الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 29-32


السير في طريق النهضة

قلنا : إن النهضة لا يمكن أن توجد إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها أي حتى يعرف كيف ينظم علاقاته ويحدد سلوكه ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس أو من الكائنات الحية الأخرى أو من الأشياء المادية التي يحتاجها فهو إنسان يعيش مع غيره من البشر ومع أمم أخرى من المخلوقات الأخرى على هذه الأرض في هذا الكون الشاسع فكيف يتعامل مع الناس أو مع الكائنات الحية الأخرى أو مع الأشياء لقضاء حاجاته أو إشباع رغباته إن لم يكن له وجهة نظر في هذه الحياة التي يحياها ومعرفة لهذه الحياة وموقعه منها .

ولهذا كان لا بد أن يسبق إجابته عن معنى وجوده في الحياة معرفة حقيقية لهذه الأشياء جميعها . أي أن تكون له فكرة أساسية عن الإنسان والكائنات الحية والكون ،أي لا بد أن تكون له فكرة أساسية شاملة عن هذه الأشياء جميعها .تكون هذه الفكرة الأساسية قاعدة لتفكيره ،ومنطلقاً لكل مفهوم عن هذه الحياة ومنظماً لكل سلوك أو علاقة .هذا إن أراد أن ينهض حقاً ويرتقي إلى المكانة التي كرمه الله بها .أي لمستوى إنسان فيرتفع بما حباه الله من عقل عن مكونات جسمه الحياتية أي التي شارك فيها غيره من الموجودات في التركيب العنصري أو المادي .أما إن أراد أن يخلد إلى الأرض ويلتصق بها ويعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى كالأنعام مثلاً_ فاليصم أذنيه عما يسمع وليغمض أذنيه عما يرى وليتخل عن النعمة التي اختصه الله تعالى بها أي القلب لينطبق عليه قوله تعالى :{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ،أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) أو قوله تعالى :{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان وكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث }الأعراف(176).

ولهذا : كان على مريدي النهضة أن تكون لهم فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها جميعها بما بعد الحياة الدنيا أي أن تكون لهم عقيدة عقلية تكون أساساً لتفكيرهم وتنبثق عنها كافة أنظمتهم وقوانينهم وتحدد لهم وجهة نظرهم في الحياة – أي تحدد لهم الأساس الذي يتصرفون بموجبه مع الناس والأشياء . هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن تشمل هذه القاعدة الفكرية على الأسس التي تبين كيفية تنفيذ هذه النظم والقوانين ،كما يجب أن تحتوي هذه القاعدة الفكرية على الطريقة التي تبين كيفية إيجادها في واقع الحياة، وإيصالها للناس كافة وبعبارة مختصرة أن يكون لهم مبدأ ينقادون له ويقودونه ويقودون به غيرهم من البشر وهذا يقتضي أن يكونوا هم بمجموعهم كأنهم المبدأ الحي الذي يسير في الناس فهم وثقافتهم وسلوكهم المرآة التي تنطبع عليها صورة المبدأ الذي يحملونه والفكرة التي يدعون لها . كما أن عليهم – وعملهم هو إنهاض الأمة ونقل المجتمع إلى الحالة الأفضل – أن يكونوا على معرفة بالواقع الذي يعملون فيه ، معرفة تمكنهم من وضع العلاج المناسب ، أو وصف العلاج المناسب لكل مسألة أو حادثة أو واقع من الأمراض الأساسية أو الجانبية التي تنخر جسم الأمة وتمزق المجتمع وتسمم أجواءه ولا يكفي أن تكون العقيدة وفهم أفكارها وأحكامها كل ما يعرفون أو يدعون إليه ولتفصيل ذلك نقول إن عليهم ما يلي :-

من المعروف أن حمل الدعوة الإسلامية فرض على كل مسلم فهي الرسالة المكلف بتبليغها ونشرها بين الناس (( لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )). أو كما قال وفي رواية ((خير لك مما طلعت عليه الشمس )) رواه الطبراني عن ابن رافع. وقال تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ))النحل(125) . إلا أن المسألة ليست مسألة حمل دعوة وحسب بل هي مسألة حمل دعوة من أجل غاية معينة أي بناء أمة وإنهاضها على أساس معين وإقامة دولة تجعل الإسلام موجوداً في واقع الحياة ، وبعبارة أخرى هي مسألة توعية للمسلمين لتنفيذ حكم شرعي معطل ، وهو مبايعة الخليفة (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية ))(1) أي أن يكون حمل الدعوة من أجل غاية معينة وتحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يأتي بالعمل الفردي والوعظ والإرشاد . فلا بد أن يكون هذا العمل في كتلة واستبعاد العمل الفردي من أذهان الناس .وهذا معنى وجوده في هذه الحياة أي أنه يعيش من أجل ذلك من أجل أداء هذه الرسالة وتبليغها للناس وإيجادها في واقع الحياة .

فهم المبدأ بفكرته وطريقته وأعني بذلك أخذ العقيدة أخذاً عقلياً يقينياً ومبنياً على العقل وفهم ما انبثق عن العقيدة من أحكام ومعالجات ومعرفة الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى نشرها وتبليغها للناس . كما أعني فهم ما جاءت به هذه العقيدة وما انبثق عنها من أحكام تبين كيفية المحافظة على المبدأ نفسه وكيفية تنفيذ ما جاءت به من معالجات وأحكام . ومعرفة الكيفية المحددة لنشر المبدأ نفسه وهيمنته ونشره للناس كافة . أي بسط سلطان الإسلام – المبدأ – على الناس حتى يؤمنوا به .

معرفة الكيفية- الطريقة – التي يتمكن من إيجاد المبدأ في الحياة . من نقطة ابتداء الفكرة عند شخص أو أشخاص مروراً بإيجاد تكتل يقوم على الفكرة وبناء هذا التكتل بناء فكرياً – أي تثقيف حملة هذا المبدأ وأعضاء هذا التكتل بثقافة محددة موحدة بحيث يصبح كل فرد فيه هو المبدأ نفسه هذا مع الاحتكاك بالناس ودعوتهم إليه وأخذ ثقتهم بالمبدأ وبحملة المبدأ-التفاعل- ووصولاً إلى إمكانية وضع هذه الأحكام والمعالجات موضع التنفيذ أي الحكم وبذلك يوجد المبدأ في واقع الحياة تماماً كما فعل رسول الله وهذا يقتضي التفريق بين كيفية إيصال المبدأ إلى الحياة أي إلى الحكم وبين كيفية تنفيذ أحكام المبدأ ونشره أي مباشرة الحكم بكافة أحكامه من محافظة على المبدأ أو تنفيذ للمعالجات ورعاية شؤون الناس إلى حمل هذا المبدأ للعالم بالجهاد .

وقد سار الرسول بالكيفية الأولى ابتداء من نزول الوحي إلى الهجرة وإقامة الدولة أي إلى إيجاد هذا المبدأ في واقع الحياة . ومن ثم قام بالجزء الثاني أي الجانب العملي من الطريقة فباشر تنفيذ أحكام هذا المبدأ فبنى بذلك أرقى مجتمع عرفه التاريخ وأقام نهضة لم يشهد العالم لها مثيلاً . وبذلك يجب أن تكون طريقة الرسول بجزأيها مع وضوح التفريق بينهما لوضع كل جزء في مكانه يجب أن تكون هي الطريقة التي تحمل بها الدعوة الآن .

وبالنظر في طريقة الرسول نجد أنه أوجد تكتلاً سياسياً يقوم على المبدأ أي على عقيدة واحدة وفكرة واحدة وقد كان ذلك واضحاً جلياً في كلمة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول (( لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة ولا إمارة بلا طاعة )) وهذا نفي للعمل الفردي ومنافاة للإسلام حين العمل لتحقيق هدف معين فكيف إذا كان الهدف قد حدده المبدأ وطبيعة العمل تقتضي وجود جماعة بإمارة وليس المقصود أية جماعة بأية إمارة بل المقصود جماعة سياسية وإمارة سياسية كذلك أما كونها سياسية فذلك للأمور التالية :

أ- إن الغاية التي وجدت من أجلها هذه الكتلة والفرض الذي أوجب وجودها هو تغيير المجتمع ونقله إلى الوضع الأفضل -أي إنهاض المجتمع – ولما كان المجتمع مكوناً من جماعة من الناس لهم أعراف عامة ونظام ينظم شؤونهم إلا أن هذه الأعراف وهذا النظام دون المستوى اللائق والمراد هو رفعة شأن هؤلاء الناس فلا بد من رفعة شأن أعرافهم – وأفكارهم ومشاعرهم وتغيير النظام الفاسد الذي ينتظمهم-ووضع النظام الذي يصلح شأنهم ويتفق مع ما يحملونه من عقيدة وأفكار أي تغيير هذا الكيان السياسي الفاسد وما يقوم عليه من أفكار ومشاعر ونظام ووضع كيان سياسي صالح يحل محله . ولذلك لابد أن تكون هذه الكتلة التي تعمل للنهضة كياناً فكرياً سياسياً حتى تستطيع أن تحقق غايتها وتصل إلى هدفها . لأن فاقد الشيء لا يعطيه .

ب - أما الأعمال التي على الكتلة القيام بها في عملية التغيير هذه – النهضة - فهي جميعها أعمالاً سياسية فعملية تغيير الأعراف والتقاليد والأفكار التي تتحكم في علاقات الناس تتطلب تثقيف الناس ثقافة سياسية تتناول جميع الأفكار والأحكام التي تريد أن تبني المجتمع على أساسها أي تتناول المسير للعلاقات الدائمة التي جعلت جماعة الناس مجتمعاً متميزاً سواء أكانت أفكار حكم أو اقتصاد أو اجتماع أو أمن أو تعليم أو غير ذلك انطلاقاً من قاعدتها الفكرية – العقيدة – وهذا يعني جعل العقيدة التي تعتقدها الأمة عقيدة سياسية تتناول كافة شؤونهم الحياتية وعلاقاتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية .

ج - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لفساد العلاقات والنظم والقوانين التي تنتظم هذه العلاقات وهذا يعني التعرض للهيئة التنفيذية القائمة على تنفيذ هذه النظم والقوانين وتصدي الدولة لهذه الكتلة وأعضائها أمر حتمي وهذا هو الكفاح السياسي.

د - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لما في المجتمع من أفكار مخالفة لها أولما في المجتمع من عادات وتقاليد أو مفاهيم أو كتل وأحزاب مخالفة لما هي عليه وهذا يعني الصراع الفكري بين الكتلة وغيرها من الناس من حملة مثل هذه الأفكار المغلوطة والآراء الفاسدة . وهذا كذلك عمل سياسي.

هـ - قوله ( من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم ))(2) ، أو قوله عليه الصلاة والسلام:
(( من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرمات الله ناكثاً لعهود الله حاكماً في عباد الله بغير ما أنزل الله ولم يغير عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مدخله ))(3) ، وعشرات الأحاديث التي توجب على المسلم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا أيضاً عمل سياسي .
أو قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وعلى رأس الواجب إن أول من تأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر هم ولاة الأمور أي الحكام . وهذا كذلك قمة العمل السياسي .

هذه بعض موجبات أن تكون الكتلة العاملة لإنهاض المجتمع والأمة كتلة سياسية . وجميع أعمالها وأفكارها . أعمالاً وأفكاراً سياسية .

أن تقوم هذه الكتلة بتحديد فكرتها وأهدافها تحديداً يجلو عنها كل غموض ويزيل عنها كل إبهام بالإضافة إلى حرصها على صفاء فكرتها ونقائها وذلك بربط كل فكر أو حكم أو رأي لها بدليل من الكتاب أو السنة أو مما أرشدا إليه -الكتاب والسنة – من أدلة . بحيث تبدو للعيان أنها مستنبطة مما جاء به الوحي كما تحرص على نقائها بإبعاد كل فكر أو حكم أو رأي ليس منهما - الكتاب والسنة – فتزيل ما ألحق بها في العصر الهابط أو غيره من أحكام وآراء وأفكار وقواعد وعقائد لا تمت إليها بصلة . أو بصلة واهية هذا من حيث الصفاء والنقاء . وأما من حيث تحديد أهدافها وأفكارها وأحكامها وآرائها فلا بد لها أن تحدد كيفية تسيير أعمالها بموجبها أي أن تتخذ لها قاعدة عملية ثابتة مثل (( أن يسبق كل عمل فكر وأن يكون من أجل غاية معينة وفي جو إيماني ))، أي فكر أولاً ،يتبعه عمل من أجل غاية ،في جو إيماني وهذا يعني أن يكون ما تتبناه من أفكار . أفكاراً عملية بعيدة عن الخيال والتنظير فالفكر مجرداً عن العمل خيال وتنظير وفلسفة لا جدوى منها وقد امتلأت خزائن المسلمين من مثل هذه الكتب فالمكتبة الإسلامية هي أغنى مكتبة على وجه الأرض .

لذلك لا بد أن تكون أفكارها أفكاراً عملية وتؤخذ هذه الأفكار للعمل بها إلا أن اقتران الفكر بالعمل دون تحديد غاية أو هدف من العمل هو دوران في حلقة مفرغة وقد ابتليت الأمة بمثل هذا الأمر . وهناك جمهرة من الوعاظ والمرشدين الذين يصرخون في الأمة والناس أن اتقوا الله وعودوا إلى ربكم ولم يغيروا من واقع الأمة شيئاً لأنهم يدعون بلا هدف . لذلك لا بد من تحديد الهدف من الفكر والعمل على أن يكون الهدف أو الغاية قد حددته العقيدة نفسها وأن يكون كل ذلك أي الفكر والعمل والهدف المنشود أن تكون جميعها في جو إيماني ذلك لأن صعوبة السير ووعورة الطريق وعنف المقاومة قد تضعف الاندفاع في الكتلة ولذلك لابد من اللجوء إلى الناصر المعين وهو الله سبحانه وتعالى لكي يأخذ بيدها ويثبت أقدامها وهذا لا يتأتى إلا بربط كل فكرة يقوم عليها عمل بأمر الله سبحانه – أي اقتران كل حكم بدليله وبالعقيدة سيراً على نهج القرآن في آيات الأحكام حيث تنتهي الآية بربط الأمر بالله تعالى وبالصفة التي يقتضيها الحكم . مثل قوله تعالى :{ السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم }المائدة(38) ، وهذا يعني أن توضع الفكرة والعمل والهدف وكيفية الوصول إليه والقاعدة التي تنطلق منها كمخطط هندسي قاعدته العقيدة ويحدد شكل البناء وكيفية إقامته تماماً كما يفعل المعمار . فهو حين يتخذ قراره ببناء بناية ما أي حين يحدد هدفه يضع المخطط الهندسي - الخريطة - الذي يبين له طبيعة الأرض التي يريد أن ينشئ عليها البناية ثم يبين شكل البناء الداخلي والخارجي وما فيه من أدوار وما يحتوي من أجنحة وما يحتاج من مواد وتكاليف .

وحين تحدد العقيدة وجوب إيجادها في واقع الحياة ، وتلتزم الكتلة هذا الهدف . فلا بد لها ، أي الكتلة من الوعي على هذا الهدف وعياً كاملاً ، لتنقل إلى الأمة هذا الوعي وهذا التطور ، كي ترتفع الأمة بمجموعها إليه وتعمل على تحقيقه . لا أن تتجاهل وضوحه ، أو أن تبقيه في صدور قادتها بل لابد من وضع ذلك الهدف بكلياته وجزئيا ته تحت أنظار الأمة حتى يتسنى لجميع العاملين والمؤيدين والناس أجمعين ، الذين نريد نقلهم إليه للاطلاع عليه ومعرفته ولا يجوز فيه التعتيم أو التعميم . فمثلاً حين يكون الهدف هو بناء الأمة واستئناف الحياة الإسلامية ، ولا يتأتى ذلك مطلقاً إلا بإقامة دولة إسلامية . فإن هذا قول عام فلا يكفي فلا بد أن تعي الكتلة ومعها الأمة على معنى بناء الأمة ونهضتها وذلك بتوضيح هذا المعنى وشرحه للناس ويتلخص ذلك المعنى بأن يكون للأمة قاعدة فكرية وطريقة تفكير منتجة وحين نقول : استئناف الحياة الإسلامية ، أن تبين هذا القول وما تعنيه به ، أن تعيد ثانية تحكيم الإسلام في علاقات الناس الداخلية والخارجية وأن القول باستئناف الحياة الإسلامية أي العودة إلى تطبيق الإسلام كما طبق منذ عهد الرسول إلى آخر عهد الخلافة ، فالعملية هي استئناف حياة توقفت ، وليست مسألة جديدة ، يراد إيجادها وإنما هي مسألة استئناف لحياة مضت . وحين تقول ذلك عليها أن تبين أن ذلك لا يتأتى إلا بإقامة دولة إسلامية ، ومبايعة الخليفة ، فلا بدلها من توضيح هذا الهدف ، والذي يترتب على وجوده وجود الإسلام في واقع الحياة ونهضة الأمة ، نعم لابد من وضوحه في ذهن الكتلة وتصورها ، كما لا بد من وضوحه في ذهن الأمة وتصورها ، فلابد لها إذن من تحديد معنى الدولة الإسلامية ، وما القواعد التي تقوم عليها ، وما هي أركانها ، وما هي أجهزتها ، وما هي النظم التي تنتظمها ، أي لابد لها من رسم المخطط الهندسي كاملاً بحيث لا يبقى إلا وضع الأشخاص في مراكزهم ، أي لابد أن يكون دستورها بكلياته وجزئياته واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ، أما أن تدعو لأمر لا تعرفه . أو تطلب من الأمة انتقالها إلى واقع تجهله، وتطلب منها الثقة والتأييد ، فهذا ضرب من الخيال وزيادة في الجهل ، ومخالف لقوله تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108).

ومن المعروف بداهة أن فاقد الشيء لا يعطيه ، هذه نقطة . ومن جهة أخرى فمن المعروف أن يكون في المسألة الواحدة أكثر من رأى في معظم الأحيان ، قد تصل حد التناقض ، في الأصول والقواعد ، أو في الفروع والجزئيات ، ولذلك يقتضي أن تختار هذه الكتلة ما يلزمها من أحكام وآراء وأفكار تتبناها وتسير بموجبها ، وتعمل لتنفيذها ، حتى لا تجمع بين النقيضين . ومن المؤكد أن يؤدي عدم تحديد الفكرة إلى الاختلاف والتناقض في الرأي بين أعضائها وبالتالي قد يؤدي إلى انشطار الكتلة إلى كتل وأجنحة لا يجمع بينها إلا اسم الكتلة ، وذلك لأن كل رأي يمكن أن يتكتل عليه جماعة ويدعون له ، وبالتالي فيؤدي إلى تمزيق وحدة الجماعة . ويكفي هذا أن يكون موجباً للتبني وتحديد الفكرة والهدف وخط السير .

مثلاً : في الإسلام آراء فقهية متعددة تتعلق بشخص الخليفة ، الذي هو الركيزة الأولى التي يقوم عليها تطبيق الإسلام ، ووجوده في واقع الحياة فهناك رأي يقول ، إن أي مسلم تتوفر فيه الشروط التالية يجوز له أن يكون خليفة ويجوز للمسلمين أن يولوه أمرهم ، وهذه الشروط هي الإسلام والرجولة والعقل والبلوغ والحرية والعدالة وعلى كل شرط من هذه دليل من الكتاب والسنة ، ولا عبرة لنسبه وقوميته ومدى علمه . وهناك رأي آخر في هذه المسألة يقول: إن الخليفة يجب أن تتوفر فيه هذه الشروط الستة ، شرط أن يكون من قريش ، والدليل على ذلك قوله :(( الأئمة من قريش ))(4) . وهناك رأي ثالث يشترط بالإضافة إلى الشروط الستة بأن يكون الخليفة من آل البيت لقوله تعالى:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }الأحزاب(33) وهناك رأي رابع بوجوب أن يكون مجتهداً ، حتى لا يكون خاضعاً لرأي مجتهد غيره فلا تتوفر فيه الولاية الحقَّة فلو افترضنا أن كتلة ما لم تحدد رأيها في هذه المسألة وكان بين أعضائها ومنتسبيها ومؤيديها من يحمل هذه الآراء الأربعة. وتكتل على هذه الآراء الأربعة جمهرة من المفكرين فيها وقادتها وكل منهم يرى أن رأيه هو الصواب ، فلا يجوز له أن يتنازل عنه لغيره . فإذا وصلت هذه الكتلة إلى الحكم وتنفيذ ما عندها من أحكام وأفكار وآراء ، فأي رأي تأخذ ؟ ومن المؤكد أن كل صاحب رأي سيحاول فرض رأيه ومقاومة الرأي الآخر .وماذا ستكون النتيجة ؟ انشطار الكتلة واختلافها ، إن لم يكن الاقتتال . ولهذا وللحكم الشرعي القائل (( أن حكم الله الواحد للشخص الواحد لا يتعدد )) والكتلة شخصية معنوية حكمها حكم الشخص الواحد فيما هو من صلاحيتها . فلا يجوز مطلقاً أن تتعدد فيها الأحكام والآراء والأفكار والمعتقدات ، وكان تبني ما يلزمها من أفكار وأحكام ومعتقدات هو الصورة الحقيقية لها وهي بمثابة الروح لها ، وعليها يتوقف وجودها حية وبها تأخذ ثقة الناس على بصيرة وتتغير أفكارهم وآراؤهم تبعاً لها ، وبذلك تستطيع أن تكون لها رأياً عاماً تبني عليه أعراف الناس وتقاليدهم ، التي هي الدعامة الأساسية من مقومات المجتمع .

أن تتعامل مع الأفكار الفاسدة والعادات السيئة الموجودة في المجتمع لإزالتها ووضع البديل لها . وهذا يقتضي معرفة ما في المجتمع من أفكار فاسدة وآراء خاطئة وعقائد باطلة حتى تتمكن من دحضها وإظهار فسادها وكشف زيفها وبطلانها ، ولا يصح التعميم في ذلك والقول ( الكفر ملة واحدة )- على صدق هذا القول – بل لابد من مناقشة كل فكرة أو رأي أو معتقد مناقشة فكرية تبين خطأه وتكشف عواره ، نعم إن الكفر ملة واحدة وهذه حقيقة ثابتة وتقرير واقع ، فالدين لا يتجزأ فإما إسلام وإما كفر وليس هناك بين بين . لكن المسألة هنا ليست من أجل تقرير حقيقة ، بل من حيث إزالة الفساد والخطأ والبطلان ، ببيان ذلك وإقامة الحجة عليه بالدليل والبرهان وبنظرة دقيقة في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، بنظرة فيه ، أنه تعامل مع فئات الكفر الموجودة جملة وتفصيلاً فقد تعامل مع كل فئة بما تقول وتدعي ، وبما تؤمن وتعتقد فكانت تنزل الآيات الكريمة لإثبات بطلان تلك الأقوال والمعتقدات ، وإقامة الحجة بالدليل القاطع على الحقيقة المراد إظهارها ، حتى يكون إيمان من يؤمن عن عقل وبينة .

ولم يكتف القرآن الكريم بإظهار عقيدة الإسلام وبيان ما احتوت عليه من حقائق وبراهين ساطعة ، وترك للناس التفكير في ذلك بل ضرب على الأوتار الحساسة المثيرة لهم فهاجم معتقداتهم وسفه أحلامهم وبين غباءهم وجمودهم. وخاطبت آياته كل فئة بما عندها من أفكار ومعتقدات فخاطبت مشركي العرب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومن لف لفهم من عبدة الأوثان ، فهاجمت عبادة الأصنام والوثنية هجوماً لا هوادة فيه ، وعابت على معتقدي ذلك ، وبينت تفاهتهم ، من حيث عدم استعمالهم عقولهم ، ليروا أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع .

ولذلك وصفهم بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) وهل هناك استفزاز وضرب على أوتار حساسة . كما ناقش كل فكرة من أفكارهم سواء من أنكر وجود الله ، أو من اتخذ إلهه هواه أو من عبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى ، ثم بين لهم عبادة الأصنام منذ سالف الزمن فذكر أصنام قوم إبراهيم عليه السلام وكيف حطمها فلم تملك قوة الدفاع عن نفسها كما ذكر أصنام قوم نوح بأسمائها { وقالوا لا تذرون آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا }نوح(23) كما ذكر أسماء بعض آلهة قريش { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }النجم(19) كما ناقش ألوهية من يدعي الألوهية بمثل ضربه عن حوار إبراهيم مع النمرود ، بقوله تعالى :{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}البقرة(258) أو مناقشة موسى مع فرعون ، وهكذا فإنه لم يقتصر على فئة دون أخرى ولم يجملهم جملة واحدة ولم يكتفي بشرح فكرته وعقيدته وما يريده من الناس.

كما إنه أي القرآن الكريم لم يقتصر في هجومه على الأديان والمعتقدات ، بل تعداها لما كانوا يقولون ، أو ما كانوا يقومون به من أعمال والعلاقات التي تنتظم حياتهم ففي الوقت الذي يهاجم فيه الأديان كان يهاجم الأفعال ومل يتحلون به من صفات فقد نجد في سورة قصيرة ما يشمل كل هذا . مثل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون }الماعون ، وكما في قوله تعالى :{ ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين }المطففين(1).

وليقرأ كل منا القرآن الكريم ليتدبر الآيات والسور المكية كيف تناولت المجتمع بما فيه من عقائد وعادات وأعمال كانت تصدر عن العرب المشركين ، بالإضافة إلى لفت النظر ، وتركيز عقيدة الإسلام بالحجة والبرهان ، بأن الله خالق كل شيء ، وأنه منزل هذا القرآن وأنه لا إله إلا هو أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وأن يوم القيامة لا ريب فيه .

ولنتدبر كيف تناولت تلك السور والآيات صنفاً آخر من الكفار هم أهل الكتاب ، فكانت تجمل بينهم وبين مشركي العرب حين يقتضي الإجمال { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة }البينة(1) ، وكقوله تعالى : { وما جعلنا من أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا }المدثر(31) ولكنه يمزج بين اليهود والنصارى ويخاطبهم { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء }آل عمران(64) ، ولكنه يفرد لكل منهما نوعاً خاصاً من المناقشة . وإقامة الدليل على بطلان ما يقول هذا الطرف أو ذاك . فهو يناقش بني إسرائيل ويخاطبهم يا بني إسرائيل حين يكون الأمر متعلقاً بما تدعيه اليهود ويناقشهم في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم وماذا أحدثوا في دينهم ، وما غيروا في كتبهم وما قتلوا من أنبياء الله ظلماً وعدواناً وما طلبوا من أنبيائهم وما امتحنوا به ، حتى ذكرهم القرآن في أكثر من سبع وعشرين سورة ،وفي مواضع مختلفة .

وحين كان يخاطب النصارى منفردين كذلك كان يتناول ما أحدثوا في دينهم ، وما بدلوا من عقائدهم سواء من قال منهم { إن الله ثالث ثلاثة }المائدة(73) ، أو من قال { إن الله هو المسيح بن مريم }المائدة(17) أو الذين قالوا إن المسيح هو ابن الله ويذكرهم بما جاءهم به ليقيم الحجة عليهم ويسرد لهم قصة ولادة عيسى عليه السلام في سورة مريم ، أو في سورة آل عمران مع قصة ذكريا ، ويحيى ومريم في دقة متناهية لا يعرفها إلا من كان له إطلاع عليها ، ومما كان الكثير من العرب إن لم يكن كلهم يجهلونه { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك }هود(49) كما بين أقوال اليهود في عيسى بن مريم ، وما قالوا في النصارى وكذلك ما قال النصارى في اليهود { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }البقرة(113) فلم يترك شيئاً إلا بينه لهم لدحض حجتهم ، وتسفيه أحلامهم ثم يذكر كل منهم على حده ، بأن رسول الله محمد قد ذكر في كتاب كل منهم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }الفتح(29) .

ولم يقف عند حد ما هو موجود عندهم ، بل تعداه إلى ما يجري بينهم من حوار وما يتفوهون به من أقوال ، وما يقومون به من أعمال وما يحوكون من مؤامرات . حين ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً ، وادعت النصارى أن إبراهيم كان نصرانياً بين بعبارة قصيرة سخف ما ذهبوا إليه فقال :{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً }آل عمران(67) وقال :{وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده }آل عمران(65) . أي إن الديانة اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم فكيف يتبع السابق اللاحق . إنه منتهى السخف . كما بين لهم بعض ما يقومون به من أعمال كقتلهم الأنبياء وأكلهم الربا ، والسحت وقد نهوا عنه كما بين تآمرهم على المسلمين. إذ قالوا لجماعتهم آمنوا أول النهار واكفروا آخره ليشككوا المسلمين في صدق نبوة سيدنا محمد ، إلى غير ذلك .

ولما وجدت فئة جديدة لم تكن موجودة قبلاً في مجتمعه ، تناولها بالكشف وبيان ما بيتت في نفوسها. فأفرد لهم سورة سميت باسمهم (( المنافقون )) بالإضافة إلى ذكرهم وصفاتهم وما يبيتون من أمور في مواطن كثيرة وفي سور متعددة . ففي مطلع سورة البقرة مثلاً ، ذكر المؤمنين بأربع آيات وذكر الكفار بآيتين وذكر المنافقين بثلاث عشرة آية ، كما ذكر بناءهم مسجداً ضراراً ، وما أرادوا به من كيد فحرق عليهم رسول الله ذلك المسجد ، حتى إن أحدهم لو قال كلمة فضحه الله بها ، كالذي قال { ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }التوبة(49)، أو قولهم : {لولا يعذبنا الله بما نقول }المجادلة(8) . إلى غير ذلك من الأمور التي تناولها القرآن الكريم ، كشد أزر رسول الله والمؤمنين بذكر سير الأنبياء السابقين ، وما لقوا من أقوالهم .

من هذه التبصرة القصيرة يجب على فئة تدعي أنها تعمل لإنهاض الأمة ، ورفعة شأنها أن تسير بنفس الطريق التي سارها رسول الله ، فتخوض صراعاً فكرياً مع ما في المجتمع من أفكار مغايرة ، ولا يمكنها ذلك قطعاً إلا إذا كان لديها المعرفة الكاملة لهذه الأفكار والمعتقدات ، حتى تتمكن من إثبات بطلانها ، وفساد آرائها ولا يجوز أن تكتفي بطرح ما عندها على الناس لأن في هذا مخالفة لطريق رسول الله وطريقة القرآن الكريم في الصراع الفكري ، وقرع بالحجة والبرهان بالبرهان .

نزل القرآن الكريم على رسولنا منجماً على فترة دامت ثلاثاً وعشرين سنة ولم ينزل جملة واحدة وإنما كان بحسب الظروف والوقائع والأحوال ، ومن هنا كان الواجب على كل فئة تعمل لإنهاض الأمة أن تتعايش مع الأحداث والوقائع والأحوال ، حتى تستطيع أن تعطي رأي الإسلام في كل مسألة أو حادثة أو حالة ، وتتبع الوقائع والأحداث يقتضي معرفة الواقع أو الحادثة معرفة تمكنه من الإحاطة بما يكتنفها من ظروف وأحوال وما يتعلق بها من أسباب وعلل ، حتى يكون الرأي أو الحكم عليها صواباً أو قريباً من الصواب .

وهذا يقتضي معرفة واقع مجتمعنا أولاً ثم معرفة القوى المتصارعة فيه ، والدول المتنافسة على خيراته ، وبسط هيمنتها ونفوذها عليه، ولنا بقصة أبي بكر رضي الله عنه ومراهنته كفار مكة على نتائج الحرب بين الفرس والروم وتدخل القرآن في ذلك خير دليل على وجوب تتبع الوقائع والأحداث ، فهي تبين أن رسول الله ومن معه كانوا كتلة سياسية تعي واقعها وتعرف مجتمعها كما تعي ما يحيط بها . فهذا أبو بكر يراهن كفار مكة على واقع عسكري وسياسي ، بين أكبر دولتين في العالم في ذلك العصر ، الفرس والروم وتأييد الباري عز وجل لمثل هذا الحوار . بسم الله الرحمن الرحيم { ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله }الروم(1) هذا في الصراع الدولي والسياسة الخارجية .

وأما في الوضع الداخلي فما أروع كشف الواقعة التي اجتمع عليها كفار مكة لمناقشتها ويتدبروا أمرهم فيها ، ويرسموا لذلك خطة عمل . وكان الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد ، فحين اجتمع كفار مكة في دار الندوة يتشاورون بشأن رسول الله ودعوته ، وماذا يقولون عنه ، وبماذا يجيبون الأعراب الوافدة إلى السوق ، سوق عكاظ . وقد تزعم المجتمعين الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم ، أو سيد مكة فقالوا يا أبا الوليد ، ماذا نقول للناس ؟ فقال : قولوا حتى أسمع فكانوا يدلون بآرائهم ، والوليد يردها لعدم مطابقتها للواقع . فلما أعياهم الأمر قالوا : قل أنت إذن ، فقطب حاجبيه وعقد ما بين عينيه ، وأخذ يحك دماغه ، ويذرع النادي ذهاباً وإياباً ، حتى توصل إلى كلمة مضللة بليغة ، فقال نقول عنه إنه ساحر بيان ، يقول قولاً يفرق فيه بين المرء وأهله .

وإذ بالوحي يخبر رسول الله بما يدبر هؤلاء ، فينزل فيهم قرآناً يكشف ذلك التآمر ويفضح ما جرى فيه بوصف دقيق رائع ، قال تعالى :{ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن يزيد ، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ، سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ، ثم نظر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، إن هذا إلا قول البشر ، سأصليه صقر}المدثر(26).

هذا ما يجب أن يكون عليه الوعي على الأحداث والوقائع حتى نستطيع أن نعطي حكم الله فيها، أو أن نوضح للأمة ما يجري فيها من أحداث ، أو ما يحاك لها من مؤامرات ، وما يوضع في سبيل الدعوة من عقبات ، قد تكون من أبناء الأمة نفسها أو من أعدائها بيد أبنائها ، أو من أعدائها .

قلنا إن مقومات المجتمع هي العرف العام والنظام . وكما يجب أن تتعامل الكتلة مع الأفكار الفاسدة ، والأحداث الجارية لبيان فسادها وإظهار بطلانها ، وإبعادها عن حياة الناس وتفكيرهم، أن تعمل لإيجاد فكرتها في المجتمع لتكوين رأي عام عليها ، يتكون بموجبه العرف العام . هذا ما يجب أن تتعامل به . كما إنه يجب عليها أن تتعامل مع الركيزة الثانية من مقومات المجتمع وأعني بذلك النظام القائم المتحكم بعلاقات الناس ورعاية شؤونهم ، وإظهار فساده وزيف معالجاته ، وسوء رعايته لشؤون الناس ومخالفته لعقيدتهم وما جاءت به من أحكام . وتحطيم الأسس التي يقوم عليها ذلك النظام . مع طرح البديل وإقامة الدليل على صدقه وصلاحه . وتضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج حتى يفقد الناس ثقتهم بالنظام وتأييدهم للقائمين على تنفيذه . هذا من جهة ومن جهة أخرى أن تتولى الكتلة كشف واقع هؤلاء النواطير الذين أقامهم الكافر على رقاب الناس حماة لمصالحه ومنفذين لنظامه ، وناشرين لثقافته ، حتى تثبت للناس خيانتهم لأمتهم، وعمالتهم لعدوها ، فينفضوا عنهم بل ويساعدوا الكتلة على الإطاحة بهم وإبعادهم عن الحكم وهذا ما نعنيه بالكفاح السياسي وذلك اقتداء برسول الله ، وتطبيقاً للطريقة التي استعملها القرآن في هذا المجال.

وفي الوقت الذي كان يبين فساد النظام كان يبين فساد الحكام وطغيانهم وجبروتهم ومنهم من هاجمه باسمه ، ومنهم من هاجمه بصفته ومنهم من هاجمه بكلمة قالها ، أو عمل قام به ، فقد قال تعالى فيمن ذكرهم بالاسم { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد }المسد . بالرغم من شرفه ومكانته في بني هاشم وقريش ، ولم يكن هذا بأقل مما قاله في سيد مكة سيد بني مخزوم وأعني الوليد بن المغيرة { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدوداً } إلى أن يقول { سأصليه صقر }المدثر(26). ويقول فيه في سورة ن والقلم وما يسطرون { عتل بعد ذلك زنيم …. سنسمه على الخرطوم }القلم(16) كما قال في الأخنس بن شريق { كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16) . وكما يقول في غيرهم :{ أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى }القيامة(34) ومن هنا كان الكفاح السياسي وأعني به مهاجمة النظام وبيان فساده ومهاجمة الحكام وإظهار خيانتهم وكشف مخططات سادتهم كان هذا الكفاح السياسي من أهم الأعمال التي يجب على الكتلة القيام به ، لأنه هو الطريق الذي سار به سيدنا محمد ، والذي أرشده إليه ربه جل وعلا . والذي أمرنا باتباعه حيث يقول تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108) .

إذن الطريق الموصلة إلى الأهداف المنشودة – دعوة إلى الله على بصيرة بالفكرة تبين أفكارها وأحكامها ونظمها وقوانينها وما جاءت به من أفكار ومعتقدات . وبصيرة بالطريق بحيث يعرف بكل خطوة يخطوها ، ويعرف الكيفية التي ينفذ بها الفكرة وأحكامها ، وبصيرة بالواقع الذي يعمل فيه لتغييره ، بحيث يحيط علماً بما في هذا الواقع من عقائد وأفكار ونظم ، وما فيه من أعراف وتقاليد ، حتى يعرف كيف يقتلعها من النفوس ، ويغرس بدلها ما جاء به من عقائد وأفكار وأحكام .


ـــــــــــــ
(1) رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر ورواه الطبراني (مجمع الزوائد ج5 ص218) عن معاوية. وفي روايه (( من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية )).

(2) رواه الحاكم عن ابن مسعود ورواه البيهقي في شعب الإمام ورواه الطبراني وأبو نعيم .

(3) رواه الطبراني في التاريخ وابن الأثير في الكامل وغيرهما عن الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما.

(4) حديث صحيح ، رواه البخاري في ( كتاب الأحكام ) عن معاوية أنه سمع رسول الله يقول : ( إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ). ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بنص أن رسول الله قال : ( الناس تبع لقريش في هذا الشيء مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم ). والنص الوارد في هذه الصفحة رواه أبو داوود في مسنده عن أنس ورواه الترمذي عن عمر بن العاص والإمام أحمد عن أنس بن مالك .


ليست هناك تعليقات: