الخميس، 6 أكتوبر 2011
الرعاية الصحية في الدولة الإسلامية (6)
بسم الله الرحمن الرحيم
القطاع العام والقطاع الخاص
تكونُ الرعايةُ الصحيةُ في الدولةِ الإسلاميةِ مجانيةً وشاملةً منْ قِبَلِ الدولةِ، وعلى الدولةِ أنْ تُوَفِّرَ كلَّ ما يلزمُ منْ معدَّاتٍ وخدماتٍ صحيةٍ للمرضى، مما يُشَكِّلُ عَدَمُ توفيرِهِ لهمْ ضررًا عليهِمْ. ولكنْ لا يُمْنَعُ الأفرادُ أوِ الشركاتُ في الدولةِ الإسلاميةِ منْ تقديمِ الخدماتِ الصحيةِ الخاصةِ، أوْ فَتْحِ العياداتِ والمستشفياتِ الخاصةِ، ولا يُمنعُ أَحَدٌ مِنَ الرعيةِ منَ التداوي في القطاعِ الخاصِّ، والدليلُ على ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ عنْ أنسٍ (رضي الله عنه) قال: «دَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غُلامًا حَجَّامًا فَحَجَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ، أَوْ مُدٍّ أَوْ مُدَّيْنِ، وَكَلَّمَ فِيهِ فَخُفِّفَ مِنْ ضَرِيبَتِهِ». فالغلامُ هنا قامَ بالحجامةِ وقبضَ أجرهُ منَ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويُشْتَرَطُ في مَنْ يُقَدِّمُ الرعايةَ الصحيةَ منَ القطاعِ الخاصِّ، سواءَ أكانَ فردًا أم شركةً، أَنْ يلتزمَ بقوانينِ الدولةِ ورقابَتِها، وَيُشترطُ أيضًا أنْ يكونَ مَنْ يُقَدِّمُ أيًّا مِنَ الخدماتِ الصحيةِ مُؤَهَلاً لذلكَ، سواءَ أَعَمِلَ في القطاعِ الخاصِّ أوِ العامِّ، ومنْ يُقَدِّمُ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ دونَ أنْ يكونَ مؤهلاً لتقديمِها يُمْنَعُ منْ قِبَلِ الدولةِ وَيُعاقَبُ، وأما إذا أدَّى إلى ضررٍ بِعَمَلِهِ هذا فهوَ ضامِنٌ لِمَا سَبَّبَ منْ ضررٍ بإقدامِهِ على ما ليسَ مِنَ اختصاصهِ.
والدليلُ على هذا عامٌّ وخاصٌّ، فأما الدليلُ العامُّ فهوَ قاعدَةُ لا ضررَ ولا ضرارَ، حيثُ إنَّ ممارسةَ العلاجِ أوِ الرعايةِ الصحيةِ منْ قِبَلِ مَنْ لا عِلْمَ لهُ بها قَدْ تُؤَدِّي إلى ضررٍ بالمريضِ. يقولُ الماورديُّ في الأحكامِ السُّلطانِيَّةِ عندَ حديثِهِ عَمَّنْ يُؤْخَذُ وُلاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ: "فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ: فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ؛ لأَنَّ للطَّبِيبِ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا. فَيُقَرُّ مِنْهُمْ (أيِ الأطباءُ والمعلمونَ) مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الآدَابُ." وَيَنْقُلُ القرافيُّ في الذَخيرَةِ عنِ الإمامِ مالكٍ قولَهُ: “يَنْهَى الإمَامُ الأَطِبَّاءَ عَنْ الدَّوَاءِ إِلاَ طَبِيبًا مَعْرُوفًا، وَلاَ يُشْرَبُ مِنْ دَوَائِهِمْ إِلاَ مَا يُعْرَفُ”. أمَّا الدليلُ الخاصُّ، فقدْ روى أبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجَةَ وغيرُهُمْ عنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَوْلَهُ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقالَ الحاكمُ: صحيحُ الإسْنادِ، ووافقهُ الذهبيُّ، وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «لا أَعْلَم خِلافًا فِي أَنَّ الْمُعَالِج إِذَا تَعَدَّى فَتَلِفَ الْمَرِيض كَانَ ضَامِنًا، وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلاً لا يَعْرِفهُ مُتَعَدٍّ، فَإِذَا تَوَلَّدَ مِنْ فِعْله التَّلَف ضَمِنَ الدِّيَة وَسَقَطَ الْقَوَد عَنْهُ لأَنَّهُ لا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ دُون إِذْن الْمَرِيض»، انتهى.
وكانَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُشْرِفُ عَلى إنتاجِ الأدويةِ أيضًا، أخرجَ الحاكمُ في المستدركِ وقالَ صحيحُ الإسنادِ ولمْ يُخَرِّجَاهُ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ عثمانَ التيميِّ، قالَ: «ذَكَرَ طَبِيبٌ الدَّوَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَذَكَرَ الضِّفْدَعَ يَكُونُ في الدَّواءِ، فَنَهَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عَنْ قَتْلِهِ». ووجهُ الاستدلالِ بهذا الحديثِ أنهُ يدلُّ بدلالةِ الإشارةِ على أنَّ الدولةَ تُشْرِفُ على إنتاجِ الأدويةِ، إذِ الحديثُ سيقَ لبيانِ النهيِ عنْ قتلِ الضفدعِ، لكنهُ يفيدُ أيضًا بدلالةِ الإشارةِ أنَّ الدولةَ لها أنْ تَمْنَعَ صناعةَ نوعٍ ما مِنَ الأدويةِ. وهذهِ الأدلةُ تُبَيِّنُ أنَّ للدولةِ أنْ تُشْرِفَ على القطاعِ الصحيِّ الخاصِّ، بلْ إنَّ ذلكَ واجبٌ عليها.
نظام الصحة الإداري
يقومُ النظامُ الإداريُّ للرعايةِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ على البساطةِ والإسراعِ في تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ والعلاجِ، كما يقومُ على الكفايةِ فيمنْ يَتَوَلَّوْنَ الإدارَةَ. وهذا مأخوذٌ منْ واقعِ إنجازِ المصالحِ بشكلٍ عامٍّ، فصاحبُ أيِّ مصلحةٍ إنما يَبْغِي سرعةَ إنجازِها وَإنجازَها على الوجهِ الأكملِ، والرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ فيما رواهُ الإمامُ مسلمٌ في صحيحِهِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ». فالإحسانُ في قضاءِ الأعمالِ مأمورٌ بهِ مِنَ الشرعِ. وللوُصولِ إلى هذا الإحسانِ في قضاءِ المصالحِ لا بُدَّ أنْ تتوفرَ في الإدارةِ ثلاثُ صفاتٍ، إِحداها البساطةُ في النظامِ لأنَّها تُؤَدِّي إلى السهولةِ واليُسْرِ، والتعقيدُ يوجِدُ الصعوبةَ. وثانِيَتُها الإسراعُ في إِنْجَازِ المعاملاتِ لأنهُ يُؤَدِّي إلى التسهيلِ على صاحبِ المصلحةِ. وثالِثَتُها القدرةُ والكفايةُ فيمنْ يُسْنَدُ إليهِ العملُ، وهذا يوجِبُهُ إحسانُ العملِ كما يَقْتَضِيهِ القيامُ بالعملِ نَفْسِهِ.
وبالنسبةِ للمصالحِ الصحيةِ بشكلٍ خاصٍّ، فالسرعةُ والبساطةُ والبُعدُ عنِ التعقيدِ في المعاملاتِ الإداريةِ أَوْلى وَأَهَمُّ، إذْ إنَّ المرضَ حاجةٌ مُلِحَّةٌ قدْ يُؤَدِّي تأخيرُ علاجِهِ إلى تَفَاقُمِهِ وزيادةِ الضررِ الناتجِ عنْهُ، ثمَّ إنَّ المريضَ لا تُطِيقُ نفسُهُ المماطلةَ والانتظارَ وتعقيداتِ المعاملاتِ. ومما يُقَلِّلُ منَ التعقيداتِ والمعاملاتِ الإداريةِ في إدارةِ الرعايةِ الصحيةِ توحيدُ كافةِ الخدماتِ والمنشآتِ الصحيةِ في الدولةِ الإسلاميةِ في جهازٍ واحدٍ، على رأسِهِ مديرُ عامِّ مصلحةِ الصحةِ، ويليهِ في السُّلَّمِ الإداريِّ مدراءُ الدوائرِ المقسمَةِ حسبَ الولاياتِ، ثمَّ مدراءُ الإداراتِ المقسمةِ حسبَ العمالاتِ، بحيثُ تَتَوَلَّى مصلحةُ الصحةَ شؤونَ المصلحةِ ذاتِها وما يتبعُها منْ دوائرَ وإداراتٍ فرعيةٍ، وتتولى الدائرةُ شؤونَ الدائرةِ نفسِها وما يتبعُها منْ إداراتٍ متفرعةٍ عنها في عمالاتِ الولايةِ. ويكونُ أطباءُ العائلةِ وممرضاتُ المدارسِ ومراكزُ رعايةِ الأمِّ والطفلِ والمراكزُ الصحيةُ والمستشفياتُ والصيدلياتُ وكلُّ مرافِقِ وعُمَّالِ الصحةِ الأخرينَ مسؤولينَ أمامَ مُديرِ الإدارةِ في العمالةِ التي يَتْبَعونَ لها.
أما منْ حيثُ تمكينُ كلِّ الرعيةِ منَ الحصولِ على الخدمةِ الصحيةِ اللازمةِ فيتمُّ على النحوِ التالي:
يكونُ في كلِّ عمالةٍ عددٌ منَ المراكزِ الصحيةِ التي تَحوي أطباءَ عائلةٍ وممرضاتٍ وصيدليةً وطاقمَ طوارئٍ وسياراتِ إسعافٍ، حسبَ عددِ سكانِ العمالةِ وبُعْدِ المناطقِ السكنيةِ عنْ بعضِها، بحيثُ لا يكونُ لكلِّ طبيبِ عائلةٍ عددٌ كبيرٌ منَ المرضى يَعْجَزُ معهُ عنْ تقديمِ الخدمةِ الصحيةِ لهمْ بسرعةٍ وبإحسانٍ، وبحيثُ لا يكونُ المركزُ الصحيُّ بعيدًا جدًّا عنِ المريضِ. وإذا حصلَ وكانَ سَكَنُ أَحَدِ الرعيةِ معزولاً وبعيدًا عنْ أقربِ تَجَمُّعٍ سكنيٍّ، وُضِعَتْ تَحْتَ تَصَرُّفِ أقربِ مركزٍ صحيٍّ إليهِ وسائلُ نقلٍ تضمنُ نقلَ المريضِ إلى المركزِ في أيِّ وقتٍ لِتَلَقِّي أيِّ خدمةٍ طبيةٍ سواءَ أكانتْ طارئةً أمْ لا، أوْ نقلِ الدواءِ إلى المريضِ.
مَنْ أرادَ أيَّ خدمةٍ صحيةٍ غيرِ طارئةٍ يتوجهُ إلى طبيبِ العائلةِ، ويقومُ الأخيرُ بتقديمِ هذهِ الخدمةِ إِنْ كانتْ في مجالِ تخصُّصِهِ وعِلْمِهِ، وإلا أحالَ المريضَ إلى مُخْتَصٍّ آخرَ أوْ إلى المُستشفى بحسبِ المشكلةِ الصحيةِ وَضَرورةِ تقديمِ العلاجِ دونَ تأخيرٍ.
مَنْ كانَ لديهِ مشكلةٌ صحيةٌ مُزْمِنَةٌ كالسُّكَرِي أوْ ضغطِ الدَّمِ أوْ مرضِ القلبِ أوْ المفاصلِ أوْ غيرِ ذلكَ، يقومُ بزياراتٍ دوريةٍ ومتابعةِ المرضِ والعلاجِ عندَ طبيبٍ مختصٍّ في هذا المرضِ المُزْمِنِ، وعلى طبيبِ العائلةِ أنْ يُتابِعَ المريضَ أيضًا عنْ طريقِ الإطِّلاعِ على تقريراتِ الطبيبِ المختصِّ الدوريةِ.
مَنْ أرادَ خِدْمَةً صحيةً طارئةً يتصلُ بالإسعافِ، ويقومُ أقربُ طاقمِ إسعافٍ بتقديمِ العلاجِ الأوليِّ ونقلِ المريضِ إلى المُستشفى فورًا.على الدولةِ أَنْ تُنْشِئَ في كلِّ عمالةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ، يحوي التخصصاتِ الأساسيةِ كالباطنيةِ والجراحةِ والأطفالِ وما إلى ذلكَ، ويحوي أيضًا قسمًا للطوارئِ. وعلى الدولةِ أنْ تهتمَّ أنْ يكونَ في كلِّ ولايةٍ مستشفًى واحدًا على الأقلِّ يحوي بالإضافةِ إلى التخصصاتِ الأساسيةِ تخصصاتٍ فرعيةً وأقسامًا للأمراضِ النادِرَةِ، وتتحدَّدُ هذهِ الأقسامُ حسبَ الأمراضِ الموجودةِ في تلكَ الولايةِ، إذْ قدْ توجدُ أمراضٌ في مناطقِ الشرقِ الأقصَى ولا تُعرفُ في أفريقْيَا.
بَنْكُ الْمَعْلُومَاتِ وَالدَّوَاوِينِ وَالْمَلَفَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ الإلِكترونِيَّةِ: على مصلحةِ الصحةِ في الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تُنشِئَ سجلَ معلوماتٍ إلكترونيًّا لكلِّ فردٍ منْ أفرادِ الرعيةِ يحوي كلَّ التفاصيلِ الصحيةِ المتعلقةِ بِهِ، ويحوي كلَّ المشاكِلِ الصحيةِ التي عَانَى منها والخدماتِ أوِ الأدويةِ التي تَلَقَّاهَا، وتُسْتَقَى هذهِ المعلوماتُ منْ مراكزِ رعايةِ الأمِّ والطفلِ وممرضاتِ المدارسِ والمستشفياتِ وأطباءِ العائلةِ وكلِّ جهازٍ إداريٍّ صحيٍّ آخرَ في الدولةِ، بحيثُ تُدَوَّنُ في سِجِلٍّ إلكترونيٍّ واحدٍ. والهدفُ مِنْ مثلِ هذا التدوينِ هُوَ إطلاعُ كلِّ منْ يريدُ تقديمَ خدمةٍ صحيةٍ لهذا المريضِ على ماضيهِ الصحيِّ لِيَسْهُلَ عليهِ تشخيصَ المشاكلِ الصحيةِ ووصفَ العلاجِ الملائِمِ.
ولأنَّ الطبيبَ مُسْتَشَارٌ، وَ«المستشارُ مُؤْتَمَنٌ» كما روى أبو داودَ عنهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ، وَجَبَ أَنْ تكونَ هذهِ المعلوماتُ عنِ المريضِ سريةً لا يَطَّلِعُ عليها إلا المريضُ نفسُهُ أوْ مَنْ أَذِنَ لهُ المريضُ بذلكَ، لأنَّ المرضَ مما يُكتَمُ عادَةً ولا يُرْغَبُ بِاطِّلاَعِ الناسِ عليهِ. وَفَضْلاً عنْ ذلكَ، فإنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولُ في الحديثِ الذي حَسَّنَهُ الألبانيُّ مِنْ رِوايةِ الترمذيِّ وأبي داودَ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»، والتفت هنا تعني أن صاحب الحديث ينظر حوله خشية إن يتسمع على حديثه أحد، وهو كناية عن أن ما يتحدث به هو خاص بمن يُحدثه، ولهذا كان حديثه أمانة عند من يتحدث إليه، وحديث المريض للطبيب هو من هذا القبيل، أي هو أمانه لأن المريض يخص به الطبيب ولا يحب أن يطلع عليه أحد غير مأذون له. وأيضا فقد روى مسلمٌ عَنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «لا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». والتحدثُ بأسرارِ المريضِ مِنَ الغيبةِ لأنهُ ذِكْرٌ للمريضِ بما يَكْرَهُ، والغيبةُ محرمةٌ لقولِهِ تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات:12).
وَتُسْتَثْنَى منْ وُجوبِ الكتمانِ المعلوماتُ الصحيةُ التي قدْ يُسَبِّبُ كتمانُها ضررًا على الجماعةِ، كإخفاءِ مَرَضٍ مُعْدٍ أوْ عَدَمِ التبليغِ عنْ مريضٍ يُسَبِّبُ عَمَلُهُ خَطَرًا على الجماعةِ، كسائِقِ طائرةٍ أوْ شاحنةٍ مُصَابٍ بالصَّرَعِ، وهذا منْ بابِ منعِ الضررِ وإزالَتِهِ الذي هوَ واجبٌ شرعًا. والاستثناءُ هنا محصورٌ بتبليغِ الجهاتِ التي تُعالِجُ هذا الضررَ المُحْتَمَلَ وتمنَعُهُ، لا بتبليغِ أيِّ شخصٍ آخرَ.
تعليم الطب والتأهيل المهني والبحث العلمي
نهى الإسلامُ عنْ ممارسةِ التطبيبِ ممنْ لمْ يُعْرَفْ منهُ الطِّبُّ، فقدْ جاءَ في الحديثِ المرفوعِ الذي رواهُ أبو داودَ وابنُ ماجةَ عنْ عُمَرَ بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ»، وقدْ صَحَّحَ الحاكمُ إسنادَ هذا الحديثِ ووافقهُ الذهبيُّ. ولفظُ تَطَبَّبَ في الحديث من التَّطَبُّبِ على وزنِ تَفَعُّل، وهوَ يدلُّ على تَكَلُّفِ الشيءِ والدخولِ فيهِ بِكُلْفَةٍ، كَكَوْنِهِ ليسَ مِنْ أهلِهِ، أوْ كَوْنِهِ مِنْ أهلِ عِلْمِهِ النَّظَرِي لكنَّهُ لا يُحْسِنُ تَطْبِيقَهُ.
ولذلكَ كانَ على الدولةِ الإسلاميةِ أَنْ تَضَعَ معاييرَ يُعْلَمُ منْ خِلالها منْ هوَ الطبيبُ منْ غيرِهِ، وأنْ تمنعَ مَنْ لمْ تنطبقْ عليهِ هذهِ المعاييرُ منْ مزاولةِ الطِّبِّ. فإنْ تَكَلَّفَ ما لمْ يكُنْ منْ مجالِ عِلْمِهِ أوْ تَخَصُّصِهِ فَأَضَرَّ بالمريضِ فإنهُ يكونُ مسؤولاً عنْ جِنَايَتِهِ، وضامنًا بِقَدْرِ ما أحدثَ منْ ضررٍ، لأنهُ يُعتبرُ بعملهِ هذا مُتَعَدِّيًا، ويكونُ الضمانُ في مالِهِ. ويُشْمَلُ مُساعدو الأطباءِ منْ مُمَرِّضينَ وأَخِصَّائِيِّي أَشِعَّةٍ أو صَيادلةٍ وَغَيْرِهمْ في الحكمِ بالضمانِ أيضًا على منْ مارسَ منهُمْ المهنةَ دونَ أهليةٍ مُعتبرةٍ للقيامِ بها وأضرَّ بالمريضِ.
ولذلكَ تُقيمُ الدولةُ لجنةً مِنَ الأطباءِ المُتَخَصِّصِينَ ورجالِ التدريسِ مُهِمَّتُهُمْ وَضْعُ برنامجٍ لتدريسِ الطبِّ في الجامعاتِ، ووضعِ الحدِّ الأدنَى منَ الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبِ مِنَ الطبيبِ أَنْ يُلِمَّ بها وَيُتْقِنَها حتى يُمْنَحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ. وتوضَعُ أيضًا برامجُ لِكُلِّ تخصصٍ طبيٍّ مِنْ قِبَلِ المتخصصينَ في ذلكَ المجالِ لمنحِ ترخيصٍ بمزاولةِ تخصصاتِ معينةٍ مِنَ الطبِّ لمنْ يُتْقِنُها، وذلكَ كالجراحةِ والباطنيةِ وطبِّ الأطفالِ وما إلى ذلكَ، وَتُؤَسَّسُ لجانٌ مشابهةٌ لمهنِ التمريضِ والصيدلةِ وباقي المواضيعِ المتعلقةِ بالطبِّ.
أما الأطباءُ الذينَ درسُوا الطبَّ في جامعاتٍ خارجَ الدولةِ الإسلاميةِ فَيُنْظَرُ، فإنْ كانَ قدْ عَمِلَ في الطبِّ مُدَّةً كافيةً في تلكَ الدولةِ بحيثُ اكْتَسَبَ خبرةً ودِرَايَةً في مجالِهِ، مُنِحَ ترخيصًا لمزاولةِ الطبِّ، وإنْ لمْ يَكُنْ قدْ عَمِلَ مدةً كافيةً أُخْتُبِرَ في الموادِّ الدراسيةِ والمهاراتِ المطلوبةِ ممنْ دَرَسَ الطبَّ في الدولةِ الإسلاميةِ، فإنْ اجتازَ الاختبارَ مُنِحَ ترخيصًا، وإلا فإنَّهُ يُدَرَّسُ ما يَنْقُصُهُ مِنْ الموادِّ والمهاراتِ حسبَ نتيجةِ الاختبارِ ثُمَّ يُمْنَحُ الترخيصَ.
ويتولى جهازُ الحسبةِ منعَ أيِّ شخصٍ لمْ يحصلْ على الترخيصِ الملائمِ مِنْ تقديمِ الخدمةِ الصِّحِيَّةِ، ولا يُكْتَفَى بمجردِ تضمينِهِ الضررَ الناتجَ عنْ فعلِهِ، بلْ يُعَزَّرُ بمقدارِ ما ادَّعَى منْ علمٍ ومارسَ منْ مهنةٍ لمْ يَكُنْ أهلاً لها، ويُعاقبُ ويُشَهَّرُ بِهِ، لأنَّ إدعاءَ الأهليةِ والعلمِ مِنَ الجاهلِ غِشٌّ نهى عنْهُ الشَّرْعُ، فقدْ روى مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وفي حديثٍ آخرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عندَ مسلمٍ أيضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي».
كما وتهتمُّ الدولةُ بتدريسِ المهاراتِ الطبيةِ الأساسيةِ كالإسعافاتِ الأوليةِ والإنعاشِ القلبيِّ في دوراتٍ خاصةٍ ومجانيةٍ، وتكونُ هذهِ الدوراتُ إلزاميةً لأفرادِ الشُّرْطَةِ والجيشِ والمعلمينَ في المدارسِ، واختياريةً لباقي الرعيةِ. وَيُقَامُ جهازٌ خاصٌّ بالإرشادِ الصحيِّ يكونُ تابعًا لمصلحةِ الصحةِ ومُرْتَبِطًا بمصلحةِ الإعلامِ وظيفتُهُ تقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ العامةِ للرعيةِ عَنْ طريقِ الإعلامِ، وتقديمُ الإرشاداتِ الصحيةِ الخاصةِ لِكُلِّ قطاعٍ وَفْقَ ما يلزمُهُ، كالإرشاداتِ الخاصةِ لِعُمَّالِ المناجِمِ، والقواتِ المُسَلَّحَةِ، والسائقينَ وغيرِهمْ.
وَكَوْنُ علمِ الطبِّ اليومَ يتقدمُ بخطواتٍ واسعةٍ، فإنَّ على الدولةِ أيضًا أنْ تَحُثَّ الأطباءَ على مواصلةِ التَّتَبُّعِ ودراسةِ كُلِّ ما يجدُّ مِنْ اكتشافاتٍ أوْ اختراعاتٍ، حتى يَتَمَكَّنُوا منْ تقديمِ خيرِ الخدماتِ الصحيةِ وأكثرِها تقدُّمًا وتطورًا. ويكونُ ذلكَ عَنْ طريقِ دعمِ وتشجيعِ النشراتِ العلميةِ الدَّوْرِيَّةِ وتوزيعِها على الأطباءِ، وعنْ طريقِ المؤتمراتِ والدوراتِ المكثفةِ الدوريةِ للأطباءِ، كُلٌّ في مجالِ تَخَصُّصِهِ. وقدْ سَمَّى الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الجهلَ داءً، وجعلَ شفاءَهُ السؤالَ والتعلُّمَ، ففي روايةِ أبي داودَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ، شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ»، والحديثُ حَسَّنَهُ الألبانيُّ. وَالْعِيُّ معناهُ الجهلُ، وأَلْحَقَ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِهِمُ الْوَعِيدَ بِأَنْ دَعَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَهُمْ فِي الإِثْم قَتَلَةً لَهُ، ولهذا كانَ على الأطباءِ أنْ يَتَعَلَّمُوا ما هُوَ جديدٌ؛ لأنَّ الجهلَ ببعضِ المستجداتِ الطبيةِ قدْ يترتبُ عليهِ إلحاقُ أذًى وضررٍ بالمريضِ.
ولا يُكْتَفَى بمجردِ تَتَبُّعِ ما هوَ جديدٌ، بلْ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تكونَ في طليعةِ الدولِ في البحثِ والابتكارِ العلميِّ ومنهُ الطبيُّ. وبالرغمِ مِنْ أنَّهُ لجميعِ أفرادِ الرعيةِ الحقُّ في إنشاءِ المختبراتِ العلميةِ المتعلقةِ بكافةِ شؤونِ الحياةِ ومنها الطبُّ، إلا أنَّهُ على الدولةِ الإسلاميةِ أنْ تقومَ هِيَ بإنشاءِ هذِهِ المختبراتِ. وتُهَيِئُ الدولةُ المكتباتِ وسائرَ وسائلِ المعرفةِ في غيرِ المدارسِ والجامعاتِ لتمكينِ الذينَ يرغبونَ منْ مواصلةِ الأبحاثِ في الطبِّ وسائرِ العلومِ والمعارفِ، ومنْ مواصلةِ الاختراعِ والاكتشافِ وغيرِ ذلِكَ، حتى يوجَدَ في الأمةِ حشدٌ مِنَ المجتهدينَ والمبدعينَ والمخترعينَ، وحتى تُشَجِّعَ العلماءَ والأطباءَ على بذلِ الوسعِ في الإبداعِ والابتكارِ لتحقيقِ السَّبْقِ في المجالِ العلميِّ.
إلا أنَّ الدولةَ الإسلاميةَ تَخُصُّ بعضَ الأمراضِ والمجالاتِ الطبيةِ بمزيدِ دَعْمٍ للبحثِ العلميِّ فيها، كالأمراضِ الوبائيةِ المنتشرةِ أوْ الأمراضِ المُسْتَعْصِيَةِ، دونَ نظرٍ إلى المردودِ المادِّيِّ مِنْ الاكتشافاتِ أوِ الابتكاراتِ العلميةِ في هذهِ المجالاتِ.
وتُنْشِئُ الدولةُ صندوقَ جوائزٍ طِبِّيَّةٍ منْ بيتِ المالِ يُكافئُ العلماءَ والأطباءَ الذينَ يكتشفونَ العلاجاتِ واللقاحاتِ، ويُقَدِّمُ هذا الصندوقُ أكبرَ الجوائِزِ لمُنْتِجِي العلاجاتِ أوْ سُبُلِ الوقايةِ مِنَ الأمراضِ الأخطرِ والأكثرِ انتشارًا في العالمِ.
وَقَدْ حَثَّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) على التداوِي، والبحثِ عنِ الدواءِ، فقالَ عليهِ وآلهِ أفضلُ الصلاةِ والتسليمِ حينَ سَأَلَهُ الأعرابُ عنِ التداوِي: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أَوْ قَالَ دَوَاءً- إِلا دَاءً وَاحِدًا» قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «الْهَرَمُ»، وهَذَا حَدِيثٌ صَحَّحَهُ الألبانيُّ وأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةْ.
وعندَ الحاكمِ في المستدركِ أنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِمْ يُنْزِلْ داءً إِلا وَأَنْزَلَ لَهُ شِفاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»، وَقالَ الحاكِمُ: «هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». وقولُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّ لِكُلِّ داءٍ دواءً، فيهِ حَثٌّ عَلَى عَدَمِ اليَأْسِ مِنْ اكتشافِ الدواءِ أوِ العلاجِ الأمثلِ لأيِّ مرضٍ.
وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) الشِّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ أَنْ تُعَلِّمَ حَفْصَةَ زَوْجَهُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو داودَ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ عَنْ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لِي: "أَلا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ"، والنَّمْلَةُ هِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ مِنَ الْجَنْبِ أَوْ الْجَنْبَيْنِ. وَفِي هذا الأَمْرِ مِنْهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِشَارَةٌ إِلى تَدْرِيسِ عُلُومِ الطِّبِّ وَأَسالِيبِ العِلاجِ.
وفي هذا المقامِ منَ المهمِّ أنْ نَذكُرَ أنَّ ما يُسمَّى بحقوقِ الطبعِ وبراءةِ الاختراعِ المتَّبَعَةِ في الأنظمةِ الرأسماليةِ، هيَ شروطٌ غيرُ شرعيةٍ، لا يجبُ الالتزامُ بها، لأنَّ مُقتضى عقدِ البيعِ في الإسلامِ، كما يُعطي للمشتري حقَّ الملكيةِ يُعطيهِ أيضًا حقَّ التصرفِ بما يملكُ، وكلُّ شرطٍ مخالفٍ لمقتضى عقدِ البيعِ باطلٌ يكونُ المشتري في حِلٍّ منهُ، ولو كانَ مائةَ شرطٍ، فعنْ عائشةَ (رضي الله عنها): "أَنَّ بَرِيرَةَ أَتَتْهَا وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ كَاتَبَهَا أَهْلُهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ شَاءَ أَهْلُكِ عَدَدْتُهَا لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً وَكَانَ الْوَلاءُ لِي. فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُمْ، وَأَبَوْا إِلا أَنْ يَشْتَرِطُوا الْوَلاء لَهُمْ، فَذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ. فَقَامَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْه،ِ قَال:َ مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِل، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَالْوَلاء لِمَنْ أَعْتَقَ»، متفقٌ عليهِ. فالحديثُ يدلُّ بمنطوقهِ على أنَّ الشرطَ المخالفَ لِما في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولهِ لا يجوزُ الالتزامُ بهِ، ولأنَّ شروطَ حمايةِ الملكيةِ الفكريةِ تجعلُ الانتفاعَ بالعينِ المباعةِ مَقْصُورًا على انتفاعٍ دونَ انتفاعٍ آخرَ، فَهِيَ شروطٌ باطِلَةٌ ومُخالِفَةٌ لما في كتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رسولِهِ، لكوْنها مُخَالِفَةً لمقتضى عقدِ البيعِ الشرعيِّ الذي يُمَكِّنُ المُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُفِ والانتفاعِ بالعينِ بأيِّ وجهٍ مِنَ الوجوهِ الشرعيةِ كالبيعِ والتجارةِ والتصنيعِ والهِبَةِ. وإنَّ الشروطَ التي تُحَرِّمُ الحلالَ شُروطٌ باطلةٌ لقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، رواهُ الترمذيُّ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ الألبانيُّ. وعليهِ فإنَّهُ لا يجوزُ شَرْعاً أنْ تكونَ حقوقُ الطَّبْعِ أوِ النَّسْخِ أوْ براءَةِ الاختراعِ محفوظةً، بلْ هيَ حقوقٌ مُبَاحَةٌ.
ولا تُحاسِبُ الدولةُ ولا تَمْنَعُ أيًّا مِنَ الشركاتِ أوِ الأفرادِ تحتَ حُكْمِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ والانتفاعِ بما استَوْرَدُوهُ أوْ نَقَلُوهُ مِنْ دُوَلٍ أُخْرَى، وذلكَ ضِمْنَ حُدُودِ الشرعِ، مثلَ تحليلِ الأدويةِ المَحْمِيَّةِ دوليًّا ببراءةِ إختراعٍ ثمَّ إعادَةِ تصنيعِها وفق الأسس الطبية الصحيحة وبَيْعِها، أوْ إعادَةِ طبعِ المقالاتِ العلميةِ وَنَشَرْها دونَ إِذْنٍ مِنْ كاتِبِها أوْ ناشِرِها.
ولا يُنْظَرُ إلى ما يُسمَّى باتفاقيةِ حقوقِ الملكيةِ الفكريةِ (TRIPS)، أوْ الاتفاقيةِ العامةِ للتعريفاتِ والتجارةِ (GATT)، حيثُ إنَّ هذهِ الاتفاقياتِ مُحَرَّمَةٌ شرعًا وشروطُها لا تُلْزِمُ المسلمينَ، أما العقوباتُ الدوليةُ أوِ المقاطعةُ التجاريةُ التي قدْ تَسْتَخْدِمها الدولُ الأخرى أوِ الأمَمِ المتحدةِ ضدَّ الدولةِ الإسلاميةِ في حالِ خَرْقِ هذِهِ الاتفاقياتِ فهيَ مسألةٌ سياسيةٌ ينبغي للدولةِ التعاملُ مَعَها دونَ التنازلِ أوْ مخالفَةِ الشرعِ، ويمكنُ أنْ يستخدمَ الإعلامُ لمحاولةِ كَشْفِ الجَشَعِ الرأسماليِّ واستغلالِهِ لهذهِ الاتفاقياتِ لحرمانِ الدولِ والشعوبِ الفقيرةِ منَ الانتفاعِ بخيراتِ الْعِلْمِ، ومحاولةِ استمالةِ الرأيِ العالميِّ منْ أجلِ كَسْرِ هذهِ الاتفاقياتِ والتخلصِ منْ تَبِعَاتِهَا.
المصدر:
مجلة الوعي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق