الاثنين، 3 أغسطس 2009

صلاحية الإسلام لكل زمان و مكان (3)



نظام الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
النّظام, من ناحية هيكلية بنائية, هو مجموعة الأفكار المنظّمة لشؤون الناس, أو هو جملة القواعد والأحكام الضابطة للعلاقات. ومن ناحية عملية تنفيذية, فهو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ.
ويتميّز نظام الإسلام بجملة من الخصائص التي تضمن صلاحيته للتطبيق في كلّ زمان ومكان، منها:

أولا: إنسانية المعالجات

المعالجات, هي أحكام منظمة لعملية إشباع الإنسان حاجاته العضوية وغرائزه, كإباحة شرب الماء وحرمة شرب الكحول, وإباحة الزواج وحرمة الزنا, وإباحة البيع وحرمة الربا وغير ذلك من الأحكام المنصبّة على تنظيم عملية الإشباع ذاتها.

والمراد بإنسانية المعالجات هو أنّ الشريعة الإسلامية عندما تعالج مشاكل الإنسان إنما تعالجها له بوصفه إنسانا لا غير. فالشريعة الإسلامية لا تعالج مشاكل الإنسان بوصفه الفردي أو بوصفه يعيش في عصر ما وفي مكان ما، إنما تعالج مشاكله بالنظر إليه كإنسان هو الذكر والأنثى، وهو العربي والأعجمي، وهو الأبيض والأسود، وهو إنسان الماضي والحاضر والمستقبل.

فلا فرق في نظر الشريعة الإسلامية بين إنسان هذا العصر وبين إنسان العصور السابقة؛ فإنسان هذا العصر شأنه شأن إنسان العصر السابق, يحسّ بالجوع والعطش, ويشعر بالخوف والشبق؛ لأنّ الحاجات العضوية والغرائز واحدة في الإنسان لا تختلف من فرد إلى آخر أو من عصر إلى عصر آخر. وما يرى من تغيّر في حياة الإنسان, هو في واقعه ليس تغيرا في ذات الإنسان, إنما في أشكال الحياة. فالإنسان الأول سكن الكهوف وركب الحصان, وإنسان اليوم يسكن ناطحات السحاب ويركب الطائرة. ولو دققنا النظر, لوجدنا الدافع لسكنى الكهف وركوب الحصان عند الإنسان الأول هو نفس الدافع لسكنى العمارة وركوب الطائرة عند إنسان هذا العصر. ومن هنا فإن الشريعة الإسلامية وضعت معالجات لمشاكل تنطبق على كل إنسان بغض النظر عن لونه وجنسه وعرقه ومكانه وزمنه.

فالميل الجنسي مثلا غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم الزنا والحثّ على الزواج. قال تعالى: {ولا تقربوا الزّنى إنّه كان فاحشة وساء سبيلا}. وحبّ البقاء والمحافظة على النوع غريزي في الإنسان، نظمّته الشريعة بحكم تحريم القتل. قال تعالى: {ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ}. وهكذا فإنّ كل المعالجات التي شرعها الإسلام غير مرتبطة ببيئة أو مكان أو زمان، فهي معالجة للإنسان من حيث هو إنسان.

ثانيا: طريقة التنفيذ

كما سبق ذكره، فإنّ النظام هو معالجات لمشاكل الإنسان, وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات, والمحافظة على العقيدة وحمل المبدأ. وعليه، فالشريعة الإسلامية لم تكتف ببيان المعالجات اللازمة للإنسان، بل بيّنت له طريقة تنفيذها لضمان تطبيقها في الواقع. فليس الإسلام كالنصرانية مجرد معالجات إجمالية وتوصيات أخلاقية للفرد أن يأخذها أو يردّها، بل الإسلام منظومة علمية وعملية متكاملة، فهو يبيّن المعالجة ويبيّن معها سبيل تطبيقها وتنفيذها فيما يتعلّق بالفرد والمجتمع.

فالشريعة الإسلامية "حين توصي بالمحافظة على النفس الإنسانية جعلت طريقة تنفيذ ذلك قتل القاتل، وحين أمرت بالمحافظة على العقل جعلت طريقة تنفيذ ذلك جلد السكران، وحين قالت بالمحافظة على كرامة الإنسان جعلت كيفية تنفيذ ذلك جلد القاذف، وحين أوجبت حفظ النسل أي حفظ النوع الإنساني جعلت عقوبة الدية على الجب والتعقيم والإخصاء، وحين قررت عدم اختلاط الأنساب جعلت عقوبة القتل الشنيع – الرجم – على الزاني المحصن للحفاظ على نوع الإنسان ونسبه، وحين أمرت بالمحافظة على أموال الناس وممتلكاتهم جعلت طريقة تنفيذ ذلك قطع يد السارق، وحين أرادت بعث الطمأنينة في النفوس وإشاعة الأمن والاستقرار في المجتمع جعلت عقوبة من يعبثون بأمن الناس وحياتهم القتل أو الصلب أو تقطيع الأطراف من خلاف، وحين قررت المحافظة على العقيدة جعلت القتل عقوبة المرتد، وحين أوجبت تنفيذ هذه الأحكام جميعها وإيجاد فكرتها في واقع الحياة أوجبت على الناس إنابة فرد منهم ليقوم بالتنفيذ أي أوجبت مبايعة خليفة لتنفيذ ذلك وجعلت عقوبة الخارج على الخليفة أي على الدولة القتل. وهكذا فإنها لم تترك معالجة إلا وجعلت كيفية معينة لتنفيذها تباشرها الدولة. وباختصار، فإنها لم تكتف بوضع معالجات للناس تبين فيها للإنسان كيف يصرف أفعاله ويشبع حاجاته وجوعاته، بل وضعت كيفيات معينة لتنفيذ كل معالجة من هذه المعالجات".(1)


ثالثا: الاجتهاد

لقد أحاطت الشريعة الإسلامية بجميع أفعال الإنسان إحاطة شاملة كاملة، فما من شيء إلا وبيّنت حكمه. قال تعالى: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (رواه ابن ماجه عن العرباض).

قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تَعَبَّدَهم به لما مضى من حكمه جلّ ثناؤه من وجوه:

فمنها ما أبانه لخلقه نصاً. مثل جمُل فرائضه في أنّ عليهم صلاةً وزكاةً وحجاً وصوماً، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونصّ الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بيّن نصاً.

ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه وبيَّن كيف هو على لسان نبيه. مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

ومنه: ما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.

ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم".(2)

فالاجتهاد يبقي أحكام الإسلام متجدّدة مواكبة لكل عصر؛ لأنه طريق معرفة حكم الشرع فيما استجدّ من حوادث ومشكلات. ولهذا حثّ الشرع على الاجتهاد ورغّب فيه وجعله فريضة شرعية. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر" (رواه الشيخان عن عمرو بن العاص). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (رواه أبو داود عن أبي هريرة). وأخرج النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثروا على عبد الله ذات يوم فقال عبد الله : "إنه قد أتى علينا زمان ولسنا نقضي ولسنا هنالك ثم إن الله عز وجل قدر علينا أن بلغنا ما ترون فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه ولا يقول إني أخاف وإني أخاف..." وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي. وقد روي مثله عن جمع من الصحابة منهم عمر وابن عباس.


رابعا: سعة الشريعة الإسلامية

لا تعني سعة الشريعة أنها تتكيّف مع كل واقع ولو خالفها، أو أنها قادرة على التطور بحيث تتغيّر أحكامها الثابتة لتوافق هوى بعض الناس أو بدع بعض المجتمعات، إنما تعني السعة أنّ الشريعة الإسلامية قادرة على معالجة كلّ المشاكل المستجدّة بما فيها من خصائص ذاتية تضمن لها مواكبة العصر. فما من شيء إلا وقد بيّنت الشريعة الإسلامية حكمه، فإن لم يكن بنص عليه، فبأمارة تهدي من تطلبها.

ومثال ذلك: قوله تعالى: {وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}، فإن ما يستنبط من هذه الآية هو وجوب إعداد القوة لإرهاب أعداء الله، فإذا كان الإعداد في الماضي يكون بالرماح والسيوف والخيل، فيجب أن يكون اليوم بالطائرات والدبابات والقنابل النووية وغير ذلك من قوة حديثة. فقوله تعالى: {ما استطعتم من قوة}، عام يدخل فيه كل أمكن تجهيزه واتخاذه من عدّة. وقوله تعالى: {من رباط الخيل}، خاص عطف على العام. وقوله تعالى: {ترهبون}، علة للإعداد. فيكون المطلوب هو إعداد القوة التي ترهب العدو، وهذه القوة تختلف أشكالها ومظاهرها باختلاف العصر. فيكون الإسلام قد طلب منا بدلالة الآية أن نجهّز الأسلحة الحديثة المواكبة لزمننا.

ومثال ذلك أيضا، يقول بعض الناس: قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتمّوا الصيام إلى الليل}، إذا طبق حرفيا فسيؤدي إلى هلاك بعض الناس؛ لأننا كما نعلم فإن النهار والليل عند سكان "الأسكيمو" يدوم فترة طويلة. وهذا يدلّ على أن النص القرآني راعى محيط الجزيرة العربية ولم يراع بقية المناطق. وبناء عليه لنا أن نخرج بنتيجة مفادها استحالة تطبيق الشرع الحنيف اعتمادا على القراءة الحرفية للنص التي لا تأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان.

والجواب على هذا، أنّ حكم الشرع في هذه المسألة يمكن استنباطه من جهتين:

الجهة الأولى، أنّ الشرع قد ربط الصيام بسبب وهو شهود هلال رمضان. قال تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" (رواه البخاري عن أبي هريرة). وبما أنّ السبب هو ما يترتب عن وجوده وجود الحكم، وما يترتب عن عدمه عدم الحكم، فلك أن تقول من هذه الجهة لا صيام عليهم ما لم يوجد هلال رمضان.

وأما الجهة الثانية، فهي أنّ الشرع قد احتاط لهذا الأمر فأمر بالتقدير. ففي حديث الدجال عن النواس بن سمعان عند مسلم: "... قلنا يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا أقدروا له قدره". فلك أن تقول، وهو الراجح، عليهم التقدير والصلاة والصيام.

وهكذا فإن الشرع قد بيّن حكم المسألة سواء قلنا بوجوب الصوم أو عدمه.


خاتمة

قد "أراد الله للإسلام أن يكون خاتمة الأديان والشرائع، وأن يكون لذلك دينا عاما لجميع البشر، وباقيا على امتداد الدهر، إرادة دلت عليها نصوص القرآن، وأيدها متواتر أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا يترك مجالا للشك في نفس المتأمل".(3) ولأنّ إرادة الله سبحانه قد قدّرت لهذا الدّين التأبيد، فقد دعمته بالتأييد والتجديد؛ فالتأييد بتكفّل المولى سبحانه بحفظه ونصره، والتجديد بتكفّل أولياء المولى بالدفاع عنه وتنقيته من كل شائبة واستنباط ما يلزم من الأحكام لكل حادثة مستجدة.

ففي الشريعة الإسلامية من السعة ما يسع مشكلات أي عصر، ولكنها ليست سعة تميّع الإسلام وتهدم أحكامه الثابتة، وليست سعة تكيّف الدّين حسب الأهواء والرغبات. فلا يجب أن ننسى أن الواجب تغيير الواقع ليناسب الإسلام، وليس تغيير الإسلام ليناسب الواقع. قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.

الكاتب: ياسين بن علي
21 جمادى الأولى 1429هـ

_______________________

(1) عن (النهضة)، للأستاذ حافظ صالح، ص36

(2) عن (الرسالة)، للإمام الشافعي، ص21-22

(3) عن (تحقيقات وأنظار في القرآن والسنة)، للشيخ الطاهر بن عاشور، ص112

ليست هناك تعليقات: