بسم الله الرحمن الرحيم
لقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى بجعل الجزيرة العربية، وتحديداً مكة المكرمة، سكنى إبراهيم عليه السلام، بأن تكون منبتاً لشجرة الإسلام العظيم ودوحته العظيمة. كما شاءت إرادته عز وجل بأن تنبت تلك البذرة على يدي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فما إن اصطفاه الله سبحانه وتعالى وجعله من المرسلين حتى عمل بدون كلل ولا ملل، مع نفر ممن آمن برسالته السمحاء، على نمو تلك الشجرة العظيمة لتكون دوحة تظلل البشرية، وتنقل الناس من حر ورمضاء الجاهلية والعبودية إلى أن تفيء بظل عدل ورحمة شجرة الإسلام، والتي في ظلها السعادة والطمأنينة والعيش الكريم.
لقد عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أولئك النفر المؤمن على رعاية تلك النبتة حتى تظلل الأرض، وصبروا وثبتوا على رعاية نبتة الإسلام هذه، رغم كل ما لاقوا من مشقة وعذاب ومقاطعة ممن آثروا بقاء أشجار الزقوم على هذه الشجرة المباركة، والتي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تؤتي أكلها، ثمراً وشراباً بارداً هنيئاً للآكلين، وقد كلل الله سبحانه وتعالى عمل الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الميامين وثباتهم وصبرهم، بنجاح نمو هذه النبتة وتفرع أغصانها حتى أعطت، وبغزارة، أشهى الثمرات، والتي توِّجت بإقامة حكم وسلطان الله في الأرض، ناشراً الرحمة بين الناس.
وبعد أن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى برفع منهج النبوة من الأرض بموت آخر الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قيّـض الله سبحانه وتعالى لهذه الشجرة الضخمة من يرعاها ويحرث أرضها، فبقيت هذه الشجرة قوية الفروع خضراء الأغصان، تفيض حيويةً ونضارةً وجمالاً، وتعطي بغزارة أطيب وأشهى الثمرات، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، عندما حصل الخلل في ميزان القوى الدولي فسقطت الدولة الإسلامية من مركزها، وأخذت بالانحدار سريعاً حتى تفككت الأمة الإسلامية، وحطت في الحضيض بين الأمم مهدورة الكرامة، مسفوكة الدم، منهوبة الخيرات، مقطعة الأوصال. وقد تزامن هذا السقوط مع حصول الانقلاب الصناعي في أوروبا، والتي شهدت تطوراً كبيراً في الاختراعات والصناعات، وقفزت بعض دولها إلى المراكز الأولى في السلم الدولي، فأحدثت هذه العوامل صدمةً في عقول وأذهان المسلمين، فاندفع بعضهم يعيد النظر في فهم الإسلام، بل إن بعضهم صار يعيد النظر في بعض أفكار وأحكام الإسلام، وقد نتج عن ذلك أن ذبلت أغصان تلك الشجرة العظيمة، وضعفت فروعها، وقلت ثمارها؛ ففقدت لذتها وطيبها. إلا أن جذع هذه الشجرة بقي، ولكن اعتراه الضعف ودب فيه الجفاف. بيد أن الكفار أبوا بقاء حتى الجذع فضربوا ضربتهم باقتلاعه، وذلك بإلغاء نظام الحكم الإسلامي نظام (الخلافة) فبعد ذلك لم يبقَ من دوحة الإسلام العظيمة إلا الجذور والتي دب فيها الجفاف أيضاً. فلما نجح العدو في حكم بلاد المسلمين حكماً مباشراً، بعد أن قطعها إرباً، أخذ يعمل على قلع جذور الإسلام فنجح بذلك إلى حد كبير، ولم يبقَ من شجرة الإسلام إلا البذرة وبعض خيوط الجذور الرفيعة.
هذه هي حال شجرة الإسلام، فبذرتها لم ولن تموت؛ لأن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها وإعادة إنباتها مرة أخرى، فأدرك المسلمون في هذا الزمان أن لا عزة ولا نصر لهم إلا بأن تعود شجرة الإسلام شامخةً قويةً كما كانت في السابق، ويجب أن يعمل لإعادة إنشاء جذع أقوى، وفروع وأغصان أكثر نضارةً، وذلك بالعمل لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. فعند النظر إلى حالة بذرة هذه الشجرة ووضعها الحالي يظهر أنه من الاستحالة أن تنبت هذه البذرة جذعاً، إلا بعلاج الجذور من نقطة انبثاقها عن البذرة، وذلك بوصل الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية بالعقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل أي فكر أو أي حكم شرعي إلا أن يكون منبثقاً من تلك البذرة، أي العقيدة الإسلامية، أي أن لا يقبل إلا بما هو مأخوذ من الكتاب والسنة، وبعد ذلك تسقى هذه الجذور، وتحرث الأرض من حولها، ويكسر ما جف منها، ويقلع كل جذر نبت من غير تلك الشجرة في هذه الأرض، كل ذلك من أجل إنشاء جذع قوي وأغصان ناضرة، كتلك التي نبتت في الجزيرة العربية على يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته الذين رعوا تلك الدوحة العظيمة الشامخة.
وعند النظر في حال الأمة الإسلامية اليوم، قياساً بالفترة التي تلت اقتلاع جذع شجرتها وذلك بهدم كيانها، يلاحظ أن شجرة الإسلام اليوم أحسن حالاً من تلك الفترة، وقد تحقق ذلك بوجود أبناء خيِّـرين من تلك الأمة الكريمة يتصفون بتلك الصفات التي اتصف بها من زرعوا شجرة الإسلام الأولى وأنبتت على أيديهم، ألا وهم صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فعند وضع ميزان القياس للمقارنة بين تلك الفترتين (هذا الزمان، وفترة اقتلاع الجذع) يلاحظ أن الكثير من جذور الشجرة بدأت تنبت، وبدأت الحيوية تدب في بعضها، وذهب الجفاف عن قسم منها، واخضر القسم الآخر، وبذلك برزت جذور للشجرة مرة أخرى مخضرةً مبشرةً بتكوّن جذع صحيح من جديد، تنبثق منه أغصان وفروع مورقة تنبت براعم مثمرة، أي تبشر من جديد بإنبات شجرة الإسلام الطيبة التي تؤتي أكلها بإرادة ربها كما كات في سابق عهدها وذلك بإقامة حكم الله في الأرض، أي بإقامته على الفكرة الإسلامية الخالصة، أي خلافة راشدة ثابتة تكون على منهاج النبوة.
فالهدف ليس إيجاد جذع لتلك الشجرة بأي شكل كان، بل إيجاد الجذع المنبثق عن الجذور الأصلية والمنبثقة عن البذرة الأولى، ألا وهي العقيدة الإسلامية، أي بمعالجة الجذور من نقطة انبثاقها من البذرة، والاستمرار بهذه المعالجة بصبر وثبات حتى تَـنبتَ تلك الشجرة باسقةً بشكل طبيعي.
وعملية رعاية شجرة الإسلام لتعود كما كانت في إنباتها الأول، لابد من أن يكون العمل في الأمة الإسلامية ومعها، لتقوم هذه الأمة بتسليم حكمها ورعايتها لمن يرعى هذه الشجرة بالطريقة الصحيحة، فمن الخطأ والخطر بل العبث الاشتغال في غير معالجة الجذور لانبات الجذع، فلا بد من أن يكون العمل محصوراً في معالجة الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة وحرث ما حولها باستمرار، فمن هنا يجب أن يحصر العمل في إعادة دوحة الإسلام إلى القرون الأولى في أربعة أمور هي:
1- كسر الجذور اليابسة أي تحطيم المفاهيم المغلوطة في المجتمع، كقاعدة «حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» ونسف فكرة أن الديمقراطية من الإسلام وفكرة القومية والعصبية.. فيهاجم كل فكر يدّعى أنه من الإسلام وهو ليس منه، وكل فكر يناقض الإسلام.
2- إزالة الأتربة والغبار عن الجذور، أي ربط الأفكار والأحكام بالعقيدة الإسلامية، وبيان انبثاقها عن الكتاب والسنة. فربطها يكون ببيان علاقتها بالإيمان، وعلاقة طاعة الله ومعصيته بالعقيدة، وأن الحلال ما أحل الله والحرام ما حرمه، وأما بيان انبثاقها عن الكتاب والسنة فإنما يكون بالإتيان بالدليل الشرعي، واستنباط الحكم الشرعي منه بحسب الأصول المنضبطة شرعاً.
3- سقي الشجرة، أي تنـزيل الأفكار على الوقائع والأحداث والمشاكل اليومية الجارية، وهذا هو الذي يحيي الأفكار والأحكام، وبغير ذلك تبقى أفكاراً ميتةً لا حياة فيها، فسقيها هو جعل الوقائع الحية تعالج بأفكار الإسلام وأحكامه فيكون هذا هو الماء الذي يحييها.
4- عزق الأرض وحرثها حول الشجرة، فيكون ذلك بالعيش مع الأمة وبينها وتوصيلها وتعليمها أفكار الإسلام؛ لهدم الأفكار والأعراف المخالفة للإسلام وبناء الأفكار والأعراف الإسلامية بدلاً منها.
بهذه الأمور الأربعة تعود دوحة الإسلام قوية شامخة، فهذه هي قصة الإسلام كشجرة ودوحة عظيمة، فكانت العقيدة الإسلامية هي البذرة التي أنبتت هذه الشجرة العظيمة، وأفكار الإسلام عن الحياة والأحكام التي تعالج مشاكل الحياة هي جذور هذه الشجرة، والجذع الباسق من الجذور هو الحكم أي السلطان وكانت فروعها القوية وأغصانها النضرة وهي خوض الأمة معترك الحياة الإسلامية وحملها الدعوة الإسلامية إلى العالم. ففي النظرة إلى تلك الشجرة في هذا الزمان يكون من الجهل أن يقال إن الإسلام كشجرة موجود في الحياة، ومن اليأس أن يقال إنه لا يمكن إعادته للحياة، ومن الظلم والإجحاف أن يقال إن الجهود التي تبذل لإعادة تلك الشجرة ذهبت هباءً منثوراً.
وعند تقييم شجرة الإسلام يرى أن الأمل بانبثاق الجذع صار أقوى من أي وقت مضى، وبدأت ملامح الشجرة بالتكوين، فأدركت الأمة الإسلامية ان لا عزة ولا نصر لها إلا بعودة شجرة الإسلام كما كانت نضرة خضراء قوية، وأصبح الإسلام مطلباً عند الأمة الإسلامية، تتشوق إلى أن تتفيأ ظلال دوحته العظيمة الشامخة الحامية من برد الشتاء ورمضاء الصيف.
فمسألة عودة الإسلام إلى واقع الحياة أصبحت أمراً واقعاً منوطاً بالمداومة على كسر الجذور اليابسة، وإزالة الأتربة والغبار عن الجذور الضامرة، وسقي الشجرة كلها، وعزق ما حولها وحرثه، فبالاستمرار والدأب على هذه العملية، والمنهجية الربانية، تقوم الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية، ويتحقق وعد الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [النور 55].
عطية الجبارين ـ فلسطين