الثلاثاء، 4 نوفمبر 2008

اليأس لا يصنع شيئاً



تسيطر على حياة كثير من المسلمين اليوم سحابة قاتمة من اليأس، ويشعر طائفة منهم أن الواقع الذي يعيشونه لا مناص لهم منه ولا خلاص. كثير من المسلمين يشعر أن واقعه لا يمكن أن يتفق مع ما يقتنع به، ويتطلع للتغيير، لكنه ما يلبث أن يصل به الأمر إلى اليأس من تغيير هذا الواقع الذي يعيشه. والأمر يتجاوز ذلك إلى واقع الأمة، فلست اليوم بحاجة إلى أن تقنع أحداً من المسلمين بسوء واقع الأمة وتردي حالها، لكن هذا قد أدى بطائفة من الساعين إلى التغيير، بل بطائفة من الغيورين الصادقين إلى أن سيطر عليهم اليأس، وأدركهم القنوط وشعروا أن الأمر قد خرج من طوقهم وإرادتهم.

عوامل اليأس:

أيها الإخوة ... إن هذا اليأس الذي سيطر على كثير من المسلمين أدت إليه عوامل عدة، منها:

العامل الأول: انتشار الفساد وغربة الدين. من يتأمل واقع المسلمين اليوم يجد أن مظاهر الفساد قد انتشرت في حياتهم واستفحلت بهدم دولة الخلافة؛ فالمنكرات الظاهرة أصبحت معلماً بارزاً وظاهراً في بلاد المسلمين، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً في معظم مجالات الحياة تحت حكم أنظمة الكفر في بلاد المسلمين. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الدين بقوله: "بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" فانتشار هذا الفساد واستمرار المنكرات وظهورها في بلاد المسلمين وحياتهم أدى بفئة كبيرة من المسلمين إلى اليأس من تغير الأحوال، وإلى الشعور بأن هذا الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع المسلمين وحياتهم.

العامل الثاني: صعوبة التغيير وبطؤ حركته في نظر اليائسين. لئن كان واقع المسلمين اليوم يعاني من الفساد، فالمستقبل في نظر اليائسين لا يبعث على التفاؤل؛ فالاتجاه من معطيات الواقع يسير إلى مزيد من الانفتاح على الفساد، ويسير إلى مزيد من الغربة.

العامل الثالث: التحديات الجديدة. إن التحديات الجديدة تنذر بمستقبل لا يعلم حاله إلا الله عز وجل؛ ففي ظل عصر العولمة وعصر الانفتاح على العالم ستزول خصوصية المجتمع، وتتضاءل إمكانات المجتمعات المحافظة في السيطرة على أبنائها، خاصة في ظل غياب دولة الإسلام، فمجتمعاتنا اليوم تعيش انفتاحاً على المجتمعات الأخرى، من خلال السفر والاحتكاك بالمجتمعات الأخرى، أو من خلال وسائل الاتصالات والمواصلات، لكن هذا الانفتاح وهذا الاتصال سيصبح حسب التوقعات لا شيء بالنسبة لما نحن فيه، سيصبح الإنسان وهو في غرفته في قرية منعزلة ليس بينه وبين أن ينفتح على العالم بكل ما فيه، وأن يتعامل مع أي ثقافة وأي ملة، ويخاطب أي إنسان، وأن يلج أي باب من أبواب الشهوات أو الشبهات، ليس بينه وبين ذلك إلا مجرد ضغطة زر في الكمبيوتر، ومع اتجاه العولمة والانفتاح ستذوب الفوارق، وستصبح سيطرة المجتمعات ومحافظتها أقل مما هي عليه من ذي قبل، بل ستصبح سيطرتها محدودة في ظل هذا السيل الجارف من الغزو العالمي.

العامل الرابع: تباين القوى والإمكانيات في عملية التغيير. رغم تباين قوى التغيير وتفاوتها فإننا نستطيع أن نصنفها في تيارين: قوة حملة الدعوة التي تريد أن تعيد الأمة إلى أصالتها ومنهجها الشرعي، وقوى الكفر الأخرى التي تريد أن تقود الأمة نحو الفساد. وحينما تقارن بين إمكانات القوتين فالأمر ليس فيه مجال للمقارنة، فقوى الكفر التي تدفع المجتمع للفساد هي قوة أكبر وأكثر ضغطاً وإمكانيات، بينما قوة حملة الدعوة التي تشد الأمة إلى الأصالة وتريد أن تعود بها إلى عزها ومجدها قوى متواضعة الإمكانيات، هذا التفاوت الذي حدا بأهل اليأس إلى نسيان حقيقة أن النصر حليف أهل الحق وإن قلّوا.


العامل الخامس: طريقة التفكير وحديث الناس. فطريقة تفكير هؤلاء دائماً تنظر إلى الجانب المظلم والجانب السيئ، وحديثهم الذي يتعلق بواقع الأمة غالباً ما يكون حديثاً ناقداً متشائماً، بل حتى الصور الإيجابية يحولها هؤلاء إلى سلبية.
هذه بعض العوامل التي أدت إلى بروز ظاهرة اليأس وسيطرتها على اليائسين، والأمر يهون حين يكون الشعور باليأس لدى فئة من عامة الناس، لكن تجد أن هذا اليأس يتسرب إلى فئة ينتظر منهم أن يشاركوا في عملية التغيير، فتجد أن هذه اللغة تسود وتسيطر في بعض مجالس الذين يتمثل فيهم أمل الأمة في التغيير. إن هذه العوامل التي أدت إلى تسلل اليأس عند فئة من الأمة تحتاج إلى نقاشها ومعالجتها في هذه الجلسة الطيبة.

آثار اليأس:
إن شجرة اليأس تثمر ثماراً مرة، منها:

أولاً: أن اليأس لا يمكن أن يصنع شيئاً. إن اليأس لا يدفع للعمل، ولا يحرك ساكناً، ولا يثير همة، بل غاية ما يتركه من أثر على صاحبه أن يبقى ينتظر النهاية الأليمة، فلو أن إنساناً في مكان شب فيه حريق وسيطر عليه الشعور بأن ليس هناك مخرج ولا نجاة، فماذا يستطيع أن يصنع؟ إنه لا يصنع شيئاً، لن يفكر، ولن يحتال، بل سيبقى فقط ينتظر الموت والنهاية. إذاً فاليأس لا يصنع شيئاً ولا يدفع للعمل.

ثانياً: اليائس يثبط من حوله ولا يقف ضرره على نفسه. إن اليائس دوماً يتحدث مع الآخرين بألفاظ مثل: لا أمل، وأنت تتعامل مع واقع محدود، والسيل جارف، والأمر أكبر مما تتصور فلا تشغل نفسك بمثل هذه الأمور، انشغل بخاصة نفسك أو انتظر حتى تحدث تغييرات أو أمور أخرى غير محسوبة، واليائس يئد المشاريع والأفكار الطموحة، فحين تنشأ أفكار ومشروعات فيها نوع من الطموح والتميز ويتوقع منها أصحابها أن تنتج وتثمر، هذه المشروعات حين تثار في مجتمع اليائسين فإنها توأد دائماً، فهم ينظرون إلى مواقع الفشل ويتنبؤون بفشل مثل هذه المشروعات وهذه الأعمال قبل نجاحها.

ثالثاً: اليأس يولد عقلية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً يؤثر على نفسية صاحبه فاليائس عادة ما يفترض مخاطر لم تقع أصلاً ويتوهم ذلك، وتتحول الأوهام عنده إلى حقائق وتصبح الأحلام واقعاً ملموساً. هذا على مستوى ما لم يقع. أما على مستوى الأحداث التي تقع فهو يفهمها فهماً آخر، فهماً يتفق مع نفسيته اليائسة التي سيطر عليها الوهن، فهو لا ينظر إلى الأحداث كما هي، ولا ينظر إليها نظرة موضوعية أو محايدة، إنما ينظر إليها من خلال نفسيته وطريقة تفكيره. فهو يشكك في صحة الأخبار السارة أو يهون من شأنها، إنك لو حدثته عن أخبار الدعوة وانتشارها فإنك تراه يهون من شأنها ويقول لك إن هذه ظاهرة محدودة وضعيفة وهزيلة، وحينما تصل أخبار سارة فهو يبحث لها عن تفسير يتفق مع طريقة تفكيره ويشكك في حقيقة هذه الأحداث التي حصلت.

رابعاً: اليائس ينظر إلى السلبيات والأخطاء ويضخمها. إن الجهد البشري لا يمكن أن يسلم من خطأ سواءٌ أكان على مستوى الأفراد أنفسهم أو الجماعة، فـ(كل ابن آدم خطاء) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرء لا بد أن يذنب ولا بد أن يقصر والتقصير صفة ملازمة للبشر أياً كانوا وهذا التقصير لا بد أن يظهر أثره في بعض النواحي، فهي في النهاية نتاج أعمال بشر، والمجتمعات أيضاً هي في النهاية من أحد مكوناتها الأفراد الذين يبقى القصور والضعف أمراً ملازماً لهم، ولهذا فإن أي عمل بشري لا يخلو من تقصير ولا يسلم من أخطاء ولو تأملت هذا لرأيته في واقعك أنت. فأي عمل أو جهد بشري لا بد أن يكون فيه تقصير، واليائسون دائماً ينظرون لهذا الجانب المظلم ويضخمونه، ويتغاضون عن الإيجابيات ويهونون ويقللون من شأنها. إن سيطرة اليأس في النهاية ستخرج لنا أفراداً محبطين وغير عاملين، ولا يمكن أن يصنعوا شيئاً، فمالم يقتنع الأفراد بأنهم يستطيعون أن يغيروا واقعهم، ومالم يعملوا على إقناع المجتمعات بذلك فإن التغيير الذي نريده وننتظره سوف يتأخر.

كيف نتخلص من اليأس؟

أولاً: أن ندرك أن اليأس مذموم شرعاً وعقلاً. إن الناس حين يتخلصون من ضغط الواقع ومؤثراته ويفكرون تفكيراً مجرداً فإنهم يرون أن العمل والتفاؤل أمر لا بد منه، وأنه مهما ساء الواقع فالعمل لا بد أن يترك أثره. واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب، بل حين يصل الإنسان اليائس إلى يأسه من روح الله ورحمته، فإن هذا من صفات الكافر كما قال الله عز وجل: ﴿ إنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَّوْح اللهِ إِلاّ القَوْمُ الكَافِرونَ ﴾ وهذا حكاه الله عز وجل على لسان يعقوب عليه السلام حينما أوصى بنيه أن يبحثوا عن يوسف بعد تلك السنين الطويلة التي ألقوا فيها يوسف في الجب وتخيلوا أنه قد هلك أو ضاع، ثم افتقد ابنه الآخر قال: ﴿ يا بَنِيَّ اْذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يوُسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَّوْح اللهِ إِلاّ القَوْمُ الكَافِرونَ ﴾ . ضروري أن ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع إلى الأمام، وأن ندرك سوء واقعنا سواءٌ أكان واقعنا الشخصي أو واقع الأمة، ومن المهم أن ندرك حجم التحديات التي تواجهنا وحجم المخاطر وحجم الانحراف الذي يصيب الأمة، لكن ينبغي أن لا يتجاوز هذا الإدراك حده لأنه لا يمكن أن يدفعنا إلى العمل، بل سيدفعنا فيما بعد للقعود والاستسلام. لذا فإننا حينما ندرك أن اليأس مذموم ولا يأتي إلا في مقام الذم والعيب، ندرك أن اليأس لا يدفع للعمل بل يدفع للقعود والتواني والكسل، وسيدفعنا هذا الإدراك إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.

ثانياً: الاعتدال في النقد. إن النقد ينبغي أن يكون بموضوعية واتزان فحينما نبالغ في النقد ويتجاوز النقد حده فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس، جيء برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد فسبه رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعينوا الشيطان عليه" العقوبة التي يستحقها أخذها وهي الجلد فحينما يذموه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليه أكثر.هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى الأمة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في ذلك فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم". قال الإمام الخطابي رحمه الله: "معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم".

ثالثاً: إدراك حقيقة أن الله سبحانه وتعالى لم يوجب علينا إلا ما نطيق ولم يضع لنا أهدافاً مستحيلة التحقق وهو أيضاً شرفنا بحمل الرسالة الخاتمة وأوكل إلينا مهمة قيادة البشرية إلى الهداية فهذا وحده كافٍ لمعالجة اليأس.

رابعاً: النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام. ومنها ما جاء في كتاب الله عز وجل من وعد الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين وَكَانَ حَقَّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، ﴿ إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ ﴾ ، ﴿وَعَدَ اللهُ الْذينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلنَّهُم مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَّاً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ . هذا وعد من الله تبارك وتعالى لا بد أن يتحقق ولا بد أن يتم، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع كثيراً ما تغيب عنهم هذه الحقائق في وعد الله تبارك وتعالى. وفي نصوص السنة نجد شواهد كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر ،والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة ليس هذا مكان للإفاضة في الحديث عنها، لكن الشاهد أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس.

خامساً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج. والفرج دائماً يأتي بعد شدة اليأس، وبعد أحلك المواقف والصعوبات مصداقاً لقوله سبحانه: حَتْى إِذا استَيأسَ الرُسل وَظَنُوا أَنَّهُم قَدْ كُذِبوا جاءَهُم نَصرُنا .

سادساً: الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً. قد يكون حدثاً لا يرى منه الناس إلا الوجه السيء فيصبح خيراً والناس لا يعلمون، يقول تعالى: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثيراً ﴾ . فما حصل لمريم حينما حملت بعيسى حتى قالت: ﴿يا ليتني مت قبل هذا ﴾ فكان خيراً لها فحملت بنبيٍّ من أولي العزم من الرسل. وفي حادثة الهجرة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادية واختبأ وصاحبه في الغار ثم انصرف،فلحق بهما سراقة حتى اقترب منهما فقال أبو بكر رضي الله عنه هذا سراقة قد أدركنا، الذي يقرأ الحدث الآن ويعيشه يضطرب فالمتبادر للذهن أنه خطر محقق، ولهذا أصاب أبا بكر رضي الله عنه القلق والخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وحق له ذلك، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينظر بنور الله تعالى، فخارت قوائم فرس سراقة ودعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم ييأس وحاول مرة ثانية وثالثة حتى عرف سراقة أنه محفوظ بحفظ الله، فلما انصرف سراقة كان كل من لقيه يقول قد كفيتم ما ها هنا، فانظر كيف تحولت الصورة وانقلبت، ولهذا قال الراوي: "كان أول النهار طالباً لهما وفي آخر النهار صاداً عنهما"، إن هذا الحدث يبدو في أوله حدثاً سيئاً، لكنه صار سبباً في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه. إن الأحداث السيئة قد تكون خيراً والمتفائلون هم الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، وليسوا هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط. وحينما نعيش روح التفاؤل فإن الأحداث التي تواجهنا ينبغي أن نتعامل معها باتزان، نعم نحن لا نعيش في أحلام، ولا نتغافل عن المخاطر لكن إذا كنا نريد التغيير فلنبحث عن الجوانب والثغرات التي يمكن من خلالها أن ننطلق للتغيير ونصل إلى الهدف المنشود. وأضرب على ذلك مثالاً: حين جيء بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في الفتنة ووضعوه في السجن مع اللصوص وقطاع الطرق وأتوا به ليجلد أمسك به رجل وقال: أتعرفني؟ قال: لا، فذكر له ما هو عليه من السرقة وقطع الطريق، وقال: أني جلدت كذا وكذا في السرقة فلم يردني ذلك عن السرقة، وأنت تجلد على الحق فأنت أولى مني أن تثبت، هذا رجل مجرم ولا يزال مصراً على الجريمة، ولكن عنده بذرة خير جاء لينصح الإمام أحمد ويثبته، يبحث عن شيء شاهد من واقعه ينطلق به فلا يجد إلا تاريخ فساد فيستغل تاريخه في الفساد ليكون منطلقاً ليثبت من خلاله الإمام أحمد.

سابعاً: قراءة التاريخ. حين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة والضيق ولنضرب على ذلك نماذج:


 .1في قصة موسى مع بني إسرائيل، جاء موسى وقد تسلط فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج مع بني إسرائيل، فخرجوا فلحقهم فرعون وقومه حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾. في الماضي كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ومع ذلك يمكن أن يسلم بعضهم ويبقى، أما الآن فبنو إسرائيل محصورون وليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم منتهية فحصل الفرج ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلى مُوسَى أَن اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّودِ الْعَظِيم * وَأَزْلَفنَا ثَمَّ الآخَرينَ * وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ﴾.

.2في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج عدة، منها:

أ- حادثة الهجرة، فقد حاصر المشركون بيت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينم في بيته وخرج وصاحبه إلى الغار واختفيا فيه وخرجا من طريق آخر، وكان المشركون قد استنفروا قواهم ليظفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه حياً أو ميتاً، وبلغ الأمر غاية الشدة فما الذي حصل بعد ذلك؟ استقر المسلمون وأقاموا الدولة، وبنوا المسجد وصلوا مطمئنين.


ب- جاءت غزوة الأحزاب بعد ما أصاب المسلمين ما أصابهم في غزوة أحد يريدون أن يقضوا على هذه الطائفة تماماً، وجيشوا الجيوش وجاءت الآلاف المؤلفة من الأحزاب إلى المدينة وحاصرتها، اليهود من ورائهم والأحزاب من أمامهم، حتى صار الأمر كما قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَة اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ريِحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكَانَ اللهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إذْ جَاؤُوكُم مِن فَوقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتْ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾ حتى بلغ بهم أن صار أحدهم لا يستطيع أن يذهب ليقضي حاجته وحده وحوصروا حصاراً صارماً، والموقف ليس حرباً متكافئة الطرفين أو أنه ستغلب مجموعة وتنهزم الأخرى، إنما الموقف في غاية الخطر والخطر الداهم الذي يمكن أن يجتاح المدينة كلها ويبيدها تماماً، حتى نجم النفاق وقالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، وبعد ذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".


ج- صلح الحديبية وما جاء فيه من شروط أسخطت بعض الصحابة وكيف تبين أن هذا الصلح بكل شروطه كان خيراً للمسلمين وتجلى ذلك في قصة أبي بصير وفي تحول الصلح إلى مقدمة لفتح مكة الذي أنزل الله تعالى فيه: ﴿إِنْا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبيناً﴾.

د- مات النبي صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم وارتدت قبائل العرب حتى ما بقي إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولهم من الصادقين، حتى كادت طائفة منهم أن يشعروا باليأس ثم فرج الله تعالى لهم فما أن انتهت خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه والتي لم تتجاوز السنتين وبضعة أشهر حتى أخضعت الجزيرة العربية كلها، وعاد المرتدون إلى دولة الإسلام وبدأت الفتوحات في بلاد فارس والروم، وبدأ المسلمون يغزون فارس والروم بعد سنتين وبضعة أشهر.

3- استقرت دولة الإسلام وحدثت أحداث عدة، ومن أبرزها حدثان: غزو الصليبيين لبيت المقدس، وغزو التتار. يقول ابن كثير رحمه الله: "ثم دخلت سنة اثنين وتسعين وأربعمائة حتى أخذت الفرنجة بيت المقدس، ولما كانت ضحى يوم الجمعة من سبع بقين من شعبان سنة اثنين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنجة لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين". واستولى الصليبيون على بيت المقدس وبقي في أيديهم تسعين سنة، ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة وأعيد البيت الشريف.

4- كارثة التتار وأنقل لكم مما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله "حينما دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وانقضت دولة بني العباس منها".
ويقول: "وصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم في غاية الضعف وبقية الجيش كلهم قد صرفوا من إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم بالأسواق وأبواب المساجد وأنشد الشعراء فيهم قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله".
ويقول: "ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقين الوسخ وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة –إنا لله وإنا إليه راجعون- وكذلك في المساجد والجوامع والرباع ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا عليهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة".
يقول: "وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم –فإنا لله وإنا إليه راجعون- فكان الرجل يستدعى من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه ويذهب به إلى حفيرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة وقتل الخطباء والمؤذنون والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد" ثم قال: "انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً وصارت بغداد خاوية على عروشها ليس فيها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببهم الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغيير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الوباء والغلاء والفناء والطعن والطاعون –فإنا لله وإنا إليه راجعون- ولما نودي في بغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنا والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن فاتهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى".

هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو بغداد. هذه المآسي وقعت في بغداد حتى سيطر على المسلمين اليأس وشعروا أن التتار قوة لا تهزم، ثم استفاقت الأمة بعد ذلك وقاتلوا التتار وهزموهم وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.

إذن هذه النماذج للأمة التي استفاقت بعد الردة، الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين، الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، وهي قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر، وقراءة التاريخ تعطينا الدرس والعبرة لكن اليائسين لا يعتبرون، والنصر لا يكتب لليائس، والتغيير لا يمكن أن يتم على أيدي اليائسين.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نيأس من روحك ورحمتك إنك سميع مجيب

الغريب

ليست هناك تعليقات: