الخميس، 6 أكتوبر 2011
الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (7)
بسم الله الرحمن الرحيم
الصيدلة والصناعة الطبية
الصَّيْدَلَةُ لَفْظٌ فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ يَدُلُّ في الأصلِ على بيعِ العِطْرِ، واصطلاحًا يَدُلُّ على العلمِ الذي يختصُّ بتركيبِ وصرفِ الأدويةِ العلاجيةِ، والصَّيْدَلَةُ تربطُ علومَ الصحةِ بعلومِ الكيمياءِ، وهيَ تُعْنَى بسلامةِ ونجاعةِ الأدويةِ.
والصيدلةُ كالتطبيبِ خدمةٌ صحيةٌ يجوزُ للفردِ أنْ يَعْرِضَها للناسِ بشكلٍ خاصٍّ، كأنْ يقومَ بفتحِ صيدليةٍ ويصرفَ الدواءَ، أوْ يُنْشِئَ مصنعًا للدواءِ بقصدِ الربحِ. إلا أَنَّ كَوْنَ الصيدلةِ قدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ إنْ لمْ يَكُنِ المتعاطي لها منْ أهلِ العلمِ بفنونِها يجعلُها كالتطبيبِ بحاجةٍ إلى ترخيصٍ مِنَ الدولةِ لممارسَتِها، وذلكَ مَنْعًا للضررِ المترتبِ على مباشرةِ الجاهلِ لصُنْعِ الدواءِ وَصَرْفِهِ، وَفْقَ القاعدةِ «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وَمَنْ باشَرَ أعمالَ الصيدلةِ أوْ صَرَفَ دواءً دونَ إذنٍ وترخيصٍ فَأَضَرَّ بمريضٍ ضَمِنَ مقدارَ ضررِهِ وجنايتِهِ، وعوقِبَ تَعْزِيرًا مِنْ قِبَلِ الدولةِ سواءَ أَوَقَعَ الضررُ بالمريضِ أمْ لمْ يَقَعْ.
وفوقَ ذلكَ فإنَّ على الدولةِ أنْ تُشْرِفَ على صُنْعِ الدواءِ وإنتاجِهِ مباشرَةً، لِما أخرجَهُ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ: «صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ»، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّوَاءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ»، وَأَخرجَ البيهقيُّ وأَبو داودَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: «سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِى دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهَا»، صحَّحَهُ الألبانيُّ. ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يَدُّلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النَّهْيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تمنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ.
وعملاً بالأدلَّةِ القاضيَةِ بأنَّ التطبيبَ واجبٌ على الدولةِ مجانًا لرعيتِها، وكَوْنَ الإمامِ راعيًا وهوَ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ، فإنَّ الدولةَ تُوَفِّرُ الدواءَ للمرضى، إما بشرائِهِ مِنْ مصانِعِ الدواءِ وشركاتِهِ في الدولةِ أوْ في الخارِجِ، وإمَّا بإنشاءِ مصانعَ للدواءِ تملِكُها الدولةُ وتنتجُ الأدويةَ المطلوبةَ. وتُشَكَّلُ لجنةٌ مِنَ الأطباءِ والصيادلةِ تُحَدِّدُ الأدويةَ التي على الدولةِ أنْ تُوَفِّرَهَا مجانًا، وهيَ الأدويةُ التي يُسَبِّبُ عدمُ توفيرِها للمريضِ ضررًا بصحتِهِ، دونَ الأدويةِ والمستحضراتِ الكماليةِ. كمَا تُحدِّدُ هذهِ اللجنةُ الأدويةَ التي لا تُصْرَفُ إلا بِوصفَةٍ منَ الطبيبِ، والأدويةَ التي يستطيعُ الصيدليُّ صَرْفَها دونَ وصفةٍ منَ الطبيبِ، وكلُّ هذا منْ رعايَةِ الإمامِ لرعيتِهِ وهيَ واجبةٌ عليهِ.
ولأنَّ الدواءَ حاجةٌ حيويةٌ قدْ يُؤَدِّي نقصُها أوْ فقدانُها إلى ضررٍ على الفردِ والجماعةِ، فإنَّ الدولةَ تبذلُ قُصارَى جهدِها في تحقيقِ الاكتفاءِ الذاتيِّ في صُنْعِ الدواءِ، حتى لا تحتاجَ إلى استيرادِ الدواءِ وبالتالي تتعرضُ لابتزازِ الدولِ الكافرةِ أوْ ضغوطِها السياسيةِ، قالَ سبحانه وتعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. وإذا استوردَ الأفرادُ أوِ الدولةُ الدواءَ منْ دولٍ أخرى فلا بُدَّ أنْ يُخْضَعَ الدواءُ المستوردُ للفحوصِ والتحليلِ على يَدِ الصيادلةِ والكيميائيينَ في الدولةِ الإسلاميةِ قَبْلَ أنْ يُصْدَرَ ترخيصٌ منْ مصلحةِ الصحةِ بجوازِ استيرادِهِ، خصوصًا وأنَّ شركاتِ الأدويةِ العالميةِ لمْ تتورعْ في السابقِ عنْ بيعِ شحناتٍ منَ الدواءِ الفاسدِ للمسلمينَ، كشحناتِ الدمِ المُلَوَّثِ بالإيدز، الذي ارسلتهُ شركاتُ الأدويةِ الفرنسيةِ مطلعَ ثمانيناتِ القرنِ الماضي إلى العراقِ وليبيا وتونسَ والجزائرِ. وصحيحٌ أنَّ دليلَ البيعِ والتجارةِ عامٌّ لقولِهِ سبحانه وتعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة 275]، إلا أنَّ القاعدةَ الشرعيةَ تقضِي بأنَّ الشيءَ المباحَ إذا كانَ فردٌ منْ أفرادِهِ يُؤَدِّي إلى ضررٍ، يُمْنَعُ ذلكَ الفردُ ويبقى ذلكَ الشيءُ مباحًا، وهذهِ القاعدةُ اسْتُنْبِطَتْ منْ منعِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجيشَ أنْ يشربَ منْ بئرِ ثمودَ وهوَ في طريقهِ إلى تبوكَ، ذَكَرَهُ ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ وَقالَ عنهُ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ إِنَّهُ مُرْسَلٌ صحيحُ الإسنادِ.
ونشيرُ هنا إلى أَنَّ المصانعَ في الدولةِ الإسلاميةِ ومنْها مصانعُ الدواءِ تقومُ على أساسِ الصناعةِ الحربيةِ، ولذلكَ تكونُ مصانعُ الدواءِ (سواءً التابعةُ للأفرادِ أمْ الدولةِ) مُعَدَّةً وقابلةً دائمًا لمتطلبات الصناعة الحربية والمُضَادَاتِ الحيويةِ والتطعيماتِ ضِدَّ الأسلحةِ البيولوجيةِ على أوسعِ نطاقٍ مُمْكِنٍ وفي أسرعِ وقتٍ.
الْكَوَارِثُ وَالْحَالاَتُ الاسْتِثْنَائِيَّةُ
تعتبرُ الكوارثُ الطبيعيةُ مِنْ براكينَ وزلازلَ وأعاصيرَ وفيضاناتٍ، والكوارثُ الحربيةُ مِنَ الهجومِ بأسلحةِ الدَّمَارِ الشاملِ مِنْ أسلحةٍ بيولوجيةٍ وكيماويةٍ ونوويةٍ، حالاتٍ استثنائيةٍ تَتَطَلَّبُ التحضيرَ والتهيئةَ المُسْبَقَةَ لمحاولةِ منعِها والتقليلِ منْ تأثيرِها أوِ للتعامُلِ معَ آثارِها بسُرعةٍ وفعاليَّةٍ.
ومنْ مُنطلقِ رعايةِ الشؤونِ الواجبةِ على الخليفةِ تجاهَ رعيتهِ كما روى الإمامُ مسلمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ: "الأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، ومنعًا أوْ إِزالةً للضررِ المُتَرَتِّبِ على مثلِ هذهِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ، لما رواهُ ابنُ ماجةَ في سُنَنِهِ بسندٍ صحيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ (رضي الله عنه): "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَضَى أَنْ لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ»، وإغاثَةً للمنكوبينَ والملهوفينَ ممنِ ابْتُلُوا بهذهِ الكوارثِ منَ الرعيةِ حيثُ روى الطبرانيُّ في المعجمِ الكبيرِ بإسنادٍ جيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، فَإِنَّ الدولةَ الإسلاميةَ مسؤولةٌ عَنِ الإعدادِ الوقائيِّ ضِدَّ هذهِ الكوارثِ، وعنِ التهيئةِ المسبقةِ لمواجهةِ هذهِ الكوارثِ حالَ وقوعِها، وعنْ إعادةِ بناءِ ودعمِ المناطِقِ المنكوبةِ بعدَ الكوارثِ.
غيرَ أنَّ كَوْنَ الدولةِ الإسلاميةِ هيَ المسؤولُ الأولُ عنْ علاجِ آثارِ مثلِ هذهِ الكوارثِ لا يعني أنَّ المسلمينَ كأفرادٍ مُعْفَوْنَ مِنَ المساعدةِ والمساهمةِ في جهودِ التَّصَدِّي للكوارثِ، لأنَّ أدلةَ إزالةِ الضَّرَرِ وأدلَةَ وجوبِ إغاثَةِ الملهوفِ والمُصَابِ أدلةٌ عامَّةٌ، تشملُ الدولةَ والأفرادِ، كقولِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»، رواهُ أبو داودَ بسندٍ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): "إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخُونُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ فِي مُصِيبَةٍ نَزَلَتْ بِهِ»، أَخْرَجَهُ الطبرانيُّ في الكبيرِ وقالَ الهيثميُّ: «إسنادُهُ جَيِّدٌ». وقولِهِ عليهِ وآلهِ الصلاةُ والسلامُ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رواهُ البخاريُّ. كلُّ هذهِ الأدلةِ عامةٌ توجِبُ إغاثَةَ الملهوفِ على أفرادِ المسلمينَ كما توجِبُها على الدولةِ، ولذلكَ فإنَّ الدولةَ تُجنِّدُ وتستعينُ بكلِّ منْ يلزَمُ مِنَ الرعيةِ المسلمينَ في مجهودِ الإغاثَةِ حالَ وقوعِها، وتهتمُّ بتنظيمِهِمْ للاستفادَةِ القصوى مِنْ مجهودِهِمْ وحمايَتِهِمْ حالَ عَمَلِهِمُ الإغاثِيِّ والتنسيقِ بينَهُمْ وبينَ الكوادِرِ الرسميةِ المختصَّةِ، كما وأنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تفرِضَ الضريبةَ على أغنياءِ المسلمينَ بما يَفْضُلُ عَنْ حاجاتهمْ بالمعروفِ للإنفاقِ على المجهودِ الإغاثيِّ إذا لمْ تكفِ الأموالُ في بيتِ المالِ لذلكَ.
ولأنَّ الكوارثَ قدْ تختلفُ تبعًا للمناطقِ المختلفةِ في الدولةِ الإسلاميةِ، فبعضُ المناطقِ يكونُ مُعَرَّضًا للزلازلِ بينَما يُعاني البعضُ الآخرُ منَ الفيضاناتِ أوِ الأعاصيرِ، فإنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تُعَيِّنُ لجنةً مِنَ المختصينَ في كلِّ ولايةٍ وظيفتُها الإعدادُ لمواجهةِ الكوارثِ الطبيعيةِ والحربيةِ في الولايةِ، ويكونُ عملُها على أربعةِ أصعدَةٍ:
1) العملُ المُسْبَقُ للحدِّ منْ وقعِ الكوارثِ ونتائِجِها: تحاولُ هذِهِ اللجانُ منعَ تفاقُمِ المخاطِرِ وَتَحَوُّلِها إلى كوارثَ، أوْ تخفيفِ تأثيرِ الكوارثِ حالَ حدوثِها، عنْ طريقِ إجراءاتٍ ووسائلَ استباقيةٍ هيكليةٍ كإنشاءِ السُّدُودِ وشبكاتِ الصرفِ لمنعِ الفيضاناتِ، وبناءِ المساكِنِ مُرْتَفِعَةً على أعمدةٍ في المناطقِ المعرضةِ للفيضاناتِ، أوْ إنشاءِ أقْبِيَةٍ وملاجِئَ تحتَ الأرضِ في المناطِقِ المعرضةِ للأعاصيرِ والعواصفِ أوِ القصفِ. وكذلكَ عنْ طريقِ إجراءاتٍ استباقيةٍ غيرِ هيكليةٍ كبعضِ القوانينِ التي يَتَبَنَّاهَا الخليفةُ وَيُلْزِمُ الرعيةَ بِها، مثلَ وَضْعِ صَمَّامَاتِ أمانٍ لأنابيبِ الغازِ والنفطِ لإغلاقِها في حالِ حُصولِ الزلازلِ، أوْ حمايَةِ بعضِ الأراضي لاستعمالِها كحاجِزٍ وفاصِلٍ في وجْهِ الفيضاناتِ أوِ انبعاثاتِ البراكينِ، أوْ برامجِ إرشادِ الرعيةِ لكيفيةِ التصرُّفِ الصحيحِ حالَ حُصولِ الكوارثِ. هذهِ الإجراءاتُ (الهيكليةُ وغيرُ الهيكليةِ) تُعْتَبَرُ مِنَ الوقايةِ، وَهِيَ منْ أنجعِ الوسائلِ لمنعِ الكوارثِ أوِ التخفيفِ منْ حِدَّتِها.
2) وَضْعُ خُطَطِ العَمَلِ للكَوارِثِ: تضعُ لجانُ مواجهةِ الكوارثِ خُطَطًا مُسْبَقَةً لمواجهةِ الكوارثِ، ومنْ هذهِ الخططِ تدريبُ وتهيئةُ طواقمِ الإغاثةِ المختلفةِ منْ قواتٍ خاصةٍ وقواتِ الشرطةِ والجيشِ لمواجهةِ آثارِ الكوارِثِ، وَمِنْهَا وَضْعُ وسائلِ اتصالٍ ولُغَةٍ مشتركةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ لطواقمِ الإغاثةِ لمنعِ البَلْبَلَةِ، وَمِنْهَا تطويرُ وسائلِ إنذارٍ مُبَكِّرٍ وخُطَطِ إخلاءٍ مُبَكِّرٍ وَمَآوٍ بديلةٍ لساعاتِ الكوارثِ، وَمِنْهَا خُطَطٌ لتأمينِ وتوصيلِ المؤَنِ والموادِّ الغذائيةِ والمعداتِ للمنكوبينَ، وَمِنْهَا أَيْضًا برامجُ تدريبٍ لطواقمٍ منَ الرعيةِ لمساعدةِ قواتِ الإغاثةِ التي لا تكونُ كافيةً وقتَ الكارثةِ عادَةً. وهذهِ الخططُ تُعدُّ لمعالجةِ آثارِ الكارثةِ الطبيعيةِ أوِ الحربيةِ حالَ حصولهِا على عكسِ الإجراءاتِ الوقائيةِ في البندِ السابقِ.
3) التعاملُ مَعَ الكارثَةِ: لمواجهةِ الكارثةِ حالَ حصولِها تقومُ هذِهِ اللجانُ بإدارَةِ المجهودِ الإغاثيِّ بتوجيهِ ونقلِ طواقمِ ومعدَّاتِ الإغاثةِ الأوليَّةِ إلى المناطقِ المنكوبةِ، ومنْ ثمَّ مواصلةِ دعمِ هذهِ الطواقمِ الأوليةِ وتزويدها بالطواقمِ الثانويةِ والمتطوعينَ. وتوضَعُ قواتُ الشرطةِ وقواتٌ منَ الجيشِ تحتَ تصرُّفِ اللجانِ في حالةِ كَوْنِ الكارثةِ طبيعيةً أو حربيةً لكنَّ الحربَ انتهتْ أوْ تَوَقَفَتْ ولا خوفَ مِنَ الهجومِ على الدولةِ، أما إنْ كانتِ الكارثةُ حربيةً والحربُ ما زالتْ جاريةً فالأولويةُ لقواتِ الجيشِ هيَ في صدِّ العدوِّ والمجهودِ الحربيِّ لا الإغاثِيِّ.
ومنَ المهمِّ أنْ تهتَمَّ اللجانُ خلالَ المجهودِ الأوليِّ المتمثلِ بالبحثِ عنِ الضحايا وإنقاذِهِمْ، بتزويدِ المناطِقِ المنكوبَةِ بالاحتياجاتِ الإنسانيَّةِ الأساسيَّةِ بعدَ زوالِ إعصارٍ مَثَلاً، أوْ نقلِ السُّكانِ إلى مناطِقَ آمنَةٍ أخرى بعدَ تفجُّرِ بركانٍ وبقائِهِ نَشِطًا، ولذلكَ تتحدَّدُ خُطَةُ العملِ بالتزويدِ أوِ الإخلاءِ وَفْقَ طبيعةِ الكارثةِ ومدى الخطرِ المُتَمَثِّلِ في بقاءِ السُّكانِ في المناطقِ المنكوبةِ.
4) إصلاحُ نتائِجِ الكارثَةِ: تقومُ اللجانُ بعدَ الكوارثِ بوضْعِ خُططٍ للتعامُلِ معَ نتائِجِ الكارثَةِ بعدَ جُهودِ الإغاثَةِ الأوليَّةِ لإعادَةِ وضعِ المناطقِ المنكوبَةِ إلى ما كانتْ عليْهِ قبلَ الكارثَةِ معَ الاستفادةِ منَ الأخطاءِ السابقَةِ في الإجراءاتِ الهيكليَّةِ وغيرِ الهيكليَّةِ والتَحَرُّزِ مِنْها. وتشملُ الجهودُ في هذهِ المرحلةِ إعادَةَ إصلاحِ البُنى التحتيةِ والمباني المتضرِّرَةِ، وإعادَةَ تأهيلِ المناطقِ المنكوبةِ وتعميرَها.
ولا يَعْني إنشاءُ لجنةٍ لمواجهةِ الكوارثِ في كلِّ ولايةٍ أنَّ باقي الولاياتِ لا تُشارِكُ في المجهودِ الإغاثيِّ، بلْ إنَّ كلَّ هذِهِ اللجانِ تكونُ مرتبطةً وتعملُ معًا بالتنسيقِ لمواجهةِ الكارثةِ أينَمَا كانتْ، على أَنَّ إدارةَ العملياتِ الإغاثيةِ تكونُ منْ قِبَلِ اللجنةِ في الولايةِ المنكوبةِ، وتكونُ مواردُ باقي اللجانِ تحتَ تَصَرُّفِهَا. ورسولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، رواهُ البخاريُّ. ويقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضًا: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، رَوَاهُ البخاريُّ. كَما أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ (رضي الله عنه) أَمَدَّ الأَعْرَابَ في عامِ الرَّمَادَةِ بالإبلِ والقمحِ والزيتِ مِنْ كُلِّ أَرْيَافِ المسلمينَ، حَتى بَلَحَتِ الأَرْيافُ كُلُّها (أَيْ أَجْهَدَتْ وَتَعِبَتْ وَلَمْ تُنْبِتْ شَيْئًا) مِمَا جَهَدَهَا ذلكَ، رَوَى ذلِكَ البُخارِيُّ في الأدبِ المفردِ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ. وكانَ عامُ الرَّمَادَةِ عامَ قَحْطٍ وَجُوعٍ، سُمِّيَ بذلكَ لأَنَّ الأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ المطرِ حتى عادَ لَوْنُها شَبِيهًا بِالرَّمادِ، أَو لأنَّ الريحَ كانَتْ تَسْفِي تُرَابًا كَالرَّمَادِ، حتى بَلَغَ عَدَدُ الأَعْرَابِ الذينَ وَفَدُوا إلى المدينةِ طَلَبًا للقوتِ أكثَرَ منْ خمسينَ ألفًا، وَذَكَرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ: "كَتَبَ عُمَرُ (رضي الله عنه) إلى أَبي مُوسى (رضي الله عنه) بالبصرةِ أَنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، وكتبَ إلى عمرو بنِ العاصِ (رضي الله عنه) بمصرَ أنْ يا غَوْثَاهُ لأُمَّةِ محمدٍ، فبعثَ إليهِ كلُّ واحدٍ منهُما بقافلةٍ عظيمةٍ تحملُ البُرَّ وسائرَ الأُطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ ميرةُ عمرو (رضي الله عنه) في البحرِ إلى جدَّةَ ومنْ جدَّةَ إلى مكَّةَ". وقالَ ابنُ كثيرٍ إِنَّ هذا الأَثَرَ جيدُ الإسنادِ، وَكَذلِكَ فَعَلَ عُمَرُ (رضي الله عنه) مَعَ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ (رضي الله عنه) في العِرَاقِ وَمُعاوِيَةَ في الشَّامِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ.
أما فِرَقُ المنظماتِ الدوليةِ وفرقُ الإنقاذِ والإغاثةِ التابعةِ للدولِ الكافرةِ فتُمْنَعُ منْ دُخولِ البلادِ بِحُجَّةِ المساعدةِ في المجهودِ الإغاثيِّ، لأنَّ مثلَ هذهِ المنظماتِ المُسْتَتِرَةِ تحتَ شعاراتِ الإنسانيَّةِ وإغاثَةِ المنكوبينَ عادَةً ما تستغلُّ الكوارثَ لدخولِ البلادِ والعملِ التبشيريِّ كمحاولاتِ التَنْصِيرِ التي حَصَلَتْ بعدَ التسُونَامِي الذي ضَرَبَ إندونِيسْيَا، أوْ لِخَطْفِ الأطفالِ كما حَصَلَ معَ المنظمةِ الفرنسيةِ التي حاولَتْ اختِطافَ الأطفالِ التشادِيِينَ، أوْ للعملِ السياسيِّ أوْ الاستخباراتيِّ ودعمِ جماعاتِ المتمردينَ وإثارةِ الفِتَنِ كما حصلَ في دارفورَ في السودانِ. فَضَرَرُ هذهِ المنظماتِ قَطْعًا أعظمُ منْ نَفْعِهَا، بلْ إنَّ دخولَها لدارِ الإسلامِ ولوْ بِحُجَّةِ الإغاثَةِ يُمَهِّدُ لِزَرْعِ الفتنِ وَجَعْلِ سُلْطَانٍ لدولِ الكفرِ على الدولةِ الإسلاميةِ، واللهُ سبحانه وتعالى يأمرُنا بألاَّ نجعلَ للكافرينَ على المؤمنينَ سبيلاً: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء 141]. والمساعداتُ الخارجيةُ منْ أموالٍ ومواردَ تُمْنَعُ كذلكَ منْ دُخولِ الدولةِ لأنَّها عادةً ما تكونُ وسيلةً لتهريبِ السلاحِ أوْ لتمهيدِ الطريقِ نحوَ إنشاءِ مصالِحَ لدولِ الكفرِ داخلَ البلادِ.
وفي المقابلِ، إذا كانتْ الكارثةُ في دولةٍ منْ دولِ الكفرِ، فإنَّ للدولةِ الإسلاميةِ أنْ تساعدَ في الأعمالِ الإغاثيَّةِ بإرسالِ الطواقمِ المُخْتَصَّةِ أوِ المساعداتِ، وَفْقَ ما يراهُ الخليفةُ منْ مصلحةٍ للدولةِ وللدعوةِ إلى الإسلامِ، على أنْ لا تُؤَدِّي هذهِ المساعداتُ إلى تقويةِ الدولةِ المنكوبةِ عسكريًّا.
وقدِ استجابَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لاستغاثَةِ قريشٍ، وَكَتَبَ إلى ثُمَامَةَ بْن أُثَالٍ الْحَنَفِيّ بأنْ يَسْمَحَ للميرةِ بالوصولِ إلى قريشٍ وهيَ على الكفرِ وَعداءِ الإسلامِ آنذاكَ، وَذَكَرَ ابنُ هشامٍ ذلكَ في سيرَتِهِ فقالَ: "خَرَجَ (أي ثُمَامَةَ) إلَى الْيَمَامَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا، فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّك تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا، وَقَدْ قَتَلْت الآبَاءَ بِالسّيْفِ وَالأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ، فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ".
الخَاتِمَةُ
تَناوَلْنا في هذهِ الصفحاتِ أُسُسَ وأهدافَ وبعضَ نواحي الرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ مُنْبَثِقَةً أَحْكامُها وَمَبْنِيَةً أفكارُها على أساسِ العقيدةِ الإسلاميةِ. وتبرزُ أهميةُ مثلِ هذهِ الرعايةِ الصحيةِ وَأَثَرُها حينَ نتذكرُ أَنَّهُ في هذا الزَّمانِ الذي يُدَّعَى أَنَّهُ يَشْهَدُ تَقَدُّمًا علميًّا وطبيًّا لا مثيلَ لهُ، نتذكرُ أَنَّ حوالي 2.6 مليارَ شخصٍ في العالمِ هُمْ أكثرُ منْ ثُلْثِ سكانِهِ ومنهمْ 980 مليونَ طفلٍ، يفتقرونَ إلى أبسطِ مرافقِ المياهِ والصرفِ الصحيِّ، ويموتُ يوميًّا 35 ألفَ طفلٍ بسببِ الجوعِ والمرضِ، ويقضِي خُمْسُ سكانِ البلدانِ الناميةِ بقيةَ اليومِ وهمْ يَتَضَوَّرُونَ جوعًا.
نتذكرُ أنَّ 100 مليونَ شخصٍ حولَ العالمِ لا مأوى لهمْ، ومليارَ شخصٍ (ما يقربُ منْ 17% منْ سكانِ الأرضِ) يعيشونَ في بيوتٍ مؤقتةٍ غيرِ آمنةٍ تفتقدُ الخدماتِ الأساسيَّةِ. نتذكرُ أنَّ ما يقربُ منْ ثلاثة آلاف مليونَ شخصٍ يعيشونَ تحتَ ما يُسَمَّى بخطِّ الفقرِ وهوَ دولارانِ أميركيانِ في اليومِ، ومنْ بينِ هؤلاءِ هنالكَ 1.2 مليارَ إنسانٍ يحصلونَ على أقلِ منْ دولارٍ واحدٍ يوميًّا. نتذكرُ أنَّ خُمْسَ سكانِ العالمِ يفتقرونَ لأبسطِ الخدماتِ الصحيةِ الاعتياديةِ. نتذكرُ كُلَّ هذا ونتذكرُ أَنَّنَا نتحدثُ عنْ أَدْنَى مقوماتِ الحياةِ، سَلَبَتْها الرأسماليةُ منْ أكثرِ البشرِ على الأرضِ، وأَبدلتْهُمْ بِها البؤسَ والشقاءَ بمفاهيمِها.
إِنَّ مفهومَ الرعايةِ أوسعُ منْ أَنْ يُحْصَرَ بالصحةِ، والإسلامُ حَدَّدَ حاجاتِ الإنسانِ الأساسيةَ، وَضَمِنَ إِشباعَها إشباعًا كاملاً بنظامٍ رَبَّانِيٍّ منْ لَدُنِ حَكيمٍ خبيرٍ، رؤوفٍ رحيمٍ. فَقَدْ رَوَى الإمامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ عنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ وَجِلْفِ الْخُبْزِ وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ»، صَحَّحَهُ أَحْمَدُ شاكِر وأخرجهُ الحاكمُ في المستدركِ وصَحَّحَهُ ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ. وروى الإمامُ أحمدُ عَنْ أَبِي عَسِيبٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَيْلاً فَمَرَّ بِي، فَدَعَانِي إِلَيْهِ، فَخَرَجْتُ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ (رضي الله عنه) فَدَعَاهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا بُسْرًا». فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَصْحَابُهُ (رضي الله عنهم)، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ». قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ (رضي الله عنه) الْعِذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) ثُمَّ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَئِنَّا لَمَسْؤُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟"، قَالَ: "نَعَمْ، إِلا مِنْ ثَلاثٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ حَجَرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنْ الْحَرِّ وَالْقُرِّ»، صَحَّحَهُ حَمْزَةُ أَحْمَدُ الزَّيْنُ. والحديثانِ نصٌّ شَرْعِيٌّ في أَنَّ الحاجاتِ الأساسيةَ هيَ المأكلُ والملبسُ والمسكنُ، ولا يستطيعُ أيُّ إنسانٍ الاستغناءَ عنْ واحدةٍ مِنْها، ولذلكَ كانَ إِشباعُها حقًّا لِكُلِّ إنسانٍ يأخذُهُ بوصفِهِ حقاً منْ حقوقِهِ التي يجبُ أنْ يَصِلَ إليْها.
وكما أن هناك حاجات أساسية للأفراد، فإن هناك حاجات أساسية للرعية، يجب على الدولة توفيرها:
الأمن والصحة والتعليم.
أما الأمن فهو من واجبات الدولة الرئيسة، فعليها أن توفر الأمن والأمان للرعية، حتى إن الدولة تفقد كينونتها إذا لم تستطع حفظ أمنها، ولذلك فإنه شرط في دار الإسلام أن تكون الدولة الإسلامية قادرة على حفظ أمنها بقواتها، ولهذا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أخبر المسلمين بدار هجرتهم ذكر الأمن أول ما ذكر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه في مكة فيما رواه ابن اسحق في سيرته: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَاناً وَدَاراً تَأْمَنُونَ بِهَا»، كما أن الأنصار عندما استقبلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه أبا بكر، قالوا لهما أول ما قالوا، كما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمائةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حتى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا. فقالت الأنصارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ»، فتوفير الدولة الأمان للرعية هو من واجباتها الرئيسة.
أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون، في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة. وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب:
أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه».
وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مرضت في زمان عمر بن الخطاب مرضاً شديداً، فدعا لي عمر طبيباً فحماني حتى كنت أمص النواة من شدة الحمية».
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوصفه حاكماً بعث طبيباً إلى أبيّ، وعمر (رضي الله عنه) الخليفة الراشد الثاني دعا بطبيب إلى أسلم ليداويه، وهما دليلان على أن الصحة والتطبيب من الحاجات الأساسية للرعية التي يجب على الدولة توفيرها مجاناً لمن يحتاجها من الرعية.
وأما التعليم، فلأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل فداء الأسير من الكفّار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم، وهي ملك لجميع المسلمين... ولإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم.
وعليه فإنه يجب على الدولة أن توفر الأمن والطب والتعليم للرعية جميعهم، وأن يضمنها بيت المال، لا فرق بين مسلم وذمي، ولا بين غني وفقير...
ولأهمية الحاجات الأساسية للفرد وللأمة فقد بيَّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن توفير هذه الحاجات يكون كحيازة الدنيا بأكملها كناية عن أهمية هذه الحاجات، فقد أخرج الترمذي وابن ماجة من طريق سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ وكانت له صحبة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وفي الختام نقول إننا قدْ طَرَقْنا هذا البابَ فقط مِنْ زاويةِ الحاجاتِ الأساسيةِ للأفراد، والحاجات الأساسية للأمة التي ضَمِنَ الإسلامُ إِشْباعَها، دونَ الحديثِ عنْ إِحسانِ الرعايةِ والقيامِ على مصالحِ الناسِ بما يُصْلِحُها، الأَمْرُ الذي أَوْجَبَهُ الإسلامُ على الإمامِ، والشافعيُّ: يقولُ: «منزلةُ الإمامِ مِنَ الرعيةِ منزلةُ الوَلِيِّ مِنَ اليتيمِ».
أَمَّا الرأسماليةُ، فقدْ حَرَمَتِ الناسَ الخرقةَ والكسرةَ وهدمتِ الحجرَ، وَأَوْرَثَتْهُم السقمَ والجهلَ والخوفَ، وَمَحَتْ مفهومَ رعايةِ الشؤونِ منَ الأذهانِ. إِنَّ ذِكْرَ الرأسماليةِ يورثُ المرضَ، ويُسقمُ النفوسَ الزكيةَ المتطلعةَ إلى رضى الرحمنِ، وما لمْ يُجْتَثَّ هذا المرضُ منْ جَسَدِ الإنسانيةِ، بقيتْ تَصْطَلِي بنارِهِ وَشَقْواهُ.
فإلى عفوٍ منَ اللهِ وعافيةٍ ندعوكُمْ أيُّها المسلمونَ، إلى علاجِ النفوسِ والقلوبِ وإخراجِ الناسِ منَ الظلماتِ إلى النورِ ندعوكُمْ، إِلى العملِ لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ، على منهاجِ النُّبوةِ الخاتمةِ، إلى الرُّشدِ والصلاحِ ندعوكمْ، فَهَلْ تُلَبُّونَ؟
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال 24]. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[انتهى، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات].
المصدر: مجلة الوعي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق