت أحداً مع رسول الله أنا وأخ لي ، فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي ـ أو قال لي ـ أتفوتنا غزوة مع رسول الله ؟ ! والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح سقيم . فخرجنا مع رسول الله وكنت أيسر جرحاً ، فكان إذا غُلب حملته عقبة ومشي عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون ) ، هذا مع العلم بأن حمراء الأسد -وهي المكان الذي أمر النبي بالخروج إليه- تبعد عن المدينة ثمانية أميال !
بل إنني ما أعجبت بهمةٍ مثلما أعجبت بهمة “ورقة بن نوفل” ! ذلك الشيخ الكبير الذي وهن جسمه ، ورق عظمه ، وانحنى ظهره ، وابْيَضَّ شعره .. هذا الرجل قال لرسول الله : ( لئن يُدْرِكْني يومُك انصرْك نصراً مؤزاً ) ، وأدنى رأسه وقبلها . بل ذلك الشيخ في السن ، والشاب في الهمة والروح كان ينشد شعراً عظيماً ، بعد أن حدثته السيدة خديجة رضي الله عنها عن الرسول وصفاته ، وذلك قبل نزول جبريل عليه السلام على الرسول الكريم ؛ فقد كان ورقة يتمنى أن يدرك الوحي ، وأن ينصر الرسول في دعوته . فكان يقول :
لَججْتُ ـ وكنت في الذكرى لجوجاً لِــهَــمٍّ طالمــا بـعــث النشيجــا
ووصفٍ مــن خديجةَ بعد وصــــفٍ فقــد طــال انتظـاري يا خديجـة
بِبَطْـــنِ المكّتـيـــن علـــى رجـــائي حديثــك أن أرى منـه خروجــاً
بمـا خَبَّرتـِنـــا مـــن قــــول قـــسٍّ مــن الرهبـــان أكره أن يفوجاً
بــأن محمــداً سـيـســودُ فــيـنـــــا ويَخْصِمُ من يكونُ له حجيجــاً
ويـظهــر في البــلاد ضيـــاء نــور يـقيــم بــه البـريــة أن تموجــاً
فيـلقــى مــن يحــاربـــه خســــاراً ويلقــى مـــن يسـالـمـه فلوجاً
فيــا ليــتي إذا مــا كــان ذاكــــم شهـدت وكنــت أولهـم ولوجاً
ولوجــاً في الـذي كرهـت قريـشٌ ولـو عجــت بمكـتـــها عجيجـاً
أرجــي بالـذي كــرهــوا جميعـــاً إلى ذي العرش إن سفلوا عروجاً
فـإن يـبـقــوا وابـــق تـكــن أمـورٌ يـضــج الكـافــرون لهـا ضجيجاً
وإن أهـلـك فـكــل فــتىً سيلـقى من الأقــدار مَتْلَــفةً حَـروجـــاً
وفي الحقيقة كم أثرت فيَّ ـ وفي كثير من الأخوة كلمات ورقة بن نوفل ذلك الشيخ الذي يتحدى الدنيا بأسرها من أجل نصرة الرسول ، بل يتمنى أن يكون أول الناس ولوجاً في دين الإسلام وأولهم اتباعاً للرسول الكريم ، حتى ( ولو عجت بمكتها عجيجاً ) ولا يكتفي بذلك ! بل يعلن في تحديٍ سافر لجميع المشركين أنه إن أبقاه الله إلى ذلك اليوم ستكون أمور عظيمة منه في نصرة الحق والدفاع عن الرسول مهما ضج الكافرون لذلك ضجيجاً ، فهو لا يخاف في الله لومة لائم .
إن كلمات ورقة كانت تبعث في قلبي روح الشباب وحماسته التي أَفْتَقِدُ الكثير منها وأنا شاب ، واستشعر كأن ورقة على استعداد أن يحارب الدنيا كلها وحده لحماية الرسول الكريم والدفاع عنه وكم من المعاني الأخرى في قصة “ورقة بن نوفل” أسأل الله أن يوفقني لبسطها في رسالة تخصها . وصدق القائل :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
رحم الله القائل : ( فيا خاطباً حور الجنة وأنت لا تملك فَلْساً من عزيمة ! هيهات هيهات .. ذهبت حلاوة البطالة ، وبَقِيَتْ مرارة الأسف ) .
وصدق “ابن القيم” في قوله : ( يا مخنث الْعَزْمِ ! أقل ما في الرقعةِ البَيْدَقُ ؛ لو نَهَضَ لتفرذن ).


نريـــدُهـــا عزمـــةً شامــلةً ...

إن العزمة التي نريدها منك أخي المسلم عزمةٌ شاملةٌ ، عزمة في العلم والعمل ، عزمة في الدعوة و الجهاد ، عزمة في الإيمان واليقين والصبر والرضى ، عزمة في الحسبة والصدع بالحق ، عزمة في إصلاح النفس وهداية الخلق .
إننا لا نريدها عزمة ناقصة تقتصر على مجال واحد ؛ بل نريد ذلك الذي سمت همته في شتى مجالات العمل الإسلامي ، وليس في مجال دون مجال ، أو في ناحية على حساب أخرى وإنما نريدها عزمة كاملة شاملة تامة .
وإنني لم أجد في ذلك المعنى أبلغ مما قاله “ابن القيم” ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم ( طريق الهجرتين وباب السعادتين )
( ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل وادٍ ، الواصل إليه من كل طريق ؛ فهو جعل وظائف عبوديته قِبْلَةَ قلبه ونصب عينه ، يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت ، قد ضرب مع كل فريق بسهم ، فأين كانت العبودية وجدته هناك ، إن كان علمٌ وجدته مع أهله أو جهاد وجدته في صف المجاهدين ، أو صلاة وجدته في القانتين ، أو ذكر وجدته في الذاكرين ، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين ، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين . يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها . لو قيل له : ما تريد من الأعمال ؟ لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربي ، حيث كانت وأين كانت ، جالبةً ما جلبت ، مقتضيةً ما اقتضت ، جمعتني أو فرقتني ، ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقباً له فيها ، عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن السر . قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن . { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة()} ... ) .








قــولـــــوا للـمـنـافـقـيـــن ...

سيقول لك المنافقون والذين في قلوبهم مرض : أتظنون أن شيئاً مما تريدونه سيتحقق ؟ وهل تظنون أن الخلافة الإسلامية أو حتى الدولة الإسلامية ستقوم ؟ إن ذلك لا يمكن أن يحدث ، وهو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة ، وهل ستسمح أمريكا وروسيا وأوربا وإسرائيل بذلك ، وهم الأعداء الألداء للإسلام ودولته ! وسيقولون لكم : إنما تسعون إلى سراب ، وأنتم مغرورن قد غركم دينكم .. فإذا قالوا ذلك فتذكروا قول الله عز وجل : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم }
قولوا لهم : إن الخلافة الإسلامية ستعود ، مهما كانت الصعوبات والتحديات ؛ قولوا لهم : إن قيام الدولة الإسلامية أمرٌ لاشك فيه ، ولو بعد حين ، وإن نصر الله آت لا محالة .
وقولوا لهم : بل إن الله سيفتح على المسلمين روما كما وعد رسول الله في صحيح الحديث ، وكما فتحت القسطنطينة من قبل .. قولوا لهم إننا نأمل من نصر الله بما هو أبعد من ذلك ؛ إنما نرجو من الله أن يفتح الكرملين والبيت الأبيض ، ومعنا وعد الله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } .
أما متى يكون ذلك ؟ فهذه ليست مهمتنا ، ولم يكلفنا الله بها ، وإنما كلفنا بالعمل للدين ، والذود عن الشريعة ، واستفراغ الوسع في ذلك ، وبذل أقصى الجهد ؛ أما النتائج فهي إلى الله عز وجل ..
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى
والله للساعين خير معين
قولوا لهؤلاء كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه بعد أن فقد ولديه معاً ، يوسف وبنيامين : { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون }() .. قولوا لهم : رغم كل هذه الابتلاءات والشدائد ، فإننا نجد ريح الفرح والنصر والتمكين ، وعودة الخلافة الإسلامية ، لولا أن تفندونا . وكثير من الناس سيقولون لكم : إنكم في ضلالكم القديم . لقد قال المنافقون للصحابة بعد غزوة أحد : ( ارجعوا إلى دين آبائكم ) . وهذه الكلمات سيقولها المنافقون لأهل الإيمان في كل زمان ومكان إذا أصابت للعاملين للإسلام مصيبة أو وقع لهم مكروه ، أو تعرضوا للسجن والتعذيب أو القتل والجراح سيقولون عندها : دعوكم مما أنتم عليه وارجعوا عنه ، فإن هذا الدين هو الذي سبب لكم كل هذه المصائب ، وهو الذي أضاع مستقبلكم وألقاكم في غياهب السجون ، وشردكم في البلاد ، فاتركوا هذا الذي سبب لكم كل هذه المصائب تسلموا وتغنموا . فإذا قالوا ذلك فقولوا لهم : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } وقولوا لهم : {ولينصرن الله من ينصره} وقولوا لهم : { ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } وقولوا لهم : { قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيئاً علماً على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } .
وسيقول لكم المنافقون والذين في قلوبهم مرض مثلما قالوا عن أصحاب الرجيع ؛ الذين غَدَرَ بهم المشركون وقتلوهم جميعاً ؛ لقد قال المنافقون يومها : ( يا ويح هؤلاء المفتونين ، الذين هلكوا هكذا ! لا هم أقاموا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ) ـ يقصدون رسول الله ـ وهذه الكلمات ستقال لكم هذه الأيام كلما قتل بعض الإخوة أو سجنوا أو شردت أسرهم ، عندها سيقول الذين في قلوبهم مرض : لا هم قعدوا وسلموا ولا هم استطاعوا أن يزيلوا المنكرات والموبقات ، وسيقولون : لا هم قعدوا وسلموا واهتموا بمستقبلهم ومصالحهم ، ولا هُمْ أقاموا دولة الإسلام . فإذ سمعتم ذلك فتذكروا أن القرآن قد قال عن قائل هذه العبارة : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام } ، وهذا الوصف لا ينطبق عليه بعينه فحسب ، بل ينسحب منه إلى كل اتباعه وأشباهه ومن يقول بقوله في كل زمان ومكان ، فإذا سمعتم ذلك ، فقولوا لهم : إن هدفنا إقامة الدين ، أما إقامة الدولة فهي وسيلة من وسائل إقامة الدين وتحقيق ذلك الهدف ؛ ولا يمكن أن نضحيَ بالغاية من أجل الوسيلة .
وقولوا لهم قول الصديقة العظيمة “خديجة بنت خويلد” لرسول الله : ( أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ) .. ونحن نقول لكل من يعمل للإسلام مخلصاً لله في عمله : ما دمتم على الحق فأبشروا ، فوالله لا يخزيكم الله أبداً . إنكم لتصلون الأرحام وتذودون عن الشريعة ، وتدافعون عن الفضيلة وتحاربون الرذيلة ، وتدعون إلى الله على بصيرة ، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، وتقومون الليل وتصومون النهار .. و ..
وإذا سمعتم ذلك فتذكروا أجداد هؤلاء المنافقين ، { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين . ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وقولوا لهم : إن “ورقة بن نوفل” ذلك الشيخ الكبير كان يمر على “بلال بن رباح” وهم يعذبونه ، وهو يردد مراراً وتكراراً ـ في ثبات أعظم من ثبات الجبال ـ : “أحدٌ أحد” فيقول لهم “ورقة” : أحدٌ أحدٌ والله يا بلال ، أحلف بالله فإن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً ) .
فتأملوا هذا الفهم العميق للإسلام من ذلك الشيخ الذي لم يدرك من القرآن الكريم وأحاديث الرسول قبل أن يموت إلا الشيء اليسير ! ولكن نقاء القلوب وإخلاصها وتجردها عن الهوى وخلوها من النفاق .


ننتظر منكم نصر الإسلام
إننا ننتظر الآن ممن يعملون للإسلام ـ وخاصة الشباب منهم ـ يوماً ينصرون فيه الإسلام وأهله .. إننا ننتظر منهم يوماً كيوم “أبي بكر” في الردة ، و“خالد بن الوليد” في اليرموك و“سعد” في القادسية ، و“صلاح الدين” في حطين ، و“قطز” في عين جالوت ، و“محمد الفاتح” في القسطنطينة ، و“سليمان الحلبي” مع كليبر..
إننا نريد أن تقر أعيننا ـ ولو للحظاتٍ قبل أن نموت ـ برؤية الخلافة الإسلامية ، ونرى أعلامها ترفرف على المشارق والمغارب ، ونرى ظلالها الوارفة تملأ الدنيا عدلاً وحقاً ونوراً وهدىً ، نريد ذلك اليوم الذي كان ينظر فيه خليفة المسلمين إلى السحابة ويخاطبها بقوله : ( أيتها السحابة ! شرقي أو غربي ؛ فسوف يأتيني خراجك ) ، ولقد صدق في مقولته وقد امتد ملك الإسلام شرقاً وغرباً حتى بلغ أقصى المشارق والمغارب وقتها ، ووصل سلطان الخلافة إلى كل هذه الأصقاع فملأها بالخير والهدى والنور .
إنـنـا لفـي شـوق عـظيـم لذلك اليـوم الذي يفـتح الله فيه على المسلمين روميـه “رومــا” ، مـعـقـل النصرانيـة في العـالم ، والتي بشر رسول الله بفتـحها بعـد فـتـح القـسطنطينية ؛ وقد فتح الله القسطنطينيـة “استـانـبـول” على يد الأمير والسلطان العظيم “محمد الفاتح” الذي مُدِح في الحديث المعروف : ( لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش ) .. وقد كان السلطان الفاتح يتجهز لفتح رومية بعد فتح القسطنطينية ، مما جعل أوربا كلها تعيش في قلق ورعب وفزع دائم ، ولم يهدأ لها بال أن وافته المنية قبل أن يتم مشروعه العظيم ، وأبلغ دليل على هذا الرعب والهلع : أن كنائس أوربا عامة وروما خاصة ظلت تدق أجراسها لمدة ثلاثة أيام متصلة فرحاً بموت ذلك السلطان المسلم العظيم .. إننا ننتظر مثل هذه الأيام على أحر من الجمر .. إن انتصار الإسلام هو أغلى ما يتمنى المرء أن تقر به عينه في الدنيا إننا نستشعر الآن أن حسنة الدنيا التي ذكرت في قوله تعالى : {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} ليست هي الزوجة الصالحة ، إنما هي نصرة الإسلام والدين ـ كما قال بعض العلماء ـ وأكرم بها من حسنة ، إن هذه الحسنة تزيل كل همٍ وتذهب كل غمٍ وحزنٍ ولو فقد الواحد في سبيلها وأهله وولده وماله وجاهه .. إننا في شوق عظيم ليوم ينصر الله فيه دينه فيعز أولياءه وحزبه أكثر من شوقنا لزوجاتنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا الذين حُرِمْنا منهم سنوات طويلة ..
إننا في شوق عظيم لكي تقر أعيننا ليوم مثل ذلك اليوم الذي اقتحم فيه “عقبة بن نافع” المحيط الاطلسي بقوائم فرسه قائلاً : ( والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لغزوتها في سبيل الله ) ، وقال وهو ينظر نحو السماء : ( يا رب ! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك ).. إننا ننتظر منكم يوماً من هذه الأيام ، فهل تُلَبُّون هذا الرجاء ؟ وتستجيبون لهذا النداء ؟ :
وآلمـــني وآلـــم كــــلَّ حــــــرٍ سؤالُ الدهر : أين المسلمونا ؟
تُرى هل يرجعُ الماضي ؟ فإنـــي أتــوق لـذلــك المـاضـي حنيناً
دعــونــي مـن أمـانٍ كاذبــاتٍ فـلـم أجــد الـمُـنى إلا ظنــونا
وهاتــوا لـي مـن الإيمـان نــوراً وقَــوُّوا بـيـن جَنْبــيَّ اليـقـيــنـا
أَمُــدُّ يــدي فـأَنْتَــزِعُ الـرواسي وأَبْـني المَـجْــدَ مُـؤْتَلِـفـاً مـكـيـناً




العـمـلُ الإســلامــيُّ ليـس نـشـاطــاً وَقْتِـيّـاً

إن العمل الإسلامي ليس نشاطاً من الأنشطة تمارسه في أوقات فراغك وتتركه ساعة شغلك .. كلا!! إن العمل الإسلامي أعظم وأجل من ذلك بكثير ، وقضية انتمائك لهذا الدين أكبر من ذلك بكثير ، فالإسلام ليس من الأنشطة كالنشاط الثقافي أو الرياضي أو الكشافة تمارسه وأنت طالب وتتركه حين تتخرج ، أو تمارسه وأنت أعزب وتتركه بعد الزواج ، أو تعطيه وقتك قبل الوظيفة فإذا ما صرت موظفاً أو افتتحت عيادة أو صيدلية أو مكتباً استشارياً أو شغلتك الدروس الخصوصية تركته وأهملته .. حاشا وكلا !! أن يكون العمل الإسلامي كذلك .
إن قضية العمل للإسلام والانتماء له هي قضية عبوديتك الحقة لله عز وجل ، فلن ينخلع المسلم عن العمل الإسلامي بمقتضى عبوديته لله إلا مع آخر نَفَسٍ يخرج منه في هذه الحياة .. ألم تسمع ـ أخي ـ قول الله عز وجل : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي حتى يأتيك الموت . لم يقل القرآن : واعبد ربك حتى تتخرج من الجامعة أو تصبح موظفاً أو حتى تتزوج أو حتى تفتتح العيادة أو المكتب الاستشاري أو .. أو ..
ولقد فهم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم هذه الحقيقة البسيطة والهامة في دين الله عز وجل ، فوجدنا أنَّ “عمار بن ياسر” كان يقاتل في سبيل الله وهو في التسعين من عمره ! وأقول : كان يقاتل ، ولم أقل : كان يدعو أو يعلم الناس أو يقوم بالحسبة فقط ، ولكن كان مع ذلك كله يقاتل في سبيل الله وهو في ذلك العمر الذي يرق فيه العظم ، ويهن فيه الجسم ، ويشيب فيه الشعر ، وتضعف فيه القوى . وكان “أبو سفيان بن حرب” يحرض المقاتلين على القتال وقد جاوز السبعين من عمره . وكذلك “اليمان” و “ثابت بن وقش” قاتلا في غزوة أحد وذلك بالرغم من سنهما الكبير وبالرغم من عذر الرسول لهما ـ إذ جعلهما في مؤخرة الجيش مع النساء ـ .. ولماذا نذهب بعيداً ؟! فهذا رسول الله في سبع وعشرين غزوة ، وتلك الغزوات كلها غزاها بعد أن جاوز الرابعة والخمسين من عمره الشريف، بل إن رسول الله شهد غزوة تبوك وقاد المسلمين فيها ـ وكانت من أصعب الغزوات وأشـدهـا على المسلمين ـ وقد بلغ الستين من عمره .
فما بالنا اليوم نرى الكثير يتركون العمل للإسلام بعد التخرج أو الزواج أو الانشغال بالتجارة أو الوظيفة أو ... أو ... !!
فليعلم هؤلاء جميعاً أن أمر الدين والإسلام ليس عبثاً أو لهواً هكذا .. { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } .. إنني أقول لهؤلاء : أين عهودكم التي قطعتموها على أنفسكم أمام الله وليس أمام البشر !؟ { وكان عهد الله مسئولاً }() ..
أين هتافكم الذي كنتم ترددونه بين الحين والآخر :
في سبيــل الله قـمنـــا نبتغي رفع اللـــــواء
ما لحزبٍ قد عملـنــــا نحن للدين فـــــداء
فلْيَعُــدْ للــديـن مجـدُه أو تُرَقْ منا الدماءْ ؟
بل أقول لهم : إن عاقبة النكوص وخيمة ، لاسيما لمن عرف الحق ثم انصرف عنه ، ولمن ذاق حلاوة الحق ثم انغمس في الباطل . إن نكث العهد مع الله من أعظم الذنوب عند الله وعند المؤمنين {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } ، وليتدبر كل من تسول له نفسه الأمارة بالسوء أو يزين له الشيطان أو ينكص على عقيبه ـ قوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } ، ثم ليتدبر جيداً ذلك العقاب الرادع العادل : { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
إن قضية العمل للإسلام قضية خطيرة .. وللأسف قد ينظر إليها بعض ضعاف الإيمان ـ ممن يشاركون الأخوة العمل للإسلام في الجامعة ـ وكأنها شركة تجارية مع هؤلاء الأخوة وما تلبث الشركة أن تنفض مع انقضاء الأعوام الدراسية ، أو يظنونها فترة زمالة وصداقة في الجامعة ثم تنتهي بالتخرج ! لتنتهي القضية بِرُمَّتها ..
وأنا أقول هنا : “ ضعاف الإيمان” لأن المرض ينشأ عادة من ضعف الإيمان ، ومرض القلب ، ووهن العزيمة ، وعدم رسوخ معاني الإيمان في القلب وليس في العقل ، فالعيب غالباً ـ بل دائماً ـ في القلب وليس في العقل ، والعيب من ناحية خلل الإيمان وليس نقص العلم ، ومن ناحية الشهوة لا من ناحية الشبهة ونتيجة لحب الدنيا وليس نتيجة لقلة الوعي ؛ فمن توجه بالعلاج فليتوجه إلى تلك القلوب ليزيل عنها درنها ويعالجها من دائها ومرضها ، ولكن قلَّ الأطباء في هذا الزمان ، وأقصد بالطبع أطباء القلوب، فأطباء الأبدان ما أكثرَهم وما أمرضَهم !
إن الذي يرتد عن الحق بعد ما عرفه ، قد آثر لذة فانية وشهوة منقطعة ، وطلب فرح ساعة بغم دهر ، وألقى بنفسه في بئر المعصية ، وأعرض عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية .. فأصبح في أسر الشيطان مقيماً ، وفي أودية الحيرة هائماً ، وفي سجن الهوى مقيداً ..
وبتجربتي الشخصية ؛ وجدت أن كثيراً من هؤلاء يصبحون أسوأ من عوام المسلمين ! ولعل ذلك من عقاب الله لهم ..
فأصبح كالبازي المنتف ريشه يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ



عـــددٌ كثــيـرٌ والعــمـلُ قـلــيــلٌ !!

إننا نرى الآن أعداداً هائلة من الإخوة الملتزمين بالإسلام ، حتى أنك قد ترى في القرية الواحدة مئات من الإخوة ! وبالرغم من هذه الأعداد الهائلة ، فإنك إذا ذهبت تعد الذين يعملون للإسلام بجدٍ واجتهادٍ وعزيمةٍ ، ويَصْدُقُ عليهم فعلاً مسمى العاملين للإسلام إذا ما ذهبت تعدهم فلن يجاوزوا العشرات ، بل إنك قد تستطيع أن تعدهم بسهولة وتعرفهم بأسمائهم .. فأين هذه الآلاف المؤلفة من العمل والبذل والعطاء ؟! أين هم من ميادين الدعوة والحسبة والجهاد ؟؟!!.. إنهم يلعبون دور المتفرج فحسب ويكتفون بذلك ، لأنهم اكتفوا بدرجة انتقالهم من الجاهلية إلى الالتزام بالإسلام .. ثم بعد ذلك توقفوا عند هذه الدرجة فلا يريدون مفارقتها إلى درجات أخرى أو حتى بدرجة إعداد أنفسهم للبذل والعطاء في مجالات العمل الإسلامي المختلفة ، وإذا سألت أحدهم عن عطائه للإسلام وعمله في سبيل الدين وما قدمه للجماعة المسلمة منذ التزامه وحتى اليوم ؟ نجد أنه مستمع فقط ؛ فهو يحضر الحلقات واللقاءات والمؤتمرات ويقرأ البيانات والمنشورات التي تصدر وكفى .. أي أنه سلبي لا عطاء له ، حتى أنك قد تجده أيضاً في غاية التقصير في مجال إعداد نفسه من النواحي المختلفة ؛ فقد يمر عليه عام أو أكثر .. ولم يقرأ سوى كتاب أو كتابين من الكتب الإسلامية التي يجب على مثله أن يقرأ مثلها قراءة متقنة في أسبوع واحد على الأكثر !
إن هذه المشكلة تضيع على الإسلام والدين آلاف الطاقات التي كان يجب أن تتفجر في ميادين العمل الإسلامي المختلفة : في الدعــــوة والحسبـة والجهـــاد .. إن هؤلاء الذين لا يعطون للإسلام إلا الفضلة من أوقاتهم ، والقليل من أموالهم ، والضعيف من جهودهم .. هؤلاء لابد أن يدركوا جيداً ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ) وكما أن الله لا يقبل الرديء من الطعام إذا تصدقت به ، فكذلك لا يقبل منك الرديء من العمل إذا اخترت أن تعطيه للإسلام : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } إن الإسلام يريد منك جل وقتك ، وأكثر مالك ، وزهرة شبابك ، إنه يريدك كلك .. يريدك في وقت نشاطك لا في وقت خمولك .. يريدك في وقت شبابك وقوتك وصحتك وعنفوانك قبل هرمك ، إنه يريد من كل شيءٍ منك أطيَبَهُ وأحسنَه وأجلَّه وأعظمَهُ.
ألا ترى أن “أبا بكر الصديق” رضي الله عنه تصدق بماله كله في سبيل الله وعلى دعوة الإسلام ، فقال له الرسول : ( وماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟ ) قال : ( تركت لهم الله ورسوله ) ..
ألا ترى “عثمان بن عفان” جهز جيش العسرة “تبوك” وحدَه، ولكم أن تتصوروا أن رجلاً واحداً يجهز جيشاً كاملاً بسلاحه وعتاده وعدته وخيله ودوابه وزاده .. وقد كان عدد الجيش يربو على عشرة آلاف مقاتل !! .. ولك أن تربط بين هذا العطاء العظيم وواقعنا الحالي ؛ إذ إن الأغنياء من المسلمين كثير جـداً ـ بل وبين الإخوة أيضاً ـ وبالرغم من ذلك لا نجد الآن من ينفق على الدعوة الإسلامية ـ لا أقول في محافظة أو مدينة أو قرية ـ ويتحمل تبعات الدعوة من الناحية المادية ، وأنا أقول الدعوة ولا أقول في الجهاد ! ـ إذ الأخير يحتاج إلى أموال طائلة لا حصر لها ـ ورغم ذلك قد لا تجد مثل ذلك الأخ ، بل إنك قد تجد أخاً يعمل في إحدى دول الخليج منذ أربع أو خمس سنوات مثلاً ، ويعيش في رغد من العيش وترفٍ من الحياة ، وهو يعلم تماماً ما يحتاجه العمل الإسلامي ويعلم ما يحتاجه إخوانه ، بل ويعلم علم اليقين أن كثيراً من أسر المُبْتَلَينَ في الله ـ الذين يعدون بالآلاف كل حين ـ تحتاج إلى المساعدة ، ولا يفكر رغم ذلك كله في أن يجاهد بماله في سبيل الله ـ حتى على الأقل عوضاً عن الجهاد بنفسه ـ طوال تلك السنوات ، ولا يفكر حتى في مساعدة بعض أسر هؤلاء المجاهدين ليخلفهم في أهلهم بشيء من الخير ! إنه لا يفكر في ذلك كله ، وإذا ذكره أحد دفع بعض جنيهات لا تسمن ولا تغني من جوع .. وردُّها عليه أفضل من قبولها ، بل إنها لا تساوي ثمن الوقود الذي يشتريه لسيارته في يوم واحد !!
إن الإسلام يريد ذلك الرجل الذي يعطي كل شيء لدينه : يعطي حياته ووقته وماله وجهده وروحه وبيته وسيارته وكل ما يملك ، إننا نريد الرجل الذي يبيع نفسه لله بما تحمل هذه الكلمة من معانٍ ، نريد الرجل الذي يكون له في كل يوم عطاء جديد للإسلام .. ألا ترى أن “مصعب بن عمير” ذلك الشاب المرفَّه المعطَّر الذي كان يلبس أفخر الثياب ، وتتمناه كل فتيات قريش لجماله ووسامتــه وشــرفــه ونسبه ـ ألا ترى أنه حين أسلم قدَّم كل شيء وأعطى كل شيء ولم يبخل بشيء ، حتى لبس الثياب المرقعة حيِّاً ، ولم يجدوا ما يكفنونه به وهو ميت ، وهو في كل حياته تلك يحقق في كل يوم نصراً جديداً للإسلام في الدعوة والجهاد ، فهو داعية الإسلام الأول في المدينة وهو السبب في هداية أكثر أهلها وهو واضع اللبنات الأولى في إقامة الدولة الإسلامية في المدينة ، وهو في المقابل أيضاً المقاتل العظيم ، وحامل اللواء في أحد ، وهو من أعظم شهدائها .. إنه العطاء الحق للإسلام والدين والجماعة المسلمة .
إن على كل مسلم أن يسأل نفسه بين الحين والآخر .. كم هدى الله على يدي هذا الأسبوع ؟ وكم قريةً ذهبت إليها داعياً إلى الله ؟ هل دعوت أقاربي وجيراني ووالديَّ أم لا ؟ وهل تقدمت خطوات نحو فهم الإسلام والعمل به وله ؟ كم أنفقتُ من جملة مالي للمسلمين في سبيل الله هذا الأسبوع ؟ وكم أسرة من أسر المُبتلَيْنَ أَعَنْتُهَا بنفسي أو مالي مادياً أو معنوياً ؟ وكم أسرة من أسر الشهداء قضيتُ حاجاتها ؟ كم ليلةً بت فيها أفكر للعمل للإسلام عامة ، أو في مدينتي أو قريتي خاصة ، أو ما جاورها من مدنٍ وقرى ؟ كم مرةً أمرتُ فيها بالمعروف أو نهيتُ عن المنكر ؟ كم مرةً قاتلتُ فيها الأعداء “أعداء الإسلام” وأحدثت فيهم نكاية ؟! كم مرةً ثأرتُ فيها لحدود الله ودافعت فيها عن المسلمين وعن دمائهم وأعراضهم ؟ كم مرةً عدتُ مريضاً ودعوته للإسلام ، أو أصلحتُ بين متخاصمين ، أو زرتُ أخاً في الله ، أو دعوته لله في هذا الأسبوع ؟ ... إلى غير ذلك من الأسئلة التي يجب أن تحاسب نفسك عليها بين الحين والآخر ، لتكشف من خلال إجاباتها الصادقة مدى تقصيرك في حق الله وتفريطك في حقه سبحانه وتعالى ، وتتدارك هذا التقصير قبل أن يعاقبك الله ويحرمك من شرف العمل لدينه وشرف الاندراج في سلك { أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } ، وفي سلك { من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله }.
تُرى لو أن عاملاً في مصنع كان لا يفعل شيئاً ولا ينتج شيئاً ، وليس له عمل سوى أنه يوقع في دفتر الحضور صباحاً والانصراف آخر النهار ، ولا يقضي وقته في المصنع وهو يتفرج على زملائه وهم يعملون بجد واجتهاد .. ترى ماذا يفعل صاحب المصنع مع هذا العامل ؟ .. إنه سيفصله من العمل فوراً .. وكذلك الأخ الذي لم يفهم من الإسلام إلا أن يلبس قميصاً أو يطلق لحيته وهو سلبي لا يقدم للإسلام شيئاً ، وإن أعطى فإنه يعطي القليل أو الرديء ..
إن بضعة أفراد من القادة والإخوة الذين يعملون للإسلام بجدٍ واجتهاد لن يستطيعوا ـ مهما كان بذلهم وجهدهم ـ أن يقيموا الدولة الإسلامية ، ولا حتى أن يقوموا بأعباء العمل للإسلام بفروعه الكثيرة في كل هذه البلاد الشاسعة ، والجميع يعلم الآن تلك الضربات المكثفة التي يقوم بها طواغيت الحكم ضد العاملين للإسلام ، مما يعرض هؤلاء الإخوة للابتلاء بين الحين والآخر ، ليتركوا من خلفهم فراغاً كبيراً ينبغي سده ، كما أن تلك الحملات تقيد حركتهم وتحد منها وتستوجب على كل أخ أن يبذل الكثير والكثير ، وأن يترقى في درجات العمل للإسلام والبذل والعطاء مما يؤهله لتحمل المسئولية ، مسئولية العمل للإسلام ، ويتعلم كيف يدعو ويربي ويقوم بالحسبة والجهاد وتشغيل الآخرين ، وكل ما يتطلبه ذلك من لقاءات ومهارات .
وعلى الأخ المسلم ألا يجلس في بيته منتظراً من يقوم له بكذا ! ومن يفعل له كذا ! ومن يُحضر له كذا ! وأن يجتهد قدر إمكانه ليقوم بوظائف العمل للإسلام كلها في همة ونشاط وقوة وفاعلية وإتقان وإحسان ، ليصدق فيه قول القائل :
ترى الجموع ولكن لا ترى أحداً
وقد ترى همة الآلاف في رجل
إن الإسلام اليوم في حاجة إلى ذلك الرجل الذي يضحي بكل شيء ويسترخص كل غالٍ في سبيل الله ، وينفق عمره كله لله ولنصرة دينه ..
إن الإسلام اليوم يريد ذلك الرجل الذي يقول من قلبه كما قال “سعد بن معاذ” لرسول الله يوم بدر ؛ وهو أول يوم عصيب تمر به الدولة الإسلامية الوليدة في المدينة المنورة ؛ ـ قال رضي الله عنه : ( فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ) وقال له : ( فصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت .. وخذ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحبَّ إلينا مما تركت).. إنها أعظم وأصدق كلماتٍ قالها جندي لقائده على مر التاريخ ! إنها كلمات تنبض بالحياة والحركة والصدق ، ورغم مرور أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان عليها وما شاء الله أن ينمحي أثرها إلى قيام الساعة . إنها تعبير صادق عما يعتمل في مشاعر ونفوس تلك الثلة المؤمنة من الأنصار تحت قيادة ذلك الرجل العظيم “سعد بن معاذ” إنها كلمات هتف بها قلب سعد قبل أن ينطق بها لسانه الصادق ، وكذلك كان لهذه الكلمات أبلغ الأثر على الرسول الكريم ، الضحوك القتال ؛ فقد سر رسول الله لقول سعد ونَشَّطه ذلك للقتال ، وقال : ( سيروا وأبشروا ، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ) .
إن الإسلام اليوم يريد من جنوده في كل مكان أن تهتف قلوبهم وألسنتهم بمثل كلمات “سعد بن معاذ” وبنفس صدق “سعد بن معاذ” ، وأن يقولوا من قلوبهم لقادة الحق والرشاد ما قاله ذلك البطل المغوار “المقداد بن عمرو” ، فقد قال : ( يا رسول الله ! امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } ؛ ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ). .
قولوا لهم : إننا لن نتفرج عليكم وأنتم تعملون في سبيل الله تدعون وتأمرون وتنهون وتصدعون بالحق وتجاهدون في سبيل الله ، بل سنكون معكم مهما كانت الصعاب والمشاق .. لن نترككم تقاتلون وحدكم ، ولكننا سنقاتل معكم ونبذل وننفق ونعطي معكم ، فامضوا لما أمركم الله ورسوله ، وامضوا إلى حيث أراكم الله ورسوله ..
إن الإسلام يريد اليوم من كل مسلم أن يقول لنفسه : هل من الإنصاف أن أستريح وإخواني في الله يتعبون ؟ أو أنام قرير العين وإخواني في الله يبتلون ؟ أو أترك العمل للإسلام وأنا أرى ما يعيشه المسلمون من محن قاسية وحرب ضروس مع أعدائهم ؟ .. أن يـقـــول لنفسه كما قال الصحابي الجليل “أبو خيثمة” يوم تأخر عن اللحاق برسول الله في تبوك فقال : ( رسول الله في الضَّحِّ والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل باردٍ ، وطعام مهيَّءٍ ، وامرأة حسناء ، في ماله

مقيم ! ما هذا بالنَّصَفِ ).. إن هذه الكلمات العظيمة يجب على كل مسلم عامة وكل أخ ملتزمٍ خاصة أن يقولها لنفسه ، ويحدث نفسه قائلاً لها : إخواني في الله بعضهم مبتلى ، وبعضهم مشرد لا يجد له مأوىً ، وبعضهم قتيل وجريح ، وأنا أرفل في النعيم ، وآكل أشهى الأطعمة ، وأشرب أعذب المشروبات ، في ظلالٍ وارفةٍ ونعيمٍ مقيمٌ ، ولا أقدم للإسلام شيئاً ، بل أترك إخواني وحدهم يتحملون تلك المصاعب الجسيمة ! ما هذا بالنصف والعدل ؛ والله لألحقن بأخواني فأجاهد بجهادهم وأبذل في سبيل الله معهم ، وأكون معهم حيث ينالني في سبيل الله ما نالهم ، وأتحمل في سبيل الله ما يتحملون ..
إن الإسلام يريد منكم أن تقتدوا برسول الله ، الذي أمره ربه بقوله : { فإذا فرغت فانصب } ، أي إذا فرغت من طاعة فاتعب في غيرها .. ، فما أشد حاجتنا اليــوم إلى هذا التوجيـــه ـ القرآني العظيم ـ الذي إن طبقناه في عملنا الإسلامي قفزنا خطوات سريعة على طريق النصر والتمكين . إنه يقول لكل مسلم : لا وقت للراحة والخلود إليها فإذا فرغت من طاعة فبادر إلى غيرها ، إذا انتهيت من عملٍ للإسلام فلا تقف عنده لسبب أو لآخر من عُجْبٍ به ، أو حديثٍ عنه ، أو تأملٍ فيه ، أو فخر به ، أو اكتفاءٍ به ، بل عليك بالمسارعة إلى النصب والتعب في عملٍ غيره ، وهكذا .. إنَّ عَجَلَةَ عَمَلِكَ للإسلام إذا دارت فإياك أن توقفها لحظة بحجة أو بأخرى فإنك إن فعلت أَوْشَكَتْ أن لا تدورَ أبداً ، وإن دارت بعد ذلك دارت بمشقة ؛ فالحسنة تدل على أختها ، والطاعة تدعو إلى شقيقتها ، والبر يدعو إلى صنوهِ ، والكسل والبطالة كذلك . وتذكر دوماً أنك على ثغرٍ من ثغور الإسلام ، فلا يُؤْتَيَنَّ الإسلام من قِبَلِك ، وإياك أن تغفل عن موضعك لحظة ، فإنك إن فعلت أَوْشَكَ العدو أن يقتحمه ويقتلك ومن معك ومن ورائك .
ومن ترك ريَّ زراعته مرة أو مرات قليلة ، فسدت وما صلح لها ثمر . فعلى الأخ المسلم أن يَصِلَ ليله بنهاره وصباحه بمسائه ، وصيفه بشتائه عملاً في سبيل الله ..
ألا ترون أن رسول الله غـزا سبعاً وعشرين غزوة بعد أن جـاوز الخمسين من عمره ! وذلك بخلاف السرايا التي كان يود أن يخرج فيها بنفسه لولا خوف المشقة على أصحابه ، كما ورد في الحديث .. وقد بحثت في سجلات أكثر الناس جهاداً وصلاحاً في زماننا فما وجدت لأحدهم شيئاً يُذْكَرُ أمام جهاد الرسول الكريم وبالرغم من شبابهم وفتوتهم ..
فأين المقتدون برسول الله ، وأين وارثو النبوة ؟ وأين السالكون لطريقه والمقتفون لأثره ؟ فحقاً ( الناس كإبلٍ مائةٍ ، لا تكاد تجد فيها راحلة ) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم . وإننا في كل هذا نبحث عن تلك الراحلة التي تتحمل عناء الطريق ، وقسوة الطقس ، وقلة العلف ، وثقل الحمل.

فَلْنَتَمَسَّكْ بِأَسْبابْ النَّصْرِ

إن نصر الله غال ولا يتنزل على كل أحد من المسلمين ، وإنما ينزله الله على طائفة مخصوصة لها صفات خاصة . وهذه الطائفة قد أعدها الله لنصره وهيأها لأمره ، وصنعها على عينه ، ورباها سبحانه تربية خاصة بحيث تكون جديرة بالتمكين في الأرض ، ولتكون أهلاً لإقامة الدين على ربوعها . وهذه الطائفة المنصورة هي تلك التي عناها رسول الله بقوله : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) .
وهذه الطائفة الظاهرة على الحق لم تكن يوماً لتنتصر على أعدائها بكثرتها العددية ، بل هم دوماً قليلٌ . وأهل الإيمان في كل زمان لا ينتصرون على عدوهم بعدد ولا عدة ، ولكن ينتصرون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به ، كما قال “عبدالله بن رواحه” يوم مؤته : ( وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ) .
بل إنك إذا استعرضت جميع معارك المسلمين مع عدوهم ، وجدتهم دائماً أقل بكثير من عددهم عدداً وعدة ، وصدق “أبو بكر الصديق” الذي كتب إلى “عمرو بن العاص” قائد جيشه بقوله : ( سلام عليك ! أما بعد فقد جاء في كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع ، وإن الله لم ينصرنا مع نبيه بكثرة عدد ولا بكثرة جنود ، وقد كنا نغزو مع رسول الله وما معنا إلا فَرَسان وإن نحن إلا نتعاقب الإبل ، وكنا يوم أحد مع رسول الله وما معنا إلا فرس واحد كان رسول الله يركبه ، ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا واعلم أن أطوع الناس لله أشدهم بغضاً للمعاصي ، فأطع الله ومر أصحابك بطاعته ) .
إن سنن الله لا تحابي أحداً ، فللنصر أسباب وللهزيمة أسباب ، فمن وفقه الله لأسباب النصر نصره الله، ومن لم يوفق إليها فلا يلومن إلا نفسه ، { ليس بأمانيكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به} فإذا أرادت الجماعة المسلمة أن تنتصر على أعدائها فإنها لابد أن تتخذ أسباب النصر كما اتخذها الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك من تبعهم بإحسان .
ولو أخذنا نفتش عن أسباب النصر بالتفصيل فإن هذه الصفحات لن تتسع لذلك ولكن علينا أن ننظر إجمالاً في تلك الأسباب التي كانت وراء تلك الانتصارات العظيمة التي تحققت على أيدي الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .. فقد روي في السيرة أن أصحاب الرسول كان لا يثبت لهم عدو فواق ناقة عند اللقاء ، حتى إن هرقل عندما كان في أنطاكية وقدمت الروم منهزمة ، قال لهم : ويلكم ! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم : أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى .. قال : فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا : بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن . قال : فما بالكم تنهزمون ؟ قال شيخ من عظمائهم : ( من أجل أنهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويتناصفون بينهم ، ومن أجل أنَّا نشرب الخمر ، ونزني ، ونركب الحرام ، وننقض العهد ، ونغصب ونظلم ، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضي الله ، ونفسد في الأرض ) . فقال : أنت صدقتني .. فقد لخص الشيخ الرومي بحنكته أسباب النصر وأسباب الهزيمة ، وبيَّن هذا الرومي أن جيش المسلمين قد أخذ بأسباب النصر كلها ، وأن الروم قد أخذوا بأسباب الهزيمة كلها ، فنصر الله من يستحق النصر وخذل من سواه .. وقد بيًّن تلك الأسباب أيضاً أحد جواسيس الروم الذين أرسلهم “القبقلار” لاستطلاع جيش المسلمين ، وذلك عند قدومه لفتح بلاد الشام ، فقد قال هذا الجاسوس بعد عودته للقبقلار ـ واصفاً له جيش المسلمين ـ : ( بالليل رهبان ، وبالنهار فرسان ، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ، ولو زني رُجم ، لإقامة الحق فيهم ) فقال له القبقلار : ( لئن كنت صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ، وَلَوَددت أن حظي من الله : أن يخلي بيني وبينهم ، فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم علي ) .
وقد بيَّن أسباب النصر والهزيمة أيضاً : أحد أصحاب “طليحة الأسدي” عندما رأى الأخير كثرة انهزام أصحابه في المعركة ، فقال : ويلكم ! ما يهزمكم ؟ قال رجل منهم : ( أنا أحدثك ما يهزمنا ، إنه ليس من رجلٌ إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله ، وإنا لنلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه) .
وأوضحها أيضاً : أحد جواسيس الروم الذي أرسلهم بِطْريقُ دمشق ؛ وذلك عند قدوم جيش المسلمين ناحية الأردن . فقد قال الجاسوس للبطريق : ( جئتك من عند رجال دقاقٍ ، يركبون خيولاً عتاقاً ، أما الليل فرهبان ، وأما النهار ففرسان ... لو حَدَّثْتَ جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر ) ، فالتفت بطريق دمشق إلى أصحابه ، وقال : ( أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به ) .
ولعلك تدرك كيف كان جيش المسلمين ينتقل من نصر إلى نصر ، وتدرك أيضاً أسباب هذه الانتصارات إذا أخذنا عينة من ذلك الجيش ، وتفحصنا حالة كل جندي من جنوده ؛ فقد ذكر “ابن جرير” في تاريخه: ( أنه لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بِحقٍّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا له : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به ، فعرفوا أن للرجل شأناً ، فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه ، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا هو “عامر بن عبد قيس” ) .
وذكر “ابن جرير” أيضاً : ( أنه لما قُدِمَ بسيف كسرى على “عمر” رضي الله عنه ، ومنطقته وزبرجه ، قال : “إن أقواماً أدوا هذا لذووا أمانة” ، فقال “عليٌ” رضي الله عنه : “إنك عففت فعفَّت الرعية” ) ..


فـلْنَـصْـــدُقْ مـــع الـلـــــهِ

إذا صدق العبد مع ربه ، وأخلص لله في دعوته ، فإن ذلك ينعكس على دعوته وعلى المدعوين الذين يرون بأعينهم ، ويستشعرون بقلوبهم ، ويحسون بنفوسهم صدق هذا الداعية ؛ يرون ذلك في نفسه المطمئنة التي تعلوها السكينة والرضا والإخبات ، ويرون ذلك في وجهه : فالعينان صادقتان ، واللسان والشفتان كذلك ، حتى الابتسامة صادقة ، ووجه كله بخلجاته وسكناته صادق كذلك ، فالمدعوون يرون في وجه الداعية الصادق مع ربه المهابة والنور والبهاء ، ويرون جوارحه كلها قد علاها الخشوع والوقار ، حتى أن المدعو لينظر إلى وجه الداعية فيقول : هذا رجل صادق ، قبل أن يسمع كلامه أو يحاوره أو يناقشه .. ألا ترى إلى ذلك الرجل الذي جاء إلى رسول الله فقال له : أنت محمد بن عبدالله؟ قال : ( أنا الذي يزعمونني ذلك ) قال : والله ما هذا الوجه بوجه كذاب . وأنت أخي المسلم كلما كان ميراثك من النبي ومن صدقه وإخلاصه وإيمانه وعمله عظيماً ، كلما كان حظك من هذا المعنى عظيماً ..
إن النبي لم يورث ديناراً ولا درهماً ، إنما ورث دعوة تُبلَّغ ، وعلماً تربي عليه نفسك وغيرك ، وورث هدىً وتقوى وإيماناً وخشوعاً وإخلاصاً ويقيناً . وكلما كان حظك من ميراث النبوة عظيماً ، كان اهتداء الناس على يديك بأيسر سبيل ومن أقصر طريق ، فهذا المدعو قد يلتزم بالإسلام والعمل به وله بمجرد رؤيته لك ، وآخر يهديه الله بمجرد جلوسك معه دقائق معدودات ، وثالث يهديه الله على يديك لمجرد أن سلم عليك وسلمت عليه أو أكلت معه أو حتى ابتسمت له ، ورابع يهديه الله على يديك بعد أن جالسك ساعة أو أقل قليلاً في سفر .
ألا ترى أن “عداساً” مولى عتبة بن ربيعة أسلم على يدي رسول الله بعد أن سمع كلمتين اثنتين من رسول الله هما “بسم الله” نطق بهما الرسول الكريم قبل أن يمد يده إلى قطف العنب الذي جاء به عداس إلى رسول الله ، فلما علم أنه نبي أكب عليه يقبل يديه ورجليه ، ويعلن انضواءه تحت راية الإسلام الحنيف .
ألا ترى أن رسول الله حينما وضع يده على قلب ذلك الشاب الذي كان يحب الزنا ويريد من الرسول أن يأذن له فيه ، فبعد أن انتهى الرسول من رفع يده من على قلبه ودعا له بالعفة والعفاف أصبح الزنا أبغض شيء إلى ذلك الرجل بعد أن كان أحب شيء إليه .
وكذلك المشرك الذي جاء من مكة إلى المدينة ليقتل رسول الله بتحريض من صفوان بن أمية ، فلما أخبره رسول الله بما كان من أمره مع صفوان قال:(أشهد أنك رسول الله ... ) .. وغيرهم .. وغيرهم كثير ممن يرون رسول الله فقط ، فتقع محبته في قلوبهم . ويضحوا بعد ذلك بالغالي والرخيص والنفس والنفيس فداء للحبيب محمد ..
وأنت كلما كان ميراث النبوة لديك كبيراً ،كان لك حظ وافر من ذلك كله ، فرؤية وجهك قد تكون سبباً في الهداية ، ودعاؤك للمدعو قد يكون سبباً في نقله من حال إلى حال ، بل وابتسامتك كذلك دون أن تحتاج أن تكلم المدعو ساعاتٍ أو أياماً تستغرقها لتشرح له فكرك ـ كما يقولون ـ أو تبين له آراءك في شتى المسائل الهامة ، فبضع دقائق منك كفيلة بأن توصل إلى قلب المدعو بعضاً من نور هدايتك وميراثِ النبوة الذي يملأ قلبك وأن تشحن بطارية إيمانه الفارغة من بطارية إيمانك العامرة ..
إن المؤمن ليزداد ميراثه من النبوة حتى يفوح عبير إيمانه وإخلاصه وصدقه فلا يقف عند المكان الذي يعيش فيه أو الزمان الذي كان يحيا فيه ، بل يمتد أثره على الأجيال ..
ألا ترى أن أمثال “مصعب بن عمير” و “زيد بن حارثة” و “عمر بن الخطاب” و “ أبي بكر الصديق” وغيرهم من الصحابة ما زالت ترن كلماتهم في آذان الأجيال المتعاقبة حتى يومنا هذا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وكل ذلك وهم في قبورهم !
ألا ترى أننا نعيش بقلوبنا وشعورنا وكل أحاسيسنا مع “ خالد بن الوليد” حينما نقرأ سيرته ، ونشعر ساعتها وكأننا نعيش معه في ميدان القتال ونحارب معه ونجاهد معه ، ألا ترى أن مجرد قراءتنا لسيرته تبعث في النفوس همة الجهاد ، وتجعل المرء يستعذب الشهادة في سبيل الله ، ويكاد يطير شوقاً لذلك اليوم الذي يلقى فيه الأحبة : محمداً وصحبه .. فتُرى ما السر في هذا الرجل حتى يكون له ذلك التأثير العجيب في النفوس ، في سيرته فحسب ، فكيف لو كنا رأيناه وقاتلنا تحت رايته ؟
إن الزمان بقرونه الأربعة عشر لم يمح أثر ذلك الرجل العظيم ، وكأنه ما زال حياً يقاتل على صهوة جواده ، ويكتسح دولتي الفرس والروم ..
وهذا “عمر بن عبدالعزيز” حفيد “عمر بن الخطاب” ؛ كلما قرأ الواحد منا سيرته خشع وبكى ، وعاش مع هذا الرجل وكأنه حي يجالسه ويكلمه ، وأحب أن يعيد قراءة سيرته مراتٍ ومراتٍ دون ملل .
وكل هؤلاء وغيرهم ـ ممن على شاكلتهم ـ قد أخلصهم الله بخالصةٍ ذكرى الدار ، وأصبحوا وهم في قبورهم دعاةً إلى الحق وهداةً إلى صراط الله المستقيم ، تهتدي الأجيال على أيديهم وهم أموات كما اهتدت وهم أحياء ، وأبى الله إلا أن يكرم أولياءه أحياءً وأمواتاً وفي الدنيا والآخرة ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، وأسأل الله أن ننال ولو شيئاً منه ، فاحرص على هذا المعنى تكن من أهله ، فمن فاته ذلك الموطن العظيم وتلك الدرجة الرفيعة فقد فاته خير كثير ..
إن الرجل ليصدق مع ربه ويخلص في سعيه من أجل التمكين للإسلام فيصدق معه كل شيء حتى أنه لا يصدق معه عمله ولسانه وجوارحه وجهاده ودعوته وأمره ونهيه فحسب ؛ بل يصدق معه سيفه وسلاحه وعدته وعتاده .
كما جاء في سيرة ابن هشام : أنه لما انتهى رسول الله إلى أهله ـ بعد غزوة أحد ـ ناول سيفه لابنته “فاطمة” وقال لها : ( اغسلي عن هذا دمه يا بنيه ، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم ) وناولها “علي بن أبي طالب” سيفه فقال : ( وهذا فاغسلي عنه دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم) . فقال رسول الله : ( لئن كنت صدقت القتال ، لقد صدقه معك “سهل بن حنيف” و “أبو دجانة” ).. وإنما يكون صدق السيف بصدق صاحبه ، و “إنما السيف بضاربه” . وقد أعجبني في ذلك أحد الشعراء المحدثين ، حين قال :
ليس لسيف صلاح الدين ..
سوى زند صلاح الدين ..
وقلب صلاح الدين ... ذلك العبد المفتقر إلى الله تعالى ...
فسيوف “علي بن أبي طالب” و “ أبي دجانة” و “سهل بن حنيف” تختلف عن كافة السيوف.
لقد اكتسب السيف الصدق والإخلاص من صاحبه ، وكذلك سيف “صلاح الدين” .
فقد نجد اليوم سيفاً .. ولكننا لا نجد أمثال هؤلاء الصادقين ليجعلوه صادقاً !
إن البندقية بيد أمثال “خالد” ورفاقه تختلف عن أي بندقية ، حتى ولو كانت جميعاً من مصنع واحد ، وإن الرصاصة التي تنطلق من هؤلاء تختلف عن غيرها ..
ألا ترى إلى تلك الرصاصات الصادقة التي أطلقها أضعف المجاهدين من مسافة بعيدة جداً لتصيب قائداً للعدو في عنقه .. إنها الرصاصات الصادقة التي توجهت من بندقية صادقة ، يحملها رجل صادقٌ مع ربه ، مخلصٌ لدينه ، وكذلك تلك الرصاصة التي أطلقها مجاهد آخر على أحد قادة الكفر وحدها ، وقد علت الدهشة كل الأطباء والجراحين وقتها ، بل ورجال المعمل الجنائي ، حتى ظنوا أن هذه الرصاصة ليست من الرصاص العادي الذي نعرفه جميعاً ، بل هي نوع خاص من الرصاص ! وذلك كله لدهشتهم ؛ كيف تُحدِثُ رصاصة واحدة كل هذه الإصابات والكسور الخطيرة ؟ .. إنها رصاصة صادقة خرجت من بندقية صادقة ، يحملها رجل صادق مع ربه مخلص لدينه ..
إننا قد نملك السيف ، ولكن أين أمثال “علي بن أبي طالب” و “خالد بن الوليد” و “أبي عبيدة بن الجراح” و “عمرو بن العاص” و “عكرمة بن أبي جهل” ؟ .. إننا قد نملك السيف ، ولكن أين “صلاح الدين” ؟ وقلب “صلاح الدين” ؟ وإخلاص وزهد “صلاح الدين” ؟؟ .. إننا قد نملك السلاح ، ولكن أين “خالد” ورفاقه وزهدهم وصدقهم وإخلاصهم وورعهم وتواضعهم ؟. وقد قيل لرجل : ارق فلاناً بالفاتحة ، فإن “عمر بن الخطاب” كان يرقي بها فيشقى المريض . فقال : هذه الفاتحة ، ولكن أين “عمر” ؟
إن السيف لن يصدق إلا إذا حمله صادق ، ولن يخلص إلا إذا جاهد به مخلص ولن يؤثر في أعداء الله إلا إذا حمله أولياء الله بحق ، ولن يكون على خلق حتى يكون حامله على نهج النبوة وأخلاقها ، وقد أعجبني قول : “مصطفى صادق الرافعي” حينما قال ما مغزاه : ( إنه ليس للمسلمين أخلاق فحسب ؛ بل إن لسيوفهم أخلاقاً . ألا ترى أنها لا تقتل طفلاً ولا شيخاً ولا امرأة ولا فانياً ، ولا تقطع شجراً ولا نخلاً ) .. صدقت والله ! بل إن هذه السيوف لا تقاتل كبِراً ولا عُجباً ولا رياءً ولا تجبراً ولا طغياناً ، بل تقاتل حباً في الله وإعلاءً لكلمته سبحانه ، ورفعة لشأن الإسلام ، وحتى تكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ..
إن الرجل ليصدق مع ربه ، ويصدق في دعوته وجهاده وأمره ونهيه ، فينعكس ذلك الصدق على كل شيء في حياته ، فلا ينعكس على سيفه وسلاحه فحسب ، بل يصدق معه كل شيء حتى دابته التي يركبها ويجاهد عليها وينطلق بها من مكان لآخر في سبيل الله رافعاً لرايته وناشراً لدينه ، وكأن الصدق قد انتقل منه إلى تلك الدابة العجماء ، أو تلك السيارة الصماء التي يتحرك بها في سبيل الله ..
وإذا أردت أن تدرك ذلك المعنى جيداً فلتقرأ قليلاً عن “الأشقر” فرس “خالد بن الوليد” ؛ فقد قال رجل لخالد بن الوليد : ( ما أكثر الروم وما أقل المسلمين ! ) ، فقال خالد : ( ما أقل الروم وأكثر المسلمين ! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال والله لوددت أن الأشقر براء من تَوَجِّيهِ وأنهم أُضعِفُوا في العدد ) وكان فرسه قد حفي في مسيره .. فالأشقر قد تعلم الصدق في الجهاد من صاحبه ، فَلَكَمْ قاتلا سوياً ، ولَكَمْ قطع الأشقر بخالد بن الوليد آلاف الأميال جهاداً في سبيل الله ؛ بل إن خالداً قد قطع دولتي الفرس والروم ممتطياً صهوة الأشقر ، متنقلاً من أقصى البلاد إلى أقصاها ، ومن نصر إلى نصر دون كلل أو ملل أو راحة ، بل إنه اقتحم بالأشقر الأهوال ، وسار به الليل والنهار ، وجاز به البراري والقفار ، وهزم به الصناديد والأبطال ، حتى أن قدم الأشقر قد رقت من كثرة سيره ، فقد حطم خالد من على ظهره دولتي الفرس والروم ـ أمريكا وروسيا اليوم ـ ، ومن أجل صدق الأشقر مع خالد بن الوليد فإنه تمنى أن لو شفي الأشقر من مرضه وبرئ من سقمه ، حتى لو تضاعف عدد الروم ! فإن ذلك العدد لا يثبت أمام صدق الأشقر في الجهاد ، وهكذا كانت خيول المسلمين ودوابهم ..
صدق رسول الله حينما قال لأصحابه ـ بعد أن قالوا : ( خلأت القصواء ) ـ فقال : ( ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل) .
أما إذا قل صدق الرجل مع ربه ، أو كثرت معاصيه وكثر تعثره ، فإن ذلك ينعكس على كل شيء حتى على دابته .. وصدق من قال من السلف :
( إني لأعصي الله ، فأجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي ) ..











إيـَّــــاكُــــــمْ وَالـمَـعَــــــاصِـــــي

قد يظن بعض الإخوة أن الله سيسامحه إذا عصى ، وذلك نظراً لالتزامه بالإسلام وانخراطه في سلك العاملين له ، فتهون من أجل ذلك المعصية في نظره ، ولاسيما بعد مرور وقت طويل على التزامه ، وفَقْده الكثير من حماسته وحميته وغيرته الدينية ، نظراً لعوامل كثيرة تمر به لا داعي لبسطها الآن .. فإذا استهان بالصغائر أو تسامح في الشبهات فإنه يجد العقوبة من الله عز وجل سريعة جداً ، فيدهش لذلك ! حتى أنه قد يرتكب الذنب الآن فلا تمر عدة ساعات إلا وقد عوقب بذلك الذنب عقوبة شديدة ، فيحتار حينئذٍ ؛ ويقول لنفسه : قد كنت أفعل مئات من أمثال هذا الذنب أو أشد منه قبل التزامي ثم لا أجد عقوبة .. أما الآن فالعقوبة سريعة ومباشرة وقوية ! ولو فقه هذا الأخ دينه حقاً لعلم أن الله يغار على حرماته ، ويغار أكثر إذا انتهكها أولياؤه المقربون إليه والذين هم أحق الناس بالبعد عن العاصي ؛ فالذين يحملون رسالة الإسلام أولى الناس بتقوى الله والانصراف عن الصغائر والمشتبهات فضلاً عما فوقها ، فهم الذين ينهون عنها فكيف يقترفونها ؟ أضف إلى ذلك : الفتنة التي تحدث لعوام المسلمين إذا عرفوا ذلك ـ وهم عارفون لا محالة ـ .. وضياع مرتبة القدوة والأسوة التي يجب أن يتحلى بها هؤلاء الإخوة . ومن أجل ذلك وغيره قال تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } .. فحساب هؤلاء حساب شديد أشد من غيرهم وأصعب ممن سواهم .. فعلى كل أخ أن يعلم علم اليقين أنه ليس بين الله وبين أحد من بني آدم ـ مهما كان شأنه ـ قرابة ولا رحم ، بل هو قائم بالقسط حاكم بالعدل ..
وعلى كل أخ في الجماعة المسلمة أن يذكر نفسه بقوله تعالى : { ليس بأمانيك ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به } .. وهذه الآية بالذات اعتبرها بعض الصحابة أشد آية في القرآن . وأنا اعتبرها أنها أكثر آية تخوف المؤمن ، وتجعل فرائصه ترتعد ..
فالآية خاطبت الصحابة ، وهم من هم ! فكيف بأمثالنا ممن خلطوا صالحاً وآخر سيئاً ؟ إنها ناقوس الخطر يــدق لينبه كــل فــرد في الجماعة المسلـمــة ، فميــزان العــدل لا يحابي أحــداً مهما كـان . وهذا “بلعام بن باعوراء” وكان يعلم اسم الله الأعظم ـ كما قيل ـ فلما عصى ربه أصبح مثله كمثل الكلب ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ..
فالذنوب والمعاصي هي سبب كل بلاء ؛ ( فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ) ، وكان شيخ يدور في المجالس يقول : ( من سرهُ أن تدوم له العافية فليتق الله ) .. وقد ورد في الحديث الشريف : ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) .. وقد قال بعض السلف : ( تسامحت بلقمة فتناولتها ، فأنا اليوم من أربعين سنةً إلى خلفٍ ) .. وانقطع نَعْل “أبي عثمان النيسابوري” في مُضِيِّه إلى الجمعة ، فتعوق لإصلاحه ساعة ، ثم قال : ( ما انقطع إلا لأني ما اغتسلت غسل الجمعة ) .
وقال ابن الجوزي : ( ومن عجائب الجزاء في الدنيا : أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة “يوسف” وشروه بثمن بخس ؛ امتدت أكفهم بين يديه بالطلب يقولون “وتصدق علينا” ) .
وقد تكون العقوبة معنوية ، فرب شخص أطلق بصره فيما حرمه الله عليه ، فحرمه الله نور بصيرته .
أو أطلق لسانه فحرمه الله صفاء قلبه . أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم قلبه وحرم قيام الليل وصلاة المناجاة.
ومنها : أن المعصية تدل على أختها ؛ فالمعصية بعد المعصية : عقاب على المعصية .
وقد يرى العاصي سلامة بدنه وماله وأهله ، فيظن أن لا عقوبة ؛ وغفلتُه عما عوقب به : عقوبة .. ويكفيه أن حلاوة اللذات قد استحالت علقماً وحنظلاً ، ولم يبق معه إلا مرارة الأسف والهم والغمِّ والندم ..
وقد روي أن بعض أحبار بني أسرائيل رأى ربه ، فقال : ( يا رب ! كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ ) فقال له: ( كم أعاقبك وأنت لا تدري ، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي ؟ ) .. وقد يكون من نتيجة المعصية : أن يجعل الله له بغضاً في القلوب ، وصدوداً عن دعوته بغير سبب ظاهر .. فقد قال “أبو الدرداء” : ( إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى ، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر)..
وقد لخص الإمام “ابن القيم” في كتاب الفوائد آثار المعاصي تلخيصاً جميلاً ، حيث قال ـ معدداً آثار المعاصي : ( قلة التوفيق ، وفساد الرأي ، وخفاء الحق ، وفساد القلب ، وخمول الذكر ، وإضاعة الوقت ، ونَفْرة الخَلق ، والوحشة بين العبد وربه ، ومنع إجابة الدعاء ، وقسوة القلب ، ومحق البركة في الرزق والعمر ، وحرمان العلم ، ولباس الذل ، وإهانة العدو ، وضيق الصدر والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ، ويضيعون الوقت ، وطول الهم والغم ، وضنك المعيشة ، وكسف البال .. تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله ، كما يتولد الزرع عن الماء والإحراق عن النار .وأضداد هذه تتولد عن الطاعة ) ..
وقد قيل لبعض السلف: ( أيجد لذة الطاعة من عصى؟ ) قال: ( ولا مَنْ هَمَّ ).
وقال “ابن الجوزي” ـ رحمه الله ـ : ( من تأمل ذل إخوة يوسف عليه السلام يوم قالوا : {تصدق علينا} .. عرف شؤم الزلل ، وذلك رغم توبتهم ، لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح . فرب عظم هيَّنٍ لم ينجبر ، فإن جبر فعلى وَهَنٍ ) ..
فاحذروا شررة تُستَصْغر ، فربما أحرقَتْ بلداً ! فيا من عَثَر مراراً .. هلاَّ أبْصرتَ ما الذي عَثَّرَكَ ..



مَعْصِيَتُـكَ تُـؤَثِّــرُ على الجمــاعةِ المسلمـةِ كـلَّــها !!

قد يمتد شؤم معصية أخ أو مجموعة من الإخوة لينال الجماعة المسلمة كلها بالسوء ، أو يلحق بها الهزيمة والنكبة ، أو يكون سبباً في ابتلاءٍ شديد لها . وخاصة إذا كانت هذه المعصية من الكبائر ، أو حدثت من أهل الريادة والقيادة ، أو من محل للأسوة والقدوة ، أو لم يتم إنكارها إنكاراً شرعياً كاملاً من قبل الجماعة المسلمة ، أو لم تصدق التوبة النصوح منها .. وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه الكريم : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } .
وإذا تأملنا في غزوة أحد ، وجدنا أن السبب في هزيمة المسلمين فيها هو : شؤم معصية بعض الرماة ؛ لا يمثل عددهم أكثر من 4%من مجموع جيش المسلمين في أحد ؛ فماذا كانت نتيجة تلك المعصية ؟ قتل سبعون من أصحاب الرسول ، وبقرت بطونهم ، وجدعت أنوف بعضهم وآذانهم ، وجرح الرسول ، وشج وجهه الشريف ، وكسرت رباعيته . ورغم ذلك كله .. فقد عفا الله عنهم ؛ كما أخبر القرآن الكريم : { ولقد عفا عنكم } وقد سأل رجل “الحسن البصري” : كيف عفا الله عنهم ، وقد قتل سبعون منهم ؟ فقال الحسن : ( لولا عفوه عنهم لاستأصلهم ) ..

وكل ذلك من شؤم المعصية وسوء عاقبتها ، كما بين القرآن ذلك : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } وقال تعالى : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } وهذا المعنى ظاهر أيضاً في غزوة حنين ؛ فقد هزم المسلمون في أول المعركة ، نتيجة إعجاب قلة قليلة بعددها وعدتها ، ونسيانها أن النصر أولاً وآخراً من عند الله ، وكان هؤلاء من الطلقاء حديثي العهد بالإسلام ؛ حتى قال قائلهم : ( لن نغلب اليوم من قلة ) . وكانت النتيجة كما بين القرآن { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } .. وعليك أخي المسلم أن تفكر ملياً في قوله تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } ..
ومن هنا فإني أقول : إن على الجماعة المسلمة التي تبغي التمكين في الأرض أن تهتم اهتماماً بالغاً بتغيير المنكرات داخل صفوفها أكثر من اهتمامها بتغيير المنكرات في المجتمع الذي تعيش فيه ، فإنها إن نجحت في الأولى فسوف يتحقق لها النجاح في الثانية بسهولة ويسر ، بل إنني أؤكد أنها لن تنجح في الثانية إلا إذا نجحت في الأولى ..

وأود ـ قبل أن أنتهي من الحديث عن المعاصي ـ أن أنوه إلى حقيقة هامة ؛ ألا وهي : أنني لا أقصد بكلامي السابق المعاصي الظاهرة فحسب ، بل أقصد الباطنة أيضاً ، وقد تكون الأخيرة ـ كالرياء و العجب والحسد وحب الجاه والكبر ـ أشد خطراً من المعاصي الظاهرة ـ لأن الباطنة كالسرطان ؛ يسري في الجسم بسرعة كبيرة ، ويدمره دون ألم أو وجع أو عرض فلا يشعر به المريض ولا من حوله .. إلا بعد فوات الآوان حيث لا ينفع طب ولا دواء . وهل كانت هزيمة المسلمين في حنين إلا من معصية باطنة هي : العجب ؟! وفي الغالب يصعب على غير الخبير اكتشاف تلك الأدواء الباطنة ، فضلاً عن علاجها ومداواتها ..
فلتحذر الجماعة المسلمة من المعاصي كلها ، وعلى قادتها أن يطهروا قلوبهم ويسعوا لطهارة قلوب إخوانهم وجنودهم بكل الوسائل التي شرعها الإسلام والمبسوطة في غير هذه الصفحات ، وعليهم أن يدركوا أن الوقاية خير من العلاج ، وأن درهمَ وقايةٍ خير من قيراط علاجٍ ، وأن أهم شفاءٍ ووقايةٍ من كل هذه الأدواء أن يكون أهل القدوة والقيادة والتوجيه في الجماعة من أهل طاعة الله عز وجل ، وممن تطهرت قلوبهم وجوارحهم من أدران الشبهات والصغائر فضلاً عن الكبائر ، سواء كانت ظاهرةً أو باطنةً ، فالناس على دين ملوكهم ، وتبعٌ لقادتهم . والله أعلم ..



بِــــــرُّ الــوَالِــدَيْــنِ فَــــرِيـــِضَـــــةٌ

هناك حقيقة شرعية يعلمها جميع الإخوة بغير استثناء ؛ وهي أن بر الوالدين فريضة من أهم فرائض الدين ، وأن عقوق الوالدين كبيرة من الكبائر . والجميع يعلم أيضاً تلك الوصايا القرآنية المتكررة التي تحث على الإحسان إلى الوالدين ؛ ودرجة الإحسان فوق درجة العدل ؛ بل إن الله تعالى قرن الإحسان بالوالدين بعبادته سبحانه مباشرة { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } . ونهى سبحانه أن يقول المرء لأحد والديه كلمة “أف” ، فما بالك بما فوقها .
ورغم ذلك نجد أن قلة من الإخوة حديثي العهد بالالتزام لا يقومون بهذه الفريضة الدينية ، ولا أقول : يحسنون إلى والديهم ، بل لا يعدلون معهم ، بل يعقونهم .. فقد تسمع عَمَّن يغلظ على أبيه في القول ، ومن يرفع صوته عليه ، ومن لا يطيعه في الواجبات والمباحات ، بل قد تسمع عمن يشتم أمه أو ينهرها أو يسبها ! ..
وإلى هؤلاء أقول : إن بر الوالدين فريضة دينية كفريضة الدعوة والحسبة والجهاد والصلاة .. وعقوق الوالدين كبيرة من الكبائر لا تقل بحال عن كبيرة الزنا أو السرقة أو غيرهما من الكبائر ـ بل قد تزيد ـ ، فلماذا تُجزئِّ الإسلام ، وتقبل بعضه وترفض بعضه الآخر ؟ وأنت الذي تعيب ذلك على العلمانيين وتملأ الدنيا ضجيجاً بقولك : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } ، وما بالك تنهى عن الشيء ثم تأتيه ..
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وإلى هؤلاء أقول أيضاً : تذكروا أن الإسلام كرَّم الوالدين حتى جوَّز لك أن تقطع صلاة السنن والنوافل لتجيب أمك أو أباك إذا نادى عليك وأنت تصليها .
وعلى هؤلاء أيضاً أن يتذكروا قصة “جريج” عابد بني إسرائيل ، مع أمه ، والتي حكاها رسول الله ؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( .. وكان جريج رجلاً عابداً ، فاتخذ صومعة فكان فيها ، فأتته أمه وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ! فقال : يا رب ! أمي وصلاتي ؟ فأقبل على صلاته ، فانصرفت . فلما كان من الغد أتته وهو يصلي ، فقالت : يا جريج ! فقال : يا رب ! أمي وصلاتي ؟ فأقبل على صلاته ، فانصرفت . فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت : يا جريج ! فقال : أي رب ! أمي وصلاتي ؟ فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات . فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته ، وكانت امرأةُ بغيٌ يُتَمَثَّلُ بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم . فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها . فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحملت ، فلما ولدت قالت : هو من جريج ، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه ، فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك ، فقال : أين الصبي ؟ فجاؤوا به ، فقال : دعوني حتى أصلي ، فصلى . فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال : يا غلام ! من أبوك ؟ قال : فلان الراعي .فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب . قال : لا ، أعيدوها من طين كما كانت . ففعلوا .. ) .
فجريج كان يصلي صلاة من صلوات النوافل ، فأبى أن يقطعها ويجيب أمه ، وظن أن استكماله الصلاة النافلة أفضل من إجابة أمه وبرها ، وفعل ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام مختلفة ، وهو في هذه الثلاث لا يرد عليها ولا يجيب ، فدعت عليه ؛ فاستجاب الله دعاءها ، ليلقنه الله درساً عظيماً في ترتيب الأولويات في دين الله ، وليعلمه أن بر الوالدين والإحسان إليهما أعظم وأفضل ـ في ميزان العبد يوم القيامة ـ من صلاة النوافل والمستحبات . ولأهمية هذا الدرس العظيم الذي تعلمه جريج .. فإن رسول الله أراد أن يعلمه لأمته رحمة بها ، وحتى لا تقع في ذلك الخطأ الذي وقع فيه جريج ـ وخاصة من الصالحين وحملة الدين ومن هم على شاكلة جريج ، لأن عقوبتهم تكون أشد من غيرهم .
وأقول أيضاً لهذه القلة من الإخوة الذين لا يحسنون إلى والديهم : تذكروا “أُويساً القرني” ذلك التابعي الذي قال عنه رسول الله ـ محدثاً “عمر بن الخطاب” ـ : ( يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ، ثم من قرن ، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم ، له والدة هو بها بَرٌّ ، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ) .
فظل “عمر بن الخطاب” يسأل عنه كل مدد يأتي من اليمن ، حتى لقيه ، فذكر له الحديث ، ثم قال : ( استغفر لي ، فاستغفر له أويس ) .
فتأملوا ـ إخواني ـ تلك الدرجة السامقة التي تبوأها ذلك التابعي ، وما أرفعها والله من درجة ! فوالله لو ظللت أشرح علوها ورفعتها صفحاتٍ .. ما أغنت عن بيانها شيئاً ؛ ويكفي هذا التابعيَّ أن يمدحه رسول الله ويقص قصته على الصحابي ، بل ويأمر “عمر بن الخطاب” ـ مع جلالة قدره ـ أن يطلب منه الاستغفار .. وما أدراك من “عمر بن الخطاب” ومكانته في دين الله وعند الله !! ثم بين رسول الله أنه هذا التابعي لو أقسم على الله لأبره . بل إن الرسول أمر الصحابة إذا قابلوا هذا التابعي أن يطلبوا منه أن يستغفر لهم ؛ فقد ورد في إحدى روايات الإمام مسلم قولُه : ( فمن لقيه منكم فليستغفر لكم ) . وفي رواية أخرى : ( فمروه فليستغفر لكم ) .
وكل ذلك الشرف وهذه المكانة العظيمة التي تبوأها “أويس القرني” من أسبابها بره لوالدته ، فسبحانك يا رب ! فكيف لو كان والده حياً وكان يبرهما معاً ؟! إن هذا لدرس عظيم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
إنني أنادي جميع الإخوة وأناشدهم قائلاً لهم : إن أولى الناس بدعوتكم هم والديكم وأهليكم وأقاربكم ، ألم تسمعوا قول الله عز وجل : { وأنذر عشيرتك الأقربين } ؟ فهل يحب أحد منكم أن يدخل الجنة ويدخل أحد والديه النار ؟ أو يعذب يوم القيامة نتيجة تقصيره في دعوتهم للحق والهدى والنور ؟
كما أناشد كل أخٍ أن يرفق بالناس عامة ، وبوالديه وأهله وأقاربه خاصة ، وأقول له : إذا وجدت أحد والديك ـ أو كليهما ـ على معصية فعليك بالرفق واللين في دعوتهم ، وتذكر أنه لا يجوز لك شرعاً من درجات تغيير المنكر مع الوالدين إلا الدرجة الأولى فقط ؛ وهي التغيير بالقول اللطيف والرفق واللين . وعليك أن تعصيهما في المعصية فقط ، أما أن تعصيهما على طول الطريق بمجرد أنهما مقصران في بعض أمور الدين .. فذلك لا يجوز لك إطلاقاً . فعليك أن تطيعهما في كل مباح أو مندوب أو واجب في الدين ، حتى لو كانا من العصاة أو حتى من الكفار ، وعليك أن تحسن صحبتهما ، وتعاشرهما بالمعروف ، وتخدمهما ، وتنفق عليهما إن كنت تستطيع ذلك .
وإياك أن تُشْعِرَ والديك يوماً بالانتقاص منهما والاستطالة عليهما ، أو أن تشعر والدك خاصة بأنه كَمٌّ مُهْمَلٌ في البيت ، وأنك أصبحت السيد المسيطر المتحكم في البيت رغماً عنه ؛ فتضرب أشقاءك وشقيقاتك بسببٍ وبغير سببٍ ، وتشمخ على الجميع ، كل ذلك تحت دعوى تغيير المنكرات التي في البيت !
ولعل إفسادك في هذه الأمور كلها يكون أشد من منكر قد يكون مختلفاً عليه بين العلماء . ولو أنك دعوتهم دعوة صحيحة سليمة على بصيرة وعلمتهم الدين حقاً ، لوجدت الأمور كلها قد استقامت كما تحب وأكثر مما تحب ، بل قد تجد من أفراد أسرتك من هو أفضل منك ، وأعظم قرباً إلى الله منك.
ومن خلال تجربة طويلة في الحياة ؛ وجدتُ أن عاقَّ والديه لا يستمر في طريق الحق طويلاً ، ولا يسير مع الجماعة المسلمة إلا خطوات قليلة .. ثم ما يلبث أن يفتتن بالدنيا ويذهب بعيداً من حيث جاء ؛ ولعل السرَّ في ذلك ـ والله أعلم ـ : أن من لا خير له في والديه ـ وهما سبب وجوده في الحياة ـ لا خير له في دينٍ أو إسلامٍ أو جماعةٍ مسلمةٍ . وعلى الدعاة والقادة في الجماعة المسلمة أن يسألوا إخوانهم وجنودهم عن علاقتهم بوالديهم وأهلهم ، وأن يطمئنوا على تنفيذ قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } .. إذ إن معصيةً كمعصية العقوق لو ذاعت وانتشرت يمكن أن تهلك الجماعة المسلمة كلها ، وتكون سبباً في غضب الله عليها وإنزال سخطه سبحانه وتعالى ، نعوذ بالله من ذلك ..
ونحن إذا تأملنا الواقع الحالي وجدنا ـ ولله الحمد ـ علاقة قوية بين الأخوة وأسرهم ، ووجدنا محبة عظيمة واحتراماً متبادلاً بين الاثنين ، ووجدنا معظم أسر الإخوة ما تلبث بعد عام أو عامين على الأكثر ـ من التزام الأخ ـ أن تدخل كلها في دائرة الالتزام الجاد بالإسلام وبتعاليمه كلها ، بل قد نجد من بين أفراد هذه الأسرة من هو أقوى التزاماً وأفضل وأثبت من الأخ نفسه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
وإني أشهد هاهنا شهادة حق ....
إن آباء الأخوة وأمهاتهم وزوجاتهم تحملوا طوال سنوات عديدة مضت .. كلَّ الشدائد في سبيل الله ، وضربوا أروع الأمثلة في الصبر والثبات على الحق والوقوف وقفة صلبة خلف الإخوة المجاهدين ، ولعل أعظم شاهد على ذلك : مئات الأمهات والآباء والزوجات الذين يقفون كل يومٍ بالساعات تحت حر الشمس المحرقة في الصيف ، وتحت المطر في الشتاء ، ويلاقون من العنت والمشقة والأذى والتكلفة أكثر مما يتحمله الأخ نفسه ، وينتظرون الشهور والسنين صابرين على فراق الأبناء والأزواج ، ويحرمون أنفسهم من شهي الطعام ليذهبوا به إلى أبنائهم ، وقد يبيت بعضهم على الطوى .. وهم مع كل ذلك صابرون محتسبون ، فهم في جهاد عظيم لا يقل شموخاً وعظمة عن جهاد أبنائهم وأزواجهم ـ إن لم يكن يزيد عنه ـ . وقد كان لثباتهم وصبرهم واحتسابهم أكبر الأثر في ثبات أبنائهم وأزواجهم على الحق ، وتحملهم الشدائد في سبيل الله ..


قـيــامُ اللَّيـل مدرســةُ الـعـامـلـيـنَ لـلإســلامِ

من
من العجيب أن ترى رجلاً يعمل للإسلام ولا حظ له من قيام الليل ! كيف تكون هذه المعادلة الصعبة ؟
إن قيام الليل ضرورة أساسية لكل مسلم ، فكيف بمن يعمل للإسلام ويحمل تبعات الدين الثقيلة : من دعوةٍ وحسبةٍ وجهادٍ وصَدْعٍ بالحق ؟! ألم يقل الله في كتابه : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلاً . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً } .
لماذا كل هذا يا رب ؟ .. فتأتي الإجابة سريعاً في القرآن { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } .. أمانةً صعبة ، وتكاليف شاقة ، وأوامر تحتاج إلى عزمات قوية وهمم عالية .. إنها أمانةٌ أبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها ، وأُلْقِيَتْ على كاهل الإنسان . فمن ذا الذي يطيق القيامَ بواجباتِ الدعوة والتربية والحسبة والجهاد دون أن يكون له زادٌ يتزود به ويستعين به على قطع الطريق إلى الله ؟ إنه سينقطع في منتصف الطريق ، ويهلك في المفازة قبل الوصول . إن مدرسة قيام الليل هي أعظم مدرسة يتربى فيها المسلم ، ويتعرف فيها على ربه ، ويعرف من خلالها أسماء الله وصفاته بكل ما تعني الكلمة من معاني .. إنها مدرسة الخشوع والخضوع والتذلل والإنابة لله عز وجل ، ومن أجل ذلك فإن جميع الشرائع ـ بغير استثناء ـ كان قيام الليل جزءاً منها . ولْتعْلَمْ أخي المسلم أن ذُلَّكَ بالليل هو سبيل عزتك بالنهار ، وسجودَك وخضوعَك بالليل هو سبيل كرامتك بالنهار وسبيل نصرك على أعدائك وتوفيقك في دعوتك واحتسابك وجهادك .
لقد ظل “سليمان الحلبي” يقوم الليل ويدعو الله شهراً كاملاً في الجامع الأزهر قبل أن يقتل ( كليبر ) ؛ وهو في ذلك كله يتبتل إلى الله ويدعوه أن يوفقه في قتل عدو الله : كليبر ، ولم يكن معه وقتها من العدة والعتاد سوى خنجرٍ واحدٍ لا يملك غيره ! ورغم ذلك وفقه الله توفيقاً عظيماً ، وقتل الله على يديه أشهر قواد فرنسا بعد “نابليون” وقائد الحملة الفرنسية وقتها ، وأصاب آخرين مع كليبر منهم كبير مهندسي الحملة الفرنسية ؛ وكل ذلك قام به ذلك البطل المسلم وحده في مقر قيادة الحملة الفرنسية ، أي في عقر دار “كليبر” !
أما “صلاح الدين الأيوبي” فقد أدرك بحسه الإسلامي المرهف ، ومعرفته الدقيقة لدين الإسلام .. أن قيام الليل من أهم أسباب النصر على الأعداء ، وأن خِلْعَةَ النصر لا تكون إلا مع ولاية الذل ـ كما يقولون ـ وأدرك أن قيام الليل هو سلاحٌ ماضٍ في الحرب لا يوجد له مثيلٌ عند الأعداء .. ومن أجل ذلك كان يمر على خيام جيشه بالليل ؛ فإذا رأى خيمةً من الخيام لم تنل حظاً من قيام الليل أَيْقَظَهم وعَنَّفَهم وقال : ( أخشى أن نؤتى من هاهنا الليلة ) .. وهذا فهم رفيع للإسلام الحنيف ، فصلاح الدين يعتبر هذه ثغرة خطيرة أخطرَ من ثغرات الحصون والقلاع ، وأن العدو يمكن أن يَنْفُذَ من تلك الثغرة ..
رحمك الله يا صلاحَ الدين ! حقاً إن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد ولا عدة ، ولكن بهذا الدين الذي أكرمهم الله به ، وبطاعتهم ومعصية عدوهم ؛ وإن مفتاح النصر إنما يكون في الخشوع والخضوع لله رب العالمين ..
وهذا
وهذا الشيخ “خالد” ورفاقه منذ بداية جهادهم وحتى لقوا ربهم ـ وهي الفترة التي عاش الإخوة معهم فيها ـ كل هذه الفترة وهم يقومون الليل ويصومون النهار ، وكانوا يقومون ساعات طويلة من الليل ، ويتلون في قيامهم سوراً طويلة .. وكان أحدُهم يتميز من بينهم بجمال صوته في القرآن ؛ فكان يبكي ، ويُبكي من يصلي معه ، وقد كان هؤلاء الإخوة مضرب الأمثال لمن عرفهم في قيام الليل والصيام المستمر وغيرهما من العبادات ، وكل من عاش معهم تلك الفترة كان يقول : إنهم كانوا كالملائكة في صورة البشر ! وكانوا من كثرة عبادتهم وسموِّ روحهم وكأنهم يحلقون في السماء وهم على الأرض .. ولعل هذا وغيرَه كان سبباً في توفيق الله لهم في واحدة من أعظم وأخطر وأهم العمليات الجهادية في هذا القرن. وقد وضع الله لهم القبول في الأرض ، فما تجد أحداً من الناس إلا ويحب خالداً ورفاقه ؛ حتى أعداء الحركة الإسلامية التقليديين كانوا يقدرونهم ، ويستشعرون أن لخالد ورفاقه مِنَّةَ عليهم جميعاً وأن جميلَهُ يطوق أعناقهم .
وهذا أحد العلماء العاملين المجاهدين ؛ قد رأيته ـ ورآه معي إخوة كثيرون ـ لم يتخلف عن القيام ليلة واحدة ، وكان يقوم كل ليلة بإحدى عشرة ركعة وبجزءٍ كاملٍ من القرآن ، ويضاعف ذلك في شهر رمضان ، وذلك رغم كبر سنه ومرضه بالسكر والضغط وغيرهما ؛ وكنا ـ ونحن شباب ـ نتعب خلفه ، ويتهرب البعض أحياناً ، وذلك بالرغم من أننا سنمكث معه في المستشفى عدة أيام فقط ! وليس على الدوام . أما من كانوا يسكنون معه من الإخوة الشباب فما كانوا يواصلون معه كل ليلة .. ولذلك قلت لنفسي يوماً من الأيام ـ بعد خروج الشيخ من محنته ـ : إن من أهم أسباب نجاته : هو قيامه بالليل وصيامه بالنهار ، رغم تحذير الأطباء له مراراً وتكراراً من ذلك الصيام ، ورغم ما كان يعانيه من عطشٍ بالنهار يفوق عدة مرات ما يعانيه غيره من الأصحاء ـ وذلك نتيجة لمرض السكر ـ . وقلت لنفسي أيضاً: لعل السر في قوة الشيخ في مواجهة الباطل ، وقدرته على تحمل الشدائد وتحمل العذاب ، وهو الذي جاوز الخمسين من عمره وقد كف بصره ويعاني من عدة أمراضٍ خطيرة ـ قلت لنفسي : لعل السر في ذلك كله : قيامُه الليلَ ، فهو يُعطي القلب قوة ما بعدها من قوة ، ويجعل في النفس همة عالية وسمواً ورفعة ؛ حتى أنك ترى الشخص الضعيف الجسم النحيل البدن عنده عزيمةٌ تدك الجبال وتَهُدُّ الحصون ! وذلك من كثرة ذُلِّه لله ، وخشوعه وخضوعه لمولاه ، وخوفه من الله وحده .
فلابد لكل من يعمل للإسلام أن يكون له حظ من كلام النبي الذي كان يقول : ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) .. وكان بعض السلف يقول : ( إني لأفرح بالليل حين يقبل ، لما يَلْتَذُّ به عيشي ، وتقر به عيني ، من مناجاة مَنْ أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه ) .
وقد كان “أبو هريرة” رضي الله عنه يقسم الليل أثلاثاً : ( بينه وبين امرأته وابنته ، فيحوزا جميعاً الليل كله) .
إن قيام الليل هو ملاذ كل من يعمل للإسلام ؛ حينما تواجهه المشاكل وتقف أمامه العقبات ، أو يقبل بالصدود والنكران ، أو تصيبه المصائب ، أو يتسلط عليه العدو .. فإنه يقف بين يدي ربه ومولاه الحق الذي بيده كل شيء ، والذي إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن ، فيكون . يقف بين يديه سبحانه يدعوه ويرجوه ، ويشكو إليه بثه وهمه وحزنه ، ويستنصره ويستجير به ، فتزيل تلك المناجاة عن نفسه كل هم وغم ، وكيف لا وقد وَكَلَ أمره كله لمالك الملك رب السموات والأرض .
وليعلم كل من يعمل للإسلام أن خشوعه وخضوعه لله بالليل هو الذي سيفتح له مغاليق الأمور ، ويفتح له مغاليق القلوب ، وهو سبب قوي لأن يضع الله له القبول في الأرض ، فيهتدي الناس به مع أقل جهد وأبسط سبب ،وفي بعض الأحيان دون سبب ظاهر ؛ فمن أحسن في ليله كوفئ في نهاره ، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله .
إن قيام الليل أخي المسلم هو المدرسة الأساسية التي ستعلمك رقة القلب ، وتربي عينيك أن تسح دموع الأوبة والخشوع والخضوع لله ، وستعطيك قوة جديدة في العمل للإسلام ، وزاداً عظيماً من التوكل الحق على الله ، وستهبك شجاعة في مواجهة أعداء الإسلام ؛ إنها ستجعل قلبك قوياً عامراً بالإيمان ، فالقلب هو مَلِكُ الأعضاء المتوج وهم جنوده ، فإذا صَلَح المَلِكُ وكان قوياً كانت جنوده مظفرة منصورة، والعكس صحيح ، والناس إنما تسير إلى الله بقلوبها ـ لا بجوارحها ـ كما يقول العلماء .
وقد يقول البعض : إنني أنشغل كثيراً بأمور العمل الإسلامي ، فلا يتبقى لي وقت لقيام الليل .. وأنا أقول لهؤلاء الإخوة : لابد أن تعلموا ..
أولاً : أن قيام الليل هو العمل للإسلام ، بل هو من أساسياته ولوازمه ، وهو ضرورة من ضروريات الإعداد الجيد للجماعة المسلمة والدولة المسلمة . ولابد أن تعلموا ..
ثانياً : أن على كل أخٍ أن يقوم من كل ليلة شيئاً ، فإذا كان عنده متسع من الوقت ونشاط بدني ونفسي فإنه يقوم قياماً طويلاً بجزء من القرآن مثلاً مع الإكثار من الدعاء في السجود ، والإكثار من الأذكار الأخرى عموماً . أما إذا ضاق وقته أو لم يكن في نشاط بدني ونفسي ، فإنه يكتفي بشيء يسير، أو نفس العدد من الركعات ولكنها خفيفة قصيرة القراءة ، أمَّا أّنْ يعتاد على ترك القيام على الدوام أو في معظم لياليه .. فهذا لا يصح بحال من مثله !
وليعلم هؤلاء الإخوة أن الجماعة المسلمة كلها لو واظبت على قيام الليل في السراء والضراء والمنشط والمكره ، والعسر واليسر ، فإن هذه الجماعة سيكون لها شأن عظيم ، وتكون بذلك قد قامت بعمل إسلامي جليل وعظيم ، وقد يكون ذلك أفضل من أعمال كثيرة أخرى .
ورغم ذلك كله .. فإني أُذَكِّرُ أن الجمع بين العمل الإسلامي بقوة واجتهاد والمواظبة على قيام الليل والاجتهاد فيه .. يحتاج إلى عزيمة قوية وإحساس قوي من الأخ بأهمية كل هذه الأمور ، وأن يتفكر دوماً في كلمة سيدنا “عمر بن الخطاب” الذي كان يقول : ( إن نمت ليلي أضعت نفسي ، وإن نمت نهاري أضعت الرعية ) .. وكان رضي الله عنه يتميز بقيامه الليل على خير وجه رغم مشاكله العديدة ، إذ إنه يحكم معظم العالم وقت ذلك . وقد بلغ من اهتمام سيدنا عمر بالقيام : أن كثيراً من الصحابة والتابعين كانوا يحبون الاقتداء به في ذلك ، ويحرصون على السؤال عن قيامه حتى بعد موته .. لدرجة أن أحد الصحابة تزوج إحدى زوجات عمر بن الخطاب ليس لشيء سوى أن يتعرف منها على قيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك ليقتدي به !
وكان سيدنا “عثمان بن عفان” ؛ وهو خليفة المسلمين ، ويحكم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها ـ كان يختم القرآن في ليلة واحدة ، وهذا ثابت في أحاديث صحيحة وعن أئمة الإسلام العظام . وليس ذلك من قبيل المدح والثناء والمبالغة فيهما ، وقد قالت امرأته للذين قتلوه : ( اقتلوه أو دعوه ؛ فوالله لقد كان يحي الليل بالقرآن في ركعة ) .
وكذلك كان “عبدالله بن الزبير” ؛ رغم مسئولياته العظيمة قبل أو بعد الخلافة ، فقد قالت عنه أمه أسماء رضي الله عنها : ( كان ابن الزبير قوامَ الليل صوامَ النهارِ ، وكان يُسمّى حمامَ المسجد ) .
ولماذا نذهب بعيداً ؟! فهذا رسول الله ؛ وهو المشغول دائماً بأمر أمته كلها ، وهو الذي ظل طوال حياته في جهاد مستمر لأعداء الإسلام ، وفي عمل دائب ، يدعو إلى الله ، ويعلم أمته ، ويربي أصحابه ، ورغم ذلك كله . كان قيامه لا ينقض في أي ليلة عن إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة ، فإذا مرض أو ناله شيء منعه منها في ليله صلاها بالنهار .
فعلى العاملين للإسلام والدعاة والمحتسبين والمجاهدين أن يقتدوا بسيدهم وأستاذهم وقائدهم العظيم : رسول الله .
وخلاصة القول :
إن قيام الليل هو شجرة عظيمة وارفة الظلال ، تظلل على القلب والجوارح معاً ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ..




عـلـيـكم بـالـدعـاءِ فـإنـه سِلاحٌ عـظيـمٌ

إن الدعاء سلاح عظيم قد تغفل عنه الحركة الإسلامية في كثير من الأحيان، فضلاً عن أن الدعاء في حد ذاته عبادةٌ من أفضل العبادات ، كما نص على ذلك الحديث . فهو سلاح لا يخطئ أبداً ، وسهم لا يخيب أبداً ، وهو حصن حصين يلجأ إليه الفرد المسلم والجماعة المسلمة من كيد الكائدين وبطش الباطشين وجبروت المتجبرين ؛ فمن تسألُ إن لم تسأل الله عز وجل ؟! .. ومن تطلب إن لم تطلب ممن بيده كل شيء ؟!.. وإلى من تلوذ إن لم تلذ بجناب الله جبار السموات والأرض ومالكهما بمن فيهما ، والذي يقول للشيء كن ؛ فيكون ؟!.. فبالذكر والدعاء يأوي المسلم عامة والعاملون للإسلام خاصة إلى ربهم ومولاهم ، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده ؛ وما أكثر حاجات العاملين للإسلام لربهم في معاشهم ومعادهم ، ودنياهم وأخراهم ، ودعوتهم وحسبتهم ، وأمرهم ونهيهم ، وحركتهم وجهادهم ، وعسرهم ويسرهم ، وشدتهم ورخائهم ، وحربهم وسلمهم.
فإذا ما شمرت الجاهلية عن ساعد العداوة والبغضاء للإسلام وأهله ، وشهرت كل أسلحتها في مواجهتهم .. فيجب على الجماعة المسلمة ـ حينئذٍ ـ أن لا تغفل أبداً عن سلاح الدعاء الماضي البَتَّار .
ولتعلم الجماعة المسلمة أن شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الانكسار ـ كما قال “ابن القيم” ـ ؛ ورسوله الكريم ظل يستغيث ربه يوم بدر ويدعوه ويلح في الدعاء ، حتى سقط رداؤه . و“أبو بكر” يقول له : ( يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ) ، فانطلقت سهام الدعاء تنزل على المشركين وتزلزل عروشهم { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } .
أما يوم الهجرة ، فقد أرسل رسول الله سهمين من سهام الدعاء على سراقة ، فكان فرسه يغوص في الأرض مع كل سهم يطلقه عليه رسول الله ، ولم يكن ليقوم من كبوته لولا وعده لرسول الله وصاحبه بتركهما يمضيان لشأنهما .
وإذا اعتاد المسلم الإكثار من الدعاء وذكر الله فإن الله يستجيب له لا محالة . وقد قيل : ( من يطرق الباب يكاد يفتح له ) . وكان “عمر بن الخطاب” يقول : ( إني لا أحمل هم الإجابة ، ولكن هم الدعاء ، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه ) ، ولعله استقى ذلك من قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } .
وكان “يحيى بن معاذ” يقول : ( من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يَرُدَّهُ ) . و “ابن القيم” رحمه الله تعالى يقول : ( إذا اجتمع عليه قلبه ، وصدقت ضرورته وفاقَتُهُ ، وقوي رجاؤه .. فلا يكاد يرد دعاؤه ) .
فالدعاء سبب لكل خير ؛ فهو سبب للنصر والفرج ، وهداية الخلائق ، والتوفيق في كل مجال من مجالات العمل الإسلامي من دعوة وتربية وحسبة وجهاد ..
فبالدعاء أنجى الله “نوحاً” عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، وأغرق الكافرين { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر . ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرن الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمرٍ قد قدر . وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفِر } .
وبالدعاء أنجى الله “يونسَ” عليه السلام من بطن الحوت من بين ظلمات ثلاث : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } ..
وبالدعاء كشف الله الضر عن “أيوب” : { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} ..

وبالدعاء أنجى الله “موسى” من فرعون وملئه : { فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين } ، ووفقه في دعوته لفرعون وملئه ، وثَبَّته أمام ذلك الطاغية العتيد وملئه المجرمين ؛ وهو موقف صعب وشاق ولا يدرك صعوبته حقاً إلا أهل الصدع بالحق في كل زمان ومكان : { رب اشرح لي صدري . ويسر لي أمري . واحلل عقدة من لساني . يفقهوا قولي } ..
وبالدعاء أهلك الله فرعون وملأه ، ودمر عليهم ، ومكن لبني إسرائيل في الأرض : { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكما ... }..
والأمثلة غير ذلك كثيرة وكثيرة تفوق الحصر . وبالجملة فالدعاء سبب لجلب الخير ، ودفع الشر ، ونزول الرحمات ، وتفريج الكُربات ، وحصول النصر والتمكين .
مُـلاحَظَاتٌ هَـامَّـةٌ عَـنْ سِـلاحِ الدُّعَـاءِ ...
ونحن ـ أخي الكريم ـ لسنا بصدد الحديث هنا عن شروط وآداب وصيغ الدعاء وما يتعلق بذلك من مسائل مختلفة ، فليس هذا مكانها ، كما أن الجميع يعلمونها ويعرفونها جيداً ؛ ولكني أوجه الأنظار هاهنا إلى بعض الأمور العملية الهامة في مسألة الدعاء بِرُمَّتِها ..
ومن هذه الأمور :
ينبغي على الأخ المسلم أن يقدم الدعاء وطلب التوفيق والنصرة من الله بين يدي كل عمل من أعماله ، مهما كان العمل صغيراً ؛ وإذا اعتاد الأخ المسلم ذلك فإن التوقيت سوف يحالفه في كل عمله إن شاء الله ..
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يسألون ربهم إذا انقطع شسع نعل أحدهم . فإذا أردت أن تدعو شخصاً للالتزام فادع الله أن يهديه على يديك ، وإذا ذهبت لتدعو إلى الله في قرية أو مدينة فادع كذلك ، وإذا جهزت خطة للدعوة فأكثر من الدعاء لهذه الخطة بالبركة والنفع ، وإذا تجهزت للقتال فادع ربك أضعاف أضعاف ما فعلته في أمور الدعوة ، وابتهل إلى الله أن ينصر الإسلام وينصرك ، ويبارك لك في قتالك وجهادك ..
هناك مظاهر خطيرة إذا رَأَيْتُها أدْرَكْتُ أن الجماعة لم تتسلح بعدُ بسلاح الدعاء ، وأدركتُ أن خطراً حقيقياً يتهدد الجماعة المسلمة ؛ فإذا رَأَيْتَ أكثر الإخوة في بلدك ـ مثلاً ـ يلعبون الكرة في آخر ساعة من نهار الجمعة ، أو يتسامرون في هذه الساعة ، أو يتحدثون في أمور الدنيا وشواغلها ، أو في مسائل لا ينبني عليها كثيرُ عملٍ أو يمكن تأجيلها بضعة أيام أو أسابيع دون ضرر ، أو ينشغلون في مطالب دنيوية يمكن تأخيرها .. إذا رأيت ذلك ولم تجد هؤلاء الإخوة ينشغلون في هذه الساعة الكريمة الشريفة التي هي من ساعات الإجابة بالدعاء والذكر والصلاة على النبي ـ إذا رأيت ذلك أدركت أن هؤلاء قد ضيعوا أعظم أسلحتهم في معركة مع أعدائهم ، وأدركت أن ثمة خطأً أو تقصيراً في تربية هؤلاء التربية الإيمانية الصحيحة ، وأنهم لم يعرفوا بَعْدُ شرفَ هذه الأوقات وقيمتها ، وأن في ضياعها ضياعاً لخير كثير وربح عظيم لا يُعَوَّضُ أبداً .
ونفس هذه المعاني تتكرر إذا رأيت جمعاً من الإخوة يفعلون مثل ذلك في يوم عظيم مثل يوم عرفة ، وخاصة إذا أفطروا فيه ولم يصوموا . وكذلك إذا تكررت في العشر الأواخر من شهر رمضان ـ وخاصة ليالي الوتر فيها ـ ؛ إذ إنه يَحْسُنُ بكل من يعمل للإسلام أن يشغل هذه الليالي كلها قدر الإمكان بالصلاة والعبادة والذكر والدعاء والطاعة والتسبيح ، وأن يفرغ نفسه فيها من كل ما سوى ذلك..
وقد لاحظت أن الشيطان ـ أعاذنا الله منه ـ يأتي في تلك الأوقات العظيمة الشريفة ليصرف الإخوة عن الدعاء والذكر والعبادة ، ويشغلهم عنه بتوافه الأمور ، فقد يجعل البعض يثير قضية فرعية لا ينبني عليها عمل في مُعْتَكَفٍ في العشر الأواخر من رمضان ، وقد يوسوس للبعض إثارة مثل هذه القضايا بشدةٍ وإلحاحٍ وجدال ولجج وخصومة وعُلُوِّ صوتٍ في ليلة عظيمة من ليالي الوتر ، ويظل النقاش العقيم حتى طلوع الفجر حيث يَنْفَضُّ السوق ويكون هؤلاء من الذين خرجوا منه خاسرين لم يربحوا فلساً واحداً ، بل قد يكونون ضيعوا أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً لجهلهم بشرف زمانهم وقيمة ليلتهم العظيمة !
ومن مظاهر الخلل أيضاً : أنك ترى البعض إذا وقعت بهم مصيبة أو كارثة أو ابتلاء أخذوا يتحدثون أياماً طوالاً عن السبب ، ولماذا ولم ؟ وكيف ؟ ومن ؟ وما هي القصة ؟ و .. و .. ؟؟!!
بل تشغلهم مناقشات طويلة وهم ليسوا بصَدَدِ ـ ولا من أهلِ ـ اتخاذ القرارات ، ولا يحاولون في هذا الوقت العصيب أن يكثروا من الدعاء والذكر واللجوء إلى الله ، والتذلل لعظمته وإحداث طاعات وقربات جديدة غير التي كانوا عليها ، وإحداث توبة شاملة من الذنوب السابقة .
وفي الحقيقة لقد صَحِبتُ أقواماً كانوا لا يفترون عن الدعاء أبداً فرادى وجماعات ، فإذا وقَعَت مصيبة بهم أو بأحد من المسلمين ـ ولو في أقصى الأرض ـ اجتمعوا ، وقدموا أصلحَهم ساعتَها للدعاء وهم يُؤَمِّنون على دعائه . وإذ ختم أحدهم القرآن جمع إخوانه ودعاهم لكي يدعوا الله معه عند ختمه ، حتى أنه لا يكاد يمر يومٌ إلا ويختم فيه أحدهم ، فيدعو ويُؤَمِّن إخوانه على دعائه . وإذا مرض مريض عاده ثلاثة أو أربعة ودعوا له بالأدعية المأثورة . وإذا جاءت ساعة من ساعات الإجابة ـ مثل آخر ساعة من نهار الجمعة مثلاً ـ كنت تراهم يدعون فرادى وجماعات . وإذا نزل مطر رأيتهم كذلك يدعون . وإذا حدثت لهم نعمة أو فرج أو نصر ـ ولو كان جزئياً بسيطاً ـ رأيتهم يثنون على ربهم ويشكرونه ويدعونه طلباً للمزيد من فضله ، ورأيتهم يسجدون لله شاكرين وذلك بمجرد سماعهم لذلك ومعرفتهم بتلك النعمة .. وهكذا .. كان الدعاء سجيةً من سجاياهم ، وطبيعة من طبائعهم ، ويفعلونه دون تكلف ؛ فأكرم بهؤلاء من رفقة وصحبة .
إن من العجيب أن تسمع عن أخٍ لا يدعو لوالديه أحياءً وأمواتاً ! وقد نجد أخاً مات والده أو أحدهما منذ سنين ، وهو خلال هذه السنوات كلها لم يتذكرهما بدعوة واحدة ! فوالله إن هذه لهي الطامة الكبرى ، وهي تشبه العقوق بعينه ..
ومن العجيب أيضاً أن ترى أخاً مات شيخه ، أو استشهد قائده وأستاذه الذي علمه الدين منذ سنوات ولم يدع له مرة ولم يستغفر له مرة ! أليس هذا نوعاً من الجحود والنكران ؟!
فماذا يكلفك الدعاء لأخيك وشيخك ؟ إنه لا يكلف شيئاً ؛ بل إنك ستصبح أو المستفيدين منه والمنتفعين به ؛ فقد ورد في الحديث رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل ، كلما دعا لأخيه بخيرٍ قال المَلَك الموكَّلُ به : آمين ، ولك بِمثْلٍ ) وقد كان الإمام “أحمد” يدعو لأستاذه “الشافعي” بعد كل صلاة ، وكان يقول “لابن الشافعي” : ( أبوك من الستة الذين أدعو لهم عقب كل صلاة ) .
وينبغي للأخ المسلم أن يتذكر في دعائه كل من قدم للإسلام عملاً عظيماً يرى آثاره بادية ظاهرة ، كأول من دعوا إلى الله في بلدته أو جامعته أو في مصره .. وقد كان “كعب بن مالك” يدعو “لأسعد بن زرارة” ويستغفر له كلما سمع أذان صلاة الجمعة ، فسأله ابنه قائلاً : يا أبت ! ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على “أبي أمامة” ؟ فقال : ( أي بني ! كان أولَ من جَمَّعَ بنا بالمدينة ) قال : قلت وكم أنتم يوميذٍ ؟ قال : ( أربعون رجلاً ) ..
وعلى الأخ أن يدعو دوماً لقادته وأمرائه خاصة ، وقادة المسلمين عامة ، وكذلك كل من يعمل لنصرة الإسلام والمسلمين .
وعلى الأخ أن يواظب على الدعاء لأسارى المسلمين في العام كله ؛ فالأسارى أحق الناس بالدعاء ، فهم في كرب ما بعده كرب ، وضيق ما بعده ضيق ، فهم في قبضة العدو يفعل بهم ما يشاء .
وقد قنت رسول الله شهراً كاملاً يدعو لثلاثة من أسارى المسلمين في مكة كان المشركون يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، فكان يدعو ويقول :( اللهم أَنْجِ “الوليد بن الوليد” و “سلمة بن هشام” و “عياش بن أبي ربيعة” ..) ..
وعلى الأخ المسلم أيضاً أن يدعو على أعداء الإسلام والمسلمين الذي يحاربون الإسلام ، ويصدون عن سبيل الله ، وأن يدعو على صناديد الكفر وأئمة العلمانية وملئهم ، كما كان يفعل الرسول الكريم . وقد ظل رسول الله يقنت شهراً كاملاً على رعل وذكوان وعصية الذين قتلوا أصحابه في بئر معونة. وكما دعا على كسرى ملك الفرس حينما مزق رسالة رسول الله فدعا عليه أن يمزق الله ملكه شر مُمَزَّقٍ.
وقد أعجبني في ذلك ما كان يفعله سيدنا “بلال بن رباح” كل فجرٍ ، فقد روت امرأة من الأنصار من بني النجار قالت : كان بيتي من أطول بيتٍ حول المسجد ، وكان بلال يؤذن عليه الفجر ؛ فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلى الفجر ، فإذا رآه تمطى ، ثم قال : ( اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك ) قالت : ثم يؤذن ..
فالدعاء على الطواغيت وأئمة الكفر وجنودهم وأتباعهم وأشياعهم هام جداً ، وقد وَرَدَتْ أحاديثُ كثيرة جداً في ذلك ، وأشهرها : ( اللهم منزل الكتاب ، مجري السحاب ، سريع الحساب ! اهزم الاحزاب ) .. وأدعية أخرى كثيرة مبسوطة في كتب الدعوات والأذكار ، ويمكنك مراجعتها . وقد أعجبني أحد الإخوة ، وكان طالباً في المدرسة الثانوية ، وكان يعاني من شلل في يده ورجله ؛ فكان كلما تعثر في مشيته دعا على فرعون العصر وملئه ..
وعلى الأخ المسلم أن لا ينسى الدعاء لعوام المسلمين بالهداية والرشاد والعودة إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم ، وأن يخص شباب المسلمين بالدعاء أيضاً ، وذلك اقتداءً بدعاء النبي : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .. وقوله : ( اللهم اهد “دوساً” ) .. إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي وردت في هذا الباب .. والتي تبين شفقة النبي بأمته ، ومحبته لهدايتهم ، وحرصه عليهم . وكيف لا ؟ وقد قال الله عنه: { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } .. فعلى الأخ المسلم الذي يعمل للإسلام أن يكون له الحظُّ الأوفى من ذلك ..

لمـَـاذا تـَتـَـأَخـَّـرُ الإجَــابــة ...

وهاهنا لابد أن أنبه إخواني لأمر هام ، وهو أنه قد يدعو أحدكم ربه ويسأله أمراً ، ويظل يدعو ويدعو ويلهج بالدعاء ، ولكن لا يجد إجابة لدعائه ، فَيَكُفُّ حينئذٍ عن الدعاء وييأس من الإجابة ، وهذا هو عين ما نهى عنه رسول الله : ( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول : قد دعوت ربي فلم يستجب لي ) .. وفي رواية لمسلم : قيل : يا رسول الله ! ما الاستعجال ؟ قال : ويقول قد دعوت ، وقد دعوت ، فلم أر يَسْتَجِيبُ لي . فيستحسر عند ذلك فلتعلم أن هناك أسباباً لهذا التأخير ، وأن لله حكمةً في تأخير الإجابة .. ومن بين هذه الأسباب والحِكَمِ ما يلي :
أولاً : قد يكون سببُ تأخير الإجابة أنك لم تستوف الشروط الواجب توافرها فيك حين الدعاء ؛ فقد تكون غير حاضر القلب حين الدعاء ، أو لا تكونُ وقتَها على يقين تام بالإجابة ، أو لا تكونُ على هيئة الخشوع والخضوع والتذلل وكمال اللجأ ، إلى غير ذلك من آداب وشروط الدعاء الهامة .
ثانياً : قد يكون ذلك لآفة فيك ، أو ذنب لم تتب منه ، أو ذنب ما صدقت في التوبة منه ، أو كان في مأكولك شبهة أو مظلمة لم تَرُدَّها ، فعليك أن تقدم التوبة النصوح بشروطها الكاملة ، وأن ترد مظالم العباد أولاً . وهذه الأسباب من أهم أسباب عدم إجابة الدعاء ، وقد ورد في الحديث : ( يا سعدُ ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ) .. وورد في الحديث الصحيح : ( ثم ذكر الرجل أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب ! يا رب ! ومطمعه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِيَ بالحرام. فأنى يستجاب لذلك ! ) .. فعليك أن تنظف طرق الإجابة من أوساخ الذنوب ..
ثالثاً : أن يكون الله قد ادخر لك ثوابها وأجرها في الآخرة ، أو صرف عنك من السوء مثلها ؛ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحم ) فقال رجل من القوم: إذاً نُكْثِرُ ؟ قال : ( الله أكثر ) . وفي روايةٍ للحاكم زيادةُ ( أو يدخر له من الأجر مثلها ) . ولعل ذلك أفضلُ لك أخي المسلم ؛ إذ إن ادخار الدعاء لك في الآخرة سيرفع درجاتك يوم القيامة ويُعْلي مراتبَك ، ويوميئذٍ ستفرح بذلك فرحاً عظيماً ، وتتمنى أن لو كان كل دعائك قد أدُّخِرَ لك أجرُه وثوابه في الآخرة .
رابعاً : إن في تأخير الإجابة ابتلاءٌ جديدٌ من الله لعبده يختبر به إيمانه ويمحصه به ؛ لأنه حينما تتأخر الإجابة يوسوس الشيطان للعبد ويقول له : الكرم واسع ، والبخل معدوم ؛ فما فائدة تأخير الإجابة ؟ إلى غير ذلك من وساوسه . فعلى العبد المؤمن ساعتَها أن يقاوم تلك الوساوس ويطردها عن نفسه بكل الوسائل ، وعليه أن يدرك ساعتها أنه لو لم يكن في تأخير الإجابة سِرٌّ سوى أن يبلو الله العبد بمحاربة عدو الله وعدوه إبليس ، لكفى في ذلك من حكمة ..
خامساً : من حكمة تأخير الإجابة أن يدرك المسلم حقيقة هامة ، وهي أنه عبدٌ لله عز وجل ، وأن الله مالكٌ ، والمالك له حق التصرف فيما يملك بالمنع أو الإعطاء ؛ فإن أعطى فمن فضله وله المنة علينا ، وإن منع فبعَدلِه وله الحجة علينا.. وحتى تُدرِكَ أنك لست أجيراً تغضب حينما لا تُعْطى أجرَك . ولتدرك ساعتها معنى قوله بعد صلح الحديبية : ( إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبداً ) .. وحينما تتأخر الإجابة يتمحص الإيمان ، ويظهر الفارق بين المؤمنين حقاً وبين من سواهم ؛ فالمؤمن لا يتغير قلبه نحو ربه حينما تتأخر الإجابة ، بل تزداد عبوديته لله عز وجل .
وعلى المسلم أن يتذكر ساعتها أن “يعقوب” عليه السلام حينما فقد ولده الحبيب “يوسف” عليه السلام ظل يدعو ويدعو ، ولكن تأخرت الإجابة كثيراً ، حتى قيل : إنه ظل يدعو أربعين عاماً .
ولم يقف الأمر عند ذلك ، بل ازداد الابتلاءُ شدةً ، فأُخِذَ ابنهُ “بينيامينُ” ، وابيضت عيناه من الحزن ، إلا أنه ـ رغم ذلك كله ـ اشتد يقينه بقرب الفرج ، وقال حينها : { عسى الله أن يأتيَني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم }. فجاء الفرج من عند الله ، ورد الله إليه بصره ، ورد إليه يوسف وبنيامين معاً.
سادساً : ربما كان مَنْعُك من الإجابة سبباً لوقوفك على باب الله عز وجل ، والاستمرار في التضرع إليه واللجأ إليه ، وربما لو أعطاك ما تريد لانشغلت به عن ربك ومولاك وتركت السؤال والدعاء وهما مخ العبادة بذاتها .. وهذا هو حال أكثرنا ، بدليل أنه لولا هذه النازلة والبلاء ما رأيناك على باب اللجأ ـ على حد قول “ابن الجوزي” رحمه الله ـ ؛ فالبلاء المحض هو ما يشغلك عن الله ، أما الذي يقيمك بين يديه ففيه خيرك . وقد حكى “ابن الجوزي” عن “يحيى البكاء” : أنه رأى ربه عز وجل في المنام ، فقال : يا رب ! كم أدعوك ولا تجبيني ؟ فقال : يا يحيى ! إني أحب أن أسمع صوتك ..
سابعاً : أنه قد يكون في إجابتك حصولُ إثم أو زيادةُ ضررٍ لك في دينك أو فتنةٌ لك ، أو يكون الذي تطلبه من الدعاء ظاهرهُ الخير لك وحقيقته الشر عليك ـ وخاصة لمن يترك الأدعية المأثورة ويطلب من الله شيئاً محدوداً .
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو ، فهتف به هاتف : إنك إن غزوت أُسِرْتَ ، وإن أُسِرْتَ تَنَصَّرْتَ ..
فعلى الأخ أن يهتم بجوامع الدعاء وأدعية القرآن والسنة .. وكل ما سبق يذكرنا بقوله تعالى : { ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً } ..
ثامناً : إن لكل دعاءٍ قَدَراً وقَدْراً ؛ وليس من المعقول أن تدعوَ اليوم أن يقيم الله الخلافة الإسلامية الراشدة ثم تنتظر أن يحدث ذلك غداً .. فإن لهذه الدعوة العظيمة وهذا الحدث الخطير قَدَراً وقَدْراً وشروطاً وأسباباً ومقدماتٍ تتبعها نتائج وعملٌ كثير وبذل عظيم وتربية لجيل كامل يصنعه الله على عينه ، ويمكن له في الأرض تمكين هداية ورشاد . فلا يُتَصَوَّرُ أن يدعو أحدنا بمثل هذه الدعوة اليوم لتحقق له بعد بضعة أيام!..وقد ذكر بعض المفسرين أن بين دعاء “موسى” عليه السلام { ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } .. وبين إجابة الدعاء وقوله تعالى : { قد أجيب دعوتكما } أربعين عاماً كاملة .
فإذا فكرنا في هذا الأمر : أن الداعي هو “موسى” عليه السلام ، وهو من أولي العزم من الرسل ، والذي أمن على الدعاء “هارون” عليه السلام وهو نبي كريم ، وقد استجمعا شروط الدعاء وآدابه ، والمدعو عليه هو فرعون وملأه ، وليس على وجه الأرض أظلم ولا أفسق ولا أكفر منهم ، ورغم ذلك تأخرت الإجابة !.. إنه قَدَرُ وقَدْر هذه الدعوة بالذات ؛ فهي ليست كغيرها من الدعوات .. وهذه النقطة هامة جداً لمن تدبرها وتفكر فيها ..





جَـدِّدُوا إِيِمَـــانَكُـمْ ...

عليكم إخواني الكرام أن تجددوا إيمانكم بين الحين والآخر .. إن هذا التجديد ضرورةٌ لكل مسلم عامة ، ولكل من يعمل للإسلام خاصة ؛ إذ إن الأخ المسلم قد تشغله أعمال الدعوة وتدبير أمورها واحتياجاتها والتفكير في شأنها ، أو قد تستغرقه أعمال الجوارح في العمل للإسلام ، أو يستغرقه العمل في مواجهة الأعداء بكافة أساليب المواجهة التي شرعها الإسلام ..
قد تستغرقه كل هذه الأعمال عن عمل قلبه ، وإعطاء عمل القلب ما يستحق من الاهتمام فالمسلم يسير إلى الله بقلبه لا بجوارحه في الأصل ، وما عمل الجوارح للخير إلا انبعاث من صلاح القلب وهمته إلى الخير . وقد يؤدي ذلك التقصير فيعمل القلب أن يَنْقُصَ حظ الأخ من معاني الإيمان الباطنة مثل الإخلاص لله ، حتى أن الأخ يفتقد ما كان عليه من إخلاص في بداية التزامه ، وقد ينقص حظ الأخ من الصدق واليقين والزهد والتوكل والخشية والإنابة والاستسلام والمحبة ، حتى أن الأخ قد يتمنى بعد فترة أن لو كان حالة القلب تعود كما كانت عليه في أول التزامه مع الإخوة ؛ كل ذلك يأتي نتيجة إهمال عمل القلب ، فتجد الأخ بعد فترة يكثر من فضول الكلام ، ويكثر من المباحات وفضول الأشياء ؛ مثل فضول الطعام ، والخُلْطَةِ في غير مصلحة دينية ، ويكثر من النوم والكسل ، ولا يسعى لتنظيم وقته ، ويهدر كثيراً من أوقاته في غير فائدة أو مصلحة شرعية وإن كانت في نفس الوقت ليست في حرام أو مكروه ، وهذا كله ـ وإن كان في المباحات إلا أنها تتم بتوسع شديد ودون أدنى عائد ديني ـ أو حتى دنيوي ـ والسبب في هذا التقصير هو إهمال أمر الرسول ، الذي يدعو فيه كُلَّ مسلمٍ ـ مهما كان مستواه الإيماني وعمله ومكانته في الجماعة المسلمة ـ لتجديد الإيمان ، فقد قال رسول الله : جَدِّدُوا دينكم ) ، وأكثر قسمه : ( لا ومقلبِ القلوب ) .
وقد وجدت كثيراً من الانتكاسات التي يمر بها بعض العاملين للإسلام ، أو الوقوع في لجة الشهوات أو الشبهات التي قد تقع من بعضهم ، إنما أساسها ومردها للتقصير في مسألة تجديد الإيمان هذه ، وهي مسئولية مشتركة بين الفرد والقائد والجماعة المسلمة نفسها ..
وكم رأينا أناساً وَصَلُوا في الالتزام بالإسلام والعمل له مرحلة طيبة ، وقطعوا فيه شوطاً لا بأس به من عمرهم .. ثم نكصوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم ، وما ذلك كله إلا نتيجة حتمية للتقصير في عمل القلب ؛ فكيف يسير إلى اللهِ وقلبُه قد توقف عن السير ، وتعطل في الطريق ، ونفد زاده الذي كان معه ولم يتزود بغيره ؟!
إن زاد قلبه السابق قطع معه مرحلة من مراحل سفره إلى الله ، ثم نفد هذا الزاد فهلك ذلك العبد في مَفَاوِزَ مُهْلِكَةٍ من ضلالة الشبهات ، ودناءة الشهوات . بل إن كثيراً من الأعراض التي تنتاب بعض العاملين للإسلام في منتصف الطريق من حب الدنيا ، أو غلبة الأثرة بعد الإيثار ، أو الجشع والطمع بعد الزهد والورع ، أو الجفوة والغلظة على المؤمنين بَعْدَ الشفقة والرحمة بهم ، أو موالاة الظالمين بعد موالاة المؤمنين ، أو العجب بالنفس والكبر على الغير بعد التواضع ، أو الشموخ بنفسه ـ وجعل نفسه قضية ينازِعُ عليها ويخاصِمُ من أجلها ـ بعد الإخلاص . كل هذه الأعراض وغيرها ـ التي قد تنتاب البعض في منتصف الطريق ـ يعود كثير منها إلى تقلص عمل القلب ، ونقص حظه من معاني الإيمان ، التي لا يحيا القلب دونها .. ويعود سبب ذلك كله إلى إهمال مسألة تجديد الإيمان من قبل الفرد ومن قبل قائده والجماعة نفسها ، لأن كلَّ أولئك مشتركون في هذه المسئولية .
وقد أعجبني تفسيرُ شيخٍ عالمٍ جليلٍ لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } ..
فقد قال في أحد دروسه التي كان يلقيها على الإخوة ـ خلال فترة ابتلائه ـ قال : كيف يطلب منهم القرآن أن يؤمنوا وهم مؤمنون ؟ بل والخطاب في الآية : { يا أيها الذين آمنوا } فما معنى ذلك الإيمان الذي يطلب منهم ها هنا ؟ ثم أردف قائلاً :
إن الآية تطالبهم بتجديد الإيمان دائماً ، وذلك لأن الإيمان يحتاج إلى تجديد بين الحين والآخر .

كَــيـْـفَ نُـجَـدِّدُ إيـمَــانَــنَـــا ...

ولكن .. كيف يمكن تجديد الإيمان ؟
إن الإجابة الكاملة على هذا التساؤل ليس مكانها تلك الصفحات القليلة وتلك الرسالة المختصرة ، ولكن يمكننا أن نعرج على بعضها في عجالة سريعة تكون بمثابة الإشارة التي قد تُغني عن العبارة ، والموفَّق من فهم مغزاها وعمل بها وعلمها لغيره .. إن تجديد الإيمان مسألة يسيرة على من يسرها الله عليه ، ولمن جهَّز قلبه ونفسه وروحه لذلك التجديد .
وهناك وسائل كثيرة تعين العبد على تجديد إيمانه ؛ فمنها على سبيل المثال لا الحصر : زيارة القبور ، وزيارة الصالحين والمتقين ، والعلماء الثقات ، والمجاهدين ، والمخلصين ، ومنها قراءة سير السلف الصالح ، وسير العابدين والزاهدين والمجاهدين والصادعين بالحق ، والصابرين والشاكرين ، ومنها كذلك الحديث مع صحبة قليلة صالحة حول سير أولئك القوم الذي تحدثت عنهم آنفاً ، ومنها التفكر في أيام الله ، ومنها إحداث زيادة في العبادات عن الأوراد السابقة التي كان الأخ يقوم بها ، ومنها الذهاب للعمرة وخاصة في شهر رمضان لمن يستطيع ذلك ، ومنها الخلوة بنفسه ولو قليلاً كل يوم أو بين الحين والآخر ، ومنها الإكثار من ختم القرآن والدعاء والقيام والصدقة أكثر من ذي قبل .. ولعلنا نلقي بعض الضوء في الأسطر القادمة على بعض هذه الوسائل .
أولاً : قراءة سير السلف الصالح :
فقراءة سير الزاهدين تربي في القلوب الزهد ، وقراءة سير المجاهدين والشهداء تجعل القلب يُحَلِّقُ في السماء وكأنه يعيش معهم ويستلهم منهم ويتمنى أن لو كان واحداً منهم ، بل إن قراءة سيرتهم تجد الواحد منا وكأنه قد انتظم في صف جيشهم ، وكأنه يمتطي صهوة جواد يقاتل معهم ويصول ويجول في ميدان القتال .. فكم أَحْيَتْ سيرة “خالد بن الوليد” و “سعد بن أبي وقاص” وأبي “عبيدة عامر بن الجراح” و “عكرمة” و “المقداد” و “المثنى بن حارثة” قلوباً عرفَتْها ، وكم دفعت أقواماً للشهادة في سبيل الله ، وكم حرضت على البذل والعطاء وإرواء شجرة الإسلام العظيمة من دماء الشهداء .
ومن أجل ذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أبناءهم مغازي رسول الله كما يعلمونهم الآية من القرآن .
إن سيرة رجل مثل “خالد بن الوليد”وحدها يمكن أن تحيي قلوب أمة بأسرها ، وتستنهض همتها ، وتشد عزيمتها ، ومن أجل ذلك نُصِحَتْ بعضُ الأنظمة العَلْمانية بعدم تدريس “عبقرية خالد” التي كانت مقررة على طلاب الثانوية العامة منذ سنوات ، وذلك لما أحدثته من أثر خطير على الطلاب في تلك السن ؛ وذلك بالرغم من أن “عبقرية خالد” لا تُعتَبَرُ مثالية تماماً لمن يريد دراسة سيرة خالد بن الوليد دراسة مستفيضة ؛ ورغم ذلك فقد كان أثرُها على أمة ـ كاد أن يموت فيها وازع الدين ـ عظيماً وكبيراً .. إن سيرة خالد بن الوليد وأمثاله تجعل المسلم يحتقر الدنيا وشهواتها ولذاتها الفانية ، وتجعله يحب الموت ، وتجعله يمشي على الثرى وهمته في الثريا ، وتجعله يحتقر نفسه الدنيئة التي تفكر أو تتعلق بعَرَضٍ زائلٍ أو متاعٍ رخيصٍ . وكم نَزَعَتْ سِيَرُهم من القلوب دواعي الرعب وهواتف الخوف وتلبيس الشيطان . وكم دفعت قلوباً إلى حصن التوكل الحق على الله ..
أما قراءة سير الزهاد والصالحين فَتُنْبِتُ في القلب شجرة الزهد في الدنيا ، وتظل تسقي هذه الشجرة حتى تترعرع في القلب وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
وسير العابدين تربي النفس على حب القيام والصيام والذكر والدعاء والخشوع والبكاء ، فكم أنبتت سير التوابين بذور التوبة ، وكم حركت قلوباً قست من كثرة بعدها عن ربها ، وكم فتحت صنابيرَ دموعِ الندمِ والتوبة من أعينٍ ما عَرَفَتِ البكاء من قبلُ ..
وقبل أن أختتم الحديث عن هذه النقطة أَوَدُّ أن أُذَكِّر بنقطتين هامتين :
أولاهما : أن لا يُقْتَصَر في سِيَرِهم على زمان معين ، بل تُقْرُأُ سِيَرُهم من زمن الصحابة وحتى زماننا هذا.
ثانيهما : أن قراءة هذه السير لا تؤتي ثمارها المرجوَّة إلا إذا كان قلب الأخ وقتَها خالياً من كل الشواغل والعوائق ، وكان يعيش بمشاعره وقلبه وجوارحه كلها مع سيرتهم العطرة ، فيقرأ تلك السير وقد تخلى عن جميع العوائق والعلائق التي تحول بينه وبين الغوص في بحار لآلئها ، فإذا أضيف إلى ذلك كله أن يقوم أحد الإخوة الأفاضل ببسط الدروس المستفادة من تلك السِّيَرِ ، وخاصة الدروس الإيمانية ، ويُشْتَرَطُ في هذا الأخ أن يكون من الذين آتاهم الله مبلغاً كبيراً من العلم بالله والعلم بأمر الله ،ويُعْلَمُ من حاله التقوى والصلاح وكثرة البذل في سبيل الله مع الفهم الدقيق للسيرة والتاريخ الإسلامي ، فإذا ما استطعنا أن نفعل ذلك فإننا نكون قد فعلنا خيراً كثيراً ، إلا أن الواقع العملي يبين أن هذه الشروط لا تتوفر في كثير من الإخوة ! بل إنها لا توجد إلا في قلة قليلة منهم ! ولكن ما أعظم أثرهم في تجديد الإيمان في الجماعة المسلمة .
ثــــانـيـــــــاً : الخَــــــــلْــوة ..
ومن وسائل تجديد الإيمان أن يخلو الأخ بنفسه بين الحين والآخر خلوةً غير خلوته في قيام الليل والأذكار والتلاوة الراتبة ؛ فكما ورد في الأثر أن للعاقل أربعَ ساعات ، منها ساعة يخلو فيها بنفسه .
وهذه الخلوة في غاية الأهمية بالنسبة لكل من يعمل للإسلام ؛ ففيها يختلي العبد بربه ومولاه وخالقه ، وفيها يأنس بربه وبالقرب منه سبحانه وتعالى ، وينفرد فيها بمحبوبه الأعظم ، ويتذوق فيها حلاوة مناجاته سبحانه ، وهذه الخلوة يحاسب الأخ فيها نفسه ويقف معها وقفة الشريك الشحيح مع شريكه ، يحاسبها بعيداً عن مدح المادحين وثناء المُثنين ، ويحاسبها وهو يستشعر ذلك العبودية أمام مولاه وخالقه ، وفي هذه الخلوة يتذكر ذنوبه ومعاصيه وتقصيره وغفلته وخاصة المعاصي الباطنة التي لا يعرفها مادحوه ويعرفها هو من نفسه ، وفي هذه الخلوة يسح دموع الندم والإنابة ، ويبكي خوفاً من الله وحياءً وحباً وخشوعاً لعظمته سبحانه ، ولعل هذه الدموع الصادقة قد تكون أنفعَ له وأجدى من كثير من عمله الذي يفرح به ويُعْجَبُ .
ولعلك تعجب من أخٍ قضى سنواتٍ في الالتزام ولم تَجُدْ عيناه بقطرة دمع خوفاً من الله وحياءً منه ! فمن كان هذا شأنهَ فاعلم أن فائدته في الدين لا تكاد تذكر فأين هذا ممن عَدَّهُم الرسول في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : ( ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ). وتأمل جيداً كلمة “خالياً ” في الحديث ؛ فهو في خلوة ابتعد فيها عن السمعة والرياء ، واصطحب فيها التجرد والإخلاص لله عز وجل ، وفي هذه الخلوة يتذكر نِعَمَ الله عليه وعلى إخوانه وجماعته المسلمة ، ويتفكر في إكرام الله له ، وأول هذه النعم وأعظمها : نعمة الهداية ، ويظل يردد بقلبه وجوارحه معنى : { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } ويتفكر كذلك في أن إقبال الناس عليه وعلى دعوته وقبولهم لها ليس بسبب فصاحته وبلاغته أو عذوبة منطقه أو تمكنه من العلوم أو قوة حجته ـ ولكنه راجع إلى توفيق الله له ، وكرم الله المحض عليه ، وفضله المطلق عليه وهكذا .. يظل يعدد النعم كلها في خلوته تلك ، ولا ينسى أن يُذكِّر نفسه أن الله قد كف عنه وعن إخوانهِ الأعداءَ ، وما أكثرَهم في ذلك الزمان وما أشدَّ بطشَهم ، ويتذكر أن الله هو الذي رد كيدهم في نحورهم ، وليس ذلك لأنه جاهد وخطَّط ، وأعَدَّ وجَهَّز ، وضرب وحطم ، وأَمَّن ونَظَّم ، ولكن كان ذلك من محض فضل الله ، ولولا فضل الله لكان كل الذي فعله ـ إن كان فعلـــه ـ سببـــاً في تسلــيـــط الأعداء عليه وعــلــى إخــوانه وسببـــاً في هلكتهم { ولكنَّ الله سلَّم } .. ويتفكر كم تحتاج هذه النعم كلها إلى شكر عظيم ؛ وأين هو من هذا الشكر ؟ وما نصيبه منه إن كان له نصيب ؟!
وفي هذه الخلوة يتذكر الابتلاءات والمصائب التي مرت عليه وعلى إخوانه ، فقد يكون ذلك بسبب ذنوبه ـ لاسيما إن كان في موضع قيادة أو ريادة ، ويظل يكرر على قلبه معنى : { قل هو من عند أنفسكم } ثم يعزم على التوبة من تلك الذنوب ، ورقع الخرق ، وإصلاح العيب في نفسه ، ويعزم على مثل ذلك إن كان في إخوانه شيء من ذلك ( فما نزل بلاء إلا بذنبٍ ، ولا رُفِعَ إلا بتوبة ) ـ كما قال أحد السـلف ـ ، فيتعود في الخلوة أن يمعن النظر إلى أسباب الابتلاءات من الناحية الشرعية الباطنة الدقيقة وليس من الناحية الدنيوية الظاهرة فحسب ؛ وفي الخلوة أشياء وأشياء كثيرة يصعب حصرها أو بيانها في تلك الصفحات القليلة ، ولكني مُوقِنٌ أن سعة أفهامكم ، ووفور عقولكم ، ستدلكم على ما لم يُكْتَبْ في هذه العُجالة .
ثــالـثـــــاً : الـقـيـــــام بـبـعــض الأعــمـــــــال الـمـتـــواضـعـــــة :
ومن وسائل تجديد الإيمان أن يقوم الأخ بين الحين والآخر ببعض الأعمال التي تربي على التواضع ، وتزيل دواعي العجب من النفس الأمارة بالسوء ؛ لاسيما إذا شعر الأخ المسلم أن شيئاً من ذلك تطرق إلى نفسه ،أو نبهه أحد أساتذته ومشايخه إلى شيء من ذلك ، شريطةَ أن لا تشغله هذه الأعمال عن عظائم أموره أو المهمات الجسام في الدين ، وأن لا تجعله يقصر في أمرٍ أهم منه .. ومن هذه الأعمال ـ مثلاً ـ : أن يحمل حذاء رجل أعمى من عوام المسلمين الصالحين في المسجد ويُلْبِسَها له عند خروجه من المسجد ، ثم يوصله إلى بيته . أو يشارك في تنظيف المسجد ومسحه وكنسه . أو يخدم بنفسه بعض أيتام المسلمين أو مرضاهم ويقضي حوائجهم . أو يسعى بنفسه لشراء بعض حاجات أولاد أحد الإخوة المبتلَونْ .. وهذا على سبيل المثال لا الحصر .. وكل هذه الأشياء لها فوائد عديدة يضيق المقام عن ذكرها.
لقد كان “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه ـ وهو من هو ـ يحمل قربة من الماء على ظهره ليسقي بها بعض بيوت المسلمين ، فقيل له في ذلك . فقال : ( أعجبتني نفسي فأردت أن أؤدبها ) . وكان يدواي البعير الأجرب . وكان يتسابق هو و “أبو بكر الصديق” إلى بعض بيوت أرامل المسلمين من القواعد من النساء لكي يطبخ أو يكنس ، بل ويعجن كل واحد منهما عجين هؤلاء الأرامل ، ولكن أبا بكر كان يسبقه دوماً إلى ذلك ..
وفي هذا الباب كثير وكثير ، شريطة أن لا يشغله ذلك عن عظائم الأمور ومهمات الدين الجسام .. كما أسلفنا من قبل .
رابـعــــاً : زيــــــارة الـقـــبـــــور :
ومن وسائل تجديد الإيمان أن يزور الأخ القبور بين الحين والآخر ، ويجلس عندها متدبراً متفكراً داعياً لنفسه ولموتى المسلمين ، مستحضراً في هذه اللحظات الموت وما بعده ، ويتفكر لو أنه كان الآن مكان صاحب هذا القبر الذي يجلس أمامه في تلك اللحظة : فكيف يكون حسابُه ؟ وبماذا سيجيب ربه ؟ وهل ستكون العاقبة له أم عليه ؟
ثم يتدبر أن هؤلاء الموتى كان منهم القوي والضعيف ، والظالم والمظلوم ، والغني والفقير ، والأمير والحقير ، والشاب والشيخ والصالح والطالح .. فكلهم الآن تحت الثرى قد تركوا الدنيا وزينتها طوعاً أو كرهاً ، وفارقوا الأحباب والخلان ، ولم تصحبهم في تلك القبور الموحشة سوى أعمالهم ؛ فمن كان عمله صالحاً كان قبره روضة من رياض الجنة ، ومن كان غير ذلك كان قبره حفرةً من حفر النار والعياذ بالله .
وفي زيارة الأخ للقبور يتفكر أيضاً في ذنوبه وتقصيره ، ويستجمع فكره وعقله في تلك الأمور كلها ، ثم يعزم بعد ذلك مع ربه عزمةَ صدقٍ لا تردد فيها ولا نكوص عنها ـ على التوبة الخالصة والعمل الجاد في سبيل نصرة الإسلام ..
ومن العجيب أنك ترى بعض الإخوة الذين يعملون للإسلام منذ سنوات لم يزوروا القبور مرة واحدة ؛ بل قد نجد أحدهم قد توفى أحدُ والديه أو كلاهما منذ سنوات .. ولم يذهب لزيارة قبره مرة واحدة ! وهذا نقصٌ في الوفاء ، ودليلٌ على عدم البر ..
وقد حث رسول الله على زيارة القبور فقال : ( زوروا القبور ؛ فإنها تذكركم الآخرةَ ) . وجاءت امرأة إلى عائشة رضي الله عنها تشكو من قسوة قلبها ، فأمرتها بأن تتذكر الموت بين الحين والآخر ، ففعلت ، فذهبت قساوة قلبها وجاءت تشكر السيدة عائشة نصيحتها .
ولقد كان أحد العلماء المجاهدين يحرص بين الحين والآخر على اصطحاب بعض الإخوة بعد صلاة الصبح لزيارة القبور ، ويعظهم هناك موعظة بليغة .. حتى أنه في أحد تلك المواعظ قال : لئن لم يرزقنا الله الشهادة في سبيله لَنُعَذَّبَنَّ عذاباً أليماً ، فذنوبنا كثيرة وأعمالنا قليلة .. ثم بكى ، وبكى الحاضرون جميعاً .
وكان الدعاة وطلبة العلم والمصلحون ـ منذ أكثر من عشر سنوات ـ في جامعة أسيوط ينظمون بين الحين والآخر رحلة لزيارة القبور ؛ فكان يجتمع في هذه الرحلة أكثر من ثلاثين أخاً بعد صلاة الصبح يومَ الجمعة . وكنا نذهب إلى المقابر ، حيث يتحدث أحد الإخوة ويعظ الحاضرين بموعظة بليغة موجزةٍ عن الموت وأهوال القبور ويوم القيامة والتوبة ، ثم يذهب كل أخٍ ليجلس منفرداً عند أحد القبور متفكراً متدبراً فيما حوله ، وداعياً خاشعاً تائباً ، ثم يظل الإخوة على هذه الحالة قرابة الساعة ، ثم يعودون أدراجهم مجتمعين في صمت دون كلام أو مزاح .. وكان لهذه الرحلة تأثير طيبٌ جداً على الإخوة ، وكانت تذكرهم فعلاً بالآخرة ، وتحثهم على التوبة والأوبة ، وتربي في نفوسهم الزهد في الدنيا وإيثار الآخرة ، وتجدد إيمانهم حقاً .
خـــامـســـــاً : زيــــــارة الـــصــــالــحــيـــــــن :
ومن وسائل تجديد الإيمان زيارة الصالحين والمجاهدين وأهل السَّبق في العمل الإسلامي فهذه الزيارات لها أثر عظيم في تجديد الإيمان وصقله ؛ وإذا كانت رؤية هؤلاء وحدها زاداً على الطريق الإيماني فكيف بمجالستهم ومصاحبتهم ، والاستماع إليهم والتعلم منهم ، والاستماع إليهم وإلى سيرتهم العطرة وسير زملائهم المجاهدين والصالحين ؟! وكيف كان زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة والموت في سبيل الله، وتضحياتهم في الدعوة والحسبة والجهاد ؟!
وإن مثل هذه الزيارات تمثل شحناً لبطارية إيمان الأخ التي قد تكون أوشكت على النفاد . وقد كان “عمر بن الخطاب” يقول : ( لولا ثلاث ما أحببتُ البقاء في الدنيا : ويعدد من هؤلاء الثلاث ـ مصاحبة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تنتقون أطايب الثمر ) ، ولعل أبرز مثل لذلك : ذهاب “موسى” عليه السلام لمصاحبة الخضر والتعلم منه ، وذلك رغم مكانة موسى عليه السلام ، ورغم أنه أفضل من الخضر ، إلا أنه قال له : { هل أتبعك على أن تعلمن مما عُلِّمْتَ رشداً } .
وهؤلاء تلاميذ “معاذ بن جبل” ومحبوه الذين كانوا يترددون عليه ويتعلمون منه ـ كانوا يبكون بكاءً شديداً حزناً على فراق معاذ حينما مَرِضَ مَرَضَ الموت ، وذلك من أجل شعورهم أنهم سيفقدون ذلك المجلس الإيماني العظيم ، الذي كانوا يجلسون فيه إلى معاذ بن جبل يجدد لهم إيمانهم ويعلمهم الحكمة والعلم بالله وبأمر الله ؛ فعن يزيد بن عميرة قال : لما مَرِضَ معاذ بن جبل مرضه الذي قُبِضَ فيه كان يُغْشى عليه أحياناً ويفيق أحياناً ، حتى غشي عليه غشيةً ظننا أنه قد قُبِضَ ، ثم أفاق وأنا مقابِلُهُ أبكي ، فقال : ( ما يبكيك ؟! ) قلت : ( والله لا أبكي على دنيا كنتُ أنالُها منك ، ولا على نسبٍ بيني وبينك ؛ ولكن أبكي على العلم والحكم الذي أسمع منك يذهب ! ) ، قال : ( فلا تبك ! فإن العلم والإيمان مكانَهما ، من ابتغاهما وجدهما . فابتغه حيث ابتغاه إبراهيم عليه السلام ؛ فإنه سأل الله تعالى وهو لا يعلم وتلا : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } .. .
ويمكن للأخ أيضاً زيارة بعض آباء الشهداء والمقربين إليهم أو أصدقائهم ، للاستماع إلى تاريخ حياتهم ، وكيف كانوا يتعاملون مع ربهم ومع الناس ومع أهلهم ..
لقد كان “أبوبكر الصديق” و “عمر بن الخطاب” يزوران “أم أيمن” حاضنة الرسول الرسول ـ كما كان الرسول يزورها ـ ، وليتذكروا سوياً أيام الرسول الكريم ؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس قال : قال أبوبكر رضي الله عنه ـ بعد وفاة رسول الله ـ لعمر : ( انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها ، كما كان رسول الله يزورها ) ، فلما انتهيا إليها بكت ، فقالا لها : ( ما يبكيك ؟ ما عند الله خيرٌ لرسوله ) ، فقالت : ( ما أبكي أَنْ لا أكونَ أَعْلَمُ أَنَّ ما عند الله خيرٌ لرسوله ، ولكنْ أبكي أنَّ الوحيَ قد انقطع من السماء ) ، فهَيَّجَتْهُما على البكاء ، فجعلا يبكيان معها ..
ســـادســــاً : تَـــذَكُّـــــــر أيــــــام الـلـــــه :
ومن الأسباب التي تعين على تجديد الإيمان أن تتذكر أيام الله ؛ وقد أمر الله سيدنا “موسى” عليه السلام أن يُذَكِّرَ بني اسرائيل بأيام الله ، قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } وكأنها مهمة أساسية من مهام موسى عليه السلام . ومعناها : ذَكَّر بتلك الأيام التي أنجى الله فيها بني اسرائيل وغرق فيها فرعون وقومه ـ وذكرهم بأيام الله ، بتلك الأيام التي نصر الله فيها أولياءه وأعز جنده وهزم الكفار وحده ، ذكرهم بآيات الله الباهرة في تلك الأيام التي خلع الله فيها على أوليائه خُلعةَ النصر والتمكين في الأرض.
وما أصبح صومُ يومِ عاشوراء سُنَّةً في الإسلام إلا لنتذكر هذا اليوم العظيم الذي أنجى الله فيه موسى ومن معه من المؤمنين ، وأغرق فيه فرعونَ ومن معه من الكافرين .
إنه يومٌ من أيام الله حقاً ، ولذا فإننا نصومه كل عام شكراً لله عز وجل على ذلك النصر العظيم .. ولنكثر من سؤال الله عز وجل في ذلك اليوم أن يهلك فراعنة عصرنا وزبانيتهم كما أهلك فرعونَ موسى وزبانيتَه ، وأن يهلك هامان عصرنا وجنده كما أهلك هامان وجنوده ، وغرقهم مع سيدهم فرعون في اليم . ولِنُكْثِرَ من سؤال الله في مثل ذلك اليوم أن ينصرنا وينجينا من أيدي الفراعنة ، وأن يمكن لنا كما مكن لموسى ومن معه من المؤمنين في الأرض .
فعلى الأخ المسلم أن يتذكر بين الحين والآخر أيامَ الله ، ويمعن التدبر فيما حَوَتْه تلك الأيام من عبر وعظات ودروس إيمانية عظيمة .. عليه أن يذكِّر نفسه بين الحين والآخر بيوم الفرقان يوم الْتَقَى الجمعان، ويوم خيبر ، والفتح الأعظم ، ويوم بني قينقاع ، وبني النضير ، وقريظة . ويتذكر يوم اليمامة ، واليرموك ، والقادسية ، ونهاوند ، وفتوحات المغرب والأندلس وجنوب روسيا . ويتذكر حطين ، ويتذكرون عين جالوت ، والقسطنطينية ، والزلاقة ، والأرك . ولا ينسى أيضاً أن يتذكر ذلك اليوم الذي أنجى الله فيه نوحاً ومن معه من المؤمنين ، وتلك الأيام التي أنجى فيها هوداً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وشعيباً ومن معهم من المؤمنين ، وأنزل فيها العذاب والعقاب بالكافرين والمعاندين .
ويتذكر أيضاً ذلك اليوم الذي أنجى الله فيه إبراهيم من النار وجعلها برداً وسلاماً عليه ، وكذلك اليوم الذي فدى الله فيه إسماعيل بذبحٍ عظيم .. فكل هذه الأيام هي من أيام الله التي تستحق الكثير والكثير من التدبر والتفكر ، وفيها من المعاني الإيمانية ما لا تكفيه مجلداتٌ .
وكلما تفكر الأخ المسلم الذي أتاه الله العلم النافع في هذه الأيام فإن الله سَيُفِيضُ على قلبه بفيوضٍ ربانية ومعانٍ إيمانية تملأ القلب يقيناً وتوكلاً وإنابةً وخشوعاً وخضوعاً واستسلاماً ومحبةً وإخلاصاً وتجرداً لله عز وجل .
وعلى الأخ المسلم أن لا يقتصر على تذكر أيام الله التي ذكرنا بعضها والتي ذكرها القرآن وبَيَّنَتْها كتب السنة والسيرة والتواريخ القديمة ؛ بل عليه أن يتذكر أيام الله القريبة العهد منه ، ولا يُغْفِلَها ؛ فقد تكونُ أشدَّ أثراً وأسهل نداءً .. فعلى سبيل المثال لا الحصر .. تلك الأيام التي أذل الله فيها شمس بدران ، وصلاح نصر ، وشعرواي جمعة ، وعلي صبري ؛ فقد أذاقهم الله الذل والهوان ـ بعضهم على يد عبدالناصر ، وبعضهم على يد السادات ـ فهؤلاء طالما أذلوا المسلمين وأذاقوهم ويلات العذاب وساموهم سوء العذاب خاصة في السجن الحربي .
ومن أيام الله : ذلك اليوم الذي قُتِل فيه فرعون في يوم زينته على يد البطل المسلم “خالد”ورفاقه .
ومن أيام الله أيضاً : تلك الأيام العظيمة القريبة التي شهدت سقوط الشيوعية ، ليس في أوربا الشرقية وحدها ولكن في العالم بأسره ، متضمناً الاتحاد السوفيتي نفسه ؛ لقد سقط ذلك الإله الذي عبده أكثر من نصف سكان العالم ، ولم يكتفوا بعبودية صنم الشيوعية .. ولكنهم جحدوا الأديان وجحدوا وجود الله عز وجل ! إن سقوط صنم الشيوعية والماركسية يُعْتَبَرُ أعظم آية في ذلك العصر ، وتعتبر أيامها من أعظم أيام الله في ذلك العصر .
والعجيب أن ذلك السقوط المدوِّي تم في ثلاثة أشهر فقط في أوربا الشرقية !! ولنتأمل جميعاً عُمُر تلك الإمبراطورية الشيوعية ؛ إن عمرها لم تجاوز سبعين عاماً ، قامت كلها على القهر والسجن والتعذيب والتشريد والحديد والنار .. ويكفي أن تعلم أنها قتلت أكثر من عشرين مليوناً من المسلمين .
وعليك أخي المسلم أن تقارن بين عمر الشيوعية وعمر الإسلام الذي تحاربه الدنيا كلُها ، والذي لا تحميه أي دولة في العالم ! بل يتحمل أبناؤه صنوف العذاب في كل بلاد الدنيا .. ورغم مرور أربعةَ عشرَ قرناً من الزمان .. مازال الإسلام غضّاً طرياً نابضاً .
وتفكر أخي .. كيف سقط صنم الشيوعية بمجرد نقص ـ ولا أقول نقض ـ سلطة الدولة بضعة أيام !!
أما الإسلام .. فرغم أن الدنيا قد أجمعت على حربه .. فهو يزداد كل يوم قوة إلى قوة ، ويكتسب أنصاراً ورجالاً { فطرة الله التي فطر الناس عليها } .
وأسأل الله عز وجل أن يزيل ويسقط عُبَّاد الصليبية واليهودية والعلمانية وكافة صنوف الكفر والشرك على ظهر الأرض ، ويطهر الأرض من تلك الأوثان ، وينشر عليها ضياء الحق ونور الإسلام .. وما ذلك على الله بعزيز .
وبعد .. فأيام الله كثيرة وكثيرة ؛ منها ما هو محلي أو عالمي ، أو حتى في محيطٍ شخصي أو أُسَرِيٍّ ، أو على مستوى الجماعة المسلمة الصغيرة في القطر الواحد من أقطار الإسلام . والمهم أن على الأخ المسلم أن يتذكر هذه الأيام بين الحين والآخر ، ويتدبر في معانيها الإيمانية ، فإنها تحمل الكثير والكثير ، ولعل الإشارة إلى ذلك تغني عن كثير من العبارة ..

انتهى الكتيب ولله الحمد أولاً وآخراً
فهو الذي بنعمته تتم الصالحات .