السبت، 17 يناير 2015

القدس بين تاريخين


 بسم الله الرحمن الرحيم




 إن الكثير من الكتاب والمؤلفين والمحاضرين والمفكرين المعاصرين ، يتناولون القدس من جانبها المادي والواقعي ، دون أن يربطوها بجانبها الروحي الذي قرر لها مكانتها وقدسيتها . وهم بذلك إنما ينهجون نهج المفكرين الغربيين ، وينطلقون من وجهة نظرهم عن الحياة ، وهي عقيدة فصل الدين عن الحياة . يتناولون القدس تاريخيا من البدايات الأولى عبر حقب متناهية في القدم ، مرورا بمسيرة الأقوام والشعوب والدول التي تعاقبت على تواجدها في القدس ، ابتداء باليبوسيين حيث كانوا هم البناة الأول لهذه المدينة ، وكانت تسمى (يبوس) نسبة لهم ، وذلك قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد . 

 ويقتضينا البحث أن نأتي إلى نبذة تسلسل تاريخية مختصرة توضيحا لتبيين الحقائق ، وتثبيت الثوابت ، وإزالة الغموض . لقد استنجد أحد رجال السلطة اليبوسيين بالفرعوني تحتمس الأول سنة 1550 قبل الميلاد ، فدخلها الفراعنة آنذاك . وفي زمن رعمسيس الثاني وابنه مرن بتاح سنة 1350 قبل الميلاد ، دخل اليهود فلسطين من جانبها الجنوبي ، حيث انفلق أمامهم البحر بقيادة سيدنا موسى عليه السلام ، ولكنهم تاهوا في الصحراء حيث إنهم رفضوا الدخول كما أمرهم ، وتذرعوا بأن فيها قوما جبارين . فتاهوا في صحراء سينا مدة أربعين سنة . وبعد انقضاء مدة التيه هذه ذهبوا إلى جبال آدوم ومؤاب في شرقي الأردن ، ثم دخلوا أريحا وأحرقوها ، ثم احتلوا الجلجال وشيلوه وشكيم ، وكلها جعلوها طعمة للنيران . كل ذلك من هذه الأقوال يعتمد المؤرخون في توثيقه على أسفار التوراة وبعض النقوش والكتابات الحجرية . 

 ثم بعد ذلك جاء الأشوريون على ما كان يسمى مملكة إسرائيل وتغلبوا عليهم زمن سخاريب الأشوري . وبعد مضي فترة من الزمن دب الضعف في صفوف الأشوريين فجاء البابليون واحتلوا فلسطين ، وأخذوا القدس ، ثم نفاهم نبوخذ نصر إلى بابل واستعبدهم هناك وانقرضت مملكة يهوذا سنة 586 قبل الميلاد . وأما الحقبة التي تلي ذلك فهي مجيء الفرس ، وتغلب كورش الكبير الفارسي على البابليين سنة 538 قبل الميلاد ، وظلت تدفع الضرائب إلى الفرس ؛ بعدها جاء الإسكندر المقدوني اليوناني سنة 332 قبل الميلاد ، أخذها من الفرس ، وكان ملك الفرس يومئذ (دارا) . أما في عهد الرومان : فقد هاجمها القائد الروماني (بومبي) سنة 603 قبل الميلاد واحتلها . وفي زمن خليفته هيرودس وُلد السيد المسيح عليه السلام . ثم جاء بيلاطس (يوينتوس) وكان واليا على إدارة القدس على عهد الرومان ، وفي زمنه قام بمطاردة السيد المسيح وادعوا صلبه . وكذبهم القرآن الكريم في دعواهم هذه ، حيث رفعه الله إليه ، ونجاه من كيدهم . أما في العهد البيزنطي : فعندما تبوأ العرش الإمبراطور هرقل سنة 610 – 640م زحفت جيوش كسرى ملك الفرس غربا وبعد استيلائها على سوريا ، زحفت إلى فلسطين ، وفي سنة 614م احتلت القدس ، وذبحت (90) ألفا من المسيحيين . ولكن هرقل عاد واستجمع قواه وانتصر على الفرس سنة 627 للميلاد ، ودخل هرقل مدينة القدس سنة 629م . وفي هذه الفترة ظهر الإسلام . ووصل كتاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان في مدينة حمص آنذاك .

 وإلى هنا انقضى تاريخ وجاء تاريخ :

 أما التاريخ في حقبه الأولى ، وحتى مجيء الإسلام ، فإنه يعتمد على مصادر غير موثقة ، واستنتاجات عن أساطير كما يعتمد المؤرخون في توثيق الكثير من هذه الحقب على أسفار التوراة . ولكن لا ننسى أن أسفار التوراة ذاتها تحتاج إلى توثيق . لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا بأنهم حرفوها وزادوا عليها وحذفوا منها ، ما يجعل منها مصدرا غير موثق . يأتي المؤرخون على سرد هذه المسيرة التاريخية ليثبتوا أن العرب كانوا سابقين إلى تواجدهم في القدس وفي فلسطين بفترة طويلة . حيث إن اليبوسيين هم كنعانيون ، وهم من أصل سامي أي ساميون . والعرب هم شعب من الشعوب المتعددة التي اعتنقت الإسلام ، وانصهروا في بوتقة العقيدة الإسلامية ، لتتكون منهم ومن غيرهم الأمة الإسلامية .

 وتعريف الأمة : هي مجموعة من الناس تعتنق عقيدة واحدة ينبثق عنها نظام يعالج شؤون الحياة . وهذا التعريف لا ينطبق على الشعب العربي ، لأنهم لا يملكون عقيدة خاصة بهم . فالعرب قوم ، والقومية ليست بعقيدة ، وإنما هي أحاسيس وعواطف تتحرك فطريا ، فلا تعطي فكرا ولا ينبثق عنها نظام . أما توثيق التاريخ ، وما هو التاريخ الذي يعتد به ، وما هو التاريخ الذي يرد ولا يعتمد ، أي لا يكون محل ثقة فإن هذا يعتمد على المصادر التاريخية التي يمكن أن تتخذ مصدرا للتاريخ .

 للتاريخ ثلاثة مصادر هي : الآثار ، والكتابات الشخصية أو ما يسمى المذكرات الشخصية ، والرواية . 

 أما المصدر الأول وهو الآثار – وهذا هو المرجع اليوم لكل الكتابات التي كتبت عن العصور السالفة أي ما قبل الإسلام – فإن الآثار في حد ذاتها إنما تعطي فكرة مجزوءة عن حقبة محددة ، وأكثر ما يظهر فيها هو إبراز الناحية الوثنية ، أو ملامح عن بعض المعتقدات المحرفة . فهذا المصدر التاريخي لا يكون موثقا في دلالته ، ودلالته تكون استنتاجية وحسب ميل المؤرخ الذي اعتمد عليها . وما نراه اليوم من هجمة فيها المغالاة إلى حد بعيد على التنقيب عن الآثار وإبرازها ، ووضع التفسيرات التي يريدونها لها سواء في الأردن أو سوريا أو العراق أو مصر أو اليمن ، أي في بلاد المسلمين بالذات . فهنا تكتشف آثار كنيسة أو دير ، وهناك تكتشف بعض الرسوم أو الكتابات على أوراق البرديّ أو النقوشات التي لها علاقة بمعتقد من المعتقدات المحرفة أو المعتقدات البائدة التي لم يبق لها وجود إلا في الآثار فقط كالفرعونية . فإنها وإن كان يظهر أن المراد من إبرازها هو من أجل السياحة أو بعض الدراسات العلمية ؛ ولكن الحقيقة التي لا بد من تأكيدها أن المراد من ذلك كله هو إبراز الناحية الوثنية ، وبالأخص ما له علاقة بالعقيدتين اليهودية والنصرانية . وهذا كله يشير إلى أن هناك خلفيات سياسية مقصودة ، لا محل لذكرها الآن . 

 أما المصدر الثاني للتاريخ وهو الكتابات الشخصية والمذكرات الشخصية ؛ فإنها في غالب الأمر تكون خاضعة لسنة المدح أو القدح . فلا يخلو الكاتب من أن يكون إما مادحا وإما قادحا . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : فإن الكاتب ينتابه الغلو في تفسيره لبعض الأحداث السياسية ، والمعارك القتالية ، فيفرغ ما وسعه من جهد لتزيين الأمر أو تقبيحه ، ومن رفع مقام الأشخاص الذين يكتب عنهم ، أو يحط من شأنهم . وقد تجلى هذا عند الكتابة عن الدولة العثمانية ، وحكم الأتراك (أي دولة الخلافة) فإنهم يبرزونها في أبشع صورها من الظلم والفساد والتأخر . كما ظهر تزويرهم للتاريخ في كتابتهم عن جمال باشا ووصفه بالسفاح ، لماذا ؟ لأنه أعدم من أسموهم بالأحرار العرب . وذلك لأنهم أغمضوا بصائرهم عن السبب الذي دعا جمال باشا لإعدامهم . وقد سموهم أحرارا لأنهم ناهضوا دولة الخلافة ، ودعوا إلى اللامركزية وإلى الاستقلال أي الانفصال عن جسم الدولة ، لأنها تركية وهم عرب . أي كانت هذه النظرة من زاوية قومية والدعوة إلى القومية محرمة في الإسلام . فهم بذلك خالفوا أحكاما شرعية كثيرة . كما تغاضى المؤرخون عن السبب المباشر الذي حمل جمال باشا على إعدامهم وهو اتصالهم بالدولتين البريطانية والفرنسية للمجيء لإنقاذ العرب من ظلم الأتراك (كما يقولون) أي كانوا يدعون إلى مجيء حملات صليبية جديدة . وقد اكتشفت أسماؤهم في القنصلية الفرنسية في بيروت ، وتواقيعهم على العرائض التي يطلبون فيها المجيء من بريطانيا وفرنسا . وهذا أمر موثق لا مرية فيه . ويظهر ذلك واضحا أيضا عند كتاب القصة ، حيث يطلقون لمخيلاتهم العنان في الوصف والربط والبناء والصياغة والسبك . 

وبهذا الصدد فإنني أتوجه بكلمة فيها لفتة إلى كتاب القصة والرواية أنهم وإن كانوا يبدعون في ذلك : فإن الأمة الآن في حاجة ماسة إلى العمل للنهضة والتغيير ، ولا يكون هذا إلا بالعمل الفكري الجاد الذي يتناول واقع الأمة الإسلامية ، وطراز العيش الذي تعيشه اليوم والتبعية المطلقة التي تقوم عليها اليوم من حيث هي جماعات أو أنظمة وحتى الأفراد . تبعية تظهر في كل أمورها وشؤونها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وأنظمة الحكم القائمة فيها على صعيد أكثر من خمسين كيانا . فالأمة الإسلامية اليوم ، لم تتسلم من الجيل السابق أفكارا تتعلق بالنهضة لتقيلها من كبوتها ، وتعيدها إلى مصاف الدول التي تمتلك الإرادة في إصدار القرارات الذاتية . ولا تتمتع بالسيادة التي تخولها تنفيذ القرارات السياسية . كما أنها لم تنتج هي الآن أفكارا من ذلك النوع الذي يتعلق بنهضتها وسيادتها ؛ وإنما هي تعيش عالة وتندفع تقليدا للغرب سواء في ثقافته عامة أو في معالجته لشؤون حياته أفرادا وجماعات . والمحصلة النهائية أنها لا تمتلك طريقة تفكير منتجة يشع تأثيرها ، ويتسع مداها حتى تدخل كل بيت ، وتطال كل شرائح المجتمع ، ويتركز وجودها في الأجهزة التنفيذية .. فصحة الفكر من صحة مصدره ، وصدق التشريع من صدق مشرعه . لا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر عنه التشريع ، ولا بد أن يكون هناك أصل ثابت يصدر له التشريع ، حتى يتم التساوق بين حكمة المشرع وفطرة المشرع له . ووجهة النظر في الحياة وما ينبثق عنها من تشريعات ومفاهيم وما ينبني عليها من أفكار هي التي تشكل لون المجتمع ، وطراز العيش ، ونوعية النظام ، ووجهة النظر في الحياة هي التي تفسر معنى السعادة ، وتصور الحياة الدنيا على حقيقتها وهذه كلها في مجموعها هي الحضارة .  فلا بد أن ننفض عنا غبار التقليد للغرب ، ونريح عن كواهلنا نير التبعية التي نتلذذ بها . وأن ننبذ كل ما له علاقة بوجهة النظر الغربية ، وهي فصل الدين عن الحياة ، ونعود إلى النبع الصافي الذي ينبثق عنه وجهة النظر الصحيحة عن الحياة وهي العقيدة الإسلامية . هذا ما أردت أن ألفت نظر الكتاب والمفكرين اليوم إليه . هذه الناحية جديرة بالاهتمام والاهتمام بها والعمل لها فرض على كل مسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) . 

 وأما المصدر الثالث للتاريخ فهو : الرواية . وعلى هذا قام تاريخ الأمة الإسلامية … ابتداء بنقل اللغة العربية وتدوينها رواية يتحرى فيها الدقة في صياغة النص المروي وهو ما يسمى المتن ، كما يتحرى فيها أمور الرواة وحياتهم وصدقهم كما هو معروف في علم الجرح والتعديل . وكان هذا واضحا تمام الوضوح في رواية السنة المشرفة وتدوينها . وسار على هذا النهج كثير من المؤرخين الكبار مثل : الطبري وابن كثير وابن الأثير والذهبي والبغدادي وابن عساكر .

 جاء الإسلام رسالة من عند الله لينسخ ما سبقه من عقائد وأفكار وتشريعات

 1- يبدأ تاريخ القدس أولا من حيث قدسيتها ، فقد أثبت القرآن قدسية القدس أي ربطها بالعقيدة من حين نزول قوله تعالى : "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" هذا قبل أن يظهر أن هناك مسجدا ثالثا وهو مسجد المدينة المنورة ، مسجد هجرته صلى الله عليه وسلم . وزاده الله قدسية أن بارك حوله ، فكان موضع الإسراء المذكور في الآية الكريمة ، وكان هو منطلق العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء . وجرت الأمور على طبيعتها ، واستقر الأمر لرسول الله في الجزيرة بأسرها ، وسارت الفتوحات سيرها الطبيعي ، وتسلم عمر بن الخطاب رضي الله مفاتيح القدس من البطريرك صفرونيوس في حين كانت محاصرة بالجيوش بقيادة أبي عبيدة رضي الله عنه سنة 15 للهجرة سنة 636 للميلاد . ومن قدسية القدس أنها ظلت ستة عشر شهرا قبلة للمسلمين في صلاتهم حتى تحولت القبلة إلى الكعبة . رب سائل أو معترض يقول : إن قدسية القدس قديمة قبل مجيء الإسلام بقرون … ودليل ذلك قول الله تعالى : "وإذ قال موسى لقومه … يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين" نقول : إن الله أثبت هذا ثم نسخه ، ينسخه لجميع الشرائع السابقة ، فاليهود والنصارى مأمورون ومخاطبون باعتناق الإسلام .

 2- الأمر الثاني من تاريخ القدس : طبيعة الأمر الذي استقر عليه وضع القدس عندما تسلم مفاتيحها عمر رضي الله عنه ، أن أعطاهم وثيقة استقر عليها وضع القدس من حيث الأمان ، وصيانة معابدهم وأن أخذ عليهم عهدا أن لا يساكنهم فيها أحد من يهود ، على أن يدفعوا الجزية ومارس النصارى فيها حياتهم اليومية على هذا الوضع المنصوص عليه في العهد العمرية ، بهدوء وأمان واطمئنان ، وهذه العهدة موجودة حتى الآن يحتفظ بها البطاركة عندهم إلى يومنا هذا . ومنذ تلك الساعات أصبحت القدس أرضا إسلامية جرت عليها أحكام الإسلام وخضعت لسلطان الإسلام ، وأمانها بأمان المسلمين ، وسكانها يحملون التابعية الإسلامية وغدت دار إسلام ، ينافح دونها . وحمايتها والدفاع عنها واسترجاعها فيما لو طرأ عيها عارض أو تغلب عليها مغتصب إنما يكون فرضا على جميع المسلمين ، وإلى يوم الدين .

 3- قلنا إن ما قبل نزول آية : "سبحان الذي أسرى بعبده …" ومن قبل تسلم عمر مفاتيحها ، ما قبل هذا التاريخ لا يؤبه له ، ولا قيمة له عمليا ، سواء كانت مكانا للهيكل الذي يزعم اليهود ، أو مكانا للنصارى بوجود كنيسة القيامة ، أو ما أسموه القبر المقدس كنيسة نصف الدنيا . كل هذا أصبح الآن منسوخا لا اعتبار له ، ولا قيمة له ، وليس لهم إلا ما أعطاهم الإسلام من ممارسة عباداتهم وطقوسهم الدينية ، ولهم الأمان ما حافظوا على العهود والمواثيق ، لأن صاحب الحق في الإثبات والنسخ وهو الله تعالى قد نسخ كل ما مضى من تاريخ وما تعلق به من حقوق قد نسخها كلها وأثبت الحقائق التي ابتدأت من حين نزول الآية المذكورة زمنا وعملا . فأحكام أهل الذمة ، وأحكام الجزية ، وأحكام حقوق المعاهدين والمستأمنين ، كلها منصوص عليها بنصوص قطعية ، وطبقت عمليا من قبل الخلفاء والولاة والعمال والقضاة . مع التمكين التام للنصارى من مزاولة شعائرهم الدينية واحترام حقوقهم ، ورعاية شؤونهم ، والنظر في مظالمهم كالمسلمين سواء بسواء مع المحافظة وعدم العبث أو التعدي على أماكنهم الدينية .

 4- فترة ما قبل الحروب الصليبية : من طبيعة الأنظمة والقوانين التي تطبق وتنفذ على بني البشر ، يكون التطبيق لها وتنفيذها من قبل بشر أيضا ، فيخطئون ويصيبون ، وتمر فترات فيها إساءة في التطبيق ، وهذا تابع لاستقرار الفكر ونموه وازدهاره ، فإن كان القائمون على أمر الرعاية والتنفيذ لديهم الوعي والتقوى والإخلاص ، ووضوح الرؤية والرقي الفكري ، مع وجود الفكرة وطريقتها واضحة ومستقرة في المجتمع ، يكون هناك إحسان في التطبيق . والعكس بالعكس . لقد مرت فترات كان الصراع الداخلي فيها محتدما بين كثير من الفئات والجماعات المتعددة هنا وهناك مما أوجد التفسخ والاضطراب في المجتمع الإسلامي ، أي كان وقتئذ إساءة في التطبيق ورعاية الشؤون . 

 5- فترة الحروب الصليبية ومجيء صلاح الدين : تلك فترة عصيبة ، وأحداثها دامية ، لأنها خرجت في مجرياتها عن طور الإنسانية ، سواء من حيث دوافعها أو الحيز الذي أشغلته تاريخيا ، أو الظاهرة الوحشية والإجرامية التي جرت ممارستها من قبل الغزاة الغاشمين الحاقدين . بعد مقاومة عنيفة استمرت أشهر من قبل حامية القدس دخلها الإفرنج ، وأفرغوا سموم حقدهم وغيظهم ، فأبادوا كل من كان فيها من المسلمين قتلا وذبحا وتقطيعا وحرقا بالنيران ، وقد جمعوا من كان فيها من اليهود ووضعوهم في كنيس وأضرموا فيهم النيران . وجاء صلاح الدين ، ودخل القدس من الثغرة التي دخل منها غودفري . ولكنه لم يعمل السيف فيهم ، وإنما أخرجهم منها عن بكرة أبيهم ، دون أن تمس امرأة أو طفل أو شيخ بأذى . وساعد على الخروج من لم تمكنه أحواله . والمؤرخون النصارى والمسلمون جميعا ينددون بالغزو الصليبي ويصفونه بأنه نشاز في تاريخ الإنسانية ، كما يثنون على صلاح الدين وإنسانيته ، ورعايته للمغلوبين .

6- أما فترة الحكم العثماني أو ما يسمونه الحكم التركي ، فإن سليم الأول دخل هذه البلاد سنة 1517 ، ودخل مصر وبويع بالخلافة كما دخل المدينة المقدسة . إن المنشآت المقامة والماثلة الآن ، والأسوار والعمارات معظمها من فعل العثمانيين ، فكان اهتمامهم زائدا بها وفي هذا رد على من يتهمون العثمانيين الأتراك بأنهم غزاة محتلون . والحقيقة أن الخلافة العثمانية حمت بيضة الإسلام مدة أربعة قرون كاملة من سنة 1517 – سنة 1917 كما لا ننسى الفتوحات التي قام بها العثمانيون في أوربا لنشر الإسلام ، حتى طرقوا أبواب فينا ، واقتربوا من روما . وهذه منطقة البلقان تعج بالمسلمين الذين يضطهدهم الآن نصارى أوربا ، وأحداث البوسنة والهرسك وكوسوفا شاهدة على ذلك . في سنة 1882 أصدرت الحكومة التركية قانونا حرمت فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وشراء الأراضي . إلا أنها عادت فعدلته لتدخل ستراوس الوزير الأمريكي المفوض في استامبول ، ومنحت اليهود حق الدخول إلى فلسطين والبقاء فيها ثلاثة أشهر بقصد العبادة ، ثم بعد ذلك عدلت هذا القانون وحددت الإقامة بشهر واحد ، ومن تأخر يلاحق ويبحث عنه حتى يخرج . ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 راح الأتراك يطاردون الصهيونيين . وأصدر جمال باشا بوصفه القائد للجيش الرابع المرابط في فلسطين أمرا منع فيه رفع العلم الصهيوني في أي أرض تقع تحت حكمه ، كما منع أي لافتة تكتب باللغة العبرية ، وصادر جميع الطوابع والأوراق المالية التي تخص الحركة الصهيونية ، وألغى جميع المؤسسات اليهودية التي تكونت في فلسطين ، بعد أن دخلتها خفية . وجاء في البيان الذي صدر يومئذ 25 كانون الثاني سنة 1915 أن الحكومة فعلت ذلك بناء على ما لديها من معلومات تثبت أن بعض العناصر تتآمر باسم الصهيونية لإقامة مملكة يهودية في فلسطين . 

 ومن مواقف السلطان عبد الحميد :

 يقول : إن الصهيونية لا تريد أراض زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب . ولكنها تريد أن تقيم حكومة ، ويصبح لها ممثلون في الخارج . إنني أعلم أطماعهم جيدا ، وإنني أعارض هذه السفالة ، لأنهم يظنونني أنني لا أعرف نواياهم أو سأقبل بمحاولاتهم . وليعلموا أن كل فرد في إمبراطوريتنا كم يكن لليهود من الكراهية طالما هذه نواياهم . وإن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة . وإنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين ، لأنني لا زلت أكبر أعدائهم .

 ويقول الخليفة عبد الحميد رحمه الله في كتابه للشيخ أبي الشامات يبين له فيه سبب خلعه فيقول : … بعد هذه المقدمة .. أعرض هذه المسألة المهمة كأمانة في ذمة التاريخ : إنني لم أتخلّ عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى إنني – بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) وتهديداتهم ، اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة ، الإسلامية ؛ إن هؤلاء الاتحاديين أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين . ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف …

 ويقول هرتسل : بعث إلي السلطان وساما عالي الدرجة ، ومع الوسام جواب مفرغ في هذه العبارات : (بلغوا الدكتور هرتسل ألاّ يبذل بعد اليوم شيئا من المحاولة في هذا الأمر ، فإني لست مستعدا أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير . فالبلاد ليست ملكي ، بل هي ملك شعبي ، وشعبي روّى تربتها بدمائه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب) .

 7- القدس والاحتلال البريطاني : وجاء اليوم الذي عمل له من كانوا يسمون أحرار العرب بمناشدتهم لبريطانيا ، والتعاون معها للحضور سريعا لنجدتهم وتخليصهم مما يسمى ظلم الأتراك . وبدون متابعة ولا مقدمة أن تمهيد ، دخل اللورد اللبني القدس في 11/12/1917 ؛ دخلها ماشيا من باب الخليل ، وأعلن الأحكام العرفية ؛ وكان رئيس بلدية القدس هو موسى كاظم باشا الحسيني ، دخل اللبني الحرم ومعه كامل أفندي الحسيني مفتي فلسطين أخو الحاج أمين الحسيني . وعند دخول اللبني القدس ، أقيمت له منصة ووقف خطيبا وقال قولته المشهورة … (الآن فقط انتهت حلقة الحروب الصليبية) .

 وكانت بريطانيا قبل هذا التاريخ قد أعطت اليهود وعدا بإعطائهم فلسطين وطنا قوميا لهم ، وهو وعد بلفور . لقد أعلن الحسين بن علي ثورته على الأتراك بتاريخ 10/حزيران سنة 1916م هذه الثورة التي قال عنها اللبني في تقريره الذي رفعه إلى وزارة الحرب فور انتهاء القتال : (إن ثورة العرب ضد الترك قد ساعدت الحلفاء مساعدة كبيرة في الحصول على نتائج فاصلة في الحرب) . عندما وقعت اتفاقية (سايكس – بيكو) بين فرنسا وبريطانيا وتم تنفيذها ، واقتسام منطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام بينهما ، كانت فلسطين مستثناة ، إذ جعل لها وضع خاص لتكون فيما بعد وطنا لليهود ، وجعلت بريطانيا من نفسها منتدبة على فلسطين لمدة خمسة وعشرين عاما من قبل عصبة الأمم ، من أجل تهيئتها وطنا لليهود ، أي لتنفيذ وعد بلفور ، فعينت عليها أول مندوب سام ، وهو هربرت صمويل يهودي صهيوني متعصب من سنة 1920 – سنة 1925 .

 بريطانيا هي رأس الأفعى ، وهي أم الخبائث ، وهي جالبة المصائب والكوارث للمسلمين جميعا ، وهي التي مزقت الأمة الإسلامية إلى أكثر من خمسين مزقة . بريطانيا هي التي تضع العراقيل للحيلولة دون عودة الخلافة . 

بريطانيا هي التي دفعت الدول الموقعة على اتفاقية الهدنة في رودس لتوقيعها . بريطانيا هي التي حاكت مؤامرة حرب حزيران سنة 1967 وتسليم الضفة الغربية لإسرائيل . 

 بريطانيا هي التي وضعت قانونا يسمى (قانون الحكر) سمحت بموجبه باستئجار أراضي الوقف الإسلامي لمدة (99) سنة ، والمباني التي يمتلكها الكثير من اليهود والنصارى أخذت أراضيها وأقيمت بموجب هذا القانون .

 بريطانيا هي التي سهلت هجرة اليهود إلى فلسطين ، وهي التي سمحت وساعدت وعملت على بيع الأراضي لليهود .

 بريطانيا هي التي طرحت بالقضية الفلسطينية إلى هيئة الأمم المتحدة ، وتولتها معها أمريكا ليصدر قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 ثم يعلن قيام دولة لليهود سنة 1948 . وعندئذ غدت القضية تبحث دوليا . 

بريطانيا هي التي أبقت ما لديها من دبابات وسلاح لليهود عندما أنهت انتدابها وخرجت من فلسطين . بريطانيا (الصديقة) هي التي أسلمت الأمور لصنائعها وعملائها مطمئنة ليكملوا المسيرة التي يسمونها مسيرة السلام . ولكن لما كانت أمريكا تريد أن تخرج بريطانيا من مستعمراتها لتحل محلها ، أصبحت الآن تعمل جاهدة لتكون منطقة العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) منطقة نفوذ خالصة لها ، وأدخلت قضية فلسطين داخل هذه الدائرة ، فهي تتطلع إلى الاستئثار بمنابع البترول ، كما تريد أن تستأثر بالمكاسب التي تنتج عن حل قضية فلسطين بإقامة قاعدة عسكرية لها في الجولان وغير ذلك .

 وهذه الأحداث الدامية تتتابع متسارعة لنكون نحن المسلمين وقودا لها . قضية فلسطين الآن قضية سياسية ، وهي بين طرفين : 
- الطرف الأول : هم المسلمون جميعا . 
- الطرف الثاني : النصارى ومعهم اليهود أو اليهود ومعهم النصارى.

 فهي إذا قضية المسلمين ؛ والمسلمون اليوم لا دولة لهم تمثلهم واليهود جراء المؤامرات الخيانية أصبحوا لهم دولة قوية . فعلى المسلمين وجوبا أن يعملوا على إقامة دولة لهم لتطبيق شرع الله ، ورفع راية الجهاد ، واسترجاع فلسطين ، ولن تكون هذه إلا دولة الخلافة الراشدة ، ولتكون عاصمتها القدس كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( … ثم تأوي الخلافة إلى القدس ، ويكون ثم عقر دارها ، ولن يخرجها منها أحد بعد ذلك أبدا . )

((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .))

بقلم: ف.س

ليست هناك تعليقات: