الخميس، 19 نوفمبر 2009

اللغة العربية والقوة الكامنة فيها



بسم الله الرحمن الرحيم

قليلة هي الأبحاث الجادة التي تناولت عظيم اللغة العربية وأثرها في بناء الدولة الإسلامية، ذلك البناء الفكري القائم على ما في هذه اللغة من كنوز لا بد من بعثها والاعتماد عليها في التأصيل الفقهي والفكري، لتحتل قضية التفكير باللغة مكانتها اللائقة بها.

ولعل هذا المقال القصير يندرج ضمن هذا الهدف، وهو لفت الأنظار – ونحن في حمأة الصراع الفكري والكفاح السياسي – إلى أن الاهتمام باللغة العربية قضية مهمة توازي في أهميتها الحديث عن أية قضية سياسية أو فكرية، فلم تعد اللغة تلك القوانين الجامدة والقوالب اللفظية الجاهزة الخاوية من أية أبعاد سياسية وثقافية عامة.

تعد اللغة - أي لغة- وعاء الفكر والثقافة لكل من يتحدث بها، فاللغة لم تكن مجرد وسيلة تخاطب وحسب، بل هي في كل عصر الجامع والهوية والسمة المميزة، وتقف جنباً إلى جنب في هذا الأمر مع الدين الذي يقدم معتقداته وتشريعاته بهذه اللغة، وهذا الأمر ليس خاصاً بلغة دون لغة، بل إنه يشبه القانون المستقر في وعي كل جماعة لغوية وثقافية تمارس طقوس حياتها من خلال لغتها، ولكنها مع اللغة العربية أشد وضوحاً، وذلك لاعتبارات كثيرة.

لقد تشكلت اللغة العربية عبر أجيال كثيرة، وأخذ منها وزيد عليها، وعدل في قوالبها ومفرداتها وهذبت ألفاظها واتسعت معانيها فيما يشبه القانون الداخلي الذي يحكمها، وهي في هذا تشترك مع كل اللغات الأخرى على اعتبار أن اللغة كائن حي يواكب مسيرة البشر الحضارية ويتطور معها ليستطيع حمل ما أنتجه العقل البشري من أفكار، وما ولدته القريحة من أفاويق الخيال.

فاللغة العربية، قد مرت في مراحل يسردها من يتحدث عن فقهها وتاريخيتها، ولكن الذي يعنينا في هذا المقال ذلك القانون التطوري الداخلي الذي يستكنّ فيها، ولعل من أهم مظاهر وضوحه كثرةَ المعاجم اللغوية العربية وتشعب موادها اللغوية، وتكاثر صيغها الصرفية، واعتماد قانون الزيادة الذي يحمل في تبعاته المعاني المختلفة التي قد تصل إلى حد النقيض مع المادة الأصلية، ومن هنا يمكن أن نفهم قول أحد أئمة اللغة العربية، وهو ابن جني في كتابه "الخصائص" معلقاً على التغيرات التي تصيب معنى اللفظ بما يصيبه من تغير صوتي بعبارة: "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، معبرا كذلك عن هذه الظاهرة بقوله: "هذا غَوْر من العربية لا يُنتصَف منه ولا يكاد يُحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غُفْلاً مسهوّا عنه" ، وأكد هذا القانون اللغوي بعض المعاصرين بقولهم: "فالزائد في اللغة -سواء في الصرف أم في النحو- ليس وجوده كعدمه، وإنما هو (الزائد) مجرد اصطلاح صرفي أو نحوي، له وظيفة صرفية أو نحوية، وتلك حقيقة في الدرس اللغوي".

ومن جهة أخرى فإن اللغة العربية تمتاز بظاهرة اختلاف المعنى حسب التراكيب السياقية النحوية، كل ذلك متضافراً أنتج موسوعة لفظية وثقافة لغوية ضخمة تشكل دائرة معارف، ومع كل ذلك ستجد أن هناك نقصاً في كل معجم، ذلك النقص الذي لن يعوضه اجتماع كل المعاجم، وذلك لأن المجهود البشري مهما عظم لن يستطيع أن يستوعب اللغة كل اللغة، وقد كشف عن جوانب من هذا النقص بعض المحققين للمخطوطات القديمة، فقد أشاروا إلى أن كثيراً من ألفاظ لغوية واردة في هذه المخطوطات لا يوجد في أي من المعاجم المؤلفة، فيضطرون إلى إلحاق الكتاب المحقق بمسرد الألفاظ الجديدة مع معانيها التي يفهمونها من سياق الكلام، وهذا من شأنه أن يجعل المعاني نسبية، ومن هنا جاء قول بعض الفقهاء: "كلامُ العرب لا يحيطُ به إلاّ نبيٌّ"، وينسب السيوطي في كتابه المزهر لابن فارس قوله حول هذه العبارة: "وهذا كلام حَريٌّ أن يكوَن صحيحاً وما بَلَغَنا أن أحداً ممنْ مَضَى ادَّعى حفظَ اللغة كلّها" .
هذا جانب من لغتنا يجب أن يدرك جيداً، لأنه ذو دلالة بالغة الأهمية في حركة الفكر العربية الإسلامية ، ونستطيع إدراك بعض خفاياه من تتبع مصادر اللغة العربية، الذي يقف الشعر العربي الجاهلي على رأسها، وذلك لأنه كان يشكل ديوان العرب بحق؛ فهذا الشعر عدا كونه حامل ألفاظ العرب ومعانيها، حاملٌ أيضاً فكرهم ونمط عيشهم وأساليب لغتهم وقوانينهم في التركيب اللغوي السياقي، كل ذلك جعل الشعر العربي في الجاهلية مصدراً مهماً من مصادر تفسير القرآن الكريم، هذا التركيب اللغوي المعجز الذي نزل بلغة عهدها العرب وخبروها وكانوا جهابذتها، يعرفون مداخل بلاغتها ومواطن حسنها ومساقط عيبها، حيث إنه لا يوجد لفظ أو معنى في القرآن الكريم إلا وعرفه العرب أو بعض العرب، فليس في القرآن جديد على لغة العرب سواء في ذلك الألفاظ أم المعاني أم التراكيب، فكلها من جنس اللغة وتراكيبها، ولو كان الأمر غير ذلك لبطُل الإعجاز وانعدم التحدي، فما دام أن اللغة هي اللغة، والأسلوب هو الأسلوب، والمعاني هي المعاني، ومع ذلك لم تستطع العرب الإتيان بمثل هذا القرآن، هنا يكمن الإعجاز اللغوي البياني، والمتمثل كما يذكر البيانيون العرب بمجيء القرآن الكريم على نسق خاص يستوعب المعنى بلا زيادة ولا نقصان، فتنـزل الكلمات في أماكنها بحيث لا يمكن استبدالها بأخرى، وهذا سر، وإن عرف، فمن يستطيع إدراك اللفظ ومساويه تماماً غير الذي أنزل القرآن بعلمه؟!

وهذا ما عبر عنه قديماً الخطابي في معرض حديثه عن الإعجاز اللغوي للقرآن وعجز البشر عن الإتيان بمثله، وذلك في قوله: "إنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور ثلاثة: إن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل لها، وما تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله" إذن ما زال الإعجاز قائماً وسيظل قائماً، وهذا جانب مهم من جوانب قوة اللغة العربية الذي لا يضمحل ولا يتلاشى مهما حدث.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن اللغة العربية لغة مقدسة أو أنها ذات هالة دينية بمعنى أنه لا إبداع أو ابتداع في صيغها وقوالبها اللفظية، أو أنها جامدة على حال لا تستطيع معها أن تساير كل تقدم وتعبر عن كل مستجدات العصور المتلاحقة، ولو كان الأمر كذلك لأثر القرآن سلبياً على اللغة وبذر فيها بذور الموت من أول ما عبر بها عن الأفكار والمعاني، ولكن القرآن مد اللغة بروح متجدد دائم، على اعتبار أن اللغة القرآنية بمعانيها الثرة القراءة لا تنتهي عند حد، ولا تخلق من كثرة الرد، ففي ألفاظ القرآن ما هو بعيد الأثر في مستقبل المعاني إلى ما بعد تفكيرك فيه في اللحظة التاريخية التي تقرأه فيها، وستظل تكشف عن المعاني كلما تقدم الزمن وترى عجباً، فإنه الكتاب الذي لا تنتهي عجائبه.

وقد أدرك علماء الأصول هذه الأهمية للغة فجعلوا شرط إتقان اللغة العربية أحد أهم مرتكزات الاجتهاد التي لا يستغني عنها المجتهد مهما بلغ من معرفته بالنصوص، لأنها لغة النص الديني ولغة الفكر والتاريخ المدون، ومعروف أن الاختلافات اللغوية بين علماء اللغة حادة وجادة تغني وتثري وتقنع وتشفع في الاختلافات الفقهية والأفهام التشريعية محل الخلاف بين العلماء في كل زمان وفي كل مكان، وهذا بدوره عامل قوة مستتر ومحرك قوي للغة العربية لا بد من الاستفادة منه على أكمل وجه.
وتكتسب لغتنا العربية باعتبارها وعاء فكر الإسلام أهمية خاصة، وهذه الأهمية أهمية سياسية بالدرجة الأولى على الصعيدين الداخلي والخارجي، فقد كانت هذه اللغة منذ تشكل الكيان الإسلامي السياسي الأول في المدينة المنورة وحتى آخر دولة إسلامية - دولة العثمانيين - اللغة الرسمية للدولة، ولم تتراجع عن مكانتها تلك إلا في أواخر الحكم التركي لدعاوى قومية مشبوهة، عندما انتشرت بدعة التتريك بين العرب وحوربت العربية والعلماء العرب، وقد شكل هذا الأمر بداية حرب لا تخمد وهجوم شرس على هذه اللغة في ظل حركة تركيا الفتاة، هذه الحركة العنصرية التي قسمت الأمة إلى شعوب متصارعة على قوميات ولغويات أدت إلى التشرذم والخواء والخراب في جسد الأمة فتقطعت أوصالها لغوياً وجغرافياً.

وقد أخذت الحرب على اللغة أشكالاً متعددة بعد ذلك، ولم تكن هذه الحرب ليشتعل أوارها لولا أولئك الحكام المنتمون إلى فكر غير فكر الأمة الذين جاءوا من رحم غير شريفة من بوتقة أفكار الغرب وابتداعاته الضالة، وكان أغلبها في سياق بعث القومية ونسبة كل شيء إليها، حتى إن بعض المفكرين الذين دافعوا عن اللغة العربية كان دفاعهم من منطلق قومي، وليس من منطلق إسلامي ديني.
ولم يكن هذا بطبيعة الحال أول الخلل، ولكن ما عانته اللغة من إهمال كان قبل ذلك، عندما تولى الحكم من لا يعرف العربية فأهمل أمرها، وذلك منذ القرن السادس الهجري، وخسر المسلمون جراء ذلك خسارتين على أقل تقدير: الأولى في تجميد حركة اللغة والقضاء على تطورها، وجعلها تحيا في سبات، والثانية: الخسارة التشريعية والفقهية الجديدة التي تبث الحياة في الأمة وتجعلها تواكب مسيرتها الحضارية كما بدأتها بقوة.

ويمكن القول: إن سبب الانحطاط الذي تحياه الأمة يرجع إلى شيء واحد، هو الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام. وسبب هذا الضعف هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية حين أهمل أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه، فما لم تمزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية بأن تجعل اللغة العربية -التي هي لغة الإسلام- جزءاً جوهرياً لا ينفصل عنه فسيبقى الانحطاط يهوي بالمسلمين، لأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها، بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملاً إلاّ بها، ولأن بإهمالها سيبقى الاجتهاد في الشرع مفقوداً، ولا يمكن الاجتهاد في الشرع إلاّ باللغة العربية، لأنّها شرط أساسي فيه، والاجتهاد ضروري للأمّة، لأنّه لا تقدم للأمّة إلاّ بوجود الاجتهاد.

ويبدو أن الضعف في اللغة وفهمها وإدراك مرامي أحوالها أدى إلى عجز الحل التشريعي لأمور حدثت كثيرة، فاضطرب على الدولة فهم الأحكام، وبالطبع اضطرب عليها تطبيقها، مما أدى إلى حلها بطريقة أقرب إلى الارتجالية؛ فكان لذلك أثر كبير في الدولة أضعفها وأضعف فهم الحوادث المتجددة، مما جعل المشاكل التي تحدث لا تعالج أو تعالج معالجة غير صحيحة، فجعل هذا أمام الدولة مشاكل تتراكم إلى أن سببت لها الهزال والاضمحلال، فولد إشاعة الفوضى والإحساس بعدم الاكتراث، ومع شيوع هذا الأمر أدى إلى زعزعة داخلية بين صفوف الناس، فكان له الآثار السلبية على الحكم المبني على الشريعة الإسلامية، الذي وصل إلى أقصى مدى في اعتماد قوانين أجنبية بحجة عدم مخالفتها للإسلام، فدخل في الإسلام ما ليس منه، وبذلك حدث الانكسار الفكري الداخلي، الذي يعد الأساس المتين في انكسار الدول، فإذا ما التقى انكسار داخلي وانكسار عسكري وسياسي انحطت الدولة وذهب سلطانها.

وهذا كان للأسف مكمن الداء في الدولة العثمانية، فلم تكن هذه الدولة دولة فكرية تشريعية اجتهادية، بل كانت دولة ذات توجهات صوفية لدى الحكام وعلية القوم يشيعونها في الداخل ويشبعونها بمشاعر دينية وجدانية عامة، وسيطرة عسكرية وجبروت سياسي في الخارج، فعندما ضعفت الجيوش سرعان ما تراجعت الدولة وانحسر ظلها، لتتقوقع في نهاية المطاف في دولة تركيا (الحديثة).

وتبقى قضية مهمة في هذا الحديث وهو أن العلاقة بين اللغة وأصحابها تكاد تكون تبادلية وجدلية؛ فاللغة الحية تحيا في ظل قوم أحياء، فتعطيهم ما لديها من مكنونات وطاقات، على أن يعطوها ما لديهم من قوة وبأس في التفكير، ولعله ليس غريباً أن نقول: إن أول تدهور في حال المسلمين كان نتيجة إهمال اللغة، ولن تكون الدولة الإسلامية دولة قوية فكراً وواقعاً إلا إذا كان الاهتمام باللغة العربية في المقام الأول، فتزدهر بذلك الناحية الفكرية والاجتهادية، وعلى الدولة أن تعد لهذا الأمر عدته من توفير علماء ومجتهدين لغويين في النحو والصرف والبلاغة وعلم الأسلوب وتستفيد من الفكر اللغوي التركيبي والبنيوي الذي يفتح آفاقاً لمعرفة العلاقات اللغوية بين الألفاظ وتراكيبها ومعانيها، مما يسهل عملية الوصول إلى لب اللباب ومعرفة أدق الصواب في مسائل بالغة التعقيد وتحتاج إلى عمق نظرة في التسديد.

إن الحزب العامل للتغيير، وقد وضع يده على مكمن الداء وذلك بالسير في طريق النهضة الفكرية الصحيحة، قد أخذ بعين الاعتبار هذا الجانب المهم في لغة القرآن الكريم والنصوص التشريعية الأخرى، فكانت الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية وإحيائها، وبث الوعي اللغوي بين الأفراد العاملين، وهي دعوة ذات مغزى كبير ومهم على طريق التقدم في تحقيق الأهداف الموضوعة، فاعتماد طريق النهضة لا بد له من فهم النصوص التشريعية القرآنية والنبوية بوصفها مصدراً تشريعياً، وكان لازماً أن تفهم من جهة لغتها وأساليبها ومرامي معانيها والغوص في مكنوناتها حتى تتمكن من فهم صحيح تشريعي للإسلام في ظل تطورات جديدة بحاجة ملحة إلى حل.

فراس حج محمد/ فلسطين

المصدر : مجلة الوعي

ليست هناك تعليقات: