الاثنين، 3 أغسطس 2009

هوية الأمة الإسلامية



لكل أمة من الأمم (ثوابت) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة. وفي طليعة هذه الثوابت تأتي (الهوية)؛ باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة. ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتى تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم. وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول (هوية) ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكيّف ردود أفعالهم تجاه الأحداث، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.


كما أنه من البديهي أيضًا، أن الأمة إذا فقدت (هويتها)، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء؛ لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله، مع أنها كانت في حياته تمتلئ رعبًا من منظره !!

وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهوية.. حيث السقوط الحضاري.. وتداعي الأمم. فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة)، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هوية هذه الأمة، ويُجلِّي أبعاد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في الدفع النفسي والشعوري إلى إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعالة في السبق الحضاري من جديد .

هوية الأمة الإسلامية:


ليس تحديد (الهوية) ترفًا فكريًّا، أو جدلاً فلسفيًّا بل هو أمر جاد يتعلق - بل يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها «إذ إن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا يريد؟ وبدون هذا الحسم (للهوية) الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعَّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة». (1)

ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟.. فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا على ضوء ذلك إلى تحديد ماذا نريد؟ .. ومن ثم كيف السبيل؟ وإذن فتحديد الهوية يُعرِّفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف..

فما هي هويتنا؟

لا شك أن هويتنا الأصيلة هي الإسلام، وأن «الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى، ولا شيء غيره... وإذا ما نَحَّيْنَا الإسلام جانبًا، فمن المستحيل أن نجد قاسمًا مشتركًا آخر نتفق عليه، وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتدادًا للإسلام»(2) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .

.. وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية؟ !

فأمّا إنها عبرة التاريخ: «فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية، وإنما يحمل شعارًا إسلاميًّا هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضًا وجد فيها له إخوة في الإيمان، وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية»(3) .. ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من «شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ، ولم يُعْتَبر في قُطْر مر به أجنبيًّا، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضيًا أو وزيرًا أو سفيرًا، ولم يُرَاقب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه»(4) فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج؛ لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية، ومنحهم (الجنسية) الإيمانية، وزودهم بروح الأخوة والمودة .


لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سببًا للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن له قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه، بل ويحكمه (مسلم) من بلد آخر.. فصفة الإسلام تَجُبُّ ما عداها، ورابطة الدين تُغْنِي عما سواها.

ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه «كانت نظرة المصريين دومًا إلى المماليك - وهم ليسوا أولي جذور مصرية - نظرة المسلمين إلى المسلمين، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على الوطن»(5) .

ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالم من حوله، نظرة إسلامية محددة، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الإسلام) .. وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الحرب) .

.. وبقي الدين عنصرًا بارزًا في وعي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكِّل لهوية الأمة الإسلامية.. فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم.. وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..

«وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين، وهم يعدون العُدّة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين.. الذي استغله نابليون منافقًا، بصورة ساذجة وسطحية. فهذا هو المنشور الذي وجهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول : (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، ثم يقول : يا أيها المصريون، قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله -سبحانه وتعالى-، وأحترم نبيه والقرآن الكريم.. ثم يضيف كاذبًا : أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرنلجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين) !!

ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول - عنده، قدمهم (كمسلمين مخلصين) أو على أقل تقدير (محبين للمسلمين المخلصين)!!

لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل - رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل - سمتًا غالبًا في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة»(6). ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوها بوصفهم (مصريين) إزاء (فرنسيين) .. وإنما بوصفهم (مسلمين) يقاتلون (الكفار) الذين يحتلون أرضهم، والدليل على أنها كانت حربًا جهادية إسلامية ضد (الصليبيين) أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان (الحلبي) الذي قتل كليبر لم يكن (مصريًّا)، إنما كان (مسلمًا) دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية .

وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام (كهوية) للأمة، كان دائمًا يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.. وذلك المثال هو ثورة 1919 م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيرًا عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال.. واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد.. وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء الأزهر الذين يشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله: إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة(7) .

وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(8) ثورة (إسلامية) .. وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد (الكفار) المغتصبين..وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة (الخلافة).. وكان الناس يرون أن (الأزهر) هو الجدير - في حسهم - أن يقود الثورة الإسلامية.

وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ.. وكانت (الهوية الإسلامية) هي الحافز الرئيس الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حروب الفرنجة، أو غيرها.. حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين.. هذه هي عبرة التاريخ..

وأما درس الواقع.. فقد «أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها،... وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستغلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها»(9)، ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلى أهدافها الحضارية..

وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله. بالفكر والسلوك.. الساعية إلى إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة وقيادة البشرية .

إن الإسلام وحده هو (هوية الأمة الإسلامية) وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة، وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها. ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.

وبكلمة: لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية)، ومنح أفرادها (الجنسية) الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.. ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية.. حيث تلغى إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته!!

... واليوم يبقى الإسلام هو (وحده) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية).


الهوامش :
1- ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر، ص 139 .
2- فقه الدعوة - ملامح وآفاق : عمر عبيد حسنة ص 72.
3- الولاء والبراء - محمد سعيد القحطاني ص 415 .
4- الإسلام والمدنية الحديثة - أبو الأعلى المودوي ص 44 .
5- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 45 .
6- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 46-47 .
7- مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب .
8- قبل أن يحولها سعد ورفاته من ثورة إسلامية إلى ثورة وطنية لا علاقة لها بالدين.
9- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، د. محسن عبد الحميد ص 41 .

عن لواء الشريعة
محمد محمد بدري

ليست هناك تعليقات: