الجمعة، 21 مايو 2010

حفصة بنت عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما)


بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة أمهات المؤمنين (4)

نسبها ومولدها (رضي الله عنها)

هي حفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل العدوية القرشية.
وحفص على التذكير من أسماء الأسد، وبالتأنيث أنثاه، وكثيراً ما كان ينادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر (رضي الله عنه) بقوله يا أبا حفص.
وأمها زينب بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون أحد السابقين إلى الإسلام في مكة.
أصيلة الحسب والنسب، وفي الذروة من قريش مكانةً، ولدت كما تذكر روايات التاريخ قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس سنوات، ويؤرخون لمولدها ببناء قريش للكعبة بعد أن جرفها السيل. وعلى هذا يكون مولدها في نفس تاريخ مولد فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

نشأتها

نشأت حفصة (رضي الله عنها) في بيت عمر بن الخطاب نشأة كريمة عزيزة، تحترم الأب وتخشاه في آن معاً لما كان عليه من شدة وقسوة وغلظة في جاهليتها!!
وتعلمت حفصة القراءة والكتابة منذ نعومة أظافرها، على نهج الأشراف والسادة، وبرعت في ذلك وتفوقت على قريناتها.
مرت أعوامها الأولى أثناء فتوتها وصباها وهي ترى بأم عينها وتسمع أنباء الصراع العنيف بين الفئة المؤمنة بقيادة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الكثرة الكافرة بقيادة الصناديد من قريش ومن بينهم والدها عمر...، ولكنها لم تكن تدرك أو تتأثر إلا في حدود طاقة عقلها ووجدانها.

إسلامها

عاد الأب عمر ذات يوم إلى داره بوجه غير الذي خرج به في الصباح، وبلسان ولهجة غير ما كان ينطق من قبل... إنه متهلل الوجه يشع نوراً وحبوراً، طلق المحيا، مبسوط اللسان بالكلام اللين الذي يقطر رقة وعذوبة. لا شك أن تغييراً كبيراً قد حدث..! وعرف أهل الدار بإسلام عمر ففرحوا وانشرحت صدورهم. وازدادوا فرحاً بالتغيير..! لقد زالت عن سماء الدار سحابة التجهم، وانطلقت في أرجائه بسمة الرضى.

زواجها الأول

وخطبها إلى أبيها خُنَيْسُ بن حُذافة السَّهْميّ الشاب المسلم المؤمن فرحب به عمر وأكرم وفادته. وعلى بركة الله انتقلت حفصة من دار أبيها إلى دار زوجها خُنيس وعاشا معاً في وفاق ومحبة ووئام.
لقد عاشت حفصة زوجة تعرف حقوق وواجب الزوجية، تقدر المسؤولية، وتضطلع بأعباء بيت الزوجية وواجباته وترعى كل أموره بحكمة المرأة الناضجة العاقلة رغم سنها المبكرة. وكانت حفصة (رضي الله عنها) تقدر في زوجها خُنيس سابقته في الإسلام، فهو من الأوائل الذين حملوا الدعوة في قلوبهم وتشعبت بها أرواحهم وجاهدوا من أجلها بأموالهم وأنفسهم تقرباً إلى الله عز وجل. لقد كان خنيس (رضي الله عنه) من مهاجري الحبشة الهجرة الأولى، لذا كان حبها عظيماً، ومنزلته من قلبها في الصميم.

حفصة المهاجرة

ثم كان الحدث العظيم في حياة المسلمين... وهو هجرتهم من مكة إلى المدينة حيث أخذت الدعوة مساراً جديداً ومفترقاً هاماً وفاصلاً. فهاجرت حفصة مع زوجها خنيس (رضي الله عنها) منتظمين في ركب المسلمين وموكب المؤمنين.

الأرملة الحزينة

خاض المسلمون بقيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدراً في العام الثاني من الهجرة، وانتصروا يومئذ بتأييد من الله تعالى على المشركين نصراً مؤزراً، وعادوا إلى المدينة التي استقبلتهم استقبالاً حافلاً عظيماً. فقد كان يومئذ أول صفحة في سفر الجهاد حيث تنكسب أعلام الجاهلية وفرغ كبرياؤها، وزلزلت أركان عنجهيتها، وبدت قريش أمام العرب مهينة ضعيفة هزيلة.
لكن الثأر حركها من رقدتها وأيقظ ما عفا من عزتها الجوفاء...، فصممت على إعادة الكرة، واستعادة الموقع والموقف كي تظل سيدة العرب بلا منازع، وتقضي حسب وهمها على بدعة الدين الجديد. فخرجت بجموعها وحشودها، وكل عزمها وحزمها إلى المدينة تريد المواجهة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عقر داره وحصنه الحصين..!
وكان ما كان من نتائج أحد! ووقع خنيس (رضي الله عنه) جريحاً، يعاني أشد المعاناة، ينزف وتتردد أنفاسه بطيئة في صدره، تنذر بدنو الأجل. فكان قلب حفصة يئن من الحزن، ويضج بالهم والغم...، وهي تلازم فراش خنيس، تمارضه وتسعى لإنقاذه. ولم يكونا قد رزقا بمولود، ذكر أو أنثى...
وأسرع ابن الخطاب (رضي الله عنه) إلى دار ابنته ليطمئن على ختنه...، ولكن سبق السيف العذل، ولم تفلح عقاقير الأطباء ولا معالجتهم في شفائه فقضى في ريعان شبابه.
وترملت حفصة (رضي الله عنها) وهي في سن مبكرة إذ كانت لا تعدو العشرين ربيعاً من عمرها. وانطوت حفصة على نفسها حزينة بائسة...، صابرة...، محتسبة فقيدها الغالي عند الله تعالى، وفي رحمته سبحانه، وأسلمت أمرها للباري عز وجل.

أحزان عمر

لقد تألم عمر (رضي الله عنه) كثيراً لفقدان خنيس وترمل حفصة...، فكان يزورها ويواسيها ويحاول أن يخفف عنها ما تعانيه، ثم يخرج من عندها وفي عينيه دمعة، وفي قلبه حسرة، وفي حلقه غصة. وفي ذات يوم، وقد بلغ الحزن مداه في نفسه، التقى في الطريق بعثمان بن عفان الذي كان قد فقدَ زوجته رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتشجع وعرض عليه الزواج من حفصة، فقال عثمان: مالي في النساء حاجة!
لم يقلها عثمان بجفوة أو غلظة، ولكن بإحساس مرارة الزوج الحزين، الذي لا يزال يعيش جو حبه لزوجته الحبيبة.
ثم لقي عمرٌ أبا بكر فعرض عليه نفس العرض، الزواج من حفصة، فسكت ولم يجب..! فغضب عمر كثيراً، وأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثورة بادية على محياه، حمرة الأسى تتقد في عينه، وحين استمع إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرف ما به قال له: يزوج الله تعالى عثمان خيراً من حفصة ويزوج حفصة خيراً من عثمان، فهدأ بعض غضبه (رضي الله عنه) وإن لم يدرك أبعاد هذه الكلمات، وخرج من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحمل في قلبه بعض الطمأنينة.

خير من عثمان

الباب يقرع، إنه باب دار عمر بن الخطاب، والقارع هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والطلب هو زواجه عليه الصلاة والسلام من حفصة...!
ولقد كانت فرحة عمر أعظم من أن توصف، وأكبر من أن يخطها قلم... لقد أصبح سيد المرسلين وخاتم النبيين زوجاً لحفصة الأرملة الحزينة، تلك التي عرضها والدها على اثنين من أخلص أصحابه، وأصفى مقربيه، فرفض أحدهما وسكت الآخر.

توجيهات وتوصيات عمر (رضي الله عنه)

لقد كانت لحفصة رضي الله عنها شخصية قوية، حباها الله بالذكاء والفطنة، وكانت تناظر وتعارض كثيراً، كثيراً ما تستوقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أمور تسأله فيها تستفهمه وتستوضحه. وكان أهل قريش شديدين على نسائهم، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) منهم، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وجدوا نساءً يغلبن أزواجهن، وأخذت النساء تعلمن من نساء المدينة. وقد حدث أن غضب عمر يوماً على امرأته فإذا هي تراجعه وتجادله فأنكر عليها ذلك. فقالت له: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فانطلق حتى دخل على حفصة فقال لها: أتراجعين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت: نعم، قال: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قال: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت. لا تراجعين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تسأليه شيئاً، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منك -يريد عائشة-.

حفصة من نسائه في الجنة

على الرغم من ذكاء وحكمة وفطنة حفصة إلا أنها تبقى شأنها شأن جميع النساء تغار على زوجها، فقد ذُكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وطئ مارية، وقد كانت جارية له، في بيت حفصة وفي نوبتها، فوجدت حفصة، فقالت: يا نبي الله، لقد جئت إلي شيئاً ما جئت إلى أحد من أزواجك، في يومي وفي دوري وعلى فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرّمها وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد، فذكرته لعائشة، فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم] الآيات كلها. وكان رسول الله قد قرر في ذلك الوقت أن يطلقها، فنزل جبريل عليه السلام وقال له: لا تطلق حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة.

بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

مرت حياة حفصة في بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أحب ما تشتهي وتريد، وحفظت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام بعض أقواله الحميمة وتوجيهاته السامية، فسلكت مسلكها وعملت بمقتضاها، ووعاها صدرها وقلبها.
ولما دنت ساعة الفراق، ولحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى، بكته حفصة بدمع هتون، وقلب محزون، ولزمت دارها لا تفارقها أبداً، سوى الحج إلى بيت الله الحرام، وكانت العبادة سلوكها، والتصدق على الفقراء والمساكين عادتها.

في عهد الخليفتين

وأضحت حفصة أم المؤمنين (رضي الله عنها) في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) موضع تقدير واحترام، حُرمتها من حرمة بيت النبوة، حتى إن والدها الفاروق كان يعظم هذا المعنى ويقدس تلك المكانة، إكراماً ووفاءً للنبي الراحل إلى جوار ربه الكريم. إضافة إلى ذلك أن بيت حفصة وحجرتها (رضي الله عنها)، كانت مستودع ما كُتب من وحي وما نزل من آيات بينات... تصون ذلك وتحفظه. فقد اختارها أبو بكر (رضي الله عنه) عندما شرح الله صدره إلى جمع المصحف بعد أن استشرى القتل في القراء والحفظة أثناء حروب الردة، وخاصة يوم اليمامة... فكان لأم المؤمنين حفصة (رضي الله عنها) من الفضل ما يضاف إلى رصيدها العظيم في العلم والإيمان والخلق والعبادة والأمانة...

حفصة المحدثة (رضي الله عنها)

روت حفصة (رضي الله عنها) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمانة الناقل، وحفظ الواعي، كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة. وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم أجمعين، كأخيها عبد الله بن عمر، وابنه حمزة، وحارثة بن وهب، والمطلب بن أبي وداعة، وأم مبشر الأنصارية، وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، وعبد الله بن صفوان، والحسيب بن رافع، وسوار الخزاعي، وغيرهم..
وكانت دارها في المدينة، محط أنظار كبار الصحابة يأتونها زائرين ومستفسرين، متعلمين وسائلين، واصلين أو موصولين.

أخلاقها وفضائلها

لقد شهد الوحي لحفصة بالمثل الأعلى في التدين والتقوى، حين قال جبريل عليه السلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها: إنها صؤوم قؤوم... ولقد حدثت جويرية عن أسماء عن نافع قال: ماتت حفصة حتى ما تفطر.
أما حجها فحدث ولا حرج. فقد حجت حجة الوداع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لما اختاره الله تعالى إلى جواره الكريم، كانت (رضي الله عنها) كلما أذَّن مؤذن الحج من كل عام، تهيأت لزيارة البيت العتيق، وأداء المناسك من طواف وسعي...، وغير ذلك، ثم التصدق على الفقراء والمساكين بلا حساب لأن ما عند الله تعالى خير وأبقى، فكان كلما يقسم لها فيء وكلما يأتيها أعطيات من الخلفاء تجعله في ميزان حسناتها يوم القيامة، بصرفه على الفقراء والمساكين والمحتاجين.

وفاتها (رضي الله عنها)

كانت (رضي الله عنها) لا تخرج من دارها إلا إلى المسجد لأداء الصلاة، أو زيارة قبر زوجها الحبيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو زيارة الوالد المسجى بجوار المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم تمسح دموعها، وقد استذكرت الأيام الخوالي، وتعود أدراجها إلى البيت يحتضنها بحنان وتدلف إليه بشوق.
وفي العام الخامس والأربعين من الهجرة، وافاها الأجل المحتوم، إثر إرهاق ومرض، ولبت نداء ربها وأسلمت الروح، وكانت جنازة مشهودة.
حملت على سرير في نعش إلى المسجد، كبار الصحابة يتبعونها بصمت وإجلال ووقار، وصلى عليها مروان بن الحكم، أمير المدينة في ذلك الحين.
وكذلك كان يتقدم الصفوف كالعادة الصحابي الجليل أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي (رضي الله عنه). وروي أن مروان حمل بين عمودي سريرها من عند دار بني حزم إلى دار المغيرة بن شعبة، ثم حمله أبو هريرة من دار المغيرة إلى قبرها.
ودفنت بالبقيع، وجلس مروان ينتظر حتى فُرغ من دفنها (رضي الله عنها) ونزل في قبرها أخواها عبد الله وعاصم ابنا عمر وكانت وفاتها (رضي الله عنها) من تلك السنة.
رضي الله عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب الصوامة القوامة وبارك مثواها، وأكرم نزلها، وألحقنا بها في الصالحين من عباده.

محمد الشمالي - لبنان

المصدر: مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: