الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

الأزمات الاقتصادية ومعالجتها من وجهة نظر الإسلام



أضحت الأزمات الاقتصادية التي تهز العالم من حين لآخر مرضا مزمنا وبالكاد تنتهي أزمة حتى تولد أخرى، و يمكن إرجاع الأزمات الاقتصادية إلى ثلاثة أسباب أساسية تتفرع عنها أزمات أخرى لا تقل عنها خطرا، و هذه الأسباب هي: النقد واختلال الميزان التجاري وسوء توزيع الثروة.

1. النقد

ظهر في القرن الماضي نظام ورقي نقدي إلزامي غير مغطى بالذهب والفضة، تقدر قيمته بالغطاء الاقتصادي المتمثل في السلع و الخدمات واحتياط الذهب و المواد الخام الإستراتيجية وغيرها مما توفره الدولة التي أصدرت تلك العملة. فالدولار الأمريكي على سبيل المثال، له غطاء اقتصادي عن طريق دعمه عالميا من عدة دول اقتصادية عظمى، وهذا بالتالي يعطيه قوة اقتصادية وثقة. وقد تشكل هذا النظام عندما قامت أمريكا بإقصاء الذهب كغطاء نقدي، وإدخال الدولار شريكا له في اتفاقية "بروتن وودز" مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم بديلا عنه في بداية السبعينات. في ظل هذا النظام تصبح الدول مهتمة بالتركيز في احتياطاتها على نقد الدول المؤثرة اقتصادياً وسياسياً لحاجتها إليه، ليتأتى لها إيجاد علاقة تجارية، أو علاقة اقتصادية مع الدول، وأي تغير سياسي أو اقتصادي في تلك الدول ينعكس على شكل أزمة في نقد الدول الأخرى وبالتالي اقتصادها. فالدول التي تربط نقدها بالأورو مثلاً تصبح مهتمة بالمحافظة على استقرار الأورو للمحافظة على احتياطاتها، فإذا اشتد طلب الناس على العملة المحلية أدى هذا إلى ارتفاع سعر عملتها بالنسبة للأورو فتقوم هذه الدولة بإنزال كميات من عملتها إلى السوق وتسحب بدلاً منها كميات من الأورو أي تبيع عملتها بالأورو، وإذا حصل العكس وتخلى الناس عن عملتها كما يحصل في المضاربات أي زاد العرض تقوم بسحب هذه الزيادة فتشتري عملتها من السوق بالأورو، أي تنـزل للسوق كمية من الأورو من خزينتها وتعيد لخزينتها عوضاً عنها عملتها. و كمثال على ذلك ما أحدثته الديون اليونانية من اضطراب في أسعار الصرف، حيث فقدت الثقة بالأورو وأصبح الفرنك السويسري ملاذا آمنا لرؤوس الأموال قصيرة الأجل، التي يمكن أن تنتقل من بلد لآخر بحثا عن الربح، وكما هو الحال بالنسبة للنفط والذهب، فان زيادة الطلب على الفرنك السويسري رفع سعر صرفه، مما دفع البنك المركزي السويسري للتدخل عدة مرات خلال الفترة ما بين يناير ويونيو2010 وعلى الأخص خلال الثلاثة أشهر من الربيع الماضي من أجل الحد من ارتفاع سعر صرف الفرنك أمام الأورو، ولقد كلفت هذه الإستراتيجية البنك الوطني السويسري ما يقارب 150 مليار فرنك تم استثمارها بشكل خاص في شراء كميات كبيرة من الأورو. ولذلك فكل دولة تربط نقدها بالأورو أو بالدولار تكون مكلفة بالدفاع عن عملتها هي وكذلك عن الأرورو أو الدولار، وتتحمل الدولة هذا العبء وحدها بدرجة أكبر وأشد من الدولة صاحبة النقد الأجنبي المعتمد.

و بما أن معظم دول العالم تعتمد في مخزونها النقدي من العملة الصعبة على الدولار الورقي، فإن أمريكا تستطيع أن تحدث اضطراباً في اقتصاد العالم بطباعة دولارات زائدة لتغطية مصالحها الخاصة على حساب الدول الأخرى فتجر عليهم أعباء من خزينتهم لإعادة التوازن، أي أن الدول الأخرى تكون ملزمة في تحمل أي عجز في ميزان المدفوعات للولايات المتحدة الأمريكية.

و بالإضافة لتأثير النقد الأجنبي مباشرة على نقد الدولة التي تحتفظ بذاك النقد في مخزونها الاحتياطي فإن نظام الورق الإلزامي معرض للتضخم بين الحين والآخر لأن سياسة الدولة الاقتصادية محلياً وخارجياً هي التي تعطيه القيمة، ولهذا فانخفاض قيمة النقد أي ضعف قوته الشرائية محتمل الحدوث بدرجة كبيرة ولعدة عوامل سياسية واقتصادية: كالديون الأجنبية والعجز في الميزان التجاري الذي يؤدي إلى التضخم، حيث تنهب الدولة موجودات الناس وجهودهم بطبع أوراق نقدية وضخها في السوق. ومعلوم أن التضخم يؤدي إلى غلاء الأسعار وضعف القوة الشرائية وتأثير ذلك على الحياة الاقتصادية شديد الخطورة خاصة إذا استمر على فترات متقاربة.

ولأن النقد لا ينسب إلى وحدة ثابتة متعارف عليها، فيصبح نظام النقد الإلزامي طريقاً إلى المؤامرات والمضاربات بين الدول فهذه تخفض عملتها لزيادة صادراتها فتقوم تلك برفع الفائدة على نقدها بالنسبة لودائع الناس بهذا النقد، لاكتناز الادخار من المواطنين وجذب رؤوس الأموال من الخارج، و هو ما حصل و يحصل الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث قامت هذه الأخيرة بتقويم عملتها مرتين أضعف من سعرها الحقيقي أمام الدولار فيما لو ترك الأمر للعرض والطلب دون تدخل من طرف الدولة، ما دفع أمريكا وأوروبا بالضغط على الصين أثناء لقاء الثماني في الصيف الماضي للحد من تدخلها (أي الصين) في سعر الصرف.

وقد تداخلت تقلبات النقد مع الأعمال التجارية، فإذا رفعت نسبة الفائدة على نقد معين أو تحسن الوضع الاقتصادي لدولة ما انصرف الناس عن الاستثمار التجاري إلى الاستثمار الادخاري للنقد صاحب الفائدة القوية في البنوك. وهذا من أسوأ ما أنتجت النقود الورقية الإلزامية، حيث تركز استثمار الأموال في أسواق وهمية، يتحكم فيها قراصنة المال، وكبار المضاربين، فتنعقد الأسواق على سلع أو خدمات وهمية تمثل أكثر من 90 % من الاقتصاد العالمي، وتجري المضاربات والمزايدات فيها إما بإشارة باليد أو بمكالمة هاتفية، أو عبر فضائيات الإنترنت، وعلى مبالغ ضخمة تقدر بالمليارات. إن الأداة الأساسية التي يعتمد عليها السوق المالي، والتي يتحرك السوق بتحركها ارتفاعا وانخفاضا إنما هو الربا أي الفائدة ويرتبط بها سعر الصرف بين العملات النقدية، كما ترتكز عليها أسعار الأسهم والسندات وباقي المعاملات المالية في سوق البورصات التجارية. وحيث أن هذه الرساميل المستثمرة تشكل مبالغ ضخمة، تقدر بالمليارات، فإن أي تغيير في نسبة الفوائد وبالتالي في سعر الصرف يؤثر تأثيرا كبيرا على المستثمرين ربحا أو خسارة. ولو كان النظام النقدي في العالم مبنيا على قاعدة نظام الذهب، لما تجرّأ أحد على القيام بهذه المضاربات، ولما عقدت هذه الأسواق ابتداء.

وحركة الأسواق هذه تقوم على تشابك بين عدة مؤسسات وتجمعات، تبتدئ بصندوق النقد الدولي، ثم تأتي شركات المصارف الضخمة، والنوادي المالية، هذه المؤسسات يقوم عليها أشخاص ذوو موهبة فذة في التخطيط لنصب الفخاخ، فيكون أحدهم يملك مؤسسة مضاربة كبيرة، وفي نفس الوقت عضوا في نادي مالي، كما يكون مستشارا لأحد المصارف، ويكون له ثقل في المؤتمرات الاقتصادية الدائمة، مثل مؤتمر (دافوس)، كما يكون مستشارا في بعض جوانب صندوق النقد الدولي، مثل هؤلاء يكونون ملمين بأطراف القضايا الاقتصادية، فيعرف أحدهم كيف يدخل الأسواق، وكيف يحركها، وكيف ينهب الأسواق ويخربها. فيفتح هؤلاء النصابون أسواق المال (بورصات) ويقومون بمضاربات أي مزايدات تبتدئ من خط معين (مؤشر) فيرتفع الخط إذا شاءوا رفعه، فتزدهر قطاعات الإنتاج، وتستعر حمى المضاربات، وترتفع مؤشرات البورصات، عندها يضرب هؤلاء النصابون ضربتهم، بعد أن كانت قد تحولت عشرات المليارات من الدولارات إلى حساباتهم، فيعمدون إلى لعبة مشروعة عندهم يفترضون عندها أمراً مباشراً أو غير مباشر، فينخفض سعر الفائدة عند أحد البنوك المعتبرة، أو يجري التخفيض في سعر عملة ما من عملات دول المجال، وفي الغالب يكون ذلك إما بإيعاز من صندوق النقد الدولي وجهازه المتآمر أو بتأثير منه، أو بإيعاز من البنك الفيدرالي الأمريكي، وبالتعاون مع وول ستريت، أي بالتنسيق بين هذه المؤسسات والنوادي المالية، وصناديق الاستثمار. فتهرب المليارات بسرعة ويخلى السوق منها، وتفتح لها أبواب الهرب إلى الخارج، فتنكشف السوق وتقع الكارثة وينتشر صداها حتى يطال كافة القطاعات المالية والإنتاجية، وتتفاقم الأزمة، فتعلن الكثير من الشركات إفلاسها، وتفرغ خزائن ميزانيات الدولة.

2. الأزمات الاقتصادية نتيجة ميزان المدفوعات

يتكون ميزان المدفوعات من جانبين (دائن ومدين) والوضع المستقر أن يتساوى جانبا الميزان، ويبدأ العجز في الميزان عندما لا تكفي الإيرادات لسد قيمة المدفوعات، ويحصل هذا العجز لأسباب كثيرة من اهمها التوسع في الواردات الإنشائية و الترفيهية دون الإنتاجية والفساد الإداري و هروب رؤوس الأموال لعدم الاستقرار السياسي. والعجز يصبح أزمة إذا لم تكف السيولة النقدية للدولة للمعالجة المؤقتة له حتى تستعيد الدولة تنشيط صادراتها وتقليل وارداتها ورسم سياسات وإجراءات لتحسين ميزان المدفوعات. والمقصود بالسيولة النقدية موجودات الدولة الجاهزة لسد العجز منها، وهي احتياطي الدولة من الذهب والقطع الأجنبي وكذلك حصتها المدفوعة ذهباً (الشريحة الذهبية) في صندوق النقد الدولي، حيث يتوجب على كل دولة عضو في الصندوق أن تدفع ربع حصتها ذهباً أو 10٪ مما تمتلك رسمياً من ذهب ودولارات، وهذه التي تسمى بالشريحة الذهبية.

فإذا لم توجد السيولة اللازمة لسد قيمة المدفوعات تسقط الدولة في براثن المؤسسات المالية المقرضة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، الذي يهرع مندوبوه لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي في البلد، ويحضرون معهم قوائم الشروط العلاجية، ليتم على ضوء تنفيذها إسداء القروض، كما يكون هناك العديد من الشركات الضخمة المتعددة الجنسية الرابضة على جوانب الساحة لتلتهم القطاعات العامة، والتي ستتحول إلى قطاعات خاصة، بفعل قوانين الخصخصة، وبموجب اتفاقيات منظمة التجارة الدولية ؛ وتقع الفريسة في مخالب وحوش المال، ويصبح البلد بكل مقدراته نهبا لهؤلاء الناهبين، كما تصبح الدولة مشلولة الحركة، مكبلة الأيدي، كما حصل لليونان مؤخرا، حيث أصبحت مقدرات الدولة اليونانية مطمعا للطامعين ولن ينسى الشعب اليوناني المسكين والمغلوب على أمره الاستغلال الأوروبي الفاحش الذي التهم مقدراتهم وجهود أجيالهم خاصة الشركات الألمانية منهم.

3. سوء توزيع الثروة بين الناس

أما الأزمة الثالثة التي تضرب اقتصاد الدول فهي ناتجة عن سوء توزيع الثروة بين الناس، فقد لا تكون هناك أزمة نقدية ولا حتى أزمة نتيجة ميزان المدفوعات، بمعنى أن الإيرادات تغطي المدفوعات ولكن الإيرادات تذهب لتغطية واردات ونفقات لسد حاجة فئة من الناس دون الآخرين، فمثلاً لو قلنا أن بلداً ما يصدر بترولاً بمبلغ مليون دينار ثم يستورد به قمحاً يكفي حاجة السكان فيكون الميزان التجاري سليماً، وبالتالي ميزان المدفوعات. ولكن لو ذهب هذا القمح فاشتراه عدد من الناس بقدرتهم المالية ولم يقدر على شرائه آخرون فإن أزمة جديدة تنشأ وتكون ناتجة عن عدم توزيع الثروة على الناس أجمعين لتمكينهم من سد حاجاتهم الأساسية فتتسبب في حدوث فقر في الأمة.

وبذلك تكون الأزمات الاقتصادية المتوقع حدوثها والتي تتطلب علاجاً محصورة في ثلاث أزمات مهمة: أزمة ناتجة عن النظام النقدي وأزمة ناتجة عن ميزان المدفوعات وأزمة ثالثة ناتجة عن عدم توزيع الثروة بشكل سليم على الناس، أي ناتجة عن سوء توزيع الثروة.


ومعالجة هذه الأزمات من وجهة نظر الإسلام يكون كالتالي:

1. النظام النقدي الحالي

فللقضاء على الأزمة الناتجة عن النظام النقدي الحالي، لا بد من الرجوع إلى نظام القاعدة الذهبية سواء بالتعامل المباشر بالذهب أو بأوراق نائبة عن الذهب قابلة للتحويل بدون قيد ولا شرط، لأن هذا النظام هو الذي يحفظ الاستقرار ويؤدي إلى الازدهار في النشاط الاقتصادي دون هيمنة لدولة على أخرى، وفيه ينسب النقد لوحدة متعارف على احترامها وتقييمها، وفيه كذلك لا تستطيع الدول زيادة حجم الكتلة النقدية لأن الدول لا تستطيع إصدار أية كمية تشاء من النقد لأنها ملزمة بالرصيد الذهبي وهذا نقيض الأوراق الإلزامية، إذ إن الدول تستطيع وقت الحاجة إصدار الكمية التي تريد من أجل خدمة مصالحها الخاصة، الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى إحداث التضخم النقدي وإضعاف الثقة بالوحدة النقدية.

ولذلك فإنه لمعالجة الأزمات النقدية لا بد من الرجوع إلى القاعدة الذهبية سواء الذهب وحده أو الذهب والفضة. غير أن هذا الرجوع لا يخلو من مشاكل نتيجة للاحتكارات العالمية ولوجود الحواجز الجمركية ولتركز الكمية العظمى من الذهب والفضة في خزائن الدول الكبيرة وخزائن الدول التي زادت طاقتها على الإنتاج وقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها بالعلماء والفنيين والمهندسين، ولاتخاذ نظام النقد الورق الإلزامي بدلاً من نظام الذهب والفضة.

ولتخطي ذلك لا بد للدولة التي تريد العودة للقاعدة الذهبية أن تسير على سياسة الاكتفاء الذاتي فتقلل من استيرادها وتعمل على أن تبادل السلع التي تستوردها بسلع موجودة عندها، كما عليها أن تعمل على بيع السلع الموجودة عندها بسلع تحتاج إليها أو بالذهب والفضة أو بالعملة التي هي في حاجة إليها لاستيراد ما تحتاج إليه من سلع وخدمات.

و دولة الخـلافة القادمة بإذن الله سيكون نقدها ذهبا وفضة لأن الإسلام قد نص على أن يكون الذهب والفضة هما نقدا الدولة لا غير حيث ربط أحكاماً شرعية بالذهب والفضة باعتبارهما نقدين وأثماناً للمبيعات وأجرة للجهود وحدد بهما نصاب الزكاة وأحكام الحدود والديات وبين أحكام الصرف بينهما في المعاملات. لكل هذا فإن نقد الدولة الإسلامية هو الذهب والفضة. و يكون دينار دولة الخلافة من الذهب يساوي 4.25 غرام و أما الدرهم من الفضة فيساوي 2.975 غرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة."

و سوف يكون الانتقال من النقود الإلزامية إلى القاعدة الذهبية أسهل وأيسر عند دولة الخلافة من غيرها، لأن الذهب الموجود في البلدان الإسلامية والمكدس في البنوك والخزائن فيها، فيه كفاية تامة لتمكين دولة الخـلافة من العودة إلى قاعدة الذهب، هذا فضلاً عن أن كميات الفضة الموجودة في البلاد الإسلامية موجودة بكميات كبيرة مما يسهل على دولة الخـلافة العودة إلى قاعدة الذهب والفضة.

وزيادة على ذلك فإن البلاد الإسلامية متوفر لديها جميع المواد الخام التي تلزم الأمة مما يجعلها في غير حاجة إلى سلع غيرها احتياجاً (أساسياً) أو احتياج ضرورة، وبذلك تستغني دولة الخـلافة بسلعها المحلية عن استيراد السلع الخارجية مما سيوفر خروج الذهب إلى الخارج وبقاؤه داخل البلاد.

كما أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً مهمة كالنفط تحتاجها جميع دول العالم وتستطيع دولة الخـلافة أن تبيعها بالذهب أو بسلع هي في حاجة إليها أو بنقود تحتاجها لاستيراد ما يلزمها من سلع وخدمات كما تستطيع أن تمنع بيعها لأية دولة إلا إذا دفعت ثمنها ذهباً مما يجعل احتياطي الدولة من الذهب في ازدياد. وبالرجوع إلى نظام الذهب يعود الاستقرار وتزول الأزمات والهيمنة النقدية لدولة على أخرى.

2. ميزان المدفوعات

أما معالجة الأزمة الناتجة عن ميزان المدفوعات من طرف الدول القائمة حاليا فانه يكون كالآتي: إذا حدث عجز في ميزان المدفوعات، أي عندما تكون الإيرادات لا تكفي لسد المدفوعات، تتخذ الدول الحالية علاجاً مؤقتاً لسد العجز من السيولة النقدية لديها، وتبدأ بسياسات وإجراءات لتنشيط أوضاعها الاقتصادية وتحسين ميزان المدفوعات وذلك برفع سعر الفائدة السوقية كوسيلة لجذب رؤوس الأموال من الخارج، و فرض ضرائب على الواردات لتخفيضها، وتخفيض قيمة العملة لتشجع الصادرات، واستغلال الثروات الطبيعية لتصديرها، و في نقس الوقت تهتم الدولة بإنتاج السلع الأساسية داخل البلاد حتى لا تضطر لاستيرادها من الخارج، وبذلك تكون قد قللت الواردات، وقد تلجأ لطبع أوراق نقدية إضافية كما فعلت أمريكا في أزمة الرهن العقاري، مما بوجد تضخماً أي ارتفاعاً في الأسعار نتيجة لخلل التوازن بين النقد والسلع، وقد تلجأ إلى الاقتراض من الخارج لإعادة التوازن لميزان المدفوعات وهذا هو السم القاتل، حيث تبدأ مرحلة جديدة من الأزمة وهي دخول مصيدة المديونية خاصة بالنسبة للدول التي لا تحسن التصرف في القروض لتشغيلها في مشروعات إنتاجية تدر دخلاً على البلاد، وهذا ما حدث لمعظم الدول النامية أو دول العالم الثالث، فإن هذه الدول قد وجدت أن الاقتراض هو أيسر السبل لمعالجة ميزان المدفوعات لأن الكثير منها لا ينتج ما يسد حاجته الأساسية، وسلعه القابلة للتصدير قليلة جداً إن لم تكن معدومة، وبذلك يجدون أن سد العجز بالقروض هو الممكن بالنسبة لهم، حيث أن الضغط على الواردات لتقليلها سيؤدي إلى ندرة السلع وبالتالي ارتفاع الأسعار وهذا بدوره يؤدي إلى تعطيل الطاقة الإنتاجية فتزيد البطالة وتقف عجلة النمو، وكذلك فإن سد العجز من احتياطياتها النقدية غير ممكن لضآلة حجم احتياطات هذه الدول من الذهب والعملات الأجنبية كما أن استنـزاف الاحتياطات واستخدامها في سد العجز يعرض مستوى هذه الاحتياطات للخطر ويدفع سعر العملة المحلية إلى التردي، فإذا ما أضيف إلى ذلك عدم اهتمام كثير من هذه الدول إلى استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل جدي تكون النتيجة التوجه إلى الاقتراض ومما يضاعف الأزمة أن يصاحب الاقتراض ثلاثة عوامل خطيرة و هي أولا توجيه هذه القروض إلى مشاريع غير إنتاجية بل إنشائية أو تَرفيَّه، وبذلك تكون هذه المشاريع عبئاً جديداً يضيف عجزاً إلى العجز السابق، ثم ثانيا الفساد الإداري من قبل المسئولين الذين ينهبون نسبة كبيرة من القروض والمساعدات الأجنبية فتجد هذه الأموال مرة أخرى طريقها إلى الخارج حيث تعود من حيث أتت و لكن تحت أسماء اللصوص من مسئولي الدولة، و أما ثالثا وهو الأخطر على الإطلاق هو استعمال الدول الكبرى أو صاحبة النفوذ هذه القروض طريقاً لبسط الهيمنة على الدول المدينة فهي ترسم سياسات تشجع هذه الدول على الاقتراض لغايات تخدم مصالحها و تمكنها من بسط نفوذها والإمساك بها وإلى الأبد. فقد ارتفعت ديون البلاد العربية من 13 بليون دولار سنة 1972 إلى أكثر من 200 بليون دولار في نهاية 1986، و ارتفعت نسبة ديون الأردن مقارنة بناتجها المحلي إلى 300٪ في 1988. ولم تنقذ القروض اليونان في بداية هذا القرن بل زادته ثقلا وصل إلى أكثر من 400 مليار أورو.

أما المعالجة الصحيحة لأزمة المديونية في الدول القائمة في بلاد المسلمين اليوم فهي كما يلي: تسديد المديونية دون الفوائد الربوية لأنها حرام: ]وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[. و يكون تسديدها من فائض أموال كل من شارك في الحكم طوال فترة المديونية لأن أخذهم للقروض وإغراق الناس في المديونية يلحق ضرراً بالأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» والضرر يزال ويتحمل مسؤولية إزالته من تسبب فيه. كما أن مسؤولية الحاكم في الإسلام هي رعاية شؤون الرعية في جميع نواحي الحياة ومنها الاقتصادية «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته»، فلا يجوز لمن يتولى الحكم أن يمارس أي عمل مالي تجاري وليس له سوى تعويضه أي مخصصاته الشهرية، فإذا أثرى خلال ولايته يحاسب على ذلك، والإثراء هو واقع جميع الحكام خلال فترة المديونية. وقد كان عمر رضي الله عنه إذا اشتبه في والٍ أو عامل صادر منه أمواله التي تزيد عن رزقه المقدر له أو قاسمه عليها، وقد كان يحصي أموال الولاة والعمال قبل أن يوليهم وبعد توليتهم فإن وجد عندهم مالاً زائداً أو حصلت عنده شبهة في ذلك صادر أموالهم أو قاسمهم ويضع ما يأخذه منهم في بيت المال. ولا يعتبر هذا تعدياً على ملكيتهم الخاصة لأنهم لم يكسبوها بطريق مشروع، فإن الرجل إذا كان حاكماً وأثرى خلال ولايته ثراءً لافتاً للنظر فإن هذا بينة كافية لمصادرة بعض ماله لأنه يكون قد اكتسبه بطريق غير مشروع أي من غير راتبه، أما غير الحكام من الموظفين فلا يصادر شيء من مالهم إلا إذا ثبت ببينة قضائية أنهم قاموا بالاختلاس أو ما هو في حكمه. ويكون ما يؤخذ من الحكام والموظفين على النحو المبين أعلاه ملكاً لبيت المال تسدد المديونية منه.

كما تحجم الدولة عن أخذ أية قروض جديدة لأن طريق القروض الخارجية للتمويل أخطر طريق على البلاد وكانت في السابق طريقاً للاستعمار المباشر على البلاد وهي اليوم طريق أساسي لبسط النفوذ والتآمر على البلاد. ولذلك فإن الأخطار المترتبة على القروض متحققة فعلاً يضاف إلى ذلك أنها بالربا ولذلك فهي لا تصح شرعاً بحال من الأحوال.

وإلى جانب العمل للتخلص من المديونية تقوم الدولة بتنشيط الاقتصاد، حيث عالج الإسلام هذه المشكلة، وذلك برسم سياسات اقتصادية سليمة في الزراعة والتجارة والصناعة وملحقاتها، وكذلك بفرضه إيجاد المشاريع الضرورية على بيت المال حال الوجود والعدم. أما بالنسبة للزراعة فإن السياسة الزراعية في الإسلام هي أن الأرض وجدت لتنتج، وبأعلى نسبة لإنتاج المواد الغذائية، والمواد اللازمة للكساء كالقطن والصوف والحرير، و يكون ذلك بالقدر الذي يمكن من الاكتفاء الذاتي و يمكن الدولة من التصدير. ولأجل ذلك توزع الأراضي على جيوش العاطلين عن العمل وتساعدهم الدولة على حسن استغلالها. وأما بالنسبة للتجارة فقد حرم الإسلام أخذ ضريبة جمارك من المسلمين والذميين وأباح لهم الاستيراد والتصدير إلا في حالتين: تمنع التجارة مع الدول المحاربة فعلاً وتمنع استيراد أو تصدير أية سلعة فيها ضرر على الأمة. وأما الدول التي بيننا وبينها معاهدات فحسب شروط المعاهدة، وأما الدول المحاربة حكماً كالسويد مثلاً فهؤلاء يحتاجون إلى رخصة استيراد لدخول مالهم. وأما الصناعة فتعمل الدولة على استغلال الثروات الطبيعية في البلاد وتصنيعها والانتفاع بها داخلياً والتصدير خارجياً. كما تركز وبشكل جاد على إيجاد صناعة الآلات حتى يمكننا بواسطة الآلات المصنعة عندنا أن نبني مصانعنا الفرعية لأن عدم إيجاد هذه الصناعة يجعل مصانعنا تحت رحمة الدول الصناعية، فإذا تعطلت آلة أو قطعة غيار يتوقف المصنع حتى نستوردها وفي ذلك ما فيه من إهدار للجهد والوقت والسلعة.

وأما الثاني وهو إيجاد المشاريع الضرورية، فإن الإسلام قد أوجد الحل على النحو التالي:

أن كل ما كان واجباً على بيت المال من رعاية شؤون للناس وفيه مصلحة لهم فهذا مرهون تنفيذه على الموجود في بيت المال، فإن وجد أنفق وإن لم يوجد لا ينفق مثل فتح طريق يوجد غيرها أو بناء مدرسة أو مستشفى يوجد غيرها يفي بالحاجة.

ـ وما كان واجباً على المسلمين مثل فتح طريق لا يوجد غيرها يغني عنها أو بناء مستشفى أو وحدة صحية لا يوجد غيرها أو مدرسة ضرورية وما شاكلها، فإن هذه المشاريع وأمثالها التي يصيب الأمة ضرر من عدم وجودها، تكون واجبة على بيت المال وعلى المسلمين، فإن وجد في بيت المال مال أنفق عليها وإن لم يوجد تفرض بقدرها ضرائب على أغنياء المسلمين وتؤخذ من فضل أموالهم عن حاجاتهم الأساسية والكمالية، أي ما زاد عن عيشهم المعتاد تؤخذ منه وبنسبته بالقدر اللازم للمشروع الواجب، وتكون هذه الأموال قد حصلت بموجب نصوص الكتاب والسنة لأن الإسلام لا يجيز للدولة جباية الضرائب كيف تشاء فإن أخذ أموال الناس بلا دليل حرام وإثمه كبير مثل ضريبة الجمارك على التجار المسلمين وأهل الذمة «لا يدخل الجنة صاحب مكس» أي الذي يجبي ضريبة الجمارك، «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبالكيفية المذكورة سابقاً تكون المديونية قد وجدت حلاً شافياً لها وكذلك تنشيط الاقتصاد وتنفيذ المشاريع العمرانية والإنتاجية الواجبة على الأمة بدون قروض أو مديونية.

3. سوء توزيع الثروة

أما سوء توزيع الثروة فقد أوجد الإسلام له حلاً شافياً بإيجاد فرص عمل نتيجة السياسة الاقتصادية التي ذكرناها في الزراعة والتجارة والصناعة، وكذلك نتيجة إنشاء المشاريع الواجبة على الأمة بالإنفاق عليها من بيت المال وإن لم يكف فمن الضرائب على أغنياء المسلمين وهذا يحتم وجود المشاريع في جميع الحالات، كما ضمن الإسلام إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد في الدولة، وهذه الحاجات هي المأكل والملبس والمسكن المعروف لمثله في مثل بلده طبقاً للنصوص الشرعية الواردة. وقد ضمن الإسلام هذه الحاجات بالكيفية التالية: أولا جعل العمل فرضاً على القادرين من الذكور إذا كان ينقصه شيء من الحاجات الأساسية. كما فرض النفقة للأنثى، وللعاجز من الرجال إذا كان فقيراً سواء كان عاجزاً عن الكسب فعلاً كأن كان غير قادر على العمل أم كان عاجزاً حكماً كأن كان قادراً على العمل ولكن لا يجده. والنفقة المذكورة تحصلها الدولة جبراً ممن فرضت عليه وتعتبر مقدمة على سائر الديون، فحكم النفقة أولاً يحصل ولا تقبل فيه دعوى الإعسار وحكم الدين تقبل فيه دعوى الإعسار. وبذلك يكون جميع رعايا الدولة في الإسلام قد ضمنت حاجاتهم الأساسية المذكورة عن طريق النفقة إلا في حالتين: إن كان ليس له قريب وارث، أو إذا عجز من تجب عليهم النفقة عن النفقة. وفي هذه الحالة تكون النفقة على بيت المال أي على الدولة (من ترك كلاً فإلينا ومن ترك مالاً فلورثته) والكَل الضعيف الذي لا ولد له ولا والد.

وهذه النفقة مستحقة على بيت المال في حال الوجود والعدم لأنها واجبة على بيت المال والمسلمين، أما بيت المال فظاهر، وأما المسلمون (أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى). فتفرض ضرائب إن لم يوجد في بيت المال وإذا خيف يقترض ثم يسدد، ولذلك تسدد حاجة الفقراء في جميع الحالات من النفقة ثم الزكاة ثم بيت المال من الواردات الأخرى ثم من الضرائب على أغنياء المسلمين. والنفقة أو الضرائب تؤخذ عن ظهر غنى أي مما يفضل من الحاجات الأساسية للمكلف وكذلك عن حاجاته الكمالية أي عيشه المعتاد، ثم يؤخذ مما زاد عن ذلك. وبهذه الكيفية تضمن الحاجات الأساسية للرعايا وبالتالي تعالج مشكلة البطالة والفقر.

كذلك فإن الدولة في الإسلام تضمن الحاجات الأساسية للرعية كلها وهي: الأمن، والتطبيب، والتعليم، حسب النصوص الشرعية الواردة في ذلك وبالكيفية السابقة.

ومن الجدير ذكره أن واردات بيت المال في الإسلام هي الفيء كله، والجزية، والخراج، وخمس الركاز، والزكاة، والأموال الخاصة بالدولة، وكذلك ما يأخذه العاشر من المعاهدين والحربيين، والأموال الناتجة عن الملكية العامة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له، ومال الغلول من الحكام وموظفي الدولة ومال الكسب غير المشروع ومال الغرامات ومال المرتدين والضرائب، و غالباً ما تكفي لسد الحاجات المذكورة بدون فرض ضرائب على أغنياء المسلمين لأجلها، إنما وضع الشرع هذه الأحكام معالجة لكل مشكلة تحدث في أي مكان وأي زمان، فإذا حدث ولم تكف واردات بيت المال الدائمية فرضت ضرائب على الأغنياء بقدرها.

مما سبق يتبين كيف عالج الإسلام الأزمات الاقتصادية معالجة تضمن السعادة للناس في حياتهم الدنيا فضلاً عن حياتهم الأخرى، والحمد لله على فضله وإنعامه.

الكاتب: شاكر حليم

ليست هناك تعليقات: