الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

المرأة وعلاقتها بالنهضة (2)



والآن أختاه أضع بين يديك بعض الأمثلة من سلفنا الصالح من خيرة النساء ممن ضحين بأنفسهن وأولادهن لنشر هذا الإسلام العظيم.

أنقل لك بعض الحوادث التي حصلت مع نساء برزت شخصياتهن لامعةً وضاءةً، وسجلت لها في التاريخ ذكراً عطراً كأروع ما تسجله إنسانة لها عقيدتها ورسالتها السماوية.
نساء فهمن الأحكام المنوطة بهن، والواجبات المترتبة عليهن، ووعت كل واحدة منهن جيداً ماذا يعني كونها من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، فلبت أمر ربها وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر قدر استطاعتها وبالمجال الذي حدد لها.
فعرفت قيمة النصر الذي أحرزته، والمستوى الرفيع الذي ارتقت إليه بعد أن قضت عصوراً عاشتها وهي في مهملات التاريخ، ولهذا فقد سعت جاهدةً للعمل على إثبات كفاءتها لذلك.
وكان في كثرة النساء المبادرات للإسلام أصدق دليل على ما حمله الإسلام للمرأة المسلمة من خير وصلاح، وما هيأ لها من محل رفيع، وفعلاً فقد سجلت المرأة المسلمة في التاريخ الإسلامي أروع صفحات كتبتها بالتضحية والفداء، وخطتها بدماء الآباء والأبناء بعد أن أكد الإسلام على اعتبارها شقيقة الرجال لا أكثر ولا أقل، فكما أن بطولة الرجل المسلم كانت في مجالين وفي اتجاهين: في مجال التضحية والجهاد، وفي مجال حمل فكر الدعوة، كانت بطولة المرأة المسلمة أيضاً في هذين المجالين: في مجال التضحية والفداء ومجال حمل الدعوة الإسلامية. وفي كلا الصعيدين كانت تعمل كمخلوق يطيع أوامر خالقه لا كأنثى.
ففي صدر الإسلام شهدت المرأة المسلمة الحروب والوقعات وبذلت كل الجهد للدفاع عن الرسالة التي تدين بها.
وتاريخ المرأة المسلمة يحدثنا عن بطلات ضاهين في بطولتهن الرجال، واقتحمن لظى الحروب غير هيابات ولا وجلات.
وهذه إحداهن وهي نسيبة بنت كعب بن عمر بن عوف الأنصارية، وقد كانت سيدة جليلة القدر كبيرة القلب عالية الهمة رفيعة الروح، وقد أسلمت في أوائل من أسلم، وما أن خرج زوجها وابنها إلى أُحد حتى خرجت معهما متطوعة مختارة، فكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى وتطبب المرضى. وفي مرة خرجت في أول النهار كعادتها لتسقي جرحى الحرب من المسلمين، فانتهى بها المطاف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في أصحابه والنصر للمسلمين، فلما أنهت مهمتها وعادت، لاحظت أن النصر قد جانب المسلمين فانحازت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما انهزم المسلمون، أخذت بالسيف وجعلت ترمي بالقوس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وصلت إليها الجراح، وذلك لما ولى الناس عن رسول الله، وقد أقبل ابن قميئة وهو يصيح دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه، وقد كانت نسيبة أم عمارة فيهم فضربها وضربته على ذلك ضربات، ولكنها لم تصبه لأنه كان قد تدرع بدرعين من حديد.
وقد روي عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال يوم أحد ما التفتُ يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.
تلك نسيبة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عنها: «لمقام نسيبة يوم خيبر خير من مقام فلان وفلان».
هذه هي نسيبة في صدر الإسلام، وهذه آيات بطولتها وجهادها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي مندفعة وراء عقيدتها، وحتى بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن جذوة الحماس الديني لتخمد في صدر نسيبة، فها هي في خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قد شهدت قتال مسيلمة باليمامة، وتطوعت للجهاد وللدفاع عن العقيدة الإسلامية، وأبلت في تلك الوقعة بلاءً حسناً، وجرحت أحد عشر جرحاً، وافتقدت يدها في تلك الوقعة، كما فقدت ولدها أيضاً، وهي صابرة محتسبة لم تهن ولم تنكل، وأنى لها أن تنكل أو تتراجع.
وبهذا أثبتت أن للمرأة المسلمة في الإسلام شأناً ومقاماً ينص عليه القرآن الكريم، وما كانت نسيبة لتندفع هذا الاندفاع وتقوم بهذه التضحيات الجسام لو لم تعِ وتدرك عظم الرسالة التي تحملها وكونها مسلمة وحاملة للدعوة شأنها شأن الرجال.
فنسيبة امرأة ونساء قريش نساء أيضاً، ولكل من نسيبة والمرأة القرشية الكافرة قلب امرأة وعاطفة أنثى، ومع هذا فقد خرجت القرشيات إلى القتال مع أزواجهن ليضربن الدفوف ويذكين فيهم الأحقاد، أما نسيبة وغيرها من المسلمات خرجن ليقاتلن ويطببن ويداوين ويثبتن حين يفر الرجال، وقد روت أم عمارة عنهم قالت: رأيتهن يوم أحد، وقد ولين منهزمات مشمرات، وهن يتبعن الرجال المنهزمين على الخيول، وهن على أقدامهن فيسقطن في الطريق.
فأي روح هذه التي جعلت من نُسَيْبَة مسلمة تقاتل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تجرح، وتقاتل بعده حتى تقطع يدها، وجعلت نساء قريش يضربن الدفوف ثم يولين الأدبار منهزمات، إنها روح الإسلام والفهم الصحيح لدورها وما عليها فعله في كل موقف ومقال.
وهذه بطلة ثانية هي نسيبة بنت الحارث الأنصارية وكانت تعد من فواضل نساء عصرها، ومن خيرة نساء الصحابة، وقد غزت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أكثر غزواته تمرض وتدواي وتقوم برسالتها كمسلمة على أروع وجه وأبهاه.
وكان تمريض مرضى الحرب وتطبيب جرحاها يعد، في ذلك العصر الذي لم تكن وسائل العلاج المستحدثة موجودة فيه، ضرورة من أهم ضرورات الحرب، فكانت المرأة المسلمة تخرج للحرب لتداوي المرضى حتى لا ينشغل الجندي في تطبيب جراح أخيه مما يشغله ذلك عن الصمود والقتال أمام الأعداء.
ومن النساء المسلمات اللواتي شهدن الوقعات مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يداوين ويطببن مُعاذة الغِفارية، وأم منيع بنت عمر بن عدي بن سنان، وهند بنت عمر بن حرام، وأمية بنت قيس بن الصَّلت الغفارية، وقد روي عن أمية هذه أنها قالت جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نسوة من بني غِفار فقلنا: إنا نريد أن نخرج معك إلى خيبر يا رسول الله، نداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بركة الله، قالت: فخرجنا وقمنا بواجبنا في الجهاد.
هكذا كن النساء المسلمات وقد حبب الإسلام إليهن الفداء، وجعلهن يستهنَّ بمصاعب الحرب وأهوالها، وسعين إليها مندفعات غير هيابات ولا وجلات.
إن موقفهن هذا كان نتاج اقتدائهن بالرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤوفاً بالمسلمات باراً بهن، لا يحط من مكانتهن ولا يشعرهن بعجزهن، فجعلهن يدافعن عن أغلى شيء لديهن، كيف لا وقد كان الإسلام أعز شيء لديهن، بل كن يعتبرن نشر الدعوة قضيتهن المصيرية التي لا بد من بذل الروح والنفس والمال والولد لأجلها.
فكانت المرأة تتطوع مندفعة للذود عن الإسلام...
وها هي حمنة بنت جحش وهي من المهاجرات، وقد شهدت أُحد تسقي العطشى وتدواي الجرحى، وبرزة بنت مسعود بن عمر الثقفية، وأم زياد الأشجعية وهي سادسة ست نسوة خرجن يوم خيبر فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث إليهن فقال: «بإذن من خرجتن» فقلن له: خرجنا ومعنا دواء نداوي الجرحى ونناول السهام ونسقي السويق ونغزل الشعر ونعين في سبيل الله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أقمن، فلما فتح الله عليه خيبر قسم لهن كما قسم للرجال».
وكذلك أم سليط حضرت مع النبي أُحداً، وكانت تزخر القُرَبَ للمجاهدين وتقوم على مداواة المرضى منهم.
وأم سنان الأسلمية وقد استأذنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند خروجه إلى خيبر فقالت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا أخرز السقاء، وأداوي المرضى، فأذن لها رسول الله وقال اخرجي على بركة الله تعالى، فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك، وإن شئت فمعنا، فقالت أم سنان: معك يا رسول الله، فقال رسول الله تكونين مع أم سلمة زوجتي» فكانت وشهدت فتح خيبر.
والكثير الكثير من النساء المسلمات اللاتي أخذن الإسلام من منبعه الزاخر، فكان فكرهنّ إسلامياً وسلوكهنّ إسلامياً حتى إن فرحهنّ وحزنهنّ كان بناءً على هذا الفهم الإسلامي، فهان لديهنّ العزيز والغالي في سبيل الإسلام، فقدمن الضحايا من الإخوة والأبناء قريرات فخورات، بل وقمن بأنفسهن أيضاً بدور إيجابي في معارك الحق مع الباطل، فاستأذنَّ في شهود الغزوات وشهدنها فعلاً وأبلين فيها البلاء الحسن، ولم يكن موقفهنّ ذاك إلا بدافع من يقينهنّ بالحق الذي هنّ عليه، وثقتهنّ من أن النعيم السماوي سوف يضم من فقدنه من الأعزاء والأحباء. إن هذه المواقف وغيرها صدرت من نساء علمن ما معنى كونهنّ مسلمات يحملن فكراً إسلامياً يجب المحافظة عليه ونشره، فكان فكرهنّ هو مسيّرهنّ لا العكس.
وأما على صعيد حمل الفكرة ونشر الثقافة الإسلامية ومفاهيم الشريعة الجديدة وأحكامها، فما أكثر النساء اللواتي أخذن الإسلام من منبعه الزاخر ودعون إليه بعد أن تعمقن في فهم الإسلام! فكنَّ مدارس إسلامية يروين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويُروى عنهن.
وفي طليعة الراويات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والناشرات لأحكام الإسلام عائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنه) لقد كانت من أبرع الناس في القرآن والحديث والفقه، فقد قال عنها عروة ابن الزبير «ما رأيت أحداً أعلم بالقرآن ولا بفرائضه ولا بحلال ولا بحرام ولا بشعر ولا بحديث عن عرب ولا بنسب من عائشة» فقد كان أهل العلم يقصدونها للأخذ من علمها الغزير، فأصبحت بذلك نبراساً منيراً يضيء على أهل العلم وطلابه، ونتيجة لعلمها وفقهها أصبحت حجرتها المباركة وجهة طلاب العلم حتى غدت هذه الحجرة أول مدارس الإسلام وأعظمها أثراً في تاريخ الإسلام.
ولا ننسى أيضاً سيدة أهل الجنة فاطمة الزهراء فقد روت عن أبيها، وروى عنها ابنها الحسن والحسين، وزوجها علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
وممن روين عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أسماء بنت عُمَيْس الخُثْعُمِيَّة، وأم إسحاق بنت سليمان، وكذلك أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، وأسماء هذه كانت محدثة فاضلة، ومجاهدة جليلة، فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، أنا وافدة النساء، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجُمَعِ والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم وربينا أولادكم أفلا نشارككم في هذا الأجر؟ فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: أسمعتم بمقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت إليها وقال: افهمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعّل المرأة لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله. فانصرفت وهي تهلل.
وقد روت أسماء بنت يزيد هذه 81 حديثاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وموقف أسماء هذا يعطينا صورة واضحة عن مكانة المرأة في الإسلام، وعن قوة شخصيتها التي أكسبها إياها الإسلام، وعن نفسيتها السامية التي منحها الإسلام أهم مقوماتها.
وقد روت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أم هاني بنت أبي طالب 46 حديثاً، وكذلك فاطمة بنت قيس بن خالد الأكبر بن وَهَب القرشية الفَهْرية 34 حديثاً.
انظري أختي المسلمة إلى هذه المدرسة الإسلامية التي كانت تتمثل في المسلمات العالمات الفاهمات، وانظري إلى كفاءتهن لذلك بعد أن كانت المرأة قبل الإسلام موءودة وهي وليدة ومملوكة للرجل، وهي امرأة ومشكوك في إنسانيتها عند مختلف الأمم وفي شتى الشرائع والقوانين، ولكن الإسلام بتشريعاته ونظمه رفع مكانتها محلاً رفيعاً خوَّلها أن تكون داعية للرسالة السماوية وشارحة لأحكامها وآدابها. فالمرأة المسلمة والرجل المسلم بالنسبة للرسالة والدعوة سواء، فقد امتدت إليهما معاً يد الإسلام لترفعهما من وهدة الجهل والضلال، وأشرقت عليهما معاً أيضاً شمس الرسالة لتضيء لهما طريق الحق في الحياة؛ ولهذا فإن عليهما معاً أن يعملا في سبيل الإسلام ما وسعهما عمله للنهوض والرقي الذي خلقا لأجله.
هذه هي المرأة المسلمة الإنسانة في صدر الإسلام التي خلدت لها في تاريخ الأمة الإسلامية أسمى ذكر وأروع أثر. والمرأة المسلمة اليوم هي بنت تلك المرأة المسلمة التي عرضت صدرها لحراب الأعداء، وشهدت بعينها قتل الآباء والأبناء. فما الذي يقعد بالمرأة المسلمة البنت عن أن تعيد تاريخ المرأة المسلمة الأم وأن تقفو خطواتها في الحياة... فهيا أختاه شمري عن ساعديك، وأقبلي على دينك، وانظري لمَ خلقت، وكيف يجب أن تكوني؛ لتكوني حجر بناء لتلك الحضارة العريقة؛ لأنك لن تصاني ولن تعود كرامتك إلا في تلك الحضارة، وفي ظل ذلك النظام الذي تكونين فيه عرضاً يجب أن يصان ويحافظ عليه، حتى تعيدي مجدك وتبدعي كما أبدعت أمك بالأمس، فاعلمي أن النهضة لا تكون إلا بفكر تحملينه، وهذا الفكر لا بد له من عمل، وهذا العمل ليس للترف بل هو فرض في رقبتك تحاسبين عليه يوم القيامة، فاتقي الله في نفسك، وأسقطي تاج الفروض عن عاتقك، وتحرَّي أن تبذلي كل ما في وسعك لتؤدي الفرض على الوجه الذي يرضاه ربك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[انتهى]
أم سدين - بيت المقدس

المصدر: مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: