بسم الله الرحمن الرحيم
معتز بدين الله الشامي
إن الدين الإسلامي متميز عن سائر الأديان بأنه يملك معالجات لجميع أمور الحياة، فنرى الأديان الأخرى متفقة على أمور عامّة كحرمة الزنا والسرقة والتعدّي على الآخرين والكذب وغيرها، ولكنها لا تملك معالجات لحل هذه المشكلات، هذا بخلاف الدين الإسلامي الذي لا يقول فقط: لا تزنِ ولا تسرق، بل قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور 2]، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة 38]، بالإضافة إلى أنه ربى الإنسان تربية تردعه عن الحرام؛ وذلك لأن الله لم يخلق الإنسان عبثاً، فهو سبحانه خلق الإنسان بغرائزه وحاجاته العضوية ونظم إشباعها تنظيماً دقيقاً في القرآن والسنة، فلا يحق للإنسان أن يضع نظاماً يعالج أموره من دون هذا القرآن والسنة.
إن علينا فهم الإسلام كاملاً، فلا نفهمه مجرد صلاة وصوم وأحكام فردية، ولا نرى في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط أنه الأب المثالي أو الزوج المثالي، ثم ننسى أن علينا إقامة الصلاة، أي كيفية جعلها مطبقة بمعاقبة تاركها، أو ننسى الغزوات التسع والعشرين التي غزاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، بل نتذكر دائماً قول الله عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء 65] وقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه ويتقى به»، وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على تأخير دفن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلتين حتى بايعوا أبا بكر على الخلافة (وكما نعلم دفن الميت فرض)، ومن ثم مبايعة عمر وعثمان وعلي، وقول ابن عباس (رضي الله عنهما): «ليس الإسلام بحفظ حروفه، بل بتطبيق حدوده»، وغيرها الكثير.
عندما نعلم تماماً أن علينا إقامة هذا الدين بإقامة دولته التي تطبقه وتحافظ عليه وتنشره إلى العالم أجمع، وأن لا عزة للمسلمين إلا بالإسلام، وأنه لا تحل مشكلات الأمة إلا به وحده، ندرك عندها حجم العمل الذي يتوجب أن نقوم به ومدى المسؤولية المترتبة علينا، فعندها يصبح الرجل بألف وألفين من الناس، وتراه يعيش حياة مبدئية همه هذا المبدأ فلا يكلّ ولا يملّ حتى يرى المبدأ مطبقاً على الأرض، وتراه يفرح لأمورٍ الناس يحزنون منها، ويحزن لأمورٍ الناس يفرحون لها، ولذلك فإن القعود عن هذا الفرض الذي يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة هو جريمة كبرى.
بناءً على هذا، فعندما يقول الإسلام إن الصلاة فرض يجب علينا القيام به أعطانا الكيفية للقيام به، وعندما يقول إن العمل لإقامة الدين فرض أعطانا كيفية العمل لإقامته، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21]. فطريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي مجموعة الأفعال والأقوال والتقريرات، وكلها أحكام شرعية علينا أن نعمل بها، فالآن نرى واقعنا مشابهاً لواقع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان في مكة من حيث واقع المجتمع الذي كان يعيش فيه والدار التي كان يحيا فيها، فالمجتمع غير إسلامي تسيطر على المسلمين فيه أفكار ومشاعر غير إسلامية ويحكم بنظام غير إسلامي وعلينا تغييره كما غيّره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وكذلك الدار فإنها دار كفر، ودار الكفر عرفها الفقهاء "تكون الديار ديار كفر بظهور أحكام الكفر فيها ولو كان جلّ أهلها من المسلمين، وتكون الديار ديار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ولو كان جل أهلها من الكفار". وعلينا أن نغير دار الكفر هذه كما غيرّ الرسول عليه الصلاة والسلام دار الكفر وأقام دار الإسلام في المدينة، فالأعمال التي قام بها الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه المسلمون الأولون في مكة هي الأعمال التي يجب أن نقوم بها في أيامنا من باب التأسي بأفعال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل تحويل الدار إلى دار إسلام وتغيير المجتمع إلى مجتمع إسلامي...
والآن سنستعرض الأعمال التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، لندرك ما يجب علينا أن نقوم به في عملنا لتغيير الواقع. والمدقق في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أنه قام بثلاث مراحل أساسية:
ابتداء قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوة كل من يأنس بهم خيراً، فدعا خديجة فآمنت به ومن ثم علياً ومولاه زيداً وأبا بكر، واتصل بالناس يدعوهم إلى الإسلام، يريد إقامة الدين، وكان كل من يستجيب لهذه الدعوة يثقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) الثقافة الإسلامية ويضمه إلى كتلة الصحابة. ولم يكتفِ بهذا بل جعل لهذه الدعوة داراً وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكانوا يجتمعون فيها يصلي بهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرئهم القرآن ويبيّنه لهم ويثقف عقولهم بمعانيه ويروضهم على الطاعة والانقياد، فهنا أصبحت عقليتهم عقلية إسلامية ونفسيتهم نفسية إسلامية، ونضج هؤلاء في ثقافتهم فاطمأن (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الكتلة إذ صارت كتلة قوية، نضج أفرادها على الثقافة الإسلامية نضجاً يمكنهم من مجابهة المجتمع ويملكهم القدرة على تغييره. وهذا ما علينا فعل مثله وذلك بإيجاد ثقافة مركزة تتناول ما تحتاج إليه الكتلة في عملها لإقامة المجتمع الإسلامي وتحويله الدار إلى دار إسلام وإنضاج الشباب عليها.
ابتداء قام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوة كل من يأنس بهم خيراً، فدعا خديجة فآمنت به ومن ثم علياً ومولاه زيداً وأبا بكر، واتصل بالناس يدعوهم إلى الإسلام، يريد إقامة الدين، وكان كل من يستجيب لهذه الدعوة يثقفه (صلى الله عليه وآله وسلم) الثقافة الإسلامية ويضمه إلى كتلة الصحابة. ولم يكتفِ بهذا بل جعل لهذه الدعوة داراً وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكانوا يجتمعون فيها يصلي بهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرئهم القرآن ويبيّنه لهم ويثقف عقولهم بمعانيه ويروضهم على الطاعة والانقياد، فهنا أصبحت عقليتهم عقلية إسلامية ونفسيتهم نفسية إسلامية، ونضج هؤلاء في ثقافتهم فاطمأن (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الكتلة إذ صارت كتلة قوية، نضج أفرادها على الثقافة الإسلامية نضجاً يمكنهم من مجابهة المجتمع ويملكهم القدرة على تغييره. وهذا ما علينا فعل مثله وذلك بإيجاد ثقافة مركزة تتناول ما تحتاج إليه الكتلة في عملها لإقامة المجتمع الإسلامي وتحويله الدار إلى دار إسلام وإنضاج الشباب عليها.
وبهذا التأسيس استطاع (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينتقل إلى المرحلة الثانية مرحلة التفاعل مع الأمة، وهنا بدأ الكفاح السياسي والصراع الفكري، وهنا نزلت الآية: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر 94] فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يواجه المجتمع المكي بعدة أمور: بدأ يواجه أركان الكفر، قال تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد 1]، فهنا واجه أبا لهب ليس بوصفه رجلاً من الرجال، بل بوصفه ركناً من أركان الكفر، وقال تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) [العلق 15] وهذا في حق أبي جهل، وهذا أمية بن خلف الذي جاء يحمل عظماً بالياً إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد أن رمّ؟ فيقول له: وإنه سيحييك بعد أن ترم، ثم يرمي بك في النار. وواجه العقائد، قال تعالى: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء 66-67]، يردهم إلى التفكير الصحيح، وتوعدهم بالعذاب قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) [الأنبياء 98]، وواجه العادات: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير 8-9]، وواجه نظمهم الفاسدة كإحلال الربا فقال تعالى: (وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) [الروم 39]، فمن هذه الآيات نرى قوة التحدي بين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقريش وكيف أنه يواجه كل الفئات من حكّام ومحكومين، ورأينا أيضاً هذا التحدي عندما جاء إليه عتبة بن ربيعة ليفاوضه فقال للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم وسفّهت أحلامهم، وعبت آلهتهم ودينهم، وكفّرت من مضى من آبائهم... أيها الرجل اسمع منّي أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل بعضها... إن كنت تريد بما جئت به من الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا...» فرفض (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلا عليه سورة فصلت.
واستخدمت قريش عدة وسائل لمقاومة هذه الدعوة، منها التعذيب والتكذيب والإشاعة والمقاطعة والدعاوة الداخلية والخارجية، وعانت هذه الكتلة من هذه الوسائل الكثير الكثير، ولكن ما زادتها إلا ثباتاً وإقداماً، فمنهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه، ومنهم من مات تحت التعذيب، وصار العرب يقفون موقف المتفرج، لأنهم يسعون لعدم إغضاب قريش، وهذه طبيعة الناس يقفون مع القوي (أو من يظهر لهم أنه قوي). وتجمد المجتمع المكي أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوفي أبو طالب، فضعفت بالتالي حماية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان لا بد من القوة التي تكمل هدف الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بتطبيق الإسلام وحمايته ونشره إلى العالم أجمع. وهذا ما يجب علينا فعل مثله وذلك بخوض الصراع الفكري والكفاح السياسي واستعمال الخطاب الجماهيري وتبني مصالح الأمة وكشف خطط الاستعمار ضدها حتى نصل كما وصل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى احتضان الأمة للفكرة والقائم عليها وذلك بإيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام على الفكرة والهدف وحاملهما.
ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعرض نفسه على قبائل العرب ليطلب حمايتها ونصرتها له، فخرج إلى الطائف يلتمس النصرة والمنعة له من قومه، فردوه شر رد، ثم ذهب إلى بني عامر بن صعصعة فاشترطوا عليه أن يكون الحكم لهم من بعده، فيقول: الأمر لله يضعه الله حيث يشاء. وهكذا تقصد القبائل في مواطنها وفي سوق عكاظ وفي أيام الحج، إلى أن التقى بوفد المدينة فاستجابوا له وآمنوا به وكان التمكين على أيديهم، وبالتالي حقق طلب النصرة غرضين اثنين: الأول طلب الحماية والثاني الوصول إلى الحكم.
وهكذا سار الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أقام الدولة الإسلامية، وهي المرحلة الثالثة، يريد بها إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فكان ينظر إلى العالم أجمع يريد إخضاعه إلى شرعة الإسلام، أي يريد تعبيد الناس (جميع الناس) إلى الله سبحانه وتعالى القائل في كتابه (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة 193]، وليس غريباً في أصعب المواقف أن يعد سراقة بسواري كسرى وأن يقول «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها»، نعم أقام (صلى الله عليه وآله وسلم) دولة الإسلام دولة منبثقة من عقيدة الإسلام التي اعتنقها المجتمع، فاستطاعت هذه الدولة أن تطبق العقيدة وتحميها وتنشرها.
كم نحتاج هذه الدولة اليوم، وكم اشتاقت قلوبنا إليها، وكم دعونا ربنا أن يعيدها لنا، نعم قلوبنا اشتاقت، ولكن هل جوارحنا اشتاقت؟ قرأنا الكلام بأعيننا ودخل قلوبنا، ولكن هل عملت به أيدينا وسارت نحوه أقدامنا ودعت إليه أفواهنا؟ ليس الكلام بمستحيل وليس التطبيق بمعجز، فالله عز وجل وعدنا فقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور 55] والرسول عليه الصلاة والسلام بشرنا فقال: «... ثُمَّ تَكُونُ خِلافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، فماذا ننتظر؟! هل أمهل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشاً يوم نقضت عهدها معه أم جاءها بفتح مكة العظيم؟ هل انتظر المسلمون الأوائل عندما سمعوا حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لَتُفْتَحَنَّ القُسْطَنْطِينِيَّة، فَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَنِعْمَ الْجَيْشُ جَيْشُهَا»؟ أم رأيناهم تنافسوا على هذا اللقب، فحدثت عشرة محاولات لفتح القسطنطينية؟ هل انتظر الخليفة المعتصم بالله عندما سمع «وامعتصماه» من تلك المرأة؟ أم جيّش الجيوش لنصرتها، وذاد عن عرض المسلمين؟!
ماذا تنتظر أيها المسلم؟! ألم ترَ فساد المجتمع؟! وهل رأيت واقعاً أسوأ من هذا الواقع؟! ماذا تنتظر؟ هل تنتظر مزيداً من انتهاك الأعراض؟! أم مزيداً من المعتقلين في السجون؟! أم تنتظر مزيداً من الهجمات على الإسلام؟ أم تكفك الإساءة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! ألم يستفزك تدنيس القرآن؟! أم تنتظر المزيد من الخيانة من الحكام؟! قل لي إذاً ماذا تنتظر؟ ألم يدفعك هذا إلى التغيير؟! إذا كان الأمر كذلك، وهو فرض ربنا، فهذه هي طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام أمامك، فالأمة، بل العالم أجمع، ينتظرك.
المصدر : مجلة الوعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق