بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة أمهات المؤمنين (3)
هي الصدّيقة بنت الصدّيق عائشة بنت أبي بكر بن قُحافة، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكِنَانية، ولدت في الإسلام، بعد البعثة النبوية بأربع أو خمس سنوات. وعندما هاجر والدها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، بعث إليها بعبد الله بن أريقط الليثي ومعه بعيران أو ثلاثة للحاق به، فانطلقت مهاجرة مع أختها أسماء ووالدتها وأخيها.
وصلت هذه السيدة الجليلة إلى المدينة مع أمها أم رومان، وأختها أسماء، وأخيها عبد الله، واستقروا في دار الوالد الصديق (رضي الله عنه)، ولم تمضِ أشهر معدودات حتى تكلَّم الصديق (رضي الله عنه) إلى النبي عليه الصلاة والسلام في إتمام الزواج الذي عقده بمكة. فلما كلَّم الصديق رسول الله في شأن إتمام الزواج، سارع النبي عليه الصلاة والسلام، وسارعت نساء الأنصار إلى منزل الصديق لتهيئة هذه العروس الشابَّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وحينما دخلت أم السيدة عائشة (رضي الله عنها) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعها ابنتها العروس السيدة عائشة بعد أن هُيئت له، دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في دار أبي بكر وقالت: «يا رسول الله هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك».
وأرسلت أم سلمة مرةً بصحفة من ثريد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عند عائشة وعنده ضيوف، فضربت عائشة (رضي الله عنها) الصحفة فانفلقت، فجعل رسول الله يجمع الثريد ويقول لأصحابه: كلوا، غارت أمكم، غارت أمكم. وأرسل صحفة سليمة إلى أم سلمة وترك المكسورة لعائشة.
عن هِشَام عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاجْتَمَعَ صَوَاحِبِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، وَاللَّهِ إِنَّ النَّاسَ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، وَإِنَّا نُرِيدُ الْخَيْرَ كَمَا تُرِيدُهُ عَائِشَةُ، فَمُرِي رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ مَا كَانَ أَوْ حَيْثُ مَا دَارَ، قَالَتْ: فَذَكَرَتْ ذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَتْ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا عَادَ إِلَيَّ ذَكَرْتُ لَهُ ذَاكَ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ ذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، لا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا» (أخرجه البخاري).
ثم إن أمهات المؤمنين حاولن محاولةً ثانية مع السيدة فاطمة (رضي الله عنها)، أن تكلِّم أباها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص، فلم تُجدِ محاولتها شيئاً. فقد روى مسلمٌ في صحيحه أن عائشة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: «أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَنَا سَاكِتَةٌ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟! فَقَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ، قَالَتْ: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ، فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَداً. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)... قَالَتْ: فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَتَبَسَّمَ: إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ».
فلقد خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في جيش من المسلمين في المدينة إلى ديار بني المصطلق، وكان سهم الخروج من نصيب عائشة من بين أزواجه. وحيت تم النصر للمسلمين على بني المصطلق الذين لقوا جزاء غدرهم ونفاقهم ووزعت المغانم والأسلاب. وقد التقى عند حوض الماء الذي كان يستقي منه المسلمون، أحد الأنصار وأحد المهاجرين، فتزاحما وتنافرا وكاد خصامهما يؤدي إلى اشتباك بين المؤمنين. ومما زاد في تأجيج نار الفتنة ما قاله رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. وسمع أحد المسلمين تلك المقالة، وشهد الحادثة، ومن ثم رأى بوادر الفتنة، فأسرع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينقل إليه الخبر وما قاله ابن سلول، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن من الحكمة أن يشغل الناس عن الفتنة بالمسير على الفور بعد أن أقاموا للاستراحة. في أثناء ذلك، كانت عائشة (رضي الله عنها) قد خرجت من خبائها لقضاء حاجة بعيداً عن معسكر المسلمين، وهي لا تدري من أمر ما يحدث شيئاً، وابتعدت كثيراً... وحين رحل المسلمون رفع هودجها من مكانه ظناً من قائده أنها بداخله، ومضى المسلمون في طريقهم إلى المدينة. عادت عائشة (رضي الله عنها) مما ذهبت إليه وافتقدت عقداً كانت تزين به جيدها فلم تجده، فرجعت سريعاً إلى حيث كانت ولملمت حبات العقد المتناثرة، وعادت على جناح السرعة، وحين بلغت طرف المعسكر، ومكان الهودج لم تجد أثراً لبشر، فارتاعت وجزعت وألمّ بها خوف شديد، ثم لبثت في مكانها لا تدري كيف تتصرف، وماذا تفعل!
وكان من عادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القائد الظافر الخبير، أن يرسل إثر كل غزوة رجلاً من أصحابه اسمه صفوان بن المعطل يستدرك ما فاته المسلمون عند رحيلهم. وفوجئت عائشة (رضي الله عنها) بخيال فارس يأتي حيث تقف، فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره، وقال في دهشة وعجب: ظعينة رسول الله؟ ما خلفك رحمك الله؟ وما الذي أخرجك؟ ثم نزل عن بعيره، وتأخر حتى ركبت ثم تقدم وأمسك بالمقود. وشُغِل بال رسول الله على عائشة حتى عادت واطمأن عليها وسمع بعذرها وصدقها. بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها.
وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق، الذي كان جالساً مع بضعة نفر من أتباعه، ومن هم على شاكلته، استيقظ الحقد في قلبه، ووجد المادة التي يتسلى بها والسم الذي ينفث، لينفس عن حقده وحسده لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المسلمين، فقال: أيها الناس، ظعينة نبيكم عادت في ركاب رجل، والله ما نجت منه ولا نجا منها. وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس مسرى النار في الهشيم، وتناقلتها الألسنة تصريحاً وتلميحاً. لكن عائشة (رضي الله عنها) عنها دخلت منزلها خالية الذهن، لا تدري من أمر هذا الإفك والافتراء شيئاً.
داهم عائشة (رضي الله عنها) المرض فاستأذنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تذهب إلى بيت أبيها كي تقوم أمها على خدمتها ورعايتها. ولقي طلبها هذا سرعة استجابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعلها تحزن وتتوجس، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ليطيق فراقها أو ابتعادها عنه، ودخلت عائشة منزل والدها الصدّيق الحزين (رضي الله عنه) الذي ما انفك يدعو الله تعالى أن يبرئ ساحة ابنته. وقضت (رضي الله عنها) في بيت أبي بكر قرابة العشرين يوماً حتى شفيت من مرضها. وفي ليلة خرجت مع امرأة من الأنصار ممن كنّ يزرنها لقضاء حاجة بعيداً في الخلاء، وبينما كنّ في الطريق عثرت المراة بطرف ثوبها، وكادت تسقط أرضاً، فقالت: تعس مسطح، فانتفضت عائشة وقالت بحدة: بئساً تالله ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهدوا بدراً... فقالت المرأة: عجباً، تدافعين عنه، أوَ ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ فأجابت عائشة مستفسرة بدهشة: وما الخبر؟ فقصت عليها المرأة حديث الإفك، وما يشاع عنها، وما يروجه دعاة السوء من أقاويل وافتراءات. وكان مسطح بن أثاثة واحداً من الذين أطلقوا لألسنتهم العنان، ينالون به من شرف عائشة (رضي الله عنها) وسمعتها.
ولما فرغت المرأة من الحديث، كاد يغمى على عائشة (رضي الله عنها) فتماسكت وعادت إلى البيت تبكي وتنتحب، وتلوم أمها لأنها كتمت عنها الخبر رأفةً بها، وراحت الأم تخفف من حدة غضب عائشة والدموع تنهل من عينيها فتغسل وجهها، وتقول: أي بنية، هوني عليك الشأن، فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر، إلا كثرن، وكثر الناس عليها، لكن أين عائشة وأين أمها!!
لقد كانت في هم شديد، كانت الدنيا كلها في نظرها مظلمة سوداء. فقعبت في الدار متوارية عن الناس، عازفة عن الطعام والشراب لا تلغو ولا تنام، تبكي وتنشج.
ولم يكن سكوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سكوت الصدق معاذ الله، ولكن سكوت الصابر، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وحين كثر القيل والقال، خطب في الناس فقال: أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً، ويقولون ذلك عن رجل ما علمت منه إلا خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي (يعني صفوان بن المعطل) فسكت الناس جميعاً. ثم أراد رسول الله أن يستشير خلصاءه في هذا الأمر وأصفياءه، فاستدعى إليه ابن عمه علي بن أبي طالب وحبه أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) وسألهما رأيهما: فقال أسامة: إنك لأعلم الناس بعائشة يا رسول الله، وإن الناس لتكذب، وما عرفنا عنها إلا خيراً.
وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء كثيرات، وإنك لقادر على أن تستخلف (أي تنجب الأبناء) وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله جاريتها بريرة ليسألها فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن فآمرها أن تحفظه فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله!
وحين سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: تسألني يا رسول الله عن عائشة وإني بدوري أسألك: من زوجك إياها؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدوء: الله تعالى. فقال عمر: إذاً أفتظن أن الله قد خدعك ودلس عليك فيها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
شعر رسول الله بأن الوحي يكاد ينزل عليه، فسجى في ثوبه، وأتته عائشة بوسادة من أدم وضعتها تحت رأسه، وفزع الجميع إلا عائشة الطاهرة البريئة. وحين استفاق عليه الصلاة والسلام من غشية الوحي وهو يتصبب عرقاً كالجمان، قال: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله براءتك... فصاحت والفرحة تغمر قلبها: الحمد لله. ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ(١٢) لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٧)وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
[النور 11-18]. ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأشخاص الذين كانوا يروجون ويفترون ويقذفون، فنالوا جزاءهم. وعادت الطاهرة البريئة إلى بيتها، وإلى مقامها في قلب رسول الله وإلى مكانتها الرفيعة في نفوس المسلمين جميعاً.
وأوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدفن في حجرتها... وهكذا كان. ولقد كانت (رضي الله عنه) أكثر نسائه وأهله حزناً لفراقه، وألماً لبعاده، وهي تذكر سالف أيامها معه، وسنوات عمرها التي رافقته فيها.
وتولى والدها أبو بكر خلافة المسلمين ثم تبعه عمر بن الخطاب (رضي الله عنها). والكل يعرف لها مكانتها ومنزلتها، وفضلها وعلمها. ثم لما تولى الخلافة علي (رضي الله عنه) وكانت الفتنة، شاركت عائشة رضي الله عنها في معركة الجمل، وقد سميت بهذا الاسم لأن عائشة (رضي الله عنها) كانت تركب جملاً، ضد علي (رضي الله عنه)، ولما انتهت الواقعة أعادها علي (رضي الله عنه) إلى دارها في المدينة المنورة مع أخيها محمد بن أبي بكر مصونة مكرمة محترمة، وحلفت ألا تغادر دارها من يومها.
رضي الله عنها وأرضاها وأكرم نزلها ومثواها، وألحقنا بها في الصالحين من عباده.
وعن ابن المنكدر عن أم ذَرَّ، وكانت صاحبة عائشة، قالت: "بعث إليها بمالٍ أراه ثمانين أو مئة ألفٍ فدعت بطبقٍ، وهي يؤمئذٍ صائمة فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهمٌ واحد. فلما أمست قالت: يا جارية أين فطوري؟ فجاءتها بخبزٍ وزيت. قالت لها أم ذر: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهمٍ نفطر عليه؟! ".
وقال عروة: "لقد رأيت عائشة (رضي الله عنها) تقسم سبعين ألفاً وإنها لترقع جيب دِرعها".
أهدى معاوية لعائشة ثياباً وورِقاً -أي فضةً- وأشياء توضع في خزانتها فلما خرجت نظرت إليه فبكت ثم قالت: لكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يجد هذا، ثم فرّقته ولم يبقَ منه شيء. وعندها ضيف، فلما أفطرت، أفطرت على خبزٍ وزيت، فقالت المرأة: يا أم المؤمنين لو أمرتِ بدرهمٍ من الذي أهدي إليكِ فاشتري لنا به لحماً فنأكله، فقالت عائشة (رضي الله عنها): كلي فوالله ما بقي عندنا منه شيء".
وقال أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه): «ما أشكل علينا أمرٌ فسألنا عنه عائشة، إلا وجدنا عندها فيه علماً».
وقال بعض العلماء: "لو اجتمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل".
وقال عطاء بن رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامَّة".
وقال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب رسول الله الأكابر يسألونها عن الفرائض".
تميزها عن سائر نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم)
تميزت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) عن سائر نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم) بتسع أمور كما تذكرها هي فتقول: خلالٌ فيَّ تسعٌ لم تكن في أحد من النساء، إلا ما آتى الله مريم بنت عمران، والله ما أقول هذا فخراً على أحد من صواحبي، وهي: نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله لسبع سنين، وأهديتُ إليه لتسع سنين، وتزوجني بكراً لم يشركه فيّ أحد من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف واحد، وكنت من أحب الناس إليه، ونزل فيَّ آيةٌ من القرآن، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه غيري، وقُبض في بيتي ولم يله أحد غير المَلَكِ وأنا.
محمد الشمالي - لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق