بسم الله الرحمن الرحيم
من خديجة إلى سودة (رضي الله عنهما)
بعد الخروج من الشعب، بسبب القطيعة التي فرضتها قريش على بني هاشم والمسلمين، والتي استمرت طيلة أعوام ثلاثة لقي فيها المسلمون عنتاً شديداً، وإرهاقاً ما بعده إرهاق. كانت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سبق وذكرنا تقاسي من المرض والضعف، ثم ما لبثت أن لحقت بالرفيق الأعلى، فوجد عليها رسول (صلى الله عليه وسلم) وجداً شديداً وحزن حزناً بالغاً. وكذلك بناتها الأربع، زهرات بيت النبوة النضرات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة وكل المسلمين!
ثم إن أبا طالب قد لحقها والذي كان نعم العشير والنصير لابن أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فازداد عليه الصلاة والسلام حزناً وهماً!!
وكان عمه أبو لهب قد رد عليه ابنتيه رقية وأم كلثوم بسبب ما نزل فيه من الوحي. فلقد تكأكأت على القلب الشريف الكبير من كل ناحية، مما زاده تعلقاً بالله، واستمساكاً بحبله، ورجاءً به سبحانه. ولقد قصد (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف لعله يجد في أهلها بني ثقيف تفهماً للدعوة، وقبولاً لها، فردوه أقبح رد وجفوه أشنع جفاء، حتى إنهم أغروا صبيانهم وسفهاءهم برميه بالحجارة فأدموا قدميه الشريفتين.
تلك الأيام وتلك الحقبة كانت أقسى ما مر به (صلى الله عليه وسلم) من محن وشدائد.
بين القبول والتردد
وبينما هو (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم في بيته، يلفه الحزن والكآبة، يفزع إلى الصلاة والدعاء ليجد بهما عزاء قلبه وروحه، جاءته إحدى السيدات المسلمات خولة بنت حكيم (رضي الله عنها) تحدثه حدثاً عجيباً.
لقد كان المسلمون جميعاً يشعرون بما يقاسي عليه الصلاة والسلام من آلام المحنة، فقد خلا البيت النبوي من أطهر الزوجات وأكرمهن، ومات العم المدافع عن أخيه ورده أهل الطائف رداً قبيحاً منكراً، فكان المسلمون يحسون بذلك، ويحاولون أن يخففوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى من يقوم على شؤونه ويدبر له أموره.
روى الطبري أن خولة بنت حكيم قالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟!
فقال عليه الصلاة والسلام: ومن؟
قالت: إن شئت بِكراً وإن شئت ثيِّباً.
قال: فمن البكر؟
قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة ابنة أبي بكر.
قال: ومن الثيِّب؟
قالت: سودة بنت زُمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما أنت عليه.
قال: فاذهبي فاذكريها علي (أي اخطبيها لي).
فجاءت فدخلت بيت أبي بكر قالت: ثم خرجت فدخلت على سودة فقالت: أي سودة، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟!
قالت: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطبكِ عليه.
فقالت: وددت (أي أتمنى ذلك) ادخلي على أبي فاذكري له ذلك.
قالت: وهو شيخ كبير، فدخلت عليه، فحييته بتحية الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلني أخطب عليه سودة.
قال: كفءٌ كريمٌ، فماذا تقول صاحبته (أي مخطوبته).
قالت: تحب ذلك.
قال: ادعيها لي. فدُعيت له. قال أبوها: أي سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو كفء كريم، أفتحبين أن أزوِّجْكِهِ؟
قالت: نعم
قال: فادعيه لي. فدعته خولة، فجاء فزوجه.
نسبها ونشأتها
هي سَوْدَةُ بنت زُمْعَة بنت قيس من بين شمس، وأمها الشموس بنت قيس بن عمر من بني النجار من أهل يثرب.
نشأت سودة في مكة وفيها ترعرعت حتى بلغت مبلغ الصبا والفتوة، فتقدم لخطبتها والزواج منها السكران بن عمرو فقبل به أبوها وزوجها به. ومات عنها وكان من المصدقين الأوائل السابقين إلى الإسلام الذين آمنوا بالله ورسوله. وكانت سودة (رضي الله عنها) امرأة مسنة، فارعة العود طويلة القامة ضامرة الجسم، نحيلة، ليست على أي قسط من الجمال، ولا مطمع فيها للرجال.
إسلامها
حين أشرقت شمس الدعوة الإسلامية على مكة استضاء بها قلب الزوجين السكران وسودة فأعلنا إسلامهما وإيمانهما، وانضويا تحت اللواء الشريف، وانتظما في موكب النور. وعندما ضاق المؤمنون القلائل ذرعاً بأذى قريش وتعرضها الدائم لهم بالإكراه والتعذيب والفتنة، أذن النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن أراد منهم الهجرة إلى الحبشة.
هجرتها
هاجرت سودة مع زوجها السكران بن عمرو إلى الحبشة في جملة من هاجروا وهناك أقاموا مدة من الزمن بعيداً عن الأهل والوطن، في شوق دائم وحنين لا ينقطع، خصوصاً إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
العودة من الحبشة
وبإسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنهما) تشجع بعض المهاجرين إلى الحبشة بالعودة إلى مكة وآثر الآخرون البقاء. وكانت سودة (رضي الله عنها) مع زوجها ممن أسرعوا بالعودة..! وتعود أسباب سرعتها في العودة إلى ما كان قد أصاب زوجها من أمراض وعلل في غربته الموحشة، وبعده عن الأهل والوطن، والأحباب والأصحاب، وتغير المناخ.
الأيم
ومع وصول الزوجين إلى مكة فوجئا بأن قريش ماتزال على موقفها من العداء الشديد للإسلام والمسلمين، بل زادت من حدة الصراع، ولم ترعوِ عن غيها وكفرها وعنادها. ولازم الزوج السكران بن عمرو الفراش بسبب العلة، والضعف المتناهي، وقامت سودة على تمريضه ومداواته ومساعدته. ولكن لم تمضِ أيام على وصوله حتى اشتد به المرض ومنعه من الكلام والحركة، ولم يلبث أن فارق الحياة. وتأيمت سودة (رضي الله عنها) وأمضت أيامها بمكة حزينة آسفة، صابرة على قضاء الله وقدره، معتصمة بإيمانها، متمسكة بإسلامها، تستمد من الباري عز وجل العون والرحمة.
أم المؤمنين
ثم كانت البشرى السعيدة التي أثلجت قلبها، وعزتها في حزنها على مصابها، وأزاحت عن صدرها كابوس المحنة...، بشرى خطبتها إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقد أرسل إليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: مري رجلاً من قومك يزوجك. فأمرت حاطب بن عمرو فزوجها. فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد خديجة (رضي الله عنها). وكان ذلك في شهر رمضان سنة عشر من البعثة النبوية الشريفة. وبهذا الزواج المبارك، أصبحت سودة بنت زمعة أماً للمؤمنين بعد خديجة وكانت (رضي الله عنها) تقوم خير قيام على رعاية بيت النبوة، من خدمة وحدب على الفتيات الطاهرات اللواتي فجعن بالسيدة العظيمة خديجة بنت خويلد، وهن في سن مبكرة أم كثلوم وفاطمة. فقد كانت زينب (رضي الله عنها) متزوجة من ابن خالتها أبو العاص ابن الربيع ورقية (رضي الله عنها) من عثمان بن عفان (رضي الله عنه).
وكذلك قدرت سودة وجودها الجديد واختيار النبي (صلى الله عليه وسلم) لها، فأكبرت ذلك واعتبرته تكريماً عظيماً، فاحترمت الإرادة النبوية السامية، وأجلتها، وأنزلتها من نفسها وقلبها أسمى مقام وأرفعه.
يومي لعائشة إذاً
قامت سودة (رضي الله عنها) على شؤون بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قياماً حسناً طيباً وأدت ما عليها من واجب تجاه النبي العظيم وهي تحاول جهدها أن تحظى برضاه وعطفه وحبه..! ثم جرت الأقدار بما دبرت من العلي الحكيم.. إذ جاء جبريل عليه السلام ذات ليلة يحمل قطعة من حرير عليها صورة فتاة صغيرة السن ليخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن صاحبتها هي زوجته المنتظرة ورفيقته في الآخرة. وتكررت الزيارة في ليال ثلاث متواليات. وكانت الصورة لعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ثم بعد الهجرة إلى المدينة تم الزواج، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعائشة.
أما سودة بنت زمعة (رضي الله عنها) فكانت من المهاجرات إلى المدينة المرافقة لرسول (صلى الله عليه وسلم) الدائمة المواظبة على رضاه وحبه.. ولقد أدركت (رضي الله عنها) شغف النبي (صلى الله عليه وسلم) بعائشة وإيثاره لها، فكانت تشعر بشيء، لكنها كانت في الوقت نفسه حريصة على استمرارية بقائها زوجة للنبي الكريم، وأماً للمؤمنين.
تحدثنا السيدة عائشة (رضي الله عنها) عن ذلك فتقول: كانت سودة بن زمعة قد أسنت، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يستكثر منها، وقد علمت مكاني من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأنه يستكثر مني، فخافت أن يفارقها، ورضيت بمكانها عنده فقالت: يا رسول الله، يومي الذي يصيبني لعائشة وأنت من حل، فقبله النبي (صلى الله عليه وسلم).
خفيفة الروح والظل
كانت سودة (رضي الله عنها) فيها دعابة وتحب الضحك، وروي أنها قالت ذات يوم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): صليت خلفك البارحة، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن تقطر الدم... فضحك رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وكثيراً ما كانت تضحكه بالقول والفعل. فقد كانت (رضي الله عنها) خفيفة الروح والظل، صاحبة فكاهة ومزاح صادق، لا ثقيلة تُشعر بالملل، ولا تفتعل الحركة أو تصطنع الكلمة.
المتصدقة، الكريمة، السخية:
روت عائشة (رضي الله عنها) قالت: اجتمع أزواج النبي ذات يوم فقلن: يا رسول الله، أينا أسرع لحاقاً بك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أطولكن ذراعاً. قالت عائشة: وتوفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانت سودة بنت زمعة أسرعنا به لحاقاً، فعرفنا بعد ذلك أنما كان طول يدها الصدقة.
ولقد قسم لها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم خيبر من الفيء كما قسم لكل أزواجه، فنالها من التمر ثمانين وسقاً ومن القمح عشرين. ولكنها (رضي الله عنها) لم تدخر ذلك.. ولم تخزنه.. ولم تجمعه في بيتها، بل فرقته على من يحتاجه قبل وصولها إلى حجرتها.
وروى محمد بن عمر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرسل إلى سودة زمن خلافته، كما كان يفعل مع باقي أمهات المؤمنين، غرارة من دراهم فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم من أمير المؤمنين.. قالت: في الغرارة مثل التمر! ثم نادت على جارية لها، وطلبت أن توزع ما في الغرارة على المحتاجين والمساكين، ودعت ربها سبحانه وتعالى أن يثبتها على القناعة والاكتفاء.
الوفية بالعهد
عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: حجّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بنسائه عام حجة الوداع، وكان كل نسائه يحججن بعده إلا سودة بنت زمعة وزينب ابنة جحش قالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وروي عن سودة قولها: حججت واعتمرت، فأنا أقر في بيتي كما أمرني الله عز وجل.
الوفاة
هناك اختلاف في تاريخ وفاتها (رضي الله عنها)، فمن المؤرخين من يقول إنها كانت أول نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) لحاقاً به، حسب رواية عائشة (رضي الله عنها)، وقد توفاها الله تعالى في العام الرابع والخمسين من الهجرة، زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان والله أعلم.
رضي الله عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة المسلمة المهاجرة والمؤمنة الصادقة المتصدقة والوفية المحبة. وأنزلها من لدنه تعالى منازل الأبرار الصالحين، في جنات النعيم، وألحقنا بها في الطائعين التائبين من عباده، إنه أكرم مأمول وخير مسؤول وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق