الجمعة، 11 ديسمبر 2009

عواقب الظلم



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:

الظلم في لغة هو وضع الشيء في غير موضعه. قالت العرب (من استرعى الذئب فقد ظلم) لأنه وضع الشيء في غير موضعه. والظلم هو مجاوزة الحد أي الجور.

يقول عز وجل:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة229، فالحد الذي وضعه الله تعالى في العقوبات لا يجوز مخالفته، وتجاوز ذلك ظلم. والظلم هو الميل عن القصد.

يقول عز وجل:{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}الأنعام153،فالذي يحصل له العلم بأن صراط الله هو السبيل ثم يميل عنه يكون ظالما. والله اعتبر أن الشرك به من الظلم العظيم، فقال عز وجل:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان 13.


يقول الفخر الرازي في هذه الآية: "أما أنه ظلم فهو أنه وضع العبادة في غير موضعها، وهي غير وجهة الله وسبيله."
إن الله عز وجل حرم على نفسه الظلم. ففي الحديث القدسي فيما يروي الرسول عن ربه:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" (رواه مسلم)...
نعم حرم الله الظلم عن نفسه ونفاه سبحانه بقوله:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف 49. ثم إن الله نفى خوف العباد من أن يظلمهم جل وعلا، فقال:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً } طه 112...

ولذلك نجد أن الله نفى أن يعذب أقواما لم يرسل إليهم رسلا يبينون لهم ما يأخذون وما يتركون، فقال تعالى:{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء 15، وقال:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} القصص59....
ومن آمن بالله ربا خالقا وجب عليه التقيد بما أمر به الله تعالى، فإن قصر بفعلها فقد ظلم نفسه وتعدى، قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} النساء 13.

والظلم أنواع:

الأول: أن يظلم الناسُ فيما بينهم وبين الله تعالى:وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لقمان 13 وإياه قصد بقوله: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} سورة هود 18.

الثاني:ظلم بينه وبين الناس: يقول الله عز وجل عن هذا:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} سورة الشورى 40.

الثالث: ظلم بين العبد وبين نفسه: وفيه قصد عز وجل في قوله:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } النمل 44، وإياه قصد بقوله:{فمنهم ظالم لنفسه} سورة فاطر 32.

وكل هذه الأنواع الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس، فإن الإنسان في أول ما يهمُّ بالظلم فقد ظلم نفسه. قال الذهبي: «الظلم يكون بأكل أموال الناس وأخذها ظلمـًا، وظلم الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء»، وقد عده من الكبائر، وبعد أن ذكر الآيات والأحاديث التي تتوعد الظالمين، عدد صورًا من الظلم منها: أخذ مال اليتيم المماطلة بحق الإنسان مع القدرة على الوفاء ظلم المرأة حقها من صداق ونفقة وكسوة ظلم الأجير بعدم إعطائه الأجر.
ومن الظلم الجور في القسمة أو تقويم الأشياء، وقد عدها ابن حجر ضمن الكبائر. وقد وردت النصوص تذم الظلم:قال تعالى:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } سورة الكهف 59، وقال:{والله لا يحب الظالمين} سورة آل عمران 57، وقال:{ولا يظلم ربُك أحدًا} سورة الكهف 49، وقال:{وما ربك بظلام للعبيد} سورة فصلت 46، وقال:{ألا إن الظالمين في عذاب مقيم}سورة الشورى 45.

والآيات كثيرة في القرآن الكريم تبين ظلم العبد لنفسه، وأن هذا الظلم على نوعين: الشرك، وهو أعظم الظلم كما بينا، والمعاصي، قال تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فاطر 32، أما ظلم العبد لغيره بالعدوان على المال والنفس وغيرها، فهو المذكور في مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } الشورى 42.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" (رواه البخارى ومسلم)، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود 102، وفي الحديث:"اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (رواه مسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأبي سلمة بن عبد الرحمن، وكان بينه وبين الناس خصومة: يا أبا سلمة اجتنب الأرض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين" (رواه البخاري ومسلم)، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" (رواه الترمذي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره " (رواه مسلم)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثة لا يرد دعاؤهم الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوةالمظلوم" (رواه أحمد والترمذي)، وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذ ابن جبل الى اليمن، فقال:"اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" (رواه البخاري ومسلم).

وقد وعى الصحابة والعلماء معاني الظلم وعواقبه: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم"، وقال رضي الله عنه:"إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى استشرى، وبسطوا الجور حتى افتدى"، وقال أبو العيناء:"كان لي خصوم ظلمة، فشكوتهم إلى أحمد بن أبي داود، وقلت: قد تضافروا عليَّ وصاروا يدًا واحدة، فقال: يد الله فوق أيديهم، فقلت له: إن لهم مكرًا، فقال: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، قلت: هم من فئة كثيرة،" فقال:{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } البقرة 249، وقال يوسف بن أسباط:"من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يُعْصَى الله في أرضه"، وكان يزيد بن حاتم يقول:"ما هِبْتُ شيئًا قط هيبتي من رجل ظلمته، وأنا أعلم أن لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبي الله، الله بيني وبينك"، وبكى عليٌّ بن الفضيل يومًا، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "أبكي على من ظلمني إذا وقف غدًا بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة"، ونادى رجل سليمان بن عبد الملك، وهو على المنبر:"يا سليمان اذكر يوم الأذان، فنزل سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له:ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله تعالى:{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الأعراف 44"، وقال عمر رضي الله عنه:"واتقِ دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مستجابة"، وقال ابن تيمية:"إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة"، وقال:"إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة".

إن اسباب الظلم كثيرة، ومرجعها الهوى والنفس الأمارة بالسوء، ودعوة الشيطان.
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف 28،
وقال:{إن النفس لأمارة بالسوء} سورة يوسف 53،
وقال:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المجادلة 19.

أما ما يعين على ترك الظلم فيكون بتذكر تنزهه عزَّ وجلَّ عن الظلم،
قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}آل عمران 182،
وقال: {وما الله يريد ظلما للعالمين}سورة آل عمران 108.

ويكون ترك الظلم بالنظر في سوء عاقبة الظالمين،
قال سبحانه:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} هود 117،
وقال:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}سورة الأنعام 47.
ويكون بعدم اليأس من رحمة الله، قال تعالى:{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } يوسف 87.

ويكون علاج الظلم باستحضار مشهد فصل القضاء يوم القيامة،
قال تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الزمر 69.
ويكون بالذكر والاستغفار، قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران 135.

وأخيراً يكون علاج الظلم بكف النفس عن الظلم ورد الحقوق لأصحابها، فالتوبة النصوح أن يندم الإنسان بالقلب، ويقلع بالجوارح، وأن يستغفر باللسان، ويسعى في إعطاء كل ذي حق حقه، فمن كانت لأخيه عنده مظلمة، من مال أو عرض، فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إلا الحسنات والسيئات، كما صح بذلك الخبر.

إن الظلم يجلب غضب ربنا سبحانه، فيتسلط على الظالم بشتى أنواع العذاب، والظلم يخرب الديار، وبسببه تنهار الدول، والظالم يُحْرَمُ شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم الأخذ على يده يفسد الأمة، والظلم دليل على ظلمة القلب وقسوته، ويؤدي إلى صغار الظالم عند الله وذلته، وما ضاعت نعمة صاحب الجنتين إلا بظلمه، قال تعالى:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} سورة الكهف 35-36، وما دمرت الممالك إلا بسبب الظلم، قال تعالى:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقال تعالى عن فرعون:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} سورة القصص 40، وقال عن قوم لوط:{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ} هود 82، وأهلك سبحانه قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة، قال عز وجل:{فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة العنكبوت 40.

وندم الظالم وتحسره بعد فوات الأوان لا ينفع، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} سورة الفرقان 27.
والظلم من المعاصي التي تعجل عقوبتها في الدنيا، وكيف تقوم للظالم قائمة إذا ارتفعت أكف الضراعة من المظلوم، فيقول الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:"وعزَّتي وجلالي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حين" (البخاري والطبراني). وعن ابي موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله: "إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته،" (متفق عليه) ثم قرأ قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} هود 102، فلنتق الله، ولنسارع برد المظالم لأصحابها، من قبل أن يأتي يوم لا مرد لنا من الله.قال أبو العتاهية:

أمــا والله إن الظلـم لـؤم ومازال المسيء هو الظلوم
إلى ديـان يـوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصـوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غـداً عند الإله من الملـوم

ورحم الله الشاعر حين قال:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبهة يدعو عليك وعين الله لم تنم

إننا نحن المسلمين ظلمنا أنفسنا حين قبلنا أن تهدم دولة الإسلام، ويسود حكم الرويبضات، ونحن اليوم نظلم أنفسنا من حيث ندري ولا ندري: نظلم أنفسنا حين نقبل أن لا يطبق نظام الإسلام في حياتنا، ونظلم أنفسنا حين نطبق الرأسمالية المجرمة، ونظلم أنفسنا حين لا نتلبس بالعمل في جماعة تعمل من أجل عودة الإسلام في دولته، ونظلم أنفسنا إن نحن أيدنا الفجار والظلام، وسكتنا عنهم، والله تعالى يقول:
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} النساء 105، ويقول:{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} هود 113،
و يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" (متفق عليه).
إننا نظلم أنفسنا إن لم نأمر بالمعروف وننكر المنكر. يقول عليه الصلاة والسلام:"من رأى منكم سلطانا جائرا، ناكثا لعهد الله، مستحلا لحرم الله، عاملا في عباد لله بالإثم والعدوان، ولم ينكر عليه بقول ولا فعل كان حقا على الله أن يدخله مدخله" (الطبري:تاريخ 4/304)، فبالله عليكم: من منكم يريد و يحب أن يكون ظهيرا للمجرمين؟ يقول عليه السلام عن هؤلاء والموقف منهم:"يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدركهم فلا يكونن لهم عريفا ولا شرطيا ولا حاجبا ولا خازنا."

إننا قد نخطئ وقد نرتكب المعاصي ونظلم أنفسنا، ومع هذا، فإن ظلمنا لأنفسنا لا يخرجنا من جنة الإيمان، لقوله تعالى:{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} النساء 110، فباب التوبة مفتوح، فالله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران 135.

ربنــا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، سبحانك ربنا فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار، ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


دكتور حازم عيد بدر

ليست هناك تعليقات: