الجمعة، 19 فبراير 2010

الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه



بسم الله الرحمن الرحيم

«اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوي من الخير» من دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له

الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس في الجاهلية، وشريف من أشراف العرب المرموقين، وواحد من أصحاب المروءات المعدودين... لا تنـزل له قدر عن نار، ولا يوصد له باب أمام طارق... يطعم الجائع، ويؤمن الخائف، ويجير المستجير. وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب، وشاعر مرهف الحس، رقيق الشعور بصير بحلو البيان ومره... حيث تفعل فيه الكلمة فعل السحر.
غادر الطفيل منازل قومه من تهامة متوجهاً إلى مكة، ورحى الصراع دائرة بين الرسول الكريم، صلوات الله عليه، وكفار قريش، كل يريد أن يكسب لنفسه الأنصار، ويجتذب لحزبه الأعوان... فالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، يدعو لربه وسلاحه الإيمان والحق، وكفار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح، ويصدون الناس عنه بكل وسيلة. ووجد الطفيل نفسه يدخل في هذه المعركة على غير أهبة، ويخوض غمارها عن غير قصد... فهو لم يقدم إلى مكة لهذا الغرض، ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال.

حدث الطفيل قال: قدمت مكة، فما إن رآني سادة قريش حتى أقبلوا علي فرحبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني فيهم أعز منـزل. ثم اجتمع إلي سادتهم وكبراؤهم وقالوا: يا طفيل، إنك قد قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قد أفسد أمرنا ومزق شملنا، وشتت جماعتنا، ونحن إنما نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا، فلا تكلم الرجل، ولا تسمعن منه شيئاً، فإن له قولاً كالسحر، يفرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوجة وزوجها.

قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي يقصون علي من غرائب أخباره، ويخوفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله، حتى أجمعت أمري على ألا أقترب منه، وألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً. ولما غدوت إلى المسجد للطواف بالكعبة، والتبرك بأصنامها التي كنا إليها نحج وإياها نعظم، حشوت في أذنيّ قطناً خوفاً من أن يلامس سمعي شيءٌ من قول محمد. لكني ما إن دخلت المسجد حتى وجدته قائماً يصلي عند الكعبة صلاةً غير صلاتنا، ويتعبد عبادة غير عبادتنا، فأسرني منظره، وهزتني عبادته، ووجدت نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً على غير قصد مني حتى أصبحت قريباً منه... وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعض مما يقول، فسمعت كلاماً حسناً، وقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طفيل... إنك لرجل لبيب شاعر، وما يخفى عليك الحسن من القبيح، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول... فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.
قال الطفيل: ثم مكثت حتى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي عنك كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني من أمرك حتى سددت أذنيّ بقطن لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني شيئاً منه فوجدته حسناً، فاعرض علي أمرك. فعرض علي أمره، وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق، فوالله ما سمعت قولاً أحسن من قوله، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره. عند ذلك بسطت يدي له، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ودخلت في الإسلام.

قال الطفيل: ثم أقمت في مكة زمناً تعلمت فيه أمور الإسلام. وحفظت فيه ما تيسر لي من القرآن، ولما عزمت على العودة إلى قومي قلت: يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في عشيرتي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه، فقال: «اللهم اجعل له آية». فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينيَّ مثل المصباح، فقلت: الله اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم... فتحول النور فوقع في رأس سوطي، فجعل الناس يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، فلما نزلت، أتاني أبي -وكان شيخاً كبيراً- فقلت: إليك عني يا أبت، فلست منك ولست مني. قال: ولم يا بني؟! قلت: لقد أسلمت وتابعت دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: أي بني، ديني دينك، فقلت: اذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعالَ حتى أعلمك ما علمت، فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم جاءت زوجتي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولمَ!! بأبي أنت وأمي، فقلت: فرَّق بين وبينك الإسلام، فقد أسلمت وتابعت دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: فديني دينك، قلت: فاذهبي وتطهري من ماء ذي الشرى -وذو الشرى صنم لدوس حوله ماء يهبط من الجبل- فقالت: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصِّبية شيئاً من ذي الشرى؟! فقلت: تباً لك ولذي الشرى... قلت لك: اذهبي واغتسلي هناك بعيداً عن الناس، وأنا ضامن لك ألا يفعل هذا الحجر الأصم شيئاً. فذهبَتْ فاغتسلت ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت. ثم دعوت دوساً فأبطؤوا عليَّ إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاماً.

قال الطفيل: فجئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، ومعي أبو هريرة فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: «ما وراءك يا طفيل؟» فقلت: قلوب عليها أكنة وكفر شديد... لقد غلب على دوس الفسوق والعصيان... فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ وصلى ورفع يده إلى السماء، قال أبو هريرة: فلما رأيته كذلك خفت على قومي فيهلكوا... فقلت: واقوماه... لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه جعل يقول: «اللهم اهدِ دوساً... اللهم اهدِ دوساً... اللهم اهدِ دوساً...». ثم التفت إلى الطفيل وقال: «ارجع إلى قومك وارفق بهم وادعهم إلى الإسلام».

قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ومضت بدر وأحد والخندق، فقدمت على النبي ومعي ثمانون بيتاً من دوس أسلموا وحسن إسلامهم فسر بنا رسول الله، وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم خيبر فقلنا: يا رسول الله، اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها واجعل شعارنا: «مبرور».
قال الطفيل: ثم لم أزل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى «ذي الكفين» صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه... فأذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فسار إلى الصنم في سرية من قومه. فلما بلغه وهمّ بإحراقه، اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربصون به الشر، وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال «ذا الكفين» بضر. لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عبَّاده... وجعل يضرم النار في فؤاده... وهو يرتجز:

يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا

وما إن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك في قبيلة دوس، فأسلم القوم جميعاً وحسن إسلامهم.
ظل الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازماً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، حتى قبض النبي إلى جوار ربه. ولما آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصدّيق وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولما نشبت حروب الردة نفر الطفيل في طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب، ومعه ابنه عمرو. وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا، فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فعبِّروها لي. فقالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن رأسي قد حلق، وأن طائراً خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها، وأن ابني عمراً جعل يطلبني حثيثاً لكنه حيل بيني وبينه. فقالوا: خيراً... فقال: أما أنا -والله- لقد أوّلتها: أما حلق رأسي فذلك أن يقطع... وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي... وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تحفر لي فأدفن في جوفها... وإني لأرجو أن أقتل شهيداً. وأما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها -إذا أذن الله- لكنه يدركها فيما بعد.

وفي معركة اليمامة أبلى الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أعظم البلاء، حتى خرَّ صريعاً شهيداً على أرض المعركة. وأما ابنه فما زال يقاتل حتى أثخنته الجراح وقطعت كفه اليمنى فعاد إلى المدينة مخلِّفاً على أرض اليمامة أباه ويده.
وفي خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، دخل عليه عمرو بن الطفيل، فأتي الفاروق بطعام، والناس جلوس عنده، فدعا القوم إلى طعامه، فتنحى عمرو عنه، فقال له الفاروق: مالك؟! لعلك تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك، قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة... والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة إلا أنت، يريد بذلك يده.

ظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارق أباه، فلما كانت معركة اليرموك بادر إليها عمرو مع المبادرين، وما زال يقاتل حتى أدرك الشهادة التي مناه بها أبوه. رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسي، فهو الشهيد وأبو الشهيد.

المصدر: مجلة الوعي

الصحابي الجليل أسعد بن زرارة رضي الله عنه



بسم الله الرحمن الرحيم

«يا رسول الله، دماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا»
هذا الصحابي الجليل هو أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ ابْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ (رضي الله عنه)، الأنصاري الخزرجي الذي آمن فقدّم في أقل من ثلاث سنوات، وقبل أن يُقبض، أعمالاً عظيمة جليلة ساهمت في نشر الإسلام وتأسيس قاعدته في المدينة، ثم أعمالاً عظيمة أخرى في النصرة والبيعة وإقامة الدولة.


كان أهل المدينة من الأوس والخزرج يشعرون بخطأ الأفكار التي يحملونها، ويحسون بسوء الأوضاع التي يعيشونها، ذلك أنهم كانوا يعيشون قبل وصول الدعوة للمدينة حالة نزاع وقتال وسفك دماء لا تتوقف، وكانت آخر وقعة وقعت بينهم هي وقعة بُعاث التي وقعت قبل مقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بثلاث سنوات، والتي قتل فيها خلق كثير، ومات من أشرافهم عدد كبير، ولم يكن هناك من يدعوهم لدين آخر ينجيهم مما هم فيه، حتى اليهود أهل الكتاب الذين كانوا يعيشون معهم لم يحملوا لهم دعوة أو فكراً، بل تعالوا عليهم وتوعدوهم بنبي جديد، ولم يكن منهم إلا تحالفات مع بطون الأوس أو الخزرج، ما زادت القوم إلا فرقة وخصومة.

في هذه الظروف، وفي السنة الحادية عشرة من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، خرج أبو أمامة أسعد بن زرارة سيد بني النجار مع ستة نفر من الخزرج إلى مكة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتقصد في تلك السنين وفود الحج عارضاً عليهم الإسلام طالباً منهم النصرة والمنعة، فلا يسمع برجل صاحب شأن في قومه إلا واتصل به، والكل إما مسيء للرد أو معتذر، لكن موقف أبي أمامة (رضي الله عنه) وصحبه كان مختلفاً، فهم أهل خير أراد الله تعالى بهم ولهم خيراً، فآمنوا وصدقوا، ثم ذكروا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حال قومهم وما بينهم من العداوة والفرقة التي تمنع من النصرة، لكنهم وعدوه وعد صدق أن يدعوا قومهم للإسلام، فإذا أجابوا فلا رجل أعز من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).


يقول ابن إسحاق: فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنجاز موعده له، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار... فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً. لما لقيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود (أي حلفائهم)؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن... فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُم اللّهُ بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا. قال ابن إسحاق: وهم، فيما ذكر لي: ستة نفر من الخزرج، منهم من بني النجار، أسعد بن زرارة.
بهذه الكلمات القليلة، لكن بهذا النور العظيم، وهذه العقيدة الراسخة، عاد أبو أمامة أسعد بن زرارة (رضي الله عنه) إلى قومه يعمد إلى أصنام بني النجار يكسرها ويحطمها، فكان (رضي الله عنه) معتزلاً للشرك الذي عليه الناس، حاملاً لهم نور الهداية وعقيدة التوحيد، عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صافية كما فهمها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فآمن على يديه هو وصحبه من آمن وكفر من كفر.لكن تعلقه بالدين الجديد لم تنتهِ حكايته ولم تتم فصوله.

مبايعته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة العقبة الأولى:
عاد أسعد بن زرارة في العام التالي بشوق واندفاع، عاد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه من قومه وفد جديد كي يتجدد بهم اللقاء، وتتجدد مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة على كل ما يطلبه منهم، بل جاءوا يطلبون من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل معهم للمدينة من هو أكثر منهم معرفة بدقائق الدين الجديد، كي يقرأ عليه القرآن ويفقههم في الدين ويعلمهم الأحكام، عسى الله تعالى أن يجمع أمرهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته. يقول ابن إسحاق: حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.

وقد ذكر البخاري في باب وفود الأنصار عن عبادة بن الصامت أمر هذه البيعة، وذكر فيها الأمور التي بايع عليها القوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ‏ فقال (رضي الله عنه): «إن رسول الله‏ ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏ ‏قال -ليلة العقبة- وحوله عصابة من أصحابه: تعالوا ‏‏بايعوني‏ ‏على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا‏ ‏ببهتان ‏تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله: فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، قال‏ ‏فبايعته‏ ‏على ذلك»

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة مصعب، وكان منـزَله على أسعد بن زرارة.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر ابن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.
وبهذا كان لأبي أمامة أسعد بن زرارة من الفضل أنه من أول من آمن عند العقبة، ثم كان ممن شهد بيعة العقبة الأولى، وأن منـزَل مصعب بن عميركان عليه.

دوره في إسلام سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ.
عاد أبو أمامة إلى المدينة ومعه مصعب بن عمير ليحمل الدعوة فيها، فكان أبو أمامة يدله على الناس ويوصله إليهم، فكان معرفاً وحامياً لمصعب، فأسلم معه الكثير حتى فشا الإسلام في دور الأنصار، وكان مصعب (رضي الله عنه) يتقصد جميع الناس، وأهل القوة داخل المدينة، فاستجابت الخزرج وبقي أن تستجيب الأوس، فخرج أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظُفر من الأوس يريد سعد بن معاذ وأُسيد بن حُضير سيدا الأوس، وبالفعل فقد يسر الله تعالى أمر إيمانهما، فدخلا في الدين ودخل قومهما معهما، وقد كان لقصة إسلامهما الدروس الكثيرة والعبر العظيمة:
«قال ابن إسحاق: إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر...

فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أَبَا لَك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً، قال فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب إن يجلس أكلمه. قال فوقف عليهما متشتماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أَوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا: فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ. ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي. فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وقام فركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، إنه سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك، قال: فقام سعد مغضباً مبادراً، تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما مُتَشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره -وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من ورائه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان- قال: فقال له مصعب: أَوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير.

قال: فلما رآه قومه مقبلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله.

قالا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منـزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وَخَطْمَةَ ووائل وواقِف وتلك أوسُ الله، وهم من الأوس بن حارثة» انتهى.
وهكذا فقد أسلم بنو عبد الأشهل، وتتابعت معهم أكثر دور الأوس، فكان لإيمان هذين الرجلين وهما سيدا قومهما أثر عظيم على مسار الدعوة في المدينة، وبالتالي جاهزية أهل النصرة والمنعة من الأوس والخزرج على السواء، ففي مكة عاند كبراء القوم وكذبوا فكان أن صدوا جمهرة الناس عن الدعوة، أما جل سادة القوم من أهل المدينة فكانت نفوسهم للخير محبة وعقولهم للحق مستجيبة، فكانت النتيجة أن قامت دولة الحق في أرضهم، ومنها صوب العالم انطلقت وتوسعت حاملة رسالة الحق هداية للناس أجمع.

أول من جمّع بالمسلمين
ومن فضائل هذا الصحابي الجليل أنه كان أول من صلى جمعة بالمسلمين، وقيل كان مع مصعب (رضي الله عنه).
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حُنيف، عن أبيه أبي أمامة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال كنت قائد أبي، كعب بن مالك، حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة. قال فمكث حيناً على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. قال فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟ قال: فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى عليه واستغفر له. قال فقلت له: يا أبت، ما لك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟ قال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قال قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال أربعون رجلاً.

مبايعته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيعة العقبة الثانية كنقيب عن قومه:
في موسم الحج من السنة الثالثة عشرة للبعثة، وصل مصعب بن عمير (رضي الله عنه) مكة يزف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبار أهل المدينة وما تحقق فيها من إيمان واسع ومنعة كافية لنصرة دين الإسلام ونبي الإسلام، فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة عمه قد شكا لربه جفاء قومه له ولدينه، قال تعالى: (وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) [الزخرف 88] كما كان قد سأل ربه السلطان النصير قال تعالى (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) [الإسراء 80] فأمره ربه أن يطلب النصرة من القبائل، فكان يبحث عن أهل القوة والمنعة ممن يؤمن بالدعوة وينصرها، ينقل الإمام الطبري عن قتادة وقد اختاره، في هذه الآية (وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله عزّ وجلّ، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله). «قال أبو حاتم إن الله عز وجل وعلا أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئاً وينصروه ويصدقوه».
وبالفعل فقد تحققت هذه النصرة هناك في المدينة، إذ استجاب من سادة القوم ما يمكن من تحقيق النصرة والإيواء، فكانت بيعة العقبة الثانية بيعة على السلطان النصير، والطاعة التامة في المنشط والمكره لولاة الأمور، وأنقل هنا هذه الرواية والتي تكشف بعض بنود هذه البيعة، كما وتكشف لنا عن الدور الأساسي لأسعد بن زرارة (رضي الله عنه) في هذه البيعة، وهي رواية أكدت ما ورد فيها من معانٍ روايات أخرى كثيرة.

«في مسند عقيل بن أبي طالب أن العباس ابن عبد المطلب قال لهم: يا معشر الأوس والخزرج، هذا ابن أخي وهو أحب الناس إلي، فإن كنتم صدقتموه وآمنتم به وأردتم إخراجه معكم فإني أريد أن آخذ عليكم موثقاً تطمئن به نفسي ولا تخذلوه ولا تغروه، فإن جيرانكم اليهود وهم لكم عدو ولا آمن مكرهم عليه، فقال أسعد بن زرارة، وشق عليه قول العباس حين اتهم عليه أسعد وأصحابه: يا رسول الله، إيذن لي فلنجبه غير مخشنين لصدرك ولا متعرضين لشيء مما تكره إلا تصديقاً لإجابتنا إياك وإيماناً بك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أجيبوه غير متهمين، فقال أسعد بن زرارة، وأقبل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله إن لكل دعوة سبيلاً، إن ليناً وإن شدة، وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس متوعرة عليهم، دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك إلى دينك وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام والقريب والبعيد وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا ونحن جماعة في عز ومنعة لا يطمع فينا أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك وكل هؤلاء الرتب مكروهة عند الناس، إلا من عزم الله على رشده والتمس الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا إيماناً بما جئت به وتصديقاً بمعرفة ثبتت في قلوبنا، نبايعك على ذلك ونبايع الله ربنا وربك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، فإن نف بذلك فبالله نفي ونحن به أسعد، وإن نغدر فبالله نغدر ونحن به أشقى، هذا الصدق منا يا رسول الله، والله المستعان، ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه، وأما أنت أيها المعترض لنا القول دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالله أعلم بما أردت بذلك، ذكرت أنه ابن أخيك وأنه أحب الناس إليك، فنحن قد قطعنا القريب والبعيد وذا الرحم ونشهد أنه رسول الله أرسله من عنده، ليس بكذاب وإن ما جاء به لا يشبه كلام البشر. وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا، فهذه خصلة لا نردها على أحد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخذ ما شئت، ثم التفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، وقالوا: فذلك لك يا رسول الله.»

ولم يكتف (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلك الشروط التي شرطها لنفسه ودينه وصحبه، بل طلب منهم نقباء على قومهم «‏أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ ‏ ‏نَقِيبًا ‏ ‏يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ» فكان أبو أمامة سعد بن زرارة (رضي الله عنه) من أول النقباء، ولم يكن في النقباء من هو أصغر منه بل إن بني النجار كانوا يقولون إنه أول من ضرب على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولا يخفى على أحد أهمية هذه البيعة، فقد كانت سبباً في الهجرة وإقامة الدولة، حتى إن قريشاً قد ارتعبت لما سمعت بخبرها، فجمعت وفد أهل المدينة للحج مسلمهم ومشركهم يستحلفونهم عن أمر البيعة، لكن المشركين منهم وهم الأغلب يومها لم يكونوا على علم بما وقع في تلك الليلة، فحلفوا بأنه لم يقع بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شيء، ولما تأكدت قريش من خبر البيعة لحقوا بهم في الطريق وحجزوا منهم رجلين.

في الثاني عشر من ربيع الأول، وبناء على هذه البيعة، هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمدينة المنورة ووصل إليها ليستلم زمام الأمور والقيادة فيها، وكانت كل قبيلة تسعى لتنال شرف النـزول، إذ انطلقت ناقته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله، اعترضه سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَبُو سَلِيطٍ أَسِيرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْن النّجّارِ، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» فخلوا سبيلها، فانطلقت.

أسعد بن زرارة وبناء المسجد
قال الزهري: بركت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند موضع مسجده، وكان مربداً لسهل وسهيل غلامين يتيمين من الأنصار، كانا في حجر أسعد بن زرارة. فساوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغلامين بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله. فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاشتراه منهما بعشرة دنانير .
وكان يصلي فيه ويجمع أسعد بن زرارة قبل مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الصحيح أنه قال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم. قالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله .

وفاته (رضي الله عنه).
توفي (رضي الله عنه) بعد ستة أشهر من مقدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشهقة، قال ابن إسحاق: وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة، والمسجد يبنى، أخذته الذبحة أو الشهقة.
فقالت اليهود: لو كان نبياً لم يمت صاحبه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً».
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر ابن قتادة الأنصاري: أنه لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إن هذا قد كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلاً مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم: «أنتم أخوالي، وأنا بما فيكم، وأنا نقيبكم» وكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخص بها بعضهم دون بعض . فكان من فضل بني النجار الذي يعدون على قومهم أن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نقيبهم.

وعندما مرض أسعد بن زرارة، وعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمرضه، ذهب يزوره فوجده مريضًا بالذبحة، ثم مات (رضي الله عنه) وقد أوصى أسعد ببناته إلى رسول الله وكن ثلاثًا، فكن في رعاية رسول الله وكفالته.
ولمّا توفي أسعد بن زرارة حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غُسْلَه، وكفّنه في ثلاثة أثواب منها بُرد، وصلى عليه، ورُئي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي أمام الجنازة، ودفنه بالبقيع...
قال البغوي: إنه أول من مات من الصحابة بعد الهجرة، وإنه أول ميت صلّى عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم). وروى الواقدي من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: أول من دفن بالبقيع أسعد بن زرارة. وهذا قول الأنصار.

إن أمتنا اليوم وهي تتطلع إلى عودة الإسلام وتبحث عن أسباب إقامتها، لهي بأمس الحاجة للاقتداء بسيرة هؤلاء العظماء أمثال هذا الصحابي الجليل، الذي قدم في أقل من ثلاث سنوات أعمالاً جليلة عظيمة، تستحق منا أن نترسمها ونهتدي بهديها، عسى الله تعالى أن ييسر على أيدينا إعادة عز الإسلام بأمثال هؤلاء وتحكيم القرآن وتعظيم سنة خير الأنام، كما ونسأل الله العلي القدير أن يمنحنا إيماناً مثل إيمانهم، وإخلاصاً مثل إخلاصهم، وتفانياً للإسلام مثل تفانيهم.

زياد أبو محمود - القدس

المصدر: مجلة الوعي


الاثنين، 18 يناير 2010

النهضة صفحة 37- 39 و الأخيرة



الطريق السوي

قلنا إن النهضة هي الرقي الفكري ، والفكر الراقي هو الفكر المتصف بالشمول والعمق بحيث يشمل الوجود بكامله – الكون والحياة والإنسان- هذا من حيث الشمول . أما من حيث العمق فلتقرير حقيقة هذا الوجود – أهو أزلي أم مخلوق لخالق – وبناء على ذلك فإن النهضة لا يمكن أن تتحقق إلا بمبدأ يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها مبيناً الأساس الفكري في حياة الناس ، والذي يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة .

{ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً }الأنعام(79) مسلماً وما أنا من المشركين،{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}البقرة(156).
هذه هي الإجابة عن معنى وجودنا في الحياة { إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}الأنعام(162) . أي إن العقيدة التي هي أساس المبدأ ، هي أساس حياة الفرد وأساس حياة المجتمع وأساس حياة الدولة . هذه العقيدة هي ((الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر )).

من هذه العقيدة تنبثق كافة المعالجات لمشاكل الإنسان ، وتبين له علاقاته الثلاث ، علاقته مع خالقه بالعبادات وعلاقته مع نفسه بالعبادات وعلاقته مع غيره في المعاملات . فلم تترك شريعتنا أمراً إلا بينته ، ولا عملاً إلا بينت حكمه فهي منهج حياة كامل ، يحاسب الإنسان على ما كسب أو اكتسب في هذه الحياة بموجب هذا المنهج { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}الزلزلة(8)، { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}البقرة(284).

كما إنها بينت أن عمل الإنسان الأساسي هو حمل هذه الرسالة ، وتأدية هذه الأمانة ونشر هذا الدين . { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين }فصلت(33)، وقال تعالى :{ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }النحل(125). وقال :{ قل إن كان أبناؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }التوبة(24)، ويقول :{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}المجادلة(22)، الآية .

ولم تقتصر عقيدة المبدأ على المعالجات وحمل الدعوة بل بينت ما يلي :-
كيفية إيصال هذا المبدأ لواقع الحياة ، وإنهاض الأمة على أساسه ، وبناء الدولة التي توجده في معترك الحياة وتحمله للعالم وذلك بالأمر باقتفاء طريق الرسول ، وسيرته والمراحل التي مر بها. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }الأحزاب(21).
بينت كذلك طريقة تنفيذ المحافظة على المبدأ والمحافظة على العقيدة والمحافظة على المجتمع والمحافظة على الدولة بأحكام بلغت حد القتل على من يحاول هدم هذه العقيدة أو المجتمع أو الدولة . وأوكلت لمن أنابه المسلمون عنهم . تولي تنفيذ هذه الأحكام .
بينت تنفيذ المعالجات فلم تتركها وصايا وإرشادات ومواعظ بل أمرت رئيس الدولة أن ينفذ هذه الأحكام سواء أكانت من العبادات أو الأخلاق أو المعاملات . فأمرت بتنفيذ العقوبة بكل من يقصر في العبادات في الصلاة أو الصوم أو الزكاة . كما أمرت بإيقاع العقوبة على من يقوم بأي عمل مناف لصفات المسلمين وأخلاقهم . أو من أكل طعاماً حراماً أو شرب شراباً حراماً فلم تترك له حرية الأكل أو الشرب .

كما إنها أوقعت العقوبات الرادعة لأية مخالفة شرعية في الحفاظ على أرواح الناس وكرامتهم وأنسابهم وأموالهم مثل قتل القاتل وجلد القاذف وقتل الزاني المحصن وقطع يد السارق . كما إنها حافظت على أمن الجماعة وطمأنينتهم في حياتهم بإيقاع العقوبات الزاجرة على المفسدين في الأرض . كالقتل والتصليب وقطع الأطراف والنفي من الأرض .
أما بالسبة لحمل الدعوة فقد أوجبت ذلك على المسلمين جميعاً وأوجبت على من أنابوه عنهم الإعداد لتجهيز الجيوش ، وقتال الكفار لتطبيق حكم الإسلام عليهم أو حفظ علاقات المسلمين معهم كالمعاهدات وأخذ الجزية وغير ذلك . وقد بينت ذلك في عشرات الآيات من القرآن الكريم وعشرات الأحاديث الشريفة .

وللوصول إلى الرقي الفكري –أي النهضة – فقد حدد الإسلام الثقافة التي على المسلم أن يتثقف بها . والكيفية التي تؤخذ بها هذه الثقافة . أما الثقافة الإسلامية فهي :

أولاً : ما جاءت به العقيدة الإسلامية . كالكتاب والسنة .

ثانياً : ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه . كعلوم اللغة العربية .
أما ما جاءت به العقيدة الإسلامية فهو مجموعة النصوص التي تضمنها كتاب الله وشرحها وتفسيرها ، وتبيان أفكارها وأحكامها . وتوضيح الحجج والبراهين التي لا تدع مجالاً للشك بأن الكتاب والسنة وحي من الله وأن ما جاء به محمد رسول الله لم يكن إلا وحياً من عند الله ، إلى غير ذلك مما تضمنته الآيات والأحاديث .

وأما ما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه – فالمعروف أن الكتاب نزل باللغة العربية ، وأحاديث محمد هي باللغة العربية ، ولا يمكن فهمها إلا باللغة العربية ولهذا كانت دراسة اللغة العربية بكافة فروعها مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .
كذلك فإن تتبع الأحداث ومعرفة الواقع وفهم ما يستجد لإنزال الأحكام الشرعية عليها أو لبيان حكم الله فيها أو إظهار مخالفتها لأفكار الإسلام وأحكامه ، فإن هذا مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

كذلك فإن المعارف التاريخية بحقائقها وأحداثها لمعرفة واقع الأمة الإسلامية عبر العصور وكيفية تطبيق الخلفاء للإسلام ، ومعرفة البلاد التي ارتفعت عليها راية الإسلام وما يترتب على ذلك من أحكام، فإن ذلك مما كانت العقيدة الإسلامية سبباً في بحثه .

وأخيراً فإن معرفة الواقع الدولي والعلاقات الدولية وما يحيط ببلاد المسلمين من أحداث كذلك مما تقتضيه العقيدة الإسلامية ، حتى يتمكن المسلمون من أداء دورهم في الحياة وتقديم الشهادة على الناس .
أما طريقة أخذ هذه المعارف جميعها فلابد من أن تؤخذ أخذاً فكرياً بحيث تتبلور إلى مفاهيم تؤثر بسلوك الناس وتسيرهم في الطريق السوي وذلك بـ :

أولاً : أن يدرك الواقع الذي يراد معالجته إدراكاً ينفي عنه كل غموض ويزيل عنه كل التباس ويبعد عنه العموم أو الاشتباه .

ثانياً : أن يدرك واقع النصوص أو الأفكار وما تحويه من معان بحسب معانيها اللغوية أو الاصطلاحية أو الشرعية ،والموضوع الذي جاءت به إدراكاً يبين ما حوت من علل أو شروط أو موانع أو أسباب.

ثالثاً : أن يجري التصديق بها وذلك بقياسها إلى القاعدة الفكرية أي العقيدة الإسلامية وما جاءت به من أدلة ومقاييس تصديقاً يحولها في نفس الإنسان من أفكار لها واقع إلى مفاهيم . أي إلى أفكار أُدرِك واقعها وجرى التصديق به ، حتى تؤثر في سلوك الفرد .

رابعاً : أن تؤخذ هذه المعارف للعمل بها ، وحملها إلى العالم أجمع .

خامساً: وأن يكون ذلك كله بطريقة مثيرة مؤثرة ، أما كونها مثيرة فإن تجسيد الواقع بحيث يصبح ملموساً لدى الشخص يثير نحوه المشاعر والأحاسيس ، ويشد الانتباه له وأما كونها مؤثرة فإنزالها على هذا الواقع بشكل دقيق ويربطها بالدليل الذي استنبطت منه ، أي ربطها بالعقيدة أي القاعدة الفكرية التي آمن بها يجعلها مؤثرة فيه دافعة له للعمل .

ونتيجة طبيعية لسلوك هذا الطريق ، أن توجد في الأمة طريقة للتفكير منتجة مبنية على قاعدة فكرية صحيحة ، تؤدي إلى النهضة والارتقاء الفكري وبما أن الفكر لا يطيق أن يبقى حبيساً في النفس إذ لابد أن يظهر أثره في الحياة لأنه أخذ بطريقة سليمة أي أخذ عن إدراك واقعه ، وإدراك الواقع الذي ينطبق عليه . وجرى التصديق به بالإضافة إلى كونه أخذ للعمل به . لا للترف الفكري أو المباهاة ، ولذلك فإنه يصبح طبيعياً قائداً لمن آمن به مسيراً لسلوكه ، أي أصبح قيادة فكرية ، ينقاد بها الناس ويقودون بها غيرهم .

وبذلك تكون عقيدتهم قاعدة فكرية لهم يبنون عليها أفكارهم عن الوجود والحياة وتكون كذلك قيادة فكرية تنبثق منها نظمهم وأحكامهم لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم . وساروا في طريق الكمال أي في طريق الرقي والنهضة ، وعرف الناس معنى وجودهم في الحياة .

هذه هي النهضة ، وهذه هي الكيفية التي توصل لها والحمد لله رب العالمين . اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .


النهضة صفحة 33-37



المعاناة

بسم الله الرحمن الرحيم { والعصر ، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر.

وبعد نزول الوحي على رسول الله لأول مرة ، ذهبت به زوجته خديجة رضوان الله عليها ، إلى عمها ورقة بن نوفل ليسأله عما رآه وسمعه ، قال ورقة : إن هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران ، ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك ، فأنصرك نصراً مؤزراً ، قال رسول الله :(( أو مخرجي هم يا عماه ، قال ورقة :نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )).
وقال :(( ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا حيث دار ، ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فالزموا الكتاب ألا وإنه سيولى عليكم أمراء ضالون مضلون ، إن اتبعتموهم أضلوكم وإن خالفتموهم قتلوكم ، قالوا فماذا نفعل يا رسول الله ، قال كما فعل أصحاب عيسى شدوا على الخشب ونشروا بالمناشير فو الذي نفس محمد بيده لميتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته ))(رواه أبو نعيم في دلائل النبوة.) .

كما قص الله سبحانه وتعالى من قصص الأنبياء على رسوله مبيناً له ما لاقى إخوانه من الأنبياء من الصد والتكذيب والإيذاء ، وما كانت مواقف أولي العزم منهم ، وذلك ليثبت به فؤاد رسول الله ، ويقول له :{ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل }الأحقاف(35) ، فالناس هم الناس ، وعملية التغير عليهم تلاقي ما لاقى سلفها ، من إهمال ورد وتكذيب وصد ومحاربة بل إننا لنكاد نسمع من الناس اليوم ما قاله قوم نوح عليه السلام :{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل }هود(27). هو نفس الكلام الذي يسمعه حملة الدعوة اليوم .

ولهذا كان على العاملين لإنهاض أمتهم ورفعة شأنها وتغيير ما في نفوسها حتى يغير الله واقعها {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }الرعد(11) . كان على هؤلاء العاملين أن يوطدوا العزم ويشحذوا الهمم لمجابهة خصومهم ، ودحر أعدائهم مقتدين برسول الله متوكلين على الله . ولقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ، مذكراً المؤمنين بما لاقوا من عنت ، وما جابهوا من أخطار { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26)، نعم عليهم، أي مريدي النهضة أن يضعوا في حسابهم ما لاقى الرسول الله وأصحابه الكرام . كيف كان ابتلاء الله لهم ، وكيف كانت مواقفهم . مجاهدة النفس وبناؤها . وحملها على ما فرض الله عليها من علم وعمل ، علم بما تريد ، وما تدعو له ، وعمل لإيجاد ذلك في واقع الحياة مع ما في ذلك من جهد ومثابرة ،ومع ما فيه من محنة وابتلاء فإعداد النفس ووضعها في مركز المسؤولية والقيادة لهذه الأمة يحتم معرفة ما تتطلبه المسؤولية وما يلزم للقيادة .

إن من أوجب ما تطلبه المسؤولية والقيادة مسؤولية مباشرة عن ألف مليون مسلم ومسؤولية مستقبلية عن العالم بكامله ، ليتحقق قوله تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143).
إن من أوجب ما تتطلبه المسؤولية هو العلم بما تريد وإلا فكيف يكون المسؤول مسؤولاً عن قوم ولا يدري ما هي مسؤوليته ؟ وكيف يمكن أن ينقاد القوم لهذا المسؤول وهو لا يدري لأي اتجاه يقودهم؟ وصدق من قال (( إن الأمة لا تعطي قيادتها لجاهل ولا جبان )) ولا يعني ذلك أن أبقى ساكتاً حتى ألم بالعلم كله بل المسألة أن أعقد العزم على معرفة ما يلزمني وما أحتاجه في مسؤوليتي والعمل بما بلغني أو عرفت فقد كان رسول الله يبلغ ما سمعه من الوحي وما أوحى له به ربه ، غير منتظر استكمال المعرفة وتمام العلم وقد استمر في الدعوة والتبليغ والتنفيذ ثلاثاً وعشرين سنة ، فقد كان يبلغ الآية أو السورة أو الحديث بمجرد فراغ الوحي منه . فقد قال عليه الصلاة والسلام (بلغوا عني ولو آية))(رواه البخاري والإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر) وقال: ((نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ))(رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن حبار في صحيحه عن ابن مسعود).

هذا من حيث الفرد وأما من حيث الكتلة فإنه ومن أوجب واجباتها كذلك أن تعي ما تريد وأن تدرك مسؤوليتها وتعرف مكانتها وإمكانية قيادتها لشبابها وللأمة بل وللعالم حين توجد في مركز المسؤولية الفعلية وهذا يحتم عليها وضع المخطط الهندسي كاملاً لما تريد لتربي شبابها على أساسه وتأخذ ثقة الأمة وقيادتها بموجبه مدركة لما يجري في العالم من حولها من وقائع وأحداث ، لتضع لها الحلول المناسبة والمعالجات الصحيحة فالأحداث والوقائع لا تتوقف . واتخاذ المواقف تجاهها أو وضع الحلول والمعالجات لها أمر لازم اقتداء لما جاء في القرآن الكريم وتنزله على الوقائع والأحداث وكشفه لما يحاك من خدع ومؤامرات وتصديه فكرياً لما يجري من أمور حتى ذاك الذي نهى صاحبه عن الصلاة نزلت الآية الزاجرة له { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16)، ولذا كان عليها أي على الكتلة أن تبدي رأيها في الأحداث والوقائع وتتخذ منها ما يجب من المواقف لا تأخذها في الله لومة لائم فلا تمالئ حاكماً ولا تتزلف إلى زعيم ولا تسكت على منكر { ودوا لو تدهن فيدهنون }القلم(9) .

هذه هي مجاهدة النفس بالعلم والصبر على المكاره مثل ما حصل مع بلال الحبشي ضرب بلال الحبشي رضوان الله عليه مرة وما أكثر ما ضرب وعذب فضاقت نفسه وذهب لرسول الله شاكياً وقال يا رسول الله لو دعوت عليهم فسكت رسول الله وسار به حتى استند إلى جدار الكعبة وقال له يا بلال إني لأرجو الله أن تسير الجارية بغنمها من اليمن إلى الفرات لا تخشى عليها إلا الله والذئب . درس يلقنه رسول الله لأصحابه للارتفاع إلى مستوى المسؤولية والقيادة . أما قوله لآل ياسر (( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ))مختصر سيرة ابن هشام ص(57) وترد سمية أم عمار بقولها كأني أراها أمامي يا رسول الله فهذا درس آخر ومن نوع آخر وهو احتمال الأذى والصبر على المكاره .

المعاناة في معاداة الولد والأهل والأقارب :
وظلم ذوي القربى أشد مضاعفة على النفس من وقع الحسام المهند

إنها سنة الله في خلقه فقد قص الله على رسوله ما حدث مع الأنبياء السابقين فهذا سيدنا نوح ابتلي بزوجته وولده { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما }التحريم(10)، وقال الله تعالى :{ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين }هود(42)، وقص قصص الأقوام وما فعلوا بأنبيائهم وقص عليه ما فعلت بنو إسرائيل وقتلهم أنبيائهم بغير حق ،{ ولن تجد لسنة الله تبديلا }فاطر(43). ورسولنا وقدوتنا ماذا لاقى من عشيرته من الابتلاء ؟ هذا عمه أبو لهب وامرأته ، وهذه قريش ومواقفها ، وهاهم العرب جميعاً يرمون عن قوس واحدة ، وهذا دعاؤه حين عودته من الطائف: (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل في غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ))(سيرة ابن هشام ج1ص420) أو كما قال .

وبنظرة بسيطة إلى صحابته الكرام ومعاداة أولادهم ، أو آبائهم أو أمهاتهم أو أقاربهم لهم خير مثال ، فهذا أبو بكر ابتلي بأبيه وابنه ، وهذا أبو عبيدة ابتلي بأبيه ، وهذا سعد ابن أبي وقاص ابتلي بأمه، وهاهم جمهرتهم يهاجرون إلى الحبشة فراراً بدينهم ، ليس لهم ناصر من أهليهم وأقاربهم إلا الله وكفى بالله وكيلا . هذا ما على الكتلة وشبابها من معاناة وصبر على مجابهة الأهل والأقارب ، وما يجب عليهم اتخاذه من مواقف ، حيال هذا الأمر ، فلا يتوقع الفرد أو الكتلة المؤازرة أو التأييد والنصرة إلا بعد الامتحان والثبات .

المعاناة والصبر تجاه الناس :

من البدهي أن يقف الناس موقف عداء وتصد لكل فكر جديد يريد أن يغير عليهم نمط عيش ألفوه ، وطراز حياة اتخذوه بالإضافة إلى تغيير كامل في العلاقات التي تربطهم بعضهم ببعض ويتكون على أساسها مجتمعهم وبنيت عليها مصالحهم ونظمهم ، وتوحدت على ذلك أحاسيسهم ومشاعرهم ولنا في رسول الله أسوة حسنة . فلم تكن دعوته للوحدانية وعبادة الله هي التي أثارت غضب قريش والعرب ، فقد كان غيره يدعو لذلك مثل جماعة الحنيفية ، كورقة بن نوفل ، والقس بن ساعدة الإيادي الذي كان يخطب في سوق عكاظ ويقول ( يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه إن لله ديناً خيراً من دينكم الذي أنتم عليه ) فلم تعاده العرب ولم تتصد له لأنه لم يتعرض إلى العلاقات القائمة بينهم ، ولا إلى مصالحهم ونمط عيشهم وحياتهم ، ولكنهم حين سمعوا من رسول الله يقول لهم: (( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )) وسمعوا منه ما جاء به من قرآن أدركوا أبعاد ذلك ، وتبين لهم أنه إنما يريد تغيير وجهة نظرهم للحياة ، وهدم ذلك الكيان ، وبناء كيان جديد على أسس جديدة ، ونظرة للحياة جديدة ، وفي هذا القضاء على مصالحهم وانتفاء زعامتهم ، وجعل الحاكمية لله أي لغيرهم .

ومن هنا كانت ثورتهم ومعاداتهم وعملهم للقضاء على هذه الدعوة ، وكانت المجابهة بين الرسول وصحبه من جهة ، والقريش والعرب من جهة ثانية ، وكان تعذيب المستضعفين أمثال بلال وعمار وياسر وسمية وعبد الله بن مسعود وغيرهم ، وكانت هجرة القادرين عليها ، أمثال جعفر وعثمان وعبد الله بن جحش وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ، وما أجمل ما وصف به رب العالمين هذه المعاناة والصبر عليها بقوله :{ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره }الأنفال(26) ، فقد بلغ الحال أن يخشى الفرد على نفسه ، وتخشى الكتلة على نفسها من أن يتخطفها الناس ويزيلوها من الوجود ، وما تحالفت عليه قريش من مقاطعة ، وحبس الرسول ومن معه ، ومن أيده في شعاب مكة ، في شعب أبي طالب إلا ضرب من ضروب المقاومة ، وأسلوب من أساليب التصدي .

وعليه ؛ فإن أية كتلة أو حزب يعمل على تغيير المجتمع ، أو تغيير العلاقات القائمة بين الناس ، وتغيير النظام الذي ينتظم تلك العلاقات ، وتغيير وجهة نظر الناس في الحياة ، وبناء مجتمع على أفكار ومشاعر جديدة ، ويسير علاقات الناس بأحكام جديدة ويمنع نظاماً ينظم العلاقات بأسس وقواعد جديدة ، ويقوم على رعاية الناس بنمط جديد ، ويوجد عندهم وجهة نظر معينة تبين لهم معنى وجودهم في الحياة .

إن أية كتلة أو حزب يقوم على هذه الأمور عليه أن يضع في حسبانه أن الإهمال والمقاطعة وقطع الأعناق ، وقطع الأرزاق ، هي بعض ما يلاقي في نضاله وعمله لإيجاد فكرته في واقع الحياة { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر(10) وهنا يأتي وصفهم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }العصر(3)، أو قوله تعالى :{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عينهم تريد زينة الحيوة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }الكهف(28).
{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }الزمر(10).

المعاناة مع النظام والحكام :

إن الهدف هو إيجاد الإسلام في واقع الحياة ، أي جعل أحكام الإسلام هي المسيرة لسلوك الفرد ، والمنظمة لعلاقات المجتمع ، وأن تكون السيادة للشرع ، وأن يحمل الإسلام للعالم حتى تقوم الحجة على الناس ، وأن يخرج الناس من الظلمات إلى النور . هذا معنى إيجاد الإسلام في واقع الحياة . وهذا يعني بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع ، وإقامة دولة تتولى تطبيق الإسلام في الداخل وحمله دعوة إلى العالم .

إن هذه العملية وإن كانت تقوم على بناء أمة ، وتغيير ما عليه المجتمع من أفكار ومشاعر ، فتبين فساد العلاقات القائمة بين الناس ، سواء منها العلاقات القائمة بين الأفراد بعضهم مع بعض ، أو العلاقات القائمة بين الناس والهيئة التنفيذية – السلطة – أو فساد العلاقات بين أجهزة الهيئة التنفيذية وصلاحية كل جهاز . إن هذه العملية وإن كانت تقوم على ذلك بالفكر فقط ، وبوضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج ، إلا أن ذلك يزعج القائمين على تنفيذ النظام ، ويثير حفيظتهم ، ويدفعهم لمحاولة القضاء على تلك الدعوة بشتى الأساليب وأقلها السجن ، لأنهم يدركون أن وجود هذه الفكرة في الأمة إنما تعني زوال ملكهم وضرب مصالحهم .

إن فرعون مضرب المثل عند الناس بالطغيان والجبروت ، لما قام به من ظلم وتجبر ولما لحق الناس منه من إذلال واستخفاف، حتى طلب من الناس عبادته { ما علمت لكم من إله غيري }القصص(38) ووصفه رب العالمين أنه كان من المفسدين ، وأنه كان طاغية إلى غير ذلك – إلا أن هذا الفرعون الطاغية الجبار قبل مقارعة الحجة بالحجة ، والبرهان بالبرهان . قال تعالى على لسان فرعون { فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى }طه(50). عند ذلك التفت فرعون إلى خاصته ومستشاريه وقال :{ إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى }طه(63)، وقال له مستشاروه { أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحَّار عليم}الشعراء(37) ، فالتفت فرعون إلى موسى وقال له : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى . قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى }طه(50) . فما أروع هذا الحوار الذي ورد في سورة طه بين موسى عليه السلام وهذا الطاغية .

سبحان الله إن هذا الفرعون الموصوف بالطغيان والجبروت يقبل بمقارعة الحجة ويقبل البرهان على مرأى ومسمع من الناس . فإن كان مثل هذا من يوصف بالظلم والجور والتعسف فبماذا نصف القائمين على رقاب الناس في هذه الأيام . الذين لا يقبلون نقد أي حكم أو قانون ، أو نظام ينظم علاقات الناس ، وما جزاء من يفعل ذلك إلا السجن والتعذيب أو القتل أو التشريد ، هذا هو الواقع الذي يتحتم على الكتلة العاملة مجابهته . وليس هناك أي طريق آخر يمكن أن يؤدي إلى بناء الأمة ، وإصلاح المجتمع وتغيير النظام ، وإيجاد الفكرة في واقع الحياة . ذلك لأن المجتمع إنما يقوم على العلاقات الدائمة بين الناس ، وانتقاد أي علاقة إنما يعني انتقاد النظام القائم ، وانتقاد النظام القائم يعني العمل على إزالته ، والعمل على إزالة النظام بنظر الحاكم جريمة ، وفاعلها بنظر القانون مجرم يستحق العقاب ، وعملية تغيير ما عليه المجتمع من علاقات تقضي بوجوب إظهار فساد العلاقات ، وفساد النظام . ولهذا وجبت المعاناة والصبر ، ولهذا كان الأجر عظيماً والثواب جزيلاً (( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم فقتله )) وهل أعظم أجراً وأجزل ثواباً من مصاحبة سيد الشهداء – حمزة بن عبد المطلب – أسد الله ، وعم رسول الله .

فكيف يجمع بين النقيضين ، فالعمل يعني إظهار الحق وإزهاق الباطل ، وهذا إنما يعني إظهار فساد العلاقات القائمة بين الناس والنظام الراعي لهذه العلاقات . سواء أكانت علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ، فالدستور والقوانين هي التي حددت هذه العلاقات وبينت كيفية تسييرها ، من السير في الشارع إلى كلمة التي يقولها ، ومن سلعة يبيعها أو بيت يستأجره أو بضاعة يستوردها أو يستوردها أو امرأة يتزوجها ، أو تركة يرثها أو مدرسة يؤمها ، أو مادة يدرسها فكلها علاقات نظمها القانون وقام الحاكم على تنفيذه . وإظهار أية مفسدة في ذلك إنما يعني إظهار مفاسد الحاكم والأجهزة القائمة على التنفيذ ، وهذه جريمة تؤدي بصاحبها إلى السجن أو القتل . وإيثار السلامة يقتضي القعود عن العمل . فكيف نوفق بين العمل والسلامة ؟ فالعمل يعني السجن والاضطهاد ، والقعود يعني الإثم وسخط رب العباد .

والله سبحانه وتعالى أمرنا بالعمل :{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وقال رسول الله : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم }(رواه البزار والطبراني في الأوسط)، ويقول : (( الساكت عن الحق شيطان أخرس))، أو كما قال . فكيف نوفق بين العمل والسجن ، بين طاعة الله والسلامة. هذا ما تقتضيه المعاناة والصبر والتواصي بالصبر . وهذا ما يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة . إما الخسران المبين ، وإما العمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وذلك هو الفوز العظيم.

ورحم الله من قال : (( والله لو لم أجد مقاومة من أهلي وأقرب الناس إلي ، ولو لم أجد مقاومة وصدوداً من الناس ، ومقاومة ومحاربة من النظم القائمة في العالم الإسلامي لشككت في الطريق الذي أسلكه لأن المقياس الثابت عندي قوله : (( لا راحة بعد اليوم يا خديجة ))، ومنهجي الوحيد طريقته التي سلكها ، وما قصه الله عليه من سير الأنبياء والمرسلين الأولين وما لاقوا من أقوامهم وأهلهم . وما أجود كلمة ورقة بن نوفل حين قال للرسول ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك فأنصرك نصراً مؤزراً . قال رسول الله : (( أو مخرجي هم يا عماه ، قال نعم ، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي )). { سنة الله في الدين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}الأحزاب(62).
قال تعالى :{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا }البقرة(143) ، وقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ….}آل عمران(110) الآية .

أية أمة هذه ؟

إنها الأمة الإسلامية بدليل ما كتبه علي بن أبي طالب وما أملاه عليه محمد رسول الله في أول دستور مكتوب موقع عليه من علية القوم . حين هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة ، فكانت أول مادة فيه هي التعريف بهذه الأمة ، حيث جاء فيها : محمد رسول الله والذين معه من المؤمنين المسلمين أمة واحدة من دون الناس . هذه هي الأمة التي جعلها الله أمة وسطا . أي خير أمة أخرجت للناس ، تحتل مركز الصدارة في العالم حتى تستطيع أن تقوم بالمهمة التي كلفت بها ، أي الشهادة على الناس ، تماماً كالمهمة التي قام بها محمد . فقد كان في مركز الصدارة في هذه الأمة فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده . وترك في هذه الأمة الأمان من الضياع والوقاية من الضلال ، فقال عليه السلام : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ))حديث صحيح رواه الحاكم برواية عن أبي هريرة رضي الله عنه.
هذه شهادة رسول الله على أمته ، وحجته عليهم فأين شهادة أمته على الناس ؟. وقد بكى رسول الله حين سمع قوله تعالى :{ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }النساء(41) . وقال للقارئ((حسبك)).

لقد تولى هذا الأمر رسول الله طيلة حياته ، حتى إذا اختار الرفيق الأعلى ، ترك هذا الأمر لأمته . فنهضت به وتولى قيادتها أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فأقام الشهادة على فارس والروم ، وسار في أثره عمر وتتابع بعده الخلفاء والأمراء حتى أقاموا الشهادة على الناس في ذلك العصر بحق . فكانوا أمة وسطا – كانوا الدولة الأولى التي تحتل مركز الصدارة في العالم ، وتقيم الحجة على الناس وتبلغ ما بدأ به . { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا }سبأ(28) . فحملت دعوة الإسلام وبلغتها إلى أمم الأرض قاطبة ، من حدود الصين شرقاً إلى مياه الأطلسي غرباً ومن تركستان وسمرقند وأذربيجان مروراً بآسيا الوسطى حتى أسوار فينا في أواسط أوروبا ، ومن جبل طارق إلى سهل بواتييه قرب باريس . واستمر الحال على هذا المنوال ما استمروا متصفين بما أمرهم الله به – يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر – فلما زاغوا ودب فيهم الوهن وابتعدوا عما أمروا به واقتربوا مما نهوا عنه ، وضعفت جذوة الإيمان في نفوسهم وساء فهمهم لمعنى وجودهم في الحياة ، ومعنى كونهم مسلمين ، كما ساء فهمهم للإسلام ، وانخفض تفكيرهم بل انحط في كثير من الأمور فانتشرت فيهم أمراض التجزئة والتخلف والانحطاط كالقومية والقبلية والوطنية والإقليمية والعصبية فدالت دولتهم وكسرت شوكتهم وهدمت دولتهم بل هدموا دولتهم ومزقوا راية مجدهم وتهافتوا على موائد الأمم يلتقطون من فتاتها ما يلم شعثهم ويقيم أودهم .

وورثنا نحن اليوم هذه التركة . والمطلوب هو { لتكونوا شهداء على الناس }البقرة(143) وهل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نوجد الإسلام في واقع الحياة ، هل نستطيع الشهادة على الناس دون أن نستأنف نحن الحياة الإسلامية دون دولة تقيم الحدود وتحمي الثغور وترعى الشؤون ، وتطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمل الإسلام إلى أمم الأرض لتقيم عليها الحجة فتحقق بذلك الشهادة عليها ، أي أنها بلغت هذه الدعوة لكافة الأمم ، وبسطت سلطان الإسلام على الأرض وأظهرت أحكامه وبينت عقائده وأفكاره فلم يبق لأحد حجة على الله ، وهي الشاهدة على ذلك .

ورثنا هذه التركة ، أكثر من ألف مليون مسلم في أكثر من خمسين دولة ليس للإسلام فيها سلطان ، بل ليس له وجود في حياة الناس العامة ، أفراد اقتصر المؤمنون منهم على العبادات والأخلاق – إلا من رحم ربي – ومجتمعات تسودها الأفكار الرأسمالية والشيوعية والآراء الانهزامية والنفاق واللامبالاة ، وتنتابها المشاعر الوطنية والقومية والعصبية الروحية ودول تحكم بالأنظمة الرأسمالية والرأسمالية المرقعة والمصيبة الكبرى أنها جميعها مسيرة بإمرة الكفار وعملائهم .

وقادة سياسيون وتكتلات سياسية على اختلاف مشاربها تتسابق وتتناحر للحصول على مكاسب رخيصة وتحقيق أهداف آنية أنانية لم تعرف للنهضة أساساً ولم تستبن لها طريقاً . لا تجد عندها إلا شعارات لأفكار عامة لم تضع لنفسها منهجاً على الأقل يبين ما تريد نقل المجتمع إليه وإنهاضه على أساسه كما أنها لم توضح طريقة لها إلا المظاهرات ورفع الشعارات وممالأة الحكام والتزلف إليهم أو معاداتهم والتصدي لهم حسب مقتضى الحال وما يتطلبه تحقيق مصلحة أو ترضية الشارع معلمين الناس أن السياسة إنما هي خداع وتضليل ونفاق وتزلف للوصول إلى الأهداف وتحقيق الآمال . والأنكى من ذلك أنهم يرون وجوب الاستعانة بالكفار لتحقيق مآربهم والوصول إلى مقاصدهم أو على الأقل لا يرون غضاضة في ذلك دون أن يعلموا أنه انتحار سياسي . هذه هي التركة التي ورثناها وهذا هو واقع الأمة التي نريد التعامل معها لإنهاضها .



النهضة صفحة 29-32


السير في طريق النهضة

قلنا : إن النهضة لا يمكن أن توجد إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها أي حتى يعرف كيف ينظم علاقاته ويحدد سلوكه ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس أو من الكائنات الحية الأخرى أو من الأشياء المادية التي يحتاجها فهو إنسان يعيش مع غيره من البشر ومع أمم أخرى من المخلوقات الأخرى على هذه الأرض في هذا الكون الشاسع فكيف يتعامل مع الناس أو مع الكائنات الحية الأخرى أو مع الأشياء لقضاء حاجاته أو إشباع رغباته إن لم يكن له وجهة نظر في هذه الحياة التي يحياها ومعرفة لهذه الحياة وموقعه منها .

ولهذا كان لا بد أن يسبق إجابته عن معنى وجوده في الحياة معرفة حقيقية لهذه الأشياء جميعها . أي أن تكون له فكرة أساسية عن الإنسان والكائنات الحية والكون ،أي لا بد أن تكون له فكرة أساسية شاملة عن هذه الأشياء جميعها .تكون هذه الفكرة الأساسية قاعدة لتفكيره ،ومنطلقاً لكل مفهوم عن هذه الحياة ومنظماً لكل سلوك أو علاقة .هذا إن أراد أن ينهض حقاً ويرتقي إلى المكانة التي كرمه الله بها .أي لمستوى إنسان فيرتفع بما حباه الله من عقل عن مكونات جسمه الحياتية أي التي شارك فيها غيره من الموجودات في التركيب العنصري أو المادي .أما إن أراد أن يخلد إلى الأرض ويلتصق بها ويعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى كالأنعام مثلاً_ فاليصم أذنيه عما يسمع وليغمض أذنيه عما يرى وليتخل عن النعمة التي اختصه الله تعالى بها أي القلب لينطبق عليه قوله تعالى :{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ،أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) أو قوله تعالى :{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان وكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث }الأعراف(176).

ولهذا : كان على مريدي النهضة أن تكون لهم فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها جميعها بما بعد الحياة الدنيا أي أن تكون لهم عقيدة عقلية تكون أساساً لتفكيرهم وتنبثق عنها كافة أنظمتهم وقوانينهم وتحدد لهم وجهة نظرهم في الحياة – أي تحدد لهم الأساس الذي يتصرفون بموجبه مع الناس والأشياء . هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن تشمل هذه القاعدة الفكرية على الأسس التي تبين كيفية تنفيذ هذه النظم والقوانين ،كما يجب أن تحتوي هذه القاعدة الفكرية على الطريقة التي تبين كيفية إيجادها في واقع الحياة، وإيصالها للناس كافة وبعبارة مختصرة أن يكون لهم مبدأ ينقادون له ويقودونه ويقودون به غيرهم من البشر وهذا يقتضي أن يكونوا هم بمجموعهم كأنهم المبدأ الحي الذي يسير في الناس فهم وثقافتهم وسلوكهم المرآة التي تنطبع عليها صورة المبدأ الذي يحملونه والفكرة التي يدعون لها . كما أن عليهم – وعملهم هو إنهاض الأمة ونقل المجتمع إلى الحالة الأفضل – أن يكونوا على معرفة بالواقع الذي يعملون فيه ، معرفة تمكنهم من وضع العلاج المناسب ، أو وصف العلاج المناسب لكل مسألة أو حادثة أو واقع من الأمراض الأساسية أو الجانبية التي تنخر جسم الأمة وتمزق المجتمع وتسمم أجواءه ولا يكفي أن تكون العقيدة وفهم أفكارها وأحكامها كل ما يعرفون أو يدعون إليه ولتفصيل ذلك نقول إن عليهم ما يلي :-

من المعروف أن حمل الدعوة الإسلامية فرض على كل مسلم فهي الرسالة المكلف بتبليغها ونشرها بين الناس (( لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )). أو كما قال وفي رواية ((خير لك مما طلعت عليه الشمس )) رواه الطبراني عن ابن رافع. وقال تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ))النحل(125) . إلا أن المسألة ليست مسألة حمل دعوة وحسب بل هي مسألة حمل دعوة من أجل غاية معينة أي بناء أمة وإنهاضها على أساس معين وإقامة دولة تجعل الإسلام موجوداً في واقع الحياة ، وبعبارة أخرى هي مسألة توعية للمسلمين لتنفيذ حكم شرعي معطل ، وهو مبايعة الخليفة (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية ))(1) أي أن يكون حمل الدعوة من أجل غاية معينة وتحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يأتي بالعمل الفردي والوعظ والإرشاد . فلا بد أن يكون هذا العمل في كتلة واستبعاد العمل الفردي من أذهان الناس .وهذا معنى وجوده في هذه الحياة أي أنه يعيش من أجل ذلك من أجل أداء هذه الرسالة وتبليغها للناس وإيجادها في واقع الحياة .

فهم المبدأ بفكرته وطريقته وأعني بذلك أخذ العقيدة أخذاً عقلياً يقينياً ومبنياً على العقل وفهم ما انبثق عن العقيدة من أحكام ومعالجات ومعرفة الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى نشرها وتبليغها للناس . كما أعني فهم ما جاءت به هذه العقيدة وما انبثق عنها من أحكام تبين كيفية المحافظة على المبدأ نفسه وكيفية تنفيذ ما جاءت به من معالجات وأحكام . ومعرفة الكيفية المحددة لنشر المبدأ نفسه وهيمنته ونشره للناس كافة . أي بسط سلطان الإسلام – المبدأ – على الناس حتى يؤمنوا به .

معرفة الكيفية- الطريقة – التي يتمكن من إيجاد المبدأ في الحياة . من نقطة ابتداء الفكرة عند شخص أو أشخاص مروراً بإيجاد تكتل يقوم على الفكرة وبناء هذا التكتل بناء فكرياً – أي تثقيف حملة هذا المبدأ وأعضاء هذا التكتل بثقافة محددة موحدة بحيث يصبح كل فرد فيه هو المبدأ نفسه هذا مع الاحتكاك بالناس ودعوتهم إليه وأخذ ثقتهم بالمبدأ وبحملة المبدأ-التفاعل- ووصولاً إلى إمكانية وضع هذه الأحكام والمعالجات موضع التنفيذ أي الحكم وبذلك يوجد المبدأ في واقع الحياة تماماً كما فعل رسول الله وهذا يقتضي التفريق بين كيفية إيصال المبدأ إلى الحياة أي إلى الحكم وبين كيفية تنفيذ أحكام المبدأ ونشره أي مباشرة الحكم بكافة أحكامه من محافظة على المبدأ أو تنفيذ للمعالجات ورعاية شؤون الناس إلى حمل هذا المبدأ للعالم بالجهاد .

وقد سار الرسول بالكيفية الأولى ابتداء من نزول الوحي إلى الهجرة وإقامة الدولة أي إلى إيجاد هذا المبدأ في واقع الحياة . ومن ثم قام بالجزء الثاني أي الجانب العملي من الطريقة فباشر تنفيذ أحكام هذا المبدأ فبنى بذلك أرقى مجتمع عرفه التاريخ وأقام نهضة لم يشهد العالم لها مثيلاً . وبذلك يجب أن تكون طريقة الرسول بجزأيها مع وضوح التفريق بينهما لوضع كل جزء في مكانه يجب أن تكون هي الطريقة التي تحمل بها الدعوة الآن .

وبالنظر في طريقة الرسول نجد أنه أوجد تكتلاً سياسياً يقوم على المبدأ أي على عقيدة واحدة وفكرة واحدة وقد كان ذلك واضحاً جلياً في كلمة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول (( لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة ولا إمارة بلا طاعة )) وهذا نفي للعمل الفردي ومنافاة للإسلام حين العمل لتحقيق هدف معين فكيف إذا كان الهدف قد حدده المبدأ وطبيعة العمل تقتضي وجود جماعة بإمارة وليس المقصود أية جماعة بأية إمارة بل المقصود جماعة سياسية وإمارة سياسية كذلك أما كونها سياسية فذلك للأمور التالية :

أ- إن الغاية التي وجدت من أجلها هذه الكتلة والفرض الذي أوجب وجودها هو تغيير المجتمع ونقله إلى الوضع الأفضل -أي إنهاض المجتمع – ولما كان المجتمع مكوناً من جماعة من الناس لهم أعراف عامة ونظام ينظم شؤونهم إلا أن هذه الأعراف وهذا النظام دون المستوى اللائق والمراد هو رفعة شأن هؤلاء الناس فلا بد من رفعة شأن أعرافهم – وأفكارهم ومشاعرهم وتغيير النظام الفاسد الذي ينتظمهم-ووضع النظام الذي يصلح شأنهم ويتفق مع ما يحملونه من عقيدة وأفكار أي تغيير هذا الكيان السياسي الفاسد وما يقوم عليه من أفكار ومشاعر ونظام ووضع كيان سياسي صالح يحل محله . ولذلك لابد أن تكون هذه الكتلة التي تعمل للنهضة كياناً فكرياً سياسياً حتى تستطيع أن تحقق غايتها وتصل إلى هدفها . لأن فاقد الشيء لا يعطيه .

ب - أما الأعمال التي على الكتلة القيام بها في عملية التغيير هذه – النهضة - فهي جميعها أعمالاً سياسية فعملية تغيير الأعراف والتقاليد والأفكار التي تتحكم في علاقات الناس تتطلب تثقيف الناس ثقافة سياسية تتناول جميع الأفكار والأحكام التي تريد أن تبني المجتمع على أساسها أي تتناول المسير للعلاقات الدائمة التي جعلت جماعة الناس مجتمعاً متميزاً سواء أكانت أفكار حكم أو اقتصاد أو اجتماع أو أمن أو تعليم أو غير ذلك انطلاقاً من قاعدتها الفكرية – العقيدة – وهذا يعني جعل العقيدة التي تعتقدها الأمة عقيدة سياسية تتناول كافة شؤونهم الحياتية وعلاقاتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية .

ج - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لفساد العلاقات والنظم والقوانين التي تنتظم هذه العلاقات وهذا يعني التعرض للهيئة التنفيذية القائمة على تنفيذ هذه النظم والقوانين وتصدي الدولة لهذه الكتلة وأعضائها أمر حتمي وهذا هو الكفاح السياسي.

د - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لما في المجتمع من أفكار مخالفة لها أولما في المجتمع من عادات وتقاليد أو مفاهيم أو كتل وأحزاب مخالفة لما هي عليه وهذا يعني الصراع الفكري بين الكتلة وغيرها من الناس من حملة مثل هذه الأفكار المغلوطة والآراء الفاسدة . وهذا كذلك عمل سياسي.

هـ - قوله ( من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم ))(2) ، أو قوله عليه الصلاة والسلام:
(( من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرمات الله ناكثاً لعهود الله حاكماً في عباد الله بغير ما أنزل الله ولم يغير عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مدخله ))(3) ، وعشرات الأحاديث التي توجب على المسلم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا أيضاً عمل سياسي .
أو قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وعلى رأس الواجب إن أول من تأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر هم ولاة الأمور أي الحكام . وهذا كذلك قمة العمل السياسي .

هذه بعض موجبات أن تكون الكتلة العاملة لإنهاض المجتمع والأمة كتلة سياسية . وجميع أعمالها وأفكارها . أعمالاً وأفكاراً سياسية .

أن تقوم هذه الكتلة بتحديد فكرتها وأهدافها تحديداً يجلو عنها كل غموض ويزيل عنها كل إبهام بالإضافة إلى حرصها على صفاء فكرتها ونقائها وذلك بربط كل فكر أو حكم أو رأي لها بدليل من الكتاب أو السنة أو مما أرشدا إليه -الكتاب والسنة – من أدلة . بحيث تبدو للعيان أنها مستنبطة مما جاء به الوحي كما تحرص على نقائها بإبعاد كل فكر أو حكم أو رأي ليس منهما - الكتاب والسنة – فتزيل ما ألحق بها في العصر الهابط أو غيره من أحكام وآراء وأفكار وقواعد وعقائد لا تمت إليها بصلة . أو بصلة واهية هذا من حيث الصفاء والنقاء . وأما من حيث تحديد أهدافها وأفكارها وأحكامها وآرائها فلا بد لها أن تحدد كيفية تسيير أعمالها بموجبها أي أن تتخذ لها قاعدة عملية ثابتة مثل (( أن يسبق كل عمل فكر وأن يكون من أجل غاية معينة وفي جو إيماني ))، أي فكر أولاً ،يتبعه عمل من أجل غاية ،في جو إيماني وهذا يعني أن يكون ما تتبناه من أفكار . أفكاراً عملية بعيدة عن الخيال والتنظير فالفكر مجرداً عن العمل خيال وتنظير وفلسفة لا جدوى منها وقد امتلأت خزائن المسلمين من مثل هذه الكتب فالمكتبة الإسلامية هي أغنى مكتبة على وجه الأرض .

لذلك لا بد أن تكون أفكارها أفكاراً عملية وتؤخذ هذه الأفكار للعمل بها إلا أن اقتران الفكر بالعمل دون تحديد غاية أو هدف من العمل هو دوران في حلقة مفرغة وقد ابتليت الأمة بمثل هذا الأمر . وهناك جمهرة من الوعاظ والمرشدين الذين يصرخون في الأمة والناس أن اتقوا الله وعودوا إلى ربكم ولم يغيروا من واقع الأمة شيئاً لأنهم يدعون بلا هدف . لذلك لا بد من تحديد الهدف من الفكر والعمل على أن يكون الهدف أو الغاية قد حددته العقيدة نفسها وأن يكون كل ذلك أي الفكر والعمل والهدف المنشود أن تكون جميعها في جو إيماني ذلك لأن صعوبة السير ووعورة الطريق وعنف المقاومة قد تضعف الاندفاع في الكتلة ولذلك لابد من اللجوء إلى الناصر المعين وهو الله سبحانه وتعالى لكي يأخذ بيدها ويثبت أقدامها وهذا لا يتأتى إلا بربط كل فكرة يقوم عليها عمل بأمر الله سبحانه – أي اقتران كل حكم بدليله وبالعقيدة سيراً على نهج القرآن في آيات الأحكام حيث تنتهي الآية بربط الأمر بالله تعالى وبالصفة التي يقتضيها الحكم . مثل قوله تعالى :{ السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم }المائدة(38) ، وهذا يعني أن توضع الفكرة والعمل والهدف وكيفية الوصول إليه والقاعدة التي تنطلق منها كمخطط هندسي قاعدته العقيدة ويحدد شكل البناء وكيفية إقامته تماماً كما يفعل المعمار . فهو حين يتخذ قراره ببناء بناية ما أي حين يحدد هدفه يضع المخطط الهندسي - الخريطة - الذي يبين له طبيعة الأرض التي يريد أن ينشئ عليها البناية ثم يبين شكل البناء الداخلي والخارجي وما فيه من أدوار وما يحتوي من أجنحة وما يحتاج من مواد وتكاليف .

وحين تحدد العقيدة وجوب إيجادها في واقع الحياة ، وتلتزم الكتلة هذا الهدف . فلا بد لها ، أي الكتلة من الوعي على هذا الهدف وعياً كاملاً ، لتنقل إلى الأمة هذا الوعي وهذا التطور ، كي ترتفع الأمة بمجموعها إليه وتعمل على تحقيقه . لا أن تتجاهل وضوحه ، أو أن تبقيه في صدور قادتها بل لابد من وضع ذلك الهدف بكلياته وجزئيا ته تحت أنظار الأمة حتى يتسنى لجميع العاملين والمؤيدين والناس أجمعين ، الذين نريد نقلهم إليه للاطلاع عليه ومعرفته ولا يجوز فيه التعتيم أو التعميم . فمثلاً حين يكون الهدف هو بناء الأمة واستئناف الحياة الإسلامية ، ولا يتأتى ذلك مطلقاً إلا بإقامة دولة إسلامية . فإن هذا قول عام فلا يكفي فلا بد أن تعي الكتلة ومعها الأمة على معنى بناء الأمة ونهضتها وذلك بتوضيح هذا المعنى وشرحه للناس ويتلخص ذلك المعنى بأن يكون للأمة قاعدة فكرية وطريقة تفكير منتجة وحين نقول : استئناف الحياة الإسلامية ، أن تبين هذا القول وما تعنيه به ، أن تعيد ثانية تحكيم الإسلام في علاقات الناس الداخلية والخارجية وأن القول باستئناف الحياة الإسلامية أي العودة إلى تطبيق الإسلام كما طبق منذ عهد الرسول إلى آخر عهد الخلافة ، فالعملية هي استئناف حياة توقفت ، وليست مسألة جديدة ، يراد إيجادها وإنما هي مسألة استئناف لحياة مضت . وحين تقول ذلك عليها أن تبين أن ذلك لا يتأتى إلا بإقامة دولة إسلامية ، ومبايعة الخليفة ، فلا بدلها من توضيح هذا الهدف ، والذي يترتب على وجوده وجود الإسلام في واقع الحياة ونهضة الأمة ، نعم لابد من وضوحه في ذهن الكتلة وتصورها ، كما لا بد من وضوحه في ذهن الأمة وتصورها ، فلابد لها إذن من تحديد معنى الدولة الإسلامية ، وما القواعد التي تقوم عليها ، وما هي أركانها ، وما هي أجهزتها ، وما هي النظم التي تنتظمها ، أي لابد لها من رسم المخطط الهندسي كاملاً بحيث لا يبقى إلا وضع الأشخاص في مراكزهم ، أي لابد أن يكون دستورها بكلياته وجزئياته واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار ، أما أن تدعو لأمر لا تعرفه . أو تطلب من الأمة انتقالها إلى واقع تجهله، وتطلب منها الثقة والتأييد ، فهذا ضرب من الخيال وزيادة في الجهل ، ومخالف لقوله تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108).

ومن المعروف بداهة أن فاقد الشيء لا يعطيه ، هذه نقطة . ومن جهة أخرى فمن المعروف أن يكون في المسألة الواحدة أكثر من رأى في معظم الأحيان ، قد تصل حد التناقض ، في الأصول والقواعد ، أو في الفروع والجزئيات ، ولذلك يقتضي أن تختار هذه الكتلة ما يلزمها من أحكام وآراء وأفكار تتبناها وتسير بموجبها ، وتعمل لتنفيذها ، حتى لا تجمع بين النقيضين . ومن المؤكد أن يؤدي عدم تحديد الفكرة إلى الاختلاف والتناقض في الرأي بين أعضائها وبالتالي قد يؤدي إلى انشطار الكتلة إلى كتل وأجنحة لا يجمع بينها إلا اسم الكتلة ، وذلك لأن كل رأي يمكن أن يتكتل عليه جماعة ويدعون له ، وبالتالي فيؤدي إلى تمزيق وحدة الجماعة . ويكفي هذا أن يكون موجباً للتبني وتحديد الفكرة والهدف وخط السير .

مثلاً : في الإسلام آراء فقهية متعددة تتعلق بشخص الخليفة ، الذي هو الركيزة الأولى التي يقوم عليها تطبيق الإسلام ، ووجوده في واقع الحياة فهناك رأي يقول ، إن أي مسلم تتوفر فيه الشروط التالية يجوز له أن يكون خليفة ويجوز للمسلمين أن يولوه أمرهم ، وهذه الشروط هي الإسلام والرجولة والعقل والبلوغ والحرية والعدالة وعلى كل شرط من هذه دليل من الكتاب والسنة ، ولا عبرة لنسبه وقوميته ومدى علمه . وهناك رأي آخر في هذه المسألة يقول: إن الخليفة يجب أن تتوفر فيه هذه الشروط الستة ، شرط أن يكون من قريش ، والدليل على ذلك قوله :(( الأئمة من قريش ))(4) . وهناك رأي ثالث يشترط بالإضافة إلى الشروط الستة بأن يكون الخليفة من آل البيت لقوله تعالى:{ إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً }الأحزاب(33) وهناك رأي رابع بوجوب أن يكون مجتهداً ، حتى لا يكون خاضعاً لرأي مجتهد غيره فلا تتوفر فيه الولاية الحقَّة فلو افترضنا أن كتلة ما لم تحدد رأيها في هذه المسألة وكان بين أعضائها ومنتسبيها ومؤيديها من يحمل هذه الآراء الأربعة. وتكتل على هذه الآراء الأربعة جمهرة من المفكرين فيها وقادتها وكل منهم يرى أن رأيه هو الصواب ، فلا يجوز له أن يتنازل عنه لغيره . فإذا وصلت هذه الكتلة إلى الحكم وتنفيذ ما عندها من أحكام وأفكار وآراء ، فأي رأي تأخذ ؟ ومن المؤكد أن كل صاحب رأي سيحاول فرض رأيه ومقاومة الرأي الآخر .وماذا ستكون النتيجة ؟ انشطار الكتلة واختلافها ، إن لم يكن الاقتتال . ولهذا وللحكم الشرعي القائل (( أن حكم الله الواحد للشخص الواحد لا يتعدد )) والكتلة شخصية معنوية حكمها حكم الشخص الواحد فيما هو من صلاحيتها . فلا يجوز مطلقاً أن تتعدد فيها الأحكام والآراء والأفكار والمعتقدات ، وكان تبني ما يلزمها من أفكار وأحكام ومعتقدات هو الصورة الحقيقية لها وهي بمثابة الروح لها ، وعليها يتوقف وجودها حية وبها تأخذ ثقة الناس على بصيرة وتتغير أفكارهم وآراؤهم تبعاً لها ، وبذلك تستطيع أن تكون لها رأياً عاماً تبني عليه أعراف الناس وتقاليدهم ، التي هي الدعامة الأساسية من مقومات المجتمع .

أن تتعامل مع الأفكار الفاسدة والعادات السيئة الموجودة في المجتمع لإزالتها ووضع البديل لها . وهذا يقتضي معرفة ما في المجتمع من أفكار فاسدة وآراء خاطئة وعقائد باطلة حتى تتمكن من دحضها وإظهار فسادها وكشف زيفها وبطلانها ، ولا يصح التعميم في ذلك والقول ( الكفر ملة واحدة )- على صدق هذا القول – بل لابد من مناقشة كل فكرة أو رأي أو معتقد مناقشة فكرية تبين خطأه وتكشف عواره ، نعم إن الكفر ملة واحدة وهذه حقيقة ثابتة وتقرير واقع ، فالدين لا يتجزأ فإما إسلام وإما كفر وليس هناك بين بين . لكن المسألة هنا ليست من أجل تقرير حقيقة ، بل من حيث إزالة الفساد والخطأ والبطلان ، ببيان ذلك وإقامة الحجة عليه بالدليل والبرهان وبنظرة دقيقة في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، بنظرة فيه ، أنه تعامل مع فئات الكفر الموجودة جملة وتفصيلاً فقد تعامل مع كل فئة بما تقول وتدعي ، وبما تؤمن وتعتقد فكانت تنزل الآيات الكريمة لإثبات بطلان تلك الأقوال والمعتقدات ، وإقامة الحجة بالدليل القاطع على الحقيقة المراد إظهارها ، حتى يكون إيمان من يؤمن عن عقل وبينة .

ولم يكتف القرآن الكريم بإظهار عقيدة الإسلام وبيان ما احتوت عليه من حقائق وبراهين ساطعة ، وترك للناس التفكير في ذلك بل ضرب على الأوتار الحساسة المثيرة لهم فهاجم معتقداتهم وسفه أحلامهم وبين غباءهم وجمودهم. وخاطبت آياته كل فئة بما عندها من أفكار ومعتقدات فخاطبت مشركي العرب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومن لف لفهم من عبدة الأوثان ، فهاجمت عبادة الأصنام والوثنية هجوماً لا هوادة فيه ، وعابت على معتقدي ذلك ، وبينت تفاهتهم ، من حيث عدم استعمالهم عقولهم ، ليروا أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع .

ولذلك وصفهم بأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) وهل هناك استفزاز وضرب على أوتار حساسة . كما ناقش كل فكرة من أفكارهم سواء من أنكر وجود الله ، أو من اتخذ إلهه هواه أو من عبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى ، ثم بين لهم عبادة الأصنام منذ سالف الزمن فذكر أصنام قوم إبراهيم عليه السلام وكيف حطمها فلم تملك قوة الدفاع عن نفسها كما ذكر أصنام قوم نوح بأسمائها { وقالوا لا تذرون آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا }نوح(23) كما ذكر أسماء بعض آلهة قريش { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }النجم(19) كما ناقش ألوهية من يدعي الألوهية بمثل ضربه عن حوار إبراهيم مع النمرود ، بقوله تعالى :{ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}البقرة(258) أو مناقشة موسى مع فرعون ، وهكذا فإنه لم يقتصر على فئة دون أخرى ولم يجملهم جملة واحدة ولم يكتفي بشرح فكرته وعقيدته وما يريده من الناس.

كما إنه أي القرآن الكريم لم يقتصر في هجومه على الأديان والمعتقدات ، بل تعداها لما كانوا يقولون ، أو ما كانوا يقومون به من أعمال والعلاقات التي تنتظم حياتهم ففي الوقت الذي يهاجم فيه الأديان كان يهاجم الأفعال ومل يتحلون به من صفات فقد نجد في سورة قصيرة ما يشمل كل هذا . مثل قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون }الماعون ، وكما في قوله تعالى :{ ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين }المطففين(1).

وليقرأ كل منا القرآن الكريم ليتدبر الآيات والسور المكية كيف تناولت المجتمع بما فيه من عقائد وعادات وأعمال كانت تصدر عن العرب المشركين ، بالإضافة إلى لفت النظر ، وتركيز عقيدة الإسلام بالحجة والبرهان ، بأن الله خالق كل شيء ، وأنه منزل هذا القرآن وأنه لا إله إلا هو أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وأن يوم القيامة لا ريب فيه .

ولنتدبر كيف تناولت تلك السور والآيات صنفاً آخر من الكفار هم أهل الكتاب ، فكانت تجمل بينهم وبين مشركي العرب حين يقتضي الإجمال { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة }البينة(1) ، وكقوله تعالى : { وما جعلنا من أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا }المدثر(31) ولكنه يمزج بين اليهود والنصارى ويخاطبهم { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء }آل عمران(64) ، ولكنه يفرد لكل منهما نوعاً خاصاً من المناقشة . وإقامة الدليل على بطلان ما يقول هذا الطرف أو ذاك . فهو يناقش بني إسرائيل ويخاطبهم يا بني إسرائيل حين يكون الأمر متعلقاً بما تدعيه اليهود ويناقشهم في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم وماذا أحدثوا في دينهم ، وما غيروا في كتبهم وما قتلوا من أنبياء الله ظلماً وعدواناً وما طلبوا من أنبيائهم وما امتحنوا به ، حتى ذكرهم القرآن في أكثر من سبع وعشرين سورة ،وفي مواضع مختلفة .

وحين كان يخاطب النصارى منفردين كذلك كان يتناول ما أحدثوا في دينهم ، وما بدلوا من عقائدهم سواء من قال منهم { إن الله ثالث ثلاثة }المائدة(73) ، أو من قال { إن الله هو المسيح بن مريم }المائدة(17) أو الذين قالوا إن المسيح هو ابن الله ويذكرهم بما جاءهم به ليقيم الحجة عليهم ويسرد لهم قصة ولادة عيسى عليه السلام في سورة مريم ، أو في سورة آل عمران مع قصة ذكريا ، ويحيى ومريم في دقة متناهية لا يعرفها إلا من كان له إطلاع عليها ، ومما كان الكثير من العرب إن لم يكن كلهم يجهلونه { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك }هود(49) كما بين أقوال اليهود في عيسى بن مريم ، وما قالوا في النصارى وكذلك ما قال النصارى في اليهود { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }البقرة(113) فلم يترك شيئاً إلا بينه لهم لدحض حجتهم ، وتسفيه أحلامهم ثم يذكر كل منهم على حده ، بأن رسول الله محمد قد ذكر في كتاب كل منهم {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار }الفتح(29) .

ولم يقف عند حد ما هو موجود عندهم ، بل تعداه إلى ما يجري بينهم من حوار وما يتفوهون به من أقوال ، وما يقومون به من أعمال وما يحوكون من مؤامرات . حين ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهودياً ، وادعت النصارى أن إبراهيم كان نصرانياً بين بعبارة قصيرة سخف ما ذهبوا إليه فقال :{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً }آل عمران(67) وقال :{وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده }آل عمران(65) . أي إن الديانة اليهودية والنصرانية كانتا بعد إبراهيم فكيف يتبع السابق اللاحق . إنه منتهى السخف . كما بين لهم بعض ما يقومون به من أعمال كقتلهم الأنبياء وأكلهم الربا ، والسحت وقد نهوا عنه كما بين تآمرهم على المسلمين. إذ قالوا لجماعتهم آمنوا أول النهار واكفروا آخره ليشككوا المسلمين في صدق نبوة سيدنا محمد ، إلى غير ذلك .

ولما وجدت فئة جديدة لم تكن موجودة قبلاً في مجتمعه ، تناولها بالكشف وبيان ما بيتت في نفوسها. فأفرد لهم سورة سميت باسمهم (( المنافقون )) بالإضافة إلى ذكرهم وصفاتهم وما يبيتون من أمور في مواطن كثيرة وفي سور متعددة . ففي مطلع سورة البقرة مثلاً ، ذكر المؤمنين بأربع آيات وذكر الكفار بآيتين وذكر المنافقين بثلاث عشرة آية ، كما ذكر بناءهم مسجداً ضراراً ، وما أرادوا به من كيد فحرق عليهم رسول الله ذلك المسجد ، حتى إن أحدهم لو قال كلمة فضحه الله بها ، كالذي قال { ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }التوبة(49)، أو قولهم : {لولا يعذبنا الله بما نقول }المجادلة(8) . إلى غير ذلك من الأمور التي تناولها القرآن الكريم ، كشد أزر رسول الله والمؤمنين بذكر سير الأنبياء السابقين ، وما لقوا من أقوالهم .

من هذه التبصرة القصيرة يجب على فئة تدعي أنها تعمل لإنهاض الأمة ، ورفعة شأنها أن تسير بنفس الطريق التي سارها رسول الله ، فتخوض صراعاً فكرياً مع ما في المجتمع من أفكار مغايرة ، ولا يمكنها ذلك قطعاً إلا إذا كان لديها المعرفة الكاملة لهذه الأفكار والمعتقدات ، حتى تتمكن من إثبات بطلانها ، وفساد آرائها ولا يجوز أن تكتفي بطرح ما عندها على الناس لأن في هذا مخالفة لطريق رسول الله وطريقة القرآن الكريم في الصراع الفكري ، وقرع بالحجة والبرهان بالبرهان .

نزل القرآن الكريم على رسولنا منجماً على فترة دامت ثلاثاً وعشرين سنة ولم ينزل جملة واحدة وإنما كان بحسب الظروف والوقائع والأحوال ، ومن هنا كان الواجب على كل فئة تعمل لإنهاض الأمة أن تتعايش مع الأحداث والوقائع والأحوال ، حتى تستطيع أن تعطي رأي الإسلام في كل مسألة أو حادثة أو حالة ، وتتبع الوقائع والأحداث يقتضي معرفة الواقع أو الحادثة معرفة تمكنه من الإحاطة بما يكتنفها من ظروف وأحوال وما يتعلق بها من أسباب وعلل ، حتى يكون الرأي أو الحكم عليها صواباً أو قريباً من الصواب .

وهذا يقتضي معرفة واقع مجتمعنا أولاً ثم معرفة القوى المتصارعة فيه ، والدول المتنافسة على خيراته ، وبسط هيمنتها ونفوذها عليه، ولنا بقصة أبي بكر رضي الله عنه ومراهنته كفار مكة على نتائج الحرب بين الفرس والروم وتدخل القرآن في ذلك خير دليل على وجوب تتبع الوقائع والأحداث ، فهي تبين أن رسول الله ومن معه كانوا كتلة سياسية تعي واقعها وتعرف مجتمعها كما تعي ما يحيط بها . فهذا أبو بكر يراهن كفار مكة على واقع عسكري وسياسي ، بين أكبر دولتين في العالم في ذلك العصر ، الفرس والروم وتأييد الباري عز وجل لمثل هذا الحوار . بسم الله الرحمن الرحيم { ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله }الروم(1) هذا في الصراع الدولي والسياسة الخارجية .

وأما في الوضع الداخلي فما أروع كشف الواقعة التي اجتمع عليها كفار مكة لمناقشتها ويتدبروا أمرهم فيها ، ويرسموا لذلك خطة عمل . وكان الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد ، فحين اجتمع كفار مكة في دار الندوة يتشاورون بشأن رسول الله ودعوته ، وماذا يقولون عنه ، وبماذا يجيبون الأعراب الوافدة إلى السوق ، سوق عكاظ . وقد تزعم المجتمعين الوليد بن المغيرة سيد بني مخزوم ، أو سيد مكة فقالوا يا أبا الوليد ، ماذا نقول للناس ؟ فقال : قولوا حتى أسمع فكانوا يدلون بآرائهم ، والوليد يردها لعدم مطابقتها للواقع . فلما أعياهم الأمر قالوا : قل أنت إذن ، فقطب حاجبيه وعقد ما بين عينيه ، وأخذ يحك دماغه ، ويذرع النادي ذهاباً وإياباً ، حتى توصل إلى كلمة مضللة بليغة ، فقال نقول عنه إنه ساحر بيان ، يقول قولاً يفرق فيه بين المرء وأهله .

وإذ بالوحي يخبر رسول الله بما يدبر هؤلاء ، فينزل فيهم قرآناً يكشف ذلك التآمر ويفضح ما جرى فيه بوصف دقيق رائع ، قال تعالى :{ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن يزيد ، كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ، سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ، ثم نظر ، ثم عبس وبسر ، ثم أدبر واستكبر ، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، إن هذا إلا قول البشر ، سأصليه صقر}المدثر(26).

هذا ما يجب أن يكون عليه الوعي على الأحداث والوقائع حتى نستطيع أن نعطي حكم الله فيها، أو أن نوضح للأمة ما يجري فيها من أحداث ، أو ما يحاك لها من مؤامرات ، وما يوضع في سبيل الدعوة من عقبات ، قد تكون من أبناء الأمة نفسها أو من أعدائها بيد أبنائها ، أو من أعدائها .

قلنا إن مقومات المجتمع هي العرف العام والنظام . وكما يجب أن تتعامل الكتلة مع الأفكار الفاسدة ، والأحداث الجارية لبيان فسادها وإظهار بطلانها ، وإبعادها عن حياة الناس وتفكيرهم، أن تعمل لإيجاد فكرتها في المجتمع لتكوين رأي عام عليها ، يتكون بموجبه العرف العام . هذا ما يجب أن تتعامل به . كما إنه يجب عليها أن تتعامل مع الركيزة الثانية من مقومات المجتمع وأعني بذلك النظام القائم المتحكم بعلاقات الناس ورعاية شؤونهم ، وإظهار فساده وزيف معالجاته ، وسوء رعايته لشؤون الناس ومخالفته لعقيدتهم وما جاءت به من أحكام . وتحطيم الأسس التي يقوم عليها ذلك النظام . مع طرح البديل وإقامة الدليل على صدقه وصلاحه . وتضع الخط المستقيم أمام الخط الأعوج حتى يفقد الناس ثقتهم بالنظام وتأييدهم للقائمين على تنفيذه . هذا من جهة ومن جهة أخرى أن تتولى الكتلة كشف واقع هؤلاء النواطير الذين أقامهم الكافر على رقاب الناس حماة لمصالحه ومنفذين لنظامه ، وناشرين لثقافته ، حتى تثبت للناس خيانتهم لأمتهم، وعمالتهم لعدوها ، فينفضوا عنهم بل ويساعدوا الكتلة على الإطاحة بهم وإبعادهم عن الحكم وهذا ما نعنيه بالكفاح السياسي وذلك اقتداء برسول الله ، وتطبيقاً للطريقة التي استعملها القرآن في هذا المجال.

وفي الوقت الذي كان يبين فساد النظام كان يبين فساد الحكام وطغيانهم وجبروتهم ومنهم من هاجمه باسمه ، ومنهم من هاجمه بصفته ومنهم من هاجمه بكلمة قالها ، أو عمل قام به ، فقد قال تعالى فيمن ذكرهم بالاسم { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد }المسد . بالرغم من شرفه ومكانته في بني هاشم وقريش ، ولم يكن هذا بأقل مما قاله في سيد مكة سيد بني مخزوم وأعني الوليد بن المغيرة { ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدوداً } إلى أن يقول { سأصليه صقر }المدثر(26). ويقول فيه في سورة ن والقلم وما يسطرون { عتل بعد ذلك زنيم …. سنسمه على الخرطوم }القلم(16) كما قال في الأخنس بن شريق { كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة }العلق(16) . وكما يقول في غيرهم :{ أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى }القيامة(34) ومن هنا كان الكفاح السياسي وأعني به مهاجمة النظام وبيان فساده ومهاجمة الحكام وإظهار خيانتهم وكشف مخططات سادتهم كان هذا الكفاح السياسي من أهم الأعمال التي يجب على الكتلة القيام به ، لأنه هو الطريق الذي سار به سيدنا محمد ، والذي أرشده إليه ربه جل وعلا . والذي أمرنا باتباعه حيث يقول تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين }يوسف(108) .

إذن الطريق الموصلة إلى الأهداف المنشودة – دعوة إلى الله على بصيرة بالفكرة تبين أفكارها وأحكامها ونظمها وقوانينها وما جاءت به من أفكار ومعتقدات . وبصيرة بالطريق بحيث يعرف بكل خطوة يخطوها ، ويعرف الكيفية التي ينفذ بها الفكرة وأحكامها ، وبصيرة بالواقع الذي يعمل فيه لتغييره ، بحيث يحيط علماً بما في هذا الواقع من عقائد وأفكار ونظم ، وما فيه من أعراف وتقاليد ، حتى يعرف كيف يقتلعها من النفوس ، ويغرس بدلها ما جاء به من عقائد وأفكار وأحكام .


ـــــــــــــ
(1) رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر ورواه الطبراني (مجمع الزوائد ج5 ص218) عن معاوية. وفي روايه (( من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية )).

(2) رواه الحاكم عن ابن مسعود ورواه البيهقي في شعب الإمام ورواه الطبراني وأبو نعيم .

(3) رواه الطبراني في التاريخ وابن الأثير في الكامل وغيرهما عن الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما.

(4) حديث صحيح ، رواه البخاري في ( كتاب الأحكام ) عن معاوية أنه سمع رسول الله يقول : ( إن هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ). ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بنص أن رسول الله قال : ( الناس تبع لقريش في هذا الشيء مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم ). والنص الوارد في هذه الصفحة رواه أبو داوود في مسنده عن أنس ورواه الترمذي عن عمر بن العاص والإمام أحمد عن أنس بن مالك .


النهضة صفحة 25-28


الاستعمار

الاستعمار هو طريقة المبدأ الرأسمالي في الانتشار ،وإيجاده في واقع الحياة وهو يعني بسط الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية ، وكما هو طريقة في نشر المبدأ وإيجاده في واقع الحياة فقد اتخذ كذلك وسيلة لنهب خيرات البلاد وسلب ثرواتها وامتصاص دماء أبنائها . هذه هي الطريقة الأساسية في نشر المبدأ الرأسمالي وهي نفس الطريقة التي سار عليها في نشر مبدئه في العالم الإسلامي . فجيش الجيوش وعقد الأحلاف وسخر العملاء والطامعين من أبناء الأمة وأعلنها حرباً أسموها الحرب العالمية الأولى . فقد أجمعت دول الكفر قاطبة باستثناء ألمانيا على هدم الخلافة وإزالة سلطان المسلمين . ولما تم له ذلك بسط هيمنته العسكرية على أقطار المسلمين فمزقها أولاً حتى تفقد قواها حين تدرك خطورة ما حصل وفظاعة ما أعانت عليه أو سكتت عنه ثم عمد إلى بسط هيمنته السياسية فأقام عملاءه وأعوانه حكاماً على رقاب المسلمين يأتمرون بأمره وينفذون ما يشاء من سياسة .ووضع يده على مقدرات البلاد وخيراتها وفرض النظام الاقتصادي الذي يريد ووقع هؤلاء العملاء معه الاتفاقيات الاقتصادية التي تمكنه من الحصول على الثروة مثل اتفاقيات النفط المزرية . وسار في بسط هيمنته الفكرية والثقافية وكلف نواطيره بتنفيذ ما يريد حتى يتم له بناء المجتمع وترسيخ المبدأ فيه على عين بصيرة بالشكل الذي يريد والقدر الذي يريد .

ولما كانت الثقافة هي صاحبة الأثر الأكبر على الفكر الإنساني ،والذي يؤثر على مجرى الحياة عمد إلى فرض ثقافته على الناس فوضع مناهج التعليم والثقافة على أساس فلسفته– فصل الدين عن الحياة- والتي هي وجهة نظره في الحياة . وللإسراع في تركيزها أو سرعة انتشارها قام بإنشاء المدارس والمعاهد العلمية في كل مدينة أو قرية . ساعده في ذلك خلو معظم المدن والقرى من المدارس . نتيجة لسوء تصرف القائمين على رعاية شؤون المجتمع في العصر الهابط مما جعل الناس يرتاحون بعض الشيء لمثل هذا العمل وغاب عنهم ما يخفي وراءه .

وقد فرض على هذه المدارس والمعاهد مناهج أعدها هو ، وألزم المدارس والمعاهد بها ولم يسمح بجزئية واحدة أن تخرج عما وضع من مناهج وفرض من برامج . وبنظرة بسيطة إلى ما وضع من مناهج ثقافية نرى مثلاً مادة الدين؛ فالاستعمار لم يمنع تدريس الدين الإسلامي بل على العكس جعله مادة أساسية في جميع المدارس ولكن بالكيفية التي يريد فالدين لا دخل له بالسياسة وشؤون الحياة وإنما هو شأن من شؤون الآخرة وعلاقة العباد بربهم . فالمنهج يقتصر على العقائد والعبادات والأخلاق . ولا يجوز أن يتدخل هذا المنهج في نظام الحكم أو النظام الاقتصادي أو الواقع السياسي ، فالدين مفصول عن السياسة مبعد عن الدولة (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) وتدخله في الحكم والسياسة يثير الفتن والحروب! ويجلب المصائب والويلات! فأوروبا عانت من تدخل الدين بالسياسة وجرها إلى حروب دامت مئات السنين فلم تنهض ولم ترتق إلا بعد أن أبعدت الدين عن السياسة والدولة . هذا ما يجب أن يسير عليه منهج مادة الدين وعلى القائمين في وضع التفصيلات للمنهج أن يلتزموا هذه القاعدة .هذا ما فرضه على الناس .

أما مادة التاريخ ، فالقاعدة الأساسية فيها جعل تاريخ أوروبا هو المثل الذي يحتذى وشخصية الغرب هي المثل الأعلى الذي يجب أن تقلد ولكم في الغرب أسوة حسنة –وتشير الإصبع إلى واقع تلك البلاد الراقية الناهضة . فالقاعدة الأساسية في مادة التاريخ نقطتان الأولى : الصورة المشرقة لأوروبا ونهضتها وتاريخها وشخصيات رجالها ومفكريها . وأما الثانية فتاريخ الأمة الإسلامية : كما كتبه المستشرقين أمثال فيليب حتي أو غيره من المستشرقين فما تركوا فتنة حدثت أو خلافاً وقع أو صراعاً على حكم إلا أبرزوه في قالب جعل الشباب المسلم يخجل من تاريخه ويتصور معركة الجمل ومعركة صفين ومعركة مرج دابق وغيرها وتنافس الخلفاء واغتيال عثمان واغتيال عمر واغتيال علي وما إلى ذلك من أمور صورت بقالب جعل المسلم يأنف حتى من سماعها ، وأصبح لا يرى من تاريخه إلا تلك الصورة القاتمة التي وضعوها أمامه .

وأما مادة اللغة العربية فقد غلفوها بالقالب القومي بحيث يتأتى لهم نشر المشاعر القومية والاعتزاز بالعرب والعروبة والتغني بأمجادها وألفت الكتب ودبجت المقالات ونظمت الأشعار في هذا المضمار حتى باتوا لجهلهم يرون أن للعرب والعروبة فضلاً على الإسلام فلولا ذلك ما انتشر الإسلام ولا وجد في الحياة .

هذه بعض المواد الأساسية في المنهاج الثقافي وهي المواد التي تؤثر في تكييف عقلية الفرد وبناء شخصيته زد على ذلك من عينوهم لتنفيذ هذه المواد والإشراف عليها وتدريسها مما جعل الطلاب يكرهون الدين لشخصية المدرس وتصرفاته ، وطلاب اللغة العربية خرجوا بل أنهوا مناهجهم فتخرجوا أعاجم فجمعوا بين الأمرين :فساد المنهج وفساد القائمين عليه . إلى غير ذلك مما أدى إلى النتائج التالية: وهي ما نعني بأثر الاحتلال الغربي على أفكار المجتمع والرأي العام فيه :

1 - وجود جمهرة من المثقفين بثقافته المؤمنين بعقيدته العاملين بحسب وجهة نظره وفلسفته .
2 - استبعاد عودة الإسلام لواقع الحياة وإعادة سلطان المسلمين واعتبار الدعوة لذلك ضرباً من الخيال أو نوعاً من الجنون واعتبار الدعوة إلى الإسلام رجعية وتخلفاً .
3 - تركيز الفكر القومي أو الإقليمي ونشر الحقد والبغضاء بين أبناء الأمة الواحدة .
4- تسليط الأضواء على الديمقراطية وجعلها الهدف المنشود والغاية التي يعمل لتحقيقها .
5 – نشر أفكار الحرية والحريات العامة –حرية عدالة مساواة .
6 - انتشار أفكار الاشتراكية بأنواعها وما أضيفت إليها من معان وتفسيرات .
7 - وإرضاء للمسلمين وتضليلاً لهم ركزوا وجهة نظرهم في فهم المجتمع على أنه مكون من أفراد فانتشرت بين المسلمين الدعوة إلى الرجوع إلى الله بإصلاح الفرد نفسه ، (( أصلح الفرد يصلح المجتمع))!. والتقرب إلى الله بالعبادة والطاعة وبالأخلاق الحميدة وأقيمت على هذا الأساس العديد من الجمعيات الخيرية الدينية والأخلاقية وغير ذلك .
8 - تحريم العمل السياسي على المسلم ، باعتبار السياسة دجلاً ونفاقاً والإسلام استقامة ووضوح فلا يلتقي الإسلام بالسياسة . وأبعدوا عن أذهان المسلمين أن السياسة هي رعاية شؤون الناس داخلياً وخارجياً .
9 - الاعتماد على الأجنبي في الوصول إلى الأهداف وتحقيق النتائج .

هذا بالإضافة إلى انتشار الأفكار الانهزامية ، والآراء المنحطة من مثل قولهم تضليلاً .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم }المائدة(105) اللامبالاة للحياة العامة .
(( اليد التي لا تقدر عليها بوسها (أي قبلها ) وادع عليها بالكسر ) مسح جوخ ونفاق !.
(( الشهر الذي ليس لك فيه أجر لا تعد أيامه )). اللامبالاة في الحياة العامة .
(( الكف لا يلاطم مخرز )) انهزام وجبن .
(( لا يحل للمسلم أن يذل نفسه ومجابهة الحاكم إذلال )). فهذا حرام –تحريم العمل السياسي .
(( أقبل الكلب من فمه حتى آخذ حاجتي منه )). نفاق .
(( الرضا بالأمر الواقع إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون )). واقعية خانعة .
(( خذ وطالب )) . حلول جزئية .
قاعدة (( الحل الأوسط )).أسلوب الغرب في حل مشاكله بناء على عقيدته .

إلى غير ذلك من الآراء والأفكار التي تسمم بها المجتمع وتشربت بها عقول الناس حتى أخذت مقاييس لأفعالهم وقواعد لتفكيرهم وصار على مريدي النهضة أن يعملوا على إزالة هذه الآثار وغسل هذه الأدمغة وإبعاد هذه الأدران حتى يعود للأمة نقاؤها ويتم بناء عقليتها على أسس مبدئية صحيحة .

أما أثر الاحتلال على مشاعر الجماعة – أي المجتمع –
لقد استطاع أن يغرس بذرة القومية والإقليمية والعنصرية والقبلية والعشائرية والمذهبية والطائفية فوجد تربة خصبة سرعان ما نمت وترعرعت فاشتعلت النفوس بالعداوة والبغضاء . فكانت الأداة التي استطاع من خلالها الهيمنة على الجميع فكان يغذي كافة الأطراف انطلاقاً من قاعدته المشهورة (فرق تسد ) .وأصبحت الأمة أمماً شتى والشعب الواحد شعوباً والمجتمع الواحد مجتمعات صاغها على هواه وصارت أحاسيس الناس ومشاعرهم لا تثور إلا ضمن الخط الذي رسمه لها .

هذا من جهة ومن جهة ثانية حين جعل شخصيته -أي شخصية المستعمر – هي الشخصية المثالية في نفوس الناس وبلاده وتاريخها هي الصورة التي يتطلع إليها الناس بإكبار وإجلال حتى بلغ الحال بالمثقفين بثقافته المعتقدين بعقيدته السائرين في ركابه والمضبوعين بأفكاره أصبح هؤلاء أغراباً في مجتمعهم يزدرون أهلهم ويحتقرون أمتهم ويخجلون من تاريخهم .

وعند هذه العبارة أذكر قصة حصلت مع أحد الوفود - المثقفين جداً – الذين زاروا الصين فاستقبلتهم استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ونزلوا في ضيافتهم بالحفاوة والتكريم . وزيادة في إكرامهم تخطوا معهم حدود الرسميات فآنسوهم في أمسياتهم . وفي إحدى الأمسيات كان وزير خارجية الصين يجلس معهم مرحباً ومجاملاً فحدثهم عن البطل الأسطوري الذي لم يتجاوز سنه العشرين ذلك القائد المسلم الذي اجتاز الهند فاتحاً حتى وصل إلى حدود الصين وذكر ما جرى من حوار بين ملك الصين والقائد الشاب وحين قال القائد الشاب محمد بن القاسم إن أميرنا أقسم أن يطأ تراب الصين بقدميه قال له ملك الصين تحمل له معك تحياتي وما خف حمله وغلا ثمنه هدايا مع كيس من تراب ينثره تحت قدميه فيدوس عليه ليبر بقسمه هذا ما رواه المسؤول الصيني الكبير إلا أن الوفد المثقف المحترم وارى وجهه خجلاً من هذه القصة . وبدأ يهاجم همجية محمد بن القاسم وعمله البربري الاستعماري ولماذا يهاجم الصين وما له وللصين ؟ ولم خرج العرب من الجزيرة ؟! إنها عقلية الاستعمار وعنجهيته وأسلوبه . هذا ما تفوه به الوفد المثقف المحترم فغضب المسؤول الصيني غضباً شديداً وانتفض قائماً . وقال مخاطباً الوفد ببغض وازدراء مشيراً إلى رئيس الوفد المحترم الذي كان يستنكر أعمال محمد بن القاسم وقال له اسمع يا هذا : إن أمة تخجل من تاريخها لا تستحق الحياة . وتركهم هو وجماعته وخرج وأخرجوا في اليوم التالي من الصين هذا ما رواه أحد الحضور الذي كان بمنزلة سفير ممثلاً لبلاده هناك . هذه هي المشاعر التي تركها في نفوس الناس .

وأما أثر الاحتلال على النظام- فالنظام يتمثل بالدستور والقوانين والهيئة التنفيذية القائمة على تطبيقه على الناس . أي الحاكم أما الحاكم فان قبعة الكافر لم تختف من الشارع المسلم إلا بعد أن اطمأن لوجود الناطور الذي يحمي له مزرعته أي إن الكافر لم يدع الحكم لعملائه من أبناء المسلمين إلا بعد أن تأكد أنهم خير من يحفظ له وجوده ويؤمن له مصالحه وينفذ له سياسته . وأنهم خير سائس يروض الناس ويكيفهم حسب وجهة نظر الغرب وثقافتهم وخير من ينقل المجتمع برمته إلى المجتمع الرأسمالي نظماً وأفكاراً ومشاعر .

نقل العقائد والشرائع والقرى والناس نقل كتائب بالساح

وقد جعل الأساس للعمل السياسي في البلد هو الصراع على الحكم ،بين مجموعة من عملائه لا يتغير الحكم ،بل لتغيير الحاكم واستبداله .وخير دليل على ذلك ما شهدناه في السنوات الماضية من صراعات سياسية،وثورات ، وانقلابات لم تخرج واحدة منها عن محاولة تغير الحاكم ،فنجح الكثير منها في تغيير الحاكم وبقي النظام كما هو بل إن النظم ومعظم القوانين التي سنها منذ الاحتلال حتى الآن لم يتغير منها شيء إلا في بعض الجزئيات التي لم تخرج عن القواعد الأساسية ،والخط العريض ، بالرغم من تغيير الحكام عدة مرات .

وما زلنا نرى ما في المجتمع من تكتلات وأحزاب سياسية تخوض في صراعات سياسية عنيفة تصل في كثير من الأحيان إلى الصراع الدموي ونرى ما وضعت من مناهج وثقافة إن وجدت فلا تخرج واحدة منها من تزيين برامجها أو مناهجها بكلمات الديمقراطية والحرية والاشتراكية والجمهورية والتقدمية وغير ذلك من الألفاظ التي يتزلفون بها إلى آلهتهم، ويتقربون بها ظناً منهم إلى قلوب الناس .إن أي نظام يفرض على الناس فرضاً ومخالفاً لعقيدتهم أو مناقضاً لأفكارهم ومشاعرهم من البديهي أن يجابه بسخط الناس وكراهيتهم ومقاومتهم إن استطاعوا ولذلك فلا بد من استعمال سياسة الجزرة والعصا .

فكانت سياسة القمع والاضطهاد وكانت الأحكام العسكرية وحكم المخابرات وتأمين المصالح والحصول على الوكالات التجارية والمنح والقروض وإجازات الاستيراد. فالعصاة بيد والجزرة باليد الأخرى ومما زاد الطين بلة ،تصارع دول الكفر على البلاد وتنافسها على بسط سلطانها واتساع نفوذها وتحقيق مصالحها. فأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية قررت الخروج من عزلتها بعد أن تحملت القسط الأكبر من أعباء الحربين ورأت أنها هي التي حققت النصر فيها لذلك اعتبرت نفسها الوريث الشرعي للاستعمار البريطاني والفرنسي بل والغربي بكامله الذي كان يهيمن على العالم الإسلامي قبل الحرب . إلا أن بريطانية وفرنسة قررتا التشبث بوجودهما والاحتفاظ ببقاء مصالحهما ونفوذهما. ومن هنا بدأ الصراع بينهم ولكن بشكل خفي فأمريكا تستعمل ثقلها الدولي وضغوطها المالية وعملاءها الجدد وبريطانية وفرنسة تستعملان عملاءهما من الحكام وأعوانهما .فيجري الصراع الدموي وأدواته أبناء الأمة ووقوده ثرواتها وتكتوي الأمة بنار الفتن والحروب الداخلية .تنفيذاً لرغبة الكفر والكفار وتحت ستار الحرية والتحرر.

هذا ما صارت إليه حال مجتمعنا وهكذا أمست أمتنا وهذه هي التركة الضخمة التي يجب على العاملين لإنهاض الأمة التعامل معها وهذا ما نعنيه بفهم الواقع والتفقه فيه قبل محاولة إصلاحه والحكم عليه فلا يكفي أن يكون المبدأ واضحاً في أذهان من يريدون إنهاض الأمة على أساسه ويقودونها بموجبه ويريدون نقلها إلى المنزلة اللائقة بها بل لابد لهم أن يدركوا ما عليه الناس وما يعانون من أمراض أساسية أو جانبية . فكيف إن كانوا لا يدركون من المبدأ إلا اسمه ولا يفهمون من القرآن إلا رسمه والتغني فيه ولا يعرفون عن أهدافهم التي يسعون إليها إلا القول أنهم يريدون دولة إسلامية ويريدون عزة المسلمين ولكن كيف ؟ قل علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو .