الأربعاء، 23 يونيو 2010

مشكلة البيئة من إفرازات الرأسمالية الجشعة أسبابها وكيفية معالجتها في نظر الإسلام



بسم الله الرحمن الرحيم

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41].

الواقع والمشكلة

إن البيئة أو البيئة الطبيعية بمفهومها الواسع مصطلح يشمل جميع الكائنات الحية والأشياء غير الحية التي توجد أو تحدث بشكل طبيعي على الأرض أو على جزء منها. ولقد شهدنا ولمدة طويلة كوارث بيئية متتالية، فالدول والشركات الغربية أتلفت مباشرة أو بطريق غير مباشر الغابات والأنهار وقضت على الكثير من الحيوانات حتى أصبح بعضها مهدداً بالانقراض، الأمر الذي دعا منظمات حماية الحيوان إلى جمع التواقيع المستنكرة لهذه الأعمال. وفي هذه الأيام يتم إرسال ملايين من أطنان النفايات من الدول الغربية الصناعية إلى ما يسمى دول العالم الثالث وقد أصبحت هذه الأعمال تجارة ضخمة رابحة. وكان من نتيجة ذلك تلوث الأراضي والأنهار في تلك البلدان لأن جزءاً كبيراً من هذه النفايات هو نفايات سامة من مثل البطاريات، والرصاص الثقيل وهي ذات تأثير مباشر على الجهاز العصبي للإنسان. وقد أدى ذلك إلى وفاة كثير من العمال وإلحاق الضرر بآلاف آخرين.

لكن نقاش موضوع البيئة والمناخ الذي دار بين الإعلاميين والسياسيين الغربيين أدى إلى إيجاد سوء فهم هيأ لإهمال قضايا حقيقية متعلقة بالبيئة بأكملها، فالبعد الواسع الذي أخذه النقاش حول المناخ قد صرف الأنظار عن التركيز على بقية المشاكل البيئية التي يواجهها العالم الآن! ولذلك فإن النقاش لا ينبغي أن يقتصر على التغيير المناخي والحد من انبعاث أوكسيد الكربون، بل يجب أن يركز على السلوك المتهور، الذي تقوم به الدول والشركات الغربية إلى جانب النقاش حول البيئة، بما في ذلك تغير المناخ، وكيفية تأثيره على البشر. فالحد من انبعاث أوكسيد الكربون وحده، في الوقت الذي يلوث فيه العالم بكل وسيلة، لن يزيل الكوارث البيئية التي كان للعالم الثالث النصيب الأكبر منها. ولذا فإن المجادلات والمناظرات العلمية الجارية حول تأثير سلوك الإنسان البيسط في تسغيير المناخ هي في واقع الأمر نقاشات مضللة. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة الأمور العلمية التجريبية، غير أنه ينبغي لفت النظر إلى أن الجامعات والمؤسسات العلمية في الغرب تعتمد في تمويل كثير من أبحاثها على المساهمات المقدمة من الشركات، الأمر الذي يجعل طبيعة هذه الأبحاث والنتائج التي تصل إليها محل شك ونظر، خصوصاً إذا تعلق الأمر بمصالح الشركات الكبرى.

إن ما يجب أن يناقش هو: كيف يمكن تجنب المخاطر البيئية كلها؟ وما هو سبب الكوارث البيئية التي شهدها العالم؟ ومن الذي يتحمل المسؤولية عن ذلك؟ وهل السعي لتحقيق التقدم الاقتصادي لابد أن يكون على حساب البيئة؟
الحل الرأسمالي للقضية
من اتفاقية كيوتر إلى مؤتمر كوبنهاغن 15 (Cap and trade system Kyoto to COP15).

الجزء الأول
جعل القضية قضية عرض وطلب.
إن نظام الحصص المتعلق بثاني اوكسيد الكربون (كاب أند تريد سيستم Cap and trade system) هو جزء لا يتجزأ من بروتوكول كيوتو واتفاقية الاتحاد الأوروبي (EU-ETS)، وسيكون أيضاً جزءاً من الاتفاقية الجديدة التي سيخلص إليها مؤتمر القمة في كوبنهاغن (COP15). إذا ما توصل المجتمعون إلى اتفاق.

وحسب هذا النظام فإن الدول المشتركة هي التي تخبر عن كمية ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من صناعاتها، وتلتزم هذه الدول بتخفيض الكمية المخبر عنها بنسبة لم يتفق عليها حتى الآن هل هي عشرون بالمئة أو أكثر. وطريقة ذلك أن الشركات الموجودة في هذه الدول تكون لها نسبة محددة من الكمية المعطاة للدولة وعلى هذه الشركات تحفيض نسبة الانبعاثات على مر الزمن وبذلك تنخفض الانباثات إلى الحد الذي ألزمت به الدولة نفسها. ويحق للشركات التابعة للدول الموقعة أن تستخدم كل الكمية المخصصة لها من الانبعاثات أو تكتفي بكمية أقل من ذلك، ولهذه الشركات الحق في بيع ما يفيض عن الكمية المحددة لها في السوق العالمية لشركات أخرى تود أن تزيد من كمية ثاني أوكسيد الكربون المنبعث نتيجة لزيادة صناعتها. وبذلك أصبح ثاني أوكسيد الكربون سلعة تحدد أسعارها حسب قاعدة العرض والطلب. يقول نيكولاس ستيرن (كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي) معلقاً على (Cap and trade system) "إنه أعظم فشل للسوق شهده العالم". ففي هذه الاتفاقيات المتعلقة بالمناخ قد تُرِك لنظام السوق أن يقرر حل مشكلة المناخ كما برز جلياً من خلال كيوتو وEU-ETS حيث يوجد حق الملكية للتلويث.

لقد كفل نظام الحصص المخصصة لثاني أوكسيد الكربون حق الملكية في التلويث وجعلها تتركز بأيدي الشركات الغربية الأكثر قوة والأكبر ثروة. وبهذا فقد نظم النظام الرأسمالي حقوق التلويث بنفس الطريقة التي نظم بها حقوق استخراج النفط، وحقوق التعدين وغيرها من ثروات الأرض مما أدى إلى تراكمها في أيدي أولئك الذين لديهم السلطة والثروة، وبناء على هذا التنظيم يؤدي نظام حق التلويث إلى الاحتكار، وهو لا يخدم إلا الشركات الغربية الكبرى صاحبة اليد الطولى في الإضرار بالبيئة.

وبالنتيجة فإن الحلول الغربية والاتفاقيات المطروحة لحل مشكلة المناخ ما هي إلا ضمان بأن لا يكون المناخ واليبئة عائقين أمام الشركات الغربية في زيادة التلويث إذا ما كان ذلك ضرورياً للنمو الاقتصادي وتحقيق الربح، وهذه الحلول المستندة إلى سياسة السوق تجعل البيئة فريسة لجشع أولئك الذين سببوا هذه الأزمات البيئية.
الرأسمالية هي التي تسبب أزمات بيئية. إن مشكلة البيئة ليست الفشل الوحيد للنظام الرأسمالي الذي يسبب أزمة تليها أخرى، وليس آخرها ما شهدناه في الأعوام القليلة الماضية من أزمات غذائية، ومالية واقتصادية عالمية جعلت مئات الملايين من البشر في فقر مدقع في حين أتاحت لقلة قليلة من الناس أن تملك ما لا يمكن للعقل البشري أن يتخيله.

ويكمن السبب في عجز الرأسمالية عن تقديم الحلول الصحيحة للمشاكل التي يواجهها البشر في عقيدتها القائمة على فكرة الحل الوسط التي تجعل عقل الإنسان العاجز مشرعاً. ففكرة فصل الدين عن الحياة تركت الناس تحت سيطرة المشرعين الرأسماليين الذين يرون أن الغاية من الحياة هي الحصول على أكبر قدر ممكن من المتع المادية وأن المقياس لأي عمل هو المنفعة دون أخذ أي شيء آخر بعين الاعتبار. كما يكمن في نظرتها إلى المشكلة الاقتصادية بأنها قلة الموارد مقابل الاستهلاك المتجدد والتعدد (الندرة النسبية) مما جعلها تصرف الهم كله إلى الإنتاج على حساب التوزيع وعلى حساب سد الحاجات الأساسية لأفراد الناس من مسكن ومأكل وملبس، فصرنا نرى مثلاً في معقل النظام الرأسمالي، الولايات المتحدة، زيادة في حجم الإنتاج عام 2003م بينما ارتفع عدد الفقراء هناك بزيادة 1.3 مليون شخص عما كان عليه من قبل.

ثم إنه لا أخلاق في الأعمال الاقتصادية في النظام الرأسمالي، فهو اقتصاد يبحث فقط عن القيم المادية، ويرى في تعاظم ثروة الفرد مفتاح النجاح بغض النظر عن العواقب التي تترتب على ذلك فيما يتعلق بالمجتمع والطبيعة، وهذا ما عبر عنه أبو النظام الرأسمالي آدم سميث حين قال بأن الجشع هو الأخلاق للفرد وهذا الجشع هو الذي يسير الاقتصاد.

إن النتائج المترتبة على مثل هذه الفلسفة مدمرة للبشرية والبيئة وقد شهدنا تدمير الأنهار والغابات والأراضي الزراعية وتلويثها بسبب تصرفات الشركات الغربية في جميع أنحاء العالم.

فقد قامت هذه الشركات بإزالة الغابات الكبرى في العالم، سواء كان ذلك في إندونيسيا أم أميركا الجنوبية، لتصبح هذه الغابات -التي تسهم مباشرة في خفض كمية ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي- قريباً أثراً بعد عين، والمضحك أن هذه الشركات هي نفسها التي تتحدث عن حماية البيئة والمناخ.

وشاهد الناس في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا وحتى أوروبا الأرض التي اعتادوا العيش عليها قد تم تلويثها، حتى إن أطفالهم أصبحوا يولدون مشوهين خَلقياً، وصار الناس بفعل النفايات السامة التي تُرمى في البحار والأنهار والبحيرات يصابون بأمراض غريبة. وفي الوقت الذي يُتحدث فيه عن الحد من ثاني أوكسيد الكربون لإنقاذ المناخ، ترسل النفايات السامة إلى بلدان العالم الثالث حيث تلوث هذه النفايات الأرض وتقتل الناس وتتلف الأراضي الزراعية وتقضي على الأسماك. فنهر النيل مثلاً قد تلوث إلى درجة أن الناس الذين يشربون منه يعانون من مشاكل صحية كبيرة، فقد صرح طارق سمير أحد العاملين في مصلحة إدارة المياه التابعة للمركز الوطني للبحوث قائلاً: «هناك مناطق من نهر النيل وفروعه ملوثة بسبب مياه الصرف الصناعية غير المعالجة والتي تصب مباشرة في النهر» وأضاف: «إن المركبات العضوية المذابة، والتي تنتج عن التصنيع والزراعة ومياه الصرف الصحي التي تصب في نهر النيل، تبقى حتى بعد علاج الماء بالكلور في محطات معالجة المياه الصالحة للشرب».

إن حماية البيئة ذات تكاليف كبيرة، وعندما يكون الربح هو الهدف الوحيد فإن أي شركة ستسعى لخفض التكاليف لديها، وهذا يعني أنه وفق المنطق الرأسمالي فهناك تناسب عكسي بين حماية البيئة وزيادة حجم الأرباح كما هو الحال بين حماية كرامة الإنسان وزيادة حجم الأرباح. وإذا كان تطبيق الرأسمالية هو الذي أدى إلى هذا الدمار المشاهد الذي يعاني منه الإنسان والبيئة، فللعاقل أن يتساءل عن الدافع الذي يمكن أن يجعل الرأسماليين يهتمون بحياة البشر المستقبلية وبالحفاظ على البيئة وحمايتها!

وجهة النظر الإسلامية

وجهة النظر الإسلامية في الحياة تقوم على الاقتناع المطلق بأن الإنسان والحياة والكون لها خالق خلقها هو الله سبحانه وتعالى، وأن الإسلام هو الرسالة التي أنزلها الخالق القدير إلى البشرية ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. والإنسان إذا ما اقتنع قناعة عقلية جازمة بهذه العقيدة واطمأن بها قلبه، فإنه يجعلها الأساس لأفكاره والمقياس لأعماله كلها. لذا، يعتقد المسلم أن الله الخالق سبحانه وتعالى أنزل الرسالة الخاتمة التي تقرر ما هو الخير وما هو الشر وما هو الحق وما هو الباطل، وهو يرجع في كل شؤون حياته وحل مشاكله إلى العقيدة الإسلامية التي ينبثق عنها نظام شامل للحياة ينظم جميع احتياجات الإنسان بغض النظر عن الزمان والمكان ودون تأثر بالبيئة أو الظروف أو المصالح الفردية.

ثم إن العقيدة الإسلامية تعالج مشاكل الإنسان آخذة بعين الاعتبار جميع القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية والمادية مراعية إياها على نحو منتناسق محقق جميع القيم، فلا تقدم القيمة المادية على باقي القيم أو تتجاهل إحداها على حساب الأخرى، بل يتم التنسيق بينها جميعها. والحكم على المجتمعات يكون على أساس التناسق بين هذه القيم الأربع وليس فقط على أساس التقدم المادي حيث المقياس هو الناتج المحلي الإجمالي أو غيره من المؤشرات الاقتصادية. إن التقدم المادي والنمو الذي يكون على حساب بقية شعوب العالم أو الطبيعة، لا يمكن أبداً أن يكون المقياس الصحيح للمجتمع الصالح.

غير أن التوازن بين هذه القيم الأربع لن يحدث أبداً إذا ترك التشريع للإنسان استناداً إلى حقيقة أن الإنسان غير قادر على التجرد من مصالحه الخاصة ورغباته حين وضعه للتشريع، ففهم الإنسان للتنظيم عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها مما ينتج النظام المتناقض المؤدي إلى شقاء الإنسان. وحال العالم اليوم بما يطغى فيه من الفساد والظلم والضرر بالإنسان والطبيعة خير دليل على عجز الإنسان عن تشريع نظام صالح يبين ما هو الخير وما هو الشر.

والإسلام لا يمنع الناس من الاستمتاع بنعم الله ولا يمنع العمل والكسب والغنى، بل يجعل العمل لازماً لتقدم حياة الإنسان ولقيامه بواجباته، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف 32]. لكن الذي لا يرتضيه هو تخمة البعض بينما يوجد من لا يشبع حاجاته الأساسية، ولذا فإن الإسلام يرى أن المشكلة الاقتصادية هي توزيع الثروة لا الندرة النسبية، فلا يجعل همه منصرفاً إلى زيادة الإنتاج، بل إلى مكافحة فقر الأفراد، وهو يضمن التوازن بين رعاية الجماعة والفرد فلا يلغي احتياجات الأفراد لصالح الجماعة ولا يقدم احتياجات الفرد على حساب الجماعة. والإسلام لا يقبل الظروف غير الإنسانية التي تعيشها الغالبية العظمى من سكان الأرض تحت حكم النظام الرأسمالي بسبب قلة قليلة تطارد الثروات دون شبع. إن الإسلام بنظرته هذه يوجد الفرد الذي يستشعر رقابة الله تعالى في كل أموره ويلتزم أوامر الله ويجتنب نواهيه طواعية حتى لو ترتب على ذلك خسائر مادية، ويكون بعيداً كل البعد عن الجشع والاستهلاك المفرط، ويحكم النشاط الاقتصادي بأحكام شرعية، وقيم أخلاقية وروحية تحول بينه وبين تحوله إلى نشاط اقتصادي مادي صرف لا يعمل حساباً لغير الربح. وهو بذلك يقضي على جذور السلوك الإنساني المفضي إلى خلل في التوازن البيئي. إن الإسلام يقوم على توجه واحد هو (ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ما يجب أن تكون عليه الحياة، ما يجب أن يكون عليه الناس) وهذا لا يحدده تماماً ولا يعرف طريقه إلا خالق الإنسان ومشرعه.

نظرة الإسلام للبيئة

إن الإسلام لم ينظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة على أنها علاقة صراع وتضاد، بل جعلها علاقة تكامل، لأن الكون والحياة هي من خلق الله تعالى مثل الإنسان، وقد سخر الله سبحانه الكون لصالح الإنسان، وأناط بالإنسان عمارة الأرض، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) [إبراهيم 32-33] وقال: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة 30]. وعمارة الأرض تقتضي الحفاظ عليها وعدم الإفساد فيها لا مادياً ولا معنوياً، قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف 56]. وقد جعل الإسلام الإفساد في الأرض جريمة منكرة، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة 204-205]. كما بين الإسلام أن في الكون وفي الأرض توازناً وتقديراً دقيقاً مقصوداً، قال تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) [الحجر 19]. وقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر 49]. إن هذه النصوص القرآنية وأمثالها تكفي وحدها لبيان نظرة الإسلام إلى الطبيعة والبيئة، وتدل على ضرورة الحفاظ على البيئة وحرمة الإخلال بتوازنها، وتجعل المسلم يحرص كل الحرص على عمارة الأرض وحسن القيام عليها وعلى مصالحه فيها. غير أنه وردت نصوص شرعية كثيرة في القرآن والسنة تتعلق بتفاصيل الحفاظ على البيئة، وهي تدل على أن الإسلام لم يكتفِ بالخطوط العريضة في ذلك بل تعداها إلى التفاصيل بحيث يحول بين الناس وإفساد البيئة وتلويثها، ولا يترك تقدير تعامل المسلم مع الطبيعة لأهوائه الفردية يتصرف حسب مصالحه دون مراعاة لها ولحياة الناس فيها، ونحن نذكر طرفاً من الأحاديث النبوية كأمثلة على غيرها.

- ففي التعامل مع الماء:
ما جاء من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» (البخاري ومسلم).
وما رواه معاذ بن جبل (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ» (أبو داود وابن ماجه).
وما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟ فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» (ابن ماجه).

- وفي أمر الزرع والنبات:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (البخاري).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» (أبو داود وأحمد).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ» (أحمد). وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي أصحابه حينما يبعثهم للجاهد فيقول: «انطلقوا باسم الله، وفيه: ولا تعقرن شجرة إلا شجرة يمنعكم قتالاً، أو يحجز بينكم وبين المشركين» البيهقي.

- وفي أمر الحيوان والطير:
ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلاَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (البخاري).
وما جاء عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» (البخاري). وما جاء عن أنس قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ» (مسلم)، ومعنى تُصْبر: تُوثَقُ ثُمَّ تُقْتَلُ رَمْياً وضَرْباً. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا».

فهذا غيض من فيض النصوص الشرعية المتعلقة بالبيئة وهي تظهر في مشهد فريد مدى اهتمام الإسلام بالطبيعة وتري أن الله خلق الطبيعة وسخرها للإنسان وجعله حارساً لها يستمتع بها لا مدمراً لها.

المصدر: مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: