الجمعة، 2 يوليو 2010

الدم المسفوك في قرغيزيستان



ما حدث في قرغيزيستان ( 5،3 مليون نسمة ) يعقد اللسان ، ويشل التفكير، لاسيما وأنه يأتي بعد سلسلة من الصراعات، وبرك الدماء القائمة في الصومال والعراق وأفغانستان وكشمير وغيرها من ديار الإسلام، وهي صراعات ناتجة عن خليط من المكر الخارجي والغباء الداخلي.

فتسعينات الدم في الجزائر، والتمرد الحوثي في اليمن، والتمايز بين الصفوف في فلسطين، من صنع الأعداء المتربصين بالأمة، والذين لا يفتئون عن إشعال الفتن بين مكوناتها الاثنية والمذهبية والطائفية والأسرية والفكرية والحزبية.


وما جرى في قرغيزيستان ( 69 % قرغيز، 8،1 % روس ، 14،5 % أزبك ) صنعه الأعداء العاملون على تفريق الأمة وتشتيتها وتشظيها، للإجهاز عليها نهائيا وإفنائها؛ فالأعداء لا ينفكون عن إضعاف الأمة، وإلهائها في صراعات داخلية، ليقولوا: انظروا ما يجري بين المسلمين، وكيف يقتلون بعضهم بعضا، وقتلى صراعاتهم أكثر من قتلاهم على يد الآخرين، وهي مغالطة تضاف إلى بقية المغالطات الأخرى، فأيديهم أيضا ملوثة بهذه الدماء التي تسيل في صراعات بعض المسلمين فيما بينهم.

دور الأعداء في صراعات المسلمين:
ففي الجزائر، ما كان للفتنة أن تطل برأسها لولا التدخل الفرنسي، وتحريض الجيش على الانقلاب على صناديق الاقتراع، وفي العراق ما كان يحدث ما حدث لولا الغزو الأمريكي الغربي، وكذلك الأمر في أفغانستان، فقد استخدمت المساعدات كمدخل لإثارة الصراع بين الأفغان في أعقاب الانسحاب الروسي، ثم تقسيم الشعب الأفغاني بين (جيش حكومة) و(متمردين) في العدوان الذي بدأ سنة 2003 م ولا يزال مستمرا، وفي الصومال، وبعد إن استتب الأمر لحكومة المجاهدين، حرض الغرب أثيوبيا لغزو البلاد، ومن ثم تقسيم الصوماليين بين محوري أسمرة، أديس أبابا.

ورأينا ما حدث في فلسطين المحتلة بعد فوز حماس عام 2006 م والمؤامرات التي حاكها دايتون /دحلان، وأغرق عباس/فياض، في وحل الألاعيب الصهيونية بموافقتهما، في مسرحية مكشوفة، وهكذا الحال في بقية البؤر الدامية داخل سياج الأمة المنتهك.
ولا شك فإن ما حدث في قرغيزيستان جزء من هذه اللعبة، والتي تهدف إلى زرع الأسافين بين الأمة، إثنيات وطوائف ومذاهب وجماعات بل الأفراد، وقد رأينا الكثير من هذا الصنيع الشيطاني، الذي فرق بين الأخ وأخيه، والصديق وصديقه، وأبناء المسجد الواحد، والمنطقة الواحدة.

لكن كل ذلك لا يبرر ويصوغ حجم الجرائم التي يرتكبها البعض ممن فقد إنسانيته قبل إسلامه؛ فمعروف أن الشعوب الإسلامية ولاسيما دول القوقاز ووسط آسيا قد تعرضت لعمليات غسيل دماغ فظيعة، نسيت فيها مبادئ الإسلام، ولم يعد يربط بعضها بعضا سوى رابطة النوع (الدم)، كأي نوع من أنواع المخلوقات الأخرى، ولذلك ترتكب الفظائع والجرائم بحق بعضها البعض على هذا الأساس بعد أن فقدت الرابط الإيماني في سنوات الستار الحديدي.

وقد بدا الرابط الإيماني ضعيفا في حوادث أخرى، وفي بلدان أخرى، مقارنة بالاصطفاف العرقي والحزبي. وتعد أفغانستان، نموذجا، صارخا في هذا السياق، رغم العنوان الإسلامي الواضح للجهاد الأفغاني أثناء الاحتلال الروسي، وفي الوقت الحاضر.
بيد أن الإيمان في أفغانستان أقوى منه في الجمهوريات (المستقلة) عن الاتحاد السوفيتي المنهار، أي في القوقاز، ووسط آسيا.

أهداف الأعداء من إثارة النعرات:
إن الهدف من إثارة النعرات الطائفية بين أبناء الأمة، يهدف لمنع وحدتها على أساس عقيدتها، وعمليات تغيير المناهج، وإحلال نماذج أخرى للحكم والتعليم والثقافة، جزء من هذا المسعى الشيطاني الذي بدأ مع الاحتلال الغربي لبلاد المسلمين في القرن التاسع عشر، واستمر في مرحلة ما يعرف بالاحتلال غير المباشر، والذي لا يزال مستمرا، وهي توظيف أنظمة محلية لخدمة الأهداف الغربية في بلادنا.

ولموقع قرغيزيستان الاستراتيجي، فقد تم الاختيار عليها لإحداث ثلمة جديدة في وجه الأمة الذي حفرته المصائب والفتن وأدمت عينيه وأدمتعتها كثيرا، فهي تقع في الجزء الشرقي من آسيا الوسطى، وتحد من الشرق، تركستان الشرقية، ومن الشمال أزبكستان، ومن الغرب والجنوب الغربي طاجيكستان، وهي دول ذات غالبية مسلمة.

والاختيار على الأزبك ليمثلوا وقود المحرقة الجديدة بحق المسلمين في المنطقة، يهدف لقطع الروابط مع أوزبكستان، وحتى لا يطلب القرغيزيستانيين المساعدة والدعم من أزبكستان يوما ما، في حال قرروا التحرر من الهيمنة الروسية.

ولذلك رفضت روسيا التدخل لوقف المجازر، واكتفت بإرسال تعزيزات إلى قاعدتها العسكرية في الجمهورية المنكوبة، فهذا ما يهمها فقط. ويذكرنا هذا بحماية قوات الاحتلال الأمريكي لوزارة النفط العراقية بينما كان العراقيون يتساقطون برصاص جنودها وشركات المرتزقة، كبلاك واتر، وغيرها.

واحتمال حصول تحرك في قرغيزيستان وارد، حيث تسمح طبيعتها بشن حرب عصابات ناجحة ولسنوات مديدة بعتاد بسيط، فثلاث أرباع مساحتها جبال، مثل سلسلة جبال تيان شان، وجبال "الآيسكي" في الجنوب، والتي يبلغ ارتفاعها 7 آلاف متر.

ورغم ذلك فإن المساحة المتبقية من البلاد تعد غنية بالثروات، حيث تمر عبرها أنهار مثل نهر " نارين" و"نار" ونهر "فرغانة"، صاحب الشهرة التاريخية في تاريخ الفتوح الإسلامية، وتتشكل في قرغيزيستان، مجموعة من البحيرات، منها بحيرة "ايسيك كول" الجبلية التي بنيت على شواطئها منتجعات ومخيمات سياحية.

وفي الحملات الاستدمارية التي قام بها أعداء الأمة، قام الروس بالعدوان على المسلمين في قرغيزيستان، سنة 1876 م وثار القرغيستانيين بدعم من إخوانهم الأزبك وغيرهم، لكن وضعهم وحال البلاد الإسلامية في ذلك الحين لم يسعفهم كثيرا في رد العدو الصائل. كما لم يسعفهم حاليا في الإصلاح فيما بينهم. ولم يتغير الوضع بعد مجيء الشيوعيين للحكم في الكرملين سنة 1917 م فقاموا بضمها سنة 1924 م لما كان يسمى بالجمهورية الروسية الفيدرالية الاشتراكية، وفي 5 ديسمبر 1936 م أصبحت الجمهورية القرغيزيستانية الاشتراكية السوفياتية. وقبل ذلك وفي سنة 1928 م غير الروس الحروف العربية باللاتينية ثم بالروسية سنة 1941 م. وفي 31 أغسطس 1991 م (استقلت) قرغيزيستان عن الاتحاد السوفياتي السابق، لكنها ظلت تحت الهيمنة الروسية ولا يعرف متى يتحرر المسلمون من اللإسلامية التي تطبع حياة الكثير من المسلمين في العصر الحاضر، ولاسيما الأنظمة الحاكمة.

حصاد البعد عن الإسلام:
لقد كانت حصيلة الجنون الطائفي الموجه، كما أكدت الكثير من المصادر، منها صحيفة نيويورك تايمز، فظيعة، تجعل المرء يبكي على حال الأمة وما وصلت إليه، حتى إن بعض أفرادها يفعلون بأنفسهم أكثر مما يطلب منهم الأعداء أو يريدونه بطرق مباشرة وغير مباشرة، من خلال التحريض والإيحاء؛ فهناك أكثر من 200 قتيل، ونحو نصف مليون مهجر، وأشنع من ذلك أنباء قتل أطفال واغتصاب فتيات، وسط تقارير تفيد بأن السلطات المحلية ولاسيما الجيش والشرطة متورطة في هذه المذبحة الفظيعة التي تجعل قلوب المؤمنين تقطر دما. بينما يعبر الأعداء عن فرحهم على طريقتهم الخاصة من خلال تكرار مقولة ما يفعله المسلمون ببعضهم البعض، في حين أنهم ليسوا بعيدين عن تلك الجرائم، فقد جردوا الكثير من المسلمين من إسلامهم وأحالوهم إلى هوام تنهش لحوم بعضها البعض.

ولذلك لا يتحدثون عن وقف العنف فورا، ومحاكمة الجهات المتسببة فيه، وإنما يتحدثون عن إرسال الإغاثة كما صرحت بذلك وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، والكرملين، وبكين وغيرها من الدول، بينما توقعت (الأمم المتحدة) توسع النزاع ليشمل الدول المجاورة في آسيا الوسطى. وأكدت (الأمم المتحدة) أنها ستحقق فيما كان العنف مدبرا ومخططا له، كما ذكرت ذلك عدة مصادر.

ترى ما الذي بقي يربط الجناة المجرمون بالإسلام، إن كانوا يقرون بذلك، وإن كان المرء يستبعد أن يكون مسلما من يقوم بكل هذه المآسي بحق إخوان له في الدين، فضلا عن الجوار والبعد الإنساني. أو قل كيف يكون بشرا، فضلا عن أن يكون مسلما؛ فالبعد عن الإسلام سواء من قبل طرف واحد أو من طرفين، وراء كل المصائب التي حاقت بالمسلمين في تاريخهم.

عبد الباقي خليفة

ليست هناك تعليقات: