الأحد، 23 يناير 2011

نهج القرآن الكريم في الدعوة



بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الناشر

يبدو التأثر الشديد على الكاتب وهو يناقش موضوع الدعوة بين المسلمين ويرى تعدد الفئات والأحزاب الداعية إلى الاسلام، والمدعية جميعها أنها تقتفي الرسول صلى الله عليه وسلم فهي على سيرته وسنته، وكلها تقيم الدليل على صحة ما ذهبت إليه من حادثة قام بها رسول الله، أو حديث تحدث به، أو أمر سكت عنه.
ونظرا لهذا الاختلاف فقد رأى الكاتب أن تعدد الأفهام أمر طبيعي بل وحتمي وذلك للتفاوت الفطري في الإنسان، والتفاوت في العلوم المكتسبة عنده، بالإضافة إلى أن طبيعة النصوص-أي الآيات والأحاديث-تحمل أكثر من معنى، وقد أشار إلى ذلك بتقسيمه النصوص إلى أربع حالات:
1-نص قطعي الثبوت، قطعي الدلالة ، مثل قوله تعالى:(السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما).
2-نص قطعي الثبوت، ظني الدلالة مثل قوله تعالى:(أو لامستم النساء).
3-نص ظني الثبوت، قطعي الدلالة كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من صام رمضان واتبعه بست من شوال".
4-نص ظني الثبوت، ظني الدلالة كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من باع بيعتين في بيعة واحدة فله أوكسهما".

ومن البديهي أنه حيثما وجدت المظنة وجد احتمال الاختلاف. ولهذا قد اهتدى إلى القول بأن الأصل أن نجعل من القرآن الكريم منهجا وطريقة نفهمها من المواضيع التي كانت تتضمنها الآيات حين نزلت ومن تتبع هذه المواضيع حسب ترتيب نزولها نستطيع أن نجد نهج القرآن في الدعوة.

وكان البحث مبنيا على قوله تعالى مخاطبا رسوله:(لتبين للناس ما نزل إليهم)، فمهمة رسول الله هي بيان ما يتنزل عليه من قرآن، فإذا فهمنا ما كان يتنزل عليه فهمنا المواضيع والوقائع التي كان يتعامل معها.

وحين يجمع الجميع على أن قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) كان بداية مرحلة جديدة منهم من سماها الجهر بالدعوة، وما قبلها كان مرحلة سرية، ومنهم من قال عنها أنها مرحلة الجهر بالتكتل فالدعوة كانت جهرا منذ اليوم الأول. فعلى كل أجمع الجميع أنها مرحلة جديدة فإذا نظرنا فيما سبقها من السور استطعنا أن نعرف المواضيع والوقائع التي كانت تتناولها فقد نزل قبل هذه الآية ما يزيد على 47 سورة.

وهكذا فإن المواضيع التي عالجتها السور والآيات قد أجمع عليها وعلى فهمها المسلمون جميعا وإن وجد اختلاف في ذلك فإنما كان الاختلاف في الجزئيات.
فبحث العقيدة مثلا وجزيئاتها مقطوع به. والنظر في آلاء الله كذلك.
والتصدي لافكار الكفر، ومهاجمة العلاقات الفاسدة والرد والتصدي لقادة السوء وأولياء الشيطان مواضيع عالجها القرآن الكريم في آيات وسور متعددة فلا مجال للأخذ والرد بها.

وعليه يمكن لحملة الدعوة في أي حزب كانوا، ولأي جماعة انتموا، أن ينهجوا نفس النهج الذي سار عليه القرآن الكريم وقام ببيانه وتنفيذه رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بحسب أسلوبه وطريقة بيانه ونضاله.
كما أن وجوب تطبيق الإسلام في الحياة حكم شرعي قطعي ملزم للجميع وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا بوجود سلطان يقيم الحدود ويرعى الشؤون ويحمي الثغور ويحمل الدعوة للعالم.
وبهذا تتحد هذه الفئات بالهدف والمواضيع وتبقى على اختلافها في تبني الاحكام ووضع الخطط والاساليب.

الناشر
١٧ محرم ١٤١٣ هـ

________________________


تمهيد

قال تعالى:(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ) (القمر).
وقال (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء).

عن الحارث بن الأعور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول:"إنها ستكون فتن، قلت فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة رد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي من تركه جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، هو الذي من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم" رواه الدارمي (فضائل القرآن).

هذا هو واقع القرآن الكريم وتلك هي منزلته، وإنه هو المرجع لفهم سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفهم المراحل التي مرت بها، والعقبات التي وقفت في وجهها، والأفكار والمعتقدات التي تصدت لها، لذا كان لا بد من تحري ترتيب النزول لمعرفة هذه المراحل منذ بدء نزول الوحي إلى أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى من حيث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبين للناس ما ينزل إليهم، فقد كانت السنة الشريفة:
أ-مبينة للكتاب وموضحة لمعانيه.
ب-مفصلة لمجمله(مثل بيان عدد ركعات الصلاة وكيفيتها).
ج-مخصصة لعمومه.
د- مقيدة لمطلقه.
هـ-ملحقة فرعا بأصل.
و-وأحكاما أخرى انفردت فيها ولم تذكر في القرآن.

وهذا كله وحي من الله كذلك، عبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول أو العمل أو التقرير. فدراسة السورة، ومعرفة مواضيعها، ومعرفة الزمن الذي نزلت فيه، يبين المواضيع التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدى لها في تلك المرحلة.

وكان مما أعانني على ذلك هو ما جاء في كتب التفسير، وما أشير في المصاحف بشكل عام إلى ما هو مكي وما هو مدني. وبالنظر فيما جاء في هذا الموضوع بحسب رأي الإمام الجليل أبي القاسم عمر بن محمد بن عبد الكافي، وكتاب تحقيق البيان للشيخ محمد المتولي، شيخ القراء بالديار المصرية، وبحسب رأي الإمامين الجليلين جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، وجلال الدين محمد بن أحمد المحلي، والمدون في المصحف الشريف-مكتبة المعارف-بيروت-بتصريح من مشيخة الأزهر الشريف، ومراقبة البحوث والثقافة الإسلامية، وتقرير اللجنة المختصة رقم 77 الصادر في 10 ربيع الثاني الموافق 7اغسطس سنة 1965.

السور المكية حسب ترتيب النزول:
1-العلق 24-عبس 47-الشعراء
2-القلم 25-القدر 48-النمل
3-المزمل 26-الشمس 49-القصص
4-المدثر 27-البروج 50-الإسراء
5-الفاتحة 28-التين 51-يونس
6-المسد 29-قريش 52-هود
7-التكوير 30-القارعة 53-يوسف
8-الأعلى 31-القيامة 54-الحجر
9-الليل 32-الهمزة 55-الانعام
10-الفجر 33-المرسلات 56-الصافات
11-الضحى 34-قَ 57-لقمان
12-الانشراح 35-البلد 58-سبأ
13-العصر 36-الطارق 59-الزمر
14-العاديات 37-القمر 60-غافر
15-الكوثر 38-صَ 61-فصلت
16-التكاثر 39-الاعراف 62-الشورى
17-الماعون 40-الجن 63-الزخرف
18-الكافرون 41-يَس 64-الدخان
19-الفيل 42-الفرقان 65-الجاثية
20-الفلق 43-فاطر 66-الأحقاف
21-الناس 44-مريم 67-الذاريات
22-الإخلاص 45-طه 68-الغاشية
23-النجم 46-الواقعة 69-الكهف
70-النحل 76-الطور 82-الانفطار
71-نوح 77-الملك 83-الانشقاق
72-ابراهيم 78-الحاقة 84-الروم
73-الأنبياء 79-المعارج 85-العنكبوت
74-المؤمنون 80-النبأ 86-المطففين
75-السجدة 81-النازعات

أما السور المدنية فهي:
1-البقرة 11-الأحزاب 20-الممتحنة
2-آل عمران 12-محمد(القتال) 21-الصف
3-النساء 13-الفتح 22-الجمعة
4-المائدة 14-الحجرات 23-المنافقون
5-الأنفال 15-الرحمن 24-التغابن
6-براءة 16-البينة 25-الطلاق
7-الرعد 17-الحديد 26-التحريم
8-الإنسان 18-المجادلة 27-الزلزلة
9-الحج 19-الحشر 28-النصر
10-النور

_________________________


مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله)(1)، والقائل:( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا ).(2)
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون وهو القائل كما روي عنه "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحمكم، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم"(3) وهو القائل: "نضر الله وجه أمرىء سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فلرب مبلغ أوعى من سامع"(4) أو كما قال.
-----------------------
(1)110 م آل عمران.
(2)143 م البقرة.
(3) رواه أبو داود في الملاحم والترمذي في الفتن وابن حنبل في مسنده.
(4) رواه أبو داود، والترمذي في باب العلم وابن ماجه في مقدمته وفي باب المناسك، والدارمي في المقدمة وأحمد بن حنبل في مسنده.


وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه خط خطاً على الرمل مستقيما، وخط على جانبيه خطوطا ثم قال هذه سبيلي مستقيما، وهذه السبل على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو له، ثم تلا قوله تعالى: (وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (1).
أما بعد، فقد بين الإسلام معنى وجود الإنسان في الحياة، وبناء عليه فقد حدد له عمله الأساسي في الحياة، قال تعالى:" إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين"(2) وقال أيضا:"إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له،وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"(3).
وقال تعالى:" إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين".(4)
وقال:"ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين".(5)


-------------------------
(1) 153 م الأنعام.
(2) 79ك الأنعام
(3) 162،163 ك الانعام.
(4) 125 ك النحل
(5) 33 ك فصلت


من هذه الأدلة وأمثالها الكثير الكثير، أدرك المسلمون وجوب حمل الدعوة والعمل للإسلام وإيجاده في واقع الحياة، والمحافظة عليه، وظهر في الأمة مفكرون وظهر من بين المفكرين قادة أدركوا معنى وجودهم في الحياة، وصدقوا الله ما عاهدوه عليه في دعاء الاستفتاح في صلواتهم. آمنوا بما قالوا:"قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"(1) وأدركوا أن هذا هو الأصل في حياة كل مسلم، محياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له، وأن ما يجنيه المسلم في حياته إنما يبتغي به الدار الآخرة، وأن ما يكسبه في حياته الدنيا ليس سوى وسيلة يستعين بها على نوال رضوان الله.
"وابتغ فيما آتاك الله الدار الأخر،ولا تنس نصيبك من الدنيا،وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض".(2)
من هذا الإدراك لمعنى وجود المسلم في الحياة، اندفع المفكرون القادة يبيّنون للشباب المسلم ما يجب أن يكون عليه فما بخلوا بجهد، ولا تقاعسوا في موقف، ولا ضنوا بتضحية، والتف حولهم جمهرة من الشباب المسلم، فحملوا معهم مشعل الهداية للأمة، ومعاول تعبيد الطريق للوصول إلى الهدف المنشود، حتى بدأت الحيوية تدب في الأمة من جديد، وبدأت تستعيد ثقتها بنفسها وبدينها، وأخذت تتململ بعد غفوة طال مداها، وصارت الحركة تدب في أوصالها بعد سبات طويل، وأخذت تنقشع تلك الغمامة عن بصيرتها بعد أن حجبت عنها النور ردحاً من الزمن، فجزاهم الله عن المسلمين كل خير، وحقق لهم ما نذروا أنفسهم من أجله، وأنجز لهم ما وعد المؤمنين به-النصر-(وكان حقا علينا نصر المؤمنين)(3) .

حافظ صالح


----------------------
(1)162 ك الانعام
(2)77 ك القصص
(3)47 ك الروم

________________________

القرآن الكريم

القرآن:

هو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، والمتعبد بتلاوته، والسورة هي الطائفة من القرآن-الآيات-المترجمة باسم خاص،وأقلها ثلاث آيات. والآية مجموعة كلمات متميزة يفصل بينها وبين غيرها من مجموعة كلمات،وقد تكون كلمة واحدة مثل (مدهامتان).

قال تعالى:"إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقول ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)(1).

وقال: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(2).

لقد تدبر المسلمون هذا القرآن، وأدركوا معانيه، وفهموا مراميه، وبذلوا الوسع في فهم ما جاء فيه، في كافة ما احتوى من علوم وما تضمن من مواضيع. وتناوله العلماء بالتفسير والتأويل حتى أحصوا سوره، وعدوا آياته وحروفه، كل بحسب الغرض الذي أراد. منهم على سبيل المثال لا الحصر، المجتهدون.

المجتهدون في الفقه: تناول هذا النصف من العلماء آيات الأحكام، وما يتعلق منها بأفعال العباد باعتبارها المصدر الأساسي الأول من مصادر التشريع. فخاضوا في نصوصها، وغاصوا في معانيها يلتقطون من دررها ما يصل إليه فهمهم واجتهادهم، لتسيير أعمال الناس، وما هم بحاجة إليه من تنظيم علاقات الفرد بنفسه او بربه أو بغيره من الناس، وقد صنّفت كتب تحتوي فقط على آيات الأحكام.

--------------------------
(1) 9ك الإسراء
(2) 24 م محمد

وكذلك علماء أصول الدين الذين تناولوا من القرآن ما ذهبوا إليه من بحوث في العقيدة وعلم التوحيد، وهناك من تناوله من حيث البلاغة وعلوم اللغة العربية، ومنهم من تناول جانبا من ذلك كالإعراب مثلا.

ومنهم من ذهب بعيدا ليبحث في اللفتات العلمية التي أشار إليها القرآن الكريم، وكأن القرآن كتاب علمي يبحث في القوانين الطبيعية والسنن الكونية، ومنهم من اهتم بالقصص القرآني مستعينا بالإسرائيليات، لتوضيح ما أوجزه القرآن الكريم وتخطاه، وهو ما يسمى بالإسرائيليات، أي ما يقال إنه ورد في التوراة إلى غير ذلك من بحوث في علم الكلام والصفات وغير ذلك، ثم استعمله البعض تعاويذ وحجبا وغير ذلك.

أما عامة المسلمين فقد حفظوه عن ظهر قلب ولم يخل عصر من عصور المسلمين إلا وكان عشرات الآلاف بل الملايين يحفظونه عن ظهر قلب، منهم من حفظه تعبدا وهذا الأغلب الأعم ومنهم وللأسف الشديد من حفظه ليعيش منه، فهو يقرأه في المناسبات بمقابل أجر، ومنهم من يقرأه يتسول به، ومنهم من يقرأه على المقابر إلى غير ذلك من الاهتمامات بهذا القرآن العظيم.

وللإمام السيوطي نبذه في هذا الباب يقول فيها:" علم التفسير علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وآدابه وألفاظه ومعانيه المتعلقة بألفاظه والمتعلقة بالأحكام وغير ذلك" وهذا البحث يتضمن مقدمة وخمسة وخمسين نوعا من هذا الأمر.

ويعدد معانيها هذه الأنواع من حيث النزول فيجعل لها اثني عشر نوعا.

النوعان الأول والثاني تناول المكي والمدني، مفصلا ما نزل في مكة وما نزل في المدينة أي قبل الهجرة وبعدها.

النوعان الثالث والرابع فبين فيهما ما نزل في السفر وما نزل في الحضر.

النوعان الخامس والسادس فبين فيهما ما نزل في الليل وما نزل في النهار.

النوعان السابع والثامن فقد بين فيهما ما نزل في الصيف وما نزل في الشتاء.

وخصّ الباب العاشر في أسباب النزول ثم في أول ما نزل ثم في آخر ما نزل وهكذا ووضع ما يرجع إلى السند في ستة أبواب وكذلك ما يرجع إلى الاداء في ستة أبواب حتى بين الخمسة والخمسين نوعا من هذه البحوث.

هذا غيض من فيض من الجهود التي بذلت في فهم القرآن الكريم وتدبر آياته وإدراك معانيه، وما زال هذا الكتاب موضع اهتمام المسلمين ومركز تنبههم لإدراك ما فاتهم فهمه، أو ما يتناسب مع الوقائع الجارية والأحداث المتجددة.

إلا أن محاولة فهم السيرة الشريفة، ومعرفة الطريقة التي سار عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حمله الدعوة وبيانها للناس حتى أقام دولة الإسلام، وقام بالتطبيق العملي لما نزل عليه، ما زالت موضع الاختلاف بين جميع الدعاة لاستئناف الحياة الإسلامية، وعودة سلطان المسلمين، وإيجاد الإسلام في واقع الحياة، ورفع المسلمين ليكونوا خير أمة أخرجت للناس وليكونوا أمة وسطا يشهدون على العالم بتبليغهم الدعوة وإقامة الحجة عليهم.

فكم أتمنى أن تفهم هذه السيرة فهماً تشريعياً لا فهماً تاريخياً، وذلك بربط مراحل الدعوة بالآيات التي تنزلت في تلك المرحلة لمعرفة المواضيع التي كان يتعامل معها رسول الله ويبينها للناس، أي أن تفهم السيرة على ضوء القرآن الكريم، وأن ينظر إليه ككتاب دعوة، وهو المنهج الذي سار عليه رسول الله، وهو النهج الفريد الذي يجب أن يتبع في إقامة المجتمع الإسلامي، وإيجاد سلطان الإسلام، وعودة الإسلام لواقع الحياة.

لقد بحث العلماء في آلاف المواضيع والعلوم والمعارف التي تضمنها القرآن الكريم، إلا أنهم لم يولوا هذه المسألة كبير اهتمام من حيث أنهم كانوا يبحثون في الأمور العملية المستقبلية، لا في أمر مضى وانتهى ولم يكن ليخطر ببال أحدهم أن دولة هيمنت على معظم العالم، وامتدت لتشمل معظم العالم المعروف في ذلك العصر ستزول من الوجود، وسيصبح العمل لايجادها فرضاً على المسلمين، لم يكن ليخطر على بال أحد من الناس مثل هذا الأمر، ولو كان أشد الناس تشاؤماً، لهذا فإن مثل هذا البحث لم يكن ليدفع العلماء ليكتبوا فيه أو يبحثوه، والذين كتبوا في السيرة النبوية الشريفة كتبوا فيها تاريخاً، كالذين كتبوا تاريخ المسلمين، فقد تناولوا حياة رسول الله ونسبه وما جرى معه من أحداث وما واجهه من صعوبات وما قام به من أعمال.

لذا أقول: لقد كتبت السيرة ككتاب تاريخ وتناول الفقهاء أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته كنصوص تشريعية يمعنون النظر فيها لاستنباط الأحكام الشرعية التي تسير أعمال المسلمين وتنظم حياتهم.

أما فهم السيرة كطريقة لحمل الدعوة، وكيفية يتوصل بها لإيجاد الإسلام في واقع الحياة، فلم ينظر إليها بهذا المنظار، وبقي الاختلاف بين الفئات الداعية لاستئناف الحياة الإسلامية وإيجاد الإسلام في الحياة، وكلٌّ يدعي أنه على سيرة رسول الله.

والمطلوب ربط هذه السيرة بالآيات التي وردت في القرآن الكريم، والتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبينها ويتعامل مع الوقائع الجارية، بموجب ما يتنزل عليه منها وباختصار أن نفهم السيرة بحسب مواضيع القرآن الكريم وترتيبها حسب النزول فالرجوع إلى أسباب النزول، وترتيب النزول - وللعلماء في ذلك مصنفات - يمكننا أن نتوصل إلى ما تتطلبه الدعوة من معالجات، وما تحتاج إليه من أفكار ومفاهيم بحسب المرحلة التي هي فيها، كالفصل بين المرحلة السرية –إن وجدت - أو سرية التنظيم وعلنية التبليغ، ومرحلة الجهر والصدع، أو مرحلة طلب النصرة أو مرحلة إقامة الدولة، وما تبعها من تعامل جديد مع الكفار أو العصاة من المسلمين من مثل إقامة الحدود وحماية الثغور وتجييش الجيوش وغير ذلك، حتى نحاذر الوقوع فيما هو
محظور، والسير بما يغلب على الظن أنه طريق رسول الله، والنهج التي أتى به القرآن الكريم.

ولا يقال لم أهمل علماء المسلمين وفقاؤهم مثل هذا البحث، لا يقال ذلك فالواقع الذي كان يعيشه علماء المسلمين طيلة العصور يبعدهم عن التفكير في مثل هذا الأمر، فالمجتمع الإسلامي قائم، ودولة الإسلام وسلطانه يهيمنان على المعمورة، فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، كما كانوا أمة وسطا يشهدون على العالم أجمع بتبليغهم رسالة الإسلام. هذا الأمر جعلهم بعيدين عن البحث.

وبتقديري أن ما صرفهم عن هذا البحث يعود إلى عدة أسباب منها:

1-إن بحوث العلماء والفقهاء في الوقائع الجارية، والأحداث المستجدة ليجدوا لها الحلول ويستنبطوا لها الأحكام، وليس البحث في الماضي أو ما يفترض أو يتخيل.

2-لم يكن مقبولا عند أشد الناس تشاؤما أن يتخيل زوال دولة الإسلام، وإبعاد الإسلام عن واقع الحياة كي يبحث في هذه المسألة ويضع لها الحلول، ويستنبط الأحكام ويضع النهج القويم، والطريقة الشرعية في العمل لاستئناف الحياة الإسلامية
فكيف بهم وهم يفكرون في كيفية استكمال الفتوحات وإقامة الحجة على الناس.

اما اليوم ونحن نرى بعد الإسلام عن الحياة، ووجوب العمل لإعادة سلطان المسلمين مع التقيد بالكيفية التي أقام بها رسول الله أول دولة إسلامية، واختلاط فهم السيرة على الناس، واختلافهم فيها، فأصبح من أوجب الواجبات على حملة الدعوة العودة للقرآن الكريم لمعرفة النهج الذي رسمه، والطريق التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم المراحل التي مرّ بها.

ولا يعني هذا العمل على وحدة الفئات والأحزاب، وإنما يعني توحيد الطريقة، وبقاء الاختلاف في الوسائل والأساليب، وتبني ما يغلب على ظن كل منهم من أحكام، من حيث أن هذه الطريقة قد جاء بها القرآن الكريم القطعي الثبوت، والذي لم يختلف في ثبوته اثنان، وأن المواضيع التي جاء بها قطعية كذلك، فكان من السهل اليسير فهم هذا النهج والسير بحسبه كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا فإنني أهيب بعلماء الأمة ومفكريها وقادتها وقادة الأحزاب فيها أن يولوا هذا الأمر اهتمامهم، وإعادة النظر في السيرة الشريفة على ضوء القرآن الكريم لتفهم السيرة كمنهاج دعوة، وطريقة معينة ثابتة، لإعادة إقامة سلطان المسلمين، واستئناف الحياة الإسلامية، وحمل الإسلام للعالم، تماما بنفس الكيفية التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلافيا للوقوع في المحظور وهو ما يقع به البعض، أي عدم المزج بين الفكرة والطريقة، وليس هناك اختلاف في المواضيع التي تضمنها القرآن الكريم في نهجه، والمطلوب هو ترتيب هذه المواضيع حسب النزول وأسباب النزول، لأنها هي المفتاح الحقيقي لفهم مراحل الدعوة، وما تتطلبه كل مرحلة من أفكار أو أعمال، وتكوين فكرة كاملة عن هذا النهج القرآني في بناء المجتمع ، وإقامة الدولة، وقيادة العالم.

فإلى وضع نهج قويم، وفهم سليم للسيرة على ضوء القرآن الكريم، ندعوكم أيها المخلصون.



_________________________


صخور على جانبي الطريق

بعد أن أصبحت فكرة عودة الإسلام لواقع الحياة أمل جميع المسلمين، وهدف جميع العاملين في هذا السبيل، وتعددت الجماعات والأحزاب التي تدعو للعودة إلى الله، أو عودة الإسلام لواقع الحياة، أو تدعو لإحياء الخلافة، أو إلى استئناف الحياة الإسلامية، تعددت هذه الجماعات خصوصا بعدما أطلق عليها "الصحوة الإسلامية" وظهرت إلى جانب ذلك دعوة إلى وحدة هذه الجماعات والأحزاب في حزب واحد، أو جبهة واحدة، حتى كادت أن تشغل الدعاة ببعضهم، وتصرفهم عن أهدافهم وبغيتهم، فلا تكاد تسمع إلا قال فلان. وقد قام بهذه البلبلة اثنان. شخص يقولها مؤمنا بها مخلصا لله ولجماعة المسلمين، وقد آلمه أن يرى انشغال الدعاة ببعضهم وتمزقهم إلى فئات متناحرة، وأحزاب متصارعة، فدفعه إيمانه إلى ما يرى فيه الخير، فنادى بجميع الدعاة في كتلة واحدة، أو جبهة واحدة على الأقل. دعا إلى ذلك غير مدرك أبعاد ما يدعو إليه، وحقيقة ما ينادي به، حيث أنه يتصور أن هذه الانقسامات وهذا التعدد إنما هو ناشئ عن خلافات مصلحية، أو تنافس على زعامة، أو الحصول على منفعة، فلم يدرك أن الإسلام والدعوة إليه ليس فيه مساومة، ولا تنازلا عن فكرة، أو تخلياً عن هدف، أو تراجعا عن غاية مهما كانت صغيرة أو عظيمة، وسير الفرد فيه أو الكتلة إنما يكون بحسب ما يتبنى من حكم شرعي، وحكم الشرع في المسألة الواحدة للشخص الواحد لا يتعدد، ونتيجة لجهله بهذه النقطة فقد اندفع وبكل إخلاص يدعو إلى إقامة وحدة أو توحيد أو جبهة على الأقل تتضافر فيها الجهود لتصل إلى غايتها، وتنقذ الأمة مما هي فيه. هذا هو الشخص الأول أنار الله بصيرته وهداه. وأما الشخص الثاني، فهو شخص ضال، مضل، يريد صرف الأمة عن الانقياد لهذه الجماعات، بحجة التفرقة والتمزق، يقول إذا كان هذا حال الدعاة فيما بينهم، إذا كان هذا حال المفكرين في هذه الجماعات، إذا كان هذا حال الجماعات الإسلامية فيما بينها، وقد فشلوا في جمع كلمتهم، وتوحيد دعوتهم، بل فشلوا في عمل وحدة أو جبهة على الأقل، ومزقوا الأمة إلى فئات وأحزاب وتكتلات، وكلها تعاني من التفرقة والتشرذم ، فكيف سيجمعون الأمة، ويوحدون المسلمين، ويبنون خلافة تضم كافة أقطار العالم الإسلامي؟ كيف يمكن ذلك وهم عن جمع شتات أنفسهم عاجزون؟

إنه يردد هذه الأقوال في الحل والترحال، ويحدث بها في كل مجلس، ويتحدث بها في كل نادٍ في قول ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، يردد ذلك مبتغياً صرف الأمة عن الإسلام وإبعادها عن حملة الدعوة، ومحاولاً الطعن في حملة الإسلام للطعن في الإسلام عن طريق حملته، مع إدراكه التام أن توحيد الأحزاب والتكتلات والجماعات الإسلامية في تكتل واحد، أو حزب واحد، أو جماعة واحدة أمر مستحيل، والدعوة لذلك لا تخلو من الدجل والتضليل.

أسباب استحالة توحيد الفئات والأحزاب الإسلامية:
إن تعدد الفئات والأحزاب والجماعات الإسلامية أمر حتمي، ومحاولة توحيد ما هو موجود من أحزاب وفئات وجماعات أمر مستحيل، ومخالف للعقل والشرع، هذا مع افتراض الإخلاص الخالص في هذه التكتلات قادة وأفراداً، وحرصهم جميعاً على إعلاء كلمة الله، ووجوب التعاون بين المسلمين والإيمان المطلق بأن المسلم أخو المسلم، وأن المؤمنون إخوة، والقيام على الإصلاح بينهم فرض، ومع ذلك فالعمل لتوحيدهم وجمعهم في جماعة واحدة ضرب من الخيال وعملية مستحيلة ، وهي مخالفة للشرع والعقل، أما أسباب ذلك فهي:

النصوص المحتملة لأكثر من معنى:
أولاً: إن الإسلام هو الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، أي هو ما جاء به نبينا الأكرم، وحياً من عند الله، القرآن الكريم والسنة الشريفة، أي هما، ما أوحى الله سبحانه وتعالى به إلى رسوله لفظاً ومعنى وهو القرآن الكريم، وما أوحى به معنى وعبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ أو عمل أو إقرار، حيث أن السنة الشريفة هي قول الرسول وعمله وتقريره، أي سكوته في معرض النطق أو تأييده لما حصل أمامه أو بلغه. هذا هو الإسلام ليس غير، أي هو ما جاء به الكتاب والسنة. أي ما نزل به الوحي على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد احتوى الكتاب والسنة على مجموعة كبيرة من النصوص، وقد تضمنت جميع نواحي الحياة، من عقائد وشرائع وأحكام وأفكار.وأخبار عن الأمم السابقة أو غير ذلك، كما تضمنت منهاج حياة الفرد وتنظيم علاقاته الثلاث، بربه وبنفسه، وبمجتمعه. أو تنظيم علاقات المجتمع من اقتصاد واجتماع ورعاية داخلية وخارجية وحرب ومعاهدات وعقوبات وحدود، أو تنظيم علاقة المجتمع الإسلامي، بغيره من المجتمعات ووجوب حمل الدعوة إليها، فبينت أحكام الجهاد والأسير، والسياسة الحربية، وإعطاء الذمة وغير ذلك، إلا أن هذه النصوص قد جاءت بلسان عربي مبين،ولا تدرك معانيها إلا بمعرفة اللغة العربية، ومعاني الألفاظ، ومعاني الجمل والتراكيب واستعمال الأساليب، ومعرفة الحقيقة والمجاز، والمطلق والمقيد، والتميز بين الخاص والعام،ومعرفة معاني الحروف وأثرها على الكلام ومعانيه ولذا يقتضي لمعرفة معاني هذه النصوص، وما تضمنته من أفكار وأحكام ومعالجات معرفة اللغة العربية معرفة تزيل كل غموض، وتجلو كل إبهام،ولهذا كانت معارف اللغة عنصرا أساسيا في فهم ما جاء به الإسلام، وصارت دراسة المعارف اللغوية مما تقتضيه العقيدة الإسلامية، وأمرا لا بد منه في فهم العقيدة الإسلامية وفهم ما جاءت به الشريعة.
ومن هنا أقول: إن الثقافة الإسلامية هي ما جاءت به العقيدة الإسلامية من نصوص-آيات وأحاديث-وما تضمنته هذه الآيات والأحاديث من معان، هذا جانب،والجانب الثاني هو ما اقتضته هذه العقيدة من معارف، مثل معارف اللغة العربية، ومن البديهي أن التفاوت في فهم اللغة يؤدي حتما إلى التفاوت في فهم العقيدة والأحكام.
هذا ما جاء به الإسلام:
نصوص تضمنت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولغة تحدثت بها هذه النصوص، ولا تفهم النصوص إلا بها.وبنظرة في مجموع ما جاء من نصوص، وما جاء في هذه النصوص
نجد مايلي:

أ-نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة:
ومثل هذه النصوص لا مجال للاختلاف فيها، ولم يختلف الناس حولها من حيث أن ثبوتها قطعي-يقيني-كالقرآن الكريم، والسنة المتواترة. أي هي النصوص المحكمة التي لا يختلف اثنان بثبوتها أو دلالتها حيث أن دلالتها لا تحمل أكثر من معنى . مثل قوله تعالى:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"(1) فلم يختلف اثنان من المسلمين بوجوب الحج. فآية القرآن قطعية الثبوت، وليس لها سوى معنى واحد فقط، ولو أنه جرى اختلافات كثيرة في جزيئات هذه المسألة حسب ورود الأدلة في جزئياتها.

ومن مثل قوله تعالى:"هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم"(2).
ومن مثل قوله تعالى:"أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الغيب الليل"(3)
ومن مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(4)(حديث متواتر).
ومن مثل عدد ركعات الصلوات المكتوبة، سنة عملية متواترة.
فهذه نصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، لذا لا يوجد فيها اختلاف بين الأحزاب والجماعات ولا بين الأفراد، فكل مسلم مؤمن بها، ومن ينكرها يكفر.

--------------------------

(1)97 م آل عمران
(2)22 م الحشر
(3) 78 م الإسراء
(4)حديث متواتر رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدرامي وأحمد بن حنبل.
"من كذب علي متعمدا فليتبوأ من النار" حديث متواتر.


ب-نصوص قطعية الثبوت ولكنها ظنية الدلالة:

وهي آيات القرآن الكريم والأحاديث المتواترة التي تحتمل أكثر من معنى، منها ما هو من العقائد ومنها ما هو من الأحكام.
من مثل قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم"(1)، فقد ذكر فيها أو لامستم النساء، والملامسة في لغة العرب تعني الجماع وتعني مطلق لمس لذا كان من الطبيعي أن يوجد فيها أكثر من رأي ما هو الحال عند المسلمين.
ومثلها في قوله تعالى:" لا يمسه إلى المطهرون"(2) فقد وجد فيها كذلك أكثر من رأي.
ومثلها في قوله تعالى:"وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة"(3).

وباختصار أقول هناك الآيات المحكمة وهي التي لا تحتمل إلاّ معنى واحداً، وهناك الايات المتشابهة وهي التي تحمل أكثر من معنى، أو يمكن أن تتأول لأكثر من معنى، سواء منها ما هو من آيات الأحكام أو من الآيات المتعلقة بالعقيدة، أو النصوص الفكرية، أو القصصية أو غير ذلك.

ج-نصوص ظنية الثبوت ولكنها قطعية الدلالة:

ونعني بالنصوص الظنية الثبوت، هي ما نقل إلينا من السنة المطهرة رواية لم تصل حد اليقين، أي لم تصل حد التواتر وقد سماها علماء الأصول والفقهاء أخبار الأحاد، ومنها الصحيح بأنواعه والحسن، والمشهور إلى غير ذلك من أقسام الحديث الذي يعتدّ به، وسميت ظنية لأنها لم تصل حد اليقين في كافة مراتبها ورواتها. بالرغم من ثبوت صحتها، ولكن اليقين لا يحصل إلا بأحد أمرين إما حكم عقلي لواقع محسوس وإما خبر يقطع العقل يقينا باستحالة الكذب أو الخطأ أو النسيان في الخبر، ومن نقل الخبر أي الرواة. ولما كان الرواة ليسوا معصومين، ونقلهم للخبر لم يصل إلى حال استحالة الخطأ أو النسيان أو الكذب من أحد منهم، لذا فهي لم تصل إلى اليقين، وبقيت تحت غلبة الظن، هذا من حيث ثبوتها-أي من حيث السند-مع أن دلالتها قطعية، أي أن النص منها لا يحتمل إلا معنى واحداً. ومع ذلك حين نأخذ مدلول أحد هذه النصوص مع أنه مدلول قطعي إلا أننا أخذناه بغلبة الظن، حيث أن ثبوت النص إنما أخذ بغلبة الظن، تماما مثل أخذنا لأحد المعاني التي يحتملها النص القطعي.
فقد أخذ أحد المعاني بغلبة الظن، ومن البديهي أن هذا القسم إنما يتعلق فقط بالسنة المطهرة من مثل قوله صلى الله عليه وسلم :" من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فقط غفر له ما تقدم من ذنبه"(4) أو كما قال فإن مدلول هذا النص لا يحتمل إلا معنى واحدا ست من شوال، فليس أربعة ولا خمسة وإنما ستة، وليس من ذي الحجة أو المحرم بل من شوال.
فالمعنى محدد، ولا يحتمل إلا معنى واحدا، فمثل هذا النص ظني من حيث الثبوت وقطعي من حيث الدلالة.

------------------------------
(1)٦م المائدة.
(2) ٧٩ ك الواقعة.
(3) ٢٣ ك القيامة.
(4) رواه مسلم في باب الصوم.


د-نصوص ظنية الثبوت وظنية الدلالة:

هناك نصوص ظنية الثبوت لكونها أخبار آحاد لم تصل حد القطع، أي اليقين ، وفي الوقت نفسه هي ظنية الدلالة لكونها تحمل أكثر من معنى، وأمثال هذه الأحاديث كثيرة جداً، تفوق الحصر، وهي تشمل كافة الاحاديث الصحيحة والمعتبرة شرعا والتي دون حد التواتر، من النصوص التي تحمل أكثر من معنى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"من باع بيعتين في بيعة واحدة فله أوكسهما أو الربا"(1).
ومثل ذلك ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أصحابه بقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة"(2) فقد سمع الصحابة أمره مشافهة، ولكنهم اختلفوا في مدلوله. فسماعهم له قطعي لأنهم سمعوا منه مباشرة. أما ما دل عليه الأمر فقد اختلفوا فيه، فمنهم من فهم أنه يريد السرعة، فصلى العصر في الطريق مسرعاً إلى بني قريظة. ومنهم من فهم المكان، فلم يصل حتى وصل إلى ديار بني قريظة فصلى هناك، حتى أنهم صلوها بعد غروب الشمس، ولم يعب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد فهمه، أي أنه أقر الطرفين على فهمهما.
هذه بعض الملاحظات فيما جاءت به النصوص الشرعية، وما تحتمه من اختلافات في الفهم واختيار أحد المعاني، أو في ثبوت الخبر أو عدم ثبوته كالاختلافات بين علماء الحديث من حيث صحة الاحاديث أو ردها، أو عدم جواز الاستدلال بها. هذه من حيث النصوص التي جاءت بها الشريعة وهناك أمر آخر موجب للاختلاف، ولو أنه لا يبعد كثيرا عما أشرنا إليه، ذلك أنه من المعروف بداهة أن هذه النصوص-الآيات والاحاديث-بمنزلة لا يرقى إليها أحد من حيث البلاغة والإعجاز في الأسلوب-أعني بالنسبة للقرآن الكريم- وقد حيرت عقول البشر، وأعجزت فحول اللغة عن الإتيان بمثلها، من حيث الفصاحة والقوة والجمال. ولهذا فإن سبر غورها، وإدراك كامل معانيها أمر يتفاوت به الناس، وكانت من العمق والشمول بحيث أنها جاءت لمعالجة مشكلة الإنسان وإخراجه من الظلمات إلى النور، ليس في عصر النبوة فحسب بل منذ ذلك العصر وإلى يوم الدين، بالرغم من تجدد الأحداث، وتعدد الوسائل، وتطور الحاجات. وفهم هذه النصوص، وكيفية معالجتها للوقائع والأحداث المتجددة، أمر بديهي أن يتفاوت به الناس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أبو داود في باب (البيوع).
(2)رواه البهاري في باب المغازي.


_____________________________


تفاوت الطاقة البشرية

ثانيا: من المعروف أن الإسلام جاء يخاطب عقول الناس، وجعل العقل مناط التكليف، وكان العقل كذلك هو وسيلة فهم ما جاءت به تلك النصوص. وبالنظر في واقع الإنسان نجد أن التفاوت بين الناس واضحا بيناً، سواء التفاوت في المعارف المكتسبة، أو القدرة التي وهبهم الله إياها مثلا:

أ-التفاوت بالذكاء:
فما لا شك فيه، والمدرك أمام العين، أن الناس متفاوتون بالذكاء والقدرة على إدراك الأمور، وذلك تبعاً لما أنعم الله به على الإنسان. نعم إن كل إنسان عنده عقل ويستطيع أن يدرك الأمور، ويعرف ماذا أراد الله منه، ولكن هذا الإدراك وهذه المعرفة تتفاوت بين بني البشر، ولا دخل للإنسان بها.

ب-التفاوت في القدرات الجسمية:
كالإحساس وغيره، وهذه حقيقة ملموسة كذلك ولا دخل للإنسان بها.

ج-التفاوت في المعارف المكتسبة:
إن فهم النصوص ومعرفة مدلولاتها والتمييز بينها في الثبوت وغيره يتطلب معلومات خاصة توضح ذلك. فلمعرفة مدلولات النصوص لا بد من معارف لغوية تمكنه من فهم هذه النصوص، والتمييز بينها يتطلب معارف من نوع آخر مثل علم الحديث، وعلم الرجال وغير ذلك، كما يتطلب الكثير من المعارف الشرعية. و هذه معارف مكتسبة والناس متفاوتون فيها وفي إمكانية الحصول عليها.
وما دام التفاوت قائما فالاختلاف في فهم الأمور حتمي بين الناس، وكان الاختلاف حتميا في فهم أحكام الإسلام وشرائعه وعقائده، وقد بدأ هذا الاختلاف في الفهم منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رويت عشرات الحوادث التي ظهر فيها الاختلاف في الفهم في عهده صلى الله عليه وسلم، مثل مسألة الأسرى، ومثل صلح الحديبية، واستمرت الخلافات بين الصحابة الكرام بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، مثل اختلاف أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما في مسألة الطلاق، هذا يقول طلاق الثلاثة واحد، والآخر يقول طلاق الثلاثة ثلاث، ومسألة توزيع الغنائم، فهذا يرى التساوي في التوزيع، والآخر يرى التفاضل، ومسألة حرب الردة، ومسألة بعث جيش أسامة وغيرها الكثير من الحوادث، ثم في عهد عمر رضي الله عنه، بينه وبين غيره من الصحابة كعثمان وعلي وغيرهم في مسألة الخراج، وفي كثير من المسائل، وكما حدث في زمن عثمان رضي الله عنه، وفي زمن علي كرم الله وجهه رضوان الله عليهم أجمعين، وحادثة اختيار خليفة للمسلمين بعد مقتل سيدنا عمر، حين سحب عبد الرحمن بن عوف نفسه منها، وأصبح حكما فيها، فسأل علياً هل تبايعني على كتاب الله وسنة رسول الله وما سار عليه الشيخان. فأجاب علي بقوله أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله وأجتهد رأيي. وفي هذه دليل واضح على وجود الاختلافات في الفهم بين خير البشر بعد الأنبياء. واستمرت الاختلافات في كل عصر حتى اليوم، وستبقى أبد الدهر، للأسباب التي ذكرناها، أي لطبيعة النصوص ولتفاوت الناس في الفهم، وأبرز ما يشاهد من تلك الاختلافات السالفة، اختلافات علماء الحديث كالبخاري ومسلم والنسائي وغيرهم . واختلافات علماء الفقه مثل مالك وأبو حنفية والشافعي وجعفر وزيد والأوزاعي وغيرهم، وتتابعت الاختلافات بين تلامذتهم كذلك، وجميع هؤلاء لا يشك أحد من المسلمين في اخلاصهم، وكما حدث من اختلافات في الأمور الفقهية حدث مثلها في مسائل العقيدة والأفكار المتعلقة بها، وما نشأ على هذه الاختلافات من مدارس فكرية، كالمعتزلة والجبرية وأهل السنة، إلى غير ذلك من الاختلافات.
وكما قلنا إن التباين والتفاوت في الإدراك بين بني البشر، والتفاوت في المعارف والمعلومات المكتسبة عندهم، وطبيعة النصوص وما فيها من قوة وشمول وعمق، كلها أمور أساسية تحتم وجود الاختلافات، وإنه لمن المستحيل تخطي هذه الحقائق، وتجاوز هذه الأمور، ولذلك فمن العبث إضاعة الجهد في هذا السبيل، سبيل العمل على وحدة الأحزاب والتكتلات.
ومثل هذا الاختلاف في فهم الإسلام وفهم ما جاءت به الشريعة من نصوص كالاختلافات العقيدية والفكرية والفقهية، هناك اختلافات أيضا في فهم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية حمل الدعوة ، و في كيفية إيصالها للتطبيق و التنفيذ، وفي كيفية إيجادها في واقع الحياة، والمحافظة على هذا الوجود، وفي كيفية إقامة الدولة وفي كيفية رعايته لشؤون الناس، وفي كيفية حمله الإسلام للعالم ، وحربه وسلمه وعهده، أي بعلاقة دولته مع غيرها من الدول.
نعم هناك اختلافات حتمية في فهم هذه الأمور، ولنفس الأسباب التي ذكرناها في فهم الشريعة وما جاءت به.
بقيت نقطة واحدة، هل هذا يعني تمزق المسلمين وشرذمتهم؟ وهل هذا يعني بقاءهم شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون،وليذيق بعضهم بأس بعض؟ مع أن الله سبحانه وتعالى يقول:"إنما المؤمنون أخوة"(1) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلم أخو المسلم"(2).
إن ما أشرت إليه من حتمية وجود الاختلاف، هي اختلافات فكرية، ولا يجوز مطلقا أن تتعدى نطاق الفكر، أو أن تؤثر على علاقة المسلمين فيما بينهم كمسلمين، أي كإخوة أحبة بالرغم من وجود الاختلافات ويبقى المسلمون أمة واحدة من دون الناس. أما ما يجمعهم في دولة، وما يوحد علاقاتهم، وما ينظم حياتهم بنظام واحد، وما يجعل حربهم واحدة، وسلمهم واحدة، فهو من أنابوه عنهم ليقوم بما فرض الله عليهم، أي الخليفة، فكان وجود الخليفة هو العلاج لما قد يبدو أنه مشكلة، أي الاختلافات، هذا العلاج الذي أوجبه الله على المسلمين، وحرم عليهم أن يبيتوا ثلاثة أيام وليس في عنقهم بيعة لأمير منهم،"من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(3) وأوجب عليهم جميعا طاعته" من خلع يدا من طاعة لقي الله ولا حجة له"(4) وجعل كلمته وأوامره ملزمة عمليا لكل مسلم.

---------------------------
(1)١٠ م الحجرات.
(2) رواه البخاري و مسلم.
(3)رواه مسلم في باب (الإمارة).
(4)رواه مسلم في باب (الإمارة). ((من خلع يداً من طاعة لقي الله ولا حجة له))



قال تعالى:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"(1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله"(2). ومثل هذه النصوص الموجبة لطاعة أولي الأمر تفوق الحصر، وبمعرض الاختلافات فقد وضعت القواعد الفقهية التي تنص على وحدة العمل في الفكرة المختلف فيها، مثل "أمر الإمام يرفع الخلاف" ومثل"أمر الإمام مطاع ظاهرا وباطنا".
هذه هي بعض مصادر الاختلافات الحتمية التي تنشأ بين البشر، وهذا سبيل معالجتها فلا يجوز إضاعة الوقت والجهد في أمر يستحيل تنفيذه عقلا، ويعتبر ضربا من الخيال، كالدعوة إلى جمع جميع الجماعات الإسلامية في جماعة واحدة، أو إيجاد وحدة أو اتحاد بين التكتلات والأحزاب الإسلامية، أما ما يجب على المسلم المخلص هو العمل لإيجاد ما يوحد الأمة، ويجمع الكلمة، ويعيد للمسلمين عزّهم ومجدهم على أن يجعل القاعدة الأساسية في أعماله هي "الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي" فلا يتبع الأخف الأسهل، ولا يختار الأشق الأصعب، بل يقوم بتنفيذ ما جاء به الشرع، وليس اتباع الهوى"أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم..."(3) بل يجعل كل أعماله مقيدة بالحكم الشرعي المستنبط من الدليل الشرعي في كل شأن من شؤون الحياة فكيف إذا كان هذا العمل هو الدعوة إلى الله، الدعوة لايجاد الإسلام في واقع الحياة، الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية ، السير على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

-------------------------
(1)٥٩ م النساء
(2)رواه البخاري في باب الجهاد و مسلم في باب الإمارة.
(من أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله)
(3) ٢٣ م الجاثية



الاختلافات في فهم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

مادامت الخلافات ملازمة لوجود الإنسان، لتفاوت الفهم بين الناس، لذا فالاختلافات في فهم السيرة، وكيفية حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم للدعوة أمر حتمي، حيث أن سيرة الرسول هي نصوص عملية، أي هي أعمال قام بها رسول الله ، فحكمها في الاختلافات هو نفس الأمر الذي تحدثنا عنه في فهم الكتاب والسنة، فهي كما قلنا نصوص عملية، ففيها القطعي الثبوت وفيها الظني، وفهم العمل تماما كفهم اللفظ، منه ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، ومنه ما يحتمل أكثر من معنى، ومادام في المسألة مظنة سواء من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة فالاختلافات حتمية الوقوع في فهم السيرة.
لهذا فإن ما ندعو إليه المسلمين بشكل عام، وحملة الدعوة بشكل خاص، لأية جماعة انتموا، أو لأي حزب انتسبوا أن يحتكموا دائما إلى الكتاب والسنة، والعمل بحسب غلبة الظن، أي حسب الحكم الشرعي فكما قلنا إن القاعدة الشرعية "الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي" تحتم الالتزام بالحكم الشرعي وتوجب الابتعاد عن الاحتكام للعقل أو المصلحة، بغض النظر عن اختلاف العصر، وتطور الوسائل والحاجات، فالاحكام الشرعية ثابتة لا تتغير، منذ أن أنزلت وإلى يوم الدين، ولا يصح أن يقال تتغير الأحكام بتغير الأزمان، كما لا يصح أن يكون العمل بلا هدف ولا غاية، فهو إضاعة للجهد واستنزاف للطاقة، وقتل للحيوية الموجودة في الأمة.


__________________________

الطريق القويم

مع وجود الاختلافات في فهم نصوص القرآن الكريم، وفي فهم السنة الشريفة، وفي فهم السيرة النبوية إلا أن هناك أموراً قطعية ملزمة لجميع المسلمين العاملين، ولا يختلف فيها اثنان، وهي أمور أساسية تجعل جميع العاملين على طريق واحد، بهدف واحد، وغاية واحدة ولو تعددت فئاتهم، وكثرت أحزابهم وتكتلاتهم فالجميع مؤمنون أن القرآن الكريم كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. كما أن الجميع مؤمنون بوجوب الاقتداء بسيرة المصطفى وسنته، من حيث أنها وحي من عند الله. إن هذا الإيمان يجعل الأمر ميسورا بجعل الجميع على طريق واحد، تبعا إلى هذا النهج الذي جاء به القرآن الكريم في الدعوة، وتنفيذ رسول الله لذلك، لهذا فإننا نقول إنه بالرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء مبينا للناس ما نزل إليهم، إلا أننا نستطيع أن نفهم سيرته صلى الله عليه وسلم من نهج القرآن. ما دمنا قد اختلفنا في فهمها. وهذا يعني أن نجعل القرآن حكماً فيما اختلفنا في فهمه من السنة. بل أن نجعله مرشدا لفهمنا للسنة، كما كانت السنة مبينة له، ومفصلة لمجمله. فالقرآن الكريم نزل منجما في مدة ثلاث وعشرين سنة، وتبعا للوقائع والأحداث، فبإلقاء نظرة على سوره وآياته نستطيع معرفة الكثير من الوقائع والأحداث التي كانت في ذلك العصر، ومعرفة جميع المواضيع التي كان القرآن يبينها أو يفندها أو يدحضها، أو معرفة الوقائع والأحداث التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جابهته أو جابهت صحابته وأتباعه. بل وبالإمكان معرفة تلك الوقائع وترتيبها الزمني لمعرفة المراحل التي مرت بها الدعوة، والأدوار التي سار فيها رسول الله. من حيث أن سور القرآن الكريم قد ذكر ما هو منها مكي وما هو منها مدني، كما أنه قد ذكر أن هذه السورة نزلت قبل تلك أو بعدها، وبتتبع أسباب النزول، وتتابع السور، والمواضيع التي تضمنتها السور والآيات، تشرق أمامنا سيرة رسول الله بأدوارها ومراحلها.

ولهذا فإننا نهيب بجميع العاملين للإسلام أفرادا وجماعات أن يلتزموا بما هو قطعي فلا يفرطوا بشيء منه أبدا، كما أن عليهم أن يلتزموا بما غلب على ظنهم فلا يتنازلوا عن شيء منه أبدا، إلا طاعة لأمير أو حجة تبين خطأ ما ذهبوا إليه. عليهم أن يلتزموا ذلك، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا تتحكم في خط سيرهم مصلحة، ولا يحتكمون في أمر من أمور الشريعة إلى عقل أو مصلحة أو دفع أذى، فحيثما يكون الشرع فثم المصلحة، فمن فضل الله علينا وعلى الناس أنه جعل عقيدتنا عقلا، و شريعتنا وحيا من عنده، وجعل العقل مناط التكليف، ووسيلة الفهم، فلا يغيب عن الذهن أبدا أن العقل وسيلة فهم للشرع وليس أداة تشريع، شرعنا كامل تام من عند الله تعالى.
وبالنظر في الأمور القطعية التي ليس فيها خلاف، ولا يجوز أن يكون فيها خلاف، نجد هناك أمورا كثيرة لا بد من الالتزام بها في كل جماعة أو كتلة أو حزب أو فرد ومخالفتها تعتبر مخالفة لنهج القرآن الكريم وسيرة سيد المرسلين وسنته المبينة لهذا القرآن. ولا يعذر في تركها مسلم، ومعظمها مما يعرف من الدين بالضرورة مثل:

أولا: وجوب وجود الإسلام في واقع الحياة:
وهذا واضح جليّ في الأحكام التي خوطب بها المسلمون كجماعة، وأوجب عليهم تنفيذها، وإلا أثموا جميعا، وهي ليست من صلاحيات الفرد، بل لا يجوز للفرد كفرد أن يقوم بها، وتتلخص هذه في أربعة أمور هي إقامة الحدود، ورعاية الشؤون، وحماية الثغور وحمل الدعوة للعالم بالجهاد.
أ-إقامة الحدود:
لقد فرض الله القصاص في الإسلام فقال:(ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)(1) وجعل لهذا القصاص نظاماً خاصاً، وأوجب على المسلمين تنفيذ ذلك النظام. وجعلت تلك العقوبات المفروضة زواجر وجوابر، زواجر تحفظ للمجتمع الإسلامي أمنه واستقراره وتردع العابثين والمفسدين، وجوابر تجبر الاثم وتمنع عذاب الآخرة. وكان من تلك العقوبات، عقوبات محددة
لجرائم محددة سميت حدودا كالزنا والقذف والسرقة وعقوباتها الجلد مائة أو الرجم للمحصن، والجلد ثمانين للقاذف وقطع اليد وهكذا. وهناك عقوبات ليست محددة بل ترك تحديدها للقاضي ويطلق عليها عقوبات تعزيرية، وهناك عقوبات يتعلق بها حق الآدمي وهي ما يسمى جنايات، كالدية والقود والأرش، كما جعل التنكيل والتصليب والتقتيل جزاء لأولئك الذين يسعون في الأرض فساداً.
مثل هذه الأمور خوطب بها المسلمون وأوجبها الله عليهم، إلا أنها ليست من مسؤولية الفرد ولا من صلاحياته. ولا يمكن القيام بها إلا بإنابة المسلمين أحدهم، ومبايعته خليفة ليتولى تنفيذ هذه الأعمال المطلوبة منهم. وفيها يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لحد يقام في الأرض خير من أن يمطر الناس أربعين يوما"(2) أو كما قال.
ب-رعاية الشؤون:
وكما أوجب الله على المسلمين كجماعة إقامة الحدود، فقد أوجب عليهم رعاية شؤونهم وتنظيم حياتهم، مثل بناء المساجد والمدارس والمستشفيات وشق الطرق وحفظ الأمن وكفالة اليتيم ورعاية العاجز، وجمع الزكاة ووضعها في مصارفها، إلى غير ذلك من المرافق العامة التي هي من شؤون الجماعة وليست من صلاحية الفرد أو اختصاصه فاستخراج الملكية العامة كالنفط مثلا وتسويقه وتوزيع ريعه على المسلمين ليس من اختصاص الفرد ولا من صلاحيته.
ج-حماية الثغور:
أي حفظ الأمن داخليا وخارجيا، من البديهي أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يقوم به فرد، ولا بد أن يتولى هذه المسؤولية جيش يحفظ الأمن في الداخل بجهاز من أجهزته وهم الشرطة، ويتولى حفظ المسلمين وحماية ثغورهم من الأعداء في الخارج. فطبيعة هذا العمل ليست من اختصاص الفرد، وبالتالي لم يجعلها الله تعالى من صلاحية الفرد مع أنه أوجبها على المسلمين وألزمهم بها، لذا وجب عليهم إيجاد صاحب الصلاحية للقيام بهذا الأمر، أي مبايعة أحدهم على كتاب الله وسنة رسوله، ليقوم بتنفيذ ما طلب منهم كجماعة ومنها، حماية الثغور.

------------------------
(1)١٧٩ م البقرة.
(2)رواه النسائي وابن ماجه و أحمد بن حنبل.


د-حمل الدعوة للعالم:
ومنه رعاية شؤون المسلمين خارج حدود دولتهم، وتنظيم علاقتهم بغيرهم من الأمم والشعوب. وذلك أن حمل الدعوة للعالم فرض على المسلمين يباشره الفرد في حياته حيثما وجد، وتباشره الدولة بتطبيق نظام الإسلام على الناس ليروا نور الإسلام وعدالته، والإطلاع على أفكاره وعقيدته دونما حجاب أو تضليل، كما تباشر إزالة الحواجز المادية التي تحول دون تطبيقه على الناس بالجهاد. فأحكام الجهاد، وأحكام الاعداد للجهاد، ورسم السياسة الحربية، وتقرير حالة الحرب، وتوقيع المعاهدات، وفرض الجزية وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بتنظيم علاقة المسلمين بغيرهم كل هذه ليست من صلاحية الفرد ولا من مسؤوليته، بل مسؤولية من أنابه المسلمون عنهم في التنفيذ، أي الخليفة.

هـ-حتى في العبادات التي هي علاقة بين الفرد وخالقه:
هناك جانب آخر منها ليس من صلاحية الفرد أو اختصاصه مثل المحافظة عليها، أي معاقبة من ترك فريضة منها كالصلاة أو الصيام أو الزكاة، ومثل تولي تنفيذها كالزكاة وجمعها من الناس، وخرص الثمار، وتقدير الزروع والقيام بتوزيعها على أصنافها الثمانية، ومثل الزكاة الخراج، فكله تقديره وجمعه ووضعه في مصارفه ليس من صلاحية الفرد بل من صلاحية من أنابه المسلمون عنهم ليقوم بما كلفوا هم به كجماعة أي الخليفة.
هذه بعض الأمور التي كلف بها المسلمون كجماعة، وأوجبها الله عليهم كجماعة، ولا يوجد الإسلام في واقع الحياة إلا بها، وهي ليست من صلاحية الفرد، وإنما هي مسؤولية ولي أمر المسلمين-أي الخليفة-وبما أن هذه الأمور واجبة عليهم، فوجوب وجود الخليفة واجب عليهم، وذلك من قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "، ولهذا فالعمل لإيجاد الخليفة، لتنفيذ هذه الأحكام المفروضة على المسلمين فرض على كل مسلم حيثما كان، والقعود عن العمل لايجاده إثم كبير، ويستحق القاعد عن ذلك العقاب من الله تعالى، وباختصار فإن وجود خليفة للمسلمين حكم شرعي قد عطل منذ هدمت الخلافة في 3 آذار سنة 1924 وعلى المسلمين فرض إعادته.

ثانيا: وجوب وجود خليفة للمسلمين:

إن إيجاد الخليفة، ومبايعة إمام للمسلمين فرض على كل مسلم، إلا أن تحقيق هذا الأمر لا يمكن أن يتم بالعمل الفردي، ولا بالضراعة والدعاء، ولا بالانقطاع للعبادة والاعتكاف، ولا بالعزوف عن ملذات الحياة، والطيبات من الرزق، بل هو عمل محدد له طريقة محددة بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيره عليها. إنه عمل سياسي، لغرض سياسي، أي إيجاد خليفة ومبايعته على السمع والطاعة، فمثل هذا العمل لا يمكن أن يتحقق إلا بعمل سياسي، في تكتل سياسي، فهو عمل جماعي مستهدف غاية معينة، يقول سيدنا عمر:" لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة ولا إمارة بلا طاعة"، فمن المقطوع به وجوب وجود جماعة سياسية، تقوم على تحقيق هذا الهدف السياسي، أي وجود الخليفة، للقيام برعاية الشؤون، وإقامة الحدود، وحماية الثغور، والجهاد وكلها أعمال سياسية، وذلك من قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، أو مما بينه الله تعالى في كتابه العزيز، قال تعالى:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"(1)، وهل هناك منكر أكبر من إبعاد الإسلام عن الحياة والحكم بغير ما أنزل الله؟ وهل هناك أمر بمعروف أعظم درجة من الدعوة لايجاد الإسلام في واقع الحياة والحكم به وحمله للناس كافة وهل هناك منكر أكبر من تطبيق أحكام الكفر على المسلمين، تجب إزالته.

------------------------
(1) ١.٤ م آل عمران.


ثالثا: اتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم:

قال تعالى مخاطبا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين) (1). وقال تعالى مخاطبا المؤمنين:"ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)(2) ، كما قال أيضا(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (3) وقال(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(4).
خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما على الرمل وجعل على جانبيه خطوطا متعددة، وقال هذا صراطي مستقيما، وهذه السبل على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو له، وتلا (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(5).
إن هذه النصوص توجب بوضوح الاقتداء والتقيد بطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمله للدعوة لا نحيد عنها قيد شعرة، ولا نبتعد عنها تحقيقا لمصلحة ، ولا تهربا من شدة أو بطش، ولا نتركها بحجة اختلاف العصر وتطور الحياة فهي الطريق القويم، والمحجة البيضاء. ولهذا فإن سيرة الرسول وكيفية حمله للدعوة هي الواجبة الاتباع، وهي المقياس لمعرفة الطريق القويم.


رابعا: السيرة تفهم بالقرآن:

إن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت تبيانا لما نزل عليه من قرآن. ومن المعروف أن القرآن الكريم نزل على رسول الله منجما، خلال ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث، وما تقتضيه الدعوة. ومعرفة ترتيب نزوله هي معرفة للوقائع والأحداث التي حصلت، ومعرفة للمراحل التي مرت بها الدعوة، فإن اختلف في فهم السيرة وأحداثها، فالرجوع للقرآن الكريم وترتيب نزوله وأسباب النزول تقطع بالأمر وتبينه، فالمرجع الأول والأخير للمسلمين هو القرآن الكريم، وبالرغم من أن السيرة موضحة له، ومبينة لمعانيه، إلا أن السيرة ومراحل الدعوة تفهم بالقرآن وتتابعه وأسباب نزوله، ومن معرفة ذلك أيضا نستطيع معرفة ما كان يقوم به صلى الله عليه وسلم من أعمال، وما يجابهه من أخطار.

--------------------------
(1)١٠٨ ك يوسف.
(2) ٧ م الحشر.
(3)٢١ م الأحزاب.
(4)٦٣ م النور.
(5)١٥٣ م الأنعام.


خامسا: وجود قطعيات لا يجوز الخلاف حولها:

إن اختلف المسلمون في فهم الآيات ودقائقها أو اختلفوا في فهم السيرة وأبعادها، فإن هناك أمورا قطعية لا يجوز الاختلاف فيها وتجاهلها، ومن أبرز هذه الأمور وأهمها، المواضيع التي ذكرها القرآن الكريم، فالقرآن الكريم تناول مواضيع متعددة لا يختلف فيها اثنان من حيث هي مواضيع عالجها الإسلام وبينها، فهي قطعية الثبوت لورودها في آيات القرآن الكريم، وقطعية الدلالة من حيث حصر معناها في موضوع، وتضافر آيات كثيرة لمعالجة هذا الموضوع أو ذاك. لذا فمن السهل الميسور أن ينظر لهذه المواضيع كخطة عمل تعامل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. من حيث أنه كان مبينا للكتاب، ومفصلا للناس ما نزل إليهم، ومن هنا وجب أن تكون هذه المواضيع هي برنامج العمل، وخط السير، لأي حزب أو جماعة يدعون إلى الإسلام، فلا يجوز تركها أو ترك شيء منها لأي عذر أو سبب. اللهم إلا عدم وجودها وما دامت موجودة في كل عصر وفي كل مصر، فالالتزام بها أمر حتمي، واتخاذها منهجا وخط سير فرض، وترك شيء منها إثم، ويعتبر مخالفا لنهج القرآن الكريم، وسيرة سيد المرسلين، ولا يحق لمن ترك شيئا منها أن يدعي أنه على طريق رسول الله وسنته(وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(1).

فمن حيث المراحل، فقد ميز الصحابة والفقهاء والعلماء والناس بين السور والآيات فأشاروا للسور المكية أنها مكية، وللمدنية أنها مدنية حتى أضحت هذه معروفة لجميع المسلمين، أما تقسيمه من حيث المواضيع فمنهم من قال إن القرآن الكريم هو توحيد وتشريع وقصص، ولهذا قالوا سورة الإخلاص ثلث القرآن، من حيث أنها توحيد، ومنهم من فصل أكثر من ذلك فقسم القرآن إلى علوم سماها علوم القرآن، كعلم التوحيد، وعلم التشريع، والعلم بآلاء الله، والعلم بأيام الله، والعلم بالموت، والعلم بالبعث والنشور. وكلهم مصيب فيما ذهب إليه، إلا أن ما نريده كحملة دعوة أن نفهم هذا القرآن كمنهاج عمل وكتاب دعوة، موضحا للسنة، وذلك بمعرفة المواضيع التي تناولها القرآن الكريم في مكة، لمعرفة السيرة على ضوئها، وباستقراء السور المكية والآيات لمعرفة هذه المواضيع نجد مايلي:
1-موضوع العقيدة: إثبات وجود الله وعظمته، وإثبات أن القرآن كلام الله وإثبات نبوة محمد والبعث.
2-الصراع الفكري: أي الرد على مشركي العرب على اختلاف مذاهبهم، والرد على اليهود والنصارى على اختلافهم.
3-الكفاح السياسي: التصدي لأئمة الكفر وقادة المجتمع.
4-التصدي للعلاقات الفاسدة والعادات السيئة.
5-بناء الشخصية الإسلامية.
6-القصص والأمثال لتثبيت فاد رسول الله والمؤمنين ولبيان أن ما يلاقونه من ظلم وعنت إنما هي سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا.

------------------------
(1) ٦٣ م النور.

وبإمعان النظر في المكي نجد أن إمكانية تحديد المراحل فيها وما تستلزمه كل مرحلة من مواضيع وكيف سار في تنفيذها رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد:

1-موضوع العقيدة بأركانها الخمسة وما يتفرع عن هذه الأركان الخمسة، فالإيمان بالله تعالى وما يوصل لهذا الإيمان من لفت نظر الإنسان إلى ما خلق الله من شيء، وما تقتضيه صفات الألوهية من وحدانية وقدرة وعلم، يتكرر ذلك مئات المرات وفي العديد من السور إن لم يكن بها جميعا.
والإيمان بأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى تردد ذلك في العديد من السور بالرغم من أنه المعجزة الملقاة عليهم، وهو الدليل على نبوة من جاء به.
ولهذا كانت هذه الأسس الثلاثة في الاعتقاد دليلها عقلي، وأعني بهذه الأسس الثلاثة، الإيمان بالله والإيمان بالقرآن الكريم والإيمان برسالة محمد، وقد خوطب العقل الإنساني لإقامة الحجة عليه في هذه الأمور كي لا يكون للناس من حجة.
وأما الإيمان بالرسل الآخرين فقد ذكرت قصصهم وتكرر ذكرها في العديد من السور والآيات حسب مقتضى الحال حين النزول.
وتكرر ذكر البعث والنشور والحساب ومشاهد القيامة، مخاطبا العقل مرة ومقررا الحقيقة مرات ومرات، أما مخاطبته للعقل في هذا الشأن مع أنه ليس تحت الحس ليحكم به العقل، إلا أن الخطاب كان يلفت النظر للنشأة الأولى والخلق الأول ثم يعقب أن الإعادة أهون من البدء(أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)(1) أو في قوله تعالى (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)(2) إلى غير ذلك.
وفي الوقت الذي كان يبين ذلك ويوضحه كان يدحض ما يخالفه من آراء وأفكار ومعتقدات من حيث أنه لا يمكن للإنسان أن يعتقد عقيدتين متناقضتين، ولا يمكن إزالة عقيدة من عقل إنسان إلا بإثبات بطلانها فكان القرآن يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.

لهذا كان من أهم وأبرز المواضيع بعد موضوع العقيدة هو موضوع المخاصمات كما سماه شاه ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير ولهذا نجد الآيات والسور قد تضافرت لمحو ما علق في أذهان الناس من عقائد الشرك وأفكار الكفر مبينة فسادها وكاشفة بطلانها.

-----------------------
(1) ٧٧ ك يس.
(2) ١٥ ك ق.

سواء عند العرب المشركين أو عند من غضب الله عليهم من اليهود أو من ضلالة النصارى فلا تكاد تخلو سورة من التصدي للكفر والكافرين على اختلاف مشاربهم وتعدد مذاهبهم.
وتسهيلا لهذا الأمر، وتقريبا للذهن فيما ذهبت إليه نلقي نظرة عاجلة إلى سور القرآن الكريم، لندرك من ذلك ترتيب السور حسب النزول بغض النظر عن الاختلافات الطفيفة في هذا الشأن خصوصا، وأن أبرز ما نرمي إليه هو معرفة المراحل التي مرت بها الدعوة من خلال الموضوعات التي حملتها السور. وما دامت الغاية هي معرفة المراحل من خلال الموضوعات فإن أبرز مرحلتين أجمع المسلمون جميعا عليهما وهما حقيقة شرعية قائمة بذاتها المرحلة المكية والمرحلة المدنية مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة.
ولما كنا اليوم في مرحلة الدعوة والاختلافات في فهم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة أي المرحلة المكية، إذن كان لا بد أن يجري إمعان النظر في هذه السور المكية ومحاولة تتبعها حسب النزول لعلنا نقف منها على أدوار الدعوة في هذه المرحلة وما هي المواضيع التي كانت تعالجها، ويبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن آمن به وللناس كافة حسب طاقته وقدرته.
وإنه وإن وجد بعض الاختلافات في ترتيب السور حسب النزول إلا أنها اختلافات طفيفة لا تخرج الأمر عن طبيعته ومعرفته، ولا يضيرنا شيئا تقديم إحدى السور على غيرها، فهناك غلبة ظن وإعمال ذهن في معرفة ذلك، إما بواسطة السند أو الموضوع الذي تعاملت معه.
وأهمية هذا البحث إنما هي لتوضيح ما يجب على كل تكتل يعمل لعودة الإسلام لواقع الحياة أن يتلبس به من أعمال وما يتعامل معه من مواضيع.
فمثلا قالوا إن الدعوة كانت سرية حتى نزل قوله تعالى:(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)(1) فصدع رسول الله بالأمر وأسفر في دعوته، فسب آلهة قريش وسفه أحلامهم وتحداهم مما جعلهم يكيدون له ويجابهونه بالعداوة والبغضاء والاعتداء عليه وعلى أصحابه.

فإلقاء نظرة على هذه الآية في سورة الحجر والتي سبقها 47 سورة، أو 52 سورة في بعض الروايات، وإلقاء نظرة على ما سبقها من سور أي الفترة التي يقال إنها مرحلة سرية الدعوة، يبين لنا حقيقة ما قيل، وهل حقا أنها كانت دعوة سرية تقتصر على شرح عقيدة الإسلام وبيان أفكاره. أم أنها تضمنت مواضيع أخرى. كما يقتضي ربط هذه المواضيع بالحوادث التاريخية المجمع عليها من مثل إسلام حمزة وكيفيته ومتى كان، ومن مثل إسلام عمر بن الخطاب وكيفيته ومتى كان. وهل كان ذلك قبل الصدع بالأمر أم بعده، وهل لحق الأذى بالمسلمين قبل هذه الآية أم لا. وهل تضمنت تلك السور الـ 47 سباً لالهة الكفار وتسفيهاً لاحلامهم، وإبطالاً لأفكارهم ومفاهيمهم أم لا؟ وهل أثار ذلك حفيظتهم ودفعهم للاعتداء على من آمن منهم أم لا؟ ولم؟ هكذا نستطيع أن نفهم المراحل وما تتطلبه كل مرحلة من عمل؟ وذلك بحسب ترتيب السور بحسب النزول.

----------------------
(1) ٩٤ ك الحجر.


وقد كتب في هذه المسألة العديد من علماء المسلمين جزاهم الله عنا كل خير، ومما أوردوه ما جاء في تفسير الإمامين الجليلين، جلال الدين محمد بن أحمد المحلى، والشيخ المتبحر جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، فقد جاء فيه في "نبذة ملخصة من أقوال الإمام السيوطي" في التفسير(الأنواع) منها ما يرجع إلى النزول وهو أثنا عشر نوعا (الأول والثاني المكي والمدني).
الأصح أن ما نزل قبل الهجرة مكي وما نزل بعدها مدني، وقيل المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، وعلى هذا تثبت الواسطة، والمدني اتفاقا عشرون سورة: البقرة، آل عمران،النساء، والمائدة، والأنفال وبراءة، والنور والأحزاب،ومحمد أو(القتال) والفتح، والحجرات، والحشر والممتحنة، والجمعة والمنافقون والطلاق والتحريم والحديد والمجادلة والنصر، واختلف في الفاتحة فقيل مكية وقيل مدنية وقيل نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وقيل نزلت نصفين نصف في مكة ونصف في المدينة والأصح الأول وفي النساء والرعد والحج والصف والتغابن والقيامة والكوثر والمعوذتين والأصح أنها مدنيات، والرحمن والحديد والإنسان والإخلاص والأصح أنها من المكي. انتهى قول الإمام السيوطي.
وما سوى ذلك هو مكي. وبالنظر فيما هو مكي وترتيب نزوله نجد مايلي وبحسب ما جاء في كتاب الاتقان في علوم القرآن لشيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي أن أول ما نزل من القرآن من السور حتى سورة الحجر التي فيها آية
فاصدع بما تؤمر أي المرحلة الأولى والتي يقال فيها المرحلة السرية. هو التالي:

1-إقرأ 27-قريش
2-يا أيها المزمل 28-القارعة
3-يا أيها المدثر 29-القيامة
4-تبت يد أبي لهب 30-الهمزة
5-إذا الشمس كورت 31-المرسلات
6-سبح اسم ربك الأعلى 32-ق
7-والليل إذا يغشى 33-البلد
8-والفجر 34-الطارق
9-والضحى 35-اقتربت الساعة وانشق القمر
10-ألم نشرح لك صدرك 36-ص
11-والعصر 37-الأعراف
12-والعاديات 38-الجن
13-الكوثر 39-يس
14-التكاثر 40-الفرقان
15-ارايت الذي يكذب بالدين 41-الملائكة فاطر
16-يا أيها الكافرون 42-مريم
17-الفيل 43-طه
18-قل أعوز برب الفلق 44-الواقعة
19-قل أعوذ برب الناس 45-طسم الشعراء
20-قل هو الله أحد 46-طس
21-النجم 47-القصص
22-عبس 48-بني إسرائيل
23-القدر 49-يونس
24-والشمس وضحاها 50-هود
25-البروج 51-يوسف
26-والتين والزيتون 52-الحجر


فلو نظرنا في هذه السور والمواضيع التي جاءت بها لأمكننا معرفة طبيعة تلك المرحلة وكيف كان موقف رسول الله والأعمال التي كلف القيام بها، فمن هذه المواضيع:

1-تركيز العقيدة وهو الموضوع الأساسي الذي لم يغفله القرآن الكريم في جميع سوره، سواء من حيث الإيمان بالله وبجميع صفات الألوهية من حيث العلم والقدرة والوحدانية وغير ذلك، أو من حيث الإيمان بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى وإنما هو كلام الله أو من حيث الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو من حيث الإيمان بالأنبياء السابقين والملائكة المقربين أو الإيمان باليوم الآخر موجزاً مرة ومفصلاً مرات حسب مقتضى الحال.
2-الرد على الكفار ومهاجمة أفكارهم وعقائدهم وسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم.
3-مهاجمة زعمائهم وقادتهم.
4-مهاجمة العلاقات الفاسدة التي تنظم مجتمعهم.
5-تثبيت فؤاد الرسول، وبيان أن ما يقال له إلا ما قيل للرسل من قبله.
6-تثبيت إيمان المؤمنين بأن ما يلاقونه من عنت وشدة تلك سنة الله في خلقه.
7-أمثال لتوضيح المقال.
ففي السورة الأولى(إقرأ باسم ربك الذي خلق) (1)يقول في نهايتها(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى)(2) إلى أن يقول : (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية ناصية كاذبة خاطئة)(2) كذلك في السورة الثالثة(يا أيها المدثر)(3) الهجوم العنيف على المتآمرين من قريش وزعيمهم الوليد بن المغيرة حين يقول فيه سأصليه سقر.

وفي السورة الرابعة( تبت يدا أبي لهب)(4) حين كان هو وزوجته يؤذون رسول الله.
وبتتبع هذه السور وترتيبها نرى أن الجهر بالدعوة والتصدي لعقائد الكفر ولأئمة الكفر وللعلاقات الفاسدة كان منذ الأيام الأولى.

وفي السورة العشرين(والنجم)(5) كان قسم من الصحابة قد فر بدينه إلى الحبشة. وحين قرأها رسول الله على مشركي العرب واختتمها بالآيات (وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون فاسجدوا لله واعبدوا)(6) فسجد وسجد معه الحاضرون مأخوذين بسحر التلاوة وبلاغة القول فظن البعض أنهم آمنوا وانتقل الخبر إلى الحبشة فعاد قسم من الصحابة من تلك الهجرة. وأخلص إلى القول أن تصدي قريش للدعوة، كان ملازما للدعوة من بدايتها وليس بعد الصدع فقط كما يقول البعض ولهذا نفهم من الصدع ليس الجهر بالدعوة فقد بلغها رسول الله قريشا، وإنما الصدع هو الإعلان عن الكتلة ومن فيها. وإلا لماذا فر الصحابة إلى الحبشة إن لم يكن هناك أذى؟

-----------------------




(1) ١ ك العلق.
(2) ٩ ك العلق.
(3) ١٥ ك العلق.
(4) ١ ك المدثر.
(5) ١ ك المسد.
(6) ١ ك النجم.
(7) ٦٠ ك النجم.


وأقول يكفي إمعان النظر في هذه السور وما يتبعها من سور مكية لنعرف طبيعة الدعوة وطبيعة المراحل التي مرت بها، وذلك من معرفة المواضيع التي كانت تتناولها فمن أراد التقيد بنهج القرآن الكريم، والالتزام بطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير بنفس الكيفية التي سار عليها رسول الله.

1-مبيناً ما عنده، موضحاً عقيدته بكلياتها وجزئياتها، بأصولها وفروعها، مخاطبا قوى الإنسان العاقلة، لافتاً نظر الناس إلى ما يوصلهم إلى الإيمان بتلك العقيدة مبدعاً في الأساليب، مستغلاً كافة الوسائل المتوفرة ،لتوضيح عقيدة الإسلام، وإبعاد ما لحق بها من غشاوة.

2-إظهار زيف الأفكار الفاسدة والعقائد الباطلة من إلحاد أو شرك أو كفر وخصوصا الأفكار الغامضة التي حسبها البعض-نتيجة التضليل-أفكاراً إسلامية أو مستنبطة من روح الإسلام، أو على الأقل أنها لا تخالف الإسلام من مثل الاشتراكية والديمقراطية الوطنية والقومية وغير ذلك.

3-ومن العقبات الأساسية انقياد الناس لأئمتهم وقادتهم لذا كان لا بد من انتهاج النهج الذي سار عليه محمد صلى الله عليه وسلم في فضحهم والتصدي لهم.

4-بيان ما في هذا المجتمع من مفاسد وما في علاقاته، والقوانين التي تنظم هذه العلاقات من فساد وبطلان مما جر على الناس الويلات، وألحق بالبلاد الخراب والدمار.

5-تأهيل أبناء كل تكتل يعمل لقيادة الأمة أن يكونوا بمستوى الفكر الذي يحملونه عقليات إسلامية ونفسيات إسلامية.

هذا مجمل موجز جدا من نظرة بسيطة إلى هذه السور والآيات ومثيلاتها.

هذه هي أهم المواضيع التي تعامل معها القرآن الكريم ونفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية، وقد اشتمل كل موضوع منها على أجزاء أو فروع كثيرة بحيث لم تترك مجالا لمظنة، أو حجة للناس على الله بعد الرسل. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

العقائد:
خاطب الإسلام قوى الإنسان العاقلة، ولفت نظره وأحاسيسه لما حوله من آيات وطلب منه أن يضع الكون وما فيه موضع التفكير، ليصل من تفكيره هذا إلى إدراك حقيقة هذا الكون وما فيه من حياة وإنسان أنه ليس بأزلي من حيث نقصه واحتياجه وعجزه، وأنه لا بد له من خالق خلقه، ونظم الوجود كله بنظام دقيق، أي أن الإسلام خاطب قوى الإنسان العاقلة ليعرف الإنسان معنى وجوده في الحياة، وهذا لا يتأتى له إلا إذا عرف الحياة والوجود من حوله، وعرف خالقها وخالقه، لذا فقد كان هذا الموضوع هو الركيزة الأساسية في حمل الدعوة، وقد اشتمل هذا الموضوع على أركان العقيدة الخمسة بشكل يكفي لإقامة الحجة على كل ذي عقل.

الايمان بالله:
لم يقتصر القرآن الكريم في مناقشته على إثبات وجود خالق خلق الأشياء كلها، بل اشتمل على ما تقتضيه صفات الألوهية مثل الوحدانية، والقدرة، والعلم، ونفي الشبه، وتلك الأسماء الحسنى التي وصف الباري عز وجل بها نفسه وردت في آيات القرآن الكريم مئات المرات، ويكفي أن نعرف أن أسماء الله التي وردت في القرآن الكريم تسعة وتسعون، وهذا يعني أن هناك تسعة وتسعين آية ذكرت هذه الصفات لله تعالى، وحين نجد أن الكثير من هذه الأسماء والصفات تكرر عشرات المرات، ندرك مدى أهمية هذا الموضوع وأنه هو الركيزة الأولى في الإيمان المبني على القناعة العقلية المطلقة، والطمأنينة القلبية التامة، ومن هذه الآيات:
1-سورة الإخلاص(قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد،ولم يكن له كفوا أحد)(1).
2-(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)(2).
3-(الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب)(3).
4-(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك)(4)
5-(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)(5).
6-(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سكمها فسواها)(6).
7-(أفي الله شك فاطر السموات والأرض)(7).

------------------------
(1) سورة الإخلاص.
(2) ٢٥٥ م البقرة.
(3) ٢ م آل عمران.
(4) ٦ ك الانفطار.
(5) ٦ك الانشقاق.
(6) ٢٧ ك النازعات.
(7) ١٠ ك إبراهيم .



8-(أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون)(1)
9-(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون، فما يكذبك بعد بالدين، أليس الله بأحكم الحاكمين)(2) بلى.
10-(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)(3).
11-(لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)(4).
ويكفي أن أقول إن لفظ الجلالة "الله" ورد في القرآن الكريم أكثر من ألفين وخمسمائة مرة، هذا بالإضافة إلى الأسماء والصفات الأخرى.

الإيمان بالقرآن الكريم:
من الأركان الأساسية في العقيدة كذلك الإيمان بالقرآن الكريم والكتب الأخرى، فإنه وبالرغم من إدراك العرب في حينه بلاغة هذا الكتاب، ووصفهم له بأنه مورق أعلاه، مغدق أسفله وهو يعلو ولا يعلى عليه، بالرغم من ذلك فقد لفت الله تعالى أنظارهم إليه، مقيما الحجة عليهم فيه أن هذا الكتاب هو كلام الله وتحداهم أن يأتوا بمثله، وبين لهم أن محمداً قد لبث بينهم عمراً من قبله، ولم يقل شيئا من هذا، بل إنه لا يقرأ ولا يكتب، وذلك ليقيم الحجة اليقينية على أن هذا القرآن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


------------------------
(1) ٣٥ ك الطور.
(2) ٤ ك التين.
(3)٢٢ ك الأنبياء.
(4) ٤٢ ك الإسراء.


قال تعالى:
-(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)(1).
-(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً)(2).
-(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)(3).
-(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)(4).
-(طَه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)(5).
-(يَس، والقرآن الحكيم)(6)
-(صَ.والقرآن ذي الذكر)(7)
-(قَ، والقرآن المجيد)(8)

وقد ورد ذكر القرآن الكريم في أكثر من سبعين آية، وذلك لإقامة الحجة العقلية الدامغة، ولأنه ركن من أركان العقيدة، والدليل القطعي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون الإيمان به إيمانا يقينياً، فهو واقع مدرك محسوس، ويستطيع الإنسان أن يفكر فيه ، ليصل بتفكيره إلى إدراك إعجازه، واستحالة الإتيان بمثله. لذا لا بد من وجود باعث على التفكير.


------------------------
(1) ٢٤ م محمد.
(2) ٨٢ م النساء.
(3) ٩ ك الإسراء.
(4) ٢١ ك البروج.
(5) ١ ك طه.
(6) ١ ك يس.
(7)١ ك ص.
(8)١ ك ق.

وهكذا كان. فقد تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)(1) وقال :( قل فأتوا بسورة من مثله)(2) وقال:( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)(3).
كان هذا التحدي تحديا سافرا وحقيقياً، فالتحدي في أمر من الأمور لا بد أن يتوفر فيه شرطان، الأول أن يكون هناك باعث على قبول التحدي، وحافز على الرد. وأما الشرط الثاني أن تكون الوسائل المستعملة في الأمر، مما هي في متناول اليد عند المتحدّى حتى يكون قادراً على الرد.
أما الشرط الأول فهو موجود، فقد سفّه القرآن أحلام خصومه وسب آلهتهم، وهدم عقيدتهم وألغى كيانهم ووجودهم، فاندفعوا لمحاربته بكل وسيلة، من إعراض عنه، إلى مقاطعة له، إلى الاعتداء المادي عليه، حتى وصل الحال إلى حربه حرباً ضروساً، قتلت الأشراف وهدرت الأموال. إذن فالباعث على قبول التحدي قوي وعنيف، فلو استطاعوا القيام بذلك لفعلوا، مع أن هذا القرآن هو الحجة مع محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على نبوته، وكان يكفي إبطال هذه الحجة، ورد هذا الدليل، مع أنهم حاولوا وفشلوا، واضطروا إلى الكذب، ومناقضة أنفسهم، وتدبير المؤامرات والمكائد وبلغ الحال بهم إلى القول السخيف في هذا القرآن، حيث اتهموا محمداً صلى الله عليه وسلم، أنه يتعلم هذا القرآن من رجل نصراني اسمه جبر فرد عليهم مبيناً سخافتهم (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(4).

حيث أن جبراً هذا لم يكن عربياً، فكيف يعلم محمداً هذه الفصاحة والقوة والجمال، كما قالوا (قال أساطير الأولين)(5) اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، وقد رد عليهم بأنه لم يكن يتلو قبله من كتاب، ولم يكن يخط بقلم، وإلا لارتاب المبطلون، إذن فالباعث على التحدي عنيف، والحافز عليه قوي، بل هو قضية مصيرية يترتب عليها الوجود والعدم، هذا من حيث الشرط الأول، وأما الشرط الثاني وهو أن تكون الوسائل المستعملة في الأمر مما هو في متناول اليد، فالقرآن الكريم لم يستعمل شيئا لم تعرفه العرب، فالحروف حروفهم، والألفاظ ألفاظهم، والتراكيب والجمل المستعملة أسلوبهم وها هو يمعن في إثارتهم، ويبين لهم أن هذا القرآن من هذه الحروف التي تستعملونها، فيقول(آلم، ذلك الكتاب لا ريب فيه)(6)،(آلر، آلمَر، الَمص، حَم، حَم عسق،قَ، صَ، نَ كهيعص) فقد استعمل نصف الحروف التي يستعملونها وكررها مرات ومرات لعلهم يذكرون.
إذن هو لم يأتهم بجديد من حيث اللغة والأسلوب، إلا هذه الصياغة اللغوية البليغة، لما يستعملون من حروف وكلمات وجمل وتراكيب وأساليب. ومع ذلك فقد فشلوا، ومن هنا يتبين أن عناصر التحدي قائمة وشروطه متوفرة وحوافزه قوية عنيفة، وأكبر دليل على هزيمتهم أنهم لجأوا إلى أساليب ووسائل أخرى في مقاومته والتصدي له.

----------------------------
(1) ٨٨ ك الإسراء.
(2) ٣٨ ك يونس.
(3) ١٣ ك هود.
(4) ١.٣ ك النحل.
(5) ١٥ ك القلم.
(6) ١ م البقرة.

و مع هذه المناقشة الفكرية، والأدلة الحسية على أن هذا القرآن هو كلام الله، فقد وردت الآيات تبين أن القرآن كلام الله أنزله على قلب رسول الله، حتى تردد هذا الأمر أكثر من سبعين مرة كما قلنا فقط في السور التي نزلت في مكة، فإن كان مثل هؤلاء الناس الذين كانوا أهل اللغة، وواضعيها قد احتاجوا إلى كل هذه المناقشة والتحدي، فكيف بأبناء هذا الجيل الذين لا يستطيعون التمييز بين القول البليغ وغيره، ألا يحتاج هذا الأمر من الدعاة أفرادا وجماعات أن يولوا هذا الركن الأساسي من أركان عقيدتهم شيئا من الاهتمام، في تبيان بعض ما فيه من إعجاز وبلاغة، وكيف نقيم الحجة به على الناس الذين أصبحوا لا يفرقون بين الفاعل والمفعول به، ولا يميزون بين القول البليغ والفكر العميق من سفه القول وسطحية التفكير، وليس المطلوب فقط-كما يبرز على الكثيرين-حفظه واستظهاره وتجويده وتلاوته والتغني به، بل يجب أن يكون معلوماً أن هذا القرآن حجة علينا بالتزامه وحجة لنا على الناس لاتباعه، فعلينا معرفة استعمال حجتنا للجاحدين، والرد على المكابرين، ونحن نعلم أن فيه من البلاغة والسهولة، ما يمكن من الرد على أبسط الناس فهماً، وأعمقهم فكراً، وأكثرهم علماً. أوليس في تكرار ذكره، وتبيان صفاته دليلاً على جوب التركيز عليه في الدعوة إليه وإلى من أنزله، (وجاهدهم به جهادا كبيراً) (1)(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفوراً)(2) .

(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين)(3).
(فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل، أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)(4).
(وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين)(5).
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(6) وأما بالنسبة للكتب الأخرى والتي طلب منا الإيمان بها فقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تقيم الحجة على أصحاب هذه الكتب، وتبين ما أحدثوا في كتبهم من تغيير وتبديل،وتنذرهم عاقبة أمرهم وافترائهم على الله،وقد تناولتها الآيات مجملة في بعض الأحيان، وأفردتها أحياناً أخرى(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك)(6) (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(8).


----------------------------
(1) ٥٢ ك الفرقان.
(2) ٤٦ ك الإسراء .
(3) ٣٧ ك يونس.
(4) ١٣ ك هود.
(5)١٢٠ ك هود.
(6) ٣ م يوسف.
(7) ١٤٥ م البقرة.
(8) ١٤٦ م البقرة.


(إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم)(1) (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل)(2)(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)(3) (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)(4) (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)(5) (صحف إبراهيم وموسى)(6) والمطلوب منا كمسلمين هو التصديق بها والإقرار أن الله أنزل على موسى وإبراهيم وعيسى وداوود كتباً وصحفاً، وأن قرآننا (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه)(7).

الإيمان بالملائكة:

شاءت إرادة الله تعالى أن تجعل الإيمان بالملائكة ركناً من أركان العقيدة، نعم قد يقال إنهم حلقة الوصل ما بين الله سبحانه وتعالى والأنبياء، فهم الذين يبلغون الأنبياء رسالاتهم، وهم مكلفون بأمور لا تقع تحت حسّنا، وإنما أخبرنا الله بها، فمنهم الروح الأمين جبريل، ومنهم ميكال ومنهم ملك الموت، ومنهم رقيب وعتيد حسبما أخبرنا القرآن الكريم، إلا أننا لا نستطيع أن نقول أن هذا هو السبب في جعل الإيمان بهم ركنا أساسياً من أركان العقيدة، ولكن نقول هذا ما طلب الله سبحانه وتعالى منا أن نؤمن به، ونقف في ذلك عند حد النص.

---------------------
(1) ١٤٤ م البقرة.
(2) ٢ ك الإسراء.
(3) ١.٥ ك الأنبياء.
(4) ٤٣ م المائدة.
(5) ٤٧ م المائدة .
(6) ١٩ ك الأعلى.
(7) ٤٨ م المائدة.


قال تعالى:(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله)(1).
وقال تعالى:(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالاً بعيداً)(2).
وقال تعالى: ( ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين)(3)
وباختصار أقول إن ذكر الملائكة في القرآن الكريم ورد في أكثر من سبعين موضعاً، منها ما اقتصر على ذكر الملائكة ومنها ما طلب منا الإيمان بهم، ومنها ما ذكر بعض الأعمال التي يقومون بها (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(4) (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)(5) (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)(6).
من مجموع الآيات التي ذكرت الملائكة واستقرائها نجد أن نصفها تقريبا ذكر في السور المكية، والنصف الآخر ذكر في السور المدنية، باعتبار أن العقيدة هي أساس صلاح الفرد، كما أنها هي أساس صلاح المجتمع، وهي الأساس الذي تقوم عليه الدولة، وبما أن الملائكة ركن أساسي من أركان العقيدة، ودليله نقلي، لأن وجودهم لا يدرك بالحس، لذا فقد تكررت الآيات في هذا الشأن حسب مقتضى الأمر، دالة على أهمية هذا الركن من أركان العقيدة، فهم حلقة الوصل ورسل الله إلى أنبيائه ورسله، كما شاءت قدرته، لا إله إلا هو.
(شهد الله أنه لا إله إلاَ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)(7).
--------------------------
(1) 285 م البقرة.
(2) ١٣٦ م النساء.
(3) ١٧٧ م البقرة.
(4) ٦ م التحريم.
(5) ١٨ ك ق.
(6) ٢٨ ك النحل.
(7) ١٨ م آل عمران.


الإيمان بالرسل:
أما ما يختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بها، فهي تختلف عن الإيمان بالرسل الآخرين من حيث أن الدليل على نبوة محمد ورسالته دليل عقلي، فالإيمان بأن القرآن الكريم كلام الله ورسالته وأن الذي يأتي برسالة الله لا بد وأن يكون رسولاً وأن محمدا صلى الله عليه وسلم، هو الذي جاء بالقرآن الكريم ،كلام الله ورسالته، إذن هو رسول. فهذا دليل عقلي يقيني، ومع كون دليل نبوته صلى الله عليه وسلم عقلي إلا أن القرآن الكريم قد ذكر ذلك في مواضع كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.
قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)(1).
قال تعالى: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل)(2)
قال تعالى: (يَس. والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم)(3)
قال تعالى: (طَه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى)(4)
قال تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)(5).
قال تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم)(6)
قال تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)(7).

أما موضوع الإيمان بالرسل الآخرين، فقد ورد كركن من أركان العقيدة كذلك، والتي هي كما عرفت الإيمان( بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)(8)، إلا أن الإيمان بالرسل السابقين دليله نقلي لأنه لا يقع تحت الحس، ولذا فقد ذكره القرآن الكريم مئات المرات وقد فصل لنا بعض قصصهم، وذكر لنا بعض ما لاقى الأنبياء من أقوامهم من صلف وعنت(منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك)(9) (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)(10)
(كلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق، وموعظة وذكرى للمؤمنين) (11) .
---------------------
(1) ٢٩ م الفتح.
(2) ١٤٤ م آل عمران.
(3) ١ ك يس.
(4) ١ ك طه.
(5) ٦ ك النمل.
(6) ٥١ ك العنكبوت.
(7) ٤٨ ك العنكبوت.
(8) ١٣٦ م النساء.
(9) ٧٨ ك غافر.
(10) ٣ م يوسف.
(11) ١٢٠ ك هود.

وقد قص علينا القرآن أو ذكر لنا عن أربعة وعشرين نبيا بالإضافة إلى المصطفى سلام الله عليهم أجمعين. كما ذكر لنا أنه ما من أمة إلا وأرسل إليها رسولا (وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير)(1) (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)(2)، وهكذا فقد تتابعت الرسل تترى للأمم جميعا لحاجة الناس إلى الرسل. وحاجة الناس إلى الرسل حقيقة ملموس وجودها، مدركة بالعقل، لعجز الإنسان عن تدبير شؤون نفسه، وتنظيم علاقته بخالقه، والتفاوت في القدرات والتناقض في القواعد والأصول بين بني البشر يحتم أن يكون تنظيم حياتهم، وتنسيق حاجاتهم آت من عند غيرهم أي من الله تعالى.

خصوصا وقد غر الناس في هذا العصر الغرور، وظنوا أنهم بتقدمهم العلمي، ومعرفتهم لبعض شؤون الحياة قادرون على تنظيم حياتهم، وتدبير عيشهم، فأوكلوا أمر ذلك إلى عقولهم، وآمنوا بالديمقراطية أي آمنوا بجعل عقل الإنسان مشرعا أي إلَها.
أفلا يسحق الرد على هذا الغرور دراسة عميقة، وبحثا مستفيضاً يبين سخافة ما ذهب إليه هؤلاء المغرورون. ألا يجب على الفئات والأحزاب والجماعات الداعية إلى الله أن ترد هذه الفرية، وتبعد هذه الفتنة، وعندنا-ولله الفضل والمنة-آلاف الأدلة العقلية والنقلية لدحض ما ذهبوا إليه وبيان زيف ما يدعون.

(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)(3) وحين سأل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، (كيف اتخذ اليهود أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، قال كانوا يشرعون لهم"(4) أو كما قال.

وهناك نكتة لطيفة في قصص الرسل السابقين، فهي بالإضافة إلى أنها تطمين لرسول الله وتثبيت لفؤاده، وأن ما يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله، فمن قراءة ما كانت الأمم ترد على رسلها، نجد أن الداعية الآن يسمع مثل هذه الردود اليوم من خصوم الإسلام والمضبوعين بأفكار الكفر من رأسمالية كافرة أو شيوعية ملحدة. فمثلاً، هؤلاء قوم نوح يقولون له(وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل)(5) هي نفس الكلمات التي نسمعها الآن.

-----------------------
(1) ٢٤ ك فاطر.
(2) ١٥ ك الإسراء.
(3) ٥٠ ك القصص.
(4) رواه الإمام أحمد و الترمذي و ابن جرير و ذكره ابن كثير في تفسيره.
(5) ٢٣ ك المؤمنون.

الإيمان بيوم القيامة:

أما الإيمان بيوم القيامة، يوم البعث، فقد فاقت أدلته الحصر، وورد في مئات الآيات لبعد هذا الموضوع عن تصورهم المادي، والتصاقهم بالأرض، وقولهم: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين)(1) وكان مما يحير عقولهم، ويذهل أذهانهم، كيف يبعثون من بعد الموت، وكيف تحيى العظام وهي رميم، فكان الرد عليهم بأساليب مختلفة، وبآيات متعددة ولفتات عقلية رائعة، ومحاولات تقريب تدفع عقولهم للتفكير، وتقبل هذه الفكرة والإيمان بها، ما دام أن المخبر عنها، هو خالقهم ابتداءً، وفاطر الوجود بكامله دون محاكاة أو تقليد، فمن يسأل عن عودة الخلق والبعث من بعد الموت ويعجب من ذلك، لِمَ لمْ يعجب عن بدء التكوين، والإعادة أسهل من الإنشاء. ولذا نجد القرآن الكريم يناقش هذه المسألة بشيء من الاستفاضة والإثارة مثيراً المشاعر مرة، ومعملاً العقل مرات.
(أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)(2) إلى آخر السورة. كيف يطلب من هذا المتسائل أن يفكر في سؤاله، لم نسي نفسه كيف وجد، وجاء يسأل كيف سيعاد.
ومن المناقشة المستفيضة في هذا الأمر وأروع ما جاء فيها في سورة قَ.
(بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد)(3) وبعد أن يناقشهم في هذا الأمر مناقشة عقلية، ويلفت نظرهم إلى ما خلق الله ابتداءً، كالسموات والأرض ونزول المطر، وإنبات الزرع والشجر، وكيف يحيي الأرض بعد موتها مما يشاهد دائما حولهم بعد هذا تقول: (كذلك الخروج)(4) ثم يصفهم كغيرهم من الكفرة الذين عميت بصائرهم، ثم يتساءل(أافعيينا بالخلق الأول، بل هم في لبس من خلق جديد)(5).
وضرب لهم بذلك الأمثال الكثيرة حول هذه المسألة،ومن ذلك ما جاء في سورة الكهف.
(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً)(6).

آيات كثيرة بمواضيع مختلفة وأمثال متنوعة طرقت هذا الموضوع وأفاضت فيه لبعده عن تصور الإنسان، فكان لا بد من تركيزه في النفس، وجلاء كل غموض حوله، فذكرت اليوم الآخر وكيف ينتهي كل شي حين ينفخ في الصور، وكيف يتم البعث حين ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، كيف ينتهي كل شيء حين (تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد)(7)، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)(8).
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ... ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا... وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور)(9).
هذا التشبيه الرائع بعودة الحياة كما نشاهد عودة الحياة للأرض الميتة بنزول الماء، وقد تكرر هذا الوصف مرات ومرات.
هذه صورة مصغرة وبعض الأدلة التي ذكرها القرآن الكريم في أركان العقيدة الخمسة وما لها من فروع وما يبنى عليها من أفكار لا مجال لذكره الآن، فما علينا إلا أن نتدبر القرآن الكريم(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكِر)(10) لنجد كم من السور والآيات وخصوصا المكية منها عالجت هذه المواضيع، مواضيع العقيدة، إجمالاً وتفصيلاً بحيث تتركز في النفوس وتصبح قاعدة للتفكير، ومنطلقاً للعمل ومصدراً للمفاهيم المسيرة لسلوك الإنسان فرداً ومجتمعاً.

هذا هو الموضوع الأول والأساسي الذي تناوله القرآن الكريم، وهو الموضوع الأساسي لكل دعوة، فالحزب أو الجماعة التي لم تجعل هذا الأمر أساسياً في دعوتها، فلم توضح عقيدتها، ولم تقم الأدلة العقلية أو النقلية لأتباعها وللناس على صحة ما ذهبت إليه من اعتقاد، من إثبات لوجود الله وما تقتضيه صفات الالوهية، أو إثبات للقرآن الكريم بأنه كلام الله، أو إثبات لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن أية جماعة لا تقوم بهذا الموضوع تعتبر مخالفة لنهج القرآن الكريم في الدعوة، ولسيرة سيد المرسلين ولا يحق لها أن تدعي أنها تسير على سنة رسول الله. وعليها أن تتدارك أمرها قبل فوات الأوان (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)(11)عليها أن تحاسب نفسها قبل أن تحاسب، عليها أن تتقي الله في نفسها ومن معها وفي الناس.

-------------------------------
(1) ٣٧ ك المؤمنون.
(2) ٧٧ ك يس.
(3) ٣ ك ق.
(4) ١١ ك ق.
(5) ١٥ ك ق.
(6) ٤٥ ك الكهف.
(7) ٢ م الحج.
(8) ٣٤ ك عبس.
(9) ٥ م الحج.
(10) ٢٢ ك القمر.
(11) ١١١ ك النحل.

_____________________________


هذا هو نهج القرآن الكريم في الدعوة مما يختص بالعقيدة أو الصراع الفكري

من المعروف بداهة أنه لا يمكن إعطاء الإنسان فكرة جديدة ، وفي ذهنه ما يناقضها أو يخالفها فلا بد أولاً من إزالة الموجود لتثبيت الجديد(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(1) ولهذا لم يكتف القرآن بشرح عقيدة الإسلام وفكرته، ولا بتبيان أحكامه وشريعته بل عمد إلى ما في نفوس القوم من عقائد وأفكار فاسدة، فبين زيفها وأثبت بطلانها.
حين جاء الإسلام كان المجتمع في جهل مطبق، وضلال عميق، ولما كان من البديهي أن لا تجتمع عقيدتان متناقضتان في قلب إنسان، لذا كان لا بد من دحض العقائد الفاسدة، والأفكار الخاطئة،(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)(2) فقرع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وجاءت الآيات تترى تسفه أحلام القوم وتهاجم معتقداتهم، وتبين زيفها، وتثبت بطلانها، أسساً وفروعاً، ولم تكتف بالرد جملة على من لم يؤمن، ولم تستعمل العموميات فقط، أو الأفكار الكلية الشاملة فحسب، بل عمدت إلى الجزئيات كذلك، وناقشت كل فئة بما تقول، أعني أنها لم تهاجم الكفر من حيث هو كفر فقط، بل هاجمت كل أنواع الكفر، نعم الكفر ملة واحدة، وحين تطلق كلمة كفر وكفار وكافرون إنما تعني جميع من لم يؤمن بنبوة محمد ورسالته.

-------------------------
(1) ١١ م الرعد.
(2) ١٨ ك الأنبياء.

وليس فقط من لم يؤمن بالله كالملحدين، أو من يؤمن بالله ولكنه يرى أنه لا دخل له في الحياة، أو من لم يؤمن بالبعث، فكلهم في نظر الإسلام كفار، فكل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كافر. نعم إن الآيات تتابعت في مهاجمة الكفر والكفار، فكم من آية لعنت الذين كفروا(ألا لعنة الله على الظالمين)(1) وكم من آية سفهت أحلامهم، وسبت آلهتهم بأسلوب العموم، ولكنها حين إقامة الحجة على مسألة ما كانت تتناول ما تقوله هذه الفئة الكافرة أو تلك، فترد على ما يقولون، ولو في فكرة واحدة لفئة واحدة، لذا نجدها ترد على فئات العرب ومعتقداتهم كل على حدة، أو تجملهم فتصفهم بأنهم مشركون تمييزاً عن كفار أهل الكتاب، فقد ردت على ملاحدة العرب الذين يقولون(إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحياو مانحن بمبعوثين)(2) (وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا وما يهلكنا إلا الدهر)(3)أو المقرين المؤمنين بوجود إلَه (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)(4) أو الذين لم يؤمنوا حسداً من عند أنفسهم، أو الذين يقولون(لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)(5) أي مكة أو الطائف، أو الذين يقولون (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)(6)

----------------
(1) ١٨ ك هود.
(2) ٣٧ ك المؤمنون.
(3) ٢٤ الجاثية.
(4) ٢٥ ك لقمان.
(5) ٣١ الزخرف.
(6) ٣ ك الزمر.

كما أنها هاجمت آلهتهم وبينت الجوانب السلبية فيها، وأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع عن نفسها شراً، لعل هذه الآيات تحرك أحاسيسهم ومشاعرهم فيعملون عقولهم، ويفكرون فيما يقال لهم لعلهم يصلون بتفكيرهم إلى إدراك الحق، ومعرفة الحقيقة وأكثر من ذلك فقد ذكرت أسماء آلهتهم، التي سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)(1) كما ذكرت أسماء آلهة الأقدمين من قوم نوح وقولهم:( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)(2) والأدلة على ذلك كثيرة نعرض لبعضها ولا مجال لذكرها جميعها.
قال تعالى في سورة النجم: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الانثى، تلك إذاً قسمة ضيزى، إن هي إلّا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن يتبعون إلاّ الظن، وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربّهم الهدى)(3).
وفي قوله تعالى في سورة الطور: (فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا إني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين)(4) وهكذا تستمر المناقشة بصيغة الأسئلة الاستنكارية إلى أن يقول: (أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون)(5).

-------------------
(1) ١٩ ك النجم.
(2) ٢٣ ك نوح.
(3) ١٩ ك النجم.
(4) ٢٩ ك الطور.
(5) ٤٢ ك الطور.


وما جاء في سورة الملك: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)(1).
(أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير)(2).
إلى آخر السورة حيث يقول: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين)(3).
وفي قوله تعالى في سورة القلم: (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم-إلى أن يقول-سنسمه على الخرطوم)(4).
وفي سورة المزمل :( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً، وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا، إن لدينا أنكالاً وجحيما، وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليما)(5).
وفي سورة المدّثر حيث يتوعد زعيم مكة وسيد بني مخزوم الوليد بن المغيرة (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدودا) (6) إلى أن يقول : (سأصليه سقر وما أدراك ما سقر)(7) وما ألطف ما انتهى به في السورة نفسها (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة)(8).

------------------------
(1) ١٦ ك الملك.
(2) ١٧ ك الملك.
(3) ٣٠ ك الملك.
(4) ١٠ ك القلم.
(5) ١٠ ك المزمل.
(6) ٩ ك المدثر.
(7) ٢٦ ك المدثر.
(8) ٤٩ ك المدثر.

ونستطيع القول أن ما من سورة من السور المكية إلا وللعرب فيها النصيب الأوفر من التحدي أو التهديد أو الوعيد أو لفت النظر أو التقريع كما في سورة المرسلات بعد مناقشة طويلة وتقريع عنيف حيث يقول:(ويل يومئذ للمكذبين،كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون، ويل يومئذ للمكذبين، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون)(1).
كما قال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم)(2)
وقال: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)(3)
وقال في سورة الأنعام: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين، وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون، ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون)(4).
وقال: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)(5).

----------------------
(1) ٤٦ ك المرسلات.
(2) ١ ك قريش.
(3) ١ ك الفيل.
(4) ٧ ك الأنعام.
(5) ١٠٣ ك النحل.


وقال: (وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل)(1)
قال تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون)(2).
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون، أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فقد جاءكم بيّنة من ربّكم وهدى ورحمة، فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها، سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون)(3).
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين، ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها، قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)(4).

--------------------
(1) ٦٦ ك الأنعام.
(2) ١٤٨ ك الأنعام.
(3) ١٥٥ ك الأنعام.
(4) ١٩٤ ك الأعراف.

(وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحي إلي)(1).
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم، ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون)(2).
وقال في سورة الأنعام:( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا)(3).
وقال : (وما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً، وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)(4).

وهكذا كانت المناقشة الفكرية والصراع الحاد الذي أفقد قريشا صوابها وألجأها إلى استعمال الأساليب المادية والاعتداءات الوحشية على حملة الدعوة حين عجزت عن المجابهة الفكرية، وهزمت في الصراع الفكري، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه لم يخرجوا عما رسمه لهم الباري عز وجل من أسلوب وما أمرهم بالتحلي به من صفات، فقد كان أسلوبهم( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(5).

-----------------------
(1) ١٥ ك يونس.
(2) ١٦ ك يونس.
(3) ٧١ ك الأنعام.
(4) ٩١ م الأنعام.
(5) ١٢٥ ك النحل.


الرد على اليهود

وإنه وإن لم يكن في مكة يهود أو نصارى، إلا أن احتكاك المشركين بأهل الكتاب ومجاورتهم في المدينة أو خيبر أو نجران جعلهم على صلة بهم ومعرفة تامة بمعتقداتهم ومذاهبهم. وقد تنصر أو تهود بعض العرب بالرغم من أن اليهودية ليست دعوة عالمية بل دعوة قومية جاء بها سيدنا موسى ومن بعده من الأنبياء لبني إسرائيل فقط، حتى أن سيدنا عيسى جاء لبني إسرائيل فقط، وحين التقاه الكنعاني في أرض فلسطين وطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، أجابه عيسى عليه السلام "إنني لم أبعث إليكم وإنما بعثت لكلاب بني إسرائيل الضالة" إلا أن أتباعه بعد رفعه إلى السماء هربوا من اليهود، وأخذوا يدعون الناس إلى ما تعلموه، فآمن بعض الناس وبذلك خرجت النصرانية عن كونها دعوة قومية عصبية لتشمل جميع الناس.

هذا هو الواقع حين مجيء الإسلام فقد كان اليهود موجودين في المدينة وفي خيبر، وكانوا يأملون أن يكون النبي من بينهم، وكانوا يفاتحون أهل المدينة بذلك، وكان العرب جميعا يحترمونهم لما يعرفون عنهم أنهم أصحاب كتاب وأهل علم. ولهذا فقد ذهب رجال من قريش إلى يهود يسألونهم عن هذا الدين الجديد، فلا هو دين اليهودية، ولا هو دين النصرانية، وكانت يهود تزودهم ببعض المعارف ليسألوا عنها، امتحاناً منهم لهذا النبي، ليتأكدوا مما هو موجود عندهم، (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(1) هذا من جهة،ومن جهة أخرى فإن الاسلام لم يكن ديناً قومياً محدوداً بل كان للناس كافة (وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً)(2)

---------------
(1) ٢٠ م الأنعام.
(2) ٢٨ ك سبأ.


لذا فقد كان اليهود والنصارى ضمن مجال الدعوة وأفكارهم وآراؤهم ومعتقداتهم كانت من جملة ما سيتصدى الإسلام له (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)(1) وبدأ الصراع الفكري معهم، وبدأوا هم كذلك الدسائس والتضليل، حتى بلغ بهم الحال أن يؤمنوا أول النهار حتى يوهموا العرب أنهم طلاب حق وها هم آمنوا لما عرفوا من الحق، موقف نزاهة، ثم يكفرون آخر النهار بحجة أنهم اطلعوا على أشياء تثبت كذب النبي، وذلك لدفع العرب للابتعاد عنه، ولتشككهم بما يقول. ولهذا فالقرآن بأسلوبه الرائع كان يصارع هؤلاء الناس صراعا فكريا حاداً، مجملاً مرة(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء)(2) فكان الخطاب بـ يأ أهل الكتاب أوقوله مجملا ً كذلك (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة)(3)

وحين تناقش مسألة معينة تخاطب اليهود بشكل خاص بالقول يا بني إسرائيل، أو تخاطب الذين قالوا إنا نصارى حسب مقتضى الحال ولهذا نقول أن آيات القرآن الكريم أفردت لكل خصم من خصوم الدعوة ما يناسبه من ردود، وما يكفي لإقامة الحجة عليه، ودحض ما عنده من أباطيل، وما أحدث في دينه من تبديل، وما تخرص به من أقاويل جملة وتفصيلاً.فقد وردت قصة موسى على سبيل المثال في أكثر من عشرين سورة، وورد قوله تعالى يا بني إسرائيل أربعاً وأربعين مرة. تذكرهم مرة بما أنعم الله عليهم، وكيف فضلهم على العالمين، أو تبين لهم أن هذا النبي مذكور عندهم في التوراة، أو تبين لهم ما أحدثوا في دينهم من تغيير وتبديل، وقتلهم للانبياء بغير حق، أو تذكرهم كيف ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة، وكيف جعل منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، وقد ذكرت في مواضع مختلفة قصتهم منذ أبيهم يعقوب إلى الوقت الذي كان يخاطبهم فيه، ذكرت قصة موسى عليه السلام منذ وضعته أمه، إلى الإيحاء إليها بوضعه في التابوت وقذفه في اليم ثم التقاط آل فرعون له ليكون لهم عدواً أو حزناً، وكيف ربي وترعرع في حجر فرعون، حتى قتل القبطي وخرج خائفاً يترقب إلى مدين، وعيشه عند شعيب عليه السلام وقصة زواجه من ابنته، وعمله عند شعيب عشر سنين وعودته إلى مصر، ومشاهدته النار من الشجرة وخطاب رب العالمين له، وإرساله إلى فرعون، وطلبه من ربه أن يشرك معه أخاه هارون، وجداله مع فرعون، إلى غير ذلك من الجزئيات الدقيقة المكتوبة عندهم في التوراة مما لا يعرفه العرب ولا يعرفه إلا من اطلع على كتبهم بشكل دقيق، مما يقيم الحجة القطعية عليهم وعلى الناس أن من يأتي بمثل هذه المعلومات ولم يسبق له أن اطلع عليها بل إنه لم يكن ليعلم الكتاب أو يخطه بيمينه، لا بد وأن يكون قد تلقاها من لدن عليم خبير، بل وأكثر من ذلك فقد كانت تذكر بعض ما يحوكون من مؤامرات، وما يجري بينهم من مناقشات، فهي التي كشفت مؤامرتهم حين قالوا: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)(4) وهي التي بينت تفاهة مناقشة جرت بين اليهود والنصارى فكلهم يدعي أن إبراهيم عليه السلام كان منهم فاليهود يدعون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يدعون أن إبراهيم كان نصرانياً، فردت عليهم الآيات(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً)(5)، وقالت ما وتنزلت التوراة إلا من بعده، وما تنزل الإنجيل إلا من بعد إبراهيم فكيف يكون السابق تابعاً للاحق، حتى أصبحوا مهزلة، ومع ذلك بقوا على إصرارهم وعنادهم. واستمر القرآن الكريم بأسلوبه الرائع يرد عليهم ويجادلهم في كل شيء.

-------------------------
(1) ٤٦ ك العنكبوت.
(2) ٦٤ م آل عمران.
(3) ١ م البينة.
(4) ٧٢ م آل عمران.
(5) ٦٧ م آل عمران.

ومما نزل في هذا الشأن.
في سورة طه: (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى)(1). آيات متعددة، ويقول كذلك: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم)(2) ويقول كذلك: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)(3).

وحين كان العرب يذهبون إليهم يسألونهم عن هذا الدين كانوا يحملونهم بعض الأسئلة، فقد قالوا لهم سلوه عن نفر آمنوا وتركوا قومهم،وسلوه عن رجل مكّن الله له في الأرض وأعطاه من كل شيء سبباً وسلوه عن الروح، فإن أجابكم عن هذه الأسئلة الثلاثة فهو كاذب، ولما سئل محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكان من البديهي أن ينتظر الوحي، ويأتي قوله: (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) (4) ويجيب عن قصة النفر الذين تركوا قومهم في سورة الكهف (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)(5) (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)(6) ويجيبهم عن ذي القرنين (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً، إنا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً، فاتبع سببا)(7).

---------------------
(1) ١٩ ك طه.
(2) ٧٨ م المائدة.
(3) ٨٢ م المائدة.
(4) ٨٥ ك الإسراء.
(5) ٩ ك الكهف.
(6) ١٣ ك الكهف.
(7) ٨٣ م الكهف.


ويقص عليهم قصة أصحاب الكهف بشيء من التفصيل ويشير إلى عددهم ومدة مكوثهم كما قص عليهم قصة ذي القرنين وبلوغه مطلع الشمس ومغربها، وبلوغه بين السدين وما فعل لأولئك الناس، كل ذلك مما كان العرب يجهلونه أو عندهم القليل القليل عنه، ثم حين يهاجمهم ويبين مدى تفاهتهم يقول( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم)(1) وفي سورة الأعراف يذكر اليهود بقصتهم حين كانوا مستضعفين لفرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وكيف نجاهم من آل فرعون وأغرق عدوهم، وهاهم قبل أن تجف أقدامهم من الماء، يتخذون عجلاً جسداً له خوار فيعبدونه، ويقولون هذا إلهكم وإله موسى. (واتخذ قوم موسى من بعده من حليِّهم عجلاً جسداً له خوار)(2) ويستمر في سرد قصتهم بل قصصهم وتبيان نفسياتهم المريضة إذ قالوا: (فادعُ لنا ربَّك يخرج لنا مما تنبت الأرض)(3)... (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)(4) إلى أن يبين لنا كيف استغفر لهم سيدنا موسى بقوله: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك، قال عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل)(5)

------------------------
(1) ٥ م الجمعة.
(2) ١٤٨ ك الأعراف.
(3) ٦١ م البقرة.
(4) ٦١ م البقرة.
(5) ١٥٦ ك الأعراف.


(إنَّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)(1) أو ذلك الحوار الرائع الذي جرى بين موسى عليه السلام وفرعون وتدخل رجل من آل فرعون مؤمن يكتم إيمانه في سورة المؤمن .
(قال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربّه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله..)(2) الآيات إلى نهاية الحوار الذي جرى بينهم، بين مؤمن آل فرعون وبين فرعون مما يظهر طبيعة الطغاة والجبابرة ومكابرتهم مع ظهور الحق وإقامة الحجة عليهم، وهنا التفاتة لطيفة، إن هذا الطاغية وما وصفه به الله سبحانه وتعالى (اذهب إلى فرعون إنه طغى) (3) (إن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين)(4). وهو القائل: (ما علمت من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين) (5) هذا الطاغية الجبار المفسد، يقبل التحدي من موسى ويقارع الحجة بالحجة، ومن حوله من بطانته كانوا بنفس الثقة بأنفسهم، ولذلك حين سألهم فرعون ما يفعل بموسى( قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم)(6) فقال موسى: (فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) (7).

سبحان الله هذا الطاغية الجبار بل من تنسب له الجبابرة والظلمة، هذا الإنسان يقبل التحدي، وأما حكام اليوم ومن يدعون أنهم في عصر المدنية والتقدم لا يقبلون المناقشة، ويرفضون مقارعة الحجة بالحجة وردهم على من يتحداهم فقط هو الاتهام بالخيانة ثم السجن وقد يكون الاعدام. فأيهما أشد ظلماً وطغياناً فسياسة القوم اليوم تقوم على كم الأفواه وقطع الأرزاق والأعناق، ولا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة.

---------------------------
(1) ٧٦ ك النمل.
(2) ٢٦ ك غافر.
(3) ٢٤ ك طه.
(4) ٨٣ ك يونس.
(5) ٣٨ ك القصص.
(6) ٣٦ ك اشعراء.
(7) ٥٨ ك طه.


الرد على النصارى:

ما دامت النصرانية موجودة في ذلك المجتمع ولو بشكل محدود، أو هي امتداد لليهودية لذا كان لا بد من الرد عليها، خصوصاً وأن بعض العرب قد اعتنقوها أو تأثروا بها كورقة بن نوفل، والقس بن ساعدة الأيادي، وقد ردت عليهم جملة وبيّنت أنهم كفار إن لم يؤمنوا بنبوة محمد، كما بيّنت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الإنجيل باسم أحمد مرة وباسم محمد أخرى، فقد ورد باسم أحمد على لسان عيسى عليه السلام بقوله : (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)(1) وأما باسم محمد ففي قوله تعالى : (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآرزه فاستغلظ فاستوى على سوقه) (2) كما هاجمهم باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وما زال من يسمى البابا يحتل مركز الربوبية عندهم "فحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، قال صاروا يشرعون لهم، وهم يسيرون حسب هذا التشريع"(3) أو كما قال.

---------------------

(1) ٦ م الصف.
(2) ٢٩ م الفتح.
(3) رواه الإمام أحمد و الترمذي وابن جرير و ذكره ابن كثير في تفسره.


كذلك رد على ما أحدثوه في دينهم، وما بدلوا في إنجيلهم، كما أفرد مناقشة لكل فئة منهم بآيات ترد عليهم، فقد هاجم من يقول إن المسيح ابن الله، وهاجم من يقول إن المسيح هو الله، حيث حل اللاهوت بالناسوت، وهاجم من يقول إن الله ثالث ثلاثة، وهاجم من فرض الرهبنة على رجال الكنيسة (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)(1) وقد تحدث بشيء من التفصيل عن حياة السيدة مريم الصديقة وما قالت أمها، وكفالة عمها لها، وحملها لعيسى عليه السلام وولادته، وحوارها وابنها مع قومها، وقد ورد ذلك في سورتين بشكل أساسي وفي مواطن متعددة، بشكل نقاط أو أفكار، فقد وردت القصة في سورة آل عمران، قال تعالى: (إذ قالت إمرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت ربِّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم)(2) إلى أن يقول : (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم)(3) وقوله: (وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله) (4)(هنالك دعا زكريا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة)(5).

وكما ورد في قصة عيسى مما مما جاء في سورة مريم، من مجيء الوحي إليها وحملها لابنها ومولده ولجوئها إلى النخلة حتى قال عيسى عليه السلام( إنِّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً)(6). إلى أن تقول الآية الكريمة تلك الحقيقة(ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)(7).

-----------------------
(1) ٢٧ م الحديد.
(2) ٣٦ م آل عمران.
(3) ٤٤ م آل عمران.
(4) ٣٧ م آل عمران.
(5) ٣٨ م آل عمران.
(6) ٣٠ ك مريم.
(7) ٣٤ ك مريم.


(ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)(1)، وكيف أثارت ولادة مريم أحاسيس زكريا وغريزة النوع في نفسه فوقف يدعو الله أن يهبه الذرية الصالحة، متناسياً أن زوجته عاقر، وهو قد بلغه الكبر واشتعل الرأس شيباً، وجاءته البشرى وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشره بكلمة منه وسيداً وحصوراً ومن الصالحين ورسولاً إلى بني إسرائيل واسمه يحيى، فأصابه العجب وأخذ يناقش الملائكة كيف يمكن أن يتم ذلك وهو في هذه السن المتقدمة وزوجته عاقر، قالوا كذلك الله يخلق ما يشاء،( وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئا)(2) بمثل هذه الدقة من المناقشات أقام الإسلام الحجة على الناس كما حدث من مناقشة بين يدي النجاشي بين جعفر بن أبي طالب، وقساوسة النصارى، حين حاول عمرو بن العاص الإيقاع بالمسلمين عند النجاشي، وقال له إن هؤلاء لم يتبعوا دينك، ولم يبقوا على دين قومهم. وجرى الحوار بحرية تامة بين يديه، حتى قال القساوسة إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، وذلك حين سمعوا شيئا من سورة مريم وكانت قد نزلت، وكان جعفر يحفظها، وحين سئل جعفر ما تقولون في عيسى قال إنما نقول ما قال الله تعالى فيه، قالوا وماذا قال: قال إنه يقول: (رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)(3) فقال النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، وكان يبده عود خط به خطين مستقيمين وقال ليس بيننا وبينكم إلا مثل ما بين هذين الخطين، وأسلم النجاشي نتيجة لتلك المناقشات.

-------------------
(1) ٣٥ ك مريم.
(2) ٩ ك مريم.
(3) ١٧١ م النساء.


ورداً على بعض النصارى يذكر القرآن الكريم ما يدعونه، فيقول مخاطباً عيسى عليه السلام: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلَهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم)(1).
ويصف ربّ العالمين الواقع بقوله: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم، وآتيناه الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة،ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)(2).
وهكذا كان الإسلام يتصدى للعقائد الباطلة،والأفكار الفاسدة، والأهواء المضللة والانحرافات الخبيثة، يقارع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، من قاعدة واحدة ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)(3) وهذا ما يجب أن تكون عليه الأحزاب والجماعات التي تدعو إلى الإسلام،وتنتهج سيرة سيد المرسلين وإلاّ فإن ّ أية فئة لا تنتهج هذا السبيل ولم تتخذ نهج القرآن منهاجاً لها، ولم تقتف أثر رسول الله في دعوته، لا يجوز لها أن تدعي أنها تسير حسب منهج الإسلام أو سيرة رسول الله ، ولا أعني أن تتولى الرد الآن على مشركي العرب أو النصرانية أو اليهودية تلك أمم قد خلت،ولم تعد النصرانية واليهودية كعقائد وأفكار هي العقبة في وجه الدعوة، وإنما المقصود هو التصدي لعقائد الكفر، وأفكار الضلال التي تسود مجتمعنا الآن، فالقرآن حين قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنباء الأمم السابقة كان ذلك للعبرة والاطمئنان بأن ما يقال له هو ما قد قيل للرسل من قبله، أما هو فكان يتصدى لما في مجتمعه، كمشركي العرب، وأهل الكتاب، إذن فالمقصود الآن هو التصدي لما يشبه مشركي العرب، وهم الشيوعيون وعقائد الإلحاد، والتصدي لما يشبه اليهودية النصرانية مثل الرأسمالية والقومية والوطنية وأمثالها.
ذلك لأن عقيدة الشيوعية كعقيدة مشركي العرب الحاد كامل أو كفر مطبق، وأما أهل الكتاب فإن مثلهم الكثير، هؤلاء الداعون إلى الديمقراطية والتي تقر بوجود دين ولكنها تستبعد تدخله في الحياة، ومثلها الوطنية والقومية والإقليمية والحرية وغير ذلك من الأسماء والمسميات، فلا بد من الرد عليهم جميعا بأسلوبين، الأسلوب الأول كشف حقيقة هذه الدعوات، وتبيان أنها أفكار كفر، وعقائد ضلال لكي يدرك الناس حقيقتها ولإنقاذ المخدوعين بها، خصوصاً وأن الكثير من المضللين صوروا هذه الأفكار بأنها إسلامية أو هي لب الإسلام وجوهره، أو أنها لا تخالف الإسلام مما جعل الكثير من أبناء الأمة علماء ومثقفين ينادون بهذه الأفكار وينسبونها إلى الإسلام وأما الأسلوب الثاني فهو الرد المباشر على هذه العقائد والأفكار رداً يعيد الصواب لحملتها وينير أبصارهم وبصائرهم بأسلوب عقلي، وبراهين قطعية تماماً كأسلوب القرآن الكريم في رده على أمثال هؤلاء، والاستعانة بالنصوص الشرعية كلما اقتضى الأمر ذلك من آيات وأحاديث.

------------------------
(1) ١١٦ م المائدة.
(2) ٢٧ م الحديد.
(3) ١٨ ك الأنبياء.


وهذا يحتم على كل حزب أو جماعة تدعو إلى الإسلام أن تطلع على ما يدعو إليه هؤلاء وتعرف خفايا ما يدعون إليه، ومقاتل كل فكرة منها، وزيفها، وبطلانها حتى تستطيع القيام بالأسلوبين معا، كشف زيفها وخداعها، ثم هدمها وإزالتها سالكة فقط السبيل الفكري عملاً بقوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)(1) وتنفيذاً للقاعدة الأساسية في الصراع الفكري (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)(2) ولا يجوز الدخول معهم في صراع دموي، وأعمال مادية، تماماً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه هي طريقة رسول الله في صراعه الفكري العقائدي(وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(3) وأكرر أنه لا يجوز لمن خالف هذه الطريقة أن يدعي أنه على طريقة رسول الله، أو أنه اتخذ القرآن منهجاً وسبيلاً.

----------------------
(1) ١٢٥ ك النحل.
(2) ١٨ ك الأنبياء.
(3) ٦٣ م النور.

____________________________


الصراع الفكري والتصدي للعلاقات الفاسدة والعادات البالية

حين نقرر أن المجتمع هو جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة، وأن صلاح هذه الجماعة بصلاح هذه العلاقات، وفسادها بفساد هذه العلاقات، ووجود العلاقات بين الناس أمر حتمي، لأنها علاقات تنشأ طبيعياً بينهم،ويسيرون فيها حتماً لإشباع جوعاتهم، وتحقيق حاجاتهم، وسد رغباتهم،والذي يقرر صلاح هذه العلاقات وفسادها هو الكيفية التي يتم بها إشباع هذه الجوعات،وسد هذه الرغبات،ولكون هذه العلاقات هي الأساس في تكوين المجتمع، لذا كان لا بد أن يكون الصراع الفكري يدور حول إصلاح هذه العلاقات، وبيان المفاسد التي تحويها هذه العلاقات لجعل الناس ينفرون منها، ويغيرون طراز عيشهم ونمط حياتهم بكيفية صحيحة لإيجاد علاقات صالحة بدل تلك العلاقات الفاسدة.

تضافرت الآيات وتتابعت في بيان ما عليه المجتمع، وتبيان ما فيه من فساد، كالعادات الذميمة، والتقاليد السيئة، والعلاقات الفاسدة التي تنظم حياة الناس، اقتصادية كانت أو اجتماعية فلم تترك جانباً من حياتهم إلا بيّنت بعض مفاسده، وأظهرت جزءاً من عيوبه، بأسلوب عقلي رائع وكلمات مثيرة مؤثرة، تهتز لها المشاعر، وتتحرك تجاهها الأحاسيس، مثل قوله تعالى في جانب اقتصادي (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقول الناس لرب العالمين)(1).

----------------------------
(1) ١ م المطففين.


أو في الحياة الاجتماعية (وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت)(1) أو قوله تعالى: (وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب)(2).
أو في قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا)(3) وقوله( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وأياكم)(4) (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرقكم وإياهم)(5).
أو في الحياة العامة، فقد هاجم التفاضل والتفاخر بالأنساب والأموال والأولاد، فجعلها كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد، ويقرر حقيقة واحدة لما يجب أن يكون عليه الناس فيقول:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(6) .
ولننظر في سورة قصيرة واحدة كيف تناول حياة الناس بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم(أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)(7).في سورة قصيرة واحدة تناول العقيدة بقوله :( أرأيت الذي يكذب بالدين)(8) وجعل من مظاهر التكذيب بالدين أن المكذب من صفته أن يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين لأن همه الدنيا وجمع المال، ثم ينتقل لموضوع آخر في السورة نفسها يتناول فيها العبادة المبنية على التهاون والكسل(وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى)(9) ثم يبين من صفة هؤلاء الرياء والنفاق وهذا جانب أخلاقي، ثم يقول ويمنعون الماعون، فأي علاقة في المجتمع، أسوأ من أن يطلب الجار وعاءً من جاره فيمنعه.

-----------------------
(1) ٨ ك التكوير.
(2) ٥٨ ك النحل.
(3) ٣٣ م النور.
(4) ٣١ ك الإسراء.
(5) ١٥١ م الأنعام.
(6) ١٣ م الحجرات.
(7) سورة الماعون ج.
(8) ١ م الماعون.
(9) 142 م النساء.


ونجد هجوما عنيفاً في الآيات الشريفة على أمثال هذه العادات السيئة فيقول تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاءهم)(1) (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء)(2) وقال تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلامن نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها..)(3)(وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله)(4).
قال تعالى:" والذي قال لوالديه اف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين)(5).
وقال تعالى: (ويل لكل هزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة)(6).

-----------------------
(1) ١٣٧ ك الأنعام.
(2) ١٣٩ ك الأنعام.
(3) ١٣٨ ك الأنعام.
(4) ٣٩ ك الروم.
(5) ١٧ ك الأحقاف.
(6) ١ ك الهمزة.


وقال تعالى (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إذا تردى)(1)، وقال تعالى في سورة البلد (لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالاً لبدا أيحسب أن لم يره أحد)(2).. إلى أن يقول (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)(3).
ومن مثل هذه الآيات والسور الكثير، بحيث ألقيت بأضوائها على كافة نواحي المجتمع في حينه فأظهرت مفاسده وبيّنت عيوبه وكشفت عواره. وهذا ما يجب أن تكون عليه كل جماعة أو حزب فلا بد من تسليط الأضواء على ما في مجتمعنا من مفاسد، وما فيه من علاقات سيئة، ونظم رديئة، وأسوأ ما فيها أنها نظم كفر يراد تنفيذها في مجتمع مسلم، وعلاقات سيئة وعادات قبيحة حملها غرباء عن أمتنا وغرسوها فيها، ولذلك لابد من مهاجمة هذه العادات والتقاليد، ومن فضح هذه النظم، ومن بيان فساد هذه العلاقات، حتى يتسنى لهذه الحركة تغيير ما في المجتمع، بعد تغيير ما في نفوس الناس(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)(4).

----------------------------
(1) ٥ ك الليل.
(2) ٤ ك البلد.
(3) ١٢ ك البلد.
(4) ١١ م الرعد.

___________________________



التصدي للفهم السيء

قال تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)(1).
إنّه مع مطلع القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي جرت محاولات للتوفيق بين الإسلام والأفكار الغربية، ومحاولات تأويل النصوص بما لا تحتمله تلك النصوص من معانٍ وقد دفعهم لذلك إيمانهم بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه شريعة الله الخالدة، وأنه إنما جاء رحمة للعالمين، فلا بد أن يكون موافقاً للعصر، ومطابقاً للواقع، فلا بد من إعادة النظر في فهم النصوص، ومعرفة المعاني التي توافق عصر النهضة الأوروبية هذا بعد أن بهرت عيونهم أضواؤها، وسحرتهم اختراعاتها، وزعزع ثقتهم ما تسرب إلى نفوسهم من أفكارها ونظمها، نتيجة للغزو الفكري الذي اخترق عقولهم، وغلق باب الاجتهاد الذي أظهر عجز الإسلام وجموده، ووقوفه عن مجاراة الأحداث المتجددة، ولجهلهم بأسس النهضة وما يجب عليهم أن يفعلوا، عمدوا إلى أقصر السبل وأيسرها، فبدلاً من أن يعملوا على تغيير المجتمع وإعادة بنائه من جديد على أسس الإسلام ومفاهيمه، عمدوا إلى محاولة تأويل النصوص وتحميلها ما لا تحتمل حتى تتناسب والواقع السيء الذي يعانون منه، فأولوا النصوص بما لا تحتمله وأدخلوا في الإسلام ما ليس منه،ولو أنهم كانوا على علم بأسس النهضة وكيف تبنى الأمم، لجعلوا المبدأ هو القاعدة الفكرية الأساسية التي ينطلقون منها في عملية البناء والإصلاح واستهدفوا تغيير المجتمع برمته تغييراً انقلابياً شاملاً وأزالوا أسباب الانحطاط والتخلف، والتزموا أحكام الإسلام ومفاهيمه وأفكاره كما جاءت من عند الله.

-----------------------
(1) ٤٩ م المائدة.

وكان الأمر سهلاً ميسوراً، لأن عقيدة الأمة هي عقيدة المبدأ، والنظام المطبق هو النظام المنبثق عن هذه العقيدة، وإيمان الأمة بدينها إيمان راسخ لا يتزعزع ومتى ضمن القائمون على الإصلاح عقيدة عقلية سليمة راسخة، تحملها أمة عندها الاستعداد الكامل للتضحية في سبيل هذه العقيدة والمحافظة على هذا النظام، فالعملية الإصلاحية سهلة ميسورة يجري البحث فيها عن أسباب التخلف والانحطاط الكامنة في إساءة التطبيق لهذا النظام، والضعف الشديد الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام، ومعالجة ذلك، مما زعزع ثقة الأمة بنظامها، وجعلها تربة خصبة للتآمر على كيانها وهدم دولتها، إلا أن هؤلاء القادة والمفكرين فيها بدلاً من أن يعمدوا لإزالة هذه الأسباب عمدوا إلى تأويل معاني نصوص الإسلام وأحكامه، وأوغلوا في ذلك ولم يقفوا عند حد الاقتصار على بعض الأفكار والأحكام بل تعدّوه إلى وضع قواعد كلية وأحكام عامة بالإضافة إلى الجزئيات مما يتعارض صراحة مع نص القرآن القطعي كإجازتهم للربا القليل بحجة أنه غير مضاعف فالله سبحانه وتعالى يقول: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) (1)وتجاهلوا قوله تعالى في سورة البقرة : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)(2) ثم إنهم جعلوه من باب الضرورات والقاعدة الشرعية تقول"الضرورات تبيح المحظورات"، وعلى ذلك فالضرورة تقتضي رفع الحظر ومن الضرورة تجميد مال اليتيم والقاصر وإيداعه في الوقت الذي لا يجوز كنزه، ومن المحافظة عليه عدم تعرضه للخسارة، أو تلاعب المضارب به، مما يؤدي إلى الذهاب به، ولذلك أوجدوا ما يسمى بصندوق الأيتام، وصار القاضي الشرعي، ودار الفتوى الإسلامية هي المتعاملة بالربا والإقراض من صندوق الأيتام، والقاضي الشرعي يحكم به تماماً كما يحكم به القاضي النظامي في العمليات المصرفية والبنوك، ومن مثل هذه الأحكام الجزئية الكثير. إلا أن الأدهى من ذلك وأمّر هو وضع قواعد كلية تستنبط منها أو تندرج تحتها الأحكام الفرعية من مثل قاعدة العادة محكمة، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. وما لا يخالف الإسلام فهو من الإسلام. وحيثما تكون المصلحة فثم وجه الله. والأصل في العقود المقاصد والمعاني لا الألفاظ والمباني. وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ.
ومن هذه ومثلها الكثير، وكما فعلوا في الأحكام الشرعية والقواعد، فعلوا في الأفكار والمفاهيم فأفسدوا على الأمة صفاؤها، وسمّموا بتلك المفاسد أجواءَها وأبعدوها عن الإسلام تدريجياً حتى وجدت نفسها على غير هدى.

----------------------------
(1) ١٣٠ م آل عمران.
(2) ٢٧٩ م البقرة.

فقالوا مثلاً الدين لله والوطن للجميع، حتى لا يتهم الإسلام بالطائفية، فلا ضير من أن يحكم المسلمين رجل كافر، وقد غاب عنهم أو تجاهلوا قوله تعالى : (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)(1) ومن مثل قولهم الإسلام دين الديمقراطية والإسلام دين الحرية والإسلام أساس الاشتراكية والعدالة الاجتماعية إلى غير ذلك من الأفكار التي يجب على الداعية أن يتصدى لها وبكل قوة كما يجب على أية جماعة أو حزب يعمل لعودة الإسلام في الحياة أن تبين لشبابها أولاً وللناس عامة خطأ أو فساد أو بطلان هذه الأفكار، وابتعاد هذه الأحكام عن الإسلام، ومخالفتها له، متخذة قاعدة ثابتة في فهم إسلامها أن العقيدة الإسلامية عقيدة عقلية مبنية على العقل، كالإيمان بالله والإيمان بالقرآن الكريم أنه كلام الله والإيمان بأن محمداً رسول الله، وأن الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر وبالأنبياء السابقين وبالجنة والنار والحساب والجن والشياطين وجميع ما لا يقع تحت الحس ومما لا يمكن للعقل أن يبحثه ويعطي به حكماً، فإن الإيمان به مبني كذلك على العقل لأنه إنما ذكر في القرآن الكريم الذي آمنا به عن طريق العقل.

وبما أن القرآن الكريم هو كلام الله، وأن ما جاء في القرآن الكريم لا يحتمل الخطأ أو الكذب لأنه كلام الله، والله منزه عن ذلك ولهذا كان الإيمان بهذه المغيبات كذلك إيماناً عقلياً ومبنياً على العقل. هذا من حيث العقيدة وأما من حيث الأحكام الشرعية، المسيرة لشؤون الفرد والمجتمع والدولة فإن مصدرها واحد، هو الوحي، والوحي وحده، فلا مصدر للتشريع غير الوحي، ولا دخل للعقل فيه، إلا فهم ما جاء به الوحي.

فلا مجالس تشريعية، ولا مجال لوضع قوانين وضعية من وضع الإنسان وعقله، ولا تحكيم للعادة إذ إن العادة تكونت نتيجة لفكرة آمن بها فرد فحملها لغيره فآمن بها وهكذا ثم تحولت هذه الفكرة إلى مفاهيم سيرت سلوك من آمن بها، ثم تركزت وأخذت دور العراقة فأصبحت عادة ومن المحتمل أن تنسى الفكرة الأساسية التي انبثقت عنها، فمثلاً إن اكرام الضيف عادة حميدة عند الناس وهذه العادة إنما نشأت عند المسلمين عن فكرة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". وما أن آمن بها المسلمون حتى أضحت مفاهيم تسير سلوكهم تجاه ضيوفهم، ومع مرور الزمن أمست عادة تتحكم بتصرفاتهم يحمد فاعلها ويذم تاركا، مع أن غالبيتهم نسي الفكرة الأساسية التي نشأت عنها، ولذلك ينظر إلى مصدر هذه العادة ويعرف الأصل الذي نشأت عنه، فإن كان هذا المصدر أحد النصوص الشرعية، فتكون العودة والتحكيم للنص وليس للعادة، أما إذا كان مصدر هذه العادة ليس نصاً شرعياً، أي لم يأت به الوحي، فلا قيمة لهذه العادة ويجب العمل على إزالتها وإبعادها عن المجتمع، وليس الرجوع إليها وتحكيمها، وهكذا كما لا يجوز أن تكون المصالح مصدراً للتشريع ووضع مثل هذه القاعدة إنّما يجعل الإسلام وأحكامه مبنياً على النفعية وجلب المصالح.


وأما القول بتغير الأحكام بتغير الأزمان والقصد منه موافقة الإسلام لكل عصر، ليطابق القول بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإن سوء الفهم أدى لهذا وبدل أن يتغير الواقع ليطابق الشرع، صار عليهم أن يغيروا الشرع ليساير الواقع، وهذا ما يناسب الأفكار التي سمموا الأجواء بها-علينا أن نكون واقعيين-فالواقع عندهم مصدر التفكير، مع أن ما يجب أن يكون-أن الواقع هو موضع التفكير. فإما إقراره أو تغييره-ومن مثل ذلك الكثير الكثير، والذي يبعدنا عن هذا المنزلق هو الإدراك الكامل والإيمان اليقيني بأنه لا شرع إلا شرع الله، ولا شرع إلا ما جاء به الوحي، وأن ما جاء به الوحي هو القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فلا مصدر للشرع إلا هذا ولا استنباط للاحكام الشرعية إلا من هذه النصوص التي يحتويها كتاب الله وسنة نبيّه.

-----------------------
(1) ١٤١ م النساء.


* * *


الكفاح السياسي التصدي لقادة المجتمع

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولاسراة اذا جهالهم سادوا

فالبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد


قال تعالى:" ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربّنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً)(1).
من المعروف أن العامة من الناس يتبعون في حياتهم سادتهم وكبراءهم، حكامهم وأمراءهم، اتباع تقليد واعتزاز، أو اتباع رضى واختيار، أو اتباع إجبار وإكراه، وفي جميعها اتباع لانهم هم الذين يقومون على رعاية شؤونهم وإدارة مصالحهم، وتدبير أمورهم، وهم الموجهون لهم فكريا ومشاعريا، ولذلك نجد القرآن الكريم يعيب على العامة هذا الانقياد الأعمى فيقول بلسان حالهم في الآخرة ما جاء في الآية(ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا)(2) ويقول في موطن آخر: (إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا)(3) هذه طبيعة الحياة ونظام المجتمعات وسنّة الله في خلقه.

فالمجتمعات أناس بينهم علاقات دائمية، ويشرف على هذه العلاقات وينظمها أمراء القوم،وسادته، وهم الذين بيدهم القوة والسلطان،ومصدر هذه القوة هم الناس أنفسهم، باتباعهم لهم، وانقيادهم إليهم، وثقتهم بهم، أو بتعابير اليوم هي عقد اجتماعي بين العامة والخاصة للتنازل عن جزء من سلطتهم لتجعل جميعها بيد السلطان حتى يستطيع إدارة شؤون الناس ورعايتها وحمايتهم وحماية أمنهم، وهي ما يطلق عليه نظرية العقد الاجتماعي.

وما دام هؤلاء القادة، والزعماء هم ربان السفينة وموجهوها، والسائرون بها في بحر الظلمات ومتاهات الحياة لذا لا بد من التعامل مع هذا الصنف من الناس بأسلوب خاص، لزعزعة الثقة بهم، وجر البساط من تحت أرجلهم بإبعاد سندهم ومصدر قوتهم عنهم، حين يصرون على المكابرة والضلال.

----------------------------
(1) ٦٧ م الأحزاب.
(2) ٦٧ م الأحزاب.
(3) ١٦٦ م البقرة.


لذا فقد نبّه الإسلام الإنسان أنه بفرديته مسؤول، وأن كل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وأنه لا يجوز أن يقول إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، كما لا يجوز أن يقول إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وما أروع ما يفسر ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول:" ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا حيث دار ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان فالزموا الكتاب، ألا إنه سيولى عليكم أمراء ضالون مضلون، إن اتبعتموهم أضلوكم، وإن خالفتموهم قتلوكم، قالوا فماذا نفعل يا رسول الله؟ قال كما فعل أصحاب عيسى، شدوا على الخشب ونشروا بالمناشير، فوالذي نفس محمد بيده لميتة في سبيل الله خير من حياة في معصية"(1) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما يجب أن يكون عليه الإنسان لا أن يكون إمَّعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ومع ذلك، وما دام الناس مقودين إلى غيرهم من السادة والأمراء، فقد تعامل الإسلام مع هذا الواقع فعاب على الناس الإنقياد، وهاجم بقسوة لا مثيل لها رؤوس الكفر وأولياء الشيطان، فمنهم من هاجمه بالاسم كأبي لهب، وامرأته(تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد)(2) ومنهم من هاجمه بالصفة التي يتصف بها أو العمل الذي قام به، فمثلاً هاجم سيد بني مخزوم-الوليد بن المغيرة منّاع للخير معتدٍ أثيم-(فلا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم-إلى أن يقول-عتل بعد ذلك زنيم سنسمه على الخرطوم)(3) وقال فيه نفسه في سورة المدّثر (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً)(4) إلى أن يقول: (سأصليه سقر)(5) ويقرر الإسلام حقيقة ضلال القادة ومكرهم فيقول (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون، وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته)(6).
وقال: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)(7)

------------------
(1) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة.
(2) سورة المسد ك.
(3) ١٠ ك القلم.
(4) ١١ ك المدثر.
(5) ٢٦ ك المدثر.
(6) ١٢٣ ك الأنعام.
(7) ١٦ ك الإسراء.


(ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويْلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً)(1)
(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً، أولئك لهم عذاب مهين، وإذا تتلى عليه آياتنا ولي مستكبراً)(2)
(والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم)(3)
(أفرأيت الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى، أعنده علم الغيب فهو يرى، أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى)(4).
(فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة)(5).
ويقول في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى)(6) وحين نتتبع أسباب نزول هذه الآيات وبمن نزلت نجدها هجوماً صاعقاً على أئمة الكفر وأولياء الشيطان ومن بيدهم إدارة شؤون الناس ورعاية مصالحهم وتوجيههم الفكري والعقائدي.

------------------------------
(1) ٢٧ ك الفرقان.
(2) ٦ ك لقمان.
(3) ٥ ك سبأ.
(4) ٣٣ ك النجم.
(5) ٤٩ ك المدثر.
(6) ٣٢ ك القيامة.


الكفاح السياسي: كشف المؤامرات

من طريف ما حصل أن زعماء مكة وقادتها قد أزعجهم ما وصلت إليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه، وما تركوا وسيلة يقاومونه بها إلاّ استخدموها، وها هي أفكاره ودعوته تتسرب إلى خارج مكة، وهذا ما سيقضي حتماً على زعامة قريش للعرب، وزوال مركزها الديني في الجزيرة العربية، نعم قد أزعجهم ذلك، وهاهو موسم عكاظ قد اقترب وستفد العرب إلى عكاظ وفي الأشهر الحرم، وهذه فرصة رائعة لمحمد وصحبه للاتصال بالناس ودعوتهم ومناقشتهم وقريش ترى وتسمع، لذا فقد اجتمعوا في دار الندوة لتدارس الأمر،وكيف يبدعون في التصدي لهذه الدعوة ويبعدوا محمداً عن الناس أو يبعدوا الناس عن الاستماع لمحمد، فاجتمع أبو جهل وأبو سفيان وصفوان بن أمية، وأمية بن خلف وغيرهم. وشرحوا الأمر للوليد بن المغيرة وماذا يرى في ذلك، فقال الوليد وماذا تقولون فقال أحدهم نقول عن محمد إنه ساحر، وقال آخر نقول عنه كاهن وقال الثالث نقول عنه شاعر، وقال آخر نقول عنه كذاب، إنما يعلمه جبر النصراني، أو هي أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه، والوليد يرد على كل ادعاء أو دعاية ويفندها، حتى وقفوا جميعاً حائرين فهذا هو الوليد يبين بطلان ما يريدون قوله، فقالوا له إذن قل أنت يا أبا الوليد فقطب جبينه، وعقد ما بين حاجبيه ونظر ونظر وفكر وفكر ثم أخذ يقطع دار الندوة جيئة وذهاباً، إلى أن استقر رأيه على قول، فقال: نقول إن محمداً ساحر بيان يقول قولاً يفرق فيه بين المرء وأهله، بين المرء وزوجه، فحملوا ما توصلوا إليه دعاية يجابهون بها القبائل، وفكرة يحاربون بها محمداً صلى الله عليه وسلم، وما هالهم وأطار صوابهم حين سمعوا محمد صلى الله عليه وسلم يتلو تفاصيل تلك المؤامرة ويذكر ما جاء فيها وذلك وحياً من عند الله وكشفاً لمؤامراتهم.


(ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً..)(1) مروراً بقوله تعالى : (إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر..)(2) إلى أن يقول: (فقال إن هو إلا سحر يؤثر، إن هذا إلاّ قول البشر سأصليه سقر)(3)، ويمضي القرآن الكريم يفضح مكائدهم، ويحبط مؤامراتهم ، ويقرر حقيقة إذ يقول (إنّهم يكيدون كيداً، وأكيد كيدا، فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا)(4).
كما كشف تآمر اليهود حين كانوا يتظاهرون بالإيمان صباحاً ويقولون لقد تبين لنا أن كلام محمد صحيح وها نحن آمنا به، وفي المساء يعلنون كفرهم مدعين أنهم بعد الاطلاع على ما عند محمد بالتفصيل وجدنا أن فيه أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، ولذلك لا يجوز أن نستمر على اتباعه، كان ذلك مؤامرة خبيثة لجعل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الأميين يشكون في صدق رسول الله وحقاً إنها لمؤامرة ما زالت قائمة خبيثة، ويمارسها بعض أولياء الشيطان في مجتمعاتنا الحاضرة.
ومن الكفاح السياسي بالإضافة إلى التصدي للحكام وأئمة الكفر وأولياء الشيطان، هو معرفة ما يحاك ضد الأمة من مؤامرات وما يدبر لها من دسائس وما يكاد لها من مكائد، ثم معرفة ما يدور حولها من أحداث وما يحيق بها من أخطار.

لذا نجد القرآن الكريم لم يهمل ذلك، وفي قصة المراهنة بين قريش وأبي بكر خير مثال على تتبع ذلك في قصة الحرب بين الروم والفرس، قال تعالى: (آلم غلبت الروم في أدنا الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر..)(5).
فالفرس والروم هما الدولتان الأوليان في العالم، والصراع بينهما على مناطق النفوذ أمر حتمي، والحرب سجال بينهما وقد كان العرب قسمين، قسماً موالياً للروم وقسماً موالياً للفرس كالغساسنة والمناذرة، حتى أن نفوذ الفرس كان قد وصل إلى اليمن، وأما الروم فقد كانوا على تخوم الجزيرة مما يلي الأردن، ولهذا كان الاهتمام بأمر هاتين الدولتين أمراً حتمياً بالنسبة للمسلمين، وكانوا يتتبعون الأحداث والوقائع وذلك لما لها من أثر عليهم وعلى ما يهدفون له، وحين جرت مناقشة أبي بكر لقريش ومراهنتهم، كان أبو بكر ينطلق من وعيه السياسي على ما يحيط بهم، ومن تعليم رسول الله لهم. ولهذا فإن أية كتلة أو جماعة أن تشغل نفسها بالكفاح السياسي، والوعي على واقعها وما يحيط بها لأنه أمر ضروري ونهج انتهجه القرآن الكريم، وسار عليه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويتضح ذلك من نصيحة رسول الله أصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة، فقال لهم إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد .

-------------------------
(1) ١١ ك المدثر.
(2) ١٨ ك المدثر.
(3) ٢٦ ك المدثر.
(4) ١٦ ك الطارق.
(5) ١ ك الروم.

درس من الكفاح السياسي

من قصة الوليد بن المغيرة وقول الباري عز وجل فيه(سأصليه سقر)(1) ولم يستثن كما جاء في قصة الأخنس بن شريق إذ قال له (كلا لئن لم ينته لنسفعاً بالناصية)(2) قد علق سفعه بناصيته على استمراره وعدم انتهائه عن أعماله التي يقوم بها، بينما في قصة الوليد يؤكد أنه سيصليه سقر، وكذلك الحال في قصة أبي لهب، فهو يقرر حقيقة، ويؤكد أنه سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته كذلك، من هذه القصة يمكن الاستفادة، واستعمالها كدليل على أن القرآن الكريم كلام الله. ذلك بأن ما جاء في القصتين يترك مجالاً لأبي لهب وللوليد بن المغيرة، أن يعتنقا الإسلام نفاقاً ليثبتا بطلان ما يقوله محمد فهو يؤكد أن هؤلاء سيصلون سقر، سيصلون ناراً ذات لهب، فأي حرج سيجابهه محمد صلى الله عليه وسلم، إذا تظاهر هؤلاء بالإسلام، وأعلنوا للملأ أنهم مسلمون، فكيف يتلو محمد قرآنه الذي يؤكد أن هؤلاء سيصلون سقر، إنه إحراج أيما إحراج، ولكن كون هذا القرآن ليس حديثا يفترى بل هو من ربّ العالمين وهو يعلم أن هؤلاء لن يقدموا على مثل هذه الخطوة، ولذلك فقد بقيت تتلى الآيات الخاصة بهم وعلى مسامعهم، ويزدادون كفراً، وهذا مما يؤكد أن القرآن كلام الله، وهو معجزة رسول الله بإثبات نبوته.
وقد حدث ما يشبه هذه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:"قاتل الحمزة في النار" وقد أسلم قاتل الحمزة-وحشي-والتبس الأمر على كثير من المسلمين حتى مات وحشي منتحراً،ن وكذلك الحال في قصة قزمان، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قزمان من أهل النار"(3) ورآه المسلمون في أحد يقاتل معهم وفي صفوفهم، وقد قتل العديد من كفار قريش، حتى أثخنته الجراح، والتبس الأمر على بعض المسلمين وقد ظنوا أن قزمان سقط شهيداً إلاّ أنّه قبل وفاته حضره بعض الصحابة وقالوا له هنيئاً لك يا قزمان قال بم، قالوا الشهادة، قال والله ما قاتلت إلا حمية ثم اتكأ على حربته وقتل نفسه.

وكان يمكن أن يحدث مثل ذلك الالتباس لو فعلها الوليد بن المغيرة أو أبو لهب، ولكنهما لم يفعلا وكان الله عليماً حكيماً، هذا درس ثانوي يستفاد من الكفاح السياسي.

هذه بعض المواضيع الأساسية إن لم أقل إنها هي المواضيع الأساسية التي تناولها القرآن الكريم في نهجه وبيّنها في آياته وسوره، مفصلاً في كثير من الدقائق والجزئيات في هذه المواضيع كالتركيز على الاعتقاد باليوم الآخر،والبعث والنشور والحساب، وما في الجنة من نعيم، وما في جهنم من عذاب، قد يبكي المسلم من سماعها خوفاً وطمعاً،و وكالتركيز على النظر في آلاء الله وإدراك عظمته وقدرته، مخاطباً فيها قوى الإنسان العاقلة، ومثيرة أحاسيسه للتفكر فيما يقع عليه حسه من آيات محكمة تملأ العقل قناعة والقلب طمأنينة مما يثير في النفس الخشوع والتقديس للخالق المدبر، وتدفع المؤمن للتقرب إلى الله بكل ما يستطيع من أعمال مؤملاً الحصول على رضوان الله الذي هو غاية الغايات بالنسبة للمسلم، وهو السعادة الحقيقية لمن يعرف طعم السعادة والطمأنينة الدائمة.

-------------------
(1) ٢٦ ك المدثر.
(2) ١٥ ك العلق.
(3) سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٤ طبعة دار الجيل - بيروت.


___________________________

الطمأنينة لحملة الدعوة

وهناك موضوع آخر لا يقل أهمية عن هذه المواضيع، وقد تناوله القرآن الكريم بشيء من الاستفاضة والتركيز، ألا وهو تطمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه على الحق المبين، وأن ما يلاقيه من صد وعنت وتكذيب وإعراض إنما هو ما لاقاه إخوته من الأنبياء السابقين عليهم سلام الله ورحمته، فهو ليس بدعاً من الرسل، وتلك سنة الله في خلقه، لذا فقد قصّ عليه من القصص ما يثبت به فؤاده، وبيّن له ما جوبهوا به، ومع ذلك فقد طلب الله تعالى منهم الصبر والعزم والحزم (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)(1) وكقوله تعالى في كثير من الآيات بمثل هذا المعنى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك)(2) (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا أتاهم نصرنا فنجي من نشاء)(3)وكقوله تعالى مخاطباً الرسول والمؤمنين: (أم حسبتم أن تدخلو االجنة ولما يأتكم نبأ الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)(4).
وكما كانت هذه الآيات مطمئنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي كذلك مبينة للمسلمين أن هذه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)(5) وأن على حملة الدعوة أن يتوقعوا أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من المؤمنين كقوله تعالى في سورة البروج.

بسم الله الرحمن الرحيم (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير)(6).
هذه هي طبيعة الدعوة الحقة، وتلك مواقف الدعاة الصلبة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤكد مثل هذه الحقيقة، ويوجب ما على الدعاة عمله، حيث يقول "ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا حيث دار ألا إن السلطان والقرآن سيفترقان فالزموا الكتاب، ألا وإنه سيولى عليكم أمراء ضالون مضلون إن اتبعتموهم أضلوكم وإن خالفتموهم قتلوكم، قالوا فماذا نفعل يا رسول الله؟ قال كما فعل أصحاب عيسى شدوا على الخشب، ونشروا بالمناشير، فوالذي نفس محمد بيده لميتة في سبيل الله خير من حياة في معصية"(7).

---------------------------
(1) ٣٥ م الأحقاف.
(2) ٤٣ ك فصلت.
(3) ١١٠ ك يوسف.
(4) ٢١٤ م البقرة.
(5) ٦٢ م الأحزاب.
(6) ١ م البروج.
(7) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة.



_________________________


معنى سيرة الرسول


قال تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)(1) يخاطب الله سبحانه وتعالى رسوله آمراً إياه أن يقول هذه سبيلي، وقد قالها صلى الله عليه وسلم، وألزم بها المؤمنين والدعاة منهم بشكل خاص، لا من حيث وجوب الاقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم بل من حيث كيفية هذا الاقتداء، وما هو الواجب عمله من رسول الله ومن أتباعه حسب مدلول هذه الآية، أما من حيث وجوب الاقتداء بسيرته صلى الله عليه وسلم فقد بيّنا ذلك وبيّنا التحذير من مخالفته (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(2).

أما البحث الآن فهو في مدلول هذه الآية، فالله سبحانه وتعالى يطلب من رسوله أن يقول هذه سبيلي فالطريق ليست سراً خفياً لا تجب معرفته إلا للقائد، بل على القائد أن يبين الطريق لأتباعه والناس، بحيث تصبح الطريق واضحة بينة، ليس فيها اعوجاج ولا انتهاز ولا تملق، فهي طريق مستقيم (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(3) هذا من حيث وضوح الطريق واستقامته، أما ما هو العمل في هذا السبيل فقد وضحتها الآية بالقول (أدعو إلى الله)(4) والدعوة إلى الله تقتضي الدعوة إلى تحكيم الشريعة في جميع جوانب الحياة، أي هي دعوة شاملة لجميع جوانب الحياة من حيث أن الإنسان محاسب على كل عمل يقوم به في هذه الحياة، فعليه أن يعرف ماذا أراد الله منه في هذه الحياة، وليتق الله فيه فليتق الله في نفسه، وليتق الله في عبادته، وليتق الله في علاقته بغيره،في أهله، في مجتمعه في أمته في الناس. والدعوة إلى الله تعني الدعوة لجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والدعوة إلى الله إنما تعني إيجاد الإسلام في واقع الحياة، في الفرد وفي المجتمع وفي الدولة، وليس مجرد وجود، بل لأن يكون ظاهراً على الدين كله ولو كره المشركون. إذن فالطريق مستقيم واضح، والفكرة هي الدعوة إلى الله أي إيجاد الإسلام في واقع الحياة لجعل كلمة الله هي العليا، فالفكرة إيجاد الإسلام في واقع الحياة والطريقة هي ما خطّه رسول الله مستقيماً واضحاً له ولأتباعه وللناس كافة، ومن أحكام هذه الفكرة أن تكون الدعوة لها على بصيرة، أي عن بيّنة فمن بديهيات الأمور، الدعوة لتسيير الأعمال حسب شرع الله تعالى وهذا يقتضي أن يبين للناس كافة أن الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، أي أن أي عمل لا بد وأن يكون تبعاً للحكم الشرعي المتعلق بذلك العمل، كما تقتضي البصيرة-البيّنة-أن كل حكم شرعي لا بد أن يكون قد استنبط من دليل جاء به الوحي من عند الله، أي أن الدليل الشرعي هو فقط ما جاء به الوحي أي لا بد أن يؤمن كل مسلم أن شريعتنا وحي من عند الله ولا عمل للعقل إلا فهمها، فالعقل ليس مشرعا وإنما هو وسيلة الفهم فقط، مهما بلغت قوة هذا العقل، ومهما تضافرت معه عقول، فالشرع وحي من عند الله فقط. وليست الدعوة عن بينة هي في العموميات كالقول أيها الناس عودوا إلى ربكم أيها الناس ارجعوا إلى الله ارجعوا إلى ربكم ،إن هذه الدعوة ألفاظ عامة لا تكفي لأن توضح للناس ما معنى العودة إلى الله، بل الدعوة يجب أن تكون عن وعي وإدرك ، عن بصيرة وبينة، عن برهان يبعد كل التباس ويمحو كل غموض.

وعي على الفكرة التي يدعو لها، ووعي على كيفية تنفيذها ووعي على المجتمع الذي ندعوه، ووعي على الوقائع و الأحداث التي تنزل الأفكار والأحكام عليها، فالدعوة على بصيرة تقتضي تفهيم الناس واقعهم، وتفهيمهم ما يدعون إليه، والأمر في هذه الآية موجه للقائد، فمن جعل نفسه بمركز القيادة، وبمركز الداعية للناس، عليه أن يدعو على بصيرة هو ومن تبعه،وهذا يقتضي أن يفهم الداعية نفسه ماذا يريد، وما الذي يدعو إليه عن بينة أي عن دليل وأن يفهم ذلك لمن يدعوهم وكذلك عن بينة، وكذلك من يُدعى فلا يصح أن يستجيب حتى يسمع البينة ويطلع على الدليل، فأية جماعة أو حزب أو فرد يجعل نفسه بمركز الداعية ويدعو الناس لفكرة ما، عليه أن يقيم البينة على ما يدعو إليه ولهذا فالبينة مقياس تقاس به الدعوات والأفكار، وتعرف به الأعمال فمقياس الرقي والانحطاط الفكر، ومقياس الفكر انطباقه على واقعه، ومعرفة مستواه من السطحية والعمق والاستنارة، ومقياس العقيدة القناعة العقلية والبناء على العقل موافقتها للفطرة، ومقياس الأحكام الشرعية أدلتها، ومقياس الأعمال الحلال والحرام، ومقياس الحلال التمييز بين الفرض والمندوب والإباحة والمكروه كما أن مقياس الأدلة ثبوتها، ومعرفة القطعي من الظني، فإن كانت آية فهي قطعية وهي مقياس لكل ما يندرج تحتها من مدلولات أو مفاهيم، وأما إن كانت حديثاً لرسول الله فمقياسه منزلته هل هو متواتر أم خبر آحاد، ومقياس خبر الآحاد منزلته، هل هو مشهور أم صحيح أم حسن أم ضعيف ومتى تثبت صحته أصبح مصدره الوحي، الذي هو مقياس الأدلة كلها، هذه نبذة بسيطة عن بعض المقاييس، التي هي بصائر لما يجب أن يؤخذ من الأفكار والأحكام، وما يعطى للناس من أفكار وأحكام، كما أن من أولى الواجبات أن تتخذ البصيرة مرشداً لما نريد، وأن نعرف ما ندعو إليه بحقيقته وأدلته معرفة تنفي عنه كل غموض، وتبعد عنه كل التباس، وتنقيه من الشوائب أو مما يخالفه من أفكار وهذا يقتضي أن نعرف الهدف الذي ندعو إليه، فالدعوة إلى الله ليست من باب الترف الفكري، أو عمل مندوب يراد به زيادة الأجر والثواب، بل هي فرض وعمل هادف لتحقيق غاية معينة، ولا يجوز أن تقتصر هذه المعرفة على القائد فقط أو من هم بمركز القيادة ويقتصر مع الأتباع بالعموميات وأخذ الثقة، بل لا بد أن تكون البصيرة شاملة للقادة والأتباع كما جاء في الآية الشريفة (على بصيرة أنا ومن اتبعني)(5)

أي أن تكون القيادة والأتباع والناس على معرفة تامة بما ندعو إليه من فكر، وما نعمل لأجله من هدف.

------------------------
(1) ١.٨ ك يوسف.
(2) ٦٣ م النور.
(3) ١٥٣ م الأنعام.
(4) ١.٨ ك يوسف.
(5) ١.٨ ك يوسف.

بيان الغاية

فمثلا، إن الغاية المعلنة التي تعمل لها جميع الكتل والأحزاب والجماعات الإسلامية هي عودة الإسلام لواقع الحياة، ولو أن هذه الغاية تحمل أسماء متعددة، وتقال بعبارات مختلفة من مثل القول "إعلاء كلمة الله" أو "العودة إلى الله" أو "استئناف الحياة الإسلامية" أو "إعادة مجد المسلمين وعزتهم" أو إحياء الخلافة أو النهوض بالمسلمين أو غير ذلك من التعابير فكلها تدور حول معنى واحد، وهو الهدف الذي يسعى إليه الجميع، وهذا الهدف حقيقة هو استئناف الحياة الإسلامية سواء أعلن صراحة أو غلف بتعابير وأسماء تحمل نفس المعنى فهو ليس إيجاد حياة إسلامية ابتداء وإنما هو استئناف لما كان موجوداً أي استئناف لما بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أنه قد أبعد منذ فترة من الزمن والعملية الآن هي استئناف لما كان، ومن البديهي أن هذا الأمر لا يتحقق إلا بوجود سلطان للمسلمين، أي أن يكون للمسلمين خليفة ينوب عنهم في تنفيذ أحكام الشرع المترتبة عليهم مثل إقامة الحدود، ورعاية الشؤون وحماية الثغور، وحمل الدعوة للعالم لأن ذلك هو الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الأمور والقيام بهذا الواجب.

إن هذه الغاية على سموها، وهذا الهدف على أهميته ووجوبه، لا بد وأن يكون معلوماً وواضحاً، بكافة أبعاده لقيادة الكتلة أو الجماعة وضوحاً تاماً ينفي عنه كل غموض ويزيل عنه كل إبهام ويبعد عنه كل إشراك، ولا يكفي فيه العموم، أو الشعار، بل لا بد وأن يكون أشبه بمخطط هندسي موضوع للتنفيذ، وأن تقوم قيادة الجماعة أو الكتلة بكافة وسائلها الممكنة بتوضيح هذا المخطط الهندسي لجميع العاملين على تنفيذه والمساعدين لهم توضيحاً يمكنهم من الإبداع في الوسائل والأساليب التي تمكنهم من مواصلة العمل والتضحية في سبيل تحقيق ذلك الهدف والوصول لتلك الغاية، كما أنه لا يمكن لتلك الفئة أو الجماعة أن تصل إلى هذا الهدف وتحافظ عليه بمعزل عن الأمة وبعيداً عن إدراكها أو تصورها مهما بلغت هذه الكتلة من القوة، ومهما بلغ عدد أعضائها، لأنها في تلك الحال تكون معزولة عن الأمة، غريبة عنها، غريبة عن المجتمع الذي تريد تنفيذ فكرتها عليه، وإقامة مخططها الهندسي على أرضه، لذا كان من واجب الجماعة أو الحزب أو الكتلة أن تطرح ما عندها من فكر، وما لديها من تصورات محاولة تجسيد هدفها، وبلورة غايتها عند الناس لأخذ ثقة الناس على هذا الأساس، ولهذا كان على كل فئة أو جماعة أن تجعل لها ثقافة خاصة تبين فكرتها، وتوضح هدفها، وتنقاد الأمة بحسبها.

وذلك انطلاقاً من فهم الآية (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)(1) فما عند القيادة يجب أن يكون عند كل فرد في الكتلة، فلا تختص القيادة بشيء من الثقافة، ومن دونها بشيء آخر يتناسب مع مركزه في الكتلة وأن يعمل الجميع بما لديهم من إمكانيات وما يستطيعونه من وسائل وأساليب لايجاد هذه الثقافة في الأمة، لعلهم يستطيعون بناء الأمة بناءً فكرياً على نفس ما يحملون من ثقافة، بحيث تنقاد لهم الأمة انقياداً واعياً، ويكون حمل الدعوة للعالم بهم وبالأمة، فهم جميعاً كالكتاب المفتوح تستطيع أن تطلع منه على ما تريد.

فالمطلوب من الدعاة أياً كانوا وأينما كانوا، أن يدعوا إلى الله تعالى، أي أن تكون دعوتهم خالصة لله تعالى لا تشوبها شائبة، ولا تتسرب إليها فكرة غريبة، ولا تشترك فيها مصلحة أنانية، ولا منفعة ذاتية وأن تكون هذه الدعوة بكيفية معينة حددها الشرع، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبتعد عن سبيل رسول الله قيد شعرة، خوفاً على مصلحة أو فرقاً من ظلم أو بطش، كل ذلك عن بينة، كل ذلك على بصيرة، فكل فكرة فيها مبنية على دليل وكل حكم شرعي مستنبط من دليل، وكل أسلوب فيها لا يتعارض مع ما جاء به رسول الله ولا يجوز استعمال أي وسيلة أو أسلوب مخالف للشرع،حيث أن فكرة "الغاية تبرر الوسيلة" هي فكرة كفر، وهي مخالفة للإسلام، لذا فالوسائل والأساليب يجب أن تكون مما أجاز الشارع استعماله. مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بعدم المداهنة بقوله: (ودوا لو تدهن فيدهنون)(2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرمات الله حاكماً في عباد الله بالاثم والعدوان، ولم يغير عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مدخله"(3) وهذا يعني عدم السكوت عن حاكم ظالم أو فاسق والقيام على محاسبته بكل وسيلة ممكنة ولا يجوز التذرع بمصلحة حماية أنفسهم، وتقوية نفوذهم، فالغاية في الإسلام لا تبرر الوسيلة، ولا يجوز التوصل للحلال بطريق الحرام فلا يسرق حتى يتصدق.

فالقيادة المطلوبة هي قيادة واعية نقية مثل وضوح الفكرة ونقائها،والأعضاء المطلوبون هم قادة بالاحتياط يحملون نفس الصفات والسمات التي تحملها القيادة الفعلية، تقوم القيادة نفسها وبناءً على ما عندها من أفكار بتنشئتهم على عين بصيرة، حريصة عليهم حرصها على ما عندها من فكرة، ليقوم هؤلاء بنفس الدور في تنشئة الأمة والتعامل معها، لكي يوجدوا أمة تحمل ما يحملون وتضحي في سبيل ما يطلبون، لكي تصبح الأمة والكتلة شيئاً واحداً، ويكون حملهم للدعوة لغيرهم من الشعوب والأمم انقياداً لفكرتهم التي يحملون.
ومن قوله تعالى: (على بصيرة) (4) الوعي على ما يحيط بالدعوة في مجالها من شعوب وكيانات، ومعرفة ما يتوقع منهم من مواقف وما هم عليه من أوضاع، تماماً كالفلاح الذي يريد أن يزرع أرضاً، فلا بد أن يعرف طبيعة هذه الأرض ونوعيتها، وأي نوع من الزرع ينبت فيها،ثم معرفة ما يحيط بهذه الأرض من أراض ومعرفة ما يكتنفها من أجواء، وفصول، معرفة تمكنه من الزرع والمحافظة على الزرع، لذا حين تعمل الكتلة أو الجماعة في مجتمع ما، لتحقيق هدفها، والوصول لغايتها لا بد أن تعرف أولاً طبيعة المجتمع الذي تعمل فيه، ومن ثم معرفة ما يحيط به من شعوب ومجتمعات، للمحافظة على ذلك الهدف حين الوصول إليه، فكيف إذا كان الهدف مما يوجب نشر تلك الفكرة لكل الناس،والإسلام جاء للناس كافة(وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيرا)(5) وهذا يقتضي معرفة ما عليه هؤلاء الناس وأعني بذلك الوعي السياسي على ما يحيط بمجتمعنا وعياً يمكننا من معرفة ما يمكن أن يصدر عنه من أخطار لتجنبها، ومعرفة ما يلزمنا لتبليغه، وضمه إلى حظيرة الإسلام.

مادامت هذه طبيعة دعوتنا ومادامت لم تختص بأمة من الأمم، ومادام الناس أعداء ما جهلوا لذا كان لا بد من الوعي على القطر والأقطار التي تعمل فيها وعياً سياسياً، ومعرفة القائمين على رعاية شؤون الناس في هذه الأقطار، ومعرفة مدى ثقة الناس بهم، ومعرفة مدى إخلاصهم وتمسكهم بأفكارهم أو مراكزهم، أهم حقاً حكام أم هم نواطير وحراس أقامهم غيرهم على رقاب الناس، حتى تستطيع الكتلة أو الحزب تحديد موقفها منهم، ومعرفة كيفية التعامل معهم.

-----------------------
(1) ١.٨ ك يوسف.
(2) ٩ ك القلم.
(3) رواه الطبري في التاريخ وابن الأثير في الكامل و غيرها.
(4) ١.٨ ك يوسف.
(5) ٢٨ ك سبأ.


الوعي على الواقع الإقليمي والدولي.

وما دامت هذه طبيعة دعوتنا، فلا بد من معرفة ما يحيط بنا من أمم وشعوب يتربصون بنا الدوائر، وينتظرون منا غفلة، خصوصاً وأننا بعد تحقيق الخطوة الأولى من هدفنا سنكون نحن المبادئين لهم بالدعوة، والداعين لهم بالتخلي عن قيادتهم وكياناتهم فلا بد من معرفة نظرتهم إلينا وأطماعهم فينا.

وباختصار على الكتلة أو الحزب أن يكون واعياً على واقعه، واعياً على مجتمعه، واعياً على القطر الذي يعمل فيه واعياً على المنطقة التي فيها قطره واعياً على الطامعين في هذا القطر،واعياً على أحداث العالم بشكل عام باعتبار أنه يستهدف العالم بأسره، فلا بد أن يكون كذلك مستهدفاً من قبل العالم.

وأكرر ما جاء في القرآن الكريم في هذا المجال (آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)(1).

وسبب نزول هذه الآيات معروف و مجمع عليه، وقصته مشهورة، وذلك حين تراهن أبو بكر رضي الله عنه وكفار مكة، حول الوضع السياسي والمعارك الحربية الدائرة بين فارس الروم، والعبرة في هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لم يكونوا غفلاً عما يدور حولهم من أحداث، سواء في مكة أثناء الدعوة أو في المدينة حين أصبح لهم دولة، فهذا أبو بكر يجادل قريشاً في حرب تدور رحاها بين الفرس والروم، حرب دولية بين أكبر دولتين في العالم في ذلك العصر، ويتحدى قريشاً ويجزم بأن الروم سيغلبون ولو أنهم غلبوا في هذه المعركة، بانياً رأيه وتحديه على معرفته لواقع الدولتين، والظروف السياسية لكل منهما، فهذا كسرى يموت ويتولى الحكم بعده ابنته،فيختل مركز القيادة في فارس، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"(2) من هذا المنطلق يجزم أبو بكر برأيه ويتحدى فيه قريشاً ويراهن بماله على ذلك، وكله ثقة بفوزه ويرجع ليخبر رسول الله بما حصل فيقره على ذلك، ويطلب منه العودة إليهم ليزيد في الرهان ويطيل في المدة إن أمكن، وقد فعل. ثم نزل بعدها ما يملأه يقيناً، فقد نزلت الآيات الشريفة (آلم غلبت اليوم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)(3).

هذه هي بعض المواضيع التي تعامل معها القرآن الكريم، وهذا هو النهج الذي سلكه، وإنه وإن اختلفنا في فهم النصوص والآيات والأحاديث، وإن تعددت الأفهام لمدلولات الجمل والتعابير، إلا أننا لا يجوز أن نختلف في هذه المواضيع من حيث أنها قطعية ولا مجال للشك في أي منها، فهل ينكر أحد أن القرآن قد تضمنت آياته شرحاً وافياً للعقيدة بكافة أجزائها وفروعها وفي كثير من الأفكار المتعلقة بها؟ وهل ينكر أحد أن القرآن الكريم رد على خصومه بأسلوب فكري رائع، وتصدى لما في المجتمع من أفكار فاسدة وعقائد منحرفة وخرافات وترهات باطلة من عقائد العرب المشركين أو من عقائد وأفكار اليهود والنصارى على اختلاف مشاربهم، وتعدد اتجاهاتهم، وهل ينكر أحد أن الإسلام تصدى للعادات السيئة والتقاليد المنحطة والعلاقات الفاسدة التي كانت تسود تلك المجتمعات؟ هل ينكر أحد أن الإسلام هاجم وبعنف قادة المجتمع، وأئمة الكفر من زعماء القبائل ورؤساء العشائر أو قساوسة أو رهبان أو أحبار، وهل تهاون في ذمهم وفضح خفايا ما يقومون به؟ وهل ينكر أحد ما تضمنته الآية من وجوب الدعوة على بصيرة، ووجوب التقيد بسيرة رسول الله؟ هذه هي الأمور القطعية التي تضمنها نهج القرآن الكريم، وهذه هي الأمور القطعية التي يمكن للأحزاب والفئات والجماعات أن تتساعد فيما بينها على مهاجمتها والتعامل معها.

هذه هي النقاط التي بينها القرآن الكريم في نهج الدعوة، والتي قام ببيانها عملياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها نفهم سيرته، وهذا هو النهج الذي يجب علينا سلوكه والذي ندعو إليه كافة الأخوة العاملين المؤمنين للسير عليه وتنفيذه والتزام ما دلت عليه مواضيعه، لأنها كما بيّنا أمور قطعية، قد وردت في القرآن الكريم صراحة ومن البديهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام ببيانها، لأن مهمته تبيان ما نزل للناس من آيات ولهذا فإنه إن اختلفنا في فهم سيرته صلى الله عليه وسلم فبالعودة إلى القرآن الكريم ومعرفة أسباب النزول وأوقات النزول تفهم السيرة، لأنه كما وصفه ربّ العالمين( لتبيـّن للناس ما نزل إليهم)(4) هذا ما ندعو إليه كافة الأخوة، لأنه ولا شك أن من يخالف ما جاء به الإسلام وما انتهجه القرآن إنما يكون قد ارتكب إثماً ويكون قد خالف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نربأ بإخواننا المؤمنين عن مخالفة أي فرض فرضه الله على المسلمين، أو مخالفة أي منهج بيّنه لنا.

---------------------
(1) ١ ك الروم.
(2) رواه البخاري في باب الفتن.
(3) ١ ك الروم.
(4) ٤٤ ك النحل.


تعدد التكتلات والجماعات

إن مما يثلج الصدر أن تكثر الدعوات إلى الله وتتعدد التكتلات والجماعات التي تدعو لعودة الإسلام لواقع الحياة فهذا دليل العافية، ويوحي بوجود الحيوية في الأمة، ورغبة التغيير، وهذا ما يبشر بالخير، ويبعث الأمل في النفوس، ويشد من أزر العاملين الواعين، ويحفز الهمم الخاملة، ويوقظ النفوس النائمة، ويوقد جذوة الفكر والتنقيب عن الحقيقة ومعرفة الدليل الأقوى، وكان من الطبيعي أن تكثر هذه الدعوات وتتعدد هذه الجماعات خصوصاً بعد ما سمي بالصحوة الإسلامية وتحرك مشاعر المسلمين تجاهها، كان من الطبيعي أن تتعدد أحزاب وتكتلات على أساس الإسلام وذلك لما بيّنا من وجود أسباب الاختلاف الأساسية سواء في طبيعة الإنسان أو في طبيعة الإسلام، ما دام أن الإخلاص هو رائد الجميع، والحرص على صفاء الإسلام ونقائه أمر لا بد منه، هذا بالإضافة إلى الأسباب الثانوية.

إلا أن المؤلم فعلاً أن نجد من بين هذه الجماعات من اقتصر في دعوته على جانب واحد من الإسلام، أو أخذ موضوعاً وترك آخر، تحت أي عذر كان أو غاب عنه وجوب التقيد بسنة رسول الله، واعتبرها من الوسائل والأساليب مما تقتضيها طبيعة العصر، وتتطلبها تطورات الحاجات والأشياء، أو غير ذلك من التصورات التي بعدت كثيراً عما قلنا باحتمال وجوده من اختلافات طبيعية، فما حصل من تمزق أو تعدد لم يكن مصدره فقط تلك الاختلافات الطبيعية التي يمكن أن توجد بين المسلمين، وذلك لأن الاختلافات التي نشاهدها بين الأحزاب والفئات الإسلامية في مجملها ليست اختلافات على فهم نص، أو تبني حكم، أو إبصار طريق أو إبداع بأسلوب، أو فهم جديد لسيرة رسول الله بل زادت عن ذلك كثيراً، وأصبحت في كثير من الأحيان خلافات لا تستطيع أن تضع الإصبع على مصدرها، ولا على معنى تلك الاختلافات من حيث أنهم لم يضعوا ثقافة شاملة، ولم يتبنوا أحكاماً معينة، ولم يوضحوا مسلكاً أو طريقاً خاصاً مما يوجب أو يبعث على وجود الاختلافات الطبيعية بين المسلمين، وبين الفئات والأحزاب والجماعات الإسلامية، إذن وفي مثل هذه الحال يحق للسائل أن يسأل لم هذه الاختلافات، بل على الأصح لم هذا التعدد؟.

ولهذا فإننا نتوجه لهذه الكتل جميعا بكل صدق وإخلاص مذكرين إياهم، قادة وأعضاء أن يضعوا نصب أعينهم تقوى الله، وليتداركوا ما فات قبل فوات الأوان، وليتذكروا قول الله تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)(1) وقوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)(2) فيضعوا نهج القرآن منهاجاً لهم في دعوتهم لا يزيغون عنه قيد أنملة لأي سبب من الأسباب، مسترشدين بالمواضيع التي وردت في القرآن الكريم، حيث أنها هي المفتاح في فهم السنة، وأن يسيروا بهذا المنهاج كما سار به محمد صلى الله عليه وسلم، متبعين نفس الأساليب إن أمكن، مستغلين ما يمكن استعماله من الوسائل الحديثة التي تسهل عملهم، وتيسر أمرهم، سافرين متحدّين الكفر بكامله، لا يأبهون بمن خالفهم من إخوانهم فكلهم إن التزموا ذلك على الحق المبين، وعدوهم واحد هو الكفر مهما تعددت وجوهه، وتنوعت دعوته.
وحين يطرح كل منهم ثقافته-وهي ثقافة إسلامية ولا شك-ويبين كل منهم منهجه المأخوذ من القرآن الكريم، ويقيم كل منهم الحجة على ما ذهب إليه من رأي، أو بيان حكم، حين يقومون جميعاً بهذا الأمر ويباشرون الصراع الفكري مع الكفر، فمن البديهي أن يؤدي ذلك إلى بلورة الفكر عند الجميع، وتتضح الرؤية عند الأمة، ويتساوى عندها الفائز ما دامت الغاية هي العيش تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهي الجامع الوحيد لهم في حياتهم الدنيا، كيف لا تنصاع الأمة لمثل هذا وتنقاد له، وهي تسمع وتعرف أن أي مسلم من أي فئة هو جندي أمين، وخادم مطيع لإمام المسلمين وخليفتهم.

--------------------
(1) ٤٠ ك القمر.
(2) ٩ ك الإسراء.

هذه ناحية وهذا هو أثرها أي بلورة الفكر عند الجميع، أما الناحية الثانية وأثر الصراع الفكري في حياة الأمة، فحين توجه سهام جميع هذه الفئات إلى أفكار الكفر وعقائده، وحين تتضافر الجهود بفضح مكائده ومؤامراته، بأساليب مختلفة، ووسائل متعددة، فإنما يعني ذلك الإجهاز على الكفر وإنهاءه في بلاد المسلمين، وملاحقته في بلاده كذلك، لأننا حين نهاجم أفكاره لا نهاجمها باعتبارها أفكار عدو لنا، فحسب وإنما باعتبارها أفكاراً باطلة تخالف فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، وتخالف ما يجب أن يبنى عليه الفكر الإنساني-أي العقل-حين نهاجم الأسس التي قام عليها الكفر إنما نهاجمه في كل الدنيا وليس فقط على أرضنا وفي بلادنا. هذا هو الجانب الثاني في صراعنا الفكري أثناء حملنا للدعوة.

الجانب الأول وهو وضوح الرؤية وبلورة الفكر واستحضار الأدلة لإقامة الحجة على المخالف.
الجانب الثاني تضافر الجهود لمحاربة أفكار الكفر في عقر داره وليس فقط في بلاد المسلمين.

مثلاً: حين تهاجم جماعة ما فكرة الديمقراطية، التي هي العمود الفقري للفكر الغربي، وتبين زيفها وبطلانها واستحالة وجودها، وأنها سراب خادع ودجل عظيم، فالحكم فيها حكم الأقلية للأكثرية لا كما يدعون، وإقامة البرهان على ذلك، وأن من يضع التشريع فيها ليس الشعب بكامله كما يدعون، وإنما لجنة تشريعية لا تمثل في المجتمع إلا نفسها. وهذا ما يتناقض مع ما تنص عليه الديمقراطية من معان، وما تدل عليه من أفكار. حين تقوم كتلة أو جماعة بالتصدي للديمقراطية بمثل هذا الأسلوب، وتهاجمها جماعة أخرى بأسلوب آخر قد يكون أشد قسوة وأكثر دقة وأوسع إطلاعا، ثم تأتي فئة ثالثة وتهاجمها من مدخل آخر فإن مثل هذا الأمر سيسهل القضاء على هذه الفكرة ومحو أثرها من المجتمع، وملاحقتها حتى في منبتها ومنشئها أما أن تكون هذه الفئات والجماعات لا تعرف شيئا عما يحيط بها من أفكار، وما يلاحقها من عقائد، أو انها تتجاهل وجود هذه الأفكار والعقائد، أو تتمسح بها وتدعي أنها أفكار إسلامية أو أنها لا تخالف الإسلام أو أن الديمقراطية في الإسلام أفضل مما يدعي هؤلاء، إن مثل هذه الأمور هي التي تمكن الفكر الغربي من التغلل في الأمة،وتركزه في أذهان الناس البسطاء منهم والمثقفين. لذا فإنه لا يجوز أن يكتفي بشرح العقيدة الإسلامية وبيان صدقها ومطابقتها للواقع، دون التعرض إلى إظهار فساد العقائد الأخرى الموجودة في المجتمع وفيه الكثير من أفكار الكفر وعقائده.

مثلاً حين أشرح فكرة من أفكار العقيدة مبيناً أن أجمل صفة يتصف بها المسلم، وأرقى مكانة يصل إليها، هي أن يكون عبداً لله، فهذا محمد صلى الله عليه وسلم نشهد به أنه عبد الله ورسوله، وأطنب في شرح محاسن هذه الصفة وما عليه عباد الرحمن، وما أعد الله لعباده إلى غير ذلك، فإنّ هذه الفكرة وهذا الشرح لا يحدث أثراً في النفس ولا يدرك واقعه على حقيقته إلا ببيان نقيضه الموجود في المجتمع من أفكار الكفر التي جعلوا جميع الناس يتغنون بها، وأعني الحرية، أي فكرة الحرية، فحين أتحدث عن العبودية لله وميزاتها ومكانتها لا بد وأن أهاجم نقيضها إن كان موجوداً في المجتمع كفكرة الحرية، ثم تبيان ما يترتب على تلك الفكرة فدعاة الحرية تقتضي دعوتهم أن يكون الإنسان هو المشرع، وأنه هو الذي يسن القوانين، وأنه التحلل من كل قيد، بينما العبودية لله تقتضي أن يكون المشرع هو الله سبحانه وتعالى، وأن الأحكام الشرعية والقواعد الشرعية هي مواد الدستور والقانون. وهذا يعني عبودية الإنسان للقانون وأن كلمة حرية كلمة جوفاء لا معنى لها، وتأتي المفاضلة الفاصلة، أن تكون عبداً لله، أم عبداً للمجلس التشريعي، القانون..؟

هذا هو نهج القرآن الكريم وأسلوبه في تثبيت أفكاره وتركيز مفاهيمه، محو الباطل أولاً وإزالة آثاره ثم إقامة الأدلة والبراهين على صدق عقيدته، وقوة فكرته، وهذا ما يجب أن يكون عليه جميع الدعاة في أساليبهم ومناقشاتهم ودعوتهم، وبتعبير آخر هو وضع الخط الصحيح أمام الخط الأعوج، ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك، إذا كان الداعية نفسه لا يعرف ماذا يريد، أو لا يعرف ما عند الآخرين للرد عليه، لذا فإن نهج القرآن الكريم هو الطريق الطبيعي في نشر أي فكرة وتركيزها.

هذا بالنسبة لحمل الدعوة وتركيز الفكرة وأسلوب الصراع الفكري وما يتطلب وجوده في المجتمع، أما بالنسبة للكفاح السياسي والتصدي للقادة الغشم، والحكام الظلمة، فحين تتوالى عليهم السهام من جميع الجهات والفئات ثم لا يجدون ملجأ يلوذون به إلا الأمة، فإذا كانت الأمة هي رامية السهام،وموترة القوس فإنما يعني ذلك نهاية هؤلاء الظلمة وزوال حكمهم والتفاف الأمة حول إسلامها واستعادة الثقة بنفسها وبقادتها وبقيادتها الفكرية.



_________________________


إصلاح الفرد
بل ما يجب أن يتصف به الداعية

ما تحدثنا عنه هو ما يجب أن تكون عليه الكتلة، وما يجب أن تقوم به من أعمال وما ترسم من أهداف، وما تضع من أساليب لتصل إلى ما أثبتت من أهداف، وما تأمل من غايات، سيراً على نهج القرآن الكريم، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أعضاء هذه الكتل والجماعات، فهم أفراد، وينظر إلى كل منهم بصفته الفردية وباعتباره جزءاً من كتلة.

أما باعتباره جزءاً من الكتلة فهم يقومون بكل ما تطلبه الكتلة منهم وينفذون ما ترسم لهم من خطط وأساليب. وأما النظرة إليهم باعتبارهم أفراداً، فإن الكتلة أو الجماعة التي ينتمون إليها حين تنظر إليهم كأفراد فإن عليها أن تقوم على تقويمهم وبناء شخصياتهم وتنمية عقلياتهم ونفسياتهم. ومن المعروف أن مقومات الفرد هي العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، ولذا فإن واجب الفرد وواجب الكتلة تجاهه كفرد، إصلاح عقيدته أي جعل عقيدته عقلية يقينية، وإبعاد كل ما بني فيها على الظن أو التخيلات، أو الأوهام والأباطيل، ثم إصلاح عبادته بأن يلتزم بالفروض، ويقوم بما هو فوق الفروض من مندوبات، باعتبارها جميعاً أوامر من الله تعالى ووسيلة التقرب إليه ،وتحرص عليه أن يتصف بالصفات الحميدة والأخلاق النبيلة، والقيم الرفيعة، وأن يكون مقياسه في الحياة حين تصريف أعماله، وإشباع حاجاته وغرائزه هو المقياس الوحيد للمسلمين أي الحلال والحرام، فلا يقدم على عمل محرم ويقوم بما يجب عليه من فروض ويعمل ما يستطيع من المندوبات ويترفع عن الكثير من المباحات، وبهذا تكون قد قامت على إصلاحه وتقويم نفسيته وذلك بصلاح عقيدته وصلاح عبادته وصلاح أخلاقه وصلاح معاملاته، هذا كأدنى حد يمكن أن يقبل به الفرد، ولا يجوز لأية كتلة أن تقبل في صفوفها أي عضو أو دارس لا تتوفر فيه هذه الأمور الأربعة، إلا أنها لا تقف معه عند هذا الحد، فلا بد أن يصبح هذا الفرد قائداً يؤثر في الآخرين ولا يتأثر من الآخرين، وهذا يقتضي أن تتكون عنده عقلية معينة، يفهم الأمور بحسبها فهماً خاصاً مبنياً على قاعدة أو قواعد ثابتة، يقيس على هذه القاعدة أو القواعد ما يحصل عليه من معلومات، وما يجابهه من وقائع لذا فهو حين يصدر حكمه على واقع معين إنّما يصدره بناءً على عقلية معيّنة وبكيفية معيّنة. وعلى الكتلة أن تعمل جاهدة على تنمية هذه العقلية. وذلك بزيادة المعارف الشرعية والقواعد الكلية، والمقاييس الدقيقة المطلوبة لمحاكمة كل فكر، والحكم على كل واقع، بحيث تصبح عقليته إسلامية، وعلى نمط معين، فهو لا يفكر إلا على أساس الإسلام وقياساً على تلك القواعد، فيصبح بذلك ذا عقلية مميزة، وحين يصرف أفعاله بحسب العقيدة الإسلامية، أي بمقياس الحلال والحرام، وبناءً على المفاهيم والأحكام التي تقبلتها عقليته يكون بذلك قد أصبح شخصية مميزة، عقليته مثل نفسيته، يفكر منطلقاً من العقيدة التي آمن بها، ويتصرف منقاداً بالأحكام الشرعية المنبثقة عن العقيدة التي آمن بها كذلك، لهذا فستكون غايته الحصول على رضوان الله، وسعادته حين يشعر أنه قام بواجب ،أو ما هو فوق الواجب من السنن والمندوبات، أي أن سعادته بشعوره برضوان الله إذ أن السعادة إنما تعني الطمأنينة الدائمة، والطمأنينة الدائمة لا يمكن أن تكون إلا برضاء الله سبحانه وتعالى، وليست كما يظن البعض، إشباع حاجات الإنسان وتحقيق رغباته، وحصوله على المتع الجسدية، فإنّ هذه إن حصلت فيها طمأنينة في جزئية منها فهي إنما تكون طمأنينة مؤقتة، سرعان ما تزول بوجود حاجة أخرى تتطلب الإشباع ورغبة أخرى تتطلب التنفيذ.

أما ما يجب أن يتصف به من خلق وما يتحلى به من صفات، فقد ورد العديد من آيات القرآن الكريم تبين ما يجب أن تكون عليه أخلاق المؤمن ومعاملته والصفات التي يتصف بها.

من قوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)(1) إلى غير ذلك من الصفات كقوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)(2) إلى آخر السورة.
ومن وصفه تعالى ( قد أفلح المؤمنون)(3)
ومن وصفه تعالى وصية لقمان لابنه (إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه)(4).
وباختصار أقول إن الداعية لا بد وأن يكون مسلماً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، أي مسلم ملتزم بما أمره به الله وما أوجب عليه من أفعال وما طلب من اتصاف بصفات وما ألزمه به في حياته العملية.
أ-عقيدة صالحة بعيدة عن الظن وما تهوى الأنفس.
ب-عبادة صالحة بعيدة عن الشرك والرياء، التزام بالفروض وتقرب إلى الله بالنوافل والمندوبات.
ج-أخلاق صالحة، فهي صفات حميدة يتصف بها لأنها أوامر من الله سبحانه وتعالى.
د-معاملة تقوم على تحكيم الحلال والحرام فيها، فلا يقصر بواجب ولا يتقاعس عن فرض، ويندفع في عمل الخير من مندوبات ونوافل، ويترفع عن الكثير من المباحات ويبتعد عن المحرمات.
هذا ما يجب أن يكون عليه من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ولاستئناف الحياة الإسلامية وعودة عزة المسلمين ومجدهم.

-----------------------

(1) ٥٤ م المائدة.
(2) ٦٣ ك الفرقان.
(3) ١ ك المؤمنون.
(4) ١٣ ك لقمان.

بقيت مسألة أخيرة جاءت في نهج القرآن الكريم كأسلوب في تثبيت فكرة أو تقريبها إلى الذهن، وبناءً عليه فقد قال أحد البلغاء، بالمثال يتضح المقال، ولذا لا بد من لفت النظر إلى تلك الأمثال التي ضربها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم تثبيتاً لفكرة أو تقريباً لمعنى من المعاني، أو تحريكاً لمشاعر، أو اعمالاً للذهن، فلا بد من إلقاء نظرة ي تلك الأمثلة ومحاولة الاستفادة منها في واقعنا الحالي، ومحاولة إنزالها في الأوقات المناسبة أو استعمال أمثلة تقريبية، ففي استعمال القرآن الكريم إرشاد لنا باستعمال هذه الأمثلة أو ما يناسب المقام أو المقال من مثال.

وأضيف كلمة أخيرة في لفت النظر لمنهاج القرآن الكريم في الدعوة أنني اقتصرت في المنهج فقط على الجانب المكي، أي على مرحلة الدعوة وما تتطلبه قبل إقامة الدولة وإيجاد السلطان للإسلام، أما بعد تلك الحال أي مع وجود السلطان فالوضع مختلف تماماً، فالدعوة ترعاها الدولة، وطريقة الدعوة تختلف إذ يصبح الجهاد هو الطريقة الشرعية لنشر الإسلام وبسط سلطانه.

ولهذا فإنني لم أتعرض إلى الآيات المدنية وما تضمنه منهج المدنية باعتباره منهج دولة، وما اقتضاه منهج الدولة من أساليب وكيفيات وأحكام يختلف عن المرحلة المكية والنصوص التي جاءت تضمنت مواضيع جديدة كآيات الأحكام، وخصوصاً الأحكام المتعلقة بالجهاد أو الأحكام المتعلقة برعاية الشؤون أو الأحكام المتعلقة بإقامة الحدود مما هو من شؤون الدولة، وأحكام الجهاد بشكل مركز باعتباره الطريقة لحمل الدعوة.

كما أن هناك موضوعاً لم يكن يذكر في المرحلة المكية وهو موضوع النفاق إذ إن النفاق والمنافقين لم يكونوا موجودين في مكة، وليست المرحلة المكية مما يدفع للنفاق فهي مرحلة صراع وكفاح ولذلك لم ترد آية واحدة في النفاق أو المنافقين وفي هذا دليل على أن القرآن إنما كان يتنزل على وقائع وأحداث، وأن أفكار الإسلام وأحكامه الآن لا بد وأن تتنزل على وقائع وأحداث تماماً كنهج القرآن الكريم.

وختاماً ألخص ما قصدته في هذا البحث-نهج القرآن الكريم في الدعوة-وما يجب على كل كتلة عمله تبعاً لهذا النهج باعتباره أفكاراً وأحكاماً قطعية جاء بها القرآن الكريم، فهي قطعية من حيث ثبوتها كونها آيات كريمة وقطعية من حيث معناها فهي مواضيع لا تحتمل أكثر من معنى ولا يمكن تأويلها وألخص ذلك بمايلي:-

1-عقيدة المسلمين واحدة، ولكنها تقتضي الشرح والبيان، سواء في الأصول أو في الأفكار المتفرعة عن الأصول لإزالة بعض ما علق بها من غشاوات، وتنقيتها من المظنة والأوهام والترهات، فالعقيدة لا بد وأن تكون يقينية، وأدلتها قطعية، وهذا أول واجب على كل كتلة كما ورد في القرآن الكريم.

2-الرد على أفكار الكفر السائدة في المجتمع وخصوصا الأفكار التي يقوم عليها المجتمع، كالرأسمالية، والرأسمالية المرقعة، والديمقراطية والاشتراكية والقومية والإقليمية والوطنية والإنسانية وغير ذلك. تماماً كما كان نهج القرآن الكريم في الرد على مشركي العرب على اختلاف مذاهبهم، والرد على اليهود وفروعهم الاثني عشر، والرد على النصارى وما قالوا في عيسى وأمه.

3-التصدي إلى ما في المجتمع من علاقات فاسدة وعادات بالية، وتقاليد منحطة وبيان بطلان ذلك وإظهار حقيقته وخصوصاً ما تقوم الدولة برعايته، وما تعمد السلطة لحمايته، كفرض الربا، وإباحة الزنا وشرب الخمر وغير ذلك، تماماً كما هاجم القرآن الكريم ما كان عليه المجتمع المكي من انحلال في العادات والتقاليد، وما كان ينتظمه من أحكام وقوانين، كالتطفيف بالكيل، وإباحة البغاء والاتجار به، ووأد البنات، وقتل الأولاد خوف الجوع وغير ذلك من العادات والمعاملات.

4-التصدي لأئمة الكفر وأولياء الشيطان وقادة السوء ورواد الضلال تماماً كما هاجم القرآن الكريم أبا لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم وكما هاجم الأحبار والرهبان وغيرهم.

5-تحديد الغاية من العمل.
أ-بيان حكمه: أنه فرض.
ب-بيان ما هو: بالأدلة الشرعية بحيث يكون العمل منبثقا من عقيدة المسلم، والعمل نابعاَ من الإيمان.
ج-جعل هذا البيان أشبه بمخطط هندسي تتضح فيه معالم الهدف والأسس التي تقوم عليها الدولة، بشكل يجعلها متصورة في الذهن، ويسهل نقل هذا التصور إلى الأمة حتى يستطيع الفرد أن يتصور كيفية العيش في ذلك الواقع.

6-أن تدرس سيرة الرسول لمعرفة الكيفية التي تم بها تنفيذ هذا المنهج، فلا نفاق ولا مداهنة.

7-أن تكون الفكرة والطريقة معلومة للقيادة، معلومة للأعضاء، معلومة للأمة، عملاً بقوله تعالى:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)(1).
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)(2).

--------------------------
(1) ١.٨ ك يوسف.
(2) ٢٤ م الأنفال.



________________________


الخاتمة

فالسير على نهج القرآن الكريم في الدعوة في أيامنا هذه يقتضي الرد على أفكار الكفر التي نخرت وتنخر جسم الأمة حتى باتت أهدافاً تسعى الأمة لتحقيقها، وآمالاً ومطالب شعبية تثور الأمة للحصول عليها، بالإضافة إلى الهالة التي أحاطوها بها، والقدسية التي أضافوها إليها، حتى بلغ الحال بمفكريهم أن يجعلوها جزءاً من عقيدة الأمة أو أن العقيدة الإسلامية جاءت بها فالإسلام بنظرهم دين الحريات ومصدر الديمقراطية وهو أصل الاشتراكية، ومحمد إمام الاشتراكيين:

الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء

وعن الوطنية والإقليمية والاستقلال والقومية فحدث ولا حرج.

ألا يستحق ذلك وقفة من الدعاة عند هذه الأفكار لفهمها والرد عليها وإبعادها عن أذهان الناس ليدركوا أنها أفكار فاسدة ومفاهيم باطلة ما أنزل الله بها من سلطان إنّما هي أفكار كفر، ومفاهيم ضلال مصدرها عقائد الكفر ومبادئه.

ألم نجد أن القرآن الكريم في نهجه لم يترك فكرة من أفكار الشرك أو الكفر إلا ردها وبين بطلانها. ألم نجد أن القرآن الكريم في نهجه لم يترك فرية افتراها أهل الكتاب إلا بيّنها ورد عليها، وتحداهم في أقوالهم(قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين)1) هذا هو النهج القرآني.

وإنه وإن بدأت تتلاشى تلك الدعوات الكافرة والمفاهيم الضالة، إلا أنّه قد حل محلها مفاهيم مشوهة، وأفكار مغلوطة صاحبت ما يسمى بالصحوة الإسلامية، تريد إبعاد المسلمين عن الوصول إلى غايتهم وتحكيم الإسلام في حياتهم بل استئناف الحياة الإسلامية ولذلك صار من المحتم على المخلصين من الدعاة أن يتنبهوا إلى مثل هذا الأمر فهو واقع جديد يضاف إلى ما سبقه، ولا يصح أن يقال إن هذا أفضل ن السابق، ويكفي منهم أنهم يرفعون شعار الإسلام، وينادون بالتوحيد، ويقومون على إصلاح الفرد فعلينا أن نغض الطرف عن بعض هذه الأمور. لا يصح أن يقال ذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )(2) فلا بد إذن من تبيان هذه المخالفات وكشف خطورتها وبيان أن الإسلام دين كامل لا يصح فيه الإشراك أو التجزئة بإدخال ما ليس منه فيه، إثم إن لم يصل إلى الشرك، وترك ما هو منه إثم كذلك إن لم يصل إلى الكفر فإنكار سورة أو آية أو كلمة من القرآن كفر أو إنكار حديث متواتر فهو كفر كذلك.

فكيف بمن يريد إسلاماً فردياً ليس له سلطان، أو إسلاماً قومياً يقتصر على قطر أو المزج بين بعض الأحكام الإسلامية والقوانين الوضعية، أو وضع بعض القواعد التي تقول بجواز تغير الأحكام بتغير الزمان، أو جعل المصالح مصدراً تشريعياً للأمة، فهذه الأمور وما شابهها يقتضي النهج القرآني التصدي لها وتعريتها وبيان حقيقتها بأسلوب تدركه العامة كما يدركه المفكرون وذلك بالتركيز على أن شريعتنا وحي من الله فقط ولا مجال لاتخاذ العقل مشرعاً أو مصدراً من مصادر التشريع.

بقيت مسألة واحدة وهي معرفة طبيعة الأرض التي يعمل فيها الدعاة، فالفلاح حين يريد استصلاح أرض أو إحيائها لزراعتها لا بد له من معرفة طبيعة هذه الأرض.
1-هل هناك نزاع حول ملكيتها؟.
2-هل هي أرض رملية أو طينية؟ وهل هي سهل أم جبل؟
3-ما هو المناخ في تلك المنطقة، صحراوي، ساحلي، استوائي، جليدي؟.
4-موسم الأمطار فيها؟.
5-هل فيها أدغال أو صخور؟.

لا بد له من معرفة كل ذلك حتى يستطيع أن يعمل ويرسم الخطط، ويوجد الأساليب المناسبة لطبيعتها، وإنه وإن لم يذكر هذا صراحة في نهج القرآن الكريم إلا أنه يفهم من مجمله، فاختيار محمد صلى الله عليه وسلم من بين العرب في مكة وباللغة العربية، وذكر الرسالات والرسل السابقة ممن سمع العرب عنهم وجعل الدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم وتحدي الناس أن يأتوا بمثله، هي مؤشرات على العلم بطبيعة الناس الذين أرسل إليهم. أما معرفة ما يحيط بهم فهناك مؤشر آخر وهو سورة الروم(آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)(3) آيات دالة على اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله من أحداث، وما يجاوره من دول. وهاهو يقول لأصحابه حين أرادوا الهجرة إلى الحبشة اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده.

فالجماعة التي تريد أن تنتهج نهج القرآن الكريم في الدعوة لا بد لها من معرفة أمور ثلاث:

الأول: معرفة واقع القطر الذي تعمل فيه.
هل يصلح لإقامة الدولة واستئناف الحياة الإسلامية فيه وجعله نقطة ارتكاز تنطلق منه لجميع بقية أقطار العالم الإسلامي، وهل السلطان فيه للمسلمين؟ أم أنه مرتبط مع الكفار بمعاهدات أو مجرد عمالة. حتى ترسم له ما يلزمه من خطط وأساليب تمكنها من ذلك.

الثاني: معرفة واقع العالم الإسلامي وما فيه من أقطار وما يجابه من مشكلات وكيف يمكن ضمه إلى جسم الدولة بعد أن يمن الله عليها بالنصر، وهل الدول القائمة فيه دول عميلة أم مخلصة، وهل ترتبط بمعاهدات حماية أو غيرها مع الكفار، و مدى هذا الارتباط. وهل يخضع هذا الجزء من العالم لنفوذ دولة واحدة أم أنه في بؤرة صراع بين الدول الكافرة كل يريده مزرعة له.

الثالث: معرفة الموقف الدولي في كل ظرف لمعرفة الزمن المواتي لاقامة دولة تريد أن تأخذ زمام المبادرة من دول العالم وتتسنم هي مركز القيادة فيه.

فهذه لأمور الثلاثة لا تتأتى إلا بالوعي السياسي الكامل، وبالأعمال السياسية العظيمة تماماً كماجاء في سورة الروم (آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)(4) فقد بلغ الوعي عند كتلة النبي معرفة ما جرى بين الروم وفارس ومعرفة ما سيحصل في بضع سنين، أي أنهم لم يكونوا ليعرفوا الحدث حين وقوعه وإبداء رأيهم فيه بل معرفة ما وراء الجدار، أي معرفة الحدث قبل وقوعه حين وجود مؤشرات إليه، وهذا لا يتأتى إلا بالتتبع الدائم للأحداث، ومعرفة أسبابها واستخلاص النتائج منها.

ولهذا فإن العنصر الأساسي في التكتلات الداعية إلى الإسلام أن تعرف واقعها وواقع القطر الذي تعمل فيه، وواقع الأقطار المجاورة له، وواقع الموقف الدولي أي أنها لا بد لها من الوعي السياسي الكامل، والتعامل مع الأحداث فيه بأعمال سياسية عظيمة، تمكنها مستقبلاً من القبض على زمام الأمور واستلام عجلة القيادة لتكون القائد للعالم بحق وفي هذا يتحقق في الأمة قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا(5).
فكيف للأمة أن تشهد على الناس إن لم تكن في مركز الصدارة ملتزمة عجلة القيادة و أختتم بقوله تعالى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(6).

-------------------------
(1) ٩٣ آل عمران.
(2) ٦٣ م النور.
(3) ١ ك الروم.
(4) ١ ك الروم.
(5) ١٤٣ م البقرة.
(6) ٢١ ك يوسف.

___________________________


الفهرس

  • مقدمة الناشر
  • تمهيد
  • مقدمة
  • القرآن الكريم
  • صخور على جانبي الطريق
  • أسباب استحالة توحيد الأحزاب الاسلامية
  1. النصوص المحتملة لأكثر من معنى
  2. تفاوت الطاقة البشرية
  3. الاختلافات في فهم سيرة الرسول -صلى الله عليه و سلم -
  • الطريق القويم
  1. أولاً : وجوب وجود الاسلام في واقع الحياة
  2. ثانياً : وجوب وجود خليفة للمسلمين
  3. ثالثاً اتباع طريق الرسول - صلى الله عليه و سلم -
  4. رابعاً : السيرة تفهم بالقرآن
  5. خامساً : وجود قطعيات لا يجوز الخلاف حولها
  • هذا هو نهج القرآن الكريم في الدعوة مما يختص بالعقيدة أو الصراع الفكري
  1. الرد على اليهود
  • الصراع الفكري و التصدي للعلاقات الفاسدة و العادات البالية
  • التصدي للفهم السئ
  • الكفاح السياسي: التصدي لقادة المجتمع
  1. كشف المؤامرات
  2. درس من الكفاح السياسي
  • الطمأنينة لحملة الدعوة
  • معنى سيرة الرسول
  1. بيان الغاية
  2. الوعي على الواقع الاقليمي و الدولي
  3. تعدد التكتلات و الجماعات
  • اصلاح الفرد
  • الخاتمة

ليست هناك تعليقات: