الثلاثاء، 1 فبراير 2011

الديمقراطية والإسلام.. توأمان أم ضدان



بسم الله الرحمن الرحيم


نتناول في هذا البحث علاقة الشورى بالديمقراطية؟ وهل هناك حقاً ثمة تطابق بينهما، تجعل الديمقراطية جزءا من الإسلام أو العكس؟

إنّ واقع الديموقراطية هو حكم الشعب الذي يقابل حكم الله حتماً، وليس حكم الفرد كما يتصور البعض، إذ أنّ مصطلح الحكم يأخذ وجهين، الأول هو التشريع، وهو الذي يمنح من خلاله الناس حق الاستفتاء والتصويت على القوانين مباشرةً أو بإنابتهم عنهم من يقوم لهم بالتشريع لهم، والثاني هو التنفيذ وهو ما لا يتصور حصوله من قبل شعبٍ من الشعوب أصلاً، إذ أنّ الذي ينفذ الأحكام ويفصل بين الناس هو جهات مختصة، كالوزراء والقضاة وأجهزة الدولة المختلفة، وهذه الجهات تتأهل لذلك من خلال دراساتٍ أكاديمية ومعرفية وخبرات فنية، وبهذا كان حكم الشعب في الفلسفة الديموقراطية هو مقابل حكم الله، هذا هو واقعها وهذا هو ما يؤكده السياق التاريخي والإجرائي لها حتى يومنا هذا.

واستناداً إلى ما سبق نجد أنّ الديمقراطية تتناقض مع جوهر الإسلام الذي يحصر التشريع بالله تعالى حيث يقول "إن الحُكمُ إلا لله" وبذلك لا يكون هناك داعي للاستطراد في بحث بقية الفروع، لأن تباين جذري العقيدتين، الديمقراطية والإسلام، وتضادهما يغنيان عن بحث التفاصيل.

إلا أن إصرار البعض على دمقرطة الإسلام وإقحامها فيه، يضطرنا للتعرض لبعض أهم تلك الاعتراضات، بغية إزالة كل لبس يشوب حقيقة المسألة.

وعليه، فقد التبس ارتباط الديمقراطية بالإسلام لدى البعض، من خلال وجود مفهوم الشورى، والذي يعتبر واحداً من الأحكام الشرعية التي تضبط علاقة الحاكم بالأمة. وبما أن الحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، كان لزاماً توضيح واقع الشورى من الجانب الذي يشير إلى شبهة ذلك الارتباط، من غير الغرق في تفاصيل كثيرة ليست ذات صلة وثيقة بالبحث.

فالشورى هي أخذ الرأي، وتكون ملزمة في حالات، وهو ما يهمنا هنا، لأن الديمقراطية تتحدث عن فكرة إخضاع الحاكم لرأي الأمة. ومن خلال قراءة متفق عليها بين كل من اطلع على الفكر الإسلامي يجد أنه لا شورى في الأحكام الشرعية الأربعة، أي في الواجب والمندوب والمكروه والحرام، ولذلك يبقى أخذ الرأي محصوراً في الدائرة الخامسة وهي المباح.

كما يؤخذ الرأي من الجهة المتعلق بها، كأصحاب الاختصاص والخبرات فيما هو مرتبط بالأمور العلمية والتقنية والفنية وفي الإدارة والتصميم، وهذا ما فعله النبي الكريم في معركة بدر حيث نزل عند رأي الحباب بن المنذر في ترتيب وضع تمركز الجيش، وعند رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وهما رجلان فقط، لكنهما من أهل الاختصاص، وقد اكتفى برأييهما دون إجراء مباحثات ومناقشات واسعة في ذلك مع جمهور الصحابة. كما يكون رأي عامة الناس في بعض القضايا المتعلقة بشأنهم كجماعة ملزما، كحال نزول النبي الكريم عن رأيه الذي يرجحه هو في غزوة أحد، إبان مشاورته لأهل المدينة بقتال قريش خارج المدينة أو داخلها. كما ترك الإسلام للحاكم تبني ما يراه مناسباً في قضايا كثيرة وألزم الأمة بطاعته، حتى تشكلت القاعدة الدستورية "رأي الإمام يرفع الخلاف" و "رأي الإمام نافذ" استناداً للنصوص الكثيرة المتضافرة، والتي عطفت طاعة ولي أمر المسلمين الشرعي، في طاعة الله، على طاعة الله ورسوله، كما في قوله تعالى " (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )".

ومن التجني اختصار الديمقراطية بالشورى أو العكس. فالديمقراطية هي وجهة نظر متكاملة في الحياة، وهي فكرةٌ أساسية عن الحياة، لا تترك شيئا من أمورها إلا وتمنح الإنسان حق إبداء رأيه فيه والتعليق عليه ونقده، فلا قداسة لشيء البتة سوى رغبات الشعب، وتلزم الأكثرية (ولو شكلياً) الحاكم، سواء من خلال استفتاء عام أو بأغلبية برلمانية (نسبية) في كافة القضايا. فيما تعتبر الشورى حكماً شرعياً فرعياً، لا يحلل ولا يحرم ولا دور لها البتتة خارج دائرة الإباحة، التي تحكمها تفاصيل سبق وتطرقنا لبعضٍ منها أعلاه.

وخلاصة القول هي: إن الإسلام يخضع الإنسان لقاعدة "الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع" وأن بغض الإنسان أو حبه لأمر ما لا يعنيان الشيء الكثير، حيث يقول الله تعالى (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وأن إجماع الغالبية العظمى من الناس على أمرٍ ليس مبرراً لقبوله حيث يقول الله تعالى (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ).

أما بالنسبة لحق انتخاب الأمة لحاكم عام لها، ولممثلين ينوبون عنها يتولون شئون محاسبة الحاكم ونصحه وتقويمه وتسديد أداء الدولة وأجهزتها، إنمّا هو حكم شرعيٌ استمد من الشريعة نفسها وليس من رغبات الناس، يقول النبي الكريم (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه) ويقول ( لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم)، فقد أناط الشرع سلطة انتخاب الحاكم بالناس أي بالأمة. كما بين شرعية جواز النيابة وتمثيل الآخرين حيث طلب ذلك النبي الكريم صراحة من وفد المدينة، عندما سألهم أن يخرجوا له منهم اثني عشر نقيبا يكونون كفلاء له على قومهم. وأما المحاسبة والتقويم فتدخل ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمن التعاون على البر والتقوى ... وهي عبارة عن أحكام شرعية منضبطة بأدلتها المستقاة من الكتاب والسنة ومحددة بكيفيات وترتيبات معينة.

كما أن النصح والتسديد والتقويم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي أحكامٌ شرعية منفصلة عن حكم الشورى، وهدفها ضمان أمثل تنفيذ للإسلام وإحسان رعاية شؤون الأمة به، وليس النزول عند رغبة الأكثرية! يقول النبي الكريم "مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاًَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".

فمهمة الحاكم المبايع من قبل الأمة وكذلك الممثلين لها هو إبقاء كيان الدولة مسيساً بالشريعة منفذاً لها على اعتبارها تعلو ولا يعلى عليها وهي السيد في المجتمع، وأنّ أية رعاية لشؤون الناس ومصالحهم ينبغي ضبطها بما يرشد إليه الإسلام نفسه، ولذلك كانت بيعة الأمة لحاكمها مشروطة بالحكم بكتاب الله وسنة نبيه. أولا ينسف هذا مفهوم السيادة للأمة، أوليس هذا بالنقيض مما هو عليه النظام الديموقراطي!؟

ولا ينبغي أن ينصرف ذهن القارئ إلى أن هذا يعني ترسيخاً للاستبداد وتكريساً للدكتاتوية في المجتمع الإسلامي، إذ أن الإسلام قد جعل الشرع السيادة للشرع لا للحاكم، وأوجب على الناس الاحتكام إليه، وهو فوق الحاكم والمحكوم وبينهما، وينبغي خضوعهما له سويةً، وكان الحاكم نائباً ووكيلاً عن الأمة في تنفيذ الشرع وليس سيدا وصيّا على المجتمع أو على الأمة، وكانت صلاحياته منضبطة بمدى ارتباطه بعقد البيعة الشرعي، وعلى هذا الأساس يفهم قول الخليفة أبو بكر الصديق (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أطعت فأعينوني، وإن عصيت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم). وكذلك تنص القاعدة الإسلامية المعروفة على أنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الله).

مما يلفت النظر إلى أن موضوع الحاكم الفرد المستبد لا مكان له في المجتمع الإسلامي من حيث نظام الحكم في الإسلام، اللهم إلا إذا حصل انحراف عن منهج الله، وعندها ينبغي تقويم الخلل بمعالجته وتصويبه، كما هو شأن أي نظام يقع فيه مثل ذلك. ومن هنا جاءت الأحكام الشرعية التي تتناول معالجة كفر الحاكم أو خروجه عن الشريعة ومتى يخلع من منصبه أو ينخلع، ومتى يعزل من منصبه أو يخرج عليه لعدم استمرار شروط صحة ولايته.

ولذلك ينبغي اتخاذ الآليات المناسبة وتبني الأساليب والوسائل السليمة التي تحفظ العدل في الأمة، وتمنع الجور من الاستمرار، وتضمن استقرار الإسلام كسيد في المجتمع، وهذا مما يلزم الإبداع فيه، لأن انحراف الحاكم قد يجرف الأمة إلى الهاوية، إن استهانت بحقوقها واستهترت بواجباتها، ولم تتدارك التقصير من جانب الحاكم في رعاية شؤونها بحسب الإسلام، وعليه كان لا بد من الاستفادة من كل المعطيات الحديثة من وسائل وأساليب وتقنيات تضمن الأداء الحسن للحاكم والمحكوم، فيما ينطبق عليه قاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ولا يعني هذا إلغاء النظام الإسلامي واستبداله بنظام آخر بحجة الاستفادة مما توصلت إليه البشرية، فنظام الحكم في الإسلام عبارة عن أحكام شرعية ينبغي الانضباط بها وتجسيدها كما جاءت، والمطلوب هو اتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى ذلك لا إلى نقيضه. كما أنه ينبغي إدراك أن أي نظام سياسي في الدنيا معرضٌ طالما أن منفذيه هم من البشر للتعرض لهزات أو لخللٍ ما، سواء لهشاشة محتواه أو لسوء تنفيذه أو لكليهما، بما في ذلك النظام الديمقراطي نفسه، وما أكثر وقوع ذلك فيه. وتكون معالجة ذلك برد الأمور لنصابها والاستفادة من الثغرات التي تقع لإيجاد ما يقلل من تعرض النظام السياسي لمثلها.

وبذلك يتضح أن نظام الحكم في الإسلام هو تلاحم بين الحاكم والمحكوم لضمان إحسان تطبيق شرع الله ومنهجه. وكون أن الإسلام أجاز انتخاب الحاكم من قبل الأمة مباشرة أو من يمثلها من أهل الحل والعقد، كما هو حاصلٌ في النظام الديمقراطي الرأسمالي أو النظام الاشتراكي الشيوعي أو حتى في نظام دولة الفاتيكان حيث يجتمع الكرادلة من أنحاء مختلف العالم لاختيار البابا، فإن ذلك لا يلغي كل تلك الفوارق الشاسعة بين تلك المبادئ والإسلام، ولا يعقل دمجهم سوية بحال لتشابههم في جزئية، فيصبح أحدهما جوهر الآخر رغماً عن أنفه. كما لا يمكن جعل المبدأ كله يأخذ بحالٍ حكم واحدٍ من أحكامه الفرعية، إذ أن في ذلك تعسفاً في الفكر، وإخراجاً للأشياء عن حقيقة ما هي عليه.

ومن هنا يظهر مدى التباين بين الديمقراطية والشورى من حيث أصل ما بنيتا عليه أو من حيث دلالاتهما ومعنى الالتزام بهما.

بقلم: م. حسن الحسن

ليست هناك تعليقات: