قلنا آنفاً :إنه لا يمكن الحكم على أي واقع حكماً صحيحاً إلا إذا فهمنا هذا الواقع، وعرفنا ظروفه وأحواله،وما الذي أثر أو يؤثر فيه ،بالإضافة إلى ما لدينا من معلومات عنه ،والتأكد من صحتها،وصحة تفسيرها لهذا الواقع،وذلك بقياسها جميعها إلى القاعدة أو القواعد الأساسية أو المسلمات العقلية ،عند ربط ذلك الواقع بالمعلومات حين إصدار الحكم عليه .
ولذلك كان على مريدي النهضة و الارتقاء ،أن يتفقهوا في الواقع الذي يراد معالجته، ومعرفة ما فيه من أمراض ، ومسببات هذه الأمراض، معرفة تمكنهم من وصف العلاج الناجح ، والبلسم الشافي لهذه الأمراض ، بعد أن يكونوا قد هضموا فكرتهم ، وأبصروا طريقتهم-أي أن يكونوا حملة مبدأ مؤمنين به مخلصين له، ذلك لأن الصيدلي العالم بالأدوية ، وأثرها على الأمراض والجراثيم لا يستطيع وصف أي علاج لمريض أو إعطاءه ، إلا إذا عرف نوع المرض، مع أن صيدليته تحوي مئات الأصناف من الأدوية والعقاقير المقاومة للجراثيم والأمراض ، فلا يعطى علاجاً إلا بعد أن يتم تشخيص المرض من الطبيب المختص. والأرقى من ذلك أن يقوم الطبيب بالتحاليل اللازمة، وزرع الجرثومة ثم إجراء فحص التحسس لهذه الجرثومة المسببة للمرض،ومع أي المواد تتجاوب،أي معرفة أشد العقاقير تأثيراً عليها، فالمعالجة تقتضي أولاً تشخيص المرض، ثم معرفة الجرثومة المسببة للمرض، ثم معرفة العقار الذي يقضي على هذه الجرثومة، ثم إعطاء العلاج للمريض بالجرعة الكافية للعلاج، وما يحتمله الجسم. ومن هنا نقول:
نريد النهوض بالمجتمع ، فما هو المجتمع؟ وما هي الأمراض التي يعاني منها ؟ثم ما هي أسبابها- أي ما هي الجرثومة المسببة لها؟-ثم معرفة نوع العلاج الذي يزيل هذه الأسباب فتزول معها الأمراض.
المجتمع - اختلفت التعاريف في تحديد معنى المجتمع ، مع أنه واقع محسوس. فمنهم من نظر إليه نظرة سطحية، فقال: إن المجتمع هو مجموعة من الأفراد. ومنهم من قال: إنه جماعة من الناس وحدتهم الآمال والآلام. ومنهم من قال: إنه وحدة سياسية جمعها نظام سياسي واحد،ومنهم من قال:إنهم جماعة اتحدوا لتحقيق أهداف مشتركة.ومنهم من قال: إنهم جماعة من الناس بثقافة واحدة وشعور بالوحدة للمحافظة على وجودهم،وهكذا. ومهما يكن من أمر، وما دام أن المبحوث عنه_أي المجتمع- واقع ملموس، ويمكن إدراكه بالعقل، والحكم عليه حكماً صحيحاً ؛ إذاً كان علينا تحديد معنى المجتمع، ومعرفته على حقيقته، حتى تسهل معالجته، ومن المعروف بداهة أن الإنسان كائن إجتماعي، لا يعيش منفرداً بل لا يمكنه العيش منفرداً. وإنما يعيش في جماعة ، أو في مجموعات كبرت أم صغرت. وإن كل إنسان يسعى دائماً لسد حاجاته، وإشباع جوعاته ،وإرضاء رغباته، والتي غالباً ما تكون في حيازة غيره، أو مع غيره.
لذلك فإن أي جماعة أو مجموعة من الناس لابد أن ينشأ بينها علاقات يتمكن بها الأفراد من سد حاجاتهم، وإشباع جوعاتهم وإرضاء رغباتهم، ولتحقيق ذلك لابد من اتفاق بينهم على أفكار معينة، يتم على أساسها تسيير هذه العلاقات، ومفاهيم تحدد سلوك هذه الجماعات، وكيفية معينة لحماية المصالح المشتركة بينهم وحمايتهم. ومن البديهي كذلك أن تشعر الجماعة شعوراً جماعياً بالغبطة والسرور لما يوافق ما اتفقت عليه من أفكار ومفاهيم منظمة لحياتها وشؤونها، وأن تشعر شعوراً جماعياً بالغضب والكراهية والاشمئزاز لما يخالف تلك الأفكار والمفاهيم التي اتفقوا عليها . مثلاً نرى القرية أو الحي تغمرها البهجة والسرور حين ينفذ أحدهم ما اتفقوا عليه في إشباع جوعة النوع ،أي الزواج، فحين يتزوج أحد شباب القرية، أو الحي، من فتاة فإن أهل الحي أو القرية يسرون لذلك، وتظهر فيهم مشاعر الغبطة والسرور .ولكن حين يسمع أهل الحي أو القرية أن فرداً منهم خرج عما اتفقوا عليه في هذه العلاقة . فعاشر فتاة معاشرة مخالفة لما اتفقوا عليه ، كالزنى مثلاً، فإن مشاعر الكراهية والبغض تشمل بشكل جماعي أهل ذلك الحي أو القرية . يستنكرون ما قام به ذلك الفرد من مخالفة لما اتفقوا عليه _أي لعاداتهم وتقاليدهم _ وقد يقومون بطرده من بينهم أو قتله.
وحين اتفقت الجماعة على تنظيم تبادل السلع والحاجيات بكيفية معينة كالبيع أو المقايضة أو التبادل. فهم يسعون لانتظام هذه العلاقة بينهم بالشكل الذي اتفقوا عليه ،ولكن حين يقوم أحدهم بمخالفة ما اتفقوا عليه للحصول على حاجته ، فيسرق، أو ينهب ، أو يحتال ، فإنهم يحتقرونه أو ينبذونه ويسودهم شعور البغض والكراهية نحوه . وكذلك الحال مع كل علاقة من علاقاتهم التي اتفقوا عليها ، ومع كل تصرف لهم يتصرفون فموافقة أعرافهم ترضيهم،ومخالفة أعرافهم تسخطهم.
وبما أن وجود العلاقات الدائمة حتمية في الجماعة إذ كانت العلاقات الدائمة هي الأساس في تكوين المجتمع ، وبما أن العلاقات الدائمة إنما كان المنظم لها هو العرف العام أي وحدة الأفكار والمشاعر ، ووحدة المفاهيم والأحاسيس، إذاً فالعرف العام _ أي الأفكار والمشاعر _ هو الدعامة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع. ومن المعروف بداهة أن الإنسان كائن اجتماعي، وليس كائناً آلياً، فإن فيه قابلية الخروج عما اتفق عليه المجتمع . فالإنسان كتلة من الدوافع والأحاسيس، تتولد عنها جوعات مستمرة وهو يندفع في الحياة لإشباعها. وقد تطغى إحدى هذه الجوعات فيندفع لإشباعها دون مراعاة ما اتفقت عليه الجماعة ، لذلك كان لابد للجماعة أن تتفق على كيفية معينة ، وبأفكار ومفاهيم معينة تعالج فيها مثل هذه الحالات، وتضبط سلوك الأفراد.هذا من جهة، ومن جهة ثانية هناك تكاليف عامة من مصالح الجماعة المشتركة فلا يتأتى للفرد مباشرتها مع تعلق مصالحه بها، مثل شق الطرق، وتأمين التطبيب والتعليم والأمن، واستخراج الثروات المشتركة، وغير ذلك، فلا بد إذن للجماعة من الاتفاق أيضاً على طريقة ما، يتم بها رعاية شؤونهم، وتحقيق أمنهم الداخلي والخارجي. ولذلك كان لابد من اختيار من يتولى القيام نيابة عن الجماعة بتنفيذ ما اتفقت عليه الجماعة .
ومن هنا : نجزم يقيناً أن المجتمع مكون من جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة، مبنية على أفكار ومفاهيم واحدة، ومسببة مشاعر واحدة، وينتظم هذه العلاقات نظام يضبط سلوك الأفراد ويرعى شؤون الجماعة، ويفض المنازعات، ويفصل في الخصومات، ويمنع المخالفات، وهذا يعني أن المجتمع يتكون من مجموعة من الناس لها عرف عام، لأن العرف العام هو وحدة المشاعر والأفكار. ولها نظام. وصلاح المجتمع إنما يقاس بصلاح العرف العام الذي يكتنفه، والنظام الذي ينتظمه. وبهذا نكون قد عرفنا الواقع الذي نريد معالجته_ أي نكون قد عرفنا المجتمع بمكوناته.
هذا هو واقع المجتمع، وهذه هي الأسس التي يقوم عليها المجتمع، أي مجتمع.ومقياس صلاحه وفساده، هبوطه وارتفاعه، نهوضه وكبوته، جموده وتحركه، وحدته أو تمزقه، فوحدته تتجلى بمقدار موافقة النظام للعرف العام، وبمقدار التزام الناس بما ورثوه من عرف عام، وعادات ، وتقاليد، وإيمان بها ووعيهم عليها . وصار من اليسير تحديد الأمراض التي أصابت مجتمعنا حتى أصبحت مزمنة، ومعرفة أعراض هذه الأمراض، وبالتالي معرفة العلاج الناجح، والبلسم الشافي لهذه الأمراض.
ولعدم وضوح هذه الصورة، وعدم معرفة مكونات المجتمع ومقوماته والأسس التي يقوم عليها. وبالرغم من إدراك الجميع وإجماعهم على أن المجتمع يعاني من أمراض خبيثة، وأخرى مزمنة، وأنه ما زال يهوي إلى الحضيض، ولم تستطع جهود العاملين فيه على إنهاضه، أو وقف انحداره على الأقل، ذلك لأنهم أخطئوا مواطن الداء، ولم يستطيعوا تشخيص الأمراض الموجودة فيه، ولا معرفة المسببات لهذه الأمراض، أي معرفة الجرثومة التي نخرت جسمه، وبالتالي، فإنهم أخذوا يحاولون معالجته بعلاجات خاطئة، قد تتناول في بعض الأحيان بعض الظواهر والأعراض الناشئة عن المرض، لا معالجة المرض نفسه. وقد حاولوا تركيز مقولة في أذهان الناس بجعلها هي المرض، ولا بد أن تصرف الأموال وتبذل الجهود في سبيل إزالتها، تلك المقولة هي أن مل نشكو منه، والعلة التي نعانيها هي الفقر والجهل والمرض. وتوجهت الأنظار نحو معالجة هذه الأمراض، بل الأصح هذه الأعراض فدعوا إلى زيادة الإنتاج، وتنمية الثروة، وإدخال التقنية في المجالات الاقتصادية، وأكبٌوا على دراسة علم الاقتصاد، وتنمية الثروة بالخطط الخمسية أو العشرية، بل وأغرقوا البلاد بالقروض، لإنشاء السدود وشق الترع والقنوات، وتعبيد الطرق وتوسيع الموانئ والمطارات وغير ذلك، مع بناء بعض المصانع الاستهلاكية، أو تجميع الآلات أو مصانع المنتجات البترولية مما يشاهد بالحس حيثما سرنا، وفي أي قطر عشنا. وما زال المجتمع ينحدر نحو الهاوية.
وقالوا لجهل ، فأعدوا له ما استطاعوا من قوة، وأعلنوا عليه الحرب، وأخذوا يطاردون فلوله في كل قرية، ابتداء من الحضانة فالروضة فالتمهيدي فالمراحل الدراسية حتى الجامعة والشهادات العالية، وانتهاء بملاحقته عند كبار السن ومن فاتهم القطار التعليمي، فخاضوا معه حرب محو الأمية. حتى انتهت الأمية في بعض أقطارنا أو كادت. وحتى بلغت نسبة الجامعين وحملة الشهادات كالماجستير والدكتوراه والأساتذة_ أي الشهادات العالية_ أعلى بكثير من كثير من الشعوب الناهضة والمتقدمة، وفاضت عن الحاجة وحتى اضطرت هذه الشهادات للهجرة والبحث عن موطن آخر. وماذا كانت النتيجة، هل توقف الانحدار؟ النتيجة هي هجرة الكثير من العقول والشهادات، وزيادة هائلة في الموظفين حتى غصت بهم الدوائر والإدارات، والآلاف المؤلفة من حملة مثل هذه الشهادات يريقون ماء وجوههم على أبواب الدوائر والإدارات يبحثون عن وظيفة، أو فرصة عمل تهيئ لهم عيشاً كريماً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اضطرار الدول القائمة لاستيعاب البعض، لا لإملاء شاغر، أو سد فراغ، فالدوائر متخمة بموظفيها، وإنما لمحاولة التمويه واستيعاب أكبر عدد ممكن من هؤلاء الناس. وهذا مما يؤدي إلى صرف الأموال وهدرها، وإرهاق ميزانية الدولة، بمصاريف لا طائل تحتها. هذه بعض النتائج التي لا تغيب عن عين أحد يريد أن يتفحص تلك النتيجة.
كما حصل في محاربة الفقر والجهل، حصل مثله في محاربة الأمراض فلم تبقى مدينة إلا وفيها العديد من المصحات والمستشفيات، ولم تبق قرية إلا وفيها عيادة أو مستوصف. حتى بات الآلاف من حملة شهادات الطب وعلى جميع المستويات، من طب عام أو طب شرعي، أو اختصاص في كل جهاز من أجهزة الجسم، بات هؤلاء جميعاً بلا عمل، بل ولا دكان صغير يباشر فيه مهنته، ويظهر فيه براعته، أو على الأقل يعود عليه بما يكفيه وأهله. وبات زملاؤهم أو لنقل أعوانهم من الصيادلة ينتظرون دورهم لسنوات حتى يؤذن لهم، أو يحصلون على إذن يخولهم أن يفتتحوا دكاناً يبيعون فيه بضاعتهم _ أي الأدوية_. فهل نهض المجتمع أو استطاع هؤلاء جميعاً وقف انحداره على الأقل.
كان هذا الاندفاع في هذا الطريق، وهذه هي النتائج التي وصلوا إليها، فلم نحصل على جديد، ولم نرتق فتقاً في مجتمعنا، وكانت تلك النتائج حتمية، وذلك للخطأ في فهم العلة الحقيقية التي سببت انحدار المجتمع عن المستوى اللائق به، ولم نزدد إلا سوءاً في كافة النتائج التي توصلوا إليها. فزيادة الثروة والتنمية الاقتصادية أدت إلى التباهي في الثراء الفاحش، وبناء العمارات الفارهة،واقتناء السيارات الفخمة، والبحث عن أحدث موديلات باريس، أو شيكاغو، والفقر المدقع والحسرة المؤلمة عند الآخرين.
ومحاربة الجهل: أدت إلى تكالب الناس على الحصول على الشهادات العالية، والتباهي بها، أو إراقة ماء الوجه على من بيدهم زمام الأمر للحصول على وظيفة يؤمن بها مستقبله، كما يقولون، وإرهاق ميزانية الدولة في استحداث وظائف لا جدوى منها. بالإضافة إلى هجرة الكثير من حملة الشهادات إلى البلدان التي يستطيعون فيها تأمين لقمة العيش لهم.ومحاربة المرض: أدت إلى توجه الطلبة للحصول على شهادة تخوله أن يصبح طبيباً أو صيدلياً يفتح دكاناً يبيع فيه بضاعته مما جعل في الأردن وحدها ما يزيد عن سبعمائة طبيب ينتظرون الدور في التعين ومثلهم أو ضعفهم صيادلة ينتظرون الإذن التجاري، و أضعافهم طلبة سيخرجون خلال السنوات المقبلة. ويقفون بذلة مرة، ويمسحون الجوخ أخرى، أو يلجأون إلى وساطة وجه أو مال يؤمن لهم وظيفة، والأخطر من ذلك كله هو عملية تضليل الشباب والناس عن إدراك حقيقة المرض الذي يعاني منه المجتمع، ومعرفة أسبابه، حيث إنهم استطاعوا أن يوجدوا حول مقولتهم الكاذبة رأياً عاماً طاغياً، أودى بأذهان الشباب والناس لتصديق تلك المقولة الكاذبة.
وهناك من أخطأ في فهم مكونات المجتمع ومقوماته، وتصرف في عملية إصلاح المجتمع وتقويمه بناء على سوء فهمه لمكونات المجتمع ومقوماته. فقد ظن هؤلاء_ أو قيل لهم_ إن المجتمع مكون من أفراد، فهو مجموعة أفراد،صلاحه بصلاح الفرد، وفساده بفساد الفرد. فاندفعوا في هذا الطريق محاولين إصلاح الفرد كي يصلح بذلك المجتمع، وقد فاتهم في ذلك أمران.
الأول:_إن المجتمع ليس مجموعة أفراد، وليس مجموعة من الناس فحسب، بل هو كما ذكرنا سابقاً مجموعة من الناس بينهم علاقات دائمة تقوم على عرف عام، ويرعاها نظام. وفساد الجماعة وصلاحها موقوف على صلاح العرف العام والنظام وفسادها كذلك. وقد سبق ووضحنا ذلك.
الثاني:_معرفة مقومات الفرد، ومقارنتها بمقومات المجتمع ليتضح الفرق، وتظهر الطريق. فإنه حين نقول مقومات الفرد وصلاحه، إنما يعني ذلك كل ما يتعلق بشخصه وقضاء حاجاته الشخصية. والفرد واقع ملموس، نستطيع أن نتبين حقيقته، ونعرف مقوماته، ثم نعقد المقارنة بينها وبين مقومات المجتمع، فالفرد إنسان تسيره أفكاره ومفاهيمه عن الحياة، فالأصل فيه إذن تلك القاعدة الفكرية التي تنبثق عنها مفاهيمه، وتبني عليها أفكاره، وأعني بذلك العقيدة، فالمقومة الأولى للفرد عقيدته، ولهذا الفرد عقيدة لربه، علاقة العبد بمولاه، فلا بد له من صفات حميدة يتصف بها في حياته، وأعني بها أخلاقه، وهذه هي المقومة الثالثة. ولهذا الفرد كذلك علاقة مع غيره للحصول على حاجته، أو إشباع جوعته، أو إرضاء رغبته، فلا بد له من قيد يقيد تعامله مع غيره، وأعني بها معاملته وهي المقومة الرابعة، ومن هنا نقول: إن مقومات الفرد هي العقيدة والعبادة، والأخلاق والمعاملة. وأما مقومات المجتمع فهي_كما سبق وبينا_ الأمور التي جعلت الجماعة مجتمعاً، وبنت منهم كياناً متميزاً. فالعلاقات الدائمة بينهم، والعرف العام. المسير لهذه العلاقات، والحافظ لوحدتهم، هي مقومات المجتمع. وصلاح الفرد وفساده موقوف على مقوماته وهي العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، وصلاح المجتمع موقوف على مقوماته، أي موقوف على مفاهيمه وأفكاره وما ينشأ عن هذه الأفكار والمفاهيم من مشاعر الغضب والرضا وما ارتضى هذا المجتمع من نظام لرعاية شؤونه وحفظ وحدته، وباختصار، فإن مقومات المجتمع هي الأفكار والمشاعر والنظام المنبثق عن هذه الأفكار. فهل هناك من شبه بين مقومات الفرد ومقومات المجتمع؟
ومن هنا كانت الجهود التي تبذل في التوصل لإصلاح المجتمع عن طريق إصلاح الفرد جهوداً ضائعة، ولن تؤدي مطلقاً لأكثر من زيادة عدد الملتزمين بذلك المنهج، والسائرين عليه، ولا يقال إنها طريق طويلة. لا يقال ذلك، بل يقال: إنها طريق لن توصل مطلقاً إلى إصلاح المجتمع وتقويمه، لأنها ليست الطريق لذلك، طالت أم قصرت. فلا دخل لها في مقومات المجتمع ولا إلى ما يبنى عليه المجتمع ولا الذي جعل مجموعة من الناس جماعة.
فمثلاً: إن قمة ما يمكن أن نصل بالفرد من الصلاح هو التزامه بالواجبات الشخصية عليه وما هو فوق الواجبات الشخصية من السنن والنوافل والمستحبات وأن يبتعد عن المحرمات، وعما هو أقل من المحرمات كالمكروهات، منبثقة هذه عن عقيدة صافية وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عن عقل وإدراك وبينة. هذا من حيث العقيدة وأما من حيث العبادة فهو يصلي الصلاة المكتوبة في المسجد جماعة في أول وقتها، ويتبعها أو يسبقها بالسنة الراتبة، كما لا يفوته قيام الليل والتهجد، ثم هو يصوم رمضان ويتبعه بست من شوال ويوالي في العام صوم داود عليه السلام، ولا يمكن أن تفوته تلك الأيام البيض من كل شهر وينفق من ماله حتى لا يبقى فيه ما يوجب عليه الزكاة، ثم هو يحج ويعتمر كل عام، ثم هو من حفظة القرآن المجيد، المجيدين لتلاوته، المداومين عليها. بالإضافة إلى صلة رحمه، والسلام على من عرف ومن لم يعرف، تراه هاشاً باشاً، دمث الأخلاق، وفياً بالعهد، أميناً، صادقاً، قوي الجسم، وهو أبعد الناس عن المحرمات، ولا يلتفت إلى الخبائث، ولا يأكل البصل والثوم يوم الجمعة، أو حين ارتياد المساجد والمجالس. ولا يقدم على قضاء مصلحة أو إشباع جوعة حتى يسأل عن الحكم الشرعي فيها،فمقياسه الحلال والحرام فهل هناك صلاح أكثر من ذلك مما يتعلق بشؤونه.
فلو افترضنا الكثرة الكاثرة من الأمة والناس بلغ بهم الحال إلى هذا الحد من التقوى والصلاح. فهل يصح أن يقال إن المجتمع أصبح صالحاً. مع بقاء نظمه وقوانينه على ما هي عليه؟ إنني أقول: لو بلغ الحال بالناس إلى هذا الحد فإن الإسلام لا يعتبر موجوداً في واقع الحياة، ويبقى أربعة أخماسه وزيادة معطلاً، وهي ما يتعلق بشؤون الجماعة، ورعاية الأفراد، وتنفيذ الفكرة،
وأمن المجتمع وحمايته وحمل الدعوة للعالم لأنها هي مقومات المجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق