الجمعة، 30 يوليو 2010

ماذا تريد من الحياة؟


بقلم نجاح السباتين

ماذا تريد من الحياة؟

ما الذي تسعى اليه؟

ما هي اهدافك؟

اجلس واكتب كل ما تحلم به ..كل ما تريده.. كل ما تسعى الى تحقيقه.

اريد ان اكمل تعليمي

اريد ان اعمل واحصل على دخل مناسب

اريد ان اتزوج

اريد ان انجب اطفالا

اريد ان امتلك بيتا وسيارة

هل فكرت ان يكون من ضمن اهدافك دخول الجنة والنجاة من النار؟

هل حلمت يوما بدخول الجنة… هل حلمت بالفردوس الاعلى ؟

هل جعلت اعظم اهدافك الحصول على مرضاة الله؟

هل فكرت في حمل الدعوة الى الاسلام؟

هل فكرت بالامة الاسلامية وجعلت نهضتها من صمن اهدافك؟

ان الاهداف التي يضعها الانسان هي في حقيقتها اشباع لحاجاته وغرائزه ، وهذه الحاجات والغرائز تحتاج الى نظام لاشباعها، فاذا كان النظام صحيحا كان الاشباع صحيحا مريحا، واذا كان النظام باطلا كان الاشباع خاطئا او شاذا .

ما هو النظام الذي يجب ان التزم به حتى اشبع حاجاتي وغرائزي بطريقة صحيحة؟

ما هو النظام الذي يجب ان التزم به حتى احقق اهدافي واحلامي بطريقة صحيحة تحقق لي السعادة في الدنيا والاخرة؟

هناك مصدران للانظمة والقوانين التي تحكم اهدافنا واحلامنا:

1- المصدر الالهي ، ان يكون النظام نزل من عند الله لينظم حياتنا

2- المصدر البشري، ان يكون النظام من وضع الانسان بكل ما فيه من نقص واحتياج وتأثر بالبيئة والظروف .



ايهما الاصح؟ ايهما الذي يجب ان يتبع؟

لنضرب مثالا :

هذا الموبايل الذي بين يديك له نظام تشغيل، اذا طبقت نظامه حصلت على كامل طاقته. واذا رفضت استخدامه وحاولت تشغيله كما يحلو لك، فقد جعلت منه كومة خردة وحرمت نفسك من الافادة منه.

وهكذا الانسان

اذا حقق احلامه واهدافه وفق النظام الذي وضعه رب العالمين اطلق طاقاته الكامنة لخير البشرية. وحقق السعادة له ولغيره.وهذا ما فعله المسلمون الاوائل عندما اصبحوا سادة الدنيا بفضل تطبق الاسلام ، ولم يشكتي احد من الاسلام ، وانما كانت الشكوى اذا اسيئ تطبيق الاسلام

واذا رفض الانسان استخدام النظام الالهي واصر على استخدام نظام من اختراعه فانه يحطم نفسه وغيره ، ونظرة الى ما تعانيه البشرية من ويلات النظام الرأسمالي تؤكد صدق هذه الحقيقة.

لماذا؟

لان الذي خلق الانسان ادرى بما يصلحه فنزل له نظاما اذا طبقه اشبع حاجاته وغرائزه بطريقة صحيحة وسعد في الدنيا والاخرة.

اما اذا ترك نظام الله واتبع ما صنعه البشر من قوانين وانظمة كان اشباعه اشباعا خاطئا وشاذا وافسد البشرية.

فاذا ما اردنا تحقيق اهدافنا وطموحاتنا واحلامنا يجب ان نرجع الى معيار ثابت الا وهو شرع الله ونظامه ،

فما احله الله فعلناه وما حرمه علينا اجتنبناه

الخميس، 8 يوليو 2010

(الوحدة الوطنية) مفهوم غربي بديل لمفهوم وحدة الأمة الإسلامية


بسم الله الرحمن الرحيم

بدأ الصراع بين الإسلام والكفر منذ بعثة الإسلام. وسيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعبر ثلاثة عشر قرناً من هذا الصراع، اعترى المسلمين بعض الضعف في القوة أدى إلى هزيمتهم عسكرياً في بعض المواقع، إلى أن تم أخيراً هدم دولة الإسلام وتمزيق العالم الإسلامي على أيدي الكفار وعملائهم من أبناء المسلمين، وتم تقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة ذليلة، وأصبح لكل واحدة منها رئيس ووزراء ودستور ونشيد وطني وجيش.

لقد وقع المسلمون في صدمة عنيفة نتيجة هذه الهزيمة المنكرة، وأصبح هناك فراغ فكري في العالم الإسلامي؛ لذلك بدأت تظهر مصطلحات جديدة صاحبت هذا التغيير في واقع الأمة لتحل مكان المفاهيم التي كانت سائدة في ظل دولة الإسلام. ولسد هذا الفراغ بدأت تظهر أدبيات ومصطلحات جديدة نابعة من مفهوم واحد، هو مفهوم الوطن كبديل لمصطلح دار الإسلام.
وبذلك نشأ مصطلح الوطنية والمواطنين والمواطنة والمجتمع المدني لتنظيم العلاقات وتحديدها، وقبل ذلك ظهرت مصطلحات أخرى مثل الثورة والتحرير والمقاومة والاستقلال والقومية والاتحاد والوحدة. هذه المصطلحات والمفاهيم استخدمت لهدم دولة الإسلام، ووجدت الأوطان وهي جمع كلمة وطن، وبدأ العمل الدؤوب لإيجاد محتوى ثقافي جديد تتطلبه المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر؛ لتكتمل حلقاته وتحافظ على هذه الأوطان وعلى التمزق والفرقة.

ومصطلح الوطن هذا تم أخذه من التجربة الأوروبية حيث كانت هذه الدول تتصارع فيما بينها لفترة طويلة تدافع عن أوطانها، فتم أخذ هذا المفهوم على علاّته دون بحث أو تدقيق فيه بمؤامرة كبيرة من عملاء الاستعمار حكاماً وعلماء، وأخذوا يبحثون له عن محتوى ثقافي كبير للمحافظة على كياناتهم ولحرف المسلمين عن الصواب، وقد سادت هذه المفاهيم لفترة زمنية على بعض فئات المجتمع، وأصبحت لها مدلولات درّست في الكتب، وكتب عنها الشيء الكثير، وتغنى بها الشعراء، كل ذلك من خلال برامج أعدت بدقة وإحكام لضمان حملها من قبل الناس.

غير أن بعض الواعين في الأمة تصدوا لهذه الحملات و بينوا زيفها ومصادرها، وأنها حرب تضليلية شعواء على الإسلام والمسلمين؛ لأنها مخالفة لما يحمله المسلمون من أفكار ومفاهيم إسلامية، و طرحت كبديل لمفهوم الخلافة ودار الإسلام والدولة الإسلامية والخلافة الراشدة.

غير أن وسائل الإعلام نجحت إلى حد ما ومن خلفها الحكام في ترويج مصطلح الوطن والمواطنين، وأصبحت قضايا الوطن ومصلحته وهموم المواطن والمواطنين وحقوق الوطن وحاميه أصبحت طاغية على تصريحات المسؤولين والكتاب لمساعدة القيادة السياسية في مسيرة الإصلاح و مصلحة الوطن كما يدعون، وقالوا: إن من لا وطن له لا دين له.

ويلاحظ أن مصطلح الوطن هذا لم يوجد عندنا كمسلمين، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة كمصطلح له مدلول خاص، ولكنه ورد في اللغة ككلمة عربية تدل على واقع معين. فقد ورد في لسان العرب: الوطن هو المنـزل الذي نقيم به وهو موطن الإنسان ومحله، وأوطن: أقام، وواطنه: اتخذه وطناً، وأوطن: اتخذ محلاً ومسكناً يقيم فيه، وقد وردت كلمة مَواطن في القرآن الكريم لمعنى مشهد الحرب قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة 25] فالأصل أن لا يتعدى استخدام هذه الكلمة مكان السكن. فلا يجوز لكلمة وطن أو ما ينتج عنها أن تتعدى أكثر مما استخدمت له من قبل واضعيها أصحاب اللغة، أما ما نتج من مشتقات لكلمة وطن فقد اختلف في تعريفها، وتم الخلط بينها والتخبط في استعمالاتها، وحاول الكتاب وضع تعريفات للوطن والمواطن والمواطنين والوحدة الوطنية، غير أنهم اختلفوا كثيراً في تحديد تعريف جامع مانع لها، وحاول الكتاب وعلماء السلطة تعريف هذه الكلمات ووضع معان اصطلاحية لها مدعومين من قبل الفئة الحاكمة حيث اعتبروا الوطن مصدراً لعزة النفس، وأن الوطن للجميع حتى يكون الجميع للوطن، وأن قوة الوطن تكمن في السيادة والحرية.

وقد ذهبوا لأبعد من ذلك في تأويل أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم), وأن ما فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نموذجاً لمجتمع المواطنة الحقة بغض النظر عن المعتقدات الخاصة بالمواطن, فقالوا إنه وضع دستوراً ينظم العلاقات بين مواطني المدينة وكانوا مختلفي الأعراق. ومن بنودها أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس؛ وبذلك أسس أول مجتمع مدني إنساني في التاريخ.

وقالوا إن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أول وطني حيث قال عندما هاجر من مكة فيما أخرجه الترمذي وأحمد: «واللهِ إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» وإنه وضع قواعد المواطنة. هذا ما طرحه الكتّاب واستدلوا على وجود هذه المصطلحات لأسلمتها.

وبالتدقيق فإنه لا يفهم من الحديث لا مفهوم سياسي للوطن ولا للوطنية ولا للمواطنة، ولا يوجد أي ارتباط لهذه الكلمات مع الحديث الشريف. فالحديث الشريف يدل على واقع مكة ومكانتها من ناحية شرعية لربطها بالعقيدة الإسلامية، ولو كان للوطن مفهوم سياسي لرجع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمكة وسكنها بعد أن فتحها ملتزماً بذلك.

أما خطر مفهوم الوطن وما ينتج عنه فهو ظاهر في الأمور التالية:
1- إيجاد رابطة جديدة تسمى رابطة الوطن أو الرابطة الوطنية أو الوحدة الوطنية بدل رابطة العقيدة الإسلامية والوحدة على أساس الإسلام.
2- نشوء مصطلحات جديدة مخالفة لشرع الله مثل الأخوة مع النصارى والأخوة الإنسانية.
3- إقصاء المصطلحات الإسلامية جانباً مثل الجهاد والعزة ودار الإسلام ودار الحرب والكفار والجزية، ووضع مصطلحات بديلة عنها.
4- إن مفهوم الوطن يركز إمكانية محاربة الآخر بسلاح الوطن وباسم الوطنية، وهذا يبيح للمسلم قتل أخيه المسلم باسم الحفاظ على الوطن أو الاستقلال.
5- تكريس تمزيق بلاد المسلمين والحيلولة دون وحدة بلاد المسلمين بدولة واحدة.
6- محاربة أي عمل من شأنه أن يطبق الإسلام في الحياة.
7- إلغاء فكرة الجهاد ونشر الإسلام.
8- أدى استخدام مفهوم الوطن كأساس إلى اختزال بعض قضايا المسلمين مثل احتلال أرض المسلمين وتحويلها إلى قضية أرض أو وطن تنسحب منها (إسرائيل).
9- أدى اعتماد مفهوم الوطن إلى كبت عملية التغيير باختلاق تهمة الخيانة للوطن والعمالة للأجنبي.
10- أدى مفهوم الوطن إلى رفع شعارات بديلة مثل: الله، الملك، الوطن.

أما الوحدة الوطنية فلقد كثر الحديث عنها في وقتنا الحالي، خاصة في لبنان وفلسطين والعراق ومصر، حيث تدعو المعارضة إلى حكومة وحدة وطنية، وفي العراق يتحدثون عن الوحدة الوطنية في مواجهة تقسيم بلادهم، وفي فلسطين كذلك يتحدثون عن الحوار الوطني والوحدة الوطنية، والتي تبدو وكأنها الدواء لكل داء، فما هو مفهوم الوحدة الوطنية هذه؟
إن مفهوم الوحدة الوطنية مكون من لفظين: الوحدة: وهي لفظة عربية، وهي كلمة محببة إلى النفس، نادت بها الشريعة الإسلامية لوصف الأمة الإسلامية.

أما كلمة الوطنية فهي كلمة نابعة من مفهوم الوطن الذي نشأ من التجربة الأوروبية، ظهر في أوروبا مصطلح الوحدة القومية منذ القرن الثامن عشر وهي رابطة لمجموعة بشرية تجمعها عدة أمور مثل اللغة والجنس والعرق والثقافة. وكان أول ظهور للوحدة القومية في الثورة الفرنسية وفي حرب الاستقلال الأميركية. فساهم ذلك في تشكيل الأنظمة الغربية الموجودة حالياً.
ومع التطور الذي شهدته أوروبا تطور مفهوم الوحدة القومية ليصبح مفهوم الوطن والوحدة الوطنية التي حلت مكان الوحدة القومية. يقول الكاتب الفرنسي جان جاك روسو: إن الرابطة الوطنية النابعة من الرابطة القومية تنشأ عبر التفاعل بين الشعب وعدو له.

وعبَّر المفكر الألماني يورجن هايبرماس عن الوحدة الوطنية أنها الرابطة الناشئة من اندماج إرادة مشتركة بين الأفراد تثبتها حقوق وواجبات دستورية.

أما في الدول القائمة في العالم الإسلامي فقد وضع مصطلح الوحدة الوطنية مستنداً إلى المفهوم الأوروبي استناداً كلياً, وعلى غرار ما وضعه الاستعمار من حدود سياسية قائمة على أنقاض الدولة العثمانية.
وقد عرف الدكتور عبد الله آل مبارك الوحدة الوطنية بأنها اتحاد مجموعة من البشر في الدين والاقتصاد والاجتماع والتاريخ في مكان واحد.

أما الكاتب الفلسطيني فيصل الحوراني فينطلق من الواقع المأساوي للشعب الفلسطيني الذي يربط الوحدة الوطنية بدحر الاحتلال، بغض النظر عن المنطلقات والمفاهيم.

أما الكاتب العراقي أحمد النقشبندي فيربط الوحدة الوطنية باعتبارات ناشئة عن معطيات جغرافية وثقافية ولغوية، ويربطها بأفعال ناجمة عن الشعور الصادق بالمسؤولية تجاه المجتمع؛ لأن الكل مسؤول مسؤولية تضامنية تجاه الوحدة الوطنية.
أما الكتّاب والمفكرون ذوو الاتجاه الإسلامي مثل حمزة منصور فقد قالوا في الوحدة الوطنية إنها فريضة شرعية وضرورة حياتية، ولكنها ليست بمعزل عن الوحدة العربية والإسلامية. ويستشهد حمزة منصور على موقع جبهة العمل الإسلامي على شبكة الإنترنت أن فرضية الوحدة الوطنية آتية من قوله تعالى ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران 103] وقوله تعالى ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران 104] وقوله تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة 2] وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان» (رواه مسلم) وقد أورد شواهد للدلالة على الوحدة الوطنية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
1- شارك في حلق الفضول
2- كتب وثيقة المدينة لتنظيم حياة مجتمع متعدد الديانات والأعراق.
3- أعطى الأولوية للرحم والجوار.
4- تدرج في الأولوية إزاء الغزو الأجنبي، فالأولوية للبلد الذي تعرض للغزو ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
5- موقف حسن البنا في الوطنية حيث قال: «إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها، أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته، والمسلم أعمق الناس وطنية وأعظمهم نفعاً لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض من رب العالمين».

هذا ما قاله الكتّاب في الوحدة الوطنية ومجمل قولهم يدل على أنهم لم يدققوا في مفهوم الوحدة الوطنية، ولم يقفوا على دلالاته ونشأته، وبذلك تم مدح هذا المفهوم واستخدامه والتركيز عليه، وهذا مخالف للواقع. فكلامهم مرفوض جملةً و تفصيلاً. أما من قال بأن الوحدة الوطنية هي فرض مستدلاً على قوله بآيات من كتاب الله فهو استدلال في غير مكانه, وليّ لأعناق النصوص وتحميلها أكثر مما تحتمل, ومخالف لشرع الله. فموضوع الآيات التي تم الاستدلال بها بعيد جداً عن مفهوم الوحدة الوطنية، فآية ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ [آل عمران 103] أمر بالالتزام بشرع الله، وهو أمر للمسلمين بعدم التفرقة، والوحدة على أساس الإسلام؛ فلا يمتّ للوحدة الوطنية بصلة. أما آية ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ [آل عمران 104] فهي أمر بتأسيس حزب أو جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس لها علاقة بالوحدة الوطنية لا من قريب ولا من بعيد. أما الحديث فإنه يأمر بوحدة المسلمين على أساس الإسلام وليس على أساس الوطن، وحرمة تفرقة المسلمين. أما حلف الفضول فإنه لرد الظالم عن ظلمه وليس له علاقة بالوحدة الوطنية. أما موضوع الأولوية في رد العدو عن البلد المعتدى عليه فهو خاص بالجهاد ودفع العدو وليس له علاقة بالوحدة الوطنية. أما موقف حسن البنا الذي استدلوا به فهو كلام بشر وليس حكماً شرعياً ولا يوجد عليه دليل شرعي.

هذا ما قاله بعض الكتّاب في الوحدة الوطنية، أما واقعها فيدل على أنها رابطة نابعة من مفهوم الوطن كما ذكرنا, الناشئ من التجربة الأوروبية، وهي تربط بين أبناء القطر الواحد على أساس مكان السكن، بغض النظر عن الدين والمبدأ، وتسمح بأن يتحد الكافر والمسلم والبوذي والنصراني واليهودي. وكذلك تجعل الكافر أخاً للمسلم في أخوة جديدة أوجدها مفهوم الوطن الذي يتطلب إيجاد قواسم مشتركة بين الفرقاء والأحزاب. فالوحدة الوطنية تفرض التخلي عن جزء أساسي من الثوابت والقناعات ليقبل الطرف الآخر، فالنتيجة حل وسط يرضي الجميع بغض النظر عن الدين والشريعة. وغالباً ما توجد هذه الرابطة عند وجود عدو يعتدي على هذا البلد ولا تلبث أن تزول عند زوال السبب فيه، فهي رابطة مؤقتة، وهي موجودة أيضاً عند الحيوان كما هي عند الإنسان، فهي رابطة غريزية هابطة حيوانية لا تصلح لبني البشر، كما أنه لا يوجد لها نظام حياة لمعالجة مشاكل الإنسان منبثق عنها، وكذلك فإن الوحدة الوطنية تضفي الشرعية عن كل ما ينتج عنها، وهي تعني التخلي عن عقيدة الولاء والبراء، وتعني اعتبار الأخوة في الوطن فوق كل اعتبار.

وعلى هذا فلا حجة لأحد ولا دليل على وجود الوحدة الوطنية وعلى استخدامها كرابطة تصلح لبني البشر؛ فلا يجوز الدعوة أو الترويج لها ولا استخدامها كمصطلح شرعي. قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات 10] وهذا حصر للرابطة بين المسلمين، وهي الرابطة على أساس الإسلام وليست الرابطة الوطنية.

كما أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رفض كل الحلول الوسط مع الكفار, ولو كان الأمر في الحلول الوسط مشروعاً لتوحد الرسول مع قريش وحدة وطنية بدل الحرب بينهم. لكن الواجب هو الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لأن وحدتنا على أساس الشريعة هي الأساس الذي أمرنا به الإسلام.

وأخيراً فإن التعلق بمفهوم الوطن وما نتج عنه من وحدة وطنية، ومحاولة فرضها على أمتنا الإسلامية، والتركيز عليها من قبل الحكام وأعوانهم وأسيادهم، ليدل على الهجمة الشرسة التي تلف أمتنا من كل جانب. ولكن هؤلاء راهنوا على فرض هذه المفاهيم, بيد أن انتشار أفكار الإسلام ومشاعره، ووجود حملة الدعوة العاملين على نشرها، سيقضي بإذن الله على كل هذه الأفكار الدخيلة، ويُحل مكانها الأفكار والمفاهيم الإسلامية.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

موسى عبد الشكور الزغير

المصدر: مجلة الوعي

الثلاثاء، 6 يوليو 2010

الأزمة المالية الاقتصادية العالمية: أزمة مبدأ ولا حل لها إلا بتطبيق النظام الإسلامي (2)



بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا المقال أن الرأسمالية هي مبدأ أزمات، وأن الأزمة المالية الحالية امتازت بالشمولية والامتداد والمفاجأة، وعرضنا للأسباب المباشرة وغير المباشرة لهذه الأزمة. نعرض في هذه الحلقة الأدوات التي يعتمد عليها النظام الرأسمالي للسيطرة على الاقتصاد العالمي، ثم موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي والبديل الذي يقدمه: عقيدة المبدأ، ملكية الثروة وتوزيعها في الإسلام، السياسة الاقتصادية في الإسلام والمعالجة المباشرة، ثم موقف الإسلام من نظام الربا في البنوك والمصارف وكذا الأسواق المالية والمضاربات.
أدوات النظام الرأسمالي للسيطرة على الاقتصاد العالمي

1- النقود الورقية الإلزامية:
عندما كان النظام النقدي العالمي يعتمد على الذهب والفضة لم تكن هناك مشكلة في الأسعار لثبات قيمة النقود على المدى الطويل، فكانت النقود تقوم بوظيفتها كمقياس للتبادل ومخزون للقيمة ومقياس للمنفعة، وكان النقد ينتج نقداً بوسيط وهو الإنتاج فكانت القاعدة (نقود-بضاعة-نقود). ولكن لطبيعة النظام الرأسمالي فالنقود المغطاة تغطية كاملة أو بوزن معين من الذهب لم تكفِ لأن الرأسمالي ينفق عادة أكثر مما يملك، فأحدث فكرة طباعة نقود بلا غطاء. فأثناء الحرب العالمية الأولى احتاجت الدول الغربية الرأسمالية لأموال ضخمة تموّْل بها الحرب، فطبعت عملات ورقية بلا غطاء، وأخذت تكذب على العالم بإعطائهم ورقاً فاقداً لقيمته كنقد مغطّى، وعندما انكشف ذلك للعالم تدهورت عملات هذه الدول سيما ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وعندما دخلت أميركا في الحرب العالمية الثانية كانت تملك أكبر احتياطي من الذهب في العالم، فاستغلت الوضع العالمي وجمعت الدول الرأسمالية في بريتون وودز وعقدت معهم اتفاقية في 1994م، وجعلت بموجبه الدولار شريكاً للذهب، والتزمت بان كل من يملك 35 دولاراً تعطيه أوقية ذهب باعتبار أن الذهب مكدس عندها، ولكن أميركا لم تكن أحسن من الدول الأوروبية، فعندما دخلت في حرب الفيتنام طبعت نقوداً بلا غطاء وتسرب ذهباً إلى العالم من قبل الشركات وغيرها، وفي 15/08/1971م أصدر نيكسون قراره بنقض اتفاقية بريتون وودز وعد التزام أميركا بتبديل الدولار بالذهب. وانتقل العالم بعد ذالك إلى مرحلة جديدة وهي هيمنة الدولار، لأن الدول كانت تخزن الدولار باعتباره ذهباً.

إن الأصل في الكتلة النقدية أن تغطى بالإنتاج الحقيقي لدى أية دولة، وعندما يتم طبع أي نقود بلا غطاء يجعلها تدخل في دورة الاقتصاد بزيادة الكتلة النقدية وذلك يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة. ولولا أن الدولار يحتفظ به كمدخرات "عملة صعبة" في البنوك المركزية للدول الأخرى، ما يجعلها تدعمه إذا انخفض، ولولا المؤامرات والمناورات السياسية والاقتصادية التي ترتبها أميركا من خلال هذه الأداة "الدولار" لانهار هذا الأخير منذ زمن. وفي الأزمة المالية العالمية الراهنة تطالب الكثير من الدول بعملة مرجعية بديلة للدولار هي الذهب، لأن أية هزة تصيب الاقتصاد الأميركي تنتقل تلقائياً إلى كل دول العالم.

2 - المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي كنموذج):
في عام 1944م اجتمعت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في بريتون وودز الأميركية لعقد أول اتفاقية نقدية عالمية، وأنشأت بموجب هذه الاتفاقية مؤسسة صندوق النقد الدولي للإشراف على تنفيذ الاتفاقية بمهمتين رئيسيتين هما:

أ- تثبيت سعر الصرف؛ وذلك بأن تعلن كل دولة منتسبة إلى الصندوق عن سعر صرف ثابت لعملتها المحلية، مع التزام كل دولة بسعر الصرف المعلن عن طريق تدخل مصرفها المركزي مباشرة.

ب- منح قروض قصيرة الأجل للدول الأعضاء؛ وهذه المهمة التي أُوكلت للصندوق جعلته يتدخل في الشؤون الاقتصادية للدول الأعضاء (غير الاستعمارية) ومن ثم الهيمنة الأميركية على اقتصاداتها، وذلك من خلال إيقاع الدول في مصيدة الديون بالتعاون مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهي قروض ذات فوائد مركبة. إذاً ما يقوم به الصندوق تجاه الدول المقترضة أقل ما يقال عنه إنه سياسة إفقار الشعوب. وللتوضيح أكثر نسلط الضوء على الشروط التي يفرضها هذا الصندوق على الدولة التي تريد الحصول على قروض:

1- قيام الدولة الطّالبة للقرض بتخفيض سعر عملتها (رغم أن الأساس الذي قام عليه الصندوق هو تثبيت سعر الصرف).

2- إلغاء مختلف أشكال الحماية الجمركية للمنتوجات المحلية لأنها تؤدي حسب وجهة نظر الصندوق إلى غياب المنافسة الدولية، وبالتالي انخفاض إنتاجية العمل في الدول الفقيرة.

3- إعطاء الحرية الكاملة لدخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى الدول الفقيرة؛ من أجل تمويل الاستثمارات فيها ونقل التكنولوجيا إليها.

4- إلغاء الدعم عن جميع أسعار السلع الغذائية والمواد الضرورية؛ لأن سياسة الدعم على حد زعم الصندوق لا تساعد على تنمية الناتج المحلي الإجمالي من هذه السلع.

5- اتباع سياسة التقشف في النفقات الحكومية مثل التعليم والتطبيب والإنفاق على البنى الأساسية.

6- تجميد الأجور والحد من العمالة الحكومية.

7- رفع الرقابة على الأسعار.

يلاحظ أن هذه الوصفة العلاجية المزعومة لا تعدو كونها سياسة إفقار متعمدة لا تستطيع الدولة المقترِضَة الفكاك منها لعقود، وبخاصة وأن القرض يكون بربا حيث يصل مع الزمن حداً يفوق رأس المال.

3- سياسات السوق -الخصخصة- العولمة:
إن سياسات السوق تطبيق لحرية التملك المنبثقة عن عقيدة المبدأ الرأسمالي ولكن بشكل دولي، وهي تكون بتمكين الرأسماليين من حرية التملك عن طريق العلاقات التجارية بين الدول. وسياسة ذلك إنهاء تدخل الدولة في التجارة بوجه خاص وفي الاقتصاد بوجه عام.

والذي لا يخفى أن الدول الرأسمالية تهدف بسياسات السوق فتح سائر أسواق العالم أمام منتجاتها المتفوقة، وأمام استثماراتها، لكي تظل الدول النامية تحت سيطرتها التجارية والاقتصادية، وبه تحول دون بنائها اقتصادها على أسس متينة تؤدي لتحريرها من التبعية الاقتصادية للدول الغنية.

أما الخصخصة؛ وهي تحويل المصانع والمؤسسات والمنشآت والمرافق الاقتصادية من ملكية الدولة أو الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، فهذه الأداة قد كانت لها آثار خطرة تُضم إلى قائمة الفشل الرأسمالي أذكر منها:
أ- حرمان عامة الناس من حقهم في الاستفادة من الملكيات العامة مثل الماء والنفط.
ب- تركز الثروات بكل أنواعها بأيدي قلة قليلة من الأفراد أو الشركات، وحرمان الأغلبية من الناس من الاستفادة من هذه الثروات.
ج- اقتران الخصخصة في البلاد الإسلامية بفتح الباب أمام المستثمرين الرأسماليين يعني وقوع البلاد تحت الاستعمار.

أما العولمة فهي إفراز آخر للنظام الرأسمالي، فالعولمة هي الناتج الأساسي لعمليات التحرير المالي والتحول إلى ما يسمى بالاندماج المالي، ما أدى إلى ارتباط الأسواق المالية المحلية بالعالم الخارجي من خلال إلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال. فهي انفتاح إجباري فرضته الدول الرأسمالية الكبرى لتكون المستفيد الأول والأكبر من هذه الظاهرة على حساب باقي الدول النامية. ويمكن تلخيص أهم مخاطر العولمة المالية على البلدان النامية فيما يلي:

1- المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية لرأس المال: حيث تتميز الأسواق المالية الدولية بالتذبذب وعدم الثبات، ما يؤدي إلى انهيارها لعدم تناظر المعلومات بين مختلف المتعاملين. كما أن قرارات المستثمرين في السوق المالي جد حساسة تجاه الأحداث الجارية في الأجل القصير، وبالتالي إذا ما حدثت أزمة ثقة في سوق ما في بلد ما يتم تصفية استثماراتهم على نحو واسع والخروج بها من ذلك البلد، وإذا ما استرجع السوق الثقة تعود الأموال بشكل واسع. وهذا الدخول لرأس المال الأجنبي الواسع والمفاجئ يحدث آثاراً وانعكاسات سلبية على استقرار الاقتصاد في البلد.

2- مخاطر تعرض البنوك للأزمات: حيث تشير الدراسات إلى أنه خلال الفترة 1980م-1996م وهي الفترة التي تعاظمت فيها قوة دفع العولمة المالية حدثت هناك أزمات في الجهاز المصرفي فيما لا يقل عن ثلث الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي. ورغم أسباب أزمات البنوك إلا أن الأزمات المعاصرة للبنوك أثبتت صلتها الواسعة بالعولمة.

3- المضاربات في أسواق المال: حيث يحقق المضاربون في أسواق المال أرباح خيالية ليس في إمكان قطاعات الإنتاج الحقيقي تحقيقها، وذلك باستغلال الثغرات القانونية التي وفرها التحرير المالي المحلي والدولي، أي بسبب العولمة.

4- مخاطر دخول الأموال القذرة (غسيل الأموال): إن إلغاء الرقابة على الصرف وحرية دخول وخروج الأموال عبر الحدود، فتحت أمام المستثمرين الأجانب قنوات إضافية لغسيل الأموال القذرة (إخفاء المصدر غير الشرعي لتلك الأموال، كأرباح الاتجار في المخدرات مثلاً).

5- انتقال عدوى الأزمات المالية: حيث ما حدث في الأزمة المالية الراهنة يعود أساساً لعولمة الأسواق، فلولا العولمة وارتباط الاقتصاد الأميركي بالاقتصاد العالمي لما أصبحت أزمة الرهن العقاري الأميركية أزمة عالمية.

4- البورصات والأسواق المالية:
الأساس في إنشاء البورصات هي شركات المساهمة الرأسمالية والبنوك، فطبيعة شركات المساهمة تؤدي إلى انفصام أسواق الأسهم والأوراق المالية الأخرى عن الاقتصاد الحقيقي، أي عن واقع الشركات التي يتداول بأسهمها. فقد أصبحت قيمة السهم لا تحدد بناء على موجودات أو أرباح الشركات بمعنى آخر أنها لا تحدد بقيمة مرجعية، بل بناء على العرض والطلب لأسهم الشركة والمضاربات، وهذا يدل على انفصام العلاقة بين واقع الشركة الاقتصادي الفعلي وبين الأسواق المالية، وإلى صيرورة سوق الأسهم سوقاً كبيراً للقمار.
وكذلك فإن النظام المعمول به في البورصات والأسواق المالية، من بيع وشراء للأسهم والسندات والبضائع دونما شرط التقابض بل تشترى عدة مرات، دون انتقالها لبائعها الأصلي، كل ذلك يشجع المضاربات والأزمات في الأسواق المالية.

من خلال ما تم التطرق إليه حول أسس وإفرازات النظام الرأسمالي وحول أهداف المجتمع الدولي وهي: القضاء على الفقر، والتنمية المستدامة، والعدالة في توزيع الفرص والدخول، والحياة في بيئة نظيفة؛ نجد الفشل الذريع فيها كلها: فزيادة الفقر، وتنمية متذبذبة ولبلاد معينة (الكبار فقط)، وظلم في توزيع الفرص والدخول، وإزالة طبقات وهيمنة طبقة واحدة على الثروات. أما البيئة النظيفة فحَدِّث ولا حرج بعد التلوث الكبير الذي سببته الدول الرأسمالية "الكبرى" كالاحتباس الحراري، ومع ذلك فقد كانت هذه الدول أول من لا يتقيد باتفاقات حماية البيئة.

موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي والبديل الذي يقدمه:
إذا كان النظام الرأسمالي من وضع البشر، فهو يخضع لأهوائهم وآرائهم، لذا فآثاره كانت سلبية ووخيمة على أغلبية البشر، لاسيما انتشار الفقر والمجاعة والحروب، فعلى العكس فإن النظام الإسلامي بشريعته التي جاءت من عند خالق البشر العليم الخبير بما خلق وما يصلح لهم، فإنه الحق والمنهج السليم لهم في هذه الحياة بكل جوانبها. وتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي كما أَمَرَتْ به الشريعة الإسلامية يخلصنا من آثار الاقتصاد الوضعي الذي أثبت ويثبت فشله وتناقضه مع مبدأ تكريم الله للإنسان وخلافته وتمكينه في الأرض، وبذلك فهو الأصيل وليس البديل. وفيما يلي نحاول إيجاز موقف الإسلام من أساسات النظام الرأسمالي وبالتالي النظام الأصيل الذي يقدمه للإنسان بما يوافق فطرته ويعالجها معالجة صحيحة متوازنة ومتكاملة.

أولاً- عقيدة المبدأ (النظام الإسلامي): الله هو خالق الوجود، وهو الحاكم على الأفعال، ومُشَّرِع نظام الحياة بما فيه النظام الاقتصادي للبشرية، لأن النظام الاقتصادي الإسلامي قد رسمه الله سبحانه لمخلوقاته وهو العليم الخبير بشؤونهم حيث يقول عزّ وجلّ: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك 14]. بينما عقيدة المبدأ الرأسمالي قائمة عن فصل الدين عن الحياة، وذلك يعني أن المشرِّع هو الإنسان من مفكرين وساسة، ليتم سن النظم والقوانين وفق وجهات نظرهم المحدودة في هذه الحياة وفي حدود العقل، وهذا لا يقول به عاقل، والنظرة النفعية المادية كانت خطرة على أهلها فضلا عمّن وقع عليه الاستغلال.

ثانياً- ملكية الثروة وتوزيعها في الإسلام:
الملكية في الإسلام ثلاثة أصناف: ملكية فردية، وملكية عامة، وملكية دولة، والدولة هي التي تصون هذه الملكيات الثلاث، وتحافظ عليها وفق الأحكام الشرعية:

الملكية العامة: تشمل المناجم الصلبة والسائلة والغازية، كالبترول، والحديد والنحاس والذهب والغاز وكل ما في باطن الأرض، والطاقة بكل صورها، والمصانع الكبرى التي تكون فيها الطاقة عنصرًا أساسًا فيجب أن تتولى الدولة استخراجها وتوزيعها على الناس عيناً وخدمات.

ملكية الدولة: وهي ما تأخذه الدولة من ضرائب بأنواعها، وما تنشئه من تجارة وصناعة وزراعة في غير الملكية العامة، وهذه تنفقه الدولة على مرافق الدولة والبنى التحتية.

الملكية الخاصة: وهي ما كان مصرفها منوطاً بالأفراد في غير الملكية العامة ويكون وفق الأحكام الشرعية، وهي مصونة تمنع الدولة الاعتداء عليها، ولا يجوز لأحد أن يأخذها غصباً.

إن المشكلة الاقتصادية في النظام الإسلامي هي توزيع الثروة بين الأفراد، لذلك تجد الأحكام الشرعية قد تضمنت توفير إشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً لكل فرد من أفراد رعية الدولة الإسلامية، من مأكل وملبس ومسكن، حيث قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة 233]. وقال عز وجل: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [الطلاق 6]. وعليه فالحاجات التي يعتبر عدم إشباعها فقراً هي الطعام والكسوة والمسكن، أما ما عداها فيصنف ضمن الحاجات الكمالية ولا يعتبر عدم إشباعها فقراً. ولقد عولجت مشكلة الفقر في الإسلام، والتي سببها سوء التوزيع للثروة عن طريق المعالجة المباشرة وعن طريق السياسة الاقتصادية.

المعالجة المباشرة:
وهي من جانبين، الجانب الأول: فيما يتعلق بالفرد نفسه، حيث حث الإسلام الفرد على الكسب وعلى طلب الرزق، بل جعل السعي في طلب الرزق فرضاً على الرجل القادر، حيث يقول الله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك 15].

الجانب الثاني: فقد جعل الشرع إعانة الفقير على غيره، حتى يتوفر له ما يشبع هذه الحاجات الأساسية، وقد فصلها على النحو التالي:

أ- أوجبها على الأقارب الذين يكونون رحماً محرماً له، قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة 233]، أي على الوارث مثل المولود له من حيث الرزق والكسوة.

ب- إن لم يكن له أقارب ممن أوجب الله عليهم نفقة قريبهم انتقلت إلى بيت المال في باب الزكاة.

ج- إن لم يفِ قسم الزكاة من بيت المال في حاجات الفقراء والمساكين كان واجبا على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «... وَالإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...» (البخاري عن ابن عمر).

د- إن لم يوجد في بيت المال مال يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها، فسدّ حاجات الفقراء فرض على جميع المسلمين، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «... وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» (رواه أحمد عن ابن عمر).

السياسة الاقتصادية في الإسلام:
سياسة الاقتصاد هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان، وسياسة الاقتصاد في الإسلام هي ضمان إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، مع تمكين الأفراد من إشباع حاجاتهم الكمالية. فالإسلام في الوقت الذي يُشًّرع أحكام الاقتصاد للإنسان يجعل التشريع موجهاً للفرد. وفي الوقت الذي يعمل لضمان حق العيش، والتمكين من الرفاهية، يجعل ذلك يتحقق في مجتمع معين، له طراز خاص من العيش.وعلى هذا فإن سياسة الاقتصاد في الإسلام ليست لرفع مستوى المعيشة للأفراد أو للتنمية فحسب، دون النظر إلى ضمان انتفاع كل فرد من هذه التنمية.

وهناك آيات كثيرة تدل دلالة واضحة على أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد تهدف إلى كسب المال، والتمتع بالطيبات وفق الأحكام الشرعية. فالإسلام حث الأفراد على الكسب، وأمرهم بالانتفاع بالثروة التي يكسبونها، وذلك لتحقيق التقدم الاقتصادي للبلاد.

ثالثاً- نظام الربا في البنوك والمصارف:
حرم الإسلام الربا تحريماً باتاً مهما كانت نسبته قليلة أو كثيرة، فقد وصف الله آكلي الربا كمن يتخبطه الشيطان من المس حيث يقول عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة 275] فالإسلام يجيز المتاجرة بالمال وليس في المال، حيث حرم الإسلام بيع النقود بالنقود ذاتها مع زيادة، وحرم كنـز المال واحتكاره حيث يقول المولى عزّ وجلّ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة 34]. كما نهى عن حصر تداول المال بين فئة قليلة من الناس. حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر 7].
ولكن الأنظمة الوضعية وعلى رأسها النظام الرأسمالي قامت بتحويل المال إلى التداول بين عدد محدود من رجال الأعمال وعدد محدود من المصارف والشركات العملاقة والبورصات، فأصبح التداول بالمليارات محصوراً بين قلة من المؤسسات الكبيرة، فخرجت بذلك عن سنن الله.

والإسلام حل مشكلة الحاجة إلى المال على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشركات، فقد رغب الإسلام بالإقراض ولكن دون منفعة أو فائدة لأنها ربا وهي محرمة، ونصوص كثيرة في القرآن تحث على أن يكون المرء في عون أخيه وأن يفرج كُرِبَتَهُ.

وفي بيت مال المسلمين ديوان يسمى ديوان الفيء والخراج، تستطيع الدولة أن تقرض منه من تشاء لإقامة المشاريع أو تأسيس الشركات أو التجارة وكل هذا دون ربا.

رابعاً- الأسواق المالية والمضاربات:
في الشريعة الإسلامية لا يجوز بيع السلع قبل أن يحوزها المشتري، فحرم الإسلام بيع ما لا يملك الإنسان، وحرم تداول الأوراق المالية والسندات والأسهم الناتجة عن العقود الباطلة، وحرم وسائل النصب والاحتيال التي تبيحها الرأسمالية بدعوى حرية الملكية.

وبدلاً من ذلك فالإسلام أباح البيع والشراء، ولكنه اشترط حدوث التقابض والتسليم، وبذلك يحافظ الإسلام على الاقتصاد ليبقى حقيقياً، ولا يتحول إلى اقتصاد وهمي.

أما بالنسبة لنظام النقد الورقي الإلزامي فقد كان النظام المعدني هو النظام السائد من قديم الزمان قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام أقرّ الرسول عليه الصلاة والسلام التعامل بالدنانير والدراهم، أي بالنظام المعدني، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي تقاس به أثمان السلع وأُجْرَة الجهود والخدمات.

فالإسلام قد نص على أن يكون الذهب والفضة هما النقد لا غير، وأن الأوراق النائبة يجب أن تكون مغطاة بالذهب والفضة بكامل القيمة وتستبدل حال الطلب. وبذلك لا يتحكم نقد ورقي لأية دولة بالدول الأخرى، بل يكون للنقد قيمة ذاتية ثابتة لا تتغير.

وفي ختام هذا الطرح يمكن القول إنه على الرغم من كل المآسي والأزمات التي سببها النظام الرأسمالي إلا أن الغرب يتقن الدعاية لمنجزاته، ونمط عيشه، وأنظمته المتعددة، فيبدو لها بريق أكثر مما هي عليه فعلاً، فتكون النتيجة المزيد من انبهار الناس بحضارته وأنظمته، فيغدو التقليد الأعمى سمة المُنْبَهِرِين، فيظنون أنّ هذا النظام لا مثيل له، ولا بديل عنه، فتضيع الهوية، ويغيب الموقف الواضح. ولو تدبر هؤلاء المُنْبَهرون واقع الرأسمالية لرأوها فاشلة منذ زمن مضى وليس منذ تفجر الأزمة الاقتصادية الحالية فحسب، ولرأوا أن أسس النظام الرأسمالي قد نخر فيها السوس منذ نُشوئِها.
فالنظام الرأسمالي يحمل في أحشائه أسباب فشله، وبخاصة عندما يتعرض للأزمات، حيث تنهار أسسه، وتتدخل الدول في هذه الأسس التي هي في أصل تكوينها تتعارض كلياً مع تدخل الدول، فالنظام الرأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، والنظرية الكلاسيكية له ترفض تدخل الدولة، وتقول باليد الخفية والتوازن التلقائي للاقتصاد. ولم يواجه ذلك التدخل بالرفض، بل باركه علماء الغرب لأن فيه حسب قناعاتهم إنقاذاً من أزمة قاتلة، وبدلاً من أن يقولوا عن الرأسمالية فشلت في معالجة المشكلة الاقتصادية، ففي نظرهم هذا أصلح الموجود. أما سبب ذلك فأنهم جهلوا أو تجاهلوا النظام الاقتصادي الإسلامي، وقارنوا الرأسمالية التي على وشك الانهيار بالنظام الاقتصادي الشيوعي الذي انهار، فاختاروا ترقيع الرأسمالية.

فالمبادئ التي تقوم عليها الدول لا تنهار بمجرد الفشل، بل تزول إذا تخلى عنها أصحابها، أو إذا أطاحت بها دولة أخرى. فعلماء الغرب أدركوا فساد نظامهم ولكنهم يكابرون ويصرون على رأسماليتهم. فلا يُتوقع من الغرب أن يترك الرأسمالية ليعتنق الإسلام، وإن كان يرى فيه الحل، فكل الإصلاحات التي ينادي بها الغرب إنما تدور حول تقنين الرأسمالية ووضع المزيد من الرقابة والقيود.

وعليه فإن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية هي أزمة مبدأ؛ لأنَّ تشريع البشر باطل من الأساس، لقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [يوسف 40]، والحكم هنا بمعنى التشريع، أي الأمر والنهي والإباحة.

وأخيراً نخلص إلى أن النظام الاقتصادي الإسلامي العريق الذي تضرب جذوره في أعماق التاريخ، يكفل الحياة الكريمة للناس كافة، المسلم وغير المسلم، ما داموا يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، التي تحفظ أمنهم وعيشهم مهما اختلفت أجناسهم وأديانهم وأعراقهم، وهو النظام الذي عمّر في الأرض فوق أي نظام آخر، وكان الناس ينعمون بحياة اقتصادية خالية من الأزمات، وقد حدث خلالها أن كان يُبحث عن العثور على فقير ليعطوه ما يستحقه من بيت مال المسلمين، ومع ذلك لم يجدوه.
[انتهى]

المصدر : مجلة الوعي

الأزمة المالية الاقتصادية العالمية أزمة مبدأ، ولا حل لها إلا بتطبيق النظام الإسلامي (1)



بسم الله الرحمن الرحيم

أ. ط. عائشة/ أستاذة مساعدة كلية العلوم الاقتصادية وعلوم التسيير (الجزائر)

بعد أن فشلت الاشتراكية في توفير الحياة الاقتصادية الآمنة للناس، وبعد أن غرقت الرأسمالية في مستنقع الأزمات المتتالية التي كشفت زيفها وأظهرت عوارها، فإنّ الإسلام هو وحده القادر بأحكامه التي جاءت من عند خالق البشر أن يوجد نظاماً آمناً مستقراً، لذا فإنّنا نحاول في هذه المقالة التطرق للعناصر التالية:
- الأسباب المباشرة وغير المباشرة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية: الأسباب المباشرة (مشكلة الائتمان ومشكلة المضاربات في الأسواق المالية)، الأسباب غير المباشرة للأزمة: الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي (عقيدة المبدأ، التركيز على تنمية الثروات دون توزيعها، إطلاق الملكيات، النظام المصرفي والبنوك، الشركات الرأسمالية).

إن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة إذا ما تم دراسة حقيقتها، نجدها أنها ليست أزمة عادية ولا عابرة ولا هي من نوع الأزمات الروتينية الناتجة عن طبيعة النظام الرأسمالي الذي من شأنه أن تتولد عنه أزمات دورية منتظمة، فقد أحصى صندوق النقد الدولي عدد الأزمات المالية التي وقعت في العالم الرأسمالي فقط خلال الثلاثين سنة الماضية فوجدها تفوق المائة أزمة. فبعد أزمة 1929م -الكساد الكبير- عند انهيار سوق الأسهم الأميركية مسبباً الكساد والركود الذي عمّ العالم، كانت أزمة انهيار وول ستريت عام 1987م عندما خسر مؤشر دون جونز 22.6% من قيمته، ومن ثَمَّ إلى الأسواق المالية العالمية، وأزمة عام 1997م عندما حصل هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى بدأ في هونغ كونغ، فاليابان فأوروبا ثم أميركا، وقيل حينها إن بورصة هونغ كونغ خسرت في يوم واحد ما يقارب تريليون دولار، وقبلها كانت أزمة ما يعرف بالنمور الأسيوية، وأزمة 2002م حيث تراجعت أسواق المال العالمية بعد التزوير في حسابات شركة أنرون (Enron). وبعد الفضائح الأخيرة لـParmalat التي أيقظت ضرورة الحذر من الحسابات المفصح عنها لتفادي الأزمات، وكل ذلك كان قبل الأزمة الحالية. غير أن هذه الأزمة وكما عبروا عنها أنها "تسونامي القرن" وهي وليدة الرأسمالية التي طغت عليها العولمة والخصخصة ومضاربات أسواق المال. فأسباب الأزمة الحالية ليست تقنية فحسب، بل أزمة نظام اقتصادي رأسمالي بدأ يلفظ أنفاسه، وأزمة نظام مالي انكشف عواره، وأزمة فكر رأسمالي يسقط سقوطاً مدوياً.

قبل الحديث عن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية وعن مسبباتها لابد من تسليط الضوء على واقعها لتحديدها بدقة ولتمييزها عن أشباهها ومن ثم لإدراك كيفية نشوئها وانتشارها بتلك السرعة

إلقاء الضوء على هذه الأزمة يكشف أنها تتميز بثلاث خصائص رئيسية: الشمولية والامتداد والمفاجأة.
فأما شموليتها فآتية من كونها عمت جميع القطاعات الاقتصادية، فلم ينجُ أي حقل اقتصادي إنتاجياً كان أم تنموياً، فقد بدأت الأزمة مالية بحتة تتعلق بالمصارف وأسواق المال، وها هي اليوم تضرب جميع فروع الاقتصاد فلا تميز بين قطاع مصرفي أو إنتاجي.

ففي أميركا على سبيل المثال تتداعى شركة جنرال موتورز وهي أضخم شركات السيارات في العالم، حيث انخفضت أسهمها بنسبة 55% في غضون أيام قليلة، وفي ما بعد تم إعلان إفلاسها. أما شركَتَا السيارات فورد وكرايسلر فطلب رؤساؤها التنفيذيون مساعدات عاجلة من الكونغرس.

وهكذا نجد أن كل جوانب الاقتصاد الأميركي قد أصبيت بالشلل، حيث أن أكبر بنك أميركي (سيتي جروب) والذي تبلغ ميزانيته 1.35 تريليون دولار يوشك على الانهيار، وذلك بعدما انهارت أسعار الأسهم فيه بنسبة 60% في غضون أسبوع واحد، مما جعل الحكومة تسارع بإنقاذه بعشرين مليار دولار خوفاً من سقوطه كما سقط بنك (ليمان برذرز) من قبل.

وأما في القارة الأوروبية فقد تراجعت على سبيل المثال صناعة الصلب في جميع دولها بنسبة 43%، وأعلنت شركة (BASF) الألمانية العملاقة للكيماويات عن عزمها إغلاق ثمانين مصنعاً، وواجهت المصير نفسه غالبية الشركات الصناعية الأوروبية الأخرى.

وفي اليابان أعلن لأول مرة عن عجز في الميزان التجاري الياباني بمقدار 665 مليون دولار بعد أن كان في العام الماضي يزيد الفائض عن 100 مليار دولار.

وهذه الانهيارات في الاقتصاديات الكبيرة تؤكد على شمول الأزمة وانسحابها على كافة الحقول الاقتصادية.
وأما الخاصية الثانية وهي الامتداد فقد توسعت الأزمة أفقياً وانسحبت على جميع دول العالم وكان للعولمة التي سادت خلال عشرين سنة الماضية أثر كبير في ذلك الامتداد، فقد أدت عمليات دمج الاقتصاديات المحلية بالاقتصاد الدولي الذي تهيمن عليه أميركا إلى توسع الأزمة وإلى انتشارها، وأصبحت أية أزمة بالتالي تطال الاقتصاد الأميركي تنتشر بسرعة وتمتد إلى جميع اقتصاديات الدول الأخرى، وهو ما اضّطَرَها إلى دفع جزء من فاتورة النفقات الأميركية الباهظة، فمشاكل أميركا المالية والاقتصادية الكثيرة تمت عولمتها وتحولت بالتالي إلى مشاكل لكل دول العالم. فإذا أساءت أميركا إدارة اقتصادها، إذا زادت نفقاتها عن مداخليها بسبب حروبها الاستعمارية، وبسبب استهلاك مواطنيها لأكثر مما ينفقون، فإذا وقع مثل هذا أو ذاك فقد أصبح واجباً على جميع دول العالم المساهمة في دفع إتاوات أو ضرائب تفرض عليها لسداد ديون أميركا ولمعالجة اقتصادها، قبل معالجة هذه الدول لمشاكلها الخاصة.

فواضح أن الأزمة الحالية وإن كانت أميركية المنشأ إلا أنّها سرعان ما تحولت إلى أزمة عالمية، فالانكماش الاقتصادي بات يعمّ جميع دول العالم، فأميركا وأوروبا واليابان ودول الخليج ضخت مئات المليارات من الدولارات لكي لا يتحول الركود الحالي فيها إلى كساد كبير كما حصل في أزمة عام 1929م.

وأما بالنسبة للخاصية الثالثة وهي خاصية المفاجأة في هذه الأزمة فإنها آتية من كونها غير متوقعة خاصة من قبل معظم السياسيين والخبراء الاقتصاديين غير الأميركيين، فلم يكن أحد يتحدث عنها قبل وقوعها، ولما وقعت أصبح الجميع يتحدث عن ضخامة حجمها، ومدى عمقها، واستمراريتها، وآثارها العميقة.

إن هذه الأزمة بخصائصها الثلاث وهي الشمولية والامتداد والمفاجأة لم تكن بالطبع أزمة عادية، ولا محلية، بل كانت أزمة جديدة غير مسبوقة، إلى جانب كونها عالمية.

الأسباب الخاصة والعامة للأزمة المالية العالمية
في الحقيقة فإنّه أية أزمة اقتصادية تنشأ لابد من أن يكون لها أسباب خاصة أو مباشرة وأخرى عامة أو غير مباشرة. فأما أسباب الأزمة الراهنة المباشرة فيمكن حصرها في مشكلة الائتمان والرهن العقاري، والمضاربات في أسواق المال. أما الأسباب العامة أو غير المباشرة لهذه الأزمة فتعود إلى أسس ومبادئ النظام الرأسمالي الذي من طبيعته توليد الأزمات.

1- الأسباب الخاصة أو المباشرة للأزمة المالية:
مشكلة الائتمان: برزت في أميركا وتجسدت فيما عُرِفَ بأزمة الرهن العقاري، وكانت بداية المشكلة من سوق العقارات في الـ(و.م.أ)، حيث نشط هذا السوق ما بين عامي 2001م-2006م بفعل التسهيلات والقروض التي قدمتها الدولة للبنوك وشركات الرهن العقاري، حيث بالغت بذلك البنوك بإقراض مشتري المساكن بل وأغرت من لا يقدر على تسديد الأقساط على الشراء وقدمت لهم عروضاً سخية لتغطية ثمن المسكن 100%، وهو ما لم يحصل من قبل. ولم تكتف البنوك بهذه التسهيلات وإنّما خفضت سعر الفائدة في السنوات الأولى بطرح سعر فائدة متغير يعتمد على سعر الفائدة الحكومي والذي انخفض في عام 2002م إلى 1%.

ومما زاد من حماسة البنوك التجارية الصغيرة لجلب الناس إلى شراء المساكن، أنّ البنك ما إن يُتِم المعاملة (معاملة الرهن العقاري) حتى يبيعها بدوره إلى بنك استثماري كبير مثل بنك ليمان برذرز أو ميريل لينش، أو بنك أوف أميركا، أو يبيعها إلى إحدى الشركتين الكبيرتين للرهن العقاري وهما فريدي ماك وفاني ماي، وهما شركتان أنشأتهما الحكومة لغرض تشجيع الرهن العقاري وشراء المساكن، وتملكان ما يقدر بربع المرهونات العقارية في أميركا. وقامت البنوك الاستثمارية وشركتا الرهن العقاري بدورها بإصدار سندات دين اعتماداً على الرهون العقارية التي تمتلكها وباعت سندات الدين إلى مستثمرين من أفراد وبنوك وصناديق استثمار وغيرها.

وبسبب العولمة والانفتاح المالي فقد أقبلت مختلف الشركات العالمية والبنوك والأفراد وصناديق التقاعد وغيرها على شراء الأسهم والسندات الخاصة بالشركات العقارية، ونتيجة لهذا الإقبال أقبلت الحكومة الأميركية على رفع سعر الفائدة تدريجياً من 1% عام 2002م إلى 5.25% عام 2006م. مما أدى إلى رفع سعر الفائدة على القروض العقارية من 2.5% إلى 7%، وهكذا بدأ الناس يعجزون على سداد الأقساط تدريجياً، وبدأت الديون تزداد بشكل مثير للانتباه على البنوك للبنك المركزي وعلى الزبائن للبنوك العادية. ولما كثرت نفقات الحكومة الأميركية خاصة بفعل الحرب على العراق وأفغانستان وتراجع الاقتصاد الأميركي وازدياد العجز في الميزان التجاري بدؤوا بمطالبة البنوك وشركات الرهن العقاري بالسداد في الآجال، وبدورها بدأت هذه الأخيرة بمطالبة الناس بالسداد. فعجز المستدينون عن دفع أقساطهم ووصلت أعدادهم بالملايين (3 ملايين)، وبالتالي استولت الشركات على البيوت وعرضتها للبيع ولم تجد من يشتريها وهبطت أسعارها بشكل كبير، فسبب ذلك مشكلة لشركات الرهن العقاري، وللبنوك التي شاركت في تجارة الرهن العقاري، ولشركات التأمين التي أقحمت نفسها في هذه التجارة لِمَا رأت فيها من ازدهار، وللمستثمرين والشركات حول العالم الذين مكنتهم البورصة وسوق الأسهم والعولمة من المشاركة في سوق العقار لمّا رأوا ازدهارها. وهكذا بدأت الحاجة إلى المال والسيولة، فبدأت الأزمة في أميركا ثم انتقلت إلى بقية دول العالم. وكانت خطط الإنقاذ التي قامت بها الدول بضخ مئات المليارات في الأسواق من أجل إعادة الثقة إلى الأسواق، هذا باختصار ما حدث في أزمة الرهن العقاري.

مشكلة المضاربات في الأسواق المالية: بالنسبة لمشكلة المضاربات التي انتشرت في الأسواق المالية فإنها تسببت في وجود مبالغ مالية خيالية يتم تداولها دفترياً من دون وجود أي رصيد لها من الأصول على أرض الواقع، ثم تبخرت كل تلك الأموال من الأسواق بشكل مفاجئ.

فإذا كان الناتج الحقيقي العالمي للسلع والخدمات يعادل ما يقارب 40 تريليون دولار سنوياً، فإن الناتج العالمي المتداول لنفس السلع والخدمات في الأسواق المالية يعادل ما يقارب 500 تريليون دولار سنوياً، أي أنه يزيد بحوالي 12.5 ضعفاً عن الناتج الحقيقي، وهذا يعني ببساطة أن الأسواق المالية اليوم ما هي سوى أسواق مالية طفيلية يستخدمها كبار المضاربين للاستيلاء على أموال صغار المساهمين، أي أن المضاربين يكسبون الموال الطائلة بأساليب النصب والاحتيال المحمية بالقانون الذي ضمنته حرية التملك في المبدأ الرأسمالي، وبمعنى آخر فهم يجنون الأرباح دون تقديم أي مجهود حقيقي، فهذه الأسواق أشبه ما تكون بأسواق القمار التي يضارب فيها المقامرون، فيشترون ويبيعون الأوراق المالية ليكسبوا الأرباح بفعل فروق أسعارها في المستقبل وليس بفعل إنتاج ونقل السلع والخدمات ليبيعوها في أمكنة أخرى، فالزمان وليس المكان أصبح سبباً في تغير أسعارها.

وهذا بالضبط ما حصل في الأشهر التي سبقت الأزمة، حيث ضارب المضاربون في الأسواق المالية على كل شيء، فضاربوا على أسهم النفط والقمح والحديد وغيرها من مواد أساسية، وأدت مضارباتهم تلك إلى رفع أسعار تلك المواد بشكل كبير، وبعد أن حصدوا أرباحاً من بيعهم تلك الأسهم بأسعار مرتفعة هبطت أسعارها ثانية. فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار النفط بفعل المضاربة في تلك الفترة إلى أن وصلت إلى 147 دولار للبرميل الواحد ثم عادت وهبطت بعد انتهاء المضاربة إلى ما دون الـ 50 دولار للبرميل.

إن تلاعب المضاربين بالأسواق أدى إلى خسارة معظم صغار المساهمين لأموالهم، كما أدى إلى تقلب الأسعار وظهور موجات من الغلاء، تبعه انخفاض عام في مستويات المعيشة في معظم المجتمعات، وانتشرت المجاعة في كثير من البلدان الفقيرة خاصة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية تحديداً لإدخالها في لعبة المضاربات القذرة.
ولقد وصف الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا أسواق المال هذه وما يجري فيها من مضاربات بـ(كازينو عالمي يديره الأميركيون)، وطالب الرئيس الفرنسي ساركوزي بوضع ضوابط صارمة لعمل الأسواق المالية وخاصة فيما يتعلق بالمضاربات فقال: "إننا نريد رأسمالية أخلاقية تقوم على أساس الإنتاج وليس رأسمالية لخدمة المضاربات".
فبعد التعرف على الأسباب المباشرة للأزمة العالمية، فأنه لمن الأهم إلقاء الضوء على الجذور الحقيقية للأزمة أو الأسباب الجوهرية لها.

الأسباب العامة أو غير المباشرة للأزمة
لا تعتبر الأزمة الحالية طفرة في الاقتصاد الرأسمالي أو حدثاً عابراً، بل الأزمات سمة من سمات الرأسمالية، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يحمل فشله في أحشائه نسبة للأسس التي يقوم عليها والتي أفرزت أذرعاً تهيمن بها على العالم.

أولاً- الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي
يمكن تعريف النظام الاقتصادي الرأسمالي على أنه "نظام يتميز بالملكية الخاصة لعوامل الإنتاج، وصناعة القرارات غير مركزية وتقع بين أيدي مالك عناصر الإنتاج".
وبشكل عام يمكن القول إن النظام الرأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، فالنظرية الكلاسيكية لهذا النظام رفضت تدخل الدولة وقالت "باليد الخفية"، والتوازن التلقائي للاقتصاد، أما النظرية الحديثة تحث على ضرورة تدخل الدولة لتخفيض سعر الفائدة ولضبط توازن الأسواق والأسعار، ولكن بعد موجة الخصخصة في ثمانينات القرن العشرين تخلت الدولة الرأسمالية عما تبقى لها من ملكية دولة أو ما يسمى بالقطاع العام. وتعود اليوم الدول الرأسمالية لسياسة التأميم في هذه الأزمة وتتملك في القطاع الخاص من خلال شراء الديون والأسهم من الشركات والمصارف المفلسة، وذلك لكي تنقذ النظام الرأسمالي من الانهيار الكامل.

لقد أوصل النظام الرأسمالي الوضع الاقتصادي إلى وضع غريب تتكدس فيه الثروات الضخمة في يد قلة قليلة إلى درجة الثراء الفاحش، والغالب الأعظم من البشر في الفقر المدقع، بل وصورة استهلاك باهظة التكلفة فيما لا يفيد، وإنفاق متواضع على المستوجب الإنفاق. فمبادئ الرأسمالية التي تتحكم في النظام العالمي اليوم هي سبب ما يحدث من فوضى عارمة في جميع جوانب الحياة.

يقول روجر تيري في كتابه المعنون بـ "جنون الاقتصاد": (يعرف الأميركيون أن هناك خطأ ما في أميركا، ولكنهم لا يعرفون ما هو، ولا يعرفون لماذا ذلك الخطأ، والأهم من كل ذلك فهم لا يعرفون كيف يصلحون ذلك الخطأ، وكل ما بإمكانهم هو الإشارة إلى أعراض المرض فقط ... وفي الحقيقة فإن بعض ما يسمى حلولاً يزيد الطين بلة، ذلك أن تلك الحلول تحاول أن تغير نتائج النظام دون تغيير النظام الذي أفرز تلك النتائج ... إن المشكلة لا تكمن في كيفية تطبيق نظامنا الاقتصادي، فنظامنا الاقتصادي بعينه هو المشكلة. إن الخطأ هو في التركيبة الأساسية لنظامنا الاقتصادي، ولن تكون الحلول الجزئية وتضميد النتائج حلاًّ يذهب بالمشاكل، إذا أردنا الوصول إلى مُثُلِنا فيجب اقتلاع المشاكل من جذورها لا بقصقصة بعض الأوراق، وعلينا أن نحاكم الأسس والافتراضات كلَّها التي تسيِّر نظامنا وكشفها كما هي على حقيقتها).

فإذا كان شهود من هذا النظام يعترفون بهشاشة أسسه والافتراضات التي يقوم عليها فكيف لنا أن ننقاد وراءه وهو الهلاك بعينه، كما انقدنا وراء الاشتراكية فهوت، والآن وراء الرأسمالية وهي تهوي أو تكاد، وسنحاول في ما يلي إبراز أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الرأسمالي.

1- عقيدة المبدأ "فصل الدين عن الحياة":
إن عجز الإنسان واحتياجه للخالق المدبر الله سبحانه فطري، فالإنسان في حاجة دائمة للخالق في تدبير شؤون حياته، كما يحتاج إلى التدين، لأنه ثبت أن تنظيم الإنسان لعلاقاته عرضة للتبدل والتغير والتناقض والاختلاف، وما فعله النظام الرأسمالي أنه حكم بفصل الدين عن الحياة وجعل الإيمان بالدين مسألة فردية، فلكل فرد الحق في اعتناق ما يشاء، متناسين في ذلك أن كل ما يقوم به الإنسان من أفعال وقرارات في الشعور أو اللاشعور إلا ومرتبطة بأفكار عقائدية لا يمكن الفصل بينها. وبذلك صار المشرع الرأسمالي (أصحاب القرارات والمفكرين) هم من يضع النظام فوقعوا في الخواء الروحي، وتم تصوير الحياة بأنها للأخذ بأكبر قدر من "المنفعة" فكان هذا المثل الأعلى ومفهوم السعادة عندهم فوقعوا بذلك أمام وضعين خطرين:

الأول: إذا لم يتمكن الفرد من إشباع حاجاته إشباعاً كاملاً فإن هذا يدفعه غالباً إلى الإحباط واليأس، ومن ثم إلى أمراض نفسية وعصبية، أو إلى آفات اجتماعية متعددة.
الثاني: في حالة تملك الفرد الرأسمالي للثمن وتمكنه من الإشباع الكلي للحاجات فانه يصبح معرضاً للعيش في فراغ قاتل يؤدي به إلى الانتحار أو الشذوذ أو على أقل تقدير إلى رتابة مملة تظهر الحياة فيها تافهة، لذلك نجد نسب الانتحار في الغرب لا تقارن.

فالأساس الذي انبنى عليه المبدأ الرأسمالي ولد مقياساً من جنس الفكرة وهو مقياس النفعية، فكل ما فيه رغبة للناس جعل نافعاً فالرأسمالي المبدئي لا يفرق بين الخمر والعصير، والدعارة والزواج، وبين المخدرات والقهوة، لذلك كان مبدأ الرأسمالي مبدأ اللامبدأ، وعندما يجد الرأسمالي طريقاً يدر عليه أرباحاً هائلة ولو بتدمير المجتمع –كما حدث في الأزمة المالية الحالية-، فإنه يغذ السير، وعندما يفشل يعمل على إيجاد خط رجعة ولو خالف النظام، وذلك مثل تدخل الدولة جزئياً أو كلياً لحماية المؤسسات المفلسة كما حدث في أميركا وبريطانيا خلال الأزمة المالية الأخيرة.

2- التركيز على تنمية الثروات دون توزيعها:
المنطلق الفكري للتركيز على التنمية دون توزيعها هو سبب من أسباب الفقر المنتشر في العالم اليوم، فتصور الرأسماليون أن المشكلة الاقتصادية هي محدودية الموارد بالنسبة للحاجات "الندرة النسبية" كان تصورهم للحل هو توفير هذه الموارد، بمعنى آخر رفع مستوى الإنتاج، لكن إذا ملك الأفراد الثمن حصلوا على حاجاتهم، وإن لم يملكوا فلن تشبع حاجاتهم، فالبحث إذا لم يكن في إشباع الحاجات الفردية، ولا في التفريق ما بين الحاجات الضرورية والحاجات الكمالية. فتكثير السلع والخدمات وتوفيرها في الأسواق بحث في واقعها وفي مادتها، وهذه الناحية يتناولها علم الاقتصاد، وتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع يعالجه النظام الاقتصادي، وهناك فرق بين علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي، "فعلم الاقتصاد يهتم بتفسير الواقع المشاهد ومحاولة استنباط القوانين والنظريات التي تحكم سير هذا الواقع"، فهو عالمي إذ إنه يبحث في المادة وتكثيرها وتحليلها وتنميتها حسب الوسائل الحديثة.

أما النظام الاقتصادي فهو يهتم بكيفية تطبيق الأصول والمبادئ التي يتضمنها المذهب الاقتصادي وإخراجها إلى حيز التنفيذ وميدان الواقع. وبالتالي النظام الاقتصادي يعبر عن أفكار وأحكام تتعلق بفهم الواقع وعلاج المشكلة، إذاً فهو منبثق من وجهة النظر في الحياة، فهو خاص ومرتبط بعقيدة الأمة.

فالرأسماليون أذابوا مفهوم التوزيع في التنمية بسبب الخلط بين الاقتصاد كعلم وكنظام، إذاً توزيع الثروة منطلق من أفكار ومبادئ متخذي القرار والساسة. فكما يقول أحد علماء الاقتصاد الغربيون "إن المبادئ والأفكار العلمية ملونة عقائدياً".

فمن المنطلقات العقائدية للرأسماليين وفلسفتهم في الحياة كان تركيزهم على تنمية الثروات كحل للمشكلات الاقتصادية وأهمها الفقر، وتناسوا الأهم وهو توزيع هذه الثروة. ويمكن تلخيص مشكلة التركيز على تنمية الثروة دون توزيعها في النظام الرأسمالي في قول الفيلسوف الأوروبي "برنارد شو" ساخراً من النظام الرأسمالي وكان هذا الأخير أصلع الرأس كثَّ اللحية فقال (النظام الرأسمالي كقرعتي هذه ولحيتي هذه، غزارة في الإنتاج وسوء عدالة في التوزيع).

3- إطلاق الملكيات:
يطلق المبدأ الرأسمالي للأفراد أن يملكوا ما يشاؤون دون تدخل الدولة، فهم يؤمنون بحرية اقتصاد السوق والخصخصة والعولمة، فكانت النتيجة استعمال الأساليب الملتوية والمضاربات والأسواق الوهمية، ومن يتقنها أكثر يجمع أموالاً أكثر. ويصبح السوق في حالة عدم توازن اقتصادي إذا تم إزالة القيود التي تنظم التملك -إطلاق حرية التملك-، ويطلق سراح الجشعين والمحتكرين لإيجاد مختلف الحيل للربح السريع. فظهر في المجتمع الغنى الفاحش والفقر المدقع، كل ذلك لأن المشكلة عولجت بحرية التملك وحرية العمل -دعه يعمل دعه يمر-، لا بالضوابط والمفاهيم التي تنظم كيفية توزيع الملكيات.

إن عدم الوعي هذا على واقع الملكيات أوجد ويوجد الهزات الاقتصادية، وذلك لأن الملكيات ليست إما عامة تتولها الدولة وفق النظرية الاشتراكية الشيوعية، وإما ملكية خاصة يتولاها القطاع الخاص ولا تتدخل الدولة بها وفق النظرية الرأسمالية الليبرالية، بل هي ثلاثة أنواع حسب النظام الإسلامي وهي: ملكية الدولة وملكية عامة وملكية خاصة.

4- النظام المصرفي والبنوك:
تقوم المصارف والبنوك في أنظمة الغرب الرأسمالي على تحقيق المنفعة المادية التي تشبع حاجةً، بغض النظر عن الدمار للفرد والمجتمع، فهي تقوم على أساس الربا المدمر، والذي هو من الكبائر في الإسلام، تقوم المصارف والبنوك بذلك بعد أن تتشكل في غالبها عن طريق مؤسسات خاصة يملكها شخص أو مجموعة من الأثرياء، أو تتشكل بنظام الشركات المساهمة، وعن طريق ما يودعه الناس من أموال في هذه المؤسسة. وتقوم طبيعة عمل المصارف والبنوك على منفعة الأموال (الربا)، فتَجْمَعُ المال من أيدي الناس بفائدة قليلة، وتقرضه لآخرين بفائدة مرتفعة، أو تقوم المؤسسات الصغيرة بالإيداع في مؤسسات أكبر تحقق فائدة أكبر، في الدولة نفسها أو في دولة أخرى. وقد تقوم بأعمال ومشاريع هي نفسها عن طريق إغلاق إيداعات قسم من الناس في مُدَدٍ زمنية طويلة بزيادة نسبة الفائدة لهم.

ويمكن تلخيص بعض الآثار المدمرة للنظام المصرفي في ما يلي:

أ- تجعل المال دُولةً بين أيدي فئة معينة من الناس وتحرم البقية من تداوله، فعن طريق الفائدة "الربا" يسحب المال من أيدي الناس وعن طريقها كذلك يتمكن الرأسماليون الكبار القادرون على الاستثمار والسداد من أخذ كميات كبيرة من المال من هذه البنوك، وهذا بالتالي يزيد الأغنياء غنّى والفقراء فقراً، فالأغنياء ينشئون المشاريع الضخمة التي تتحكم في اقتصاد البلد، والفقراء يعيشون تحت رحمة هذه الطبقة، من حيث عرض السلع والخدمات وتحديد الأثمان لها، وتصبح إيداعات الطبقة الكادحة في البنوك هي أداة لجلب الشرور عليها بعكس ظنها أنها ستجلب لها الخير. كان من أبرع ما ابتدعه النظام المصرفي والبنوك (بطاقات الائتمان) حيث بها يستطيع الناس شراء ما يريدون دون حمل نقود بواسطة الشبكة الإلكترونية، ويلاحظ في هذه البطاقات أمران: الأسعار العالية لخدماتها ومشترياتها، وكذلك فإن البنوك والمصارف استطاعت أن تقضي على السيولة المتبقية لدى المودعين في تمليكهم هذه البطاقات فتكون أموال المستهلكين النقدية كلها داخل النظام المصرفي مما يعني تسخير كل هذه الأموال للبنك وبالتالي للأغنياء.

ب- تؤثر البنوك في غلاء الأسعار في المجتمع وذلك بسبب احتكار المشاريع من قبل الرأسماليين، والذين بدورهم يفرضون الأسعار التي يرونها، فيقومون برفع السعر أو سحب البضاعة أو بطرحها في الوقت المناسب لهم وذلك بسبب الفوائد البنكية المستحقة على أصحاب الشركات والتي تدفعهم لسداد هذه الفوائد في أقرب وقت ممكن عن طريق رفع الأسعار،وكان من أبرز ما فعله النظام المصرفي حالياً (أزمة الرهن العقاري) التي ارتفعت أسعار عقاراتها بسبب الرأسماليين المستندين إلى البنوك والتي أقرضت المشترين بفوائد مركبة حتى عجز المشترون عن السداد وأفلست البنوك بإضاعة أموال المودعين.

ج- كثرة الإفلاس الاحتيالي في النظام المصرفي لغياب العقيدة الصحيحة والأخلاق (الخواء الروحي)؛ وذلك عندما تفلس البنوك فإن بعض الموظفين يتواطؤون مع كبار المودعين مقابل مال ويعطونهم أسرار المصرف بقربه من الإفلاس أو تهرب أموال ذلك المودع وتضيع أموال المودعين الصغار عند الإفلاس.

د- يساعد البنك في الأزمات التي تحصل في أسواق المال؛ إما بإقراض المتعاملين في سوق الأسهم بالأموال الضخمة مباشرة والتي تمكنهم من شراء أسهم كثيرة لمشاريع معينة، وبالتالي رفع قيمة هذه الأسهم في البورصة، وهذا بالتالي يوهم عامة الناس أن هذه الأسهم ارتفعت قيمتها، فيقدم الناس على شراء هذه الأسهم بشكل جنوني كما حصل في دول جنوب شرق آسيا، وبعد أن يتم شراء كميات كبيرة من هذه الأسهم من قبل الناس، تهبط قيمة هذه الأسهم هبوطاً مفاجئاً، وذلك بعد زوال الهدف الذي من أجله ارتفعت وهو إيقاع الناس في الوهم من قبل الرأسماليين أو تجار الأسهم والسندات، فيقع عامة الناس ضحية هذه المؤامرة. والذي حدث في بورصة (وول ستريت) في الأزمة المالية الحالية أن أسعار السهم والسندات ارتفعت فوق حد التصور بمساعدة البنوك وعندما عجز المدينون عن سداد القروض بأنواعها انهارت البنوك وانهار سعر أسهمها.

5- الشركات الرأسمالية:
لا تختلف الشركات الرأسمالية كثيراً عن البنوك بل هي من جنسها في طريقة إنشائها وتحصيلها للمال وطبيعة أعمالها، بل تشبه البنوك إلى حد كبير. والفكرة الأساسية التي أنشأ بها الرأسماليون الشركات سيما الشركات المساهمة هي فكرة أن يدخل الرأسماليُّ بنسبة 51% ويجمع من مدخرات صغار المساهمين المتبقي للمشروع 49%، والمعروف أن المال الأكبر (أي 100%) يدرُّ ربحاً أكثر من مال (51%)، والفكرة هي تحويل المخاطر إلى صغار المساهمين.

وهذه الشركات بهذه الكيفية كبرت وتوسعت حتى أصبحت الحاكم الفعلي للدولة الرأسمالية عندما تجذرت وأخذت صبغة العراقة في الاقتصاد الرأسمالي.

هذه الأسس السابقة هي التي يرتكز عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكل واحد منها يحمل فشله في أحشائه، وقد كان لهذه الأسس الخمسة أدوات سيطر بها النظام الرأسمالي على مفاصل الاقتصاد المحلي والعالمي.
[يتبع]

المصدر : مجلة الوعي

السبت، 3 يوليو 2010

حقوق المرأة: حقيقة أم مؤامرة؟



لماذا كل هذه الإثارة وهذه الضجة حول المرأة المسلمة بالذات؟ لماذا ترصد مليارات الدولارات من أجلها؟ ولماذا تعقد المؤتمرات والمحاضرات للمطالبة بحقوقها؟ ولماذا يتدخل رؤساء الدول وعقيلاتهم لإضفاء الجدية على قضاياها؟! أهي مسلوبة الحقوق حقاً؟ أتراها مظلومة بأحكام هذا الدين أم أنها مؤامرة خبيثة وعظيمة؟!

أختي المسلمة:
هكذا سأناديك وهكذا ستظلين... يا حفيدة عائشة... أم المؤمنين جميعا، يا أخت سمية... ونسيبة... وخولة وأسماء... وصفية... والخنساء... إن هذا لحديث طويل.... ولكني على عظم المصاب سأجمل.

لقد أدرك الغرب أنه لولا أرحام المؤمنات العفيفات الطاهرات، ولولا أحضانهن المباركة، لما وجد أمثال أسامة بن زيد وصلاح الدين ومحمد الفاتح، علم الغرب أن صلاتك وتقواك وتمسكك بأحكام ربك في كل حركاتك وسكناتك كان وما زال مصدر قوة ورفعة لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فشخصوا الداء وفكروا بالدواء وحاكوا المؤامرات وشنوا الهجمات ورصدوا الأموال ليصدوا عن سبيل الله .

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال 36]

أختي المسلمة:

لم يكتف الكافر المستعمر بهدم دولة الخلافة التي كانت تذود عن كرامتك وعرضك.. ولم يكتف بتمزيق البلاد، ومص دماء العباد، ونهب الخيرات... ولم يكتف بجعلنا في ذيل الأمم بالحملات العسكرية والمؤامرات الاقتصادية.. بل قام بما هو أشد وأنكى، ألا وهو شن الحملات الفكرية الرأسمالية المبرمجة والمدروسة على بلاد المسلمين، وكنت أنت من أهم المستهدفين في هذه الحملة، وهنا بيت القصيد...

لقد كان لهذا الهجوم طراز خاص ورائحة جديدة، فقد استعملوا زخرف القول وزوره، واتخذوا من النفاق والدجل طريقة، فظهروا كأنهم الإخوان والخلان يقدمون لنا الترياق السحري، ترياق النهضة والحرية ليخلصونا حسب زعمهم الباطل من رجعية ديننا، وعقد تقاليدنا، وتسلط آبائنا وأزواجنا، ودكتاتورية مجتمعاتنا. وصلت بهم الجرأة أن طعنوا في كل جزئية، وفي كثير من مسلمات هذا الدين العظيم... واستعملوا الحكام الرويبضات لسن قوانين جديدة من شأنها أن ترتقي بالمرأة المسلمة لتقترب من مثيلاتها في الغرب على حد زعمهم، وللأسف.. سنت تلك القوانين على المقاس الأميركي والإنجليزي في بلاد المسلمين.. والتي تهاجم الحدود والعقوبات الشرعية والتي تحرف أحكام الله في الطلاق والميراث وتعدد الزوجات والاختلاط وحتى في لباس المرأة وغيرها. أما الثمرة الخبيثة، فهو ما نسمعه من أخبار يندى لها الجبين عن بلاد المسلمين.. حيث أصبح الزنا ليس بجريمة في تركيا ... وحظر الحجاب في بعض بلاد المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، جريمة لا تغتفر.

وصار من حق المرأة أن تمارس الرذيلة على شاشات التلفاز في مصر وغيرها... وصار الخمار ينحسر عن رأس المذيعة الحجازية شيئاً فشيئاً إلى أن سقط في كثير من الحالات بعد أن كان من المستحيلات هناك, وهكذا أصبحت الكويتية والأفغانية تزور صناديق الاقتراع حاسرة الرأس متبرجة متشدقة بالديمقراطية متغنية بالمشاركة السياسية والإنجاز العظيم.

كنا نعد طرد المسلمات المحجبات من المدارس البريطانية جريمة فلما طردن من المدارس في البلاد الإسلامية كتركيا وتونس أسقطنا تلك عن لائحة الجرائم!! والأقبح من الذنب عذره، حيث قالوا لها في المحكمة... إنك تمثلين قدوة سيئة للطالبات... الله أكبر على من لا يعرف من العدل إلا اسمه، ومن الدين الإسلامي إلا رسمه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أما عن القانون المدني فحدث ولا حرج، ذاك القانون الخبيث الذي يطبق في بعض بلاد المسلمين، فيبيح للمسلمة أن تتزوج بكافر وللمسلم أن يتزوج أخته بالرضاع ناهيك عن التلاعب بعدة الطلاق الشرعية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

وهكذا أختي المسلمة، تصدّر الكافر المستعمر وأذنابه من أبناء جلدتنا هذه الحملة الشرسة ونادوا بحقوق المرأة وكأنها في الإسلام بلا حقوق... وأقل درجة وشأناً من الرجل... أرادوها كالمرأة الغربية التي أخرجت من بيتها لتقصى عن رعاية أطفالها ولتنعتق من سلطة الرجل مادياً ومعنوياً... وأصبحت جزءاً مادياً نفعياً في حضارتهم لا ينظر إليها إلا كسلعة تجارية أو موضع لإشباع رغبة، فأصبحت بلا أسرة وبلا حقوق تليق بها، نعم لا ينظر إليها إلا كعارضة أزياء أو راقصة أو كصورة مخزية فاضحة على منتوج تجاري لترويج مستحضر تجميل أو ثوب خليع أو منتج للحمية. أما إذا فقدت تلك الجميلة جمالها بمرض أو كبر سن أو حادث فإنها تصبح لا تساوي شيئاً.

فهل حقاً إن المرأة الغربية محترمة الحقوق لنسعى سعيها؟ وهل هكذا ترتقي الإنسانية؟! أم أن المطلوب هو النفاذ إلى حياة المسلمين الاجتماعية، وتدمير الأسرة المسلمة، بإفساد نسائها وبالتالي إفساد الجيل المسلم بأكمله.
ولم تقتصر الحملة على إخراجها من مخدع طهرها والانتفاع بها كسلعة فقط، ولكنها استهدفت أموراً أخرى لتكتمل خيوط المؤامرة الشيطانية ضدها وضد الإسلام. حيث شجعت المرأة بكل الوسائل المتاحة على الإجهاض ومنع الحمل للوصول إلى تحديد نسل المسلمين،لعلهم يتفادون بذلك الخطر الديمغرافي الذي يحسبون له ألف حساب.
ولقد دعمت هذه الأهدافَ الجهودُ السياسية على كافة المستويات، ابتداء من الأمم المتحدة ومنظماتها الكثيرة، ومروراً بالولايات المتحدة حاملة لواء العولمة والديمقراطية في بلادنا، وانتهاء بالجمعيات النسوية الخيرية المتناثرة تناثر أوراق الخريف في الطرقات.

كل هؤلاء انتفضوا يا أختي المسلمة للاهتمام بشؤونك، مدعين أنهم يخافون على حالتك الصحية والنفسية، وأنهم يخشون عليك من الكبت الديني والعرفي, ومدعين الحرص على دعم ثقتك بنفسك، والتمتع بصباك وتعبيرك الحر عن رأيك، سواء أوافق الشرع أم خالفه، وإبداء جمالك وزينتك، بأرخص الأثمان، وأحقر الطرق، لإبعادك عن بيت الطهر، وعفاف العلاقة، تحت شعاري الحرية والمساواة الخبيثين.

ومن أجلك أنت أيضاً... تتدفق الأموال من صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، نعم تتدفق المليارات بسخاء لتدخلي المصيدة، وليس أدل على ذلك من انتشار الجمعيات التي توفر وسائل منع الحمل بالمجان... حيث لا يقتصر هذا الكرم الصحي على المتزوجات وإنما يتعداه إلى الفتيات المراهقات، وتيسر لهن سبل الإجهاض وغيره... وفي الوقت نفسه تُحشى العقول عن طريق المناهج المدرسية والندوات والبرامج الإعلامية بمخاطر الزواج المبكر وأضراره النفسية والاجتماعية والصحية على الإناث بدعم من المنظمات الدولية.

وماذا بعد ذلك؟... لم يتورع أذناب الغرب عن إنشاء مراكز لإيواء الزانيات ورعاية أبنائهن لتكتمل فصول الحكاية... وهناك أيضاً أنواع جديدة من الجمعيات التي تحتضن من النساء من لا تتقي الله في زوج أو أب، تحتضنها في أكناف مكاتبها الكثيرة فتفضح زوجها، بحجة الكشف عن آلامها النفسية ومعاناتها الزوجية. والله عز وجل ينهى عن ذلك بقوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة 187]، كما أنها تعرض والدها للسجن والمساءلة بحجة تعديه على حرية ابنته الشخصية، والجدير بالذكر أن مثل تلك الجمعيات تعرض خدماتها بدون مقابل.

أما المناهج المدرسية، فلم يعد يخفى عليك أنها في خدمة الكافر المستعمر وأذنابه في المنطقة، إنها محشوة بأمور غريبة ما أنزل الله بها من سلطان.. حيث إن القروض لا يوقع عليها من الدول المتاحة إلا بعد أن تفصل هذه الكتب على المقاس الرأسمالي ... لتخريج فتيات مهيئات مقتنعات بالحضارة الغربية وبفكرة الحريات والاختلاط وحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، مقتنعات أنه لم يعد للجلباب رونقه وبريقه، وأنه آن الأوان للانفتاح على ثقافة الآخرين وفكرهم واحترام وجهة نظرهم في الحياة.

ألا فليسمع الغرب وعملاؤه والمضبوعون بثقافته، مفكرون وسياسيون، كلمة الفصل في هذا. كفاكم كذباً ونفاقاً، فالبون شاسع شاسع بين أحكام الإسلام وما تحققه من رحمة وهداية وبين حضارتكم النتنة وما تفرزه من شقاء وغواية... لا وألف لا لكل مشاريعكم الزائفة الفانية، فإن النساء المسلمات كريمات بإسلامهن، عزيزات بعقيدتهن، مطيعات لربهن. وإن الثلة الواعية من أبناء الأمة أنارت لهن الطريق فأبصرن طريق الهداية وعرفن بالضبط الحكاية.

ونقول لكم بصوت مجلجل، إليكم عنا فلستم منا ولسنا منكم، ألا فلتفروا إلى بلادكم فهي أحوج إليكم من بلادنا... عالجوها من الانحلال الخلقي والانهيار الاقتصادي وانحطاط القيم وتفكك الأسر... أنقذوها من الغرق في الشهوات واختلاط الأنساب وزواج الشواذ والأمراض الخطيرة وتفشي الجريمة! أنقذوا أبناءكم ونساءكم من الانتحار الناتج عن الفراغ الروحي والقلق النفسي...

كفاكم دجلاً يا دعاة الديمقراطية والتحرر، فما أنتم إلا وحوش تتظاهرون بأنكم بشر في ثياب مرقطة فتمارسون أبشع الجرائم: تيتمون الأطفال في غزة والعراق، وترملون النساء، وتغتصبون الأعراض على مرأى ومسمع من حماتها، وإن كنتم حريصين على صحتنا النفسية فارفعوا صواريخ الموت وقاذفات المدافع عن مسامع أطفال العراق وفلسطين وأفغانستان... وأطلقوا سراح المعتقلين في جوانتانامو وأبو غريب وقاعدة باغرام الجوية، فهذا الذي يؤرقنا وليس الحمل والإنجاب.. هذا الذي ينغص عيشنا.. اغتصابكم لأخواتنا في السجون.. اللاتي لم تلامس صرخاتهن نخوة المعتصم بعد.

توقفوا عن قتل الآباء على مشهد من أطفالهم في غرف نومهم أو على شواطئ بحرهم. أوقفوا وحشيتكم يا دعاة الإنسانية، وإلا فانتظروا سخطاً قريباً من الله، ونصراً عزيزاً مؤزراً من الله للمسلمين يزلزل الأرض من تحت أقدامكم.
فطوفان العمل الإسلامي أوشك أن يجتاح قوى الكفر، وأوشك العملاق الإسلامي أن يقف على قدميه ليعرف العالم كيف يكون الإسلام, كما أن بوادر النصر لاحت في الأفق الإسلامي ومؤشر الخلافة صاعد بسرعة البرق.
اللهم اجعلنا من العاملين المخلصين لإعزاز هذا الدين, اللهم عجل لنا بنصرك وفرجك وقيام دولتك التي فيها حكمك لتعود لنا عزتنا وكرامتنا، وتعود للمرأة المسلمة مكانتها السامية التي كرمها بها الإسلام.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم 4-6].

أم محمد - فلسطين

المصدر: مجلة الوعي

الصحوة الإسلامية: تنوع في المظاهر، وتسارع في النمو




بسم الله الرحمن الرحيم

(الصحوة الإسلامية، المد الإسلامي، البعث الإسلامي، التيار الإسلامي، العملاق الإسلامي) كلها مصطلحات تصف حالة الأمة اليوم وقد دبت فيها الحياة بعد سنين من التراجع والضعف على كافة المستويات، ومن أجل تشويه هذه الحالة بدأ الغرب يصف الصحوة الإسلامية بمصطلحات عديدة (كالتطرف الإسلامي) و(الإرهاب ) و(الأصولية)... إلخ.


يخطئ الكثيرون عندما يعتبرون أن بدايات الصحوة الإسلامية الحديثة ترجع في أصولها إلى أواخر القرن التاسع عشر معتبرين أن جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده هما أصحاب الفضل في الصحوة الإسلامية، بيد أن محاولة هؤلاء وغيرهم في التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية والتي باءت بالفشل إضافة إلى الوثائق التي كشفت ارتباطاتهم مع بريطانيا خلال فترة الاستعمار الإنجليزي لمصر والسودان كل ذلك كفيل بأن يثبت زيف هذا الادعاء.


عند الحديث عن الصحوة الإسلامية الحديثة يجب أن نضع هذه الصحوة المباركة في سياقها العقائدي والتاريخي، ومن أجل ذلك لابد من لفت النظر إلى أمرين هامين:


أولاً: إن الصحوة الإسلامية بكافة أشكالها ومظاهرها وتعدد الأحزاب والحركات فيها هي حالة طبيعية لخير أمة أخرجت للناس قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران 110]، و‏عن ‏ ‏أبي هريرة‏ ‏‏عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ‏ ‏قال: «‏إنَّ اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِ مائةِ سنةٍ من يجددُ لها دينَها». فالوضع الطبيعي أن تكون الأمة في ديمومة من التجديد والرقي الفكري المنبثق عن العقيدة الإسلامية، وليس المقصود بالتجديد ذلك التجديد الذي يروج له الغرب اليوم والذي انزلق فيه الكثيرون وللأسف ممن ينتسبون إلى الحركات الإسلامية، فقد كان ذلك التجديد مخالفاً في جوهره لأبجديات الإسلام.


ثانياً: ليس المهم أن نجزم بالتاريخ الحقيقي لبدايات الصحوة الإسلامية الحديثة، ولكن الأهم من ذلك هو أن الصراع الذي شهده العالم الإسلامي مع الغرب منذ القرن التاسع عشر، والنجاح الذي حققه الغرب في القضاء على الخلافة الإسلامية وما تلا ذلك من الغزو الفكري والثقافي والعسكري والمصائب والويلات التي ابتليت بها أمة الإسلام هي عوامل مجتمعة أدت إلى الرد الطبيعي عند الأمة في أن تنفض غبار الهزيمة واليأس وتشمر عن ساعد الجد، وأن تختار التمسك بدينها والعمل لإعادة الحكم بما أنزل الله, قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف 8].


وعند الحديث عن مظاهر الصحوة الإسلامية المباركة لابد من الإشارة إلى الخطأ الذي وقع فيه الكثير من الباحثين مسلمين وغيرهم، ذلك الخطأ يتمثل في حصر مظاهر الصحوة الإسلامية في (انتشار الحجاب، وتزايد ارتياد الشباب للمساجد، واهتمام الشباب بإعفاء اللحية، وانتشار الكتب والمؤلفات والتسجيلات الإسلامية، وتزايد الحضور الدعوي الإسلامي في الفضائيات...) فإن كل هذه المظاهر رغم أهميتها هي جزء من مظاهر الصحوة الإسلامية الحقيقية وجوهرها فهناك مظاهر أخرى تكملها وتجعلها صحوة مباركة على الإسلام كله.


إن الأمة اليوم تشهد حالة من الصحوة الإسلامية لم تشهدها منذ قرنين من الزمن، وهذه الحالة أخذت تفرض نفسها على الساحة الدولية ويحسب لها الغرب الكافر ألف حساب، ويمكن تصنيف هذه المظاهر في المجالات الآتية:


1- في المجال الفكري والثقافي:


منذ بدايات السبعينات من القرن المنصرم أخذت تتهاوى الأفكار القومية والوطنية والشيوعية التي غزت الأمة الإسلامية محاولة حرف الأمة عن منهاج الله تعالى. وبسقوط الاتحاد السوفياتي وانكشاف الفساد الاقتصادي والأخلاقي للحضارة الغربية الرأسمالية شهدت الأمة حالة من الفراغ الفكري استطاعت أن تملأه، وبحمد الله، بالعودة الجادة والحقيقية للإسلام، فلم يعد أحد يسمع اليوم بشعارات فارغة طالما تاجر الكثيرون بها على حساب مستقبل الأمة ونهضتها مثل شعارات: الأمة العربية، والقومية العربية، والاشتراكية العربية، والبعث العربي، والصراع الطبقي، والديموقراطية، والحريات، وغيرها... وأصبحت الحركات والأحزاب الإسلامية تغزو الساحة بأفكار الإسلام، فانتشرت الأفكار الإسلامية في صفوف أبناء الأمة مثل: فكرة الخلافة، والجهاد، والحكم بما أنزل الله، والاقتصاد الإسلامي، والنهضة الإسلامية، والأمة الإسلامية الواحدة... في وقت تخوض الأمة الإسلامية صراعاً فكرياً حامي الوطيس بينها وبين الغرب، فبالرغم من أن الأمة الإسلامية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت تتلقى حلول مشاكلها من الغرب في قوالب جاهزة منبهرة بما عنده من أفكار ونظريات كانت ترى فيها الأمل الوحيد للخروج من الهاوية السحيقة التي رماها فيها الغرب نفسه، وبالرغم من الأموال والأقلام والجهود الضخمة التي بذلها ويبذلها الغرب لتمييع الأمة الإسلامية وصهرها بالثقافة الغربية من خلال الإعلام والجامعات والمدارس، بالرغم من ذلك كله نجحت الحركات والأحزاب الإسلامية في غزو الغرب فكرياً في عقر داره، فصدمت مراكز الأبحاث الغربية وهي تتابع بقلق بالغ مدى الخطورة التي يمثلها الإسلام والصحوة المتنامية عند الأمة الإسلامية على مصالحها ووجودها، فأخذت تحذر من أسلمة أوروبا وخطر الخلافة القادم على لسان الكثيرين من المسؤولين السياسيين فيها. وتزامناً مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي اكتوى الغرب بنارها أخذت عيون الرأي العالمي في أوروبا تنظر بانبهار شديد إلى الحلول التي يقدمها أبناء التيارات الإسلامية من خلال بيان النظام الاقتصادي في الإسلام.


2- في المجال السياسي:


حاول الغرب، ومازال يحاول عن طريق حكامه، احتواء الصحوة الإسلامية بطرق مختلفة متنوعة، فعمل على استدراج الحركات الإسلامية إلى اللعبة الديموقراطية لإفشالها أولاً، ولإجبارها لتقديم مزيد من التنازلات عن أفكار الإسلام، ورغم وقوع الكثير من الحركات الإسلامية في مثل هذه الفخاخ الخبيثة في الجزائر وتركيا والأردن وفلسطين وغيرها، إلا أن الأمة الإسلامية لا تنظر بعين الرضا لهذه النماذج، ولا تعتبر هذه النماذج في تلك البلدان تلبي الحد الأدنى من آمالها وأحلامها وغاياتها، وهذا مظهر مهم من مظاهر الصحوة الإسلامية، فقد أدركت الأمة أن الحل الناجع لكل مشاكلها لا يكون في وصول حركة إسلامية إلى الحكم هنا أو هناك، وانغماسها في مستنقع الدساتير الغربية التي لا تطبق على الأمة إلا حضارة الغرب وأفكاره، بل يكون في بناء دولة إسلامية واحدة لا تطبق في أحكامها إلا أحكام الإسلام.


3- في مجال المقاومة والجهاد :


إن مظاهر الصحوة في هذا المجال كان لها التأثير البالغ على الأمة حيث إن حركات المقاومة الإسلامية والجهاد في كل من فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها... والأفعال البطولية التي قامت بها في التصدي للعدوان الأميركي و(الإسرائيلي) والأوروبي كل ذلك يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مظاهر الصحوة الإسلامية تتسارع وتتجسد في الأمة وتنقل الأمة من حالة الضعف إلى القوة، ومن اليأس إلى الأمل، ومن الجمود إلى الحركة والفعل والانتصار، وأهم هذه المظاهر:


أولاً: سريان الروح الاستشهادية في الأمة منذ انتفاضة الأقصى مروراً بالاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق ثم الحرب (الإسرائيلية) على لبنان وأخيراً على غزة المحاصرة, ففي هذه الحقبة الهامة من تاريخ صراع الأمة مع أعدائها أثبتت هذه الحركات للأمة أولاً ولأعدائها ثانياً أن المفاهيم العقائدية والجهادية عند الأمة هي السلاح الأكثر حسماً للصراع، هذا السلاح الذي لاتملكه إلا أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).


ثانياً: نجحت هذه الحركات في حرمان أميركا و(إسرائيل) من تحقيق انتصار حقيقي في إطار حربهما على (الإرهاب) أي على الإسلام، وأفشلت هذه الحركات كثيراً من المشاريع التي روج لها الغرب وعلى رأسه أميركا مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير والمشاريع الاستسلامية مع كيان يهود وغيرها، وهذا كله أثبت عملياً للأمة أن بمقدورها أن تحقق الانتصار الكاسح على الغرب إذا ما توفرت لها دولة الإسلام القادمة إن شاء الله.


ثالثاً: أخذت الكثير من الحركات الإسلامية الجهادية بالانقلاب والتبرؤ من بعض الشخصيات المحسوبة على الحركات الإسلامية التي نجح الغرب في استدراجها وعقد الاتفاقيات التي تلبي مصالحه معها مثل ما حصل من رفض حركات الجهاد في الصومال لمواقف شيخ شريف أحمد الذي تخلى عن سلاح المقاومة وانصهر في المشاريع الأميركية.


رابعاً: نجحت الحركات والأحزاب الإسلامية في زرع مفاهيم العقيدة الإسلامية المتعلقة بالنصر والرزق والموت، والمفاهيم المتعلقة بالصبر والثبات والشهادة والتراحم والتآزر بين المسلمين, هذه المفاهيم مجتمعة تؤسس لبيئة إسلامية تجعل الأمة تنصهر بشكل متسارع في بوتقة العقيدة الإسلامية، وتستعد لاحتضان الحركات الإسلامية والتفاعل معها, وما استطلاعات الرأي التي ينشرها الإعلام إلا مؤشر على أن ميول الأمة يسير نحو إسلام الحكم ودولة الخلافة.


4- في المجال الاجتماعي:


وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى المظاهر الآتية:


1- انتشار فكرة الحجاب الإسلامي بشكل متسارع في العالم الإسلامي وفي الغرب، واستطاعت الأمة أن تثبت وجودها وإصرارها وتنتصر في معركة الحجاب في أوروبا وتركيا ومصر وغيرها.


2- لم تعد الأمة تتعاطى مع الأفكار التي تروج لها المؤسسات النسوية المدعومة من الغرب والتي تحاول نشر الحضارة الغربية وإفساد الأسرة المسلمة وحرفها عن منهاج ربها، وبقيت هذه المؤسسات المشبوهة في عين الأمة كالخلايا السرطانية التي لابد من استئصالها.


3- اهتمام الأسرة المسلمة بتعليم أبنائها للقرآن الكريم حفظاً وتفسيراً وترتيلاً, وبسنة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى انتشار التربية الإسلامية في الأسرة المسلمة، هذا كله كان نتاج الوعي عند الوالدين وإدراكهما للمسؤولية التي يلقيها الإسلام عليهما لإخراج جيل مؤمن يسعى لرفعة أمته وللفوز في الدنيا والآخرة.


4- نشطت المرأة المسلمة في مجال الدعوة الإسلامية بشكل متزايد متحملة الأذى في سبيل القيام بهذا الواجب العظيم، وأدركت أنها تقف جنباً إلى جنب مع الرجل المسلم للعمل الجاد لإقامة دولة الاسلام.
هذه جملة من مظاهر الصحوة الإسلامية التي تؤذن بانبلاج فجر جديد، وإن الأمة بناء على هذه المظاهر التي تسري فيها سريان الدم في الجسم تدرك أنها على أبواب التغيير الجذري الشامل, متجسداً مع وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن ‏ ‏ثوبان ‏ ‏قال: قال رسول الله ‏(صلى الله عليه وآله وسلم)‏: «إنَّ اللهَ ‏‏زوى‏ ‏لي الأرضَ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وإنَّ أمتي سيبلغُ ملكُها ما ‏‏زُوِيَ‏ لي منها» نسأله تعالى أن يكون ذلك قريباً فهو ولي ذلك والقادر عليه.



ابو البراء المقدسي



المصدر : مجلة الوعي

المرأة والعمل السياسي في الإسلام



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، خلق آدم، وخلق منه زوجه، وبثَّ منهُما رجالاً كثيراً ونساءً، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبهِ وأزواجهِ ومنِ استنَّ بسنتهِ منْ ذكرٍ أو أنثى إلى يومِ الدينِ.
يقولُ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات 13]، ويقول تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء 13].

جعلَ اللهُ الإنسانَ كإنسانٍ محلَّ التكليفِ والخطابِ بالأحكامِ الشرعيةِ بشكلٍ عامٍّ، بغضِّ النظرِ عنْ كونهِ ذكرًا أو أنثى، ففرضَ على كلٍّ منَ الرجلِ والمرأةِ الصلاةَ والزكاةَ والصيامَ والحجَ والعلمَ والدعوةَ إلى الإسلامِ، وجعلَ منَ التقوى معيارًا للأكرميةِ عندهُ تعالى.

وفي نفسِ الوقت خصَّ تعالى الرجلَ أو المرأةَ بأحكامٍ خاصةٍ لكلٍّ منهُمَا بحسبِ طبيعتهِ ودَوْرِهِ في الحياةِ، ففرضَ على الرجلِ السعيَ لطلبِ الرزقِ والنفقةَ على زوجهِ، ولمْ يفرضْ ذلكَ على المرأةِ، وخصَّ الإسلامُ المرأةَ بجعلِ الأصلِ فيها أنَّها أمٌّ وربَّةُ بيتٍ.

ومنَ الأحكامِ الشرعيةِ العامةِ التي خاطبَ بها اللهُ تعالى الرجلَ والمرأةَ على السواء، وَوَعَدَهُمْ على إقامتِهَا جزيلَ الثوابِ وتَوعَّدهُمْ إنْ تركوها عظيمَ العذابِ هو العملُ السياسيُّ.

فالسياسةُ لغةً: رعايةُ الشؤونِ، قالَ في القاموسِ المحيطِ: "وسُسْتُ الرعيةَ سياسةً أمرتُها ونهيتُها"، وهذهِ حقيقةُ السياسةِ منْ حيثُ كونِها رعايةُ الشؤونِ بالأوامرِ والنواهي. ورَوى مُسلمٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فتَكْثُرُ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»، وقالَ الإمامُ النوويُّ في معنى تَسُوسُهُمْ في الحديثِ: "أَيْ: يَتَوَلَّوْنَ أُمُورهمْ كَمَا تَفْعَل الأُمَرَاء وَالْوُلاة بِالرَّعِيَّةِ، وَالسِّيَاسَةُ: الْقِيَام عَلَى الشَّيْء بِمَا يُصْلِحهُ".

فالسياسةُ هيَ رعايةُ شؤونِ الأمّةِ داخلياً وخارجياً، وتكونُ منْ قِبَلِ الدولةِ والأمّةِ، فالدولةُ هيَ التي تُباشِرُ هذهِ الرعايةَ عملياً، والأمّةُ هيَ التي تحاسِبُ بها الدولةَ. والسياسةُ تشملُ: مباشرةَ رعايةَ الشؤونِ عمليًا مِنْ قِبَلِ الحاكمِ ومحاسبةَ الدولةِ مِنْ قِبَلِ الأمةِ والاهتمامَ بمصالحِ المسلمينَ وقضاياهُمْ والنصحِ لهمْ، وتشملُ كذلكَ العملَ ضمنَ كتلةٍ لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ.

ويختلفُ حكمُ العملِ السياسيِّ بالنسبةِ للمرأةِ حَسَبَ شكلهِ ومجالهِ، فَفيما يتعلقُ بمباشرةِ رعايةِ الشؤونِ عمليًا أو ما يُسمَّى بالحكمِ، فإنَّ الإسلامَ لا يُجيزهُ للمرأةِ على الإطلاقِ, لِما رَوى البُخاريُّ عنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمَّا بَلَغَه أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَة كِسْرَى قَالَ: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَة". وإخبارُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفيِ الفلاحِ عمَّنْ يُوَلُّونَ أمرهمْ امرأةً هوَ نهيٌ عنْ توليتِهَا، إذْ هوَ مِنْ صيغِ الطلبِ، وكونَ هذا الحديثِ جاءَ إخباراً بالذمِّ لمنْ يُوَلُّونَ أمرهمْ امرأةً بنفيِ الفلاحِ عنهمْ، فإنَّهُ يكونُ قرينةً على النهيِ الجازمِ، وتكونُ توليةُ المرأةِ حراماً. والمرادُ توليتُهَا الحكمَ أي الخلافةَ وما دونَها منَ المناصبِ التي تُعتبرُ منَ الرعايةِ العمليةِ للشؤونِ، لأنَّ موضوعَ الحديثِ هوَ ولايةُ ابنة كسرى مُلكاً فهوَ خاصٌ بموضوعِ الحكمِ الذي جرى عليهِ الحديثُ. وليسَ خاصًّا بحادثةِ ولايةِ ابنةِ كسرى وحدَها، كما أنَّهُ ليسَ عامًّا في كلِّ شيءٍ، فلا يشملُ غيرَ موضوعِ الحكمِ، ولا بوجهٍ منَ الوجوهِ.

ونجدُ أنَّ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) لمْ يستعملْ امرأةً في أمرٍ منْ أمورِ الحكمِ، ولمْ يُروَ عنهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنَّهُ ولَّى امرأةً ولايةً قطْ، وعلى هذا سارَ الخلفاءُ الراشدونَ رضيَ اللهُ عنهمْ والمسلمونَ مِنْ بعدهمْ حتى هُدمتِ الخلافةُ العثمانيةُ. بلْ إنَّنا نَرى أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ (رضي الله عنه) غَضِبَ أشدَّ الغضبِ حينَ اشْتَمَّ مِنْ زوجتِهِ نوعًا مِنَ التدخُّلِ في أمورِ الحكمِ, فقدْ رَوى ابنُ شَبَّةَ في تاريخِ المدينةِ المنورةِ وابنُ قدامةَ في مختصرِ منهاجِ القاصدينَ وابنُ الجوزيِّ في مناقبِ عمرَ بنِ الخطابِ أنَّ عمرَ (رضي الله عنه) استعملَ عِياضَ بنَ غنمٍ على الشامِ، فبلغهُ أنَّهُ اتَّخذَ حَمَّامًا واتَّخذَ بَوَّابًا، فكتبَ إليهِ أنْ يَقدُمَ عليهِ، فقدِمَ، فَحَجَبَهُ ثلاثًا، ثمَّ أذِنَ لهُ، وألبسَهُ جُبَّةَ صوفٍ وأَمَرهُ أنْ يرعى ثلاثمائَةَ شاةٍ، ولمْ يزلْ يعملْ بِهِ حتى مضى شهران، فاندسَّ عِياض إلى امرأةِ عمرَ (رضي الله عنها) وكانَ بينَهُ وبينَهَا قرابةً، فقالَ: سَلِي أميرَ المؤمنينَ فيمَ وَجَدَ عليَّ؟، فلمَّا دخلَ عليها عمرَ (رضي الله عنه), قالتْ: يا أميرَ المؤمنينَ فيمَ وجدتَ على عِياضٍ؟ قالَ: يا عدوَّةَ اللهِ، وفيمَ أنتِ وهذا، ومتى كنتِ تدخلينَ بيني وبينَ المسلمينَ؟ قالَ: فأرسلَ إليهَا عياض: ما صنعتِ؟ فقالتْ: وَدَدْتُ أنِّي لمْ أعرفكْ, ما زالَ يُوبِّخُنِي حتى تمنيتُ أنَّ الأرضَ انشقَّتْ فدخلتُ فيها. ومنْ هنا يتبينُ أنهُ يحرمُ على المرأةِ أنْ تباشرَ شؤونَ الحكمِ، وأنهُ لمْ يَرِدْ مثلُ ذلكَ في تاريخِ المسلمينَ، إلا في هذا الزمنِ الذي ابتُلينا فيهِ بتقليدِ شرائِعِ الكفرِ والقوانينِ الوضعيةِ، ومنها جوازُ مشاركَةِ المرأةِ في الحكمِ والتشريعِ.

أمَّا باقي مجالاتِ العملِ السياسيِّ، فقدْ أمرَ الإسلامُ بها الإنسانَ المسلمَ بوصفهِ مسلمًا دونَ النظرِ إلى كونهِ رجلاً أو امرأةً، فنرى مثلاً في مجالِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ وهوَ منَ العملِ السياسيِّ لكونِهِ جزءًا منْ رعايةِ الشؤونِ، نرى أنَّ أدلتَهُ جاءتْ عامةً لا تختصُّ بالرجلِ دونَ المرأةِ، ومِنْ ذلكَ قولُهُ تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران 110]، ولفظُ "أمةٍ" لفظٌ عامٌ يشملُ الرجلَ والمرأةَ على السواء، وقالَ تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 71]، وقالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وحسنَّهُ، وواضحٌ أنَّ الأمرَ في الحديثِ عامٌ للرجالِ والنِّساءِ.

وكذلكَ الأمرُ بالنِّسبَةِ للعملِ ضمنَ كتلةٍ تسعى لاستئنافِ حياةٍ إسلاميةٍ بإقامةِ الخلافةِ وتحكيمِ الشَّرعِ، فإنَّ دليلَ إنشاءِ الكتلةِ قولهُ تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]، هذهِ الآيةُ خاطبتِ المؤمنينَ والمؤمناتِ وأمرتهمْ بإنشاءِ كتلةٍ يكونُ عملُهَا الدعوةُ إلى الإسلامِ (الخيرِ) وأمرُ الأمةِ بتحكيمِ شرعِ اللهِ ونهيِهَا عنِ الأخذِ بالأفكارِ والأنظمةِ الغربِيَّةِ، وهذا أعظمُ معروفٍ يُؤمرُ بِهِ وأشدُّ منكرٍ يُنهى عنهُ. وكذلكَ الأحاديثُ الشريفةُ التي يُستدلُّ بِها على وجوبِ إقامةِ الخلافةِ، كقولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً» رواه الطبراني في الكبير، فكلمةُ "مَنْ" عامةٌ تشملُ الرجالَ والنساءَ، ومِنَ المعلومِ أنَّ نُسَيْبَة بنتُ كعبٍ ـ أمُّ عُمَارةَ ـ مِنْ بني مازن بن النجار،وأسماءُ بنتُ عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة بايعنَ الرسولَ (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيعةِ العقبةِ الثانيةِ، وقدْ بايعَ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) النِّساءَ اللاتي هاجرنَ بعدَ إقامةِ الدولةِ، قالَ تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة 12]، وعليهِ فإنَّ الميتةَ الجاهليةَ تشملُ النِّساءَ أيضًا ممنْ لمْ يكنْ في أعناقهنَّ بيعةٌ أو لمْ يَتَلَبَّسْنَ بالعملِ لإيجادِ خليفةٍ يستحقُّ البيعةَ.

وقدْ حملتِ النساءُ الدعوةَ إلى الإسلامِ في مكةَ ضمنَ كتلةِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابتِهِ (رضي الله عنهم)، بلْ إنهنَّ تحملْنَ في سبيلِ حملِ الدعوةِ أشدَّ أنواعِ العذابِ والتنكيلِ منْ كفارِ مَكَةَ، ومنْ ذلكَ ما رواهُ البخاريُّ عن سَعِيدٍ بْنِ زَيْدٍ (رضي الله عنه) أنهُ قالَ: "لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الإِسْلامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ..."، فسعيدُ بنُ زيدٍ وزوجَتُهُ فاطمةُ أختُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُمْ أجمعينَ كانوا منْ حملَةِ الدعوةِ قبلَ إقامةِ الدولةِ، حتى إنَّ عمرَ قبلَ إسلامِهِ عذَّبَهُمْ على ذلكَ. وروى ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ أنَّ أبا بكرٍ (رضي الله عنه) مَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيٍّ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الإِسْلامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ يَضْرِبُهَا، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ: "إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك، إنّي لَمْ أَتْرُكْ إلا مَلالَةً"، فَتَقُولُ: "كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك"، فَابْتَاعَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْتَقَهَا. وقصةُ خديجةَ وسميةَ مشهورتانِ تُغنيانِ عَنِ الذكرِ.

وأما محاسبةُ الحكامِ، فهيَ أيضًا منَ الأعمالِ السياسيةِ التي يستوي فيها الرجالُ والنِّساءُ منْ جهةِ فرضيةِ الحكمِ الشرعيِّ, لأنَّ أدلةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ التي ذَكَرْناها سابقًا هيَ أدلةٌ عامةٌ تشملُ أيضًا أمرَ الحاكمِ بالمعروفِ ونهيَهُ عنِ المنكرِ، وهيَ أيضًا أدلةٌ تُفيدُ الوجوبَ. إضافةً إلى ذلكَ، يقولُ (صلى الله عليه وآله وسلم): "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لا مَا صَلَّوْا"، والحديثُ عامٌ أيضًا في الرجالِ والنِّساءِ.

ونرى أنَّ النِّساءَ في زمنِ الخلافةِ الراشدةِ قدِ التزمنَ بحكمِ المحاسبةِ ومارسنَهَا دونَ إنكارٍ منَ الصحابةِ، فحينَ تولَّى عمرُ الخلافةَ اعترضتْ طريقَهُ خولةُ بنتُ ثعلبةَ وقالتْ لهُ ناصحةً: "كُنَّا نعرفُكَ عُوَيْمِرًا ثمَّ أصبحتَ عُمرًا ثمَّ أصبحتَ عمرَ بنَ الخطابَ أميرًا للمؤمنينَ، فاتَّقِ اللهَ يا عمرَ فيما أنتَ مستخلفٌ فيهِ"، وكذلكَ أنكرتْ سمراءُ بنتُ نهيكٍ الأسديَّةُ على عمرَ (رضي الله عنه) نهيَهُ أنْ يزيدَ الناسُ في المهورِ على أربعمائةِ درهمٍ، فقالتْ لهُ: ليسَ هذا لكَ يا عمرَ: أما سمعتَ قولَ اللهِ سبحانهُ: (وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [النساء 20] فقالَ: أصابتْ امرأةٌ وأخطأَ عمرُ.
كما أنَّ للمرأةِ في الإسلامِ أنْ تترشَّحَ لمجلسِ الأمةِ باعتبارهِ وكيلاً عنِ الأمةِ في المحاسبةِ والشورى، لأنَّ الشورى حقٌّ للمرأةِ والرجلِ على السواء، والمحاسبةُ واجبةٌ على كليهِما، وللمرأةِ شرعًا أنْ تكونَ وكيلاً لغيرِها أو توكِّلَ غيرَها في الرأيِ. وقدْ تجلَّى دورُ المرأةِ المسلمةِ في الشورى لمَّا أمرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحابةَ (رضي الله عنهم) بعدَ عقدِ صُلْحِ الحديبيةِ أنْ يَقوموا فيَنْحَروا هَديَهُمْ، فقالَ لهمْ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثمَّ احْلِقُوا"، فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رجلٌ واحدٌ حتى قالَ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ، فلمَّا لم يَقُمْ مِنْهم أحدٌ، قامَ فدخلَ على أُمِّ سلمةَ، فذكرَ لها مَا لَقِيَ مِنَ الناسِ، وقدْ أهمَّهُ ذلكَ وَشَقَّ عليهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالتْ أُمُّ سلمةَ: "يا رسُولَ اللهِ؛ أَتُحِبُّ ذلكَ؟ اخرُجْ ثم لا تكلِّم أحداً منهمْ كلمةً حتى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعو حَالِقَكَ فيحلقَكَ"، فقامَ، فَخَرَجَ، فلمْ يُكَلِّمْ أحداً منهمْ حتى فَعَلَ ذلكَ: نَحَرَ بُدنَهُ، ودعا حَالِقهُ فحلقهُ، فلما رأى الناسُ ذلكَ، قامُوا فنحروا، وجعلَ بعضُهم يَحْلِقُ بعضاً. وهذهِ الإشارةُ والرأيُ السَّديدُ منْ أمِّ سلمةَ تُعتبرُ منَ الشورى للحاكمِ.

وثبتَ عنْ سيدنا عمرَ (رضي الله عنه) أنَّهُ كانَ حينَ تعرضُ لهُ نازلةٌ يدعو المسلمينَ إلى المسجدِ، وكانَ يدعو النِّساءَ والرجالَ ويأخُذَ رأيَهمْ جميعاً، وقدْ رَجَعَ عنْ رأيهِ كما رأينا حينَ ردَّتهُ امرأةٌ في أمرِ تحديدِ المهورِ.
هذهِ أحكامُ شرعِنا الحنيفِ المتعلقةُ بالمرأةِ والعملِ السياسيِّ, منها ما هوَ خاصٌ بالمرأةِ كحُرمةِ مباشرةِ أعمالِ الحكمِ, ومنها ما ينطبقُ على الرجلِ والمرأةِ لعمومِ أدلتِها كوجوبِ العملِ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ ومحاسبةِ الحكامِ والشورى. وقدْ عملتِ المسلماتُ في زمنِ النبوةِ والخلافةِ الراشدةِ بهذهِ الأحكامِ وأحْسَنَّ تطبيقَها، ولمْ تأخذهنَّ في ذلكَ لومةُ لائمٍ ولا رهبةُ حاكمٍ, فكانَ لهُنَّ بذلكَ عظيمُ الأجرِ والثوابِ بإذنِ اللهِ.

ونحنُ اليومَ نتأسى بسيرةِ هؤلاءِ النِّساءِ العظيماتِ، ونعملُ كما عملنَ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميةِ والنهوضِ بالمسلمينَ، حتى يُظهِرَ اللهُ أمرهُ ويعزَّ دينَهُ، فإذا شهدنا قيامَ خلافةِ المسلمينَ الثانيةِ على منهاجِ النبوةِ، لنْ نترُكَ العملَ السياسيَّ، بلْ إننا سنستمرُ في نصحِ المسلمينَ وأمرِهمْ بالمعروفِ ونهيهمْ عنِ المنكرِ، ولنْ نتوانى بإذنِ اللهِ عنْ محاسبةِ خليفتِنا وأعوانهِ والنصحِ لهُمْ، حتى يرضى اللهُ تعالى عنَّا، ويحشُرَنا في زمرةِ المسلماتِ الأوائلِ، ويجمعَنا بهنَّ في جناتِ النعيمِ، كما جمعنا على عملٍ واحدٍ في الدنيا.

اللهمَّ ثبت قلوبنا على دينك، وأعنا على حمل دعوتك، كما حملها من سبقنا من الصالحين، واجعلنا من العاملات المخلصات لإقامة الخلافة، ومن شهودها.

المصدر : مجلة الوعي