الجمعة، 19 فبراير 2010

خديجة بنت خويلد رضي الله عنها


بسم الله الرحمن الرحيم

إن بيت النبوة هو أجل البيوت وأطهرها، وإن كان لنا في رسول الله أسوة حسنة فلنا في حياته وفي بيته وسط أسرته النصيب الأكبر منها، تلك الحياة التي أنشئت على طاعة الله، فكانت نساؤه توفرن له حياةً هنيئة، وجواً إيمانياً صافياً، ويحملن معه هم الدعوة، ويسعين إلى إيصالها إلى الناس، فأكرمهن الله تعالى وجعلهن أمهات للمؤمنين، قال سبحانه وتعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب 6]. ولنا في أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عبر كثيرة، وحياة يحتذى بها، ففي عهدها بُعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمةً للعالمين، وفي عهدها تنزّل عليه الوحي، فساندته وآزرته وصدقته وآمنت به حين كذبه الناس، ووفرت له الصفاء والسكينة، وكانت له خير معين. لله درها من أم يقتدى بها! لله ما أعظم أجرها! إنها بحق سيدة نساء العالمين.

نسبها

كان والدها سيد قومه وعشيرته، يطيعونه ويهابونه، ويحترمون رأيه ويقدرونه. ولقد حفظت قريش له شجاعته عندما تصدى لـ"تبّع" (ملك اليمن) حين أراد أن يحمل معه (الحجر الأسود) إلى بلاده، فمنعه من ذلك، فنصبته قريش عليها زعيماً، لا ينازعه في ذلك أحد.

وكان له ابن أخ اسمه ورقة اشتهر بين الناس بالحكمة وسداد الرأي، وهو أحد أربعة خاصموا قريشاً في وثنيتها وعبادتها للأصنام، ولما لم تستجب لهم اعتزلوها وما تعبد من دون الله.

ولادتها

تزوج خويلد من فاطمة بنت زائدة بن الأحم، القرشية، أجمل سيدات مكة وأكثرهن صباحة وجه، وروعة حسن، فولدت له "خديجة" (رضي الله عنها)، قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً تقريباً فكانت صورة عن والدتها، كما ورثت عن والدها خويلد الحزم والذكاء، واكتسبت من ابن عمها ورقة العلم والحكمة.

نشأتها

نشأت خديجة (رضي الله عنها) في بيت طاهر طيب الأعراق.
وعن زواجها يقول الزهري: «تزوجت خديجة بنت خويلد بن أسد قبل رسول الله رجلين الأول منهما عتيق بن عايذ... فولدت له جارية وهي أم محمد بن صيفي المخزومي ثم خلف على خديجة بعد عتيق بن عايذ أبو هالة التميمي وهو من بني أسيد بن عمر فولدت له هالة وهند» ولما توفيا الواحد بعد الآخر انصرفت إلى تربية أولادها وكانت معروفة بين القاصي والداني بلقبي" الطاهرة" و"سيدة قريش".

في ميدان التجارة

لقد عملت خديجة (رضي الله عنها) في ميدان التجارة واستطاعت أن تؤسس في مكة بيتاً مالياً ضخماً، أصبح من بعد علماً عليها، يعرف بها، ورحلت قوافلها تمضي مصعدة إلى الشام، أو هابطة نحو اليمن، تحمل من الأسواق ما يدر عليها الربح الوفير والمال الكثير.

الأمين على تجارة خديجة

قال ابن إسحق: «كانت السيدة خديجة امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بلغها، من صدق حديثه، وعِظَم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج بمالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التُجَّار، مع غلامٍ يقال له ميسرة».
وعن نفيسة بنت منية قالت: «لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمساً وعشرين سنة، وليس له بمكة اسمٌ إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير، قال أبو طالب: يا ابن أخي أنا رجلٌ لا مال لي، وقد اشتدَّ الزمان علينا، وألحَّت علينا سيول مُنكرة، وليست لنا مادةٌ ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيرها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضَّلتك على غيرك لما بلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من اليهود، ولكن لا نجد من ذلك بداً. ولكن غلب على النبي الكريم حياؤه وعزة نفسه، فقال لعمه أبي طالب: لعلها ترسل إلي في ذلك، فقال أبو طالب: أخاف أن تولي غيرك فتطلب الأمر مدبراً -أي تفوتك الفرصة- فافترقا. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وبلغها قبل ذلك ما كان من صدق حديثه وعظم أمانته فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. ففعل عليه الصلاة والسلام، ثم لقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك».

لكن أبا طالب كان شديد القلق على ابن أخيه، الذي كان قد وصاه به خيراً الراهب بحيرا. فأتى إلى ميسرة غلام خديجة يوصيه بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وإزاء ذلك تركز اهتمام ميسرة على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يراقبه ويرعاه، تنفيذاً لوصية أبي طالب، ولقد رأى ميسرة من أمر محمد العجب العجاب: شخصية خارقة، وخلق دمث، وكلمة متزنة، ومشية كلها وقار، وحديث كله عذوبة، وأمانة ما بعدها أمانة، وصدق بالغ، وحنكة ودراية يعجز عنها فحول التجار.
ورأى ما لا يمكن أن يُستهان به، أو يمر به مرور الكرام!! رأى السماء تظله بظلها حين يشتد لهيب الشمس، وغمامة تتبعه في تنقلاته وتحركاته لتحميه من القيظ الشديد. وعندما آوى مرة إلى شجرة ليستريح في بعض ظلها... أورقت... واخضرت وزهت. لقد كان ما يراه ميسرة من أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مألوف بالنسبة إلى الناس، فازداد حرصه عليه، ورعايته له، في الحل والترحال.

العودة الميمونة

عندما عادت القافلة إلى البلد الحرام (مكة المكرمة) وقد ربحت بضاعتها، وكثرت عليها، وكان ربحها كثيراً وفيراً... وعندما أذن مؤذن العير بالوصول، قامت "خديجة" على غير عادتها إلى سطح دارها ترقب القافلة، واللهفة بادية على وجهها. وبكلمة وجيزة وأدب جم ووقار باسم أفضى "محمد" إلى "خديجة" بوقائع الرحلة.

وبعد انصرافه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عندها حدثها غلامها ميسرة عن البيع والشراء والربح الوفير الذي يفوق أضعاف ما كانت تكسبه في المرات السابقة، وحدثها عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي في كل ذلك سماعة له مصغية بأذنيها وعواطفها...، تستزيده فيزيدها... فينشرح صدرها وقلبها.

وكان لا يغيب عنها ما رأته في منامها منذ أمد... إذ رأت الشمس عظيمة مضيئة مشرقة..، أشد ما يكون الضوء جلالاً وجمالاً وسطوعاً..، تهبط إلى دارها من سماء مكة فيغمر ضوءها ما يحيط به من أماكن وبقاع..!

وإنها على أثر الرؤيا سعت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تحدثه بذلك، فقال لها: لك البشرى يا خديجة يا ابنة العم، فهذه الشمس المضيئة علامة على قرب مجيء النبي الذي أظل زمانه...، ودخولها في دارك دليل على أنك ستتزوجين منه.

الزواج الميمون

فكرت خديجة في ذلك ملياً، ثم استقر رأيها على قرار. مضت إلى دار ابن عمها ورقة وحدثته من جديد بحديث ميسرة عن محمد والغمام الذي كان يظله في تنقلاته يحميه من وهج الشمس ولفحها وأذاها، فهتف ورقة: قدوس.. قدوس.. لقد قرب الأوان، واستدار الزمان، وآن لمكة أن تشهد الآية الكبرى. وأبدت خديجة رغبتها لابن عمها بالاقتران من محمد بن عبد الله فوافقها.

وعادت إلى دارها ثم أرسلت نفيسة إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تذكرها عنده، وتعرض عليه نفسها. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفيسة: «ما بيدي ما أتزوج به..»
قالت: فإن كُفيت ذلك، ودُعيت إلى الجمال والشرف... ألا تجيب؟
قال: «فمن هي؟»
قالت: خديجة
قال: «خديجة بنت خويلد؟!»
قالت: نعم
فقال في ابتهاج: «وكيف لي بذلك؟»
قالت: أنا أفعل..
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «وأنا رضيت»

عمت الفرحة بيوت الهاشميين، وتناقل الناس النبأ العظيم، وتقدم أبو طالب يفتتح الحفل بالخُطبة، فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً، وجعلنا حكاماً على الناس. أما بعد... فإن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإذا كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل. ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خَطب خديجة بنت خويلد وبذل ما عاجله خمسمائة درهم، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم.

ثم تكلم ورقة بن نوفل ابن عم خديجة فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرتَ، وفضلنا على ما عددتَ، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على الصداق المسمى.. ثم سكت.

فقال له أبو طالب: قد أحببتُ أن يشركك عمها. فقام عمرو بن أسد فقال: اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحتُ محمد بن عبد الله، خديجة بنت خويلد، فهو والله الفحل الذي لا يُقرع أنفه...

ولما تم العقد نحرت الذبائح ووزعت على الفقراء، وفتحت دار خديجة للأهل والأقارب فإذا بينهم حليمة السعدية جاءت لتشهد عرس ولدها الذي أرضعته، وعادت بعد ذلك إلى قومها ومعها أربعون رأساً من الغنم هديةً من العروس الكريمة لمن أرضعت محمداً الزوج الحبيب...

وهكذا تأسس البيت النبوي الكريم، وكانت خديجة (رضي الله عنها) يومذاك في الأربعين من عمرها والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخامسة والعشرين.

من بيت أبي طالب إلى بيت خديجة

وانتقل عليه الصلاة والسلام من بيت عمه أبي طالب إلى بيت خديجة، ومرت أيام الحياة بالزوجين على أهنأ ما تكون، فقد كان هذا الزواج في حقيقته زواج عقل راجح إلى عقل راجح، وأدب جم وطيب خلق إلى مثله. يقول العقاد رحمه الله في وصف ذلك: لم يجد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جانبه فتاة غريزة تنزع ولا تدري ما تصنع، بل وجد إلى جانبه قلباً كريماً، وروحاً عظيماً، وسكناً تهدأ عنده جائشة صدره، وتطمئن إليه خشبة فؤاده.

زهرات بيت النبوة
وبعد مرور عام وبعض عام أنجبت خديجة (رضي الله عنها) زينب كبرى بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فملأت البيت بالحركة والحيوية. وبعد ذلك بعام، وضعت رقية فكانت محل الحب والإعزاز، ثم أعقبتها أم كلثوم ثالثة النجوم..! فتهامس الناس في أندية قريش بأن محمداً لا يرزق إلا بنات..!

لقد اختصت وتشرفت (رضي الله عنها) بأنها أم أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم إلا إبراهيم فهو من مارية القبطية. وقد أنجبت له من الذكور القاسم وهو أول من مات من ولده ودفن بمكة، وعبد الله ويقال له الطاهر والطيب لأنه ولد في الإسلام ومات صغيراً بالبلد الحرام.

وحين دخل العام العاشر من الزواج الميمون كانت قد حملت خديجة وتمنى المحبون الغيورون أن يكون المولود ذكراً. وحلت في ذلك العام بقريش كارثة إذ احترقت أستار الكعبة، ومر بها سيل جارف فصدع جوانبها وأسقط بعض جدرانها وتنافس الناس في البناء بعد رهبة وفزع وشمر الجميع عن ساعد الجد، وحينما بلغوا موضع الحجر الأسود اختلفوا...، إذ تطلعت كل قبيلة لأن تحظى بشرف إعادته إلى مكانه من الركن... ثم اشتد النزاع وامتدت الأيدي إلى مقابض السيوف، ولولا كلمة صدرت عن أمية بن المغيرة المخزومي فحجزتهم، لفتك بعضهم ببعض، إذ قال لهم: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم. فقبلوا جميعاً، ثم تعلقت عيونهم بالباب تنتظر القادم المجهول، وبينما هم كذلك إذ أقبل وجه يضيء كأنه البدر ليلة التمام، يعلوه الجلال، ويكسوه الوقار، متزن الخطى من غير تكلف، رزين من غير فتور... فصاح الناس جميعاً: هذا محمد بن عبد الله، رضينا بحكمه واستبشرنا بطلعته.

الحكمة النبوية

ثم حكموه فيما هم فيه مختلفون... وبحكمته البالغة (صلى الله عليه وآله وسلم) طلبَ ثوباً طويلاً (رداءً) وضع في وسطه الحجر الأسود ثم طلب إلى الكبراء منهم أن يمسكوا كل بطرف، ثم يرفعوه...
وأعاد (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجر إلى مكانه بيده الشريفة، وحقن برجاحة عقله وسمو حكمته دماء القبائل من قريش. وغادرهم إلى بيته، قلق البال على زوجته التي تركها وهي تعاني من آلام الوضع، وعلى بعد خطوات من باب بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) تلقى البشرى...، لقد وضعت خديجة الوليدة الجديدة الرابعة فاطمة الزهراء. لقد وُلدت (رضي الله عنها) عنها في اليوم الذي أنقذ الله فيه قريشاً على يد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من فتنة عمياء، وصان عليها الدماء، وجاءت الزهراء مع البشرى.

فجر الإسلام

وأخذت خديجة (رضي الله عنها) تلاحظ سمات جديدة تعلو وجه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصمتاً طويلاً عميقاً يلازمه، وتأملاً شديداً يسرح به، وهو مع هذا كله يزداد تألقاً وصفاءً، ويشع نوراً وبهاءً. فأحست بقرارة نفسها وصدق حدسها أن الأمر جلل..! فقامت خير قيام بما يمليه عليها وفاؤها لزوجها فوفرت له كل أسباب الصفاء والسكينة، وما عكرت عليه أبداً خلوته وتأملاته. وتتابعت الرؤى يردف بعضها بعضاً... فأخذ يحدثها بكل ما يراه ويعتريه، فتستمع له بنفس مبتهجة وصدر منشرح، ثم تثبته على ما هو فيه، وتبعث في ذاته الشريفة العزم والتصميم.

في غار حراء

وعندما أهل هلال رمضان من ذلك العام، كان انصراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلواته وتأملاته أشد من ذي قبل وأبلغ...، وقامت خديجة بتهيئة زاده، وتوفير جو الخلوة في غار حراء، في سكينة واستقرار. وأرجف الناس بأن محمداً قد عشق ربه..! فما زادته أقاويلهم إلا رغبة عنهم، وبعداً عن مجتمعهم وأنديتهم... كما رأى كثير من القوم بعض الخوارق والمعجزات فكانت مثار تكهناتهم ومدعاة ظنونهم، وافتراءاتهم... وكان عليه الصلاة والسلام حين يمضي إلى غار حراء لما حُبب إليه الخلاء تودعه خديجة خاشعة النفس والهة القلب آملة راجية ضارعة إلى الله تعالى أن يكلأه ويرعاه، ويحقق آماله وتطلعاته.

ليلة القدر

وفي يوم خالد على الدهر، وفي ليلة مباركة وهي ليلة القدر، هبط جبريل عليه السلام بالأمر إلى الرسول الأمين، قائلاً له: اقرأ... فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارئ! فأخذه جبريل وغطه حتى أجهده، ثم أرسله وقال له: اقرأ. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارئ! فأخذه وغطه ثانية وثالثة، ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق 1-5].

بعد هذه الحادثة...، عاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصدر الحنون، والقلب الكبير، والنفس المواسية، عاد إلى خديجة راجفاً قلبه، يحدثها بما رأى وسمع، وهو يقول: «زملوني... زملوني...» فانصاعت (رضي الله عنها) لطلبه، وزملته في دثاره وهي تقول أبشر يا ابن العم واثبت، فقد أريد بك الخير العظيم، وإنك والله لأهل لكل خير، والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف وتعين على النوائب. وما زالت به حتى طعم وشرب وضحك، وذهب عنه روعه.

ثم إنها رضي الله عنها قصدت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل فحدثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بحديثه وشأنه، وما أن فرغ حتى هتف ورقة: قدوس...، قدوس...، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءك الناموس الأعظم الذي كان يأتي موسى...، وليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أوَمخرجي هم؟
فأجاب ورقة: نعم...، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.
أول الناس إسلاماً
أسلمت خديجة وآمنت. ولم تقف في إيمانها عند حد معين، بل انطلقت في سبيل الله مثبتةً رسوله، داعيةً لدينه، باذلةً الغالي والنفيس لأجله.

ثم تتابع الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمره أن يقوم فينذر عشيرته الأقربين (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء 214]. فترك فراشه ودثاره، وأمنه وراحته، وقال لخديجة: «لقد انقضى زمن النوم والراحة يا خديجة».

السابقون السابقون

ثم تتابع دخول المؤمنين في موكب الإيمان، وأخذت المسيرة طريقها إلى الله تعالى، فأسلم على التتابع الفتى علي بن أبي طالب والمولى زيد بن حارثة والصديق أبو بكر وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنهم أجمعين).

فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين

ومكث عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله سراً ثلاثة أعوام، حتى أمره الله سبحانه وتعالى أن يجهر بالدعوة، إذ أوحي إليه قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر 94] وفي هذه الرحلة بدأ الصراع العنيف الحاد من قبل قريش لدعوة الحق وأخذ صناديدها يناصبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العداء، ويفتنون أصحابه، فلم يضعف ولم يهن ولم تلن له قناة. وأمعن أبو لهب في إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر ولديه عتبة وعتيبة أن يطلقا ابنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رقية وأم كلثوم نكايةً وتشفياً...! لكن رحمة الله أعظم وأوسع... وأقرب من المحسنين، فلم يترك الأمر يبلغ مداه وغايته، إذ جاء عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهو أكثر شباب قريش مالاً، وأكرمهم نسباً، يخطب رقية إلى نفسه، فكان العزاء الكبير لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولزوجته خديجة (رضي الله عنها) ولرقية نفسها.

الصابرة في البأساء والضراء

وامتدت يد قريش إلى تجارة خديجة تنال منها، فتصادر الأموال، وتقطع السبل، وتحرض الأتباع، فكانت (رضي الله عنها) تتقبل كل ذلك بصبر وجلد، راضيةً مرضية. وكثيراً ما كان يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله معفر الجبين، وقد أصابه سفهاء القوم بالأذى... فتتلقاه خديجة بحنانها وحبها، فتمسح جراحه الزكية، وتغسل وجهه الشريف، بيد حانية رقيقة...، ولا تزال تواسيه بالكلمة الطيبة حتى يبتسم ويتناول طعامه.

الجزاء الأوفى

ويهبط من الملأ الأعلى جبريل عليه السلام حاملاً البشرى إلى المؤمنة الصابرة والمسلمة المجاهدة، والزوجة الوفية، فيخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك قائلاً: «لقد أمرني جبريل عليه السلام أن أقرئك السلام، والله تعالى يبشرك ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب». وحين أذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وظلمها، ودَّعت خديجة (رضي الله عنها) ابنتها رقية المهاجرة بصحبة زوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه) وهي تكبت في أعماق ذاتها نوازع الأمومة، محتسبة فلذة كبدها وبضعة فؤادها أمانة بين يدي الله تعالى.

القطيعة في شعب أبي طالب

لم تفلح وسائل قريش أبداً في فل عزيمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه، فلجأت إلى سلاح جديد، هو سلاح المقاطعة.
فلا مجالسة، ولا مبايعة، ولا شراء، ولا مزاوجة، ولا مخاطبة، مع الهاشميين وأنصارهم، يعني: لا تعايش على الإطلاق!!
وكتبوا بذلك وثيقة علقوها على جدران الكعبة الداخلية، فاضطر المسلمون ومعهم بنو هاشم الاعتزال في شعب من شعاب مكة عرف بشعب أبي طالب ثلاثة أعوام!! يقاسون من الشدائد والمتاعب والمصاعب ما تنهار له الشم الرواسي، وتتزلزل معه أصلب النفوس.
وكان لأم المؤمنين خديجة (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنوات المحنة هذه فضل كبير... كانت تواسي نساء المسلمين بنفسها ومالها، وتغدق عليهم من فيض حنانها ومحبتها، وتنفق إنفاق من لا يخاف فقراً ولا شحاً.
ثم انهارت مقاومة قريش أمام صلابة المؤمنين وصبرهم، وصدق عزائمهم، وانجلى الحق وعاد المسلمون إلى مكة وهم أشد مضاءً، وأقوى إسلاماً.

عام الحزن

تتابع نزول الوحي، وأخذ أمر الرسالة يقوى، ورايتها تعلو، ويكثر عدد المؤمنين...، ما جعل الصراع بين الإيمان والكفر يشتد ضرامه وتتوقد ناره، ويلتهب لظاه... وفي عام واحد، العاشر من البعثة النبوية الشريفة، أصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحادثين جللين جعلاه يسمي ذلك العام بـ"عام الحزن". فقد توفي عمه أبو طالب الذي كان درعه الواقية، يدفع عنه الأذى، ويحميه من سفه السفهاء، والذي كانت تهابه قريش لمكانته فيها، لقد مات الرجل الذي كفله صغيراً، ورعاه يافعاً، وحماه نبياً ورسولاً، ثم لحقته خديجة (رضي الله عنها). إذ أوهنت سنوات الحصار والمقاطعة بقسوتها وشدة وطأتها جسد النبيلة الطاهرة، والمجاهدة الكريمة الصابرة، فسقطت صريعة المرض.
وأحس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحزن والأسى، كما أحاطت بالفراش الطاهر زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة يبكين أغلى الأمهات وأكثر المجاهدات. ثم دنا منها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باكياً، وهو يقول: «ما أمر الفراق يا خديجة، سيكون في الجنة قصرك الذي أعده الله من لؤلؤ مضيء...» فتجيبه الصديقة مع آخر نسمة من نسمات الحياة: إن شاء الله.
ويبكى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتبكي بناته، ويخلو البيت الكريم من الشعلة الإيمانية التي أضاءت جوانبه وآفاقه، ثمانية وعشرين عاماً.
ولحقت خديجة (رضي الله عنها) بالرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

فضلها وإكرام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاتها

- روى أحمد عن عائشة (رضي الله عنها): «كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْماً فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا، قَالَ: مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاء»

- وعنها (رضي الله عنها) قالت: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلا خَدِيجَةُ! فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» (متفق عليه).
- أخرج الطبري في تفسيره عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع:... وخديجة بنت خويلد»

- «أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فِيهِ وَلا نَصَبَ» (أخرجه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه)).

المصدر: مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: